You are on page 1of 168

‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬


‫للشيخ محمد الخضرى { رحمه هللا }‬
‫كتاب مختصر يبحث في سيرة النبي صلى اهلل عليه وسلم العطرة من الوالدة إلى الوفاة وما بينهما من‬
‫نشأة وبعثة ومحنة وتعذيب وإسراء وطلب نصرة وهجرة ومعارك وعهود ومواثيق وغير ذلك من‬
‫األمور التي تتعلق بسيرته الشريفة صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مقدمة المؤلف‬
‫نحمدك يا من أوضحت لنا ُسُبل الهداية‪ ،‬وأزحت عن بصائرنا غشاوة الغواية‪ ،‬ونصلّي ونسلِّم على‬
‫ومبشراً ونذيراً‪ ،‬وداعياً إلى اهلل بإذنه وسراجاً منيراً‪ ،‬وعلى األصحاب الذين‬
‫َمن أرسلته شاهداً ُ‬
‫آووا ونصروا وبذلوا إلعزاز‬
‫هجروا األوطان يبتغون من اهلل الفضل والرضوان‪ ،‬واألنصار الذين َ‬
‫الدين ما جمعوا وما َّادخروا‪.‬‬
‫أما بعد‪ ،‬فيقول محمد الخضري ابن المرحوم الشيخ عفيفي الباجوري‪ :‬كنت أجد من نفسي منذ النشأة‬
‫األولى ارتياحاً لقراءة تواريخ السالفين وقصص الغابرين‪ ،‬وأجدها لعقل اإلنسان أحسن ِّ‬
‫مهذب‪،‬‬
‫لقيهُ من أذى قومه حينما‬ ‫وأنصح معلِّم‪ ،‬وكنت أرى في تاريخ ّ‬
‫نبينا ـ ـ عليه الصالة والسالم ـ ـ وما َ‬
‫رب ألفكار المسلمين‪ ،‬فإنه يدلّهم‬
‫دعاهم إلى الحق‪ ،‬وعظيم صبره حتى هجر أوطانه وبالده‪ ،‬أعظم ُم َ‬
‫ساد سابقوهم‪ ،‬وخصوصاً ما يتعلق بالحكام‪ ،‬من‬
‫على ما يجب اتباعه‪ ،‬وما يلزم اجتنابه‪ ،‬ليسودوا كما َ‬
‫اجتذاب النفوس النافرة‪ ،‬والتأليف بين القلوب المختلفة‪ ،‬وما يتعلق بقواد الجيوش‪ ،‬من تأليف الرجال‬
‫بالعامة‪ ،‬من اتحاد قلوبهم وصيرورتهم‬
‫ّ‬ ‫المعدات حتى يتم لهم النصر على أعدائهم‪ ،‬وما يتعلق‬‫ّ‬ ‫وإ حكام‬
‫فكنت أجد من قراءتها ارتياحاً عظيماً‪ ،‬وكانت نفسي كثيراً ما تأسف على ِ‬
‫ترك‬ ‫ُ‬ ‫يداً على َم ْن سواهم‪.‬‬
‫المسلمين لها‪ ،‬فقلّما أجد من يشتغل بها‪ ،‬ولكني كنت ُأقدم لهم العذر بتطويل الكتب المؤلفة في هذا‬
‫الموضوع‪ .‬فلما قدمت مدينة المنصورة جمعتني النوادي مع محمود بك سالم‪ ،‬القاضي بمحكمة‬
‫المنصورة المختلطة‪ ،‬فوجدت منه علماً بدينه تقف دونه فحول الرجال‪ ،‬وتتأخر عن مسابقته فيه‬
‫األبطال‪ ،‬فقلّما توضع مسألة دينية إال وجدته مبرزاً فيها‪ ،‬مفصحاً عن الجواب عنها‪ .‬أما علمه بسيرة‬
‫يتشوف لعمل‬
‫الرسول األكرم صلى اهلل عليه وسلم فعنده منها الخبر اليقين‪ ،‬وكنت كثيراً ما أسمعه ّ‬
‫عامة المسلمين‪ ،‬فقلت‪ :‬يا هلل لقد وافق هذا السيد الكريم ما‬
‫سيرة خالية من الحشو والتعقيد تنتفع بها ّ‬
‫في نفسي‪،‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ولكني كنت أرى في عزيمتي قصوراً عن تنفيذ رغبته وتتميم أمنيته‪ ،‬فإن المقام عظيم‪ ،‬وصعوباته‬
‫أعظم‪ .‬ولكن لم َأر من األمر ُب ّداً تلقاء ما كنت أسمعه من كبار رجال المنصورة‪ ،‬فإنهم أكثروا من‬
‫األماني لعمل هذا الكتاب‪ ،‬العميم النفع‪ ،‬الجزيل الفائدة‪ ،‬فقمت معتمداً على اهلل راجياً منه أن يوفّقني‬
‫لما فيه رضاه‪ ،‬وواصلت الس َّْي َر بالسُّرى حتى بلغت المنى‪ ،‬فجاء بحمد اهلل‪ ،‬سهل المنال‪ ،‬عذب‬
‫موردي في تأليفه‪ :‬القرآن الشريف‪ ،‬وصحيح‬ ‫الخاصة‪ .‬وقد كان ِ‬
‫ّ‬ ‫العامة‪ ،‬وترجع إليه‬
‫المورد‪ ،‬تنتفع به ّ‬
‫بد من تفيهم العبارات‪ ،‬فكان‬
‫السنة مما رواه اإلمامان البخاري ومسلم‪ ،‬ولم أخرج عنهما إال فيما ال ّ‬
‫ّ‬
‫يساعدني «الشفا» للقاضي عياض و«السيرة الحلبية» و«المواهب اللدنية» للقسطالني‪ ،‬و«إحياء‬
‫بسيدنا‬
‫علوم الدين» للغزالي‪ .‬هذا‪ ،‬وأسأل اهلل من فيض فضله أن يوفّق أئمتنا وأمراءنا لالقتداء ّ‬
‫وموالنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وإ حياء ِ‬
‫معالم دينه حتى يؤيَّدوا بروح من عند اهلل‪ .‬وقد آن‬
‫أن نشرع فيما قصدناه مستعينين بحول اهلل فنقول‪:‬ـ‬

‫السيد األكرم الذي شرف الناس بوجوده هو‪( :‬محمد بن عبد اهلل) من زوجه آمنة بنت و ْهب ُّ‬
‫الزهرية‬ ‫َ‬
‫القرشية‪( .‬ابن عبد المطلب) من زوجه فاطمة بنت عمرو المخزومية القرشية‪ .‬وكان عبد المطلب‬
‫ص ُدرون عن رأيه في مشكالتهم ويقدمونه في مهماتهم‪( .‬ابن هاشم) من‬
‫شيخاً معظماً في قريش َي ْ‬
‫زوجه سلمى بنت عمرو النجارية الخزرجية‪( .‬ابن عبد مناف) من زوجه عاتكة بنت ُم ّرة السلمية‪.‬‬
‫قصي في الجاهلية حجابة البيت‪ ،‬وسقاية‬ ‫ّ‬ ‫ص ّي) من زوجه ُحبَّى بنت ُحلَيل الخزاعية‪ ،‬وكان إلى‬
‫(ابن قُ َ‬
‫الحاج‪ ،‬وإ طعامه المسمى بالرفادة‪ ،‬والندوة وهي الشورى ال يتم أمر إال في بيته‪ ،‬واللواء‪ ،‬ال تعقد‬
‫راية لحرب إال بيده‪ .‬ولما أشرف على الموت جعلها في يد أحد أوالده عبد الدار‪ ،‬لكن بنو عبد مناف‬
‫أجمعوا رأيهم على أال يتركوا بني عمهم عبد الدار يستأثرون بهذه المفاخر‪ ،‬وكاد يفضي األمر إلى‬
‫عقالء الفريقين‪ ،‬فأعطوا بني عبد المناف السقاية والرفادة فدامتا فيهم إلى‬
‫ُ‬ ‫األمر‬
‫القتال لوال أن تدارك َ‬
‫أن انتهتا للعباس بن عبد المطلب‪ ،‬ثم لبنيه من بعده‪ ،‬أما الحجابة فبقيت بيد بني عبد الدار‪ ،‬وَأقََّرها لهم‬
‫الع َّزى بن عثمان بن عبد‬
‫الشرع فهي فيهم إلى اآلن‪ .‬وهم بنو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد ُ‬
‫الدار‪ ،‬وأما اللواء فدام فيهم حتى أبطله اإلسالم‪ ،‬وجعله حقاً للخليفة على المسلمين يضعه فيمن يراه‬
‫صالحاً له‪ ،‬وكذلك الندوة‪ .‬وقصي (بن كالب) من زوجه فاطمة بنت سعد‪ ،‬وهي يمانية من أزد‬
‫وءة‪( .‬ابن مرة) من زوجه هند بنت سرير من بني فهر بن مالك‪( .‬ابن كعب) من زوجه وحشية‬ ‫َشُن َ‬
‫بنت شيبان من بني فهر أيضاً‪( .‬ابن لؤي) من زوجه أم كعب ِ‬
‫ماويَّة بنت كعب من قُضاعة‪( .‬ابن‬
‫غالب) من زوجه أم لؤي سلمى بنت عمرو الخزاعي‪( .‬ابن فهر) من زوجه أم غالب ليلى بنت سعد‬
‫من ُهذيل‪ .‬وفهر هو قريش ـ ـ في قول األكثرين ـ ـ ـ وكانت قريش اثنتي َع ْش َرة قبيلة‪ :‬بنو عبد مناف‪،‬‬
‫الع َّزى بن قصي‪ ،‬وبنو زهرة‬ ‫وبنو عبد الدار بن قصي‪ ،‬وبنو أسد بن عبد ُ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫مرة‪ ،‬وبنو عدي بن كعب‪ ،‬وبنو سهم بن عمرو‬


‫بن كالب‪ ،‬وبنو مخزوم بن يقظة بن ُم َّرة‪ ،‬وبنو تيم بن ّ‬
‫بن ُهصيص بن كعب‪ ،‬وبنو عامر بن لؤي‪ ،‬وبنو تيم بن غالب‪ ،‬وبنو الحارث بن فهر‪ ،‬وبنو ُمحارب‬
‫بن فهر‪ ،‬والمقيمونـ منهم بمكة يسمون قريش البطاح‪ ،‬والذين بضواحيها قريش الظواهر‪( .‬ابن مالك)‬
‫من زوجه جندلة بنت الحارث من جرهم‪( .‬ابن النضر) من زوجه عاتكة بنت َع ْدوان من قيس‬
‫َع ْيالن‪( .‬ابن كنانة) من زوجه َب َّرة بنت ُمر بن ُّأد‪( .‬ابن ُخ َزيمة) من زوجه َعوانة بنت سعد بن قيس‬
‫عيالن‪( .‬ابن ُمدركة) من زوجه سلمى بنت أسلم من قُضاعة‪( .‬ابن إلياس) من زوجه ِخْن ِدف‬
‫معد‪( .‬ابن‬
‫المضروب بها المثل في الشرف والمنعة‪( .‬ابن ُمضر) من زوجه الرباب بنت حيدة بن ّ‬
‫ك‪( .‬ابن معد) من زوجه ُم َعانة بنت جوشم من ُجرهم‪( .‬ابن عدنان)‪.‬‬
‫نزار) من زوجه َسودة بنت َع ّ‬

‫هذا هو النسب المتفق على صحته من علماء التاريخ والمحدثين‪ ،‬أما النسب فوق ذلك فال يصح فيه‬
‫طريق‪ ،‬غاية األمر أنهم أجمعوا على أن نسب الرسول صلى اهلل عليه وسلم ينتهي إلى إسماعيل بن‬
‫إبراهيم أبي العرب المستعربة‪ .‬نسب شريف كما ترى‪ :‬آباء طاهرون وأمهات طاهرات‪ ،‬لم يزل‬
‫عليه السالم ينتقل من أصالب أولئك إلى أرحام هؤالء حتى اختاره اهلل هادياً مهدياً من أوسط العرب‬
‫القدم األولى في الشرف وعلو المكانة بين العرب‪ ،‬وال تجد في‬
‫نسباً‪ .‬فهو من صميم قريش التي لها ُ‬
‫قبائلهن‬
‫ّ‬ ‫سلسلة آبائه إال كراماً ليس فيهم مستر َذل بل كلهم سادة قادة‪ ،‬وكذلك ُأمهات آبائه من أرفع‬
‫شأناً‪ ،‬وال شك أن شرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة‪ ،‬وكل اجتماع بين آبائه وأمهاته كان‬
‫شرعياً بحسب األصول العربية‪ ،‬ولم ينل نسبه شيء من سفاح الجاهلية بل طهَّره اهلل من ذلك والحمد‬
‫هلل‪.‬‬

‫زواج عبد اهلل بآمنة وحملها‬

‫كان عبد اهلل بن عبد المطلب من أحب ولد أبيه إليه‪ ،‬فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن ُزهرة‬
‫ٍ‬
‫يومئذ من أفضل نساء قريش نسباً وموضعاً‪ ،‬ولما دخل‬ ‫بن كالب‪ُّ ،‬‬
‫وسنه ثماني عشرة سنة‪ ،‬وهي‬
‫عليها حملت بالرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولم يلبث أبوه أن توفي بعد الحمل بشهرين‪ ،‬ودفن‬
‫بالمدينة عند أخواله بني عدي بن النجار‪ ،‬فإنه كان قد ذهب بتجارة إلى الشام‪ ،‬فأدركته منيته بالمدينة‬
‫بث في‬
‫تمت مدة حمل آمنة وضعت ولدها‪ ،‬فاستبشر العالم بهذا المولود الكريم الذي ّ‬
‫وهو راجع‪ ،‬ولما ّ‬
‫أرجائه روح اآلداب وتمم مكارم األخالق‪ .‬وقد حقق المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫صبيحة يوم االثنين تاسع ربيع األول الموافق لليوم العشرين من أبريل سنة (‪ )571‬من الميالد‪ ،‬وهو‬
‫يوافق السنة األولى من حادثة الفيل‪ ،‬وكانت والدته في دار أبي طالب بِ ِش ْعب بني هاشم‪ ،‬وكانت قابلته‬
‫وسماه محمداً‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫َّ َّ‬
‫الشفاء أم عبد الرحمان بن عوف‪ ،‬ولما ولد أرسلت أمه لجده تبشره‪ ،‬فأقبل مسروراً ّ‬
‫قدره وذكره في الكتب التي‬‫ولم يكن هذا االسم شائعاً قب ُل عند العرب‪ ،‬ولكن أراد اهلل أن يحقق ما ّ‬
‫جده أن يسميه بذلك إنفاذاً ألمره‪ ،‬وكانت ِ‬
‫حاضنته أم أيمن‬ ‫جاءت بها األنبياء كالتوراة واإلنجيل‪ ،‬فألهم َّ‬
‫ّ‬
‫َأمةُ عمه أبي لهب‪.‬‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫َأمة أبيه عبد الله‪ ،‬وأول َم ْن أرضعه ثَُو ْيَبةُ َ‬
‫بركة الحبشية‪َ ،‬‬

‫الرضاع‬

‫أنجب للولد‪ ،‬وكانوا يقولون‪:‬‬


‫َ‬ ‫وكان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم في البوادي ليكون‬
‫كليل الذهن فاتر العزيمة‪ ،‬فجاءت نِسوة من بني سعد بن بكر يطلبن أطفاالً‬
‫إن المربَّى في المدن يكون َ‬
‫يرضعنهم‪ ،‬فكان الرضيع المحمود من نصيب حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية‪ ،‬واسم زوجها أبو‬
‫تنسب له الرسول صلى اهلل عليه وسلم حينما يريدون االستهزاء به‬
‫ُ‬ ‫كبشة‪ ،‬وهو الذي كانت قريش‬
‫ود ّرت البركات على أهل ذاك البيت الذين أرضعوه مدة‬‫فيقولون‪ :‬هذا ابن أبي كبشة ُيكلَّم من السماء ُ‬
‫وجوده بينهم وكانت تربو عن أربع سنوات‪.‬‬

‫حادثة شق الصدر‬
‫وحصل له وهو بينهم حادثة مهمة وهي شق صدره وإ خراج حظ الشيطان منه‪ ،‬فأحدث ذلك عند‬
‫وحدثتها قائلة‪ :‬بينما هو وإ خوته في َب ْهم لنا خلف بيوتنا إذ أتى أخوه يعدو‪،‬‬
‫حليمة خوفاً فردته إلى أمه ّ‬
‫فقال لي وألبيه‪ :‬ذاك أخي القرشي قد أخذه رجالن عليهما ثياب بيض‪ ،‬فأضجعاه‪ ،‬ف َشقَّا بطنه فهما‬
‫َي ُسوطانه‪ .‬فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه منتقعاً لونه‪ ،‬فالتزمته والتزمه أبوه‪ ،‬فقلنا له‪ :‬ما لك يا‬
‫بني؟ فقال‪ :‬جاءني رجالن عليهما ثياب بيض‪ ،‬فقال أحدهما لصاحبه‪ :‬أهو هو؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬فأقبال‬ ‫ّ‬
‫يبتدراني فأضجعاني فشقَّا بطني‪ ،‬فالتمسا فيه شيئاً‪ ،‬فأخذاه وطرحاه وال أدري ما هو‪.‬‬

‫وفاة آمنة وكفالة عبد المطلب ووفاته وكفالة أبي طالب‬

‫ثم إن أمه أخذته منها‪ ،‬وتوجهت به إلى المدينة لزيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار‪ ،‬وبينما هي‬
‫عائدة أدركتها منيتها في الطريق فماتت باألبواء فحضنته ُُّأم أيمن‪ ،‬وكفله جده عبد المطلب‪َّ ،‬‬
‫ورق له‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ِرقَّةً لم تُ ْعهَد له في ولده‪ ،‬لما كان يظهر عليه مما يد ّل على أن له شْأناً عظيماً في المستقبل‪ ،‬وكان‬
‫يكرمه غاية اإلكرام‪ ،‬ولكن لم يلبث عبد المطلب أن تُوفي بعد ثماني سنوات من عمر الرسول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬فكفله شقيق أبيه أبو طالب فكان له رحيماً وعليه غيوراً‪ ،‬وكان أبو طالب ُمقالً من‬
‫مثال القناعة‬
‫المال فبارك اهلل له في قليله‪ ،‬وكان الرسول صلى اهلل عليه وسلم في مدة كفالة عمه َ‬
‫والبعد عن السفاسف التي يشتغل بها األطفال عادة‪ ،‬كما روت ذلك ُأم أيمن حاضنته‪ ،‬فكان إذا أقبل‬
‫سييسرهُ اهلل له‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وقت األكل جاء األوالد يختطفون وهو قانع بما‬
‫ُ‬

‫السفر إلى الشام‬


‫عمه وكفيله السفر بتجارة إلى الشام‪،‬‬ ‫ولما بلغت ُّ‬
‫سنه عليه الصالة والسالم اثنتي عشرة سنة‪ ،‬أراد ّ‬
‫فرق له‪ ،‬وأخذه معه‪ ،‬وهذه هي الرحلة األولى‪ ،‬ولم‬
‫فاستعظم الرسول صلى اهلل عليه وسلم فراقه‪ّ ،‬‬
‫عما‬
‫يمكثوا فيها إال قليالً‪ ،‬وقد أشرف على رجال القافلة ـ ـ وهم بقرب ُبصرى ـ ـ بحيرا الراهب‪ ،‬فسألهم ّ‬
‫رآه في كتبهم المقدسة من بعثة نبي من العرب في هذا الزمن‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنه لم يظهر لآلن‪ .‬وهذه‬
‫آءهم َّما‬
‫العبارة كثيراً ما كان يلهج بها أهل الكتاب من يهود ونصارى قبل بعثة الرسول { َفلَ َّما َج ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َع َرفُوْا َكفَ ُروْا بِه َفلَ ْعَنةُ الله َعلَى اْل َكاف ِر َ‬
‫ين} (البقرة‪.)89 :‬‬

‫حرب ِ‬
‫الفجار‬

‫الف َج ِار‪ ،‬وهي حرب كانت بين ِكنانة‬


‫سنه عليه الصالة والسالم عشرين سنة حضر حرب ِ‬ ‫ولما بلغت ّ‬
‫ملك العرب بالحيرة تجارة يرسلها كل‬‫ومعها قريش‪ ،‬وبين قيس‪ .‬وسببها‪ :‬أنه كان للنعمان بن المنذر ِ‬
‫َ‬
‫منعة وشرف في قومه ليجيزها فجلس‬ ‫عام إلى سوق عكاظ لتُباع له‪ ،‬وكان يرسلها في أمان رجل ذي ٍ‬
‫ُ‬
‫شره ـ ـ وعروة بن عتبة‬
‫يوماً وعنده البراض بن قيس الكناني ـ ـ وكان فاتكاً خليعاً خلعه قومه لكثرة ّ‬
‫البراض‪ :‬أنا ُأجيزها على بني‬
‫الرحَّال فقال‪َ :‬م ْن ُيجيز لي تجارتي هذه حتى يبلغها عكاظ؟ فقال َّ‬
‫أكلب خليع‬
‫جيزها على الناس كلهم‪ .‬فقال عروة‪ :‬أبيت اللعن ٌ‬
‫كنانة‪ ،‬فقال النعمان‪ :‬إنما ُأريد َم ْن ُي ُ‬
‫الب َّراض‪ :‬أو تُجيزها‬
‫يجيزها لك؟ أنا أجيزها على أهل الشيح والقَْيصوم من أهل نجد وتهامة‪ .‬فقال َ‬
‫فأسرها في نفسه‪ ،‬وتربَّص له حتى إذا خرج بالتجارة‪،‬‬
‫على كنانة يا عروة؟ قال‪ :‬وعلى الناس كلهم‪َّ ،‬‬
‫قتله غدراً‪ ،‬ثم أرسل رسوالً يخبر قومه كنانة بالخبر‪ ،‬ويحذرهم قيساً قوم عروة‪ .‬وأما قيس فلم تلبث‬
‫اشتد‬
‫همت لتدرك ثأرها‪ ،‬حتى أدركوا قريشاً وكنانة بنخلة‪ ،‬فاقتتلوا‪ ،‬ولما ّ‬
‫بعد أن بلغها الخبر أن ّ‬
‫البأس وحميت قيس‪ ،‬احتمت قريش بحرمها‪ ،‬وكان فيهم رسول اهلل‪ .‬ثم إن قيساً قالوا لخصومهم‪ّ :‬إنا‬
‫ال نترك دم عروة‪ ،‬فموعدنا عكاظ العام المقبل‪ ،‬وانصرفوا إلى بالدهم يحرض بعضهم بعضاً‪ ،‬فلما‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫الح ْو ُل جمعت قيس ُج ُموعها وكانت معها ثقيف وغيرها‪ ،‬وجمعت قريش جموعها من كنانة‬
‫حال َ‬
‫َ‬
‫الزبيربن عبد المطلب ومعه إخوته أبو طالب‬
‫ُ‬ ‫واألحابيش ـ ـ وهم حلفاء قريش ـ ـ وكان رئيس بني هاشم‬
‫أمية‪ ،‬وله القيادة العامة لمكانه‬
‫أمية حرببن ّ‬
‫وحمزة والعباس وابن أخيه النبي الكريم‪ ،‬وكان على بني ّ‬
‫في قريش شرفاً وسناً‪ .‬وهكذا كان على كل بطن من بطون قريش رئيس‪ ،‬ثم تناجزوا الحرب‪ ،‬فكان‬
‫أشد أيام العرب َهوالً‪ ،‬ولما استُ ِح َّل فيه ِم ْن ُح ُرمات مكة التي كانت مقدسة عند العرب ُسمي‬
‫يوماً من ّ‬
‫الفجار‪ .‬وكادت الدائرة تدور على قيس‬ ‫يوم ِ‬

‫حصوا قتلى الفريقين‪،‬‬


‫حتى انهزم بعض قبائلها ولكن أدركهم َم ْن َد َعا المتحاربين للصلح على أن ُي ُ‬
‫دية الزائد‪ ،‬فكانت لقيس زيادة أخذوا ديتها من قريش وتعهد بها حرببن أمية‪،‬‬
‫فمن وجد قَتاله أكثر أخذ َ‬
‫َ‬
‫لس َدادها ولده أبا سفيان‪ .‬وهكذا انتهت هذه الحرب التي كثيراً ما تشبه حروب العرب تبدؤها‬
‫ورهن َ‬
‫ف اهلل بين قلوبهم وأزاح عنهم هذه الضالالت بانتشار نور اإلسالم بينهم‪.‬‬
‫صغيرات األمور حتى ألّ َ‬

‫ِحلف الفضول‬
‫ضولـ فتم في دار عبد اللهبن ُج ْد َعان التَّْي ِمي‬ ‫ِ‬
‫وعند رجوع قريش من حرب الف َجار تداعوا لحلف الفُ ُ‬
‫أحد رؤساء قريش‪ ،‬وكان المتحالفون‪ :‬بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف‪ ،‬وبني أسدبن عبد‬
‫العزى‪ ،‬وبني زهرةبن كالب‪ ،‬وبني تَْيمبن ُم ّرة تحالفوا وتعاقدوا أال يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو‬
‫ّ‬
‫ظِلمته‪ ،‬وقد حضر هذا الحلف رسول اهلل‬ ‫ترد إليه َم ْ‬
‫من غيرهم من سائر الناس إال قاموا معه‪ ،‬حتى ّ‬
‫شرفه اهلل بالرسالة‪« :‬لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم مع أعمامه‪ ،‬وقال بعد أن ّ‬
‫الن َعِم ولو دعيت به في اإلسالم ألجبت» وذلك ألنه‬ ‫أحب أن لي به ُح ْمر َّ‬
‫دار عبد اللهبن ُجدعان ما ّ‬
‫دين اِإل سالم كثيراً منها‪ ،‬يرشدك‬
‫عليه الصالة والسالم مبعوث بمكارم األخالق‪ ،‬وهذا منها‪ ،‬وقد أقر ُ‬
‫إلى هذا قوله عليه الصالة والسالم‪« :‬بعثت ألتمم مكارم األخالق» وقد دعا بهذا الحلف كثيرون‬
‫فأنصفوا‪.‬‬

‫رحلته إلى الشام المرة الثانية‬

‫المرة الثانية‪ ،‬وذلك أن‬


‫ولما بلغت سنه عليه الصالة والسالم خمساً وعشرين سنة سافر إلى الشام ّ‬
‫خديجة بنت خويلد األسدية كانت سيدة تاجرة ذات شرف ومال‪ ،‬تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم‬
‫سماه قومه األمين‪،‬‬ ‫ِ‬
‫إياه‪ ،‬فلما سمعت عن السيد من األمانة وصدق الحديث ما لم تعرفه في غيره حتى ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫مما كانت تعطي غيره‪ ،‬فسافر مع غالمها‬


‫استأجرته ليخرج في مالها إلى الشام تاجراً‪ ،‬وتعطيه أفضل ّ‬
‫حببه‬
‫َم ْيسرة فباعا وابتاعا وربحا ربحاً عظيماً‪ ،‬وظهر للسيد الكريم في هذه السفرة من البركات ما ّ‬
‫في قلب ميسرة غالم خديجة‪.‬‬

‫زواجه خديجة‬
‫فلما قَِدما مكة ورأت خديجة ربحها العظيم ُس َّرت من األمين عليه الصالة والسالم وأرسلت إليه‬
‫تخطُُبهُ لنفسها‪ ،‬وكانت سنها نحو األربعين‪ ،‬وهي من أوسط قريش حسباً وأوسعهم ماالً‪ ،‬فقام األمين‬
‫ْ‬
‫عمها عمروبن أسد‪ ،‬فخطبها منه بواسطة عمه أبي‬
‫عليه الصالة والسالم مع أعمامه حتى دخل على ّ‬
‫عمها‪ .‬وقد خطب أبو طالب في هذا اليوم فقال‪ :‬الحمد هلل الذي جعلنا من ذرية‬ ‫فزوجها ّ‬‫طالب‪ّ ،‬‬
‫وس ّواس حرمه‪،‬‬ ‫ض ِ‬ ‫وضْئ ِ‬
‫إبراهيم‪ ،‬وزرع إسماعيل ِ‬
‫معد‪ ،‬وعنصر مضر‪ ،‬وجعلنا حضنة بيته ُ‬ ‫ىء ّ‬
‫وجعله لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً‪ ،‬وجعلنا ح ّكام الناس‪ ،‬ثم إن ابن أخي هذا محمدبن عبد اهلل ال‬
‫ُيوزن به رجل شرفاً ونبالً وفضالً‪ ،‬وإ ن كان في المال ُق ٌّل‪ ،‬فإن المال ظل زائل‪ ،‬وأمر حائل‪ ،‬وعارية‬
‫مستردة‪ ،‬وهو واهلل بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل‪ ،‬وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة‪،‬‬
‫ّ‬
‫َّدا ِ‬
‫ق كذا‪ .‬وعلى ذلك تم األمر‪ .‬وقد كانت متزوجة قبله بأبي هالة‪ ،‬توفي عنها وله‬ ‫وقد بذل لها من الص َ‬
‫منها ولد اسمه هالة‪ ،‬وهو ربيب المصطفى عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫بناء البيت‬

‫ولما بلغت سنه عليه الصالة والسالم خمساً وثالثين سنة‪ ،‬جاء سيل جارف َّ‬
‫فصدع جدران الكعبة بعد‬
‫توهينها من حريق كان أصابها قبل‪ ،‬فأرادت قريش هدمها ليرفعوها ويسقفوها‪ ،‬فإنها كانت رضيمة‬
‫فوق القامة‪ ،‬فاجتمعت قبائلهم لذلك‪ ،‬ولكنهم هابوا هدمها لمكانها في قلوبهم‪ .‬فقال لهم الوليدبن‬
‫المغيرة‪ :‬أتريدون بهدمها اإلصالح أم اإلساءة؟ قالوا‪ :‬بل اإلصالح‪ ،‬قال‪ :‬إن اهلل ال يهلك الم ِ‬
‫صلحين‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وشرع يهدم فتبعوه وهدموا حتى وصلوا إلى أساس إسماعيل‪ ،‬وهناك وجدوا ِ‬
‫صحافاً ُنقش فيها كثير‬
‫من ِ‬
‫الح َكم على عادة َم ْن يضعون أساس بناء شهير ليكون تذكرة للمتأخرين بعمل المتقدمين‪ .‬ثم‬
‫بغي وال بيعُ ِربا‪ ،‬وجعل األشراف من قريش‬
‫هر َ‬‫وأعدوا لذلك نفقة ليس فيها َم ُ‬
‫ابتدؤوا في البناء ّ‬
‫يحملون الحجارة على أعناقهم‪ ،‬وكان العباس ورسول اهلل فيمن يحمل‪ ،‬وكان الذي يلي البناء نجار‬
‫خصص لكل ركن جماعة من العظماء ينقلون إليه الحجارة‪ ،‬وقد ضاقت بهم‬ ‫رومي اسمه باقوم‪ ،‬وقد ّ‬
‫النفقة الطيبة عن إتمامه على قواعد إسماعيل‪ ،‬فأخرجوا منها ِ‬
‫الح ْج َر‪ ،‬وبنوا عليه جداراً قصيراً‪،‬‬
‫يد فيه عن أصله تسعة أذرع‬ ‫عالمة على أنه من الكعبة‪ ،‬ولما تم البناء ثمانية عشر ذراعاً بحيث ِز َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ورفع الباب عن األرض بحيث ال ُيصعد إليه إال بدرج أرادوا وضع الحجر األسود موضعه‪ ،‬فاختلف‬
‫تشب بينهم نار الحرب‪ ،‬ودام بينهم هذا الخصام‬
‫أشرافهم فيمن يضعه‪ ،‬وتنافسوا في ذلك حتى كادت ّ‬
‫عم خالدبن الوليد فقال‬
‫أسن رجل في قريش إذ ذاك أبو أميةبن المغيرة المخزومي ُّ‬ ‫ليال‪ ،‬وكان ّ‬‫أربع ٍ‬
‫ألول داخل‪ ،‬فكان هذا‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫لهم‪ :‬يا قوم ال تختلفوا وحكموا بينكم من ترضون بحكمه‪ .‬فقالوا‪َ :‬نك ُل األمر ّ‬
‫الداخل هو األمين المأمون عليه الصالة والسالم‪ ،‬فاطمأن الجميع له ِل َما يعهدونه فيه من األمانة‬
‫وصدق الحديث وقالوا‪ :‬هذا األمين رضيناه‪ ،‬هذا محمد؛ ألنهم كانوا يتحاكمون إليه إذ كان ال ُيداري‬
‫وال ُيماري‪ .‬فلما أخبروه الخبر بسط رداءه وقال‪ :‬لتأخذ كل قبيلة بناحية‬

‫من الثوب‪ ،‬ثم وضع فيه الحجر وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه فأخذه ووضعه فيه وهكذا‬
‫انتهت هذه المشكلة التي كثيراً ما يكون أمثالها سبباً في انتشار حروب هائلة بين العرب‪ ،‬لوال أن َم َّن‬
‫اهلل عليهم بعاقل مثل أبي أمية يرشدهم إلى الخير‪ ،‬وحكيم مثل الرسول صلى اهلل عليه وسلم يقضي‬
‫بينهم بما ُيرضي جميعهم‪ .‬وال ُيستغرب من قريش تنافسهم هذا‪ ،‬ألن البيت ِقبلَة العرب وكعبتهم التي‬
‫ضع للعبادة بشهادة القرآن‬ ‫يحجون إليها‪ ،‬فكل عمل فيه عظيم به الفخر والسيادة‪ ،‬وهو أول بيت و ِ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫اس لَلَِّذى بَِب َّكةَ ُمَب َاركاً َو ُه ًدى‬
‫ض َع ِل َّلن ِ‬
‫الكريم‪ ،‬قال تعالى في سورة آل عمران‪ِ{ :‬إ َّن ََّأو َل ب ْي ٍت و ِ‬
‫َ ُ‬
‫ءامناً} (آل عمران‪ )97 ،96 :‬وكان يلي‬ ‫راهيم ومن َد َخلَه َكان ِ‬ ‫ات َّمقَ ِإ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ام ْب َ َ َ‬ ‫ات َبّيَن ٌ ُ‬
‫ءاي ٌ‬
‫ين(‪ )96‬فيه َ‬
‫لّْل َعالَم َ‬
‫أمره بعد ولد إسماعيل قبيلة ُجرهم فلما َبغوا وظلموا َم ْن دخل مكة اجتمعت عليهم خزاعة وأجلَوهم‬
‫عن البيت‪ ،‬ووليته خزاعة حيناً من الدهر‪ ،‬ثم أخذته منهم في عهد قصيبن كالب‪ ،‬وبسببه ِ‬
‫أمنوا في‬
‫وامتن اهلل‬
‫ّ‬ ‫بالدهم‪ ،‬فكانت قبائل العرب تهابهم‪ ،‬وإ ذا احتموا به كان حصناً أميناً من اعتداء العادين‪،‬‬
‫اس‬ ‫ف َّ‬
‫الن ُ‬ ‫ءامناً َوُيتَ َخطَّ ُ‬
‫عليهم بذلك في تنزيله‪ ،‬فقال في سورة العنكبوت‪َ{ :‬أولَم يروْا ََّأنا جعْلَنا حرماً ِ‬
‫َ َ ََ‬ ‫َ ْ ََ ْ‬
‫ِم ْن َح ْوِل ِه ْم} (العنكبوت‪.)67 :‬‬

‫معيشته عليه الصالة والسالم قبل البعثة‬

‫لم َيرث عليه الصالة والسالم من والده شيئاً‪ ،‬بل ولد يتيماً عائالً فاسترضع في بني سعد‪ ،‬ولما بلغ‬
‫لما رجع إلى‬ ‫ِّ‬
‫مبلغاً يمكنه أن يعمل عمالً كان يرعى الغنم مع إخوته من الرضاع في البادية‪ ،‬وكذلك ّ‬
‫مكة كان يرعاها ألهلها على قراريط كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه‪ .‬ووجود األنبياء في حال‬
‫بد منه‪ ،‬ألنهم لو وجدوا أغنياء أللهتهم الدنيا وشغلوا بها عن‬
‫التجرد عن الدنيا ومشاغلها أمر ال ّ‬
‫السعادة األبدية‪ ،‬ولذلك ترى جميع الشرائع اإللهية متفقة على استحسان الزهد فيها والتباعد عنها‪،‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫أزهد الناس في الدنيا‪ ،‬وكذلك‬


‫أعظم شاهد على ذلك‪ ،‬فكان عيسى عليه السالم َ‬ ‫وحال األنبياء ِ‬
‫السالفين‬
‫ُ‬
‫كان موسى‪ ،‬وإ براهيم‪ .‬وكانت حالتهم في صغرهم ليست َس َعة بل كلهم َسواء؛ تلك حكمة بالغة‬
‫أظهرها اهلل على أنبيائه ليكونوا نموذجاً لمتبعيهم في االمتناع عن التكالب على الدنيا والتهافت عليها‪،‬‬
‫وذلك سبب الباليا والمحن‪ .‬وكذلك رعاية الغنم‪ ،‬فما من نبي إال رعاها كما أخبر عن ذلك الصادق‬
‫المصدوق في حديث للبخاري‪ .‬وهذه أيضاً من بالغ ِ‬
‫الح َكم فإن اإلنسان إذا استرعى الغنم ـ ـ وهي‬
‫واللطف تعطفاً‪ ،‬فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان لما ُه ِّذب‬
‫ُ‬ ‫قلبه الرأفةُ‬
‫أضعف البهائم ـ ـ سكن َ‬
‫شب عليه الصالة والسالم‬
‫أوالً من الحدة الطبيعية والظلم الغريزي‪ ،‬فيكون في أعدل األحوال‪ .‬ولما ّ‬
‫كان يتجر‪ ،‬وكان شريكه السائببن أبي السائب‪ .‬وذهب بالتجارة لخديجة ـ ـ رضي اهلل عنها ـ ـ إلى الشام‬
‫على ُج ْعل يأخذه‪ .‬ولما شرفت خديجة بزواجه‪ ،‬وكانت ذات يسار‪ ،‬عمل في مالها وكان يأكل من‬
‫امتن عليه به في سورة الضحى بقوله ج ّل ذكره‪َ{ :‬ألَ ْم َي ِج ْد َك َيتِيماً فَ َآوى(‪)6‬‬ ‫نتيجة عمله‪ .‬وحقق اهلل ما ّ‬
‫نت تَ ْد ِرى‬
‫َأم ِرَنا َما ُك َ‬ ‫ِ‬
‫َأغَنى(‪َ )8‬و َك َذل َك َْأو َح ْيَنآ ِإلَْي َك ُروحاً ّم ْن ْ‬ ‫ضآالًّ فَهَ َدى(‪َ )7‬و َو َج َد َك َعآِئالً فَ ْ‬
‫َو َو َج َد َك َ‬
‫ان َواَل ِكن َج َعْلَناهُ ُنوراً َّن ْه ِدى بِ ِه‬
‫يم ُ‬ ‫ِإل‬
‫اب َوالَ ا َ‬
‫ِ‬
‫َما اْلكتَ ُ‬

‫َمن َّن َشآء ِم ْن ِعَب ِادَنا} (الشورى‪.)52 :‬‬

‫سيرته في قومه قبل البعثة‬


‫وأبعدهم عن الفحش‬
‫َ‬ ‫كان عليه الصالة والسالم أحسن قومه ُخلقاً‪ ،‬وأصدقهم حديثاً‪ ،‬وأعظمهم أمانة‪،‬‬
‫وأكرمهم مخالطة‪ ،‬وخيرهم جواراً‪،‬‬
‫َ‬ ‫أفضل قومه مروءةً‪،‬‬
‫َ‬ ‫واألخالق التي تدنس الرجال‪ ،‬حتى كان‬
‫فسموه األمين لما جمع اهلل فيه من األمور الصالحة الحميدة‪،‬‬
‫وأصدقهم حديثاً‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫وأعظمهم حلماً‪،‬‬
‫والفعال السديدة من الحلم‪ ،‬والصبر‪ ،‬والشكر‪ ،‬والعدل‪ ،‬والتواضع‪ ،‬والعفّة‪ ،‬والجود‪ ،‬والشجاعة‪،‬‬
‫والحياء‪ .‬حتى شهد له بذلك ُّ‬
‫ألد أعدائه النضربن الحارث من بني عبد الدار حيث يقول‪ :‬قد كان محمد‬
‫فيكم غالماً َح َدثاً‪ ،‬أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانةً‪ ،‬حتى إذا رأيتم في صدغيه َّ‬
‫الشيب‬
‫وجاءكم بما جاءكم قلتم‪ :‬ساحر‪ ،‬ال واهلل ما هو بساحر‪ .‬قال ذلك في معرض االتفاق على ما يقولونه‬
‫للعرب الذين يحضرون الموسم حتى يكونوا متفقين على قول مقبول يقولونه‪ .‬ولما سأل ِه َر ْق ُل ملك‬
‫الروم أبا سفيان قائالً‪ :‬هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬فقال هرقل‪ :‬ما كان‬
‫ويكذب على اهلل‪ ،‬ورد ذلك في أول صحيح البخاري‪.‬‬
‫َ‬ ‫ليدع الكذب على الناس‬
‫َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ت إليه‬
‫ضْ‬‫وب ِّغ َ‬
‫وقد حفظه اهلل في صغره من كل أعمال الجاهلية التي جاء شرعه الشريف بضدها ُ‬
‫َّادها‪ .‬وقال عليه الصالة‬
‫األوثان بغضاً شديداً حتى ما كان يحضر لها احتفاالً أو عيداً مما يقوم به ُعب ُ‬
‫أهم بشيء مما كانت الجاهلية‬‫إلي الشعر‪ ،‬ولم ّ‬ ‫ت إلي األوثان‪ِّ ُ ،‬‬ ‫نشأت ُب ِّغ َ‬
‫وبغض ّ‬ ‫ضْ ّ‬ ‫ُ‬ ‫والسالم‪« :‬لما‬
‫هممت بسوء بعدهما حتى‬
‫ُ‬ ‫تفعله إال مرتين‪ ،‬كل ذلك يحول اهلل بيني وبين ما أريد من ذلك‪ .‬ثم ما‬
‫فأس ُمر‬
‫أكرمني اهلل برسالته‪ .‬قلت ليلة لغالم كان يرعى معي‪ :‬لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة ْ‬
‫جئت أول ٍ‬
‫دار من مكة أسمع عزفاً بالدفوف والمزامير لعرس‬ ‫كما يسمر الشباب‪ ،‬فخرجت لذلك حتى ُ‬
‫مس الشمس ولم ِ‬
‫أقض شيئاً‪ ،‬ثم‬ ‫أذني فنمت فما أيقظني إال ّ‬
‫بعضهم‪ ،‬فجلست لذلك‪ ،‬فضرب اهلل على َّ‬
‫وحرم شرب‬ ‫عراني مرة أخرى مثل ذلك»‪ .‬وكان عليه الصالة والسالم ال يأكل ما ذبح على النصب ّ‬
‫الخمر على نفسه مع شيوعه في قومه شيوعاً عظيماً‪ ،‬وذلك كله من الصفات التي ُي َحلِّي اهلل بها أنبياءه‬
‫النبوة وبعدها‪ ،‬أما قبل‬
‫ليكونوا على تمام االستعداد لتلقّي وحيه‪ ،‬فهم معصومون من األدناس قبل ّ‬
‫وأما بعدها فليكونوا قدوة ألممهم‪ .‬عليهم من اهلل‬
‫سيسند إليهم‪َّ ،‬‬
‫النبوة فليتأهلوا لألمر العظيم الذي ُ‬
‫وأتم التسليمات‪.‬‬
‫أفضل الصلوات ّ‬

‫النبوة‬
‫ما أكرمه اهلل به قبل ّ‬
‫أول منحة من اهلل ما حصل من البركات على آل حليمة الذين كان مسترضعاً فيهم‪ ،‬فقد كانوا قبل‬
‫حلوله بناديهم مجدبين فلما صار بينهم صارت ُغَنيماتهم تؤوب من مرعاها وإ ن أضراعها لتسيل لبناً‪،‬‬
‫ويرحم اهلل البوصيري حيث يقول في همزيته‪:‬‬
‫فإنهم سعداء ثم أعقب ذلك ما حصل من شق صدره وإ خراج ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫وإ ذا َّ‬
‫حظ الشيطان‬ ‫سخر اإلله ُأناساًلسعيد َّ ُ ُ‬
‫منه‪ ،‬وليس هذا بالعجيب على قدرة اهلل تعالى‪ ،‬فمن استبعد ذلك كان قليل النظر‪ ،‬ال يعرف من قوة اهلل‬
‫شيئاً‪ ،‬ألن خرق العادات لألنبياء ليس باألمر المستحدث وال المستغرب‪.‬‬

‫ومن المكرمات اإللهية تسخير الغمامة له في سفره إلى الشام‪ ،‬حتى كانت تظله في اليوم الصائف ال‬
‫يشترك معه أحد في القافلة‪ ،‬كما روى ذلك ميسرة غالم خديجة الذي كان ُمشاركاً له في سفره‪ ،‬وهذا‬
‫النبوة‬
‫حببه إلى خديجة حتى خطبته لنفسها‪ ،‬وتيقنت أن له في المستقبل شأناً‪ .‬ولذلك لما جاءته ّ‬
‫ما ّ‬
‫كانت أسرع الناس إيماناً به‪ ،‬ولم تنتظر آيةً أخرى زيادة على ما علمته من مكارم األخالق‪ ،‬وما‬
‫سمعته من خوارق العادات‪.‬‬
‫أبعد‬
‫ومن منن اهلل عليه ما كان يسمعه من السالم عليه من األحجار واألشجار‪ ،‬فكان إذا خرج لحاجته َ‬
‫يمر بحجر وال شجر إال سمع‪ :‬الصالة‬
‫حتى ال يرى بناء‪ ،‬ويفضيـ إلى الشعاب وبطون األودية فال ّ‬
‫والسالم عليك يا رسول اهلل‪ ،‬وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فال يرى أحداً‪ ،‬وقد َّ‬
‫حدث بذلك عن‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫سخر اهلل الجمادات لألنبياء قبله‪ ،‬فعصا موسى التقمت ما صنع‬


‫نفسه‪ .‬وليس في ذلك كبير إشكال فقد ّ‬
‫حية تسعى ثم رجعت كما كانت‪ ،‬ولما ضرب بها الحجر نبع منه الماء‬
‫تحولت ّ‬
‫َس َح َرة فرعون بعد أن ّ‬
‫سخر اهلل لهم ما‬
‫اثنتي عشرة عيناً لكل سبط من أسباط بني إسرائيل عين‪ .‬وكذلك غيره من األنبياء ّ‬
‫طارة شأنهم‪.‬‬
‫وخ َ‬
‫شاء من أنواع الجمادات لتد ّل العقالء على عظيم قدرهم َ‬

‫تبشير التوراة به‬

‫ونوه فيها بذكر ٍ‬


‫كثير‬ ‫أنزل اهلل التوراة على موسى محتوية على الشرائع التي تناسب أهل ذاك الزمن‪ّ ،‬‬
‫لسيدنا موسى‬
‫من األنبياء الذين علم اهلل أنه سيرسلهم‪ ،‬فمما جاء فيها تبشيراً برسولنا الكريم خطاباً ّ‬
‫نبياً مثلك من بين إخوتهم وأجعل كالمي في فمه ويكلمهم بكل شيء‬ ‫عليه السالم‪« :‬وسوف ُأقيم لهم ّ‬
‫علي‬ ‫ِ‬
‫وم ْن لم ُيط ْع كالمه الذي يتكلم به باسمي فأنا الذي أنتقم منه‪ ،‬فأما النبي الذي يجترىء ّ‬
‫آمره به‪َ ،‬‬
‫أحببت أن تميز بين النبي‬
‫َ‬ ‫بالكبرياء ويتكلم باسمي بما لم آمره به أو باسم آلهة أخرى فليقتل‪ ،‬وإ ذا‬
‫إن ما قاله ذلك النبي باسم الرب ولم يحدث فهو كاذب يريد تعظيم‬ ‫الصادق والكاذب فهذه عالمتك‪ّ :‬‬
‫نفسه ولذلك ال تخشاه»‪ .‬ويقول اليهود إن هذه البشارة ليوشعبن نون خليفة موسى عليه السالم‪ ،‬مع‬
‫نبياً آخر غير المسيح‪ ،‬فإنهم أرسلوا ليوحنا المعمدان (يحيى)‬
‫مدة المسيح ّ‬
‫أنهم كانوا ينتظرون في ّ‬
‫يسألونه عن نفسه فقالوا له‪ :‬أنت إيليا؟ فقال‪ :‬ال‪ ،‬فقالوا أنت المسيح؟ فقال‪ :‬ال‪ ،‬فقالوا أنت النبي؟ فقال‪:‬‬
‫مد إذا كنت لست إيليا وال المسيح وال النبي؟ فهذه تد ّل على أن التوراة تبشر‬
‫ال‪ ،‬فقالوا ما بالك إذاً تُ َع ُ‬
‫يأت حتى زمن المسيح‪ ،‬ثم إن التوراة تقول في صفة النبي إنه مثل موسى‪،‬‬ ‫بإيليا والمسيح ونبي لم ِ‬
‫نصت في آخر س ْفر التثنية على أنه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثل موسى‪ ،‬وورد في هذه‬
‫وقد ّ‬
‫{ولَ ْو‬
‫وي ْشبهُ ذلك في القرآن قوله تعالى في سورة الحاقة‪َ :‬‬ ‫البشارة أن النبي الذي يفتري على اهلل ُيقتل‪ُ ،‬‬
‫ص ُم َك‬‫طعَنا ِم ْنه اْلوتِين(‪ )46‬واللَّه يع ِ‬ ‫الخ ْذَنا ِم ْنهُ بِاْلَي ِم ِ‬ ‫القَ ِاو ِ‬
‫َ ُ َْ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫ين(‪ )45‬ثَُّم لَقَ َ ْ‬ ‫يل(‪َ )44‬‬ ‫ضا ْ‬
‫تَقَ َّو َل َعلَْيَنا َب ْع َ‬
‫اس} (المائدة‪ )67 :‬أكان يعجز اهلل ـ ـ وهو القادر على كل شيء ـ ـ أن يعاقب من ينسب إليه ما لم‬ ‫الن ِ‬ ‫ِم َن َّ‬
‫ون ا ْفتََرى َعلَى اللَّ ِه َك ِذباً فَِإن َي َشِإ اللَّهُ َي ْختِ ْم َعلَى َقْلبِ َك‬
‫{َأم َيقُولُ َ‬‫يقله وهو الذي قال في سورة الشورى‪ْ :‬‬

‫ق بِ َكِلماتِ ِه ِإَّنه عِليم بِ َذ ِ‬ ‫اط َل وُي ِح ُّ‬


‫ويمح اللَّه اْلب ِ‬
‫الص ُد ِ‬
‫ور(‪)24‬‬ ‫ات ُّ‬ ‫ُ َ ٌ‬ ‫ق اْل َح َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ََْ ُ ُ َ‬
‫وروى القاضي عياض في الشفا أن عطاءبن يسار سأل عبد اللهبن عمروبن العاص عن صفة رسول‬
‫اهلل عليه الصالة والسالم فقال‪ :‬أجل واهلل إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن‪ :‬ياَأيُّهَا‬
‫اهداً َو ُمَب ّشراً َوَن ِذيراً(‪)45‬‬
‫اك َش ِ‬
‫النبِ ُّى ِإَّنآ َْأر َسْلَن َ‬
‫َّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وروي مثله عن عبد اللهبن َسالم رضي اهلل عنه وهو الذي كان رئيس اليهود فلم تُ ْع ِمه الرياسة حتى‬
‫ص َّخ ٍ‬
‫اب في األسواق وال‬ ‫يترك الدين القويم‪ ،‬وكذلك كعب األحبار‪ .‬وفي بعض طرق الحديث‪« :‬وال َ‬
‫والبر شعاره‪ ،‬والتقوى‬
‫قوال للخنا‪ُ ،‬أسدده لكل جميل‪ ،‬وأهب له كل خلق كريم‪ ،‬وأجعل السكينة لباسه‪ّ ،‬‬
‫َّ‬
‫ضميره‪ ،‬والحكمة مقوله‪ ،‬والصدق والوفاء طبيعته‪ ،‬والعفو والمعروف خلقه‪ ،‬والعدل سيرته‪ ،‬والحق‬
‫شريعته‪ ،‬والهدى إمامه‪ ،‬واإلسالم ملَّته‪ ،‬وأحمد اسمه‪ ،‬أهدي به بعد الضاللة‪ ،‬وأعلِّم به بعد الجهالة‪،‬‬
‫العْيلة‪ ،‬وأجمع به بعد‬ ‫ِّ‬
‫وأرفع به بعد الخمالة‪ ،‬وُأسمي به بعد النكرة‪ ،‬وُأكثر به بعد القلّة‪ ،‬وُأغني به بعد َ‬
‫الفرقة‪ ،‬وُأؤلِّف به بين قلوب مختلفة‪ ،‬وأهواء متشتتة‪ ،‬وأمم متفرقة‪ ،‬وأجعل أمته خير أمة ُأخرجت‬
‫للناس»‪ .‬وقد أخبر عليه الصالة والسالم عن صفته في التوراة فقال ـ ـ وهو الصادق األمين ـ ــ‪ :‬عبدي‬
‫الحمادون اهلل على كل حال‪.‬‬
‫طْيبة ـ ـ وأمته َّ‬
‫أحمد المختار مولده مكة ومهاجره المدينة ـ ـ أو قال‪َ :‬‬

‫تبشير اإلنجيل‬

‫ويصدقه في‬ ‫ّ‬ ‫ب ّشر عيسى عليه السالم قومه في اإلنجيل بالفارقليط ومعناه قريب من محمد أو أحمد‬
‫راءيل ِإّنى َر ُسو ُل اللَّ ِه‬
‫َ‬ ‫يابنِى ِإ ْس‬
‫يسى ْاب ُن َم ْرَي َم َ‬
‫القرآن قول اهلل تعالى في سورة الصف‪ :‬وِإ ْذ قَ َ ِ‬
‫ال ع َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِإلَْي ُكم ُّمص ّدقاً لّما ب ْين ي َد َّ ِ‬
‫َأح َم ُد} (الصف‪ )6 :‬وقد‬ ‫اس ُمهُ ْ‬‫ى م َن التَّْو َراة َو ُمَب ّشراً ب َر ُسول َيْأتى من َب ْعدى ْ‬
‫ِ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫نبينا فقال‪ :‬إنه يوبخ العالم على خطيئته‪،‬‬ ‫وصف المسيح هذا الفارقليط بأوصاف ال تنطبق إال على ّ‬
‫وإ نه يعلِّمهم جميع الحق ألنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع‪ ،‬وهذا ما ورد في القرآن‬
‫َّ‬ ‫الكريم في سورة النجم‪{ :‬وما ي ِ‬
‫ق َع ِن اْلهَ َوى(‪ِ )3‬إ ْن ُه َو ِإال َو ْح ٌى ُي َ‬
‫وحى(‪( } )4‬النجم‪ 3 :‬ـ ـ ‪ )4‬وقد‬ ‫نط ُ‬ ‫ََ َ‬
‫ذكر اسم الرسول عليه‬
‫ورد في إنجيل برنابا ـ ـ الذي ظهر منذ زمن قريب وأخفته حجب الجهالة ـ ـ ُ‬
‫الصالة والسالم صراحة‪.‬‬

‫حركة األفكار قبل البعثة‬

‫وهذا يسهل لك فهم الحركة العظيمة من األحبار والرهبان قبيل البعثة فكان اليهود يستفتحون على‬
‫حدث عاصمبن عمربن قتادة عن رجال من قومه‪ ،‬قالوا‪ :‬إنما دعانا‬ ‫عرب المدينة برسول منتظر‪ .‬فقد َّ‬
‫وأصحاب أوثان‬
‫َ‬ ‫أحبار َيهود‪ ،‬كنا أهل ِشرك‬
‫لإلسالم ـ ـ مع رحمة اهلل تعالى لنا ـ ـ ما كنا نسمع من ْ‬
‫وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت ال تزال بيننا وبينهم شرور‪ ،‬فإذا نلنا منهم بعض ما‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫يكرهون‪ ،‬قالوا لنا‪ :‬قد تقارب زمان نبي ُيبعث اآلن‪ ،‬نقتلكم معه قتل عاد وإ رم‪ .‬فكثيراً ما نسمع ذلك‬
‫أج ْبنا حين دعانا إلى اهلل وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به‪ ،‬فبادرناهم‬
‫منهم‪ .‬فلما بعث اهلل رسوله محمداً َ‬
‫فآمنا وكفروا‪ .‬وإ نما قال لهم اليهود نقتلكم معه قتل عاد وإ رم ألن من صفته عليه الصالة والسالم‬
‫إليه ّ‬
‫النبي يستأصل المشركين بالقوة‪ ،‬ولم يكونوا يظنون َّ‬
‫َأن الحسد والبغي سيتمكنان من‬ ‫في كتبهم أن هذا َّ‬
‫المتنصر‬
‫ّ‬ ‫أميةبن أبي الصلت‬
‫فيحق عليهم العذاب في الدنيا واآلخرة‪ .‬وكان ّ‬
‫ّ‬ ‫القيم‬
‫أفئدتهم فينبذون الدين ّ‬
‫العربي كثيراً ما يقول‪:‬ـ إني ألجد في الكتب صفة نبي يبعث في بالدنا‪َّ .‬‬
‫وحدث سلمان الفارسي رضي‬
‫اهلل عنه عن نفسه أنه صحب قسيساً فكان يقول له‪ :‬يا سلمان إن اهلل سوف يبعث رسوالً اسمه أحمد‪،‬‬
‫يخرج من جبال تهامة‪ ،‬عالمته أنه يأكل الهدية وال يأكل الصدقة‪ ،‬وهذا الحديث كان من أسباب إسالم‬
‫سلمان‪ .‬ولما راسل عليه الصالة والسالم ملوك األرض لم ُي ِه ْن كتابه إال كسرى الذي ليس عنده علم‬
‫من الكتاب‪ ،‬وأما جميع ملوك النصارى كالنجاشي ملك الحبشة‪ ،‬والمقوقس ملك مصر‪ ،‬وقيصر ملك‬
‫رداً لطيفاً وكاد يسلم لوال غلبة‬
‫رد ّ‬ ‫الروم‪ ،‬فأكرموا ِوفَ َ‬
‫ادةَ رسله‪ .‬ومنهم من آمن كالنجاشي‪ ،‬ومنهم من ّ‬
‫ب بها هؤالء‬‫قوة ُير ِه ُ‬
‫الملك كقيصر‪ ،‬ومنهم من هادى كالمقوقس‪ ،‬ولم يكن عليه الصالة والسالم في ّ‬
‫اللهم ما ذاك إال ألنهم يعلمون أن المسيح عليه السالم ب ّشر برسول يأتي من بعده‪ ،‬ووافقت‬
‫الملوك َّ‬
‫صفات رسولنا ما عندهم‬

‫فأجابوا بالتي هي أحسن‪ ،‬وأما ما ُسمع من الهواتف وال ُكهان قبيل زمنه فهو ما ال يدخل تحت حصر‪.‬‬
‫وليس بعد ما ذكرته لك زيادة لمستكثر‪ .‬ومع ذلك كله فاألعمال التي جاد اهلل بها على يديه واألقوال‬
‫فتأمْله ترشد‬ ‫ٍ‬
‫ومؤيد لدعوته‪ .‬وسيأتي عليك بيان ذلك كله بأجلى بيان َّ‬ ‫مقو لحجته‬
‫التي أتانا بها أعظم َ‬
‫السوي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هداك اهلل إلى الصراط‬

‫بدء الوحي‬
‫لما بلغ عليه الصالة والسالم سن الكمال وهي أربعون سنة أرسله اهلل للعالمين بشيراً ونذيراً ُليخرجهم‬
‫ّ‬
‫من ظُلمات الجهالة إلى نور العلم وكان ذلك في أول فبراير سنة ‪ 610‬من الميالد كما أوضحه‬
‫المرحوم محمود باشا الفلكي‪ ،‬تبين بعد دقة البحث َّ‬
‫َأن ذلك كان في ‪ 17‬رمضان سنة ‪ 13‬قبل الهجرة‬
‫وذلك يوافق يوليو سنة ‪ .610‬وأول ما بدىء به الوحي الرؤيا الصادقة‪ ،‬فكان ال يرى رؤيا إال جاءت‬
‫مثل َفلق الصبح‪ ،‬وذلك لما جرت به عادة اهلل في خلقه من التدريج في األمور كلها حتى تصل إلى‬
‫حبب إليه عليه‬
‫الملَك ألول مرة‪ ،‬ثم ّ‬
‫درجة الكمال‪ .‬ومن الصعب جداً على البشر تلقي الوحي من َ‬
‫صفاء‬
‫َ‬ ‫الصالة والسالم الخالء‪ ،‬ليبتعد عن ظُلُمات هذا العالم وينقطع عن الخلق إلى اهلل فإن في العزلة‬
‫السريرة‪ .‬وكان يخلو بغار ِحراء فيتعبَّد فيه الليالي ذوات العدد‪ ،‬فتارة عشراً‪ ،‬وتارة أكثر إلى شهر‪.‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وكانت عبادته على دين أبيه إبراهيم عليه السالم ويأخذ لذلك زاده‪ ،‬فإذا فرغ رجع إلى خديجة فيتزود‬
‫لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء‪ ،‬فبينما هو قائم في بعض األيام على الجبل إ ْذ ظهر له‬
‫شخص‪ ،‬وقال‪ :‬أبشر يا محمد أنا جبريل‪ ،‬وأنت رسول اهلل إلى هذه األمة‪ .‬ثم قال له‪ :‬اقرأ‪ ،‬قال‪ :‬ما‬
‫أمي لم يتعلم القراءة قبالً‪ .‬فأخذه فغطه بالنمط الذي كان ينام‬
‫أنا بقارىء‪ ،‬فإنه عليه الصالة والسالم ّ‬
‫طه ثانية ثم أرسله‪،‬‬
‫عليه حتى بلغ منه الجهد‪ ،‬ثم أرسله‪ ،‬فقال‪ :‬اقرأ‪ .‬قال‪ :‬ما أنا بقارىء‪ .‬فأخذه فغ ّ‬
‫فقال‪ :‬اقرأ‪ .‬قال‪ :‬ما أنا بقارىء‪ ،‬فأخذه فغطّه الثالثة‪ ،‬ثم أرسله‬

‫ال ْك َر ُم(‪ )3‬الَِّذى َعلَّ َم بِاْل َقلَِم(‬ ‫ق(‪ )2‬ا ْق َرْأ َو َرب َ‬
‫ُّك ا ْ‬ ‫ان ِم ْن َعلَ ٍ‬ ‫ق اِإل َ‬
‫نس َ‬ ‫ق(‪َ )1‬خلَ َ‬ ‫اسِم َرّب َك الَِّذى َخلَ َ‬
‫فقال‪ :‬ا ْق َرْأ بِ ْ‬
‫ود َّن ِفى ِملَّتَِنا}‬‫ضَنآ َْأو لَتَ ُع ُ‬‫ال الَِّذين َكفَروْا ِلرسِل ِهم لَُن ْخ ِرجَّن ُكم من َأر ِ‬
‫َ ْ ّْ ْ‬ ‫َ ُ ُ ُ ْ‬ ‫ان َما لَ ْم َي ْعلَ ْم(‪َ )5‬وقَ َ‬
‫نس َ‬
‫َّ‬
‫‪َ )4‬عل َم اِإل َ‬
‫يدر ْكني‬ ‫ق ورقة برسالة الرسول األكرم عليه الصالة والسالم قال‪ :‬وإ ن ْ‬ ‫(إبراهيم‪ )13 :‬ولتمام تصدي ِ‬
‫مؤزراً (معضداً)‪ .‬ثم لم يلبث ورقة أن توفي‪.‬‬ ‫ص ْر َك نصراً ّ‬ ‫يومك َْأن ُ‬

‫فترة الوحي‬
‫ليشتد شوق الرسول‬
‫ّ‬ ‫مدة لم يتفق عليها المؤرخون‪ ،‬وأرجح أقوالهم فيها أربعون يوماً‪،‬‬
‫َوفَتََر الوحي ّ‬
‫اشتد به عليه الصالة والسالم حتى صار كلما أتى ذروة جبل بدا له أن‬
‫للوحي‪ ،‬وقد كان‪ ،‬فإن الحال ّ‬
‫يرمي نفسه منها‪ ،‬حذراً من قطيعة اهلل له بعد أن أراهُ نعمته الكبرى‪ ،‬وهي اختياره ألن يكون واسطة‬
‫عما عزم عليه‪،‬‬
‫فيتبدى له الملَك قائالً‪ :‬أنت رسول اهلل َحقاً‪ ،‬فيطمئن خاطره ويرجع ّ‬
‫بينه وبين خلقه‪ّ ،‬‬
‫حتى أراد اهلل أن يظهر للوجود نور الدين فعاد إليه الوحي‪.‬‬

‫عود الوحي‬
‫فبينما هو يمشي إذ سمع صوتاً من السماء فرفع إليه بصره‪ ،‬فإذا الملَك الذي جاءه ِ‬
‫بحراء جالس بين‬ ‫َ‬
‫فرعب منه لتذ ّكر ما فعله في المرة األولى فرجع وقال‪ :‬دثروني‪ ،‬دثروني‪ .‬فأنزل‬ ‫السماء واألرض‪ُ ،‬‬
‫اه ُج ْر(‪)5‬‬
‫الر ْج َز فَ ْ‬ ‫َّك فَ َكّب ْر(‪َ )3‬وثَِي َاب َك فَ َ‬
‫طهّ ْر(‪َ )4‬و ُّ‬ ‫اهلل تعالى عليه‪{ :‬يَأيُّها اْلم َّدثّر(‪ )1‬قُم فَ ِ‬
‫َأنذ ْر(‪َ )2‬و َرب َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ ُ‬
‫اصبِ ْر(‪)7‬‬ ‫ِ‬
‫َوالَ تَ ْمُنن تَ ْستَ ْكث ُر(‪َ )6‬وِل َرّب َك فَ ْ‬

‫سرا‬
‫الدعوة ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫فقام عليه الصالة والسالم باألمر ودعا لعبادة اهلل أقواماً ُجفاة ال دين لهم‪ ،‬إال أن يسجدوا ألصنام ال‬
‫تنفع وال تضر‪ ،‬وال حجة لهم أال أنهم متّبِعون لما كان يعبد آباؤهم‪ ،‬وليس عندهم من مكارم األخالق‬
‫واَألنفة‪ ،‬وهو الذي كثيراً ما كان سبباً في الغارات والحروب وإ هراق‬
‫بالعزة َ‬
‫إال ما كان مرتبطاً ّ‬
‫الدماء‪ ،‬فجاءهم رسول اهلل بما ال يعرفونه‪ .‬فذوو العقول السليمة بادروا إلى التصديق وخلع األوثان‪،‬‬
‫طع عليه نور اإلسالم‬
‫أع َمته الرياسة أدبر واستكبر كيال تُسلَب منه عظمته‪ .‬وكان أول من َس َ‬
‫ومن ْ‬
‫خديجة بنت خويلد َزوجه‪ ،‬وعليبن أبي طالب ابن عمه‪ ،‬وكان ُمقيماً عنده ُيطعمه ويسقيه ويقوم بأمره‪،‬‬
‫ألن قريشاً كانوا قد أصابتهم مجاعة‪ ،‬وكان أبو طالب ُمِقالًّ كثير األوالد‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‬
‫لعمه العباسبن عبد المطلب «إن أخاك أبا طالب كثير العيال‪ ،‬والناس فيما ترى من الشدة‪ ،‬فانطلق بنا‬ ‫ّ‬
‫إليه لنخفِّف من عياله‪ ،‬تأخذ واحداً‪ ،‬وأنا واحداً»‪ ،‬فانطلقا وعرضا عليه األمر‪ ،‬فأخذ العباس جعفربن‬
‫النبوة وقد‬
‫علياً‪ ،‬فكان في كفالته كأحد أوالده إلى أن جاءت ّ‬
‫أبي طالب‪ ،‬وأخذ عليه الصالة والسالم ّ‬
‫بدَنس الجاهلية من عبادة األوثان‪ ،‬واتّباع‬
‫ناهز االحتالم‪ ،‬فكان تابعاً للنبي في كل أعماله‪ ،‬ولم يتدنس َ‬
‫الهوى‪ ،‬وأجاب أيضاً زيدبن حارثةبن شرحبيل الكلبي‪ ،‬مواله عليه الصالة والسالم‪ ،‬وكان ُيقال له‬
‫َّ‬
‫المتبنى معتبراً كابن حقيقي يرث ويورث‪ ،‬وأجابت‬ ‫زيدبن محمد‪ ،‬ألنه لما اشتراه أعتقه َّ‬
‫وتبناه‪ ،‬وكان‬
‫زوجها لمواله زيد‪ .‬وأول َم ْن أجابه من غير أهل بيته أبو بكربن أبي‬
‫أيضاً ُُّأم أيمن حاضنته التي ّ‬
‫مرة التيمي القرشي‪ ،‬كان صديقاً لرسول اهلل صلى اهلل‬
‫قحافةبن عامربن عمروبن كعببن سعدبن تَْيمبن ّ‬
‫فأول ما‬
‫النبوة يعلم ما اتّصف به من مكارم األخالق ولم َي ْعهد عليه كذباً منذ اصطحبا‪ّ ،‬‬
‫عليه وسلم قبل ّ‬
‫أخبره برسالة اهلل أسرع بالتصديق‪ ،‬وقال‪ :‬بأبي أنت وأمي‪ ،‬أهل الصدق أنت‪ ،‬أشهد أن ال إله‬

‫إالّ اهلل وأنك رسول اهلل‪ .‬وكان رضي اهلل عنه صدراً معظّماً في قريش على سعة من المال وكرم‬
‫أعف الناس‪ ،‬سخياً‪ ،‬يبذل المال‪ ،‬محبباً في قومه‪ ،‬حسن المجالسة‪ ،‬ولذلك كله كان‬
‫األخالق‪ ،‬وكان من ّ‬
‫من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بمنزلة الوزير‪ ،‬فكان يستشيره في أموره كلها‪ ،‬وقال في حقه‪:‬‬
‫سراً حذراً‬
‫«ما دعوت أحداً إلى اإلسالم إال كانت له كبوة غير أبي بكر»‪ .‬وكانت الدعوة إلى اإلسالم ّ‬
‫من مفاجأة العرب بأمر شديد كهذا‪ ،‬فيصعب استسالمهم‪ ،‬فكان عليه الصالة والسالم ال يدعو إال َم ْن‬
‫يثق به‪ .‬ودعا أبو بكر إلى اإلسالم َم ْن يثق به من رجال قريش‪ ،‬فأجابه جمع منهم‪ :‬عثمانبن عفانبن‬
‫الح َك ُم بإسالمه‪ ،‬أوثقه‬
‫أبي العاصبن أميةبن عبد شمسبن عبد مناف األموي القرشي‪ ،‬ولما علم عمه َ‬
‫كتافاً وقال‪ :‬ترغب عن دين آبائك إلى دين مستحدث؟ واهلل ال أحلّك حتى تدع ما أنت عليه‪ ،‬فقال‬
‫عثمان‪ :‬واهلل ال أدعه وال ُأفارقه‪ .‬فلما رأى الحكم صالبته في الحق تركه‪ ،‬وكان كهالً يناهز الثالثين‬
‫العوامبن خويلدبن أسدبن عبد العزىبن قصي القرشي‪ ،‬وأمه صفية بنت‬
‫من عمره‪ .‬ومنهم‪ :‬الزبيربن ّ‬
‫فقواه اهلل بالثبات‪،‬‬
‫عم الزبير يرسل الدخان عليه وهو مقيد ليرجع إلى دين آبائه‪ّ ،‬‬
‫عبد المطلب‪ ،‬وكان ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وكان شاباً ال يتجاوز سن االحتالم‪.‬‬

‫ومنهم‪ :‬عبد الرحمانبن عوفبن عبد عوفبن الحارثبن زهرةبن كالب القرشي الهاشمي‪ ،‬وكان اسمه في‬
‫فسماه عليه الصالة والسالم عبد الرحمان‪.‬‬
‫الجاهلية عبد عمرو ّ‬

‫ومنهم‪ :‬سعدبن أبي وقاص مالكبن ُأهيببن عبد منافبن زهرةبن كالب الزهري القرشي‪ .‬ولما علمت‬
‫أمه َح ْمَنةُ بنت أبي سفيانبن أمية بإسالمه قالت له‪ :‬يا سعد بلغني أنك قد صبأت‪ ،‬فواهلل ال يظلُّني سقف‬
‫علي حرام حتى تكفر بمحمد‪ .‬وبقيت كذلك ثالثة أيام فجاء‬‫من الحر والبرد‪ ،‬وإ َّن الطعام والشراب َّ‬
‫سعد إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وشكا إليه أمر أمه فنزل في ذلك تعليماً قول اهلل تعالى في‬
‫اك ِلتُ ْش ِر َك بِى َما لَْي َس لَ َك بِ ِه ِعْل ٌم فَالَ‬
‫اه َد َ‬ ‫ِ ِ‬
‫ان بِ َوال َد ْيه ُح ْسناً َوِإ ن َج َ‬‫َّيَنا اِإل ْن َس َ‬
‫سورة العنكبوت‪َ :‬و َوص ْ‬
‫ِ‬
‫حق‬
‫وم ْن أشرك‪ ،‬فُأجازيكم ّ‬ ‫ون(‪ )8‬ـ ف } من آمن منكم َ‬ ‫تُط ْعهُ َمآ ِإلَ َّى َم ْر ِج ُع ُك ْم فَ َُأنبُِئ ُكم بِ َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫تحدث نفسك بجفوتهما‬ ‫جزائكم‪ .‬وفي ختام هذه اآلية فائدتان‪ :‬التنبيه على أن الجزاء إلى اهلل فال ّ‬
‫شر الجزاء في األخرى‪.‬‬
‫والحض على الثبات في الدين لئال ينال ّ‬
‫ّ‬ ‫إلشراكهما‪،‬‬
‫مرة التيمي القرشي وقد كان‬
‫ومنهم‪ :‬طلحةبن عبيد اللهبن عثمانبن عمروبن كعببن سعدبن تيمبن ّ‬
‫ذكر الرسول وصفته‪ ،‬فلما دعاه أبو بكر وسمع من رسول اهلل ما نفعه اهلل به‪،‬‬
‫َع َرف من الرهبان َ‬
‫عما العرب من المثالب‪ ،‬بادر إلى اإلسالم‪h.‬‬
‫ورأى الدين متيناً بعيداً ّ‬
‫وعماربن ياسر العنسي وقد قال رضي‬
‫وممن سبقوا إلى اإلسالم‪ :‬صهيب الرومي وكان من الموالي‪ّ ،‬‬
‫رأيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وما معه إال خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر وكذلك‬
‫ُ‬ ‫اهلل عنه‪:‬‬
‫سمية‪.‬‬
‫أسلم أبوه ياسر وأمه ّ‬
‫ومن السابقين األولين‪ :‬عبد اللهبن مسعود‪ ،‬كان يرعى الغنم لبعض ُم ِ‬
‫شركي قريش‪ ،‬فلما رأى اآليات‬
‫الباهرة وما يدعو إليه عليه السالم من مكارم األخالق‪ ،‬ترك عبادة األوثان ولزم رسول اهلل‪ ،‬وكان‬
‫رضي اهلل عنه كثير الدخول على الرسول ال ُيحجب‪ ،‬ويمشي أمامه‪ ،‬ويستره إذا اغتسل‪ ،‬ويوقظه إذا‬
‫ويلبسهُ نعليه إذا قام‪ ،‬فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه‪.‬‬
‫نام‪ُ ،‬‬

‫ومن السابقين األولين‪ :‬أبو ذر ِ‬


‫الغفاري وكان من أعراب البادية فصيحاً حلو الحديث‪ ،‬ولما بلغه‬ ‫ّ‬
‫َم ْب َعث رسول اهلل قال ألخيه‪ :‬اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه‬
‫الخبر من السماء‪ ،‬واسمع من قوله‪ ،‬ثم ائتني‪ .‬فانطلق األخ حتى قدم مكة وسمع من قول الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ثم رجع إلى أبي ذر فقال‪ :‬رأيته يأمر بمكارم األخالق ويقول كالماً ما هو‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫فتزو َد وحمل ِقربة له فيها ماء‪ ،‬حتى قَِد َم مكة فأتى المسجد‪،‬‬
‫بالشعر‪ ،‬فقال‪ :‬ما شفيتني مما أردت‪ّ .‬‬
‫فالتمس النبي صلى اهلل عليه وسلم وال يعرفه‪ ،‬و َك ِره أن يسأل عنه لما يعرفه من كراهة قريش لكل‬
‫علي فعرف أنه غريب فأضافه عنده‪ ،‬ولم يسأل أحد‬
‫َم ْن يخاطب رسول اهلل‪ ،‬حتى إذا أدركه الليل رآه ّ‬
‫منهما صاحبه عن شيء (على قاعدة الضيافة عند العرب ال ُيسأل الضيف عن سبب قدومه إال بعد‬
‫أصب َح احتمل ِقربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم وال يراه الرسول حتى أمسى‪ ،‬فعاد‬
‫ثالث) فلما َ‬
‫علي فقال‪ :‬أما آن للرجل أن يعرف منزله الذي ُأضيف به باألمس؟ فأقامه‪،‬‬
‫فمر به ّ‬‫إلى مضجعه‪ّ ،‬‬
‫علي مثل ذلك‪ ،‬ثم‬
‫فذهب معه ال يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء‪ ،‬حتى إذا كان اليوم الثالث عاد ّ‬
‫أقدم َك؟ قال‪ :‬إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت‪ ،‬ففعل‬
‫تحدثني ما الذي َ‬
‫قال له علي‪ :‬أال ّ‬
‫فأخبره‪ ،‬قال‪ :‬فإنه حق‪ ،‬وهو رسول اهلل‪ ،‬فإذا أصبحت فاتبعني‪ ،‬فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك قمت‬
‫مدخلي ففعل‪ .‬فانطلق يتبع أثره حتى دخل على‬
‫مضيت فاتبعني حتى ندخل َ‬
‫ُ‬ ‫كأني أريق الماء‪ ،‬فإن‬
‫النبي‪ ،‬ودخل معه‪ ،‬فسمع من قوله‪ ،‬وأسلم مكانه‪ ،‬فقال له النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ارجع إلى‬
‫ظهرانيهم‪ .‬فخرج حتى‬
‫ألصرخن بها بين َ‬
‫ّ‬ ‫قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري»‪ ،‬قال‪ :‬والذي نفسي بيده‬
‫أتى المسجد‪ ،‬فنادى بأعلى صوته‪ :‬أشهد أن ال إله إال اهلل وأن محمداً رسول اهلل‪ .‬فقام القوم فضربوه‬
‫ستم تعلمون أنه من‬ ‫َّ‬
‫فأكب عليه وقال‪ :‬ويلكم َأولَ ُ‬ ‫حتى أضجعوه‪ ،‬وأتى العباس‬

‫ِغفار‪ ،‬وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليه؟ فأنقذه منهم‪ ،‬ثم عاد من الغد لمثلها‪ ،‬فضربوه وثاروا إليه‪،‬‬
‫َّ‬
‫فأكب العباس عليه‪ .‬رواه البخاري‪ .‬وكان رضي اهلل عنه من أصدق الناس قوالً‪ ،‬وأزهدهم في الدنيا‪.‬‬
‫وزوجه فاطمة بنت الخطاب أخت عمر‪ ،‬وُأم الفضل‬
‫ومن السابقين‪ :‬سعيدبن زيد العدوي القرشي‪َ ،‬‬
‫وعبيدةبن الحارثبن عبد المطلببن هاشم‪ ،‬ابن‬
‫لُبابة بنت الحارث الهاللية‪ ،‬زوج العباسبن عبد المطلب‪ُ ،‬‬
‫عم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأبو سلمة عبد اللهبن عبد األسد المخزومي القرشي ابن عمة‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وزوجه أم سلمة‪ ،‬وعثمانبن مظعون الجمحي القرشي‪ ،‬وأخواه‬
‫قُدامة‪ ،‬وعبد اهلل‪ ،‬واألرقمبن أبي األرقم المخزومي القرشي‪.‬‬

‫األولين‪ :‬خالدبن سعيدبن العاصبن أميةبن عبد شمس األموي القرشي‪ ،‬كان أبوه سيد‬ ‫ومن السابقين ّ‬
‫يعتم قرشي إجالالً له‪ ،‬وكان خالدبن سعيد قد رأى في منامه أنه سيقع في هاوية‪،‬‬
‫اعتم لم ّ‬
‫قريش إذا َّ‬
‫إالم تدعو يا محمد؟ قال‪« :‬أدعوك إلى عبادة اهلل‬
‫فأدركه رسول اهلل وخلّصه منها فجاء إليه وقال‪َ :‬‬
‫يضر وال ينفع‪،‬‬
‫وحده ال شريك له‪ ،‬وأن تخلع ما أنت عليه من عبادة حجر ال يسمع وال يبصر وال ّ‬
‫واإلحسان إلى والديك‪ ،‬وأن ال تقتل ولدك خشية الفقر‪ ،‬وأن ال تقرب الفاحشة ما ظهر منها وما بطن‪،‬‬
‫أشده‪،‬‬
‫حرم اهلل إال بالحق‪ ،‬وأن ال تقرب مال اليتيم إال بالتي هي أحسن حتى يبلغ ّ‬
‫وأن ال تقتل نفساً ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وأن توفي الكيل والميزان بالقسط‪ ،‬وأن تعدل في قولك ولو حكمت على ذوي قرباك‪ ،‬وأن توفي لمن‬
‫ٍ‬
‫وحينئذ غضب عليه أبوه وآذاه حتى منعه القوت‪ ،‬فانصرف إلى‬ ‫عاهدت» فأسلم رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فكان يلزمه ويعيش معه‪ ،‬ويغيب عن أبيه في ضواحي مكة‪ ،‬وأسلم‬
‫بعده أخوه عمروبن سعيد‪.‬‬

‫وهكذا دخل هؤالء األشراف في دين اإلسالم‪ ،‬ولم يكن مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سيف‬
‫يضرب به أعناقهم حتى يطيعوه صاغرين‪ ،‬وليس معه ما يرغب فيه حتى يترك هؤالء العظماء‬
‫آباءهم‪ ،‬وذوي الثروة منهم‪ ،‬ويتبعوا الرسول ليأكلوا من فضل ماله‪ ،‬بل كان الكثير منهم واسع الثروة‬
‫أكثر منه عليه الصالة والسالم كأبي بكر وعثمان وخالدبن سعيد وغيرهم‪ ،‬والذين اتّبعوه من الموالي‬
‫اختاروا األذى والجوع والمشقّات مع اتّباع الرسول‪ ،‬بحيث لو اتبعوا سادتهم لكانوا في هذه الدنيا أهدأ‬
‫اللهم ليس ذلك إال من هداية اهلل وسطوع أنوار الدين عليهم‪ ،‬حتى أدركوا ما هم‬
‫باالً وأنعم عيشة‪ّ ،‬‬
‫عليه من الضاللة وما عليه رسول اهلل من الهدى‪.‬‬

‫الجهر بالتبليغ‬

‫مضت كل هذه المدة والنبي عليه الصالة والسالم ال ُيظهر الدعوة في مجامع قريش العمومية‪ ،‬ولم‬
‫يكن المسلمون يتم ّكنون من إظهار عبادتهم حذراً من تعصب قريش‪ ،‬فكان ُّ‬
‫كل من أراد العبادة ذهب‬
‫ولما دخل في الدين ما يربو على الثالثين‪ ،‬وكان من الالزم اجتماع‬ ‫ِ‬
‫إلى شعاب مكة يصلّي مستخفياً‪ّ ،‬‬
‫ممن ذكرنا إسالمهم ـ ـ‬ ‫الرسول بهم ليرشدهم ويعلّمهم‪ ،‬اختار لذلك دار األرقمبن أبي األرقم ـ ـ وهو ّ‬
‫ع بِ َما‬
‫اص َد ْ‬ ‫ِ‬
‫سراً حتى نزل عليه قوله تعالى في سورة الحجر‪ :‬فَ ْ‬ ‫ومكث عليه الصالة والسالم يدعو ّ‬
‫ات لَهَ ٍب(‪)3‬‬ ‫ِ‬
‫صلَى َناراً َذ َ‬
‫ب(‪َ )2‬سَي ْ‬ ‫َأغَنى َع ْنهُ َمالُهُ َو َما َك َس َ‬
‫ين(‪َ )1( )94‬مآ ْ‬ ‫ض َع ِن اْل ُم ْش ِرك َ‬ ‫َأع ِر ْ‬ ‫تُْؤ َم ُر َو ْ‬
‫ض‬ ‫اخِف ْ‬ ‫ين(‪َ )214‬و ْ‬ ‫َأنذ ْر َع ِش َيرتَ َك ا ْ‬
‫ال ْق َربِ َ‬
‫ط ِب(‪ِ )4‬فى ِج ِيدها حْب ٌل من َّمس ٍد(‪ )5‬و ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ّ‬ ‫ام َرَأتُهُ َح َّمالَةَ اْل َح َ‬
‫َو ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ْو َك} (الشعراء‪ )216 ،215 :‬أي‪ :‬العشيرة‬ ‫ين(‪ )215‬فَِإ ْن َع َ‬ ‫اح َك ل َم ِن اتََّب َع َك م َن اْل ُمْؤ ِمن َ‬
‫َجَن َ‬
‫ون} (الشعراء‪ )216 :‬فجمعهم عليه الصالة والسالم وقال لهم‪:‬‬ ‫واألقربون {فَ ُق ْل ِإّنى َب ِرىء ّم َّما تَ ْع َملُ َ‬
‫غررت الناس جميعاً ما‬
‫ُ‬ ‫كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم‪ ،‬ولو‬
‫ُ‬ ‫«إن الرائد ال يكذب أهله‪ ،‬واهلل لو‬
‫غررتكم‪ ،‬واهلل الذي ال إله إال هو إني لرسول اهلل إليكم خاصة‪ ،‬وإ لى الناس كافة‪ ،‬واهلل لتموتُ َّن كما‬
‫ولتجزو ّن باإلحسان إحساناً‪ ،‬وبالسوء سوءاً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تنامون‪ ،‬ولتُبعثُ َّن كما تستيقظون‪ ،‬ولتُ َح ّ‬
‫اسبن بما تعملون‪،‬‬
‫لجنة أبداً أو لنار أبداً»‪ .‬فتكلم القوم كالماً ّليناً غير عمه أبي لهب الذي كان خصماً لدوداً فإنه‬
‫وإ ّنها ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫قال‪ :‬خذوا على يديه قبل أن تجتمع عليه العرب‪ ،‬فإن أسلمتموه إذاً ذللتم‪ ،‬وإ ن منعتموه قُتلتم‪ ،‬فقال أبو‬
‫طالب‪ :‬واهلل لنمنعنه ما بقينا‪ ،‬ثم انصرف الجمع‪.‬‬

‫ولما جهر رسول اهلل عليه الصالة والسالم بالدعوة َس ِخرت منه قريش واستهزؤوا به في مجالسهم‬
‫مر عليهم يقولون‪ :‬هذا ابن أبي كبشة ُيكلَّم من السماء‪ ،‬وهذا غالم عبد المطلب ُيكلم من‬
‫فكان إذا َّ‬
‫وسفّهَ عقولهم وقال لهم‪« :‬واهلل يا قوم لقد خالفتم دين‬
‫السماء ال يزيدون على ذلك‪ ،‬فلما عاب آلهتهم‪َ ،‬‬
‫أبيكم إبراهيم»‪ ،‬ثارت في رؤوسهم حمية الجاهلية َغ ْي َرةً على تلك اآللهة التي كان يعبدها آباؤهم‪،‬‬
‫فذهبوا إلى عمه أبي طالب سيد بني هاشم الذي أخذ على نفسه حمايته من أيدي أعدائه‪ ،‬فطلبوا منه أن‬
‫رداً جميالً فانصرفوا عنه‪ ،‬ومضى رسول اهلل لما يريده‬
‫فردهم ّ‬
‫عما يقول‪ّ ،‬‬
‫ُيخلي بينهم وبينه أو يكفّه ّ‬
‫ال يصده عن مراده شيء‪ ،‬فتزايد األمر‪ ،‬وأضمرت قريش الحقد والعداوة لرسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وحث بعضهم بعضاً على ذلك‪ .‬ثم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى وقالوا له‪ :‬إن لك سناً‬
‫عنا‪ ،‬وإ ّنا واهلل ال نصبر على هذا‬
‫منا‪ ،‬وإ ّنا قد طلبنا منك أن تنهى ابن أخيك فلم تَْنهَهُ ّ‬
‫وشرفاً ومنزلة ّ‬
‫من شتم آبائنا‪ ،‬وتسفيه عقولنا‪ ،‬وعيب آلهتنا‪ .‬فإنهم كانوا إذا احتجوا بالتقليد في استمرارهم على عدم‬
‫{وِإ َذا ِق َ‬
‫يل لَهُ ُم‬ ‫ذمهم لعدم استعمال عقولهم فيما ُخلقت له‪ .‬قال تعالى في سورة البقرة‪َ :‬‬ ‫اتّباع الحق ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اتَّبِعوْا مآ َ َّ‬
‫ون(‬‫ون َش ْيًئا َوالَ َي ْهتَ ُد َ‬
‫ءاباُؤ ُه ْم الَ َي ْعقلُ َ‬‫ان َ‬ ‫آءنآ ََأولَ ْو َك َ‬
‫ءاب َ‬ ‫َأنز َل اللهُ قَالُوْا َب ْل َنتَّبِعُ َمآ َأْلفَْيَنا َعلَْيه َ‬ ‫ُ َ‬
‫ان‬ ‫ِ‬ ‫الرس ِ‬ ‫يل لَهم تَعالَوْا ِإلَى مآ َ َّ‬ ‫ِ‬
‫اءنآ ََأولَ ْو َك َ‬‫ءاب َ‬ ‫ول قَالُوْا َح ْسُبَنا َما َو َج ْدَنا َعلَْيه َ‬ ‫َأنز َل اللهُ َوِإ لَى َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫‪َ )170‬وِإ َذا ق َ ُ ْ َ ْ‬
‫ق لَ ُكم ّم ْن َأنفُ ِس ُك ْم َْأزواجاً لّتَ ْس ُكُنوْا ِإلَْيهَا‬
‫َأن َخلَ َ‬ ‫ءابا هم الَ يعلَمون َشْيئاً والَ يهتَ ُدون(‪ )104‬و ِمن ِ ِ‬
‫ءاياته ْ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫َ ُؤ ُ ْ َ ْ ُ َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫وهآ‬
‫ال ُمتَْرفُ َ‬ ‫ون(‪ )21‬قَ َ‬ ‫اليات لّقَ ْوٍم َيتَفَ َّك ُر َ‬
‫َو َج َع َل َب ْيَن ُكم َّم َو َّدةً َو َر ْح َمةً ِإ َّن فى َذل َك َ‬

‫آءنا علَى َّ ٍ‬
‫شبههم بمن قبلهم من‬ ‫ون} (الزخرف‪ .)23 :‬ولما ّ‬ ‫ُأمة َوِإ َّنا َعلَى ءاثَ ِار ِهم ُّم ْقتَ ُد َ‬ ‫ءاب َ َ‬ ‫ِإَّنا َو َج ْدَنآ َ‬
‫ِ‬ ‫الدالة على التعصب والعناد قال‪ُ { :‬ق ْل َأولَو ِجْئ تُ ُكم بِ ْ ِ‬
‫َأه َدى م َّما َو َجدتُّ ْم َعلَْيه َ‬
‫ءابآء ُك ْم‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫األمم في هذه المقالة ّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون(‪)24‬‬ ‫قَالُوْا ِإَّنا بِ َمآ ُْأرسْلتُ ْم بِه َكاف ُر َ‬

‫اإليذاء‬
‫الشدة‪ ،‬خصوصاً إذا ذهب إلى الصالة عند البيت‪،‬‬
‫ورأى رسول اهلل من المشركين كثير األذى وعظيم ّ‬
‫سموا لكثرة أذاهم بالمستهزئين‪.‬‬
‫وكان من أعظمهم أ ًذى لرسول اهلل جماعة ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وأشدهم‪ :‬أبو جهل عمروبن هشامبن المغيرة المخزومي القرشي‪ ،‬قال يوماً‪ :‬يا معشر قريش‬ ‫ّ‬ ‫فأولهم‬
‫ّ‬
‫وسب آبائكم‪ ،‬إني ُأعاهد اهلل‬
‫ّ‬ ‫ِإ َّن محمداً قد أتى ما ترون من عيب دينكم وشتم آلهتكم‪ ،‬وتسفيه أحالمكم‪،‬‬
‫فَأسِل ُموني عند ذلك أو‬
‫خت به رأسه ْ‬
‫رض ُ‬‫ألجلسن له غداً بحجر ال أطيق حمله‪ ،‬فإذا سجد في صالته َ‬
‫ّ‬
‫امنعوني‪ ،‬فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم‪ ،‬فلما أصبح أخذ حجراً كما وصف‪ ،‬ثم جلس‬
‫لرسول اهلل ينتظره‪ ،‬وغدا عليه الصالة والسالم كما كان يغدو إلى صالته‪ ،‬وقريش في أنديتهم‬
‫ينتظرون ما أبو جهل ِ‬
‫فاعل‪ ،‬فلما سجد عليه الصالة والسالم احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه‪،‬‬
‫حتى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه من الفزع ورمى حجره من يده‪ .‬فقام إليه رجال من قريش‬
‫الح َكم؟ قال‪ :‬قمت إليه ألفعل ما قلت لكم‪ ،‬فلما دنوت منه عرض لي فحل من اإلبل‬
‫لك يا أبا َ‬
‫فقالوا‪ :‬ما َ‬
‫واهلل ما رأيت مثله قطّ َه َّم بي أن يأكلني‪ ،‬فلما ُذكر ذلك لرسول اهلل قال‪ :‬ذاك جبريل ولو دنا ألخذه‪.‬‬
‫وكان أبو جهل كثيراً ما ينهى الرسول عن صالته في البيت فقال له مرة بعد أن رآه يصلي‪ :‬ألم أنهك‬
‫عن هذا؟ فأغلظ له رسول اهلل القول وهدده‪ ،‬فقال‪ :‬أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟ فأنزل اهلل‬
‫اطَئ ٍة(‪َ )16‬فْلَي ْدعُ‬
‫اصي ٍة َك ِاذب ٍة َخ ِ‬
‫ِ‬ ‫تهديداً له في آخر سورة اقرأ‪َ :‬كالَّ لَِئن لَّم ينتَ ِه لََنسفَعاً بِ َّ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫الناصَية(‪َ )15‬ن َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬
‫اس ُج ْد َوا ْقتَ ِرب َن ِادَيهُ(‪)19‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َن ِاديه(‪ )17‬سَن ْدعُ َّ ِ‬
‫الزَبانَيةَ(‪َ )18‬كال الَ تُط ْعهُ َو ْ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬

‫ومن أذيته للرسول ما حكاه عبد اللهبن مسعود من رواية البخاري قال‪ :‬كنا مع رسول اهلل في المسجد‬
‫وهو يصلي‪ ،‬فقال أبو جهل‪ :‬أال رجل يقوم إلى فَ ْرث جزور بني فالن فيلقيه على محمد وهو ساجد؟‬
‫فقام عقبةبن أبي ُم َعيطبن أبي عمروبن أميةبن عبد شمس‪ ،‬وجاء بذلك الفرث‪ ،‬فألقاه على النبي صلى‬
‫اهلل عليه وسلم وهو ساجد‪ ،‬فلم يقدر أحد من المسلمين الذين كانوا بالمسجد على إلقائه عنه لضعفهم‬
‫عن مقاومة عدوهم‪ ،‬ولم يزل عليه الصالة والسالم ساجداً حتى جاءت فاطمة بنته فأخذت القذر‬
‫وسمى‬
‫«اللهم عليك بالمأل من قريش» ّ‬
‫ّ‬ ‫ورمته‪ .‬فلما قام دعا على َم ْن صنع هذا الصنع القبيح فقال‪:‬‬
‫أقواماً‪ ،‬قال ابن مسعود‪ :‬فرأيتهم قُتلوا يوم بدر‪.‬‬

‫ومما حصل لرسول اهلل مع أبي جهل أن هذا ابتاع أجماالً من رجل يقال له اإلراشي فمطله بأثمانها‬
‫فجاء الرجل مجمع قريش يريد منهم مساعدة على أخذ ماله‪ ،‬فدلّوه على رسول اهلل ُلينصفه من أبي‬
‫جهل استهزاء لما يعلمونه من أفعال ذلك الشقي بالرسول‪ ،‬فتوجه الرجل إليه وطلب منه المساعدة‬
‫على أبي جهل فخرج معه حتى ضرب عليه بابه فقال‪َ :‬م ْن هذا؟ قال‪ :‬محمد‪ ،‬فخرج منتقعاً لونه فقال‬
‫تبرح حتى تأخذه‪ ،‬فلم يبرح الرجل حتى أخذ َدْينه‪،‬‬
‫ْ‬ ‫له الرسول‪ِ :‬‬
‫أعط هذا حقه‪ ،‬فقال أبو جهل‪ :‬ال‬
‫علي‬
‫فقالت قريش‪ :‬ويلك يا أبا الحكم ما رأينا مثل ما صنعت قال‪ :‬ويحكم واهلل ما هو إال أن ضرب َّ‬
‫بابي حتى سمعت صوته فملئت منه رعباً‪ ،‬ثم خرجت إليه وإ ن فوق رأسي فحالً من اِإل بل ما رأيت‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫مثله‪.‬‬
‫أشد عليه من األباعد‪ ،‬فكان‬
‫عم رسول اهلل كان ّ‬
‫ومن جماعة المستهزئين‪ :‬أبو لهببن عبد المطلب‪ّ ،‬‬
‫أي جوار‬
‫يرمي القذر على بابه ألنه كان جاراً له‪ ،‬فكان الرسول يطرحه ويقول‪ :‬يا بني عبد مناف ُّ‬
‫تسب رسول‬
‫هذا؟ وكانت تشاركه في قبيح عمله زوجه ُّأم جميل بنت حرببن أمية‪ ،‬فكانت كثيراً ما ّ‬
‫اهلل‪ ،‬وتتكلم فيه بالنمائم‪ ،‬وخصوصاً بعد أن نزل فيها وفي زوجها سورة أبي لهب‪.‬‬

‫ومن المستهزئين‪ُ :‬عقبةبن أبي ُمعيط كان الجار الثاني لرسول اهلل‪ ،‬وكان يعمل معه كأبي لهب‪ ،‬صنع‬
‫مرة وليمة ودعا لها كبراء قريش وفيهم رسول اهلل فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬واهلل ال آكل طعامك‬
‫الجمحي القرشي‪ ،‬وكان صديقاً له فقال‪ :‬ما شيء بلغني‬
‫ُأبيبن خلف ُ‬
‫حتى تؤمن باهلل»‪ ،‬فتشهَّد فبلغ ذلك ّ‬
‫عنك؟ قال‪ :‬ال شيء‪ ،‬دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له‪ ،‬فاستحييت أن‬
‫ُأبي‪ :‬وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً فلم تطأ‬ ‫يخرج من بيتي ولم َيطعم فشهدت له‪ .‬قال ّ‬
‫عنقه‪ ،‬وتبزق في وجهه‪ ،‬وتلطم عينه‪ ،‬فلما رأى عقبة رسول اهلل فعل به ذلك فأنزل اهلل فيه في سورة‬
‫ياوْيلَتَا لَْيتَنِى لَ ْم‬ ‫ت مع َّ ِ ِ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫الفرقان‪ :‬ويوم يع ُّ َّ ِ‬
‫الر ُسول َسبيالً(‪َ )27‬‬ ‫ض الظال ُم َعلَى َي َد ْيه َيقُو ُل يالَْيتَنى ات َخ ْذ ُ َ َ‬ ‫َ َْ َ َ َ‬
‫ان َخ ُذوالً(‪)29‬‬ ‫ان ِلِإل ْن َس ِ‬
‫ط ُ‬ ‫ان َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫ِ‬ ‫َأتَّ ِخ ْذ فُالَناً َخِليالً(‪ )28‬لَّقَ ْد َّ ِ‬
‫َأضلنى َع ِن ال ّذ ْك ِر َب ْع َد ِإ ْذ َجآءنى َو َك َ‬
‫َ‬
‫ات ِمن َّرّب ُك ْم} (غافر‪.)28 :‬‬ ‫ول رّبى اللَّه وقَ ْد جآء ُكم بِاْلبّيَن ِ‬
‫ون َر ُجالً َأن َيقُ َ َ َ ُ َ َ ْ َ‬ ‫َأتَ ْقتُلُ َ‬
‫ومن جماعة المستهزئين‪ :‬العاصبن وائل السهمي القرشي والد عمروبن العاص‪ ،‬كان شديد العداوة‬
‫غر محمد أصحابه أن يحيوا بعد الموت‪ ،‬واهلل ما يهلكنا إال الدهر‪ ،‬فقال اهلل‬ ‫لرسول اهلل‪ ،‬وكان يقول‪َّ :‬‬
‫الد ْنيا نموت ونحيا وما يهِل ُكنآ ِإالَّ‬ ‫َّ‬
‫{وقَالُوْا َما ِه َى ِإال َحَياتَُنا ُّ َ َ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ‬ ‫رداً عليه في دعواه في سورة الجاثية‪َ :‬‬ ‫ّ‬
‫ت الَِّذى َكفََر بَِئ َاياتَِنا َوقَ َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ِ ٍِ‬
‫ال الَوتََي َّن َماالً َو َولَداً(‬ ‫الد ْه ُر َو َما لَهُ ْم بِ َذل َك م ْن عْلم ِإ ْن ُه ْم ِإال َيظُُّن َ‬
‫ون(‪َ )24‬أفََر َْأي َ‬ ‫َّ‬
‫اب َم ّداً(‪)79‬‬ ‫ب ما َيقُو ُل وَنم ُّد لَهُ ِم َن اْل َع َذ ِ‬ ‫َّ‬ ‫الر ْح َم ِ‬ ‫ب َِأم اتَّ َخ َذ ِع َ‬ ‫َّ‬
‫َ ُ‬ ‫ان َع ْهداً(‪َ )78‬كال َسَن ْكتُ ُ َ‬ ‫ند َّ‬ ‫‪َ )77‬أطلَ َع اْل َغ ْي َ‬
‫َوَن ِرثُهُ َما َيقُو ُل َوَيْأتِ َينا فَ ْرداً(‪)80‬‬

‫ومن جماعة المستهزئين‪ :‬األسودبن عبد يغوث‪ ،‬الزهري‪ ،‬القرشي‪ ،‬من بني زهرة‪ ،‬أخوال رسول‬
‫استهزاء بهم ألنهم كانوا‬
‫ً‬ ‫اهلل‪ ،‬كان إذا رأى أصحاب النبي مقبلين يقول‪:‬ـ قد جاءكم ملوك األرض‪،‬‬
‫ت اليوم من السماء؟‬ ‫متقشفين‪ ،‬ثيابهم رثّة‪ ،‬وعيشهم خشن‪ ،‬وكان يقول لرسول اهلل سخرية‪ :‬أما ُكلِّ ْم َ‬
‫مر عليهم المسلمون‬ ‫ابن عم خديجة‪ ،‬كان هو وشيعته إذا ّ‬ ‫ومنهم‪ :‬األسودبن عبد المطلب األسدي‪ُ ،‬‬
‫ِ َِّ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫ون(‪)29‬‬‫ض َح ُك َ‬
‫ءامُنوْا َي ْ‬
‫ين َ‬ ‫َأج َر ُموْا َك ُانوْا م َن الذ َ‬
‫ين ْ‬‫يتغامزون وفيهم نزل في سورة المطفِّف ْين‪ِ :‬إ َّن الذ َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ين(‪َ )31‬وِإ َذا َر َْأو ُه ْم قَالُوْا ِإ َّن َهُؤ الَء‬ ‫ِ‬ ‫َأهِل ِه ْم َ‬
‫انقلَُبوْا فَك ِه َ‬ ‫انقلَُبوْا ِإلَى ْ‬
‫ون(‪َ )30‬وِإ َذا َ‬
‫ام ُز َ‬ ‫ِِ‬
‫َوِإ َذا َم ُّروْا به ْم َيتَ َغ َ‬
‫ون(‪)32‬‬ ‫لَ ُّ‬
‫ضآل َ‬ ‫َ‬

‫ومنهم‪ :‬الوليدبن المغيرة‪ ،‬عم أبي جهل‪ ،‬كان من عظماء قريش وفي سعة من العيش‪ ،‬سمع القرآن‬
‫مرة من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال لقومه بني مخزوم‪ :‬واهلل لقد سمعت من محمد آنفاً‬
‫كالماً ما هو من كالم اإلنس وال من كالم الجن‪ ،‬وإ َّن له لحالوة‪ ،‬وإ ن عليه لطالوة‪ ،‬وإ ن أعاله ُ‬
‫لمثمر‪،‬‬
‫َّ‬
‫لتصبأن قريش كلها‪ ،‬فقال أبو‬ ‫لمغدق‪ ،‬وإ نه يعلو وما ُيعلى‪ ،‬فقالت قريش‪ :‬صبأ واهلل الوليد‪،‬‬
‫وإ ن أسفله ُ‬
‫جهل‪ :‬أنا أكفيكموه‪ .‬فتوجه وقعد إليه حزيناً وكلّمه بما أحماه‪ ،‬فقام فأتاهم فقال‪ :‬تزعمون أن محمداً‬
‫هوس؟ وتقولون‪:‬ـ إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟ وتزعمون أنه شاعر فهل‬ ‫مجنون فهل رأيتموه ُي ِّ‬
‫جربتم عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا في كل‬ ‫َّ‬
‫ط؟ وتزعمون أنه كذاب‪ ،‬فهل ّ‬ ‫رأيتموه يتعاطى شعراً ق ّ‬
‫ذلك‪ :‬اللهم ال‪ ،‬ثم قالوا‪ :‬فما هو؟ َّ‬
‫ففكر قليالً ثم قال‪ :‬ما هو إال ساحر‪ ،‬أما رأيتموه يفرق بين الرجل‬ ‫ّ‬
‫المدثر مخاطباً لرسوله‪:‬‬ ‫فارتج النادي فرحاً فأنزل اهلل في شأن الوليد في سورة ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأهله وولده ومواليه؟‬
‫دت لَهُ تَ ْم ِهيداً(‬‫ين ُشهُوداً(‪َ )13‬و َمهَّ ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ت َو ِحيداً(‪َ )11‬و َج َعْل ُ‬ ‫َذ ْرنِى َو َم ْن َخلَ ْق ُ‬
‫ت لَهُ َماالً َّم ْم ُدوداً(‪َ )12‬وَبن َ‬
‫ص ُعوداً(‪ِ )17‬إَّنهُ فَ َّك َر َوقَ َّد َر(‪)18‬‬ ‫يد(‪َ )15‬كالَّ ِإَّنه كان ْ ِ ِ‬
‫الَياتَنا َعنيداً(‪َ )16‬س ُْأر ِهقُهُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َأن َِأز َ‬
‫ط َمعُ ْ‬ ‫‪ )14‬ثَُّم َي ْ‬
‫استَ ْكَب َر(‪)23‬‬ ‫ف قَ َّد َر(‪ )20‬ثَُّم َن َ‬
‫ظ َر(‪ )21‬ثَُّم َعَب َس َوَب َس َر(‪ )22‬ثَُّم َْأدَب َر َو ْ‬ ‫ف قَ َّد َر(‪ )19‬ثَُّم قُتِ َل َك ْي َ‬ ‫فَقُتِ َل َك ْي َ‬
‫ال ِإن ها َذآ ِإالَّ ِس ْحر ي ثَر(‪ِ )24‬إن ها َذآ ِإالَّ قَو ُل اْلب َش ِر(‪ )25‬سُأصِل ِ‬
‫يه َسقََر(‪)26‬‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ٌ ُْؤ ُ‬ ‫فَقَ َ ْ َ‬

‫وأنزل فيه أيضاً في سورة ن‪ :‬وال تطع كل حالف} كثير الحلف وكفىـ بهذا زاجراً لمن اعتاد الحلف‬
‫اء َبن ِم ْيٍم} بنقل األحاديث‬
‫عياب طعان م َّش ٍ‬
‫َ‬ ‫َم ِه ْي ٍن} حقير وأراد به الكذاب ألنه حقير في نفسه َه َّم ٍاز} ّ‬
‫نين‪،‬‬ ‫كان َذا م ٍ‬
‫ال َوَب َ‬ ‫َأن َ َ‬ ‫عد َذلك َزنِْيٍم} دخيل ْ‬ ‫لخ ْي ِر ُم ْعتٍَد ْ‬
‫َأثيٍم ُعتُ َل} غليظ جاف َب َ‬ ‫اع ِل َ‬
‫لإلفساد بين الناس َمَّن ٍ‬
‫وم} كناية عن اإلذالل والتحقير ألن‬ ‫اَألو ْلي َن‪َ ،‬سَن ِس ُمهُ على ُ‬
‫الخرطُ ِ‬ ‫ال ِ‬
‫َأساط ْي ُر َّ‬ ‫ِإذا تُْتلى َعلَْي ِه َآياتُنا قَ َ‬
‫الوجه أكرم عضو واألنف أشرف ما فيه‪ ،‬ولذلك اشتقوا منه َّ‬
‫كل ما يدل على العظمة‪ ،‬كاألنفة وهي‪:‬‬
‫الحمية‪ .‬فالوسم على أشرف عضو دليل اإلذالل واإلهانة‪.‬‬
‫ومن المستهزئين‪ :‬النضربن الحارث العبدري من بني عبد الداربن قصي‪ .‬كان إذا جلس رسول اهلل‬
‫َأح َس ُن‬ ‫هلموا يا معشر قريش فإني ْ‬ ‫يحدثهم ويذكرهم ما أصاب َم ْن قبلهم‪ ،‬قال النضر‪ّ :‬‬ ‫مجلساً للناس ّ‬
‫يحدث عن ملوك فارس‪ ،‬وكان يعلم أحاديثهم‪ ،‬ويقول‪:‬ـ ما أحاديث محمد إال أساطير‬ ‫منه حديثاً ثم ِّ‬
‫يل اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر‬
‫ض َّل َعن سبِ ِ‬
‫َ‬
‫يث ِلي ِ‬‫ِ ِ‬
‫اس َمن َي ْشتَ ِرى لَ ْه َو اْل َحد ُ‬ ‫األولين وفيه نزل في سورة لقمان‪َ :‬و ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬ ‫ّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ءاياتَُنا َولى ُم ْستَ ْكبِراً َكَأن ل ْم َي ْس َم ْعهَا َك َّ‬
‫َأن‬ ‫ِ‬ ‫ِعْلٍم َوَيتَّخ َذ َها ُه ُزواً ُْأولَ َك لَهُ ْم َع َذ ٌ‬
‫اب ُّم ِه ٌ‬ ‫ِئ‬ ‫ِ‬
‫ين(‪َ )6‬وِإ َذا تُْتلَى َعلَْيه َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ف‬ ‫ون َم َع اللَّ ِه الها َ‬


‫ءاخ َر فَ َس ْو َ‬ ‫ين َي ْج َعلُ َ‬
‫َِّ‬
‫ءين(‪ )95‬الذ َ‬
‫ِفى ُأ ُذَن ْي ِه و ْقراً فََب ّشره بِع َذ ٍ ِ ٍ‬
‫اب َأليم(‪ } )7‬اْل ُم ْستَ ْه ِز َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َ‬
‫ون(‪)96‬‬ ‫َي ْع َملُ َ‬

‫إسالم حمزة‬

‫عيرته‬
‫الحمية عندما ّ‬
‫ّ‬ ‫عمه حمزةبن عبد المطلب‪ ،‬فقد أدركته‬
‫وكان بعض إيذائهم هذا سبباً إلسالم ّ‬
‫تسب‬
‫وسبه‪ ،‬وقال‪ :‬كيف ّ‬ ‫بعض الجواري بإيذاء أبي جهل البن أخيه‪ ،‬فتوجه إلى ذلك الشقي وغاضبه ّ‬
‫وأشدهم‬
‫ّ‬ ‫محمداً وأنا على دينه؟ ثَُّم أنار اهلل بصيرته بنور اليقين حتى صار من أحسن الناس إسالماً‪،‬‬
‫أسد اهلل‪.‬‬
‫غيرة على المسلمين‪ ،‬وأقواهم شكيمة على أعداء الدين حتى سمي َ‬
‫وكما ُأوذي الرسول عليه الصالة والسالم‪ُ ،‬أوذي أصحابه التّباعهم له‪ ،‬خصوصاً من ليس له عشيرة‬
‫وترد كيد عدوه عنه‪ ،‬وكل هذا األذى كان حلواً في أعينهم ما دام فيه رضاء اهلل‪ ،‬فلم يفتنوا‬
‫ّ‬ ‫تحميه‪،‬‬
‫أتم أمره على أيديهم‪ ،‬وصاروا ملوك األرض بعد أن كانوا مستضعفين‬ ‫عن دينهم بل ثبتهم اهلل حتى ّ‬
‫ض‬ ‫ض ِعفُوْا ِفى ا ْ‬
‫ال ْر ِ‬ ‫استُ ْ‬
‫ين ْ‬
‫َِّ‬
‫يد َأن َّن ُم َّن َعلَى الذ َ‬
‫فيها‪ ،‬كما قال ج ّل ذكره في سورة القصص‪َ :‬وُن ِر ُ‬
‫ِئ‬
‫ين(‪)5‬‬‫َوَن ْج َعلَهُ ْم َأ َّمةً َوَن ْج َعلَهُ ُم اْل َو ِارثِ َ‬

‫ألميةبن خلف الجمحي القرشي‪ ،‬فكان يجعل في‬


‫ومن الذين ُأوذوا في اهلل‪ :‬باللبن رباح كان مملوكاً ّ‬
‫َأح ٌد‪ .‬لم َي ْش َغْلهُ ما هو فيه عن توحيد اهلل‪.‬‬
‫َأح ٌد َ‬
‫عنقه حبالً ويدفعه إلى الصبيان يلعبون به‪ ،‬وهو يقول‪َ :‬‬
‫وكان أمية يخرج به في وقت الظهيرة في الرمضاء ـ ـ وهي الرمل الشديد الحرارة لو وضعت عليه‬
‫ت ـ ـ ثم يؤمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره‪ ،‬ثم يقول له‪ :‬ال تزال هكذا حتى‬
‫ضج ْ‬
‫قطعة لحم لََن َ‬
‫مر به أبو بكر يوماً فقال‪ :‬يا أمية أما‬
‫والعزى‪ ،‬فيقول‪:‬ـ أحد أحد‪َّ .‬‬
‫ّ‬ ‫تموت أو تكفر بمحمد وتعبد الالت‬
‫تتقي اهلل في هذا المسكين‪ ،‬حتى متى تعذبه؟ قال‪ :‬أنت أفسدته فأنق ْذه مما ترى‪ .‬فاشتراه منه وأعتقه‬
‫ال ْشقَى(‪ )15‬الَِّذى‬ ‫صاَل َهآ ِإالَّ ا ْ‬ ‫َّ‬
‫فأنزل اهلل فيه وفي أمية في سورة الليل‪ :‬فََأن َذ ْرتُ ُك ْم َناراً تَلَظى(‪ )14‬الَ َي ْ‬
‫التْقَى(ـ‪ )17‬الَِّذى يُْؤ تِى َمالَهُ َيتََز َّكى(‪َ )18‬و َما ِال َحٍد ِع َ‬
‫ندهُ ِمن ّن ْع َم ٍة‬ ‫ب َوتََولَّى(‪َ )16‬و َسُي َجَّنُبهَا ا ْ‬ ‫َّ‬
‫َكذ َ‬
‫ضى(‪( } )21‬الليل‪ 14 :‬ـ ـ ‪ )21‬بما يعطيه‬ ‫ف َي ْر َ‬ ‫ال ْعلَى(‪َ )20‬ولَ َس ْو َ‬ ‫تُ ْج َزى(‪ِ )19‬إالَّ ْابتِ َغآء َو ْج ِه َرّب ِه ا ْ‬
‫اهلل في األخرى جزاء أعماله‪ .‬وقد ّنبه اهلل ج ّل ذكره على أن بذل الصديق ماله في شراء بالل وعتقه‬
‫للصديق رضي اهلل عنه وأرضاه‪ ،‬وقد أعتق غير‬ ‫ّ‬ ‫لم يكن إال ابتغاء وجه ربه‪ ،‬وكفىـ بهذا شرفاً وفضالً‬
‫بالل جماعة من األرقاء أسلموا فعذبهم مواليهم‪.‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫امةُ ُأم بالل‪ ،‬وعامربن فُهَيرة كان يعذب حتى ال يدري ما يقول‪ ،‬وأبو فُ َكيهة‪ ،‬كان عبداً‬
‫ومنهم‪َ :‬ح َم َ‬
‫لصفوانبن أميةبن خلف‪.‬‬

‫ومنهم امرأة تسمى زنيرة ع ّذبت في اهلل حتى عميت فلم يزدها ذلك إال إيماناً‪ ،‬وكان أبو جهل يقول‪:‬‬
‫أال تعجبون لهؤالء وأتباعهم؟ لو كان ما أتى به محمد خيراً ما سبقونا إليه أفتسبقنا زنيرة إلى رشد؟‬
‫ونآ ِإلَْي ِه َوِإ ْذ لَ ْم‬
‫ان َخْيراً َّما َسَبقُ َ‬
‫ءامُنوْا لَ ْو َك َ‬
‫ين َ‬
‫َِِّ‬
‫ين َكفَ ُروْا للذ َ‬
‫فأنزل اهلل في سورة األحقاف‪ :‬وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬
‫يم(‪)11‬‬ ‫يهتَ ُدوْا بِ ِه فَسيقُولُون ها َذآ ِإ ْف ٌ ِ‬
‫ك قَد ٌ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬ ‫َْ‬
‫فمر بهم رسول اهلل‬ ‫وممن ُعذب في اهلل‪ :‬عماربن ياسر‪ ،‬وأخوه‪ ،‬وأبوه‪ ،‬وأمه‪ ،‬كانوا يعذبون بالنار ّ‬ ‫ّ‬
‫اللهم اغفر آلل ياسر وقد فعلت»‪ .‬أما‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فقال‪« :‬صبراً آل ياسر فموعدكم الجنة‪ّ ،‬‬
‫أبو عمار وأمه فماتا تحت العذاب رحمهما اهلل‪ ،‬وأما هو فثقل عليه العذاب فقال بلسانه كلمة الكفر‪،‬‬
‫فإن أبا جهل كان يجعل له دروعاً من الحديد في اليوم الصائف ويلبسه ّإياها‪ ،‬فقال المسلمون‪ :‬كفر‬
‫«عمار ملىء إيماناً من فرقه إلى قدمه» وأنزل اهلل في شأنه‬ ‫ٌ‬ ‫عمار‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫استثناء في حكم المرتد‪ ،‬فقال ج ّل ذكره في سورة النحل‪ :‬من َكفَر بِاللَّ ِه ِمن بع ِد ِ ِ َّ‬
‫إيمانه ِإال َم ْن ُأ ْك ِرهَ‬
‫َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ب من اللَّ ِه ولَهم ع َذ ٌ ِ‬ ‫ِ‬ ‫و َقْلُبهُ م ْ ِئ ِ ِإل‬
‫يم(‪)106‬‬ ‫اب َعظ ٌ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫ض ٌ َّ‬ ‫ص ْد ًرا فَ َعلَْي ِه ْم َغ َ‬
‫ان َواَل كن َّمن َشَر َح بِاْل ُك ْف ِر َ‬
‫يم ِ‬
‫ط َم ٌّن با َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫األر ِّ‬
‫ت‪ُ ،‬سبي في الجاهلية فاشترته ُأم أنمار‪ ،‬وكان حداداً وكان النبي‬ ‫وممن أوذي في اهلل‪ :‬خبَّاببن َ‬
‫ّ‬
‫المحماة‬
‫ّ‬ ‫شرفه اهلل بها أسلم خباب‪ ،‬فكانت موالته تعذبه بالنار فتأتي بالحديدة‬
‫النبوة‪ ،‬فلما ّ‬
‫يألفه قبل ّ‬
‫فتجعلها على ظهره ليكفر فال يزيده ذلك إال إيماناً‪ .‬وجاء خباب مرة إلى رسول اهلل وهو متوسد ُب ْر َدة‬
‫محمراً وجهه فقال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫في ظل الكعبة‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل أال تدعو اهلل لنا؟ فقعد عليه الصالة والسالم‬
‫«إنه كان َم ْن قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب‪ ،‬ويوضع المنشار‬
‫فيشق‪ ،‬ما يصرفه ذلك عن دينه‪ ،‬وليظهرن اهلل تعالى هذا األمر حتى يسير‬
‫ّ‬ ‫على فرق رأس أحدهم‬
‫والذئب على غنمه»‪ .‬قال ذلك عليه الصالة‬
‫َ‬ ‫الراكب من صنعاء إلى حضرموت ال يخاف إال اهلل‪،‬‬
‫والسالم وهو في هذه الحال الشديدة التي ال يتصور فيها أعقل العقالء‪ ،‬وأنبل النبالء‪ ،‬قوة منتظرة أو‬
‫اللهم إال أن ذلك وحي يوحى إليه‪ ،‬ثم أنزل اهلل تعالى تثبيتاً للمؤمنين أول سورة‬ ‫سعادة مستقبلة‪ّ ،‬‬
‫ين ِمن قَْبِل ِه ْم‬ ‫َِّ‬
‫ون(‪َ )2‬ولَقَ ْد فَتََّنا الذ َ‬
‫ءامَّنا َو ُه ْم الَ ُي ْفتَُن َ‬
‫اس َأن ُيتَْر ُكوْا َأن َيقُولُوْا َ‬ ‫ب َّ‬
‫الن ُ‬
‫العنكبوت‪ :‬الم(‪ِ )1‬‬
‫َأحس َ‬
‫َ‬
‫َفلََي ْعلَ َم َّن اللَّهُ ‪( } 3:‬العنكبوت‪:‬ـ ‪ 1‬ـ ـ ‪.)3‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وممن ُأوذي في اهلل‪ :‬أبو بكر الصديق‪ ،‬ولما اشتد عليه األذى أجمع أمره على الهجرة من مكة إلى‬ ‫ّ‬
‫جهة الحبشة‪ ،‬فخرج حتى أتى بر َك ِ‬
‫الغماد فلقيه ابن ُّ‬
‫الد ُغَّنة (وهو سيد قبيلة عظيمة اسمها القَ َارةُ)‬ ‫ْ‬
‫فقال‪ :‬إلى أين يا أبا بكر؟ فقال‪ :‬أخرجني قومي فأريد أن أسيح في األرض وأعبد ربي‪ ،‬فقال ابن‬ ‫َ‬
‫الرحم وتحمل ال َك َّل‪ ،‬وتقري الضيف‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الدغنة‪ :‬مثْلُك يا أبا بكر ال يخرج‪ ،‬إنك تكسب المعدوم‪ ،‬وتَصل َ‬
‫وتُعين على نوائب الحق‪ ،‬فأنا لك جار‪ ،‬فارجع واعبد ربك ببلدك‪ ،‬فرجع وارتحل ابن الدغنة معه‪،‬‬
‫وطاف في أشراف قريش‪ ،‬فقال لهم‪ :‬أبو بكر ال ُي ْخ َر ُج مثله‪ .‬أتخرجون رجالً يكسب المعدوم‪ ،‬ويصل‬
‫ويعين على نوائب الحق؟ فلم تُ ِّ‬
‫كذب قريش بجوار ابن الدغنة‪،‬‬ ‫الرحم‪ ،‬ويحمل الكل‪ ،‬ويقري الضيف‪ُ ،‬‬
‫ِّ‬
‫فليصل فيها ما شاء‪ ،‬وليقرأ ما شاء وال يؤذينا بذلك وال‬ ‫وقالوا له‪ُ :‬م ْر أبا بكر فليعبد ربه في داره‪،‬‬
‫يستعلن‪ ،‬فِإ ّنا نخشى أن يفتِن نساءنا وأبناءنا‪ ،‬فقال ذلك ابن الدغنة ألبي بكر‪ ،‬فلبث بذلك يعبد ربه في‬
‫داره وال يستعلن بصالته وال يقرأ في غير داره‪ ،‬ثم بدا ألبي بكر فابتنى مسجداً بِفناء داره‪ ،‬وكان‬
‫يصلي فيه ويقرأ القرآن‪ ،‬فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه‪.‬‬
‫اء ال يملك عينيه إذا قرأ القرآن‪ ،‬فأفزع ذلك أشراف قريش‪ ،‬فأرسلوا إلى ابن الدغنة‬ ‫َّ‬
‫وكان رجالً بك ً‬
‫أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك‪ ،‬فابتنى‬
‫كنا قد َ‬
‫فقدم عليهم فقالوا‪ّ :‬إنا ّ‬
‫أحب أن‬
‫مسجداً بفناء داره فأعلن بالصالة والقراءة فيه‪ ،‬وِإ ّنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا‪ ،‬فإن ّ‬
‫يرد إليك ذمتك‪ ،‬فإنا قد‬
‫يقتصر على أن يعبد ربه بفناء داره فعل‪ ،‬وإ ن أبي إالّ أن يعلن ذلك فَ َسْله أن ّ‬
‫علمت الذي‬ ‫مقرين ألبي بكر االستعالن‪ .‬فأتى ابن الدغنة أبا بكر‪ ،‬فقال‪ :‬لقد‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫كرهنا أن ُن ْخف َر َك ولسنا ّ‬
‫إلي ذمتي‪ ،‬فإني ال ُأحب أن تسمع العرب‬ ‫عاقدت لك عليه‪ .‬فإما أن تقتصر على ذلك‪ ،‬وإ ما أن تُْرجع ّ‬ ‫ُ‬

‫أرد عليك جوارك وأرضى بجوار اهلل‪ .‬رواه‬ ‫ُأخِف ْر ُ‬


‫ت في رجل عقدت له‪ .‬فقال أبو بكر‪ :‬فإني ّ‬ ‫أني ْ‬
‫البخاري‪ .‬وكان ذلك سبباً إليصال أذى عظيم إلى أبي بكر رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫وبالجملة فلم يخل أحد من المسلمين من َِأذّي ٍة لحقته‪ ،‬ولكن كل ذلك ضاع ً‬
‫سدى تلقاء ثباتهم وعظيم‬
‫إيمانهم‪ ،‬فإنهم لم يسلموا لغرض دنيوي يرجون حصوله فيسهل إرجاعهم‪ ،‬ولكن وفقهم اهلل إلدراك‬
‫حقيقة اإليمان فرأوا كل شيء دونه سهالً‪.‬‬
‫ولما رأى كفار قريش أن ذلك األذى لم ُي ْج ِدهم نفعاً‪ ،‬بل كلما زادوا المسلمين أ ًذى ازداد يقينهم‪،‬‬
‫اجتمعوا للشورى فيما بينهم‪ ،‬فقال لهم عتبةبن ربيعة العبشمي من بني عبد شمسبن عبد مناف ـ ـ وكان‬
‫وأعرض عليه أموراً علَّه يقبل بعضها‬
‫ُ‬ ‫سيداً مطاعاً في قومه ـ ــ‪ :‬يا معشر قريش أال أقوم لمحمد فُأكلِّمه‬
‫فقم إليه فكلمه‪ .‬فذهب إلى رسول اهلل وهو يصلي في‬ ‫عنا؟ فقالوا‪ :‬يا أبا الوليد ْ‬ ‫َّ‬
‫ويكف ّ‬ ‫فنعطيه إياها‬
‫علمت من خيارنا حسباً ونسباً‪ ،‬وإ نك قد أتيت قومك بأمر‬
‫َ‬ ‫منا حيث قد‬ ‫المسجد‪ ،‬وقال‪ :‬يابن أخي إنك ّ‬
‫بت آلهتهم ودينهم‪ ،‬وكفَّرت من مضى من آبائهم‬
‫وع َ‬ ‫ت به جماعتهم‪ ،‬وسفَّ َ‬
‫هت أحالمهم‪ِ ،‬‬ ‫فر ْق َ‬
‫عظيم‪َّ ،‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬قل‬
‫يا أبا الوليد أسمع»‪.‬‬

‫جئت به من هذا األمر ماالً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون‬


‫تريد بما َ‬
‫كنت ُ‬‫فقال‪ :‬يا ابن أخي إن َ‬
‫ملكناك‬
‫َ‬ ‫كنت تُريد ُملكاً‬
‫نقطع أمراً دونك‪ ،‬وإ ن َ‬
‫َ‬ ‫سودناك علينا حتى ال‬
‫كنت تُريد شرفاً ّ‬
‫أكثرنا ماالً‪ ،‬وإ ن َ‬
‫رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه‬ ‫علينا‪ ،‬وإ ن كان هذا الذي يأتيك َرّئياً من الجن ال تستطيع ّ‬
‫أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫فرغت يا أبا الوليد؟» قال‪ :‬نعم‪« ،‬قال‪ :‬فاسمع مني» فقرأ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أول‬
‫َ‬ ‫«فقد‬
‫فصلت‪:‬‬
‫سورة ِّ‬

‫ءاياتُهُ قُْرءاناً َع َربِّياً‬‫ت َ‬ ‫صلَ ْ‬ ‫اب فُ ّ‬ ‫الر ِح ِيم(‪ِ )2‬كتَ ٌ‬


‫ان َّ‬ ‫الر ْح َم ِ‬‫نزي ٌل ّم َن َّ‬‫بسم اهلل الرحمان الرحيم} حم(‪ )1‬تَ ِ‬

‫َأكَّن ٍة ِم َّما تَ ْد ُع َ‬
‫ونا‬ ‫َأعرض َأ ْكثَرهم فَهم الَ يسمعون(‪ )4‬وقَالُوْا ُقلُوبَنا ِفى ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ون(‪َ )3‬بشيراً َوَنذيراً فَ ْ َ َ ُ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لّقَ ْوٍم َي ْعلَ ُم َ‬
‫وحى ِإلَ َّى‬ ‫ِ‬ ‫ِإلَْي ِه َو ِفى ءاذانَِنا َو ْقٌر َو ِمن َب ْينَِنا َوَب ْينِ َك ِح َج ٌ‬
‫ون(‪ُ )5‬ق ْل ِإَّن َمآ ََأن ْا َب َشٌر ّم ْثلُ ُك ْم ُي َ‬‫اع َم ْل ِإَّنَنا َعاملُ َ‬
‫اب فَ ْ‬
‫ال ِخ َر ِة‬ ‫ون الزكاةَ َو ُه ْم بِا ْ‬ ‫ين الَ يُْؤ تُ َ‬
‫َِّ‬
‫ين(‪ )6‬الذ َ‬
‫ِ‬ ‫واح ٌد فَاستَِقيموْا ِإلَْي ِه و ِ‬
‫استَ ْغف ُروهُ َو َوْي ٌل لّْل ُم ْش ِرك َ‬
‫َ ْ‬ ‫ْ ُ‬
‫ََّأنمآ اله ُكم اله ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ون بِالَِّذى‬ ‫ون(‪ُ )8‬ق ْل َّ‬
‫َأءن ُك ْم لَتَ ْكفُُر َ‬ ‫َأجٌر َغ ْي ُر َم ْمُن ٍ‬ ‫ات لَهُ ْم ْ‬ ‫َّالح ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ءامُنوْا َو َعملُوْا الص َ‬ ‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫ون(‪ِ )7‬إ َّن الذ َ‬
‫ِ‬
‫ُه ْم َكاف ُر َ‬
‫اس َى ِمن فَ ْو ِقهَا‬ ‫ب اْلعالَ ِمين(‪ )9‬وجع َل ِفيها رو ِ‬
‫َ ََ‬ ‫َ ََ‬ ‫َأنداداً َذل َك َر ُّ َ َ‬
‫الرض ِفى يوم ْي ِن وتَ ْجعلُون لَه َ ِ‬
‫َْ َ َ َ َ ُ‬ ‫ق ا ْْ َ‬ ‫َخلَ َ‬
‫َّمآء َو ِه َى ُد َخ ٌ‬ ‫ِإ‬ ‫ِئِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ان‬ ‫استََوى لَى الس َ‬ ‫ين(‪ )10‬ثَُّم ْ‬ ‫َوَب َار َك فيهَا َوقَ َّد َر فيهَآ َأ ْقواتَهَا فى َْأرَب َعة َأيَّام َس َوآء لّلسَّآ ل َ‬
‫اوات ِفى َي ْو َم ْي ِن‬
‫طآِئ ِعين(‪ )11‬فَقَضاه َّن س ْبع سم ٍ‬
‫َ ُ َ َ ََ‬ ‫ط ْوعاً َْأو َك ْرهاً قَالَتَآ َأتَْيَنا َ َ‬ ‫ض اْئ تَِيا َ‬ ‫ال لَهَا َوِل ْ‬
‫ال ْر ِ‬ ‫فَقَ َ‬
‫يز اْل َعِل ِيم(‪ )12‬فَِإ ْن‬ ‫يح َو ِح ْفظاً َذِل َك تَ ْق ِد ُير اْل َع ِز ِ‬
‫صابِ َ‬ ‫الد ْنَيا بِ َم َ‬
‫َّمآء ُّ‬
‫َأم َر َها َو َزيََّّنا الس َ‬
‫ِ‬
‫َو َْأو َحى فى ُك ّل َس َمآء ْ‬
‫الر ُس ُل ِمن َب ْي ِن َْأي ِدي ِه ْم َو ِم ْن‬ ‫ود(‪ِ )13‬إ ْذ َجآءتْهُ ُم ُّ‬ ‫اعقَ ِة َع ٍاد َوثَ ُم َ‬
‫اعقَةً م ْث َل ص ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫َأعرضوْا فَ ُق ْل َأن َذرتُ ُكم ص ِ‬
‫ْ ْ َ‬ ‫َْ ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِئ‬ ‫َّ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ون(‪)14‬‬ ‫َخْلف ِه ْم َأال تَ ْعُب ُدوْا ِإال اللهَ قَالُوْا لَ ْو َشآء َربَُّنا الَ َنز َل َماَل َكةً فَِإ َّنا بِ َمآ ُْأرسْلتُ ْم بِه َكاف ُر َ‬

‫فأمسك عتبة بفيه‪ ،‬وناشده الرحم أن َي ُك َّ‬


‫ف عن ذلك‪ ،‬فلما رجع عتبة سألوه فقال‪ :‬واهلل لقد سمعت قوالً‬
‫ما سمعت مثله قطُّ‪ ،‬واهلل ما هو بالشعر وال بالكهانة وال بالسحر‪ ،‬يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها‬
‫ِ‬ ‫لي‪ ،‬خلُّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه‪ ،‬فواهلل‬
‫ليكونن لكالمه الذي سمعت نبأ‪ ،‬فَِإ ْن تُص ْبهُ‬
‫َّ‬
‫عزكم‪ ،‬فقالوا‪ :‬لقد سحرك محمد‪ ،‬فقال‪ :‬هذا‬ ‫العرب فقد ُكفيتموهـ بغيركم‪ ،‬وإ ن يظهر على العرب فعزه ّ‬
‫رأيي‪.‬‬
‫ثم عرضوا عليه بعد ذلك أن يشاركهم في عبادتهم ويشاركوه في عبادته فأنزل اهلل تعالى في ذلك‪ُ :‬ق ْل‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫َأعُب ُد(‪َ )3‬وال ََأنآ َعابِ ٌد َّما َعَبدتُّ ْم(‪َ )4‬والَ‬ ‫ِ‬
‫ون(‪َ )2‬والَ َأنتُ ْم َعابِ ُد َ‬
‫ون َمآ ْ‬ ‫َأعُب ُد َما تَ ْعُب ُد َ‬ ‫ون(‪ )1‬الَ ْ‬ ‫يَأيُّهَا اْل َكاف ُر َ‬
‫َأن َُأب ّدلَهُ ِمن تِْلقَآء َن ْف ِسى ِإ ْن َأتَّبِعُ ِإالَّ َما‬ ‫ين(‪ُ )6‬ق ْل ما ي ُك ِ‬
‫ون لى ْ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َأعُب ُد(‪ )5‬لَ ُك ْم ِد ُين ُك ْم َوِلى ِد ِ‬
‫َ‬ ‫َأنتُ ْم َعابِ ُد َ‬
‫ون َمآ ْ‬
‫وحى ِإلَ َّى} (يونس‪.)15 :‬‬ ‫ُي َ‬

‫وقد حصل له مع كفار قريش نادرة تكون لمن استهان بالضعيف كمصباح يستضيء به‪ ،‬وهو أنه‬
‫بينما الرسول عليه الصالة والسالم مع ُكبراء قريش وأشرافهم يتألفهم ويعرض عليهم القرآن وما‬
‫ممن أسلموا قديماً ـ ـ والنبي مشتغل‬
‫جاء به من الدين إذ أقبل عليه عبد اهلل ابن أم مكتوم األعمى ـ ـ وهو ّ‬
‫بالقول‪ ،‬وقد لقي منهم مؤانسة حتى طمع في إسالمهم‪ ،‬فقال له عبد اهلل‪ :‬يا رسول اهلل علِّمني مما‬
‫فشق ذلك على الرسول‪ ،‬وكره قطعه لكالمه‪ ،‬وخاف عليه الصالة‬
‫علّمك اهلل وأكثر عليه القول‪ّ ،‬‬
‫والسالم أن يكون التفاته لذلك المسكين ينفر عنه قلب أولئك األشراف‪ ،‬فأعرض عنه فعاتبه اهلل على‬
‫يك لَ َعلَّهُ َي َّز َّكى(‪َْ )3‬أو‬ ‫ذلك بقوله َّأو َل سورة عبس‪َ :‬عَب َس َوتََولَّى(‪َ )1‬أن َجآءهُ ا ْ‬
‫ال ْع َمى(‪َ )2‬و َما ُي ْد ِر َ‬
‫ص َّدى(‪َ )6‬و َما َعلَْي َك َأالَّ َي َّز َّكى(‪َ )7‬و َّ‬
‫َأما َمن‬ ‫َأنت لَهُ تَ َ‬
‫استَ ْغَنى(‪ )5‬فَ َ‬ ‫َي َّذ َّك ُر فَتَنفَ َعهُ ال ّذ ْك َرى(‪َّ )4‬‬
‫َأما َم ِن ْ‬
‫َأنت َع ْنهُ تَلَهَّى(‪)10‬‬
‫آءك َي ْس َعى(‪َ )8‬و ُه َو َي ْخ َشى(‪ )9‬فَ َ‬
‫َج َ‬

‫ولما رأى المشركون أن هذه المطالب التي يعرضونها ال تُقبل منهم أرادوا أن يدخلوا في باب آخر‪،‬‬
‫ّ‬
‫وهو تعجيز الرسول بطلب اآليات‪ ،‬فاجتمعوا‪ ،‬وقالوا‪ :‬يا محمد إن كنت صادقاً ِ‬
‫فأرنا آيةً نطلبها منك‬
‫َّ‬
‫وانشق القمر فرقتين فقال رسول اهلل‪:‬‬ ‫تشق لنا القمر فرقتين‪ ،‬فأعطاه اهلل هذه المعجزة‪،‬‬
‫وهي أن ّ‬
‫األولين ُرويت عنه من طرق‬
‫«اشهدوا» وهذه القصة رواها عبد اللهبن مسعود وهو من السابقين ّ‬
‫كثيرة‪ ،‬ورواها عبد اللهبن عباس وغيره‪ ،‬ورواها عنهم جمع غزير حتى صار الحديث كالمتواتر وقد‬
‫ق اْلقَ َم ُر(‪َ )1‬وِإ ن َي َر ْوْا‬ ‫َّاعةُ وان َش َّ‬ ‫ِ‬
‫ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى في أول سورة القمر‪ :‬ا ْقتََرَبت الس َ َ‬
‫ون لَ َك‬ ‫وعا َْأو تَ ُك َ‬ ‫ض َي ْنُب ً‬ ‫ال ْر ِ‬‫ضوْا َوَيقُولُوْـا ِس ْحٌر ُّم ْستَ ِمٌّر(‪ )2‬لَن ُّنْؤ ِم َن لَ َك َحتَّى تَ ْف ُج َر لََنا ِم َن ا ْ‬‫ءايةً ُي ْع ِر ُ‬
‫َ‬
‫ت َعلَْيَنا ِك َسفًا َْأو‬ ‫َّمآء َك َما َز َع ْم َ‬
‫ط الس َ‬ ‫ال ْنهَ َار ِخاَل لَهَا تَ ْف ِج ًيرا(‪َْ )91‬أو تُ ْسِق َ‬ ‫َجَّنةٌ من َّن ِخ ٍ‬
‫يل َو ِعَن ٍب فَتُفَ ّج َر ا ْ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫َّمآء َولَن ُّنْؤ ِم َن ل ُر ِقّي َك‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِئ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ت ّمن ُز ْخ ُرف َْأو تَْرقَى فى الس َ‬ ‫تَْأت َى بِالله َواْل َملَ َكة قَبِيالً(‪َْ )92‬أو َي ُك َ‬
‫ون لَ َك َب ْي ٌ‬
‫ِ‬
‫ان َرّبى َه ْل‬ ‫َحتَّى تَُن ّز َل َعلَْيَنا كتَ ًابا َّن ْق َرءهُ} (اإلسراء‪ 90 :‬ـ ـ ‪ )93‬ولم يجبهم اهلل إال بقوله‪ُ { :‬ق ْل ُس ْب َح َ‬
‫نت َإالَّ َب َش ًرا َّر ُسوالً} (اإلسراء‪ )93 :‬ألن اهلل علم ما تُ ِكُّنه جوانحهم من التعصب والعناد‪ ،‬فال‬ ‫ُك ُ‬
‫{و َما ُي ْش ِع ُر ُك ْم ََّأنهَآ ِإ َذا َج ْ‬
‫آءت الَ‬ ‫يؤمنون مهما جاءهم من البينات كما قال ج ّل ذكره في سورة األنعام‪َ :‬‬
‫َّ‬
‫ممن قالوا كما في سورة األنفال‪ :‬اللهُ َّم ِإن َك َ‬
‫ان َها َذا ُه َو‬ ‫يُْؤ ِمُن َ‬
‫ون} (األنعام‪ )109 :‬وكيف يرجى الخير ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫اب َِأل ٍيم} (األنفال‪ )32 :‬ولم يقولوا إن كان‬


‫ق ِم ْن ِع ِند َك فََأم ِط ْر َعلَْيَنا ِح َجارةً م َن السَّمآء َِأو اْئ تَِنا بِ َع َذ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ ّ‬ ‫ْ‬ ‫اْل َح َّ‬
‫هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه‪ ،‬وهذه ّسنة‬

‫من ُسنن األنبياء إذا رأوا من طالب اآليات عناداً‪ ،‬وأنهم يطلبونها تعجيزاً ال يسألون اهلل إنفاذ هذه‬
‫اآليات كيال يح ّل بقومهم الهالك كما حصل لعاد وثمود وغيرهم‪ .‬وهذا هو المراد من قوله تعالى في‬
‫ب بِهَا ا ْ‬ ‫َّ‬ ‫سورة اإلسراء‪{ :‬وما منعنآ َأن ُّنر ِس َل بِا ْ ِ َّ‬
‫ون} (اإلسراء‪.)59 :‬‬ ‫ال َّولُ َ‬ ‫الَيات ِإال َأن َكذ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ َ ََ‬
‫وقف أمام هيرودس طلب منه آية فلم ُي ِج ْبهُ إلى طلبه‪ ،‬فلما رأى‬ ‫لما َ‬ ‫وقد حصل للمسيح عليه السالم أنه ّ‬
‫ورده إلى عدوه بيالطس بعد أن كان يأسف عليه ويتمنى لقاءه‪ ،‬وذلك مذكور في‬ ‫ذلك سخر منه ّ‬
‫اإلصحاح الثالث والعشرين من إنجيل لوقا‪.‬‬

‫هذا ولما رأى المشركون ضعفهم عن مقاومة المسلمين بالبرهان‪ ،‬تحولوا إلى سياسة القوة التي‬
‫اختارها قوم إبراهيم عندما عجزوا عنه حيث قالوا‪{ :‬حرقُوه وانصروْا ِ‬
‫ءالهَتَ ُك ْم} (األنبياء‪ )68 :‬كما‬ ‫َّ ُ َ ُُ‬
‫صدهم عن اتّباع الرسول عليه‬ ‫في سورة األنبياء أما هؤالء فازدادوا باألذى على كل َمن أسلم رجاء ّ‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬ولم يتركوا باباً إال ولجوه‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم ألصحابه‪« :‬تفرقوا في‬
‫األرض‪ ،‬فإن اهلل سيجمعكم»‪ ،‬فسألوه عن الوجه فأشار إلى الحبشة‪.‬‬

‫هجرة الحبشة األولى‬

‫تجهز ناس للخروج من ديارهم وأموالهم فراراً بدينهم كما أشار عليه الصالة والسالم‪ ،‬وهذه‬
‫فعند ذلك َ‬
‫وعدة أصحابها عشرة رجال وخمس نسوة‪ ،‬وهم‪ :‬عثمانبن عفان وزوجه‬
‫هي أول هجرة من مكة‪ّ ،‬‬
‫رقية بنت رسول اهلل‪ ،‬وأبو سلمة وزوجه ُأم سلمة‪ ،‬وأخوه ألمه أبو َسْبرةبن أبي ُر ْهم‪ ،‬وزوجه أم‬
‫ّ‬
‫كلثوم‪ ،‬وعامربن ربيعة وزوجه ليلى‪ ،‬وأبو حذيفةبن عتبةبن ربيعة وزوجه سهلة بنت ُسهَيل‪ ،‬وعبد‬
‫وجلّهم‬
‫العوام‪ُ ،‬‬
‫وسهَْيلبن البيضاء‪ ،‬والزبيربن ّ‬
‫الرحمانبن عوف‪ ،‬وعثمانبن مظعون‪ ،‬ومصعببن عمير‪ُ ،‬‬
‫من قريش‪ ،‬وكان عليهم ـ ـ فيما روى ابن هشام ـ ـ عثمانبن مظعون‪ ،‬فساروا على بركة اهلل‪ ،‬ولما انتهوا‬
‫إلى البحر‪ ،‬استأجروا سفينة أوصلتهم إلى مقصدهم‪ ،‬فأقاموا آمنين من أ ًذى يلحق بهم من المشركين‪،‬‬
‫ولم يبق مع النبي عليه الصالة والسالم إال القليل‪.‬‬

‫إسالم عمر‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وفي ذلك الوقت أسلم الشهم الهمام عمربن الخطاب العدوي القرشي بعد ما كان عليه من كراهية‬
‫المسلمين وشدة أذاهم‪ .‬قالت ليلى ـ ـ إحدى المهاجرات ألرض الحبشة مع زوجها ـ ــ‪ :‬كان عمربن‬
‫ركبت بعيري ُأريد أن أتوجه إلى أرض الحبشة إذا أنا‬
‫ُ‬ ‫الخطاب من أشد الناس علينا في إسالمنا‪ ،‬فلما‬
‫نذهب في أرض اهلل حيث ال نؤذى‪،‬‬‫ُ‬ ‫به‪ ،‬فقال لي‪ :‬إلى أين يا ُأم عبد اهلل؟ فقلت‪ :‬قد آذيتمونا في ديننا‪،‬‬
‫فقال‪ :‬صحبكم اهلل‪ ،‬فلما جاء زوجي عامر أخبرته بما رأيت من ِرقَّ ِة عمر‪ ،‬فقال‪ :‬ترجين أن ُي ْسلم؟‬
‫واهلل ال يسلم حتى يسلم حمار الخطاب وذلك لما كان يراه من قسوته وشدته على المسلمين‪ ،‬ولكن‬
‫حصلت له بركة دعوة المصطفى صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فإنه قال قبيل إسالمه‪« :‬اللهم ِ‬
‫أع ّز اإلسالم‬
‫بعمر»‪ .‬وكان إسالمه في دار األرقمبن أبي األرقم التي كان المسلمون يجتمعون فيها وقد حقق اهلل‬
‫أعزة‬
‫بإسالمه ما رجاه عليه الصالة والسالم‪ ،‬فقد قال عبد اللهبن مسعود من رواية البخاري‪ :‬ما زلنا ّ‬
‫الكفار كآبةٌ‬
‫َ‬ ‫منذ أسلم عمر‪ .‬فإنه طلب من رسول اهلل أن يعلن صالته في المسجد ففعل وقد أدرك‬
‫شديدة حينما رأوا عمر أسلم‪ ،‬وكانوا قد أرادوا قتله حتى اجتمع جمع حول داره ينتظرونه‪ ،‬فجاء‬
‫َّهمي وهو من بني سهم حلفاء بني عدي قوم عمر وعليه ُحلَّة ِحَب َرة‪ ،‬وقميص‬ ‫العاصبن وائل الس ْ‬
‫أسلمت‪ .‬قال‪ :‬ال سبيل‬
‫ُ‬ ‫إن‬
‫مكفوف بحرير‪ ،‬فقال لعمر‪ :‬ما بالُ َك؟ فقال‪ :‬زعم قومك أنهم سيقتلونني ْ‬
‫فأم َن عمر‪ ،‬وخرج العاص فوجد الناس قد سال بهم الوادي‪ ،‬فقال‪ :‬أين تريدون؟‬ ‫إليك فأنا لك جار‪ِ ،‬‬
‫قالوا‪ :‬نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ‪ .‬قال‪ :‬ال سبيل إليه‪ .‬فرجع الناس من حيث أتوا‪.‬‬

‫رجوع مهاجري الحبشة‬

‫وبعد ثالثة أشهر من خروج مهاجري الحبشة رجعوا إلى مكة حيث ال تتيسر لهم اإلقامة فيها ألنهم‬
‫وَأضف إلى ذلك أنهم أشراف قريش ومعهم نساؤهم‪ ،‬وهؤالء‬ ‫قليلو العدد ـ ـ وفي الكثرة بعض اُألنس ـ ـ ِ‬
‫ال يطيب لهم عيش في دار غربة بهذه الحالة‪.‬‬
‫وقد ُأولع بعض المؤرخين بحكاية يجعلونها سبباً في رجوع مهاجري الحبشة‪ ،‬وهي أنه بلغهم إسالم‬
‫قومهم حينما قرأ عليهم الرسول سورة النجم‪ ،‬وتكلم فيها كالماً حسناً عن آلهتهم حيث قال بعد‪:‬‬
‫ت َواْل ُع َّزى(‪َ )19‬و َمَنواةَ الثَّ ِالثَةَ ا ْ‬
‫ال ْخ َرى(‪)20‬‬ ‫ءيتُ ُم الاَّل َ‬
‫َأفََر ْ‬
‫وهذا مما ال تجوز روايته إال من قليلي اإلدراك الذين ينقلون كل ما وجدوه غير متثبتين من صحته‪،‬‬
‫وها نحن ُأوالء نسوق لك أدلة النقل والعقل على بطالن ما ذكر‪ ،‬أما الحديث فسنده ومتنه قلقان‪،‬‬
‫يخرجه أحد من أهل الصحة وال رواه ثقة بسند سليم»‪،‬‬
‫فالسند قال فيه القاضي عياض في الشفا‪« :‬لم ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وأما المتن فليس أصحاب رسول اهلل وال المشركون مجانين حتى يسمعوا مدحاً أثناء ذم ويجوز ذلك‬
‫َأنز َل اللَّهُ بِهَا ِمن‬ ‫ِ َّ‬
‫ءابآُؤ ُكم َّمآ َ‬
‫وهآ َأنتُ ْم َو َ‬ ‫عليهم‪ ،‬فبعد ذكر األصنام قال‪ِ :‬إ ْن ه َى ِإال ْ‬
‫َأس َمآء َس َّم ْيتُ ُم َ‬
‫ان} (النجم‪ .)23 :‬فالكالم غير ُم ْنتَظم‪ ،‬ولو كان ذلك قد حصل التَّخذه الكفار عليه حجة ّ‬
‫يحاجونه‬ ‫طٍ‬‫ُسْل َ‬
‫بها وقت الخصام‪ ،‬وهم من نعرفهم من العناد فيما ليس فيه أدنى حجة‪ ،‬فكيف بهذه؟ وليس ذلك القيل‬
‫سماهم اهلل سفهاء وأنزل فيهم في سورة‬ ‫أقل من تحويل القبلة إلى الكعبة‪ ،‬وهذا قالوا فيه ما قالوا حتى َّ‬
‫اس َما َواَّل ُه ْم َعن ِقْبلَتِ ِه ُم الَّتِى َك ُانوْا َعلَْيهَا} (البقرة‪ .)142 :‬ولكن لم‬ ‫{سَيقُو ُـل السُّفَهَآء ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬ ‫البقرة‪َ :‬‬
‫ممت آلهتنا بعد أن‬
‫ُيسمع عن أي واحد من رجاالتهم والمتصدرين للعناد منهم أن قال‪ :‬ما لك َذ َ‬
‫مدحتها؟ وكان ذلك أولى لهم من تجريد السيوف وبذل ُمهج الرجال‪.‬‬

‫على أن المؤرخين الذين ينقلون هذه العبارة ويجعلونها سبباً لرجوع مهاجري الحبشة يقولون أثناء‬
‫كالمهم‪ :‬إن الهجرة كانت في رجب‪ ،‬والرجوع كان في شوال‪ ،‬ونزول سورة النجم كان في رمضان‪،‬‬
‫والمتأمل أدنى تأمل يرى أن الشهر كان ال‬
‫ّ‬ ‫فالمدة بين نزول السورة ورجوع المهاجرين شهر واحد‪،‬‬
‫يكفي في ذاك الزمن للذهاب من مكة إلى الحبشة واإلياب منها ألنه لم يكن إذ ذاك مراكب بخارية‬
‫تسهّل السير في البحر‪ ،‬وال تلغراف يوصل خبر إسالم قريش لمن بالحبشة‪ ،‬فال غرابةَ بعد ذلك إن‬
‫قلنا إن هذه الخرافة من موضوعاتـ أهل األهواء الذين ابتلى اهلل بهم هذا الدين‪ ،‬ولكن الحمد هلل فقد َّ‬
‫من‬
‫ق َع ِن‬ ‫فتر كذاب ففي السورة نفسها‪{ :‬وما ي ِ‬
‫نط ُ‬ ‫علينا بحفظ كتابنا المجيد الذي يحكم بيننا وبين كل ُم ٍ‬
‫ََ َ‬
‫اْلهَ َوى(‪)3‬‬

‫والذي ورد في الصحيح في موضوعـ هذا السجود ما رواه عبد اللهبن مسعود‪ :‬أن النبي عليه الصالة‬
‫والسالم قرأ والنجم فسجد‪ ،‬وسجد َم ْن كان معه إال رجالً أخذ كفاً من حصى وضعه على جبهته وقال‪:‬‬
‫يكفيني هذا‪ ،‬فرأيته قُتِ َل بعد كافراً‪ .‬وليس في هذا الحديث أدنى داللة على أن الذين سجدوا معه هم‬
‫مشركون‪ ،‬بل الذي يفيده قوله‪ :‬فرأيته قُتِل بعد كافراً أنه كان مسلماً ثم رأيته ّ‬
‫ارتد‪ ،‬وهذا ما حصل من‬
‫بعض ضعاف القلوب الذين لم يتحملوا األذى فكفروا‪ ،‬منهم‪ :‬عليبن أميةبن خلف‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬ولما رجع مهاجرو الحبشة إلى مكة لم يتمكن من الدخول إليها إال َم ْن وجد له ُمجيراً‪ ،‬فدخل أبو‬
‫رد عليه‬
‫سلمة في جوار خاله أبي طالب‪ ،‬ودخل عثمانبن مظعون في جوار الوليدبن المغيرة‪ ،‬وقد ّ‬
‫جواره حينما رأى ما صنعه بالمسلمين‪ ،‬فلم َي َر أن يكون مرتاحاً وإ خوانه معذبون‪.‬‬

‫كتابة الصحيفة‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ولما ضاقت الحي ُل بكفار قريش‪ ،‬عرضوا على بني عبد مناف‪ ،‬الذين منهم الرسول عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬دية مضاعفة‪ ،‬ويسلمونه‪ ،‬فأبوا عليهم ذلك‪ ،‬ثم عرضوا على أبي طالب أن ُيعطوه سيداً من‬
‫شبانهم يتبناه‪ ،‬ويسلم إليهم ابن أخيه‪ ،‬فقال‪ :‬عجباً لكم تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟‬
‫دي عبد مناف وإ خراجهم من‬
‫فلما رأوا ذلك أجمعوا أمرهم على منابذة بني هاشم وبني المطلب َولَ ْ‬
‫مكة‪ ،‬والتضييق عليهم فال يبيعونهم شيئاً‪ ،‬وال يبتاعون منهم حتى يسلموا محمداً للقتل‪ ،‬وكتبوا بذلك‬
‫صحيفة وضعوها في جوف الكعبة‪ ،‬فانحاز بنو هاشم ـ ـ بسبب ذلك ـ ـ في ِش ْعب أبي طالب‪ ،‬ودخل‬
‫وانخذل عنهم‬
‫َ‬ ‫معهم بنو المطلب سواء في ذلك مسلمهم وكافرهم ما عدا أبا لهب فإنه كان مع قريش‪،‬‬
‫بنو َع َّم ْيهم عبد شمس ونوفل ابني عبد مناف‪ ،‬فجهد القوم حتى كانوا يأكلون ورق الشجر‪ ،‬وكان‬
‫أعداؤهم يمنعون التجار من مبايعتهم وفي مقدمة المانعين أبو لهب‪.‬‬

‫هجرة الحبشة الثانية‬


‫ب أمر جميع المسلمين أن يهاجروا للحبشة حتى يساعد بعضهم‬ ‫وبعد دخول الرسول وقو ِم ِه ِّ‬
‫الش ْع َ‬
‫بعضاً على االغتراب‪ ،‬فهاجر معظمهم وكانوا نحو ثالثة وثمانين رجالً وثماني عشرة امرأة‪ ،‬وكان‬
‫من الرجال جعفربن أبي طالب وزوجه أسماء بنت ُع َم ْيس‪ ،‬والمقدادبن األسود‪ ،‬وعبد اللهبن مسعود‪،‬‬
‫وعبيد اللهبن جحش‪ ،‬وامرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان‪ ،‬وتوجه لهم الذين أسلموا من جهة اليمن وهم‬
‫رأت قريش ذلك أرسلت في أثرهم عمروبن العاص‬ ‫األشعريون‪ :‬أبو موسى وبنو عمه‪ .‬ولما ْ‬
‫وعمارةبن الوليد بهدايا إلى النجاشي ُلي َسلِّم المسلمين‪ ،‬فرجعا َش َّر رجعة‪ ،‬ولم يناال من النجاشي إال‬
‫ُ‬
‫إهانة لما خاطبوه به من إخفار ذمته في قوم الذوا به‪ ،‬أما بنو هاشم فمكثوا في الشعب قريباً من ثالث‬
‫سنوات في شدة الجهد والبالء ال يصلهم شيء من الطعام إال خفية‪.‬‬

‫نقض الصحيفة‬

‫وقد قام خمسة من أشراف قريش يطالبون بنقض هذه الصحيفة الظالمة‪ ،‬وهم‪ :‬هشامبن عمروبن‬
‫بالء‪ ،‬وزهيربن أبي أمية المخزومي ابن عمة‬ ‫ربيعةبن الحارث العامري‪ ،‬وهو أعظمهم في ذلك ً‬
‫وزم َعةبن األسود األسدي‪،‬‬ ‫الرسول عاتكة‪ ،‬والم ْ ِ‬
‫ريبن هشام األسدي‪ْ ،‬‬ ‫الب ْختَ ّ‬
‫عدي النوفلي‪ ،‬وأبو َ‬
‫طعمبن ّ‬ ‫ُ‬
‫واتفقوا على ذلك ليالً‪ ،‬فلما أصبحوا غدا زهير وعليه حلّة‪ ،‬فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬
‫ونْلَب ُس الثياب وبنو هاشم والمطلب َهْلكى ال يبيعون وال يبتاعون؟ واهلل ال أقعد‬
‫أهل مكة أنأكل الطعام َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫كذبت‪ ،‬فقال َز ْمعة ألبي جهل‪ :‬أنت واهلل‬


‫َ‬ ‫حتى تُ َشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة‪ .‬فقال أبو جهل‪:‬‬
‫أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت‪ ،‬فقال أبو البختري‪ :‬صدق زمعة‪ ،‬وقال المطعمبن عدي‪:‬‬
‫وصدق على ما قيل هشامبن عمرو‪ ،‬فقام إليها المطعمبن عدي‬
‫ّ‬ ‫صدقتما‪ ،‬وكذب من قال غير ذلك‪.‬‬
‫يبق فيها إال ما فيه اسم اهلل‪ ،‬وقد أخبر النبي عليه الصالة والسالم‬
‫اَألرضة قد أكلتها فلم َ‬
‫فشقّها‪ ،‬وكانت َ‬
‫عمه أبا طالب بذلك قبل أن يفعل ما ذكر‪ ،‬فخرج القوم إلى مساكنهم بعد هذه الشدة‪.‬‬

‫وفود نجران‬

‫خبرهُ من مهاجري‬ ‫ِّ‬


‫وقد وفد على الرسول بعد الخروج من الشعب وفد من نصارى نجران بلغهم ُ‬
‫الحبشة‪ ،‬فسارعوا بالقدوم عليه حتى يروا صفاته مع ما ذكر منها في كتبهم‪ ،‬وكانوا عشرين رجالً أو‬
‫قريباً من ذلك‪ ،‬فقرأ عليهم القرآن فآمنوا كلهم‪ ،‬فقال لهم أبو جهل‪ :‬ما رأينا ركباً أحمق منكم‪ ،‬أرسلكم‬
‫قومكم تعلمون خبر هذا الرجل فصبأتم فقالوا‪ :‬سالم عليكم ال نجاهلكم‪ ،‬لكم ما أنتم عليه ولنا ما‬
‫ِ‬ ‫اخترناه‪ ،‬فأنزل اهلل في ذلك قوله في سورة القصص‪ :‬الَِّذين ءاتَْيَناهم اْل ِكتَ ِ ِ ِ‬
‫ون(‬‫اب من قَْبله ُهم بِه يُْؤ ِمُن َ‬ ‫َ‬ ‫ُُ‬ ‫َ‬
‫ِئ‬ ‫ِ ِِ ِِ‬ ‫‪ )52‬وِإ َذا ي ْتلَى علَْي ِهم قَالُوْا ءامَّنا بِ ِه ِإَّنه اْلح ُّ ِ‬
‫ون‬
‫ين(‪ُْ )53‬أولَ َك يُْؤ تُ َ‬ ‫ق من َّرّبَنآ َّإنا ُكَّنا من قَْبله ُم ْسلم َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ُ‬
‫ون(‪َ )54‬وِإ َذا َس ِم ُعوْا اللَّ ْغ َو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صَب ُروْا َوَي ْد َرُؤ َن بِاْل َح َسَنة السَّّيَئةَ َو ِم َّما َر َز ْقَن ُ‬
‫اه ْم ُينفقُ َ‬ ‫َأج َر ُهم َّم َّرتَْي ِن بِ َما َ‬
‫ْ‬
‫َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ان َها َذا‬ ‫ين(‪ )55‬اللهُ َّم ِإن َك َ‬ ‫َأع َمالُ ُك ْم َساَل ٌم َعلَْي ُك ْم الَ َن ْبتَغى اْل َجاهل َ‬
‫َأع َمالَُنا َولَ ُك ْم ْ‬
‫ضوْا َع ْنهُ َوقَالُوْا لََنآ ْ‬ ‫َأع َر ُ‬
‫ْ‬
‫اب َِأل ٍيم} (األنفال‪.)32 :‬‬ ‫ق ِم ْن ِع ِند َك فََأم ِط ْر َعلَْيَنا ِح َجارةً م َن السَّمآء َِأو اْئ تَِنا بِ َع َذ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُهو اْل َح َّ‬
‫َ‬

‫وفاة خديجة رضي اهلل عنها‬

‫وبعد خروجه عليه الصالة والسالم من الشعب بقليل وقبل الهجرة بثالث سنين توفيت خديجة بنت‬
‫خويلد زوجه رضي اهلل عنها‪ ،‬وكان عليه الصالة والسالم كثيراً ما يذكرها ويترحم عليها‪ ،‬وال‬
‫غرابة‪ ،‬فهي أول نفس زكية َّ‬
‫صدقت رسول اهلل فيما جاء به عن ربه‪ ،‬وقد جاء منها بأوالده كلهم ما‬
‫عدا إبراهيم‪ .‬فمنها زينب وهي أكبر بناته تزوجها في الجاهلية أبو العاصبن الربيع‪ ،‬وأعقب منها‬
‫رقية وُأم كلثوم تزوجهما عثمان؛ األولى‬
‫أمامة التي تزوجها عليبن أبي طالب بعد وفاة فاطمة‪ ،‬ومنها ّ‬
‫َأن ماتت أختها‪ ،‬ومنها فاطمة وهي‬
‫بمكة قبل الهجرة وهاجر بها إلى الحبشة‪ ،‬والثانية بالمدينة بعد ْ‬
‫أصغر بناته تزوجها عليبن أبي طالب‪ ،‬وقد جاءت خديجة بأوالد توفّوا صغاراً‪ ،‬ولم يعش بعد رسول‬
‫اهلل من أوالده إالّ فاطمة عاشت بعده قليالً‪ .‬ولما توفيت خديجة حزن عليها رسول اهلل حزناً شديداً لما‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫كانت عليه من الرقة لرسول اهلل‪ ،‬ومحاجزة الكفار عنه لما لها من الجاه في عشيرتها بني أسد‪ ،‬ومنها‬
‫القاسم وكان به يكنى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وعبد اهلل الملقب بالطيب والطاهر‪.‬‬

‫زواج سودة‬
‫وعقد عليه الصالة والسالم في الشهر الذي ماتت فيه خديجة على َس ْودة بنت َز ْم َعة العامرية القرشية‬
‫بعد أن توفي عنها زوجها وابن عمها السكرانبن عمرو‪ ،‬وقد كانت آمنت باهلل وبرسوله وخالفت‬
‫أقاربها وبني عمها‪ ،‬وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة في المرة الثانية خوف الفتنة‪ ،‬وعقب رجوعه‬
‫من هجرته توفي عنها‪ ،‬فلم يكن ثم أجمل مما صنعه الرسول بزوج رجل آمن به‪ ،‬ولو تركت لقومها‬
‫التزوج برجل‬
‫وكرم نسبها في قومها يمنعها من ّ‬
‫ُ‬ ‫مع ما هم عليه من الغلظة وكراهة اإلسالم لفتنوها‪،‬‬
‫أقل منها نسباً وشرفاً‪.‬‬

‫زواج عائشة رضي اهلل عنها‬

‫وبعد ذلك بشهر عقد على عائشة بنت صديقه أبي بكر وهي ال تتجاوز السابعة من عمرها‪ ،‬ولم‬
‫يتزوج عليه الصالة والسالم بكراً غيرها‪ ،‬ودخل عليها بالمدينة‪ ،‬أما َسودةُ فدخل عليها بمكة‪.‬‬
‫وبعد وفاة خديجة بنحو شهر‪ ،‬توفي عمه أبو طالب‪ ،‬الذي كان يمنعه من أذى أعدائه‪ ،‬ومع أنه كان ال‬
‫ُي َك ِّذب رسول اهلل فيما جاء به بل يعتقد صدقه لم ينطق بالشهادتين حتى آخر لحظة من حياته‪ ،‬وفيه‬
‫ِ‬ ‫ت َواَل ِك َّن اللَّهَ َي ْه ِدى َمن َي َشآء َو ُه َو ْ‬ ‫نزل في سورة القصص‪ِ{ :‬إَّن َك الَ تَ ْه ِدى َم ْن ْ‬
‫َأعلَ ُم بِاْل ُم ْهتَد َ‬
‫ين(‬ ‫َأحَب ْب َ‬
‫‪)56‬‬
‫وقد سمى رسول اهلل هذا العام الذي فقد فيه زوجه وعمه عام الحزن‪ .‬ولما مات أبو طالب نالت‬
‫قريش من رسول اهلل ما لم يمكنها نيله في حياة أبي طالب‪ ،‬واشتد األمر عليه حتى كانوا ينثرون‬
‫التراب على رأسه وهو سائر‪ ،‬ويضعون أوساخ الشاة عليه في صالته‪ ،‬وتعلقت به كفار قريش مرة‬
‫يتجاذبونه ويقولون له‪ :‬أنت الذي تريد أن تجعل اآللهة إلهاً واحداً؟ فما تقدم أحد من المسلمين حتى‬
‫ول َرّب َى اللَّهُ}‬
‫ون َر ُجالً َأن َيقُ َ‬
‫يخلصه منهم لما هم عليه من الضعف إال أبو بكر فإنه تقدم‪ ،‬وقال‪َ :‬أتَ ْقتُلُ َ‬
‫(غافر‪.)28 :‬‬

‫هجرة الطائف‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫فلما رأى عليه الصالة والسالم استهانة قريش به أراد أن يتوجه إلى ثقيف بالطائف يرجو منهم‬
‫يتمم أمر ربه‪ ،‬ألنهم أقرب الناس إلى مكة وله فيهم خؤولة‪ ،‬فإن أم‬
‫نصرته على قومه ومساعدته حتى ّ‬
‫هاشمبن عبد مناف عاتكة السلمية من بني ُسلَيمبن منصور وهم حلفاء ثقيف‪ ،‬فلما توجه إليهم ومعه‬
‫وحبيب أوالد عمروبن عمير‬ ‫ِ‬
‫مواله زيدبن حارثة قابل رؤساءهم وكانوا ثالثةً‪ :‬عبد يالْيل ومسعود َ‬
‫فردوا عليه رداً قبيحاً‪ ،‬ولم َير منهم خيراً‪ ،‬وحينذاك‬
‫الثقفي‪ ،‬فعرض عليهم نصرته حتى يؤدي دعوته‪ّ ،‬‬
‫فيشتد أذاهم ألنه استعان عليهم بأعدائهم‪ ،‬فلم تفعل‬
‫ّ‬ ‫طلب منهم أن ال ُيشيعوا ذلك عنه كيال تعلم قريش‬
‫ثقيف ما رجاه منهم عليه الصالة والسالم‪ ،‬بل أرسلوا سفهاءهم وغلمانهم يقفون في وجهه في الطريق‬
‫كرم‬
‫ويرمونه بالحجارة‪ ،‬حتى أدموا عقبه‪ ،‬وكان زيدبن حارثة يدرأ عنه إلى أن انتهى إلى شجرة ْ‬
‫لعتبة و َشيبة ابني ربيعة وهما من أعدائه وكانا في البستان‪ ،‬فكره‬
‫واستظ ّل بها‪ ،‬وكانت بجوار بستان ُ‬
‫َّ‬
‫وهواني على‬ ‫ضعف قَُّوتي و ِقلةَ حيلتي َ‬
‫َ‬ ‫إليك‬
‫«اللهم إني أشكو َ‬
‫ّ‬ ‫رسول اهلل مكانهما فدعا اهلل قائالً‪:‬‬
‫رب المستضعفين‪ ،‬وأنت ربي‪ ،‬إلى من تكلني‪ ،‬إلى بعيد يتجهَّمني‪ ،‬أم‬ ‫الناس‪ ،‬يا أرحم الراحمين أنت ُّ‬
‫علي فال أبالي» فلما رآه ابنا ربيعة َرقَّا له وأرسال إليه‬
‫عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب ّ‬ ‫إلى َ‬
‫ف من العنب مع مولى لهما نصراني اسمه َع َّداس‪ .‬فلما ابتدأ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يأكل‬ ‫ط ٍ‬
‫بِِق ْ‬
‫قال‪« :‬بسم اهلل الرحمان الرحيم» فقال َع َّداس‪ :‬هذا الكالم ما يقوله أهل هذه البالد‪ ،‬فقال له عليه‬
‫أي البالد أنت وما دينك؟» فقال‪ :‬نصراني من نِْيَنوى‪ ،‬فقال له عليه الصالة‬ ‫الصالة والسالم‪« :‬من ّ‬
‫ونسبن متَّى؟» قال‪ :‬وما علمك بيونس؟ فقرأ له من القرآن ما فيه‬ ‫والسالم‪« :‬من قرية الرجل الصالح ُي ُ‬
‫قصة يونس‪ ،‬فلما سمع ذلك عداس أسلم‪ ،‬وأتى جبريل برسالة من اهلل ج ّل ذكره‪ ،‬وقال‪ :‬إن اهلل أمرني‬
‫أن أطيعك في قومك لما صنعوه‬

‫سماك‬ ‫ِ‬
‫«اللهم اهد قومي فإنهم ال يعلمون» فقال جبريل‪ :‬صدق من ّ‬
‫ّ‬ ‫معك‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫الرؤوف الرحيم‪.‬‬
‫ممن ينتمون إلى موسى صلوات اهلل‬
‫ولما كان َبن ْخلَة وفد عليه نفر من الجن يستمعون القرآن وهم ّ‬
‫عليه‪ ،‬فلما سمعوه أنصتوا له ورجعوا إلى قومهم منذرين وأبلغوهم خبر رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫ِ‬
‫ض ُروهُ‬
‫ءان َفلَ َّما َح َ‬ ‫ون اْلقُْر َ‬ ‫ص َر ْفَنآ ِإلَْي َك َنفَراً ّم َن اْل ِج ّن َي ْستَم ُع َ‬
‫{وِإ ْذ َ‬‫وسلم وفيهم نزل في سورة األحقاف‪َ :‬‬
‫ُأنز َل ِمن َب ْع ِد‬
‫ين(‪ )29‬قَالُوْا ياقَ ْو َمَنآ ِإَّنا َس ِم ْعَنا ِكتَاباً ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫قَالُوْا َأنصتُوْا َفلَ َّما قُض َى َول ْوْا ِإلَى قَ ْو ِم ِهم ُّمنذ ِر َ‬
‫اع َى اللَّ ِه‬
‫َأجيبوْا َد ِ‬ ‫ِ‬
‫ق ُّم ْستَق ٍيم(‪ )30‬ياقَ ْو َمَنآ ِ ُ‬ ‫ط ِري ٍ‬
‫ق َوِإ لَى َ‬ ‫ص ّدقاً لّ َما َب ْي َن َي َد ْي ِه َي ْه ِدى ِإلَى اْل َح ّ‬
‫وسى ُم َ‬ ‫ُم َ‬
‫اع َى اللَّ ِه َفلَْي َس بِ ُم ْع ِج ٍز‬
‫ب َد ِ‬ ‫َّ‬
‫اب َِأل ٍيم(‪َ )31‬و َمن ال ُي ِج ْ‬ ‫ءامُنوْا بِ ِه َي ْغِف ْر لَ ُكم من ُذُنوبِ ُكم وُي ِج ْر ُكم م ْن َع َذ ٍ‬
‫ْ ّ‬ ‫َْ‬ ‫ْ ّ‬
‫و ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ضاَل ٍل ُّمبِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِئ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِفى ا ْ‬
‫استَ َم َع َنفٌَر ّم َن‬‫ين(‪ُ )32‬ق ْل ُأوح َى ِإلَ َّى ََّأنهُ ْ‬ ‫ض َولَْي َس لَهُ من ُدونِه َْأوِلَيآء ُْأولَ َك فى َ‬ ‫ال ْر َ‬
‫َأحداً(‪)2‬‬‫شر َك بَِرّبَنآ َ‬ ‫امَّنا بِ ِه َولَن ُّن ِ‬ ‫ءاناً عجباً(‪ )1‬يه ِدى ِإلَى ُّ ِ‬
‫الر ْشد فََئ َ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬
‫اْل ِج ّن فَقَالُوْا ِإَّنا َسم ْعَنا قُْر َ َ َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ط ِع ِمبن َع ِدي‬
‫بالم ْ‬
‫االحتماء ُ‬
‫ولما رجع عليه الصالة والسالم من الطائف هكذا لم يتمكن من دخوله مكة‪ ،‬لما علمه كفار قريش من‬
‫ط ِعمبن عديبن‬
‫الم ْ‬
‫يستنصر بأهليها عليهم‪ ،‬فأرسل عليه الصالة والسالم إلى ُ‬
‫ُ‬ ‫أنه توجه إلى الطائف‬
‫نوفلبن عبد مناف يخبره أنه سيدخل مكة في جواره فأجاب إلى ذلك‪ ،‬وتسلح هو وبنوه وتوجهوا مع‬
‫َأم ِج ٌير أنت أم تابع؟ فقال بل مجير‪ ،‬قالوا‪ :‬إذاً ال‬
‫رسول اهلل إلى المطاف‪ ،‬فقال له بعض المشركين‪ُ :‬‬
‫تُ ْخفَ ُر ِذ َّمتُ َك‪.‬‬

‫وفد َد ْوس‬

‫وقدم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو بمكة الطُّفَْيلبن عمرو َّ‬
‫الدوسي‪ ،‬من قبيلة دوس‪ ،‬عشيرة‬
‫أبي هريرة الصحابي الشهير‪ ،‬وكان الطفيل شريفاً في قومه شاعراً نبيالً‪ ،‬فلما قرأ عليه القرآن أسلم‪،‬‬
‫فقال له رسول اهلل‪« :‬اذهب إلى قومك فادعهم إلى اإلسالم» ودعا لهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فقال‪« :‬اللهم ِ‬
‫اهد َد ْوساً»‪ ،‬فتوجه إليهم الطفيل ودعاهم فآمن بدعوته كثير منهم‪ .‬وستأتي ِوفَ َ‬
‫ادتُهُ على‬ ‫ّ‬
‫الرسول مرة ثانية بقومه في المدينة‪.‬‬

‫اإلسراء والمعراج‬
‫وقبل الهجرة أكرمه اهلل باإلسراء والمعراج‪ ،‬أما اإلسراء فهو توجهه ليالً إلى بيت المقدس بِإ ْيلياء‬
‫السنة‪ :‬إن ذلك‬
‫ورجوعه من ليلته‪ ،‬وأما المعراج فهو صعوده إلى العالم العلوي‪ ،‬وقد قال جمهور أهل ّ‬
‫كان بجسمه الشريف‪ ،‬وكانت عائشة رضي اهلل عنها تمنع رؤية رسول اهلل ربه‪ ،‬وتقول‪:‬ـ من قال إن‬
‫محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على اهلل‪ ،‬واإلسراء مذكور في القرآن الكريم‪ ،‬قال تعالى في أول‬
‫َأس َرى بِ َع ْب ِد ِه لَْيالً ّم َن اْل َم ْس ِج ِد اْل َح َر ِام ِإلَى ( ) ‪( }1: ،‬اإلسراء‪.)1 :‬‬ ‫سورة اإلسراء‪ :‬س ْبح َِّ‬
‫ان الذى ْ‬
‫ُ َ َ‬

‫وأصح أحاديثه ما رواه الشيخان ونقله القاضي عياض في‬


‫ّ‬ ‫السنة‪،‬‬
‫وأما المعراج فقد ورد في صحيح ّ‬
‫بالبراق ـ ـ‬
‫شفائه عن أنسبن مالك رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أتيت ُ‬
‫بيت‬
‫أتيت َ‬
‫ط ْرفه ـ ـ قال‪ :‬فركبته حتى ُ‬
‫دابة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى َ‬
‫وهو ّ‬
‫المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها األنبياء‪ ،‬ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين‪ ،‬ثم خرجت‬
‫خمر‪ ،‬وإ ٍ‬
‫ناء من لبن‪ ،‬فاخترت اللبن‪ ،‬فقال جبريل‪ :‬اخترت الفطرة‪ .‬ثم ُع ِر َج‬ ‫فأتاني جبريل ٍ‬
‫بإناء من ٍ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫بنا إلى السماء‪ ،‬فاستفتح جبريل فقيل‪ :‬من أنت؟ قال جبريل‪ ،‬قيل‪ :‬ومن معك؟ قال‪ :‬محمد‪ ،‬قيل‪ :‬وقد‬
‫ُبعث إليه؟ قال‪ :‬قد بعث إليه‪ ،‬ففتح لنا فإذا بآدم‪ ،‬فرحب بي‪ ،‬ودعا لي بخير‪ .‬ثم عرج بنا إلى السماء‬
‫الثانية‪ ،‬فاستفتح جبريل‪ ،‬فقيل‪ :‬من أنت؟ قال‪ :‬جبريل‪ ،‬قيل‪ :‬ومن معك؟ قال‪ :‬محمد‪ ،‬قيل‪ :‬وقد بعث‬
‫ود َعوا لي بخير‪.‬‬
‫إليه؟ قال‪ :‬قد بعث إليه‪ ،‬ففتح لنا‪ ،‬فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى ابن مريم فرحبا َ‬
‫ثم ُع َرج بنا إلى السماء الثالثة فذكر مثل األول‪ ،‬ففتح لنا وإ ذا أنا بيوسف‪ ،‬وإ ذا هو قد ُأعطي شطر‬
‫الحسن‪ ،‬فرحب ودعا لي بخير‪ .‬ثم ُع ِر َج بنا إلى السماء الرابعة فذكر مثله‪ ،‬فإذا أنا بإدريس فرحب بي‬
‫ودعا لي بخير‪ .‬قال تعالى في سورة مريم‪َ :‬و َرفَ ْعَناهُ َم َكاناً َعِلّياً(‪)57‬‬
‫وفي صبيحة ليلة اإلسراء جاء جبريل وعلَّم رسول اهلل كيفية الصالة وأوقاتها‪ ،‬فيصلي ركعتين إذا‬
‫ظهر الفجر‪ ،‬وأربع ركعات إذا زالت الشمس ومثلها إذا ضوعف ظل الشيء‪ ،‬وثالثاً إذا غربت‪،‬‬
‫وأربعاً إذا غاب الشفق األحمر‪ .‬وكان عليه الصالة والسالم قبل مشروعية الصالة يصلي ركعتين‬
‫مساء كما كان يفعل إبراهيم عليه السالم‪.‬‬
‫ً‬ ‫صباحاً‪ ،‬ومثلهما‬

‫العرض على القبائل‬

‫ولما رأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه يجد من قريش َمَن َعهً من تأدية الرسالة وتَ َسلُّط الكبر‬
‫والعظمة على قلوبهم‪ ،‬أراد اهلل أن يظهر أمر الدين على أيدي غيرهم من العرب‪ ،‬فكان عليه الصالة‬
‫والسالم يخرج في المواسم العربية ـ ـ وهي أسواق كانت العرب تعقدها للتجارة والمفاخرة ـ ـ ويعرض‬
‫رداً قبيحاً‪.‬‬
‫رداً جميالً‪ ،‬وآخرون ّ‬ ‫نفسه على القبائل ليحموه حتى يؤدي رسالة ربه‪ ،‬فكان بعضهم ُّ‬
‫يرد ّ‬
‫إن هم آمنوا به أن‬
‫لمة الكذاب‪ ،‬وطلب منه بنو عامر ْ‬
‫رداً بنو حنيفة رهط ُم َسْي َ‬
‫وكان من أقبح القبائل ّ‬
‫يحجون‬
‫يجعل لهم أمر الرياسة من بعده‪ ،‬فقال لهم‪« :‬األمر هلل يضعه حيث يشاء»‪ .‬وكان من الذين ّ‬
‫البيت عرب يثرب وهي مدينة بين مكة والشام يقطنها قبيلتان‪ :‬إحداهما من ولد األوس‪ ،‬والثانية من‬
‫ولد الخزرج وهما أخوان وكان بين أوالدهما من العداوة ما يجعل الحرب ال تضع أوزارها بين‬
‫الفريقين‪ ،‬فكانوا دائماً في شقاق ونزاع‪ ،‬وكان يجاورهم في المدينة أقوام من اليهود وهم‪ :‬بنو قَ ُينقاع‪،‬‬
‫الن ِ‬
‫ضير وكان لهم الغلبة على يثرب أوالً‪ ،‬فحاربهم العرب حتى صاروا ذوي النفوذ‬ ‫وبنو قَُريظة وبنو َّ‬
‫فيها والقوة‪ ،‬وكان اليهود إذا خذلوا يستفتحون على أعدائهم باسم نبي ُيبعث قد قرب زمانه‪ .‬ولما‬
‫اختلفت كلمة العرب فيما بينهم و ُشقَّت عصا األلفة‪ ،‬حالفوا اليهود على أنفسهم‪ ،‬فحالف األوس بني‬
‫قريظة‪ ،‬وحالف الخزرج بني النضير وبني قينقاع‪ ،‬وآخر األيام بينهم يوم ُبعاث قتل فيه أكثر‬
‫رؤسائهم ولم يبق إال عبد اللهبن َُأب ّي ابن سلول من الخزرج‪ ،‬وأبو عامر الراهب من األوس‪ ،‬ولذلك‬
‫كانت عائشة تقول‪ :‬كان يوم ُبعاث يوماً َّ‬
‫قدمه اهلل لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقد خطر ببال‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫أنسبن رافع مع‬


‫الحيسر َ‬
‫إياسبن معاذ وأبا َ‬
‫رؤساء األوس أن يحالفوا قريشاً على الخزرج‪ ،‬فأرسلوا َ‬
‫جماعة يلتمسون ذلك الحلف في قريش‪ ،‬فلما جاؤوا مكة جاءهم رسول اهلل وقال‪« :‬هل لكم في خير‬
‫مما جئتم له؟ أن تؤمنوا باهلل وحده‪ ،‬وال تشركوا‬

‫به شيئاً‪ ،‬وقد أرسلني اهلل إلى الناس كافة» ثم تال عليهم القرآن‪ ،‬فقال إياسبن معاذ‪ :‬يا قوم هذا واهلل‬
‫خير مما جئنا له‪ ،‬فحصبه أبو الحيسر وقال له‪ :‬دعنا منك لقد جئنا لغير هذا‪ ،‬فسكت‪.‬‬

‫بدء إسالم األنصار‬


‫تع َرض رسول اهلل لنفر منهم يبلغون الستة‪ ،‬وكلهم من الخزرج وهم‪ :‬أسعدبن‬
‫ولما جاء الموسم ّ‬
‫طبةبن عامر من بني‬ ‫زرارة‪ ،‬وعوفبن الحارث من بني النجار‪ ،‬ورافعبن مالك من بني زريق‪ ،‬وقُ ْ‬
‫َسِلمة‪ ،‬وعقبةبن عامر من بني َح َرام‪ ،‬وجابربن عبد اهلل من بني عبيدبن عدي‪ ،‬ودعاهم إلى اإلسالم‬
‫وإ لى معاونته في تبليغ رسالة ربه‪ ،‬فقال بعضهم لبعض‪ :‬إنه للنبي الذي كانت تَ ِع ُدكم به يهود فال‬
‫وصدقوه‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم‪ ،‬فإن يجمعهم اهلل‬
‫ّ‬ ‫َي ْسبِقَُّن ُك ْم إليه‪ ،‬فآمنوا به‬
‫أعز منك‪ ،‬ووعدوه المقابلة في الموسم المقبل‪ ،‬وهذا هو َبدء اإلسالم لعرب يثرب‪.‬‬
‫عليك فال رجل ّ‬

‫العقبة األولى‬
‫فلما كان العام المقبل قدم اثنا عشر رجالً‪ ،‬منهم َع َشرة من الخزرج‪ ،‬واثنان من األوس‪ ،‬وهم‪ :‬أسعدبن‬
‫وعبادةبن الصامت‪ ،‬ويزيدبن‬
‫زرارة‪ ،‬وعوف ومعاذ ابنا الحارث‪ ،‬ورافعبن مالك‪ ،‬وذكوانبن قيس‪ُ ،‬‬
‫ثعلبة‪ ،‬والعباسبن عبادة‪ ،‬وعقبةبن عامر وقطبةبن عامر‪ ،‬وهؤالء من الخزرج‪ ،‬وأبو الهيثمبن‬
‫التَّيِّهان‪ُ ،‬‬
‫وع َويمبن ساعدة وهما من األوس‪ ،‬فاجتمعوا به عند العقبة‪ ،‬وأسلموا وبايعوا رسول اهلل على‬
‫بيعة النساء‪ ،‬وذلك قبل أن تفترض الحرب‪ ،‬على أال يشركوا باهلل شيئاً‪ ،‬وال يسرقوا وال يزنوا‪ ،‬وال‬
‫يقتلوا أوالدهم‪ ،‬وال يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم‪ ،‬وال يعصونه في معروف‪ ،‬فإن َوفَوا‬
‫فلهم الجنة‪ ،‬وإ ن َغشوا من ذلك شيئاً فأمرهم إلى اهلل عز وجل‪ ،‬إن شاء غفر وإ ن شاء عذب‪ ،‬وهذه‬
‫هي العقبة األولى‪.‬‬

‫فأرسل لهم عليه الصالة والسالم مصعببن عمير العبدري وعبد اهلل ابن ُأم مكتوم ـ ـ وهو ابن خالة‬
‫خديجة ـ ـ ُيقرآنهم القرآن‪ ،‬ويفقهانهم في الدين‪ ،‬ونزل مصعب على أحد المبايعين أبي ُأمامة أسعدبن‬
‫زرارة‪ ،‬وصار يدعو بقية األوس والخزرج لإلسالم‪ .‬وبينما هو في بستان مع أسعدبن زرارة إذ قال‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ُألس ْيدبن ُحضير ابن عم سعد‪ :‬أال تقوم إلى هذين الرجلين اللذين‬
‫سعدبن معاذ ـ ـ رئيس قبيلة األوس ـ ـ َ‬
‫أتيا ُي َسفِّهان ضعفاءنا لتزجرهما؟ فقام لهما أسيد بحربته‪ ،‬فلما رآه أسعد قال لمصعب‪ :‬هذا سيد قومه‪،‬‬
‫وقد جاءك فاصدق اهلل فيه‪ ،‬فلما وقف عليهما قال‪ :‬ما جاء بكما تُ َسفِّهان ضعفاءنا؟ اعتزال إن كان لكما‬
‫بأنفسكما حاجة‪ .‬فقال مصعب‪َ :‬أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمراً قبلته‪ ،‬وإ ن كرهته كففنا عنك ما‬
‫دين اإلسالم‪ ،‬وهداه اهلل له فتشهد ورجع إلى سعد‪ ،‬فسأله‬
‫تكره‪ ،‬فقرأ عليه مصعب القرآن فاستحسن َ‬
‫رأيت بالرجلين بأساً‪ ،‬فغضب سعد وقام لهما مغيظاً‪ ،‬ففعل معه مصعب‬
‫ُ‬ ‫عما فعل‪ ،‬فقال‪ :‬واهلل ما‬
‫ّ‬
‫كسابقه فهداه اهلل لإلسالم‪ ،‬ورجع لرجال بني عبد األشهل‪ ،‬وهم بطن من األوس‪ ،‬فقال لهم‪ :‬ما‬
‫علي حرام حتى تُسلموا‪ ،‬فلم يبق‬ ‫ُّ‬
‫تعدونني فيكم؟ قالوا‪ :‬سيدنا وابن سيدنا‪ .‬قال‪ :‬كالم رجالكم ونسائكم ّ‬
‫بيت من بيوت بني عبد األشهل إال أجابه‪ ،‬وقد انتشر اإلسالم في دور يثرب حتى لم يكن بينهم حديث‬
‫إال أمر اإلسالم‪.‬‬

‫العقبة الثانية‬

‫ولما كان وقت الحج في العام الذي يلي البيعة األولى‪ ،‬قدم مكة كثيرون منهم يريدون الحج‪ ،‬وبينهم‬
‫كثير من ُمشركيهم‪ ،‬ولما قابل وفدهم رسول اهلل‪ ،‬واعدوه المقابلة ليالً عند العقبة‪ ،‬فأمرهم أن ال ُينبِّهوا‬
‫في ذلك الوقت نائماً‪ ،‬وال ينتظروا غائباً‪ ،‬ألن كل هذه األعمال كانت خفية من قريش كيال يطّلعوا‬
‫فيسعوا في نقض ما أبرم‪ ،‬شأنهم مع رسول اهلل في أول أمره‪ .‬ولما فرغ األنصار من‬
‫على األمر‪َ ،‬‬
‫عمن معهم من المشركين‪ ،‬وكان ذلك بعد مضي ثلث الليل‬
‫حجهم توجهوا إلى موعدهم كاتمين أمرهم ّ‬
‫األول‪ ،‬فكانوا يتسللون الرجل والرجلين حتى تم عددهم ثالثة وسبعين رجالً‪ ،‬منهم اثنان وستون من‬
‫الخزرج‪ ،‬وأحد عشر من األوس‪ ،‬ومعهم امرأتان وهما‪ُ :‬ن َسيبة بنت كعب من بني النجار‪ ،‬وأسماء‬
‫بنت عمرو من بني َسلمة‪ ،‬ووافقهم رسول اهلل هناك وليس معه إال عمه العباسبن عبد المطلب وهو‬
‫عرفهم العباس بأن‬
‫ليكون متوثقاً له‪ ،‬فلما اجتمعوا َّ‬
‫َ‬ ‫على دين قومه‪ ،‬ولكن أراد أن يحضر أمر ابن أخيه‬
‫ممن أظهر له العداوة والبغضاء‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫ابن أخيه لم يزل في َمَنعة من قومه حيث لم يمكنوا منه أحداً ّ‬
‫وتحملوا من ذلك أعظم الشدة‪ ،‬ثم قال لهم‪ :‬إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه‬
‫ممن خالفه‪ ،‬فأنتم وما تحملتم من ذلك‪ ،‬وإ ال فدعوه بين عشيرته فإنه لبمكان عظيم‪ .‬فقال كبيرهم‬
‫ّ‬
‫البراءبن معرور‪ :‬واهلل لو كان لنا في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه‪ ،‬ولكنا نريد الوفاء‬
‫المتكلم عنهم َ‬
‫والصدق وبذل ُمهَجنا دون رسول اهلل‪ ،‬وعند ذلك قالوا لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬خذ لنفسك‬
‫ولربك ما أحببت‪ .‬فقال‪« :‬أشترط لربي أن تعبدوه وحده وال تشركوا به شيئاً‪ ،‬ولنفسي أن تمنعوني‬
‫قدمت عليكم»‪ .‬فقال له أبو الهيثمبن التَّي ِ‬
‫ِّهان‪ :‬يا رسول اهلل إن‬ ‫ُ‬ ‫مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم متى‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫بيننا وبين الرجال عهوداً وإ ّنا قاطعوها‪ ،‬فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اهلل أن ترجع إلى‬
‫قومك وتدعنا؟ فتبسم عليه الصالة والسالم‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫الدم َّ‬
‫الد َم والهَ ْد َم الهَ ْد َم»‪ ،‬أي‪ :‬إن طالبتم بدم طالبت به وإ ن أهدرتموه أهدرته‪ .‬وحينذاك ابتدأت‬ ‫َّ‬
‫«بل َ‬
‫المبايعة وهي العقبة الثانية‪ ،‬فبايعه الرجال على ما طلب‪ ،‬وأول من بايع أسعدبن زرارة‪ ،‬وقيل‬
‫البراءبن معرور‪ ،‬ثم تخير منهم اثني عشر نقيباً‪ ،‬لكل عشيرة منهم واحد‪ ،‬تسعة من الخزرج‪ ،‬وثالثة‬
‫من األوس‪ ،‬وهم‪ :‬أبو الهيثمبن التَّيِّهان‪ ،‬وأسعدبن زرارة‪ ،‬وأسيدبن حضير‪ ،‬والبراءبن معرور‪،‬‬
‫ورافعبن مالك‪ ،‬وسعدبن خيثمة‪ ،‬وسعدبن الربيع‪ ،‬وسعدبن عبادة‪ ،‬وعبد اللهبن رواحة‪ ،‬وعبداللهبن‬
‫عمرو‪ ،‬وعبادةبن الصامت‪ ،‬والمنذربن عمرو‪ ،‬ثم قال لهم‪« :‬أنتم كفالء على قومكم ككفالة الحواريِّين‬
‫خبر هذه البيعة مشركي قريش‪،‬‬‫لعيسى ابن مريم‪ ،‬وأنا كفيل على قومي» وألمر ما أراده اهلل َبلَ َغ ُ‬
‫ب األنصار‪ ،‬وقالوا‪ :‬يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم لصاحبنا تخرجونه من‬ ‫ِ‬
‫فجاؤوا ودخلوا ش ْع َ‬
‫أرضنا وتبايعونه على حربنا؟ فأنكروا ذلك‪ ،‬وصار بعض المشركين الذين لم يحضروا المبايعة‬
‫صل منهم شيء في ليلتهم وعبد اللهبن َُأب ّي كبير الخزرج يقول‪ :‬ما كان قومي‬
‫يحلفون لهم أنهم لم َي ْح ُ‬
‫علي بشيء من ذلك‪.‬‬
‫ليفتاتوا َّ‬

‫هجرة المسلمين إلى المدينة‬

‫ولما رجع األنصار إلى المدينة ظهر بينهم اإلسالم أكثر من المرة األولى‪ .‬أما رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وأصحابه فازداد عليهم أذى المشركين لما سمعوا أنه حالف قوماً عليهم‪ ،‬فأمر عليه‬
‫الصالة والسالم جميع المسلمين بالهجرة إلى المدينة‪ ،‬فصاروا يتسلَّلون خيفة قريش أن تمنعهم‪ .‬وأول‬
‫زوج أم سلمة ومعه زوجه‪ ،‬وكان قومها منعوها منه ولكنهم أطلقوها‬
‫من خرج أبو سلمة المخزومي ُ‬
‫حبه بلحمهم‬
‫بعد َفلحقت به‪ .‬وتتابع المهاجرون فراراً بدينهم ليتمكنوا من عبادة اهلل الذي امتزج ّ‬
‫ودمهم‪ ،‬حتى صاروا ال يعبؤون بمفارقة أوطانهم واالبتعاد عن آبائهم ما دام في ذلك رضا اهلل‬
‫ورسوله‪ .‬ولم يبق بمكة منهم إال أبو بكر وعلي وصهيب وزيدبن حارثة‪ ،‬وقليلون من المستضعفين‬
‫الذين لم ِّ‬
‫تمكنهم حالُهم من الهجرة‪ ،‬وقد أراد أبو بكر الهجرة فقال له عليه الصالة والسالم‪« :‬على‬
‫ِر ْسلك فإني أرجو أن يؤذن لي»‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال‪« :‬نعم»‪ .‬فحبس أبو‬
‫َّمر استعداداً لذلك‪.‬‬
‫بكر نفسه على رسول اهلل ليصحبه‪ ،‬وعلف راحلتين كانتا عنده ورق الس ُ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫دار الندوة‬

‫أما قريش فكانوا كأنهم أصيبوا بم ِّس الشيطان حينما طرق مسامعهم مبايعة األنصار له على َّ‬
‫الذود‬ ‫َ‬
‫قصيبن كالب التي كانت قريش‬
‫عنه حتى الموت‪ ،‬فاجتمع رؤساؤهم وقادتهم في دار الندوة وهي دار ّ‬
‫ال تقضي أمراً إال فيها يتشاورون ما يصنعون في أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حين خافوه‪،‬‬
‫فر ِفض هذا الرأي ألنهم قالوا‪ :‬إذا خرج‬
‫فقال قائل منهم‪ :‬نخرجه من أرضنا كي نستريح منه‪ُ ،‬‬
‫اجتمعت حوله الجموع لما يرونه من حالوة منطقه وعذوبة لفظه‪ .‬وقال آخر‪ُ :‬ن ْوثقه ونحبسه حتى‬
‫فر ِفض هذا الرأي كسابقه‪ ،‬ألنهم قالوا‪ :‬إن الخبر ال يلبث أن‬
‫يدركه ما أدرك الشعراء قبله من الموت‪ُ ،‬‬
‫يبلغ أنصاره‪ ،‬ونحن أدرى الناس بمن دخل في دينه حيث ُيفَ ِّ‬
‫ضلونه على اآلباء واألبناء‪ ،‬فإذا سمعوا‬
‫جر هذا من الحرب علينا ما نحن في ِغنى عنه‪ .‬وقال لهم طاغيتهم‪ :‬بل‬ ‫ذلك جاؤوا لتخليصه وربما ّ‬
‫نقتله‪ ،‬ولنمنع بني أبيه من األخذ بثأره‪ ،‬نأخذ من كل قبيلة شاباً جلداً يجتمعون أمام داره‪ ،‬فإذا خرج‬
‫ضربوه ضربة رجل واحد‪ ،‬فيفترق دمه في القبائل فال يقدر بنو عبد مناف على حرب قريش كلهم بل‬
‫َّ‬
‫ون َوَي ْم ُك ُر اللهُ‬
‫فأقروا هذا الرأي‪ .‬هذا مكرهم‪ ،‬ولكن إرادة اهلل فوق كل إرادة َوَي ْم ُك ُر َ‬
‫يرضون بالدية‪ّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫سرهم‪ ،‬وأمره باللحاق بدار‬ ‫َواللهُ َخ ْي ُر اْل َماك ِر َ‬
‫ين} (األنفال‪:‬ـ ‪ )30‬فأعلم نبيه بما دبره األعداء في ّ‬
‫هجرته‪ ،‬بدار فيها ينشر اإلسالم‪ ،‬ويكون فيها لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم العزة والمنعة‪ .‬وهذا‬
‫من الحكمة بمكان عظيم فإنه لو انتشر اإلسالم بمكة لقال المبغضون‪ :‬إن قريشاً أرادوا ُمْل َك العرب‪،‬‬
‫أن َّ‬
‫يدعي هذه الدعوى حتى تكون وسيلة لنيل مآربهم‪ ،‬ولكنهم‬ ‫فعمدوا إلى شخص منهم‪ ،‬وأوعزوا إليه ْ‬
‫َ‬
‫كانوا له أعداء َّ‬
‫ألداء‪ ،‬آذوه شديد األذى حتى اختار اهلل له مفارقة بالدهم والبعد عنهم‪.‬‬

‫هجرة المصطفى صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فتوجه من ساعته إلى صديقه أبي بكر‪ ،‬وأعلمه أن اهلل قد ِأذ َن له في الهجرة فسأله أبو بكر الصحبةَ‪،‬‬
‫وصنعت‬‫أحث الجهاز‪ُ ،‬‬
‫معدتين لذلك‪ ،‬فجهزهما ّ‬ ‫فقال‪ :‬نعم‪ ،‬ثم عرض عليه إحدى راحلتيه اللتين كانتا َّ‬
‫لهما ُس ْف َرة في ِج َراب‪ ،‬فقطعت أسماء بنت أبي بكر نِطاقها‪ ،‬وربطت به على فم الجراب‪ ،‬واستأجرا‬
‫الديلبن بكر‪ ،‬وكان هادياً ماهراً‪ ،‬وهو على دين كفار قريش ِ‬
‫فأمَناه ودفعا‬ ‫عبد اللهبن َُأريقط من بني ِّ‬
‫إليه راحلتيهما‪ ،‬وواعداه غار ثور بعد ثالث ٍ‬
‫ليال‪ .‬ثم فارق الرسول عليه الصالة والسالم أبا بكر‬
‫أقروا عليه‪،‬‬
‫وواعده المقابلة ليالً خارج مكة‪ ،‬وكانت هذه الليلة هي ليلة استعداد قريش لتنفيذ ما ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫علياً بالمبيت‬
‫فاجتمعوا حول باب الدار‪ ،‬ورسول اهلل داخله‪ ،‬فلما جاء ميعاد الخروج‪ ،‬أمر ابن عمه ّ‬
‫مكانه كيال يقع الشك في وجوده أثناء الليل‪ ،‬فإنهم كانوا يرددون النظر من شقوق الباب ليعلموا‬
‫{و َج َعْلَنا ِمن َب ْي ِن َْأيِدي ِه ْم َس ّداً و ِم ْن َخْلِف ِه ْم‬
‫علياً ببرده‪ ،‬وخرج على القوم وهو يقرأ‪َ :‬‬ ‫وجوده‪ ،‬ثم سجَّى َّ‬
‫ون(‪)9‬‬ ‫ِ‬
‫اه ْم فَهُ ْم الَ ُي ْبص ُر َ‬
‫أغ َش ْيَن ُ‬
‫َس ّداً فَ ْ‬

‫أما المشركون فلما علموا بفساد مكرهم وأنهم إنما باتوا يحرسون عليبن أبي طالب ال محمدبن عبد‬
‫اهلل‪ ،‬هاجت عواطفهم‪ ،‬فأرسلوا الطلب من كل جهة‪ ،‬وجعلوا الجوائز لمن يأتي بمحمد أو يدل عليه‪،‬‬
‫وقد وصلوا في طلبهم إلى ذلك الغار الذي فيه ِطْلَبتُهم بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه لنظرهما‪،‬‬
‫حتى أبكى ذلك أبا بكر‪ ،‬فقال له عليه الصالة والسالم‪ :‬الَ تَ ْح َز ْن ِإ َّن اللَّهَ َم َعَنا} (التوبة‪ )40 :‬فأعمى‬
‫اهلل أبصار المشركين حتى لم َي ِح ْن ألحد منهم التفاتة إلى ذلك الغار بل صار أعدى األعداء أميةبن‬
‫خلف يبعد لهم اختفاء المطلوبين في مثل هذا الغار‪ .‬فأقاما فيه ثالث ليال حتى ينقطع الطلب‪ .‬وكان‬
‫بس َحر‪ ،‬فيصبح مع قريش‬ ‫ِ‬ ‫يبيت عندهم عبد اللهبن أبي بكر وهو شاب ٌ ِ‬
‫ثقف ولَق ٌن فَُي ْدلج من عندهما َ‬ ‫ُ‬
‫بمكة كبائت بها‪ ،‬فال يسمع أمراً يكتادون به إال وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظالم‪ ،‬وكان‬
‫عامربن فُهَيرة يروح عليهما بقطعة من غنم يرعاها حين تذهب ساعة من العشاء‪ ،‬ويغدو بها عليهما‪،‬‬
‫فإذا خرج من عندهما عبد اهلل تَبع أثره عامر بالغنم كيال يظهر لقدميه أثر‪ .‬ولما انقطع الطلب خرجا‬
‫بعد أن جاءهما الدليل بالراحلتين صبح ثالث‪ ،‬وسارا متبعين طريق الساحل‪.‬‬

‫الم ْدِلجي‪ ،‬وكان قد رأى ُر ُس َل مشركي قريش يجعلون في‬


‫وفي الطريق لحقهم طالباً‪ُ ،‬سراقةبن مالك ُ‬
‫رسول اهلل وأبي بكر دية كل واحد منهما مئة ناقة لمن قتله أو أسره‪ .‬فبينما هو في مجلس من مجالس‬
‫ودةً‬
‫َأس َ‬ ‫ِ‬
‫قومهبن ُمدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام عليهم وهم جلوس فقال‪ :‬يا ُسراقة إني رأيت آنفاً ْ‬
‫بالساحل أراها محمداً وأصحابه‪ ،‬فعرف سراقة أنهم هم‪ ،‬ولكنه أراد أن يثني عزم ُمخبره عن طلبهم‪،‬‬
‫ضالَّةً لهم‪ ،‬ثم لبث في المجلس ساعة‪ ،‬وقام‬‫فقال‪ :‬إنك رأيت فالناً وفالناً انطلقوا بأعيننا يبتغون َ‬
‫فخر عنها‪ ،‬ثم ركبها ثانياً‬
‫وركب فرسه‪ ،‬ثم سار‪ ،‬حتى دنا من الرسول ومن معه‪ ،‬فعثرت به فرسه ّ‬
‫وسار حتى صار يسمع قراءة المصطفى وهو ال يلتفت‪ ،‬وأبو بكر ُيكثِر االلتفات فساخت قائمتا فرس‬
‫فخر عنها‪ ،‬ثم زجرها حتى نهضت‪ ،‬فلم تكد تُخرج يديها حتى‬ ‫سراقة في األرض حتى بلغتا الركبتين ّ‬
‫فعل َم سراقة أن عمله ضائع ُس ًدى‪ ،‬وداخله رعب‬ ‫طع ألثرهما غبار ساطع في السماء مثل الدخان‪ِ ،‬‬ ‫َس َ‬
‫وم ْن معه حتى جاءهم‪ ،‬ويقولـ ُسراقة‪ :‬وقع في‬ ‫عظيم‪ ،‬فناداهما باألمان فوقف عليه الصالة والسالم َ‬
‫نفسي حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول اهلل‪ ،‬فقلت‪ :‬إن قومك قد جعلوا فيك الدية‪ ،‬وأخبرهما‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫عنا‪ ،‬فسأله‬ ‫بما يريد بهما الناس‪ ،‬وعرض عليهما الزاد والمتاع فلم يأخذا منه شيئاً بل قاال له‪ِ :‬‬
‫أخف ّ‬
‫كتاب ٍ‬
‫أمن‪ ،‬فأمر أبا بكر فكتب‪ .‬وبذلك انقضت هذه المشكلة التي أظهر اهلل فيها‬ ‫سراقة أن يكتب له َ‬
‫عنايته برسوله‪.‬‬

‫يردهم‬
‫الح َّرة حتى ّ‬
‫وكان أهل المدينة حينما سمعوا بخروج رسول اهلل وقدومه عليهم يخرجون إلى َ‬
‫حر الظهيرة‪ ،‬فانقلبوا يوماً بعد أن طال انتظارهم‪ ،‬فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على ُأطُم‬
‫ُّ‬
‫من آطامهم ألمر ينظر إليه‪ ،‬فبصر برسول اهلل وأصحابه يزول بهم السراب يظهرهم تارة ويخفيهم‬
‫أخرى‪ ،‬فقال اليهودي بأعلى صوته‪ :‬يا معشر العرب هذا َج ُّد ُكم ـ ـ أي حظكم ـ ـ الذي تنتظرون‪ ،‬فثاروا‬
‫إلى السالح فتلقَّوا رسول اهلل بظهر َ‬
‫الح َّرة‪.‬‬

‫النزول بقُباء‬
‫فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمروبن عوف بقباء‪ .‬والذي حققه المرحوم محمود باشا‬
‫الفلكي أن ذلك كان في اليوم الثاني من ربيع األول الذي يوافق ‪ 20‬سبتمبر سنة ‪ ،622‬وهذا أول‬
‫تاريخ جديد لظهور اإلسالم بعد أن مضى عليه ثالث عشرة سنة‪ ،‬وهو مضيق عليه من مشركي‬
‫قريش‪ ،‬ورسول اهلل ممنوع من الجهر بعبادة ربه‪ ،‬أما اآلن فقد آواه اهلل هو وصحابته رضوان اهلل‬
‫عليهم بعد أن كانوا قليالً يتخطفهم الناس‪.‬‬

‫هجرة األنبياء‬

‫تمت لرسولنا صلى اهلل عليه وسلم ُسَّنةُ إخوانه من األنبياء من قبله‪ ،‬فما من نبي منهم‬
‫وبهذه الهجرة ّ‬
‫ت به بالد نشأته‪ ،‬فهاجر عنها‪ ،‬من إبراهيم أبي األنبياء‪ ،‬وخليل اهلل‪ ،‬إلى عيسى كلمة اهلل‬
‫إال َنَب ْ‬
‫وروحه‪ ،‬كلهم على عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم أهينوا من عشائرهم‪ ،‬فصبروا ليكونوا مثاالً لمن‬
‫يأتي بعدهم من متّبعيهم في الثبات والصبر على المكاره ما دام ذلك في طاعة اهلل‪ .‬فَ َس ْل مصر‬
‫وتاريخها تُنبئك عن إسرائيل (يعقوب) وبنيه أنهم هاجروا إليها حينما رأوا من َبنِيها ترحيباً بهم‪،‬‬
‫وتركهم وما يعبدون إكراماً ليوسف وحكمته‪ .‬ولما مضت سنون‪ ،‬نسي فيها المصريون تدبير يوسف‬
‫وفضله عليهم‪ ،‬فاضطهدوا بني إسرائيل وآذوهم‪ ،‬خرج بهم موسى وهارون ليتمكنوا من إعطاء اهلل‬
‫حقه في عبادته‪ ،‬وهرب المسيح عليه السالم من اليهود حينما َّ‬
‫كذبوه‪ ،‬فأرادوا الفتك به حتى كان من‬
‫ضمن تعاليمه لتالميذه‪ :‬طوبى للمطرودين من أجل البر ألن لهم ملكوت السموات ثم قال بعد‪:‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وسل القرى التي‬


‫افرحوا وتهلّلوا ألن أجركم عظيم في السموات فإنهم طردوا األنبياء الذين قبلكم‪َ .‬‬
‫اجرة األنبياء منها قبل حلول‬
‫حلّت بها نقمة اهلل بكفر أهلها كديار لوط وعاد وثمود تنبئك عن ُمهَ َ‬
‫{سَّنةَ اللَّ ِه‬
‫النقمة‪ ،‬فال غرابة أن هاجر عليه الصالة والسالم من بالد منعه أهلها من تتميم ما أراده اهلل ُ‬
‫ين َخلَ ْوْا ِمن قَْب ُل َولَن تَ ِج َد ِل ُسَّن ِة اللَّ ِه تَْب ِديالً(‪)62‬‬ ‫ِ َِّ‬
‫فى الذ َ‬

‫أعمال مكة‬
‫ولنبين لك مجمل ما دعا إليه الرسول عليه الصالة والسالم بمكة من أصول الدين وذلك أمران‪:‬‬
‫هذا‪ّ ،‬‬

‫األول‪ :‬االعتقاد بوحدانية اهلل وأن ال ُيشرك معه في العبادة غيره‪ ،‬سواء كان ذلك الغير صنماً كما‬
‫شركو مكة‪ ،‬أو أباً أو زوجةً أو بنتاً كما عليه بعض الطوائف األخرى كالنصارى‪ ،‬ولوال‬ ‫يفعل ُم ِ‬
‫االعتقاد بوحدانية اهلل ما َكلَّف أحد نفسه تكاليف الحياة من آداب األخالق بل كان يسير فيما تأمره به‬
‫نفسه من شهواتها وملذاتها ما دام ذلك خافياً عن الناس‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬االعتقاد بالبعث والنشور وأن هناك يوماً ثانياً لإلنسان ُيجازى فيه على ما صنعه في الدنيا إن‬
‫المكية‪ ،‬فقلّما نرى سورة من سور‬
‫شراً فشر‪ ،‬وعلى هذين األمرين جاء غالب اآلي ّ‬
‫خيراً فخير وإ ن ّ‬
‫مكة إال مشحونة باالستدالل عليهما وتوبيخ من تركهما‪ ،‬وكل ذلك بأساليب تأخذ بالعقل‪ ،‬وبراهين ال‬
‫سدى‪ .‬ونزل على رسول اهلل‬
‫مما يضيع الوقت ً‬ ‫تحتاج لفلسفة الذين يشغلون أنفسهم بما ال طائل تحته ّ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم بمكة من القرآن معظمه‪ ،‬وهو ما عدا ثالثاً وعشرين سورة منه‪ ،‬وهي‪ :‬البقرة‪،‬‬
‫آل عمران‪ ،‬النساء‪ ،‬المائدة‪ ،‬األنفال‪،‬ـ التوبة‪ ،‬الحج‪ ،‬النور‪ ،‬األحزاب‪ ،‬القتال‪ ،‬الفتح‪ ،‬الحجرات‪،‬‬
‫الحديد‪ ،‬المجادلة‪ ،‬الحشر‪ ،‬الممتحنة‪ ،‬الصف‪ ،‬الجمعة‪ ،‬المنافقون‪ ،‬التغابن‪ ،‬الطالق‪ ،‬التحريم‪ ،‬النصر‪،‬‬
‫هذه كلها مدنية وباقي القرآن م ّكي‪.‬‬
‫ولما نزل عليه الصالة والسالم بقُباء‪ ،‬نزل على شيخ بني عمرو ُكلثومبن الهدم‪ ،‬وكان يجلس للناس‬
‫َألنه كان عزباً‪ .‬ونزل أبو بكر بالس ُّْنح (محلة بالمدينة) على‬
‫ويتحدث لهم في بيت سعدبن َخيثمة َ‬
‫خارجةبن زيد من بني حارث من الخزرج‪.‬‬

‫مسجد قُباء‬

‫أسس فيها مسجد قباء الذي وصفه اهلل بأنه مسجد ُأسس على التقوى من‬
‫وأقام رسول اهلل بقباء ليالي ّ‬
‫أول يوم‪ ،‬وصلَّى فيه عليه الصالة والسالم بمن معه من األنصار والمهاجرين‪ ،‬وهم آمنون مطمئنون‪،‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وكانت المساجد على عهد رسول اهلل في غاية من البساطة ليس فيها شيء مما اعتاده ُبناة المساجد في‬
‫همهم إال منصرفاً لتزيين القلوب‪ ،‬وتنظيفها من‬ ‫ُّ‬
‫القرون األخيرة‪ ،‬ألن الرسول وأصحابه لم يكن ُجل ّ‬
‫حر الشمس‪.‬‬‫حظ الشيطان‪ ،‬فكان سور المسجد ال يتجاوز القامة وفوقه مظلة ُيتَّقى بها ّ‬

‫الوصول إلى المدينة‬


‫حدث وال‬
‫تحول عليه الصالة والسالم إلى المدينة واألنصار محيطون به متقلدي سيوفهم‪ ،‬وهنا ّ‬
‫ثم َّ‬
‫يوم تحوله إليهم يوماً سعيداً لم ُيروا فرحين بشيء فرحهم برسول‬
‫َحَرج عن سرور أهل المدينة‪ ،‬فكان ُ‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وخرج النساء والصبيان والوالئد يقلن‪:‬‬
‫المطاع‬ ‫ِ‬ ‫طلع البدر علينامن ثَنِي ِ‬
‫باألمر ُ‬ ‫المبعوث فيناجئت‬
‫ُ‬ ‫َّات الوداعوجب الشكر عليناما دعا هلل داعأيُّها‬ ‫َُ‬
‫وكان الناس يسيرون وراء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما بين ٍ‬
‫ماش وراكب يتنازعون زمام‬
‫كل يريد أن يكون نزيله‪.‬‬ ‫ناقته‪ٌّ ،‬‬

‫أول جمعة‬

‫وأدركته عليه الصالة والسالم صالة الجمعة في بني سالمبن عوف‪ ،‬فنزل وصالّها وهذه أول جمعة‬
‫له عليه الصالة والسالم‪ ،‬وأول خطبة خطبها عليه الصالة والسالم حمد اهلل‪ ،‬وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫أحدكم‪ ،‬ثم َلي َد َع َّن َغنمه ليس لها ٍ‬
‫راع‪ ،‬ثم‬ ‫ص َعقَ َّن ُ‬ ‫«أما بعد‪ ،‬أيها الناس فقدموا ألنفسكم‪ ،‬تَ ْعلُ َّ‬
‫من واهلل ُلي ْ‬
‫ليقولَ َّن له ربه ـ ـ ليس له تَرجمان وال حاجب يحجبه دونه ـ ــ‪ :‬ألم يأتك رسولي فبلَّغك‪ ،‬وآتيتك ماالً‪،‬‬
‫نظرن قُ َّدامه فال يرى‬ ‫رن يميناً ِ‬
‫وشماالً فال يرى شيئاً‪ ،‬ثم َلي َّ‬ ‫ت لنفسك؟ َفلَينظُ َّ‬ ‫لت عليك؟ فما َّ‬
‫قد ْم َ‬ ‫وأفض ُ‬
‫َ‬
‫فإن‬ ‫ِ‬
‫غير جهنم‪ ،‬فمن استطاع أن َيق َي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل‪ ،‬ومن لم يجد فبكلمة طيبة؛ ّ‬
‫بها تُ ْج َزى الحسنةُ عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف‪ ،‬والسالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته»‪.‬‬

‫النزول على أبي أيوب‬


‫يتضرعُ إليه أهلها بأن ينزل عندهم‪ ،‬ويأخذون‬
‫ّ‬ ‫مروا على دار من دور األنصار‬
‫ثم ساروا وكلما ّ‬
‫بزمام الناقة‪ ،‬فيقول‪:‬ـ «دعوها فإنها مأمورة»‪ ،‬ولم تََزل سائرةً حتى أتت بِ َفناء بني عديبن النجار (وهم‬
‫أخواله الذين تزوج منهم هاشم جده) فبركت بمحلة من محالتهم أمام دار أبي أيوب األنصاري‪،‬‬
‫واسمه خالدبن زيد‪ ،‬وذلك َمحل مسجده الشريف‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬ههنا المنزل إن شاء‬
‫نزِل َ‬
‫ين} (المؤمنون‪ )29 :‬فاحتمل أبو أيوب َر ْحله‬ ‫َأنزْلنِى ُم َنزالً ُّمَب َاركاً َو َ‬
‫َأنت َخْي ُر اْل ُم ِ‬ ‫ب ِ‬ ‫اهلل» َّر ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ووضعه في منزله‪ ،‬وجاء أسعدبن زرارة فأخذ بزمام ناقته فكانت عنده‪ ،‬وخرجت والئد بني النجار‬
‫يقلن‪:‬‬

‫ٌِ‬
‫محمد م ْن َج ِار فخرج ّ‬
‫إليهن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪:‬‬ ‫حبذا‬ ‫النج ِ‬
‫َّاريا ّ‬ ‫وار من بني َّ‬
‫َن ْح ُن َج ٍ‬
‫«أتحببنني؟» فقلن‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪« :‬اهلل يعلم أن قلبي يحبكن» واختار عليه الصالة والسالم النزول في‬
‫يرض رضي اهلل عنه ذلك كرامة‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫الد ْو ِر األسفل من دار أبي أيوب ليكون أريح لزائريه‪ ،‬ولكن لم‬
‫حدثه وطء األقدام أو الماء الذي يهراق‪ ،‬فقد اتفق أن‬‫لرسول اهلل لما يمكن أن يصيبه من التراب الذي ي ِ‬
‫ُ‬
‫غيرها‪ ،‬يمسحان الماء‬‫جرة ماء بالليل‪ ،‬فقام هو وهي بقطيفتهما التي ليس لهما ُ‬
‫ُكسرت من زوجته ّ‬
‫ان كل‬ ‫خوفاً على رسول اهلل‪ ،‬ولذلك لم ي َز ْل أبو أيوب يستعطفه حتى كان في ِ‬
‫العْلو‪ ،‬وكانت تأتيه ِ‬
‫الجفَ ُ‬ ‫َ‬
‫سراة األنصار كسعدبن عبادة وأسعدبن زرارة وُأم زيدبن ثَابت‪ ،‬فما من ليلة إال وعلى بابه‬‫ليلة من َ‬
‫الثالث أو األربع من جفان الثريد‪.‬‬

‫نزول المهاجرين‬
‫ولما تحول مع رسول اهلل أغلب المهاجرين تنافس فيهم األنصار‪َّ ،‬‬
‫فحكموا القرعة بينهم‪ ،‬فما نزل‬
‫مهاجري على أنصاري إال بقُرعة‪.‬‬

‫ُأخ َّوةُ اإلسالم‬


‫ُ‬
‫ومن يتأمل إلى هذه المحبة التي يستحيل أن تكون بتأثير بشر‪ ،‬بل بفضل من اهلل ورحمته‪ ،‬يفهم كيف‬
‫والعدد‪.‬‬
‫العدد ُ‬
‫انتصر هؤالء األقوام على معانديهم من المشركين وأهل الكتاب مع قلّة َ‬

‫ين‬ ‫وكان األنصار يؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم‪ ،‬قال تعالى في سورة الحشر‪َِّ :‬‬
‫{والذ َ‬ ‫َ‬
‫الدار واإليمان ِمن قَْبِل ِهم ي ِحبُّون من هاجر ِإلَْي ِهم والَ ي ِج ُد ِ‬
‫ور ِه ْم َح َ‬
‫اجةً ّم َّمآ ُأوتُوْا‬ ‫ص ُد ِ‬ ‫ون فى ُ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫ْ ُ َ َ ْ َ ََ‬ ‫تََب َّوءوا َّ َ َ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِئ‬ ‫ِ‬
‫ون} (الحشر‪.)9 :‬‬ ‫وق ُش َّح َن ْفسه فَ ُْأولَ َك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ‬
‫اصةٌ َو َمن ُي َ‬
‫ص َ‬‫ان بِ ِه ْم َخ َ‬
‫ون َعلَى َأنفُس ِه ْم َولَ ْو َك َ‬
‫َويُْؤ ثِ ُر َ‬
‫وهذا أعلى درجات األخوة‪ ،‬وكل ذلك كانوا يرونه قليالً بالنسبة لما وجب عليهم إلخوانهم‪ ،‬فإن رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ُلي َم ِّك َن بينهم اإلخاء‪ ،‬آخى بين المهاجرين واألنصار‪ ،‬فكان كل أنصاري‬
‫يوضح للقارىء أن هذه األخوة كانت أرقى بكثير‬
‫ونزيلُه أخوين في اهلل‪ .‬ومن العبث أن نكلف القلم أن ّ‬
‫من األخوة العصبية‪ ،‬بل َن ِك ُل ذلك لإلحساس اإلسالمي فإنه أفصح منطقاً من القلم‪ .‬وعلى اإلجمال‬
‫فتلك قلوب َألَّ َ‬
‫ف اهلل بينها حتى صارت شيئاً واحداً في أجسام متفرقة‪ ،‬وعسى اهلل أن يوفّق مسلمي‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫عصرنا إلى هذا اإلخاء حتى يسودوا كما ساد المتحدون‪ ،‬وكان هذا اإلخاء على المواساة والحق‪ ،‬وأن‬
‫يتوارثوا بعد الموت دون ذوي األرحام‪ ،‬وكان عليه الصالة والسالم يقول لكل اثنين‪« :‬تآخيا في اهلل‬
‫ال ْر َح ِام‬
‫{و ُْأولُو ا ْ‬
‫أخوين أخوين» ودام هذا الميراث إلى أن أنزل اهلل سبحانه قوله في سورة األحزاب‪َ :‬‬ ‫َ‬
‫اب اللَّ ِه} (األحزاب‪.)6 :‬‬
‫ض ِفى ِكتَ ِ‬
‫ضهُ ْم َْأولَى بَِب ْع ٍ‬
‫َب ْع ُ‬
‫هجرة أهل البيت‬

‫ولما استقر عليه الصالة والسالم بالمدينة أرسل زيدبن حارثة وأبا رافع إلى مكة ليأتيا بمن تخلّف من‬
‫أهله‪ ،‬وأرسل معهما عبد اللهبن َُأريقط يدلهما على الطريق‪ ،‬فقَِدما بفاطمة وُأم كلثوم ابنتيه عليه‬
‫وسودة زوجه‪ ،‬وُأم أيمن زوج زيد وابنهما أسامة‪ ،‬وأما زينب فمنعها زوجها أبو‬ ‫الصالة والسالم‪َ ،‬‬
‫بُأم رومان‪ ،‬زوج أبيه‪ ،‬وعائشة أخته‪،‬‬
‫العاصبن الربيع‪ ،‬وخرج من الجميع عبد اللهبن أبي بكر ّ‬
‫العوام‪ ،‬وكانت حامالً بابنها عبد اهلل‪ ،‬وهو أول مولود للمهاجرين بالمدينة‪.‬‬
‫وأسماء زوج الزبيربن ّ‬

‫ُح َّمى المدينة‬


‫الح َّمى‪ ،‬وكان‬
‫ولم يكن هواء المدينة في البدء موافقاً للمهاجرين من أهل مكة‪ ،‬فأصاب كثيراً منهم ُ‬
‫حببت إلينا مكة وأشد‪،‬‬
‫َ‬ ‫«اللهم حبب إلينا المدينة كما‬
‫ّ‬ ‫يعودهم‪ ،‬فلما َشكوا إليه األمر قال‪:‬‬
‫رسول اهلل ُ‬
‫الج ْحفَة»‪ .‬فاستجاب اهلل َج َّل وعال دعوته‪ ،‬وعاش‬
‫وبارك لنا في ُم ِّدها وفي صاعها‪ ،‬وانقل وباءها إلى ُ‬
‫المهاجرون في المدينة بسالم‪.‬‬
‫منع المستضعفين من الهجرة‬
‫ومنع مشركو مكة بعضاً من المسلمين عن الهجرة‪ ،‬وحبسوهم وعذبوهم‪ ،‬منهم‪ :‬الوليدبن الوليد‪،‬‬
‫وعيَّاشبن أبي ربيعة‪ ،‬وهشامبن العاص‪ ،‬فكان عليه الصالة والسالم يدعو لهم في صالته‪ ،‬وهذا أصل‬
‫القنوت‪ ،‬وقد حصل في أوقات مختلفة َومحا ّل في الصالة مختلفة‪ ،‬فكان في وتر العشاء‪ ،‬وصالة‬
‫الصبح بعد الركوع وقبله‪ ،‬فروى كل صحابي ما رآه‪ ،‬وهذا سبب اختالف األئمة في مكان القنوت‪.‬‬
‫السَّنة األولى‬
‫بناء المسجد‬

‫ثم شرع عليه الصالة والسالم في بناء مسجده في َم ْبرك ناقته أمام محلّة بني مالكبن النجار‪ ،‬وكان‬
‫محله ِمربداً للتمر يملكه غالمان يتيمان في ِحجر أسعدبن زرارة‪ ،‬فدعا الغالمين‪ ،‬وساومهما ِ‬
‫بالمربد‬ ‫َْ‬
‫ليتخذه مسجداً‪ ،‬فقاال‪ :‬بل َنهَُبهُ لك يا رسول اهلل‪ ،‬فأبى عليه الصالة والسالم أن يقبله منهما هبة بل‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫بشت‪ ،‬وبالحفر فَ ُسويت‪،‬‬


‫فن ْ‬‫ابتاعه منهما‪ ،‬وكان فيه قبور للمشركين وبعض حفر ونخل‪ ،‬فأمر بالقبور ُ‬
‫وبالنخل فقُطع‪ ،‬ثم أمر باتخاذ اللبِن فاتخذ وشرعوا في البناء به‪ ،‬وجعلوا عضادتي الباب من‬
‫َّ‬
‫الحجارة‪ ،‬وسقفوه بالجريد‪ ،‬وجعلت عمده من جذوع النخل‪ ،‬وال يزيد ارتفاعه عن القامة إال قليالً‪ ،‬وقد‬
‫عمل فيه رسول اهلل بنفسه ِّ‬
‫ليرغب المسلمين في العمل‪ ،‬وصاروا يرتجزون وهو يقول معهم‪:‬‬
‫وجعلت قبلة المسجد في شماله إلى بيت‬ ‫هاجره ُ‬
‫ْ‬ ‫والم‬
‫األنصار ُ‬
‫َ‬ ‫خير اآلخرهفارحم‬
‫خير إال ُ‬
‫اللهم ال َ‬
‫وجعل له ثالثة أبواب‪ ،‬ثم حصبت أرضه ألن المطر كان قد أثَّر فيه‪ ،‬فأمر عليه الصالة‬
‫المقدس‪ُ ،‬‬
‫لسودة‬
‫وبني بجانبه حجرتان‪ ،‬إحداهما َ‬ ‫والسالم بحصبه‪ ،‬ولم يزين المسجد بِفُُر ٍ‬
‫ش حتى وال بالحصر‪ُ ،‬‬
‫بنت زمعة‪ ،‬واألخرى لعائشة‪ ،‬ولم يكن عليه الصالة والسالم متزوجاً غيرهما إذ ذاك‪ ،‬وكانت‬
‫الحجرتان متجاورتين ومالصقتين للمسجد على شكل بنائه‪ ،‬وصارت الحجرات تبنى كلما جاءت‬
‫زوج‪.‬‬

‫بدء األذان‬

‫العلي األعلى‪ ،‬فيتبعون أوامره‪،‬‬


‫ّ‬ ‫أوجب اهلل الصالة على المسلمين ليكونوا دائماً متذكرين عظمة‬
‫ويجتنبون نواهيه‪ ،‬ولذلك قال في ُمحكم كتابه في سورة العنكبوت‪ِ :‬إ َّن الصالةَ تَْنهَى َع ِن اْلفَ ْح َشآء‬
‫َواْل ُم ْن َك ِر} (العنكبوت‪ .)45 :‬وجعل أفضل الصالة ما كان جماعة ليذاكر المسلمون بعضهم بعضاً في‬
‫بد من عمل‬‫ويقووا روابط األلفة واالتحاد بينهم‪ ،‬ومتى حان وقت الصالة فال ّ‬
‫شؤونهم واحتياجاتهم‪ّ ،‬‬
‫عاماً‪ ،‬فائتمر النبي عليه الصالة والسالم مع‬
‫ينبه الغافل‪ ،‬ويذ ّكر الساهي حتى يكون االجتماع ّ‬
‫الصحابة فيما يفعل لذلك‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬نرفع راية إذا حان وقت الصالة ليراها الناس‪ ،‬فلم يرضوا‬
‫ذلك ألنها ال تفيد النائم وال الغافل‪ ،‬وقال آخرون‪ُ :‬نشعل ناراً على مرتفع من الهضاب فلم يقبل أيضاً‪،‬‬
‫وأشار آخرون ببوق وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم فكرهه رسول اهلل‪ ،‬ألنه لم يكن يحب‬
‫تقليد اليهود في عمل ما‪ ،‬وأشار بعضهم بالناقوس وهو ما يستعمله النصارى فكرهه الرسول أيضاً‪،‬‬
‫وأشار بعضهم بالنداء فيقوم بعض الناس إذا حانت الصالة وينادي بها فقُبِل هذا الرأي‪ ،‬وكان أحد‬
‫المنادين عبد اللهبن زيد األنصاري‪ ،‬فبينما هو بين النائم واليقظان إذ عرض له شخص وقال‪ :‬أال‬
‫أعلمك كلمات تقولها عند النداء بالصالة؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬فقال له‪ :‬قل‪ :‬اهلل أكبر اهلل أكبر مرتين‪ ،‬وتشهَّد‬
‫حي على الفالح مرتين‪ ،‬ثم كبر ربك مرتين‪ ،‬ثم قل‬
‫حي على الصالة مرتين‪ ،‬ثم قل‪َّ :‬‬
‫مرتين‪ ،‬ثم قل‪َّ :‬‬
‫ال إله إال اهلل‪ .‬فلما استيقظ توجه إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم وأخبره خبر رؤياه‪ ،‬فقال‪« :‬إنها لرؤيا‬
‫حق»‪ ،‬ثم قال له‪« :‬لقِّن ذلك بالالً فإنه أندى صوتاً منك»‪ ،‬وبينما بالل يؤذن إذ جاء عمر يجر رداءه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬واهلل لقد رأيت مثله يا رسول اهلل‪ ،‬وكان بالل أحد مؤذنيه بالمدينة‪ ،‬واآلخر عبد اهلل ابن ُأم‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫حي على الفالح‪« :‬الصالة خير من النوم» مرتين‪،‬‬


‫مكتوم‪ ،‬وكان بالل يقول في أذان الصبح بعد ّ‬
‫وأقره الرسول على ذلك‪ ،‬وكان عليه‬
‫ّ‬

‫الصالة والسالم يأمر في فجر رمضان بأذانين‪ :‬أولهما يوقظ به الغافلون حتى َي ْنتَبِهوا للسحور‪،‬‬
‫والثاني للصالة‪ .‬وأما األذان للجمعة‪ ،‬فكان أوله إذا جلس اإلمام على المنبر على عهد رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد نداء آخر على الزوراء‪ .‬رواه‬
‫البخاري‪.‬‬
‫ولما تولى هشامبن عبد الملك أخذ األذان الذي زاده عثمان بالزوراء وجعله على المنار‪ ،‬ثم نقل‬
‫األذان الذي كان على المنار حين صعود اإلمام على المنبر في العهد األول بين يديه‪.‬‬

‫فعلم بذلك أن األذان في المسجد بين يدي الخطيب بدعة أحدثها هشامبن عبد الملك‪ ،‬وال معنى لهذا‬
‫األذان‪ ،‬ألنه هو نداء إلى الصالة‪ ،‬ومن هو في المسجد ال معنى لندائه ومن هو خارج المسجد ال‬
‫يسمع النداء إذا كان النداء في المسجد‪ .‬ذكر ذلك الشيخ محمد ابن الحاج في «المدخل»‪.‬‬
‫قال الحافظ في فتح الباري‪« :‬وأما ما أحدث الناس قبل الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصالة على‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم فهو في بعض البالد دون بعض واتباع السلف الصالح أولى»‪ .‬ا هـ‪.‬‬
‫سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في أذان الجمعة أنه كان إذا جلس على‬
‫فعلم من ذلك كله أن ّ‬
‫المنبر أ ّذن مؤذنه على المنار فإذا انتهت الخطبة ُأقيمت الصالة وما عدا ذلك فكله ابتداع‪.‬‬
‫أما اإلقامة وهي الدعوة للصالة في المسجد‪ ،‬فقد اختلفت الروايات في نصها فرواها محمدبن إدريس‬
‫فمثَْنى‪ ،‬ورواها مالكبن أنس مفردة كلها‪ ،‬ورواها أبو‬
‫الشافعي مفردة إالّ لفظ «قد قامت الصالة» َ‬
‫حنيفة النعمان َمثَْنى كلها‪.‬‬

‫يهود المدينة‬

‫بمشركي قريش ابتالهم في المدينة بيهودها وهم‪ :‬بنو قينقاع‪،‬‬


‫هذا‪ ،‬وكما ابتلى اهلل المسلمين في مكة ُ‬
‫وقريظة‪ ،‬والنضير‪ ،‬فإنهم أظهروا العداوة والبغضاء حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه‬
‫شبت الحرب بين الفريقين‬
‫الحق‪ ،‬وكانوا قبل مجيء الرسول يستفتحون على المشركين من العرب إذا ّ‬
‫النبوة في ولد إسماعيل‪،‬‬
‫بنبي يبعث قد قرب زمانه‪ ،‬فلما جاءهم ما عرفوا استعظم رؤساؤهم أن تكون ّ‬
‫فكفروا بما أنزل اهلل بغياً‪ ،‬مع أنهم يرون أن رسول اهلل محمداً لم ِ‬
‫يأت إالّ مصدقاً لما بين يديه من كتب‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫مبيناً ما أفسده التأويل منها‪ ،‬ولكنهم نبذوه وراء ظهورهم‬


‫اهلل التي أنزلها على من سبقه من المرسلين‪ّ ،‬‬
‫كأنهم ال يعلمون‪ .‬ومما عابوه على اإلسالم نسخ األحكام‪ ،‬وما َد َروا أن القادر العليم يعلم ما يحتاج‬
‫إليه اإلنسان أكثر منهم‪ ،‬فإنه ميال بطبعه للترقّي‪ ،‬والرسول عليه الصالة والسالم وجد بادىء بدء بين‬
‫جماعة من العرب ُأميين ليسوا على شيء من االعتقادات اإللهية‪ ،‬فكانت الحكمة داعية ألن يكون‬
‫حرم اهلل عليهم شرب الخمر وأكل الربا‪ ،‬وأمرهم بالصالة والزكاة‪،‬‬
‫التشريع لهم على التدريج‪ ،‬ألنه لو َّ‬
‫وهكذا إلى آخر األوامر والمناهي التي جاء بها الشرع اإلسالمي لما أجابه أحد من هؤالء النافرة‬
‫قلوبهم‪ ،‬المختلفة أهواؤهم‪ ،‬الذين كانوا منغمسين في كثير من األضاليل‪ ،‬فجاءهم رسول اهلل صلى اهلل‬
‫وه ِّذبت نفوسهم‪ ،‬وكانت األحكام ال ينزلها اهلل‬
‫عليه وسلم باألمر شيئاً فشيئاً حتى ُروضت عقولهم‪ُ ،‬‬
‫عليه إال عقب الحوادث التي تقتضيها‪ ،‬ليكون التأثير في النفوس أشد‪ ،‬ولكن اليهود أرادوا َغ َّل يد‬
‫حجهم القرآن الشريف بما يدل على أنهم يعلمون من نفوسهم‬ ‫القدرة عن أن تفعل إال ما يشتهون‪ ،‬وقد ِّ‬
‫الن ِ‬
‫اس‬ ‫ون َّ‬
‫صةً ّمن ُد ِ‬ ‫ال ِخرةُ ِع َ َّ ِ ِ‬ ‫ت لَ ُكم َّ‬ ‫ِإ‬
‫ند الله َخال َ‬ ‫الد ُار ا ْ َ‬ ‫البعد عن الحق‪ ،‬فقال في سورة البقرة‪ُ :‬ق ْل ن َك َان ْ ُ‬ ‫ُ‬
‫ين} (البقرة‪ )94 :‬ثم حتَّم ج ّل ذكره‬ ‫ت ِإن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫فَتَ َمَّن ُوْا اْل َم ْو َ‬
‫صادق َ‬
‫ْ َ‬

‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫عدم إجابتهم بقوله‪{ :‬ولَن يتَمَّنوه َأب ًدا بِما قَ َّدم ْ ِ‬
‫يم بِالظال َ‬
‫مين} (البقرة‪ .)95 :‬فلو كانوا‬ ‫ت َْأيدي ِه ْم َواللهُ َعل ٌ‬ ‫َ ََُْ َ َ َ‬
‫عما طُلب منهم مع سهولته‪ ،‬وحرصهم على تكذيب‬ ‫يعلمون من أنفسهم أنهم على الحق لما تأخروا ّ‬
‫طقاً باللسان‪ .‬وقد ّتبين الهدى ألحد‬
‫الصادق األمين‪ ،‬ولم ينقل لنا عن أحد منهم أنه تمنى ذلك ولو ُن ْ‬
‫رؤساء بني قينقاع وهو عبد اللهبن َسالم‪ ،‬فترك هواه وأسلم بعد أن سمع القرآن‪ ،‬وبعد أن كان اليهود‬
‫عدوه من سفهائهم حينما بلغهم إسالمه‪ ،‬فـ{بِْئ َس َما ا ْشتََر ْوْا بِ ِه َأنفُ َسهُ ْم َأن َي ْكفُُروْا‬ ‫يعدونه من رؤسائهم‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ضِل ِه َعلَى َمن َي َشآء ِم ْن ِعَب ِاد ِه} (البقرة‪ ،)90 :‬ولما استحكمت في‬ ‫أنز َل اللَّهُ َب ْغًيا َأن ُيَن ّز ُل اللَّهُ ِمن فَ ْ‬
‫بِ َمآ َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِإ َّ‬
‫ورهُ َولَ ْو َك ِرهَ‬
‫{وَي َْأبى اللهُ ال َأن ُيت َّم ُن َ‬ ‫قلوبهم عداوة اإلسالم صاروا يجهدون أنفسهم في إطفاء نوره‪َ :‬‬
‫ون} (التوبة‪.)32 :‬‬ ‫ِ‬
‫اْل َكاف ُر َ‬

‫المنافقون‬

‫وكان ي ِ‬
‫ساع ُد ُهم على مقاصدهم جماعة من عرب المدينة أعمى اهلل بصائرهم‪ ،‬فأخفوا كفرهم خوفاً‬ ‫ُ‬
‫أبي ابن َسلول الخزرجي‪ ،‬الذي كان مرشحاً‬
‫على حياتهم‪ ،‬وكان يرأس هذه الجماعة عبد اللهبن ّ‬
‫ضرر المنافقين ُّ‬
‫أشد على‬ ‫لرياسة أهل المدينة قبل هجرة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وال َّ‬
‫شك أن‬
‫َ‬
‫المسلمين من ضرر الكفار‪ ،‬ألن أولئك يدخلون بين المسلمين فيعلمون أسرارهم‪ ،‬ويشيعونها بين‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫األعداء من اليهود وغيرهم كما حصل ذلك مراراً‪ ،‬واألساس الذي كان عليه رسول اهلل أن يقبل ما‬
‫ظهر ويترك هلل ما بطن‪ ،‬ولكنه عليه الصالة والسالم مع ذلك كان ال يأمنهم في عمل ما‪ .‬فكثيراً ما‬
‫ممن ُع ِه َد عليه‬ ‫َّ‬
‫كان يتغيب عن المدينة‪ ،‬ويولي عليها بعض األنصار‪ ،‬ولكن لم ُي ْعهَد أنه َولى رجالً ّ‬
‫النفاق‪ ،‬ألنه عليه الصالة والسالم يعلم ما يكون منهم لو ُولُّوا عمالً‪ ،‬فإنهم بال شك يتخذون ذلك فرصة‬
‫إلضرار المسلمين‪ ،‬وهذا درس مهم لرؤساء اإلسالم‪ ،‬يعلِّمهم َأالّ يثقوا في األعمال المهمة إال بمن لم‬
‫تظهر عليهم شبهة النفاق أو إظهار ما يخالف ما في الفؤاد‪.‬‬

‫معاهدة اليهود‬
‫علمت أنه كان يضاد المسلمين في المدينة فئتان‪ :‬اليهود‪ ،‬والمنافقون‪،‬ـ ولكن الرسول قَبِ َل من‬
‫َ‬ ‫هذا‪ ،‬وقد‬
‫هؤالء ظواهرهم‪ ،‬وعقد مع أولئك عهداً مقتضاه ترك الحرب واألذى‪ ،‬فال ُي َح ِاربهم وال يؤذيهم‪ ،‬وال‬
‫وأقرهم على دينهم‪.‬‬
‫يعينون عليه أحداً‪ ،‬وإ ن دهمه بالمدينة عدو ينصرونه‪ّ ،‬‬

‫مشروعية القتال‬

‫قد ُعلم مما تقدم أن رسول اهلل عليه الصالة والسالم لم يقاتل أحداً على الدخول في الدين‪ ،‬بل كان‬
‫يقويه على الصبر أمام‬ ‫األمر قاصراً على التبشير واإلنذار‪ ،‬وكان اهلل سبحانه ينزل عليه من اآلي ما ّ‬
‫صَب َر ُْأولُوْا اْل َع ْزِم ِم َن‬
‫اصبِ ْر َك َما َ‬
‫ما كان يالقيه من أذى قريش‪ ،‬ومن ذلك قوله في سورة األحقاف‪{ :‬فَ ْ‬
‫َّ‬
‫يقص اهلل عليه أنباء إخوانه من المرسلين‬ ‫الر ُس ِل َوالَ تَ ْستَ ْع ِجل لهُ ْم} (األحقاف‪ .)35 :‬وكان كثيراً ما ّ‬
‫ُّ‬
‫قبله ليثبت به فؤاده‪ ،‬ولما ازداد طغيان أهل مكة ألجؤوه إلى الخروج من داره بعد أن ائتمروا على‬
‫بالعداء على المسلمين حيث أخرجوهم من ديارهم بغير حق‪ ،‬فبعد الهجرة ِأذن‬
‫قتله‪ ،‬فكانوا هم البادئين ِ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َِِّ‬
‫ون بِ ََّأنهُ ْم ظُل ُموْا َوِإ َّن اللهَ‬
‫ين ُيقَاتَلُ َ‬
‫اهلل للمهاجرين بقتال مشركي قريش بقوله في سورة الحج‪ُ{ :‬أذ َن للذ َ‬
‫ص ِر ِه ْم لَقَِد ٌير(‪ : 9 8 7 6 5 4 3 2 )39‬؛ } (الحج‪ .)40 ،39 :‬ثم أمرهم بذلك في قوله في‬ ‫َعلَى َن ْ‬
‫ين(‪)190‬‬ ‫ِ‬ ‫ون ُك ْم َوالَ تَ ْعتَ ُدوْا ِإ َّن اللَّهَ الَ ُي ِح ُّ‬
‫ين ُيقَاتِلُ َ‬ ‫سورة البقرة‪ :‬وقَاتِلُوْا ِفي سبِ ِ َّ ِ َِّ‬
‫ب اْل ُم ْعتَد َ‬ ‫يل الله الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وه ْم ِع َ‬
‫ند‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َأخ َر ُجو ُك ْم َواْلفتَْنةُ َأ َش ُّد م َن اْلقَ ْت ِل َوالَ تُقَاتلُ ُ‬
‫ث ْ‬ ‫وه ْم ّم ْن َحْي ُ‬ ‫َأخ ِر ُج ُ‬
‫وه ْم َو ْ‬ ‫وا ْقتُلُوهم حْي ُ ِ‬
‫ث ثَق ْفتُ ُم ُ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين(‪ )191‬فَِإ ِن انتَهَ ْوْا فَِإ َّن‬ ‫وه ْم َكذال َك َج َزآء اْل َكاف ِر َ‬ ‫اْل َم ْس ِجد اْل َح َر ِام َحتَّى ُيقَاتلُو ُك ْم فيه فَِإن قَاتَلُو ُك ْم فَا ْقتُلُ ُ‬
‫وان ِإالَّ َعلَى‬ ‫الد َّ ِ‬
‫ين لله فَِإ ِن انتَهَوْا فَالَ ُع ْد َ‬ ‫ون ّ ُ‬
‫اللَّه َغفُور َّر ِحيم(‪ )192‬وقَاتِلُوهم حتَّى الَ تَ ُك ِ‬
‫ون فتَْنةٌ َوَي ُك َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ٌ‬
‫ين(‪)193‬‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫الظالم َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫غير أهل مكة‬


‫وبذلك لم يكن الرسول يتعرض إال لقريش دون سائر العرب فلما تماأل على المسلمين ُ‬
‫من مشركي العرب‪ ،‬واتحدوا عليهم مع األعداء‪ ،‬أمر اهلل بقتال المشركين كافة‪ ،‬بقوله في سورة‬
‫عاماً لكل َم ْن‬ ‫َّ‬
‫ون ُك ْم َكآفةً} (التوبة‪ )36 :‬وبذلك صار الجهاد ّ‬‫ين َكآفَّةً َك َما ُيقَاتِلُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫التوبة‪َ :‬وقَاتلُوْا اْل ُم ْش ِرك َ‬
‫الناس حتى‬
‫«أمرت أن ُأقاتل َ‬‫ُ‬ ‫ليس له كتاب من الوثنيين وهذا مصداق قوله عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫يشهدوا أن ال إله إال اهلل وأن محمداً رسو ُل ِ‬
‫اهلل‪ ،‬ويقيموا الصالة‪ ،‬ويؤتوا الزكاةَ‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك‬
‫ِ‬
‫اإلسالم‪ ،‬وحسابهم على اهلل»‪ .‬ولما وجد المسلمون من اليهود‬ ‫دماء ُهم وأموالهم إال بحق‬
‫عصموا مني َ‬
‫خيانة للعهود حيث أنهم ساعدوا المشركين في حروبهم‪ ،‬أمر اهلل بقتالهم بقوله في سورة األنفال‪:‬‬
‫ين} (األنفال‪ )58 :‬وقتالهم‬‫ب َ ِئ ِ‬‫{وِإ َّما تَ َخافَ َّن ِمن قَ ْوٍم ِخَي َانةً فَانبِ ْذ ِإلَْي ِه ْم َعلَى َس َوآء ِإ َّن اللَّهَ الَ ُي ِح ُّ‬
‫الخا ن َ‬ ‫َ‬
‫واجب حتى يدينوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‪ ،‬ليأمن المسلمون جانبهم‪ ،‬وصار قتال‬
‫رسول اهلل لألعداء على هذه المبادىء اآلتية‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ ـ اعتبار ُم ِ‬
‫شركي قريش محاربين ألنهم بدؤوا بالعدوان فصار للمسلمين قتالهم ومصادرة تجارتهم‬
‫حتى يأذن اهلل بفتح مكة أو تعقد هدنة وقتية بين الطرفين‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ متى ُرِئ َي من اليهود خيانة ّ‬
‫وتحيز للمشركين قوتلوا حتى يؤمن جانبهم بالنفي أو القتل‪.‬‬
‫تعدت قبيلة من العرب على المسلمين أو ساعدت قريشاً قوتلت حتى تدين باإلسالم‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ متى ّ‬
‫‪ 4‬ـ ـ كل من بادأ بعداوة من أهل الكتاب كالنصارى قوتل حتى يذعن باإلسالم أو يعطي الجزية عن ٍيد‬
‫وهو صاغر‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ـ كل من أسلم فقد عصم دمه وماله إال بحقه‪ ،‬واإلسالم يقطع ما قبله‪.‬‬

‫وقد أنزل اهلل في القرآن الكريم كثيراً من اآلي تحريضاً على اإلقدام في قتال األعداء وتبعيداً عن‬
‫ون‬ ‫الفرار من الزحف‪ ،‬فقال في الموضوع األول في سورة النساء‪َ { :‬فْليقَاتِ ْل ِفى سبِ ِ َّ ِ َِّ‬
‫ين َي ْش ُر َ‬‫يل الله الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫َأجراً َع ِظيماً} (النساء‪:‬‬ ‫يه ْ‬‫ف ُن تِ ِ‬
‫ب فَ َس ْو َ ْؤ‬ ‫يل اللَّ ِه فَُي ْقتَ ْل َأو َي ْغِل ْ‬
‫ال ِخر ِة ومن ُيقَاتِ ْل ِفى سبِ ِ‬
‫َ‬ ‫اْلحياةَ ُّ ِ‬
‫الد ْنَيا با ْ َ َ َ‬
‫ِ َِّ‬ ‫َِّ‬
‫ءامُنوْا ِإ َذا لَقيتُ ُم الذ َ‬
‫ين َكفَ ُروْا َز ْحفاً فَالَ‬ ‫ين َ‬ ‫{يَأيُّهَا الذ َ‬ ‫‪ .)74‬وقال في الموضوعـ الثاني في سورة األنفال‪َ :‬‬
‫ض ٍب ّم َن‬ ‫ٍِ‬ ‫االدَبار(‪ )15‬ومن ُيولّ ِهم َيومِئٍذ ُدُبرهُ ِإالَّ متَ َحرفاً لِّقتَ ٍ‬
‫ال َْأو ُمتَ َحّيزاً ِإلَى فَئة فَقَ ْد َبآء بِ َغ َ‬
‫ُّ‬
‫ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ ْ َْ‬ ‫وه ُم ْ َ‬
‫تَُول ُ‬
‫ص ُير(‪)16‬‬ ‫اللَّ ِه ومْأواه جهَّنم وبِْئ س اْلم ِ‬
‫َََ ُ َََُ َ َ‬

‫بدء القتال‬
‫الركب السائر بهذه التجارة‬
‫ُ‬ ‫ويسمى‬‫تذهب بتجارتها إلى الشام لتبيع وتبتاع‪ُ ،‬‬
‫كانت عادة قريش أن َ‬
‫وس َراتِهم‪ ،‬وال بد لوصولهم إلى الشام من‬ ‫ِ‬
‫ع ْيراً‪ ،‬وكان يسير معها لحراستها كثير من أشراف القوم َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫المرور على دار الهجرة‪ ،‬فرأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن ي ِ‬
‫صاد َر تجارتهم ذاهبةً وآيبة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ليكون في ذلك عقاب لمشركي مكة‪ ،‬حتى تضعف قوتهم المالية‪ ،‬فيكون ذلك أدعى لخذالنهم في ميدان‬
‫عمن سفَّه أحالمهم وعاب عبادتهم خصوصاً‬
‫بد أن يكون‪ ،‬ألن قريشاً لم تكن لتسكت ّ‬
‫القتال الذي ال ّ‬
‫وهم قدوة العرب في الدين‪.‬‬

‫سرية‬

‫عمه حمزةبن عبد المطلب في ثالثين رجالً من المهاجرين‪ ،‬وعقد لهم لواء‬‫ففي شهر رمضان أرسل َّ‬
‫أبيض حمله أبو َم ْرثَد حليف حمزة‪ ،‬ليعترض ِعيراً لقريش آيبة من الشام‪ ،‬فيها أبو جهل وثالثمائة من‬
‫العيص فصادف العير هناك‪ ،‬فلما‬ ‫أصحابه المشركين‪ ،‬فسار حمزة حتى وصل ساحل البحر من ناحية ِ‬
‫الجهني فأطاعوه وانصرفوا‪ ،‬وشكر عليه الصالة‬ ‫ِ‬
‫تصافّوا للقتال حجز بين الفريقين َمجديُّبن عمرو ُ‬
‫والسالم مجدياً على عمله لما كان من قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم‪.‬‬
‫وفي شوال أرسل ُعبيدةبن الحارث ابن عم حمزة في ثمانين راكباً من المهاجرين‪ ،‬وعقد له لواء‬
‫طحبن ُأثَاثة ليعترض عيراً لقريش‪ ،‬فيها ِمَئتا رجل‪ ،‬فوافوا العير ببطن رابغ فكان‬
‫أبيض حمله ِم ْس َ‬
‫بينهما الرمي بالنبل‪ ،‬ثم خاف المشركون أن يكون للمسلمين كمين فانهزموا‪ ،‬ولم يتبعهم المسلمون‪،‬‬
‫وفر من المشركين إلى المسلمين المقدادبن األسود وعتبةبن َغ ْزوان وكانا قد أسلما وخرجا ليلحقا‬
‫ّ‬
‫بالمسلمين‪.‬‬

‫وفيات‬
‫وفي هذه السنة توفي من المهاجرين عثمانبن مظعون أخو رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من‬
‫الرضاع أسلم قديماً‪ ،‬وهاجر الهجرتين‪ ،‬ولما دفن أمر عليه الصالة والسالم بأن ُي َر َّ‬
‫ش قبره بالماء‪،‬‬
‫ووضع على قبره حجراً‪ ،‬وقال‪َ« :‬أتَ َعلَّ ُم به قبر أخي‪ ،‬وأدفن إليه من مات من أهلي»‪ ،‬وهذا كان القصد‬
‫َ‬
‫من وضع األحجار على المقابر‪ ،‬ال ما يقصده أهل العصور األخيرة من تشييد الهياكل على القبور‪،‬‬
‫وتصويرها بصور تَُرى في عين الناظر كاألصنام‪ ،‬ليأتي أقارب الميت ويصنعوا عندها احتفاالت‬
‫كثيرة‪ ،‬تشبه ما كان يفعله مشركو مكة عند معابدهم‪ ،‬ومن العبث فعل شيء لم يفعله رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم مما يتعلق بأمور اآلخرة‪.‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫أسعدبن ُزرارة أحد النقباء االثني عشر‪ ،‬كان رضي اهلل عنه نقيب بني النجار‪،‬‬
‫ومات من األنصار ُ‬
‫ولما مات اختار رسول اهلل نفسه للنقابة عليهم ألن «ابن أخت القوم منهم» ومات أيضاً البراءبن‬
‫معرور أحد النقباء‪ ،‬وهو الذي كان يتكلم عن القوم في العقبة الثانية‪ .‬ومات من مشركي مكة في هذه‬
‫السنة الوليدبن المغيرة‪ ،‬ولما احتُضر جزع فقال له أبو جهل‪ :‬ما جزعك يا عم؟ فقال‪ :‬واهلل ما بي من‬
‫تخف إني‬
‫جزع من الموت‪ ،‬ولكن أخاف أن يظهر دين ابن أبي كبشة بمكة‪ ،‬فقال أبو سفيان‪ :‬ال ْ‬
‫الشقيين‪.‬‬
‫ضامن أالّ يظهر‪ .‬وفيها أيضاً مات العاصبن وائل السهمي‪ .‬وقد كفى اهلل المسلمين شر هذين ّ‬
‫َّ‬
‫السنة الثانية‬

‫غزوة َو َّدان‬
‫والثنتي عشرة ليلة َخلَت من السنة الثانية خرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من المدينة بعد أن‬
‫عمه‬
‫استخلف عليها سعدبن عبادة‪ ،‬ليعترض عيراً لقريش‪ ،‬فسار حتى بلغ َو ّدان‪ ،‬وكان يحمل لواءه ّ‬
‫حمزة‪ ،‬ولم يلق هناك حرباً ألن العير كانت قد سبقته‪ ،‬وفي هذه الغزوة صالح بني ضمرة على أنهم‬
‫ص َرةَ المسلمين إذا ُدعوا‪ ،‬ثم رجع إلى‬
‫رامهم‪ ،‬وأن عليهم ُن ْ‬
‫آمنون على أنفسهم ولهم النصر على من َ‬
‫المدينة بعد مضي خمس عشرة ليلة‪.‬‬

‫غزوة ُبواط‬
‫ِ‬
‫رجوعه غير قليل حتى بلغه أن عيراً لقريش آيبة من الشام فيها أميةبن خلف ومائة‬ ‫ولم يمض على‬
‫من قريش‪ ،‬وألفان وخمسمائة بعير‪ ،‬فسار إليها في مائتين من المهاجرين‪ ،‬وذلك في ربيع األول‪،‬‬
‫يلق كيداً‪،‬‬
‫سعدبن أبي وقاص‪ ،‬فسار حتى بلغ ُبواط‪ ،‬فوجد العير قد فاتته فرجع ولم َ‬
‫وكان يحمل لواءه ُ‬
‫وذلك كله لما كان يأخذه المشركون من الحذر على أنفسهم واالجتهاد في تعمية أخبارهم عن أهل‬
‫المدينة‪.‬‬

‫الع َشيرة‬
‫غزوة ُ‬

‫وأعقب رجوعه عليه الصالة والسالم خروج قريش بأعظم ٍ‬


‫عير لها فقد جمعوا فيها أموالهم حتى لم‬
‫يبق بمكة قرشي أو قرشية لها مثقا ٌل فصاعداً إال بعث به في تلك العير‪ ،‬وكان يرأسها أبو سفيانبن‬
‫حرب ومعه بضعة وعشرون رجالً‪ ،‬فخرج لها الرسول في جمادى األولى ومعه مائة وخمسون من‬
‫سلمةبن عبد األسد‪ ،‬وحمل لواءه عمه حمزة‪ ،‬ولم يزل سائراً‬
‫المهاجرين‪ ،‬واستخلف على المدينة أبا َ‬
‫وحالف عليه الصالة والسالم في هذه الغزوة بني م ِ‬
‫دلج‬ ‫مضت‪،‬‬ ‫الع َش ْيرة فوجد العير قد‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫حتى بلغ ُ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وحلفاءهم‪ ،‬ثم رجع عليه الصالة والسالم إلى المدينة ينتظر هذه العير حينما ترجع‪.‬‬

‫غزوة بدر األولى‬


‫وبعد رجوعه عليه الصالة والسالم بقليل جاء ُكر ُزبن جابر ِ‬
‫الفهري‪ ،‬وأغار على َس ْرح المدينة‬ ‫ْ‬
‫زيدبن حارثة األنصاري‪ ،‬وحمل لواءه‬
‫وهرب‪ ،‬فخرج الرسول في طلبه‪ ،‬واستخلف على المدينة َ‬
‫رز فلم يلق حرباً‪ ،‬وتُسمى هذه الغزوة بدراً األولى‪.‬‬
‫عليبن أبي طالب‪ ،‬فسار حتى بلغ َسفَوان وفاته ُك ٌ‬

‫سرية‬

‫عدتها ثمانية رجال‪ ،‬يرأسها عبد اللهبن جحش‪ ،‬وأعطاه كتاباً‬


‫وفي رجب من هذه السنة أرسل سرية ّ‬
‫عبد اهلل يومين‪ ،‬ثم فتح الكتاب فإذا فيه‪:‬‬
‫مختوماً ال َيفُضُّه إال بعد أن يسير يومين ثم ينظر فيه‪ ،‬فسار ُ‬
‫فترص َد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم» وإ نما لم‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫فامض حتى تنزل َن ْخلَةَ‪،‬‬ ‫«إذا نظرت كتابي هذا‬
‫يخبرهم عليه الصالة والسالم بمقصدهم وهم بالمدينة حذراً من شيوع الخبر‪ ،‬فيدل عليهم أحد األعداء‬
‫من المنافقين أو اليهود فترصد لهم قريش‪ .‬وال يخفى أن عدد السرية قليل ال يمكنه المقاومة‪ ،‬ثم سار‬
‫وعتبةبن َغزوان ألنهما أضال‬ ‫َّ‬
‫عبد اهلل رضي اهلل عنه‪ ،‬وفي أثناء السير تخلف سعدبن أبي وقّاص ُ‬
‫فمرت بهم ِعير قرشية تريد مكة فيها‬
‫بعيرهما الذي كانا يعتقبانه‪ ،‬وسار الباقون حتى وصلوا نخلة ّ‬
‫والحكمبن َكيسان‪ ،‬فأجمع المسلمون‬
‫الحضرمي‪ ،‬وعثمانبن عبد اللهبن المغيرة وأخوه نوفل‪َ ،‬‬
‫عمروبن َ‬
‫أمرهم على أن يحملوا عليهم ويأخذوا ما معهم‪ ،‬فحملوا عليهم في آخر يوم من رجب‪ ،‬فقتلوا عمروبن‬
‫الحضرمي‪ ،‬وأسروا عثمان والحكم‪ ،‬وهرب نوفل‪ ،‬واستاقوا ِ‬
‫العير وهي أو ُل غنيمة غنمها المسلمون‬
‫من أعدائهم قريش ثم رجعوا‪ ،‬ولم يتمكن المشركون من اللحاق بهم‪ ،‬فلما قدموا المدينة وشاع أنهم‬
‫قاتلوا في األشهر الحرم‪ ،‬وعابتهم قريش واليهود بذلك‪َ ،‬عَّنفَهم المسلمون‪ ،‬وقال لهم عليه الصالة‬
‫ون َك َع ِن‬
‫الحرم» فندموا‪ ،‬فأنزل اهلل في سورة البقرة‪َ :‬ي ْسَئ لُ َ‬ ‫والسالم‪« :‬ما أمرتُكم بقتال في األشهر ُ‬
‫َأهِل ِه‬
‫اج ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يه َكبِير وص ٌّد عن سبِ ِ َّ ِ‬
‫يل الله َو ُك ْفٌر بِه َواْل َم ْس ِجد اْل َح َر ِام َوِإ ْخ َر ُ‬ ‫ٌ َ َ َ َ‬
‫يه ُق ْل ِقتَا ٌل ِف ِ‬
‫ال ِف ِ‬
‫الشه ِر اْل َحر ِام ِقتَ ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫َّ‬
‫ند اللَّ ِه َواْلِفتَْنةُ َأ ْكَب ُر ِم َن اْلقَ ْت ِل} (البقرة‪ )217 :‬فَ ُس ِّري عنهم وقد طلب المشركون فداء‬ ‫ِم ْنهُ َأ ْكَب ُر ِع َ‬
‫يرجع سعد وعتبة»‪ ،‬فلما رجعا قَبِ َل عليه الصالة والسالم‬
‫َ‬ ‫أسيريهما‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم «حتى‬
‫الفدية في األسيرين‪ ،‬فأما الحكمبن كيسان‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫فأسلم وحسن إسالمه وبقيـ مع المسلمين‪ ،‬وأما عثمان فلحق بمكة كافراً‪.‬‬

‫تحويل القبلة‬
‫يحب أن‬
‫مكث عليه الصالة والسالم بالمدينة ستة عشر شهراً يستقبل بيت المقدس في صالته‪ ،‬وكان ّ‬
‫تكون قبلته الكعبة ويقلِّ ُ‬
‫ب وجهه في السماء داعياً اهلل بذلك‪ .‬فبينما هو في صالته إذ أوحى اهلل إليه‬
‫وتحو َل َم ْن وراءه‪ .‬وكانت هذه الحادثة سبباً الفتتان بعض المسلمين‬
‫َّ‬ ‫فتحول‪،‬‬
‫بتحويل القبلة إلى الكعبة ّ‬
‫الذين ضعفتـ قلوبهم فارتدوا على أعقابهم‪ .‬وقد أكثر اليهود من التنديد على اإلسالم بهذا التحويل‪.‬‬
‫يشاء إلى صراط مستقيم‪.‬‬
‫وما َد َروا أن هلل المشرق والمغرب يهدي َم ْن ُ‬

‫صوم رمضان‬
‫وفي شعبان من هذه السنة أوجب اهلل صوم شهر رمضان على األمة اإلسالمية‪ ،‬وكان عليه الصالة‬
‫يتم‬
‫والسالم قبل ذلك يصوم ثالثة أيام من كل شهر‪ .‬والصيام من دعائم هذا الدين‪ ،‬والفرائض التي بها ّ‬
‫حب نفسه‪ ،‬والسعي فيما يعود عليها بالنفع الخاص‪ ،‬تاركاً ما وراء‬
‫النظام‪ ،‬فإن اإلنسان مجبول على ّ‬
‫بد من ِ‬
‫وازع يزعه لحاجات قوم أقعدتهم قواهم عن إدراك‬ ‫ذلك من حاجات الضعفاء والمساكين‪ ،‬فال ّ‬
‫حاجاتهم‪ ،‬وال أقوى من ذوق قوارص الجوع والعطش‪ ،‬إذ بهما تلين نفسه ويتهذب خلقه‪ ،‬فيسهل عليه‬
‫بذل الصدقات‪.‬‬

‫صدقة الفطر‬
‫ولذلك أوجب ال ّش ِارع الحكيم عقب الصوم زكاة الفطر فترى اإلنسان يبذلها بسخاء نفس ومحبة‬
‫خالصة‪.‬‬

‫زكاة المال‬

‫وفي هذا العام فُرضت زكاة األموال‪ ،‬وهذه هي النظام الوحيد الذي به يأكل الفقراء والمساكين من‬
‫إخوانهم األغنياء بال ضرر على هؤالء‪ ،‬فإذا بلغت الدنانير عشرين أو الدراهم مائتين‪ ،‬وحال عليها‬
‫الحول‪ ،‬وجب عليك أن تؤدي ربع عشرها‪ ،‬أي اثنين ونصفاً في كل مائة‪ ،‬وما زاد فبحسابه‪ ،‬وإ ذا‬
‫بلغت الشياه أربعين‪ ،‬والبقر ثالثين‪ ،‬واإلبل خمساً‪ ،‬وحال عليها الحول وجب عليك كذلك أن تؤدي‬
‫منها جرءاً مخصوصاً حدده ال ّش ِارع‪ ،‬ومثلها عروض التجارة‪ ،‬ومحصوالت الزراعة كل هذا يقبضه‬
‫اإلمام‪ ،‬ويوزعه على مستحقيه من الفقراء والمساكين وبقية المذكورين في آية الصدقة‪ِ{ :‬إَّن َما‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫يل اللَّ ِه‬


‫ين و ِفى سبِ ِ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وبهُ ْم َو ِفى ّ‬
‫الرقَاب َواْل َغ ِارم َ َ‬
‫َّ ِ‬
‫ين َعلَْيهَا َواْل ُمَؤ لفَة ُقلُ ُ‬
‫ِِ‬ ‫ات ِلْلفُقَرآء واْلمس ِ‬
‫اك ِ‬
‫ين َواْل َعامل َ‬ ‫َّدقَ ُ َ َ َ َ‬ ‫الص َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ َّ ِ‬ ‫السبِ ِ‬
‫يم(‪)60‬‬ ‫يم َحك ٌ‬ ‫يل فَ ِر َ‬
‫يضةً ّم َن الله َواللهُ َعل ٌ‬ ‫َو ْاب ِن َّ‬

‫غزوة بدر الكبرى‬

‫لم يطل العهد بتلك ِ‬


‫العير العظيمة التي خرج لها عليه السالم وهي متوجهة إلى الشام‪ ،‬فلم يدركها ولم‬
‫عير قريش فاخرجوا إليها‬ ‫أصحابهُ‪ ،‬وقال‪« :‬هذه ُ‬
‫َ‬ ‫ب إليها‬
‫يزل مترقباً رجوعها‪ ،‬فلما سمع برجوعها َن َد َ‬
‫لع ّل اهلل أن ينفلكموها»‪،‬ـ فأجاب قوم‪ ،‬وثَُق َل آخرون‪ ،‬لظنهم أن الرسول عليه السالم لم ُي ِر ْد حرباً‪ ،‬فإنه‬
‫فليركب معنا»‪ .‬ولم ينتظر من كان ظهره غائباً‪.‬‬
‫ْ‬ ‫لم يحتفل بها بل قال‪« :‬من كان ظهره حاضراً‬
‫ليال َخلَ ْو َن من رمضان بعد أن ولَّى على المدينة عبد اهلل ابن أم مكتوم‪ ،‬وكان معه‬ ‫ِ‬
‫لثالث ٍ‬ ‫فخرج‬
‫ثالثمائة وثالثة عشر رجالً‪ :‬مئتان ونيف وأربعون من األنصار‪ ،‬والباقون من المهاجرين‪ ،‬ومعهم‬
‫الع ْبدري‪ .‬ولما علم أبو سفيان‬
‫فََرسان‪ ،‬وسبعون بعيراً يعتقبونها‪،‬ـ والحامل للواء مصعببن عمير َ‬
‫بخروج الرسول صلى اهلل عليه وسلم استأجر راكباً ليأتي قريشاً ويخبرهم الخبر‪ ،‬فلما علموا بذلك‬
‫أدركتهم حميتهم‪ ،‬وخافوا على تجارتهم‪ ،‬فنفروا ِسراعاً ولم يتخلف من أشرافهم إال أبو لهببن عبد‬
‫المطلب‪ ،‬فإنه أرسل بدله العاصبن هشامبن المغيرة‪ .‬وأراد أميةبن خلف أن يتخلَّف لحديث َّ‬
‫حدثه إياه‬
‫سمعت من رسول‬
‫ُ‬ ‫سعدبن معاذ حينما كان معتمراً بعد الهجرة بقليل‪ ،‬حيث قال ـ ـ كما رواه البخاري ـ ـ‬
‫اهلل يقول‪« :‬إنهم قاتلوك» قال‪ :‬بمكة؟ قال‪ :‬ال أدري‪ .‬ففزع لذلك وحلف أالَّ يخرج‪ ،‬فعابه أبو جهل‬
‫ولم يزل به حتى خرج قاصداً الرجوع بعد قليل ولكن إرادة اهلل فوق كل إرادة‪ ،‬فإن منيته ساقته إلى‬
‫أجمعت رجا ُل‬ ‫ب عليهم ذلك‪ ،‬وبهذا‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫حتفه رغم أنفه‪ .‬وكذلك َع َز َم جماعةٌ من األشراف على القعود فَع ْي َ‬
‫قريش على الخروج‪ ،‬فخرجوا على الصعب والذلول‪ ،‬أمامهم القَْينات يغنين بهجاء المسلمين‪َ :‬وِإ ْذ‬
‫اس َوِإ ّني َج ٌار لَّ ُك ْم} (األنفال‪ .)48 :‬وقد‬ ‫ب لَ ُك ُم اْلَي ْو َم ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬ ‫ِ‬
‫ال الَ َغال َ‬
‫َأع َمالَهُ ْم َوقَ َ‬
‫ان ْ‬‫ط ُ‬ ‫َّن لَهم َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َزي َ ُ ُ‬
‫ضرب اهلل عمل الشيطان هذا مثالً يعتبر به ذوو الرأي من بعدهم‪ ،‬فقال في سورة الحشر‪:‬‬

‫ِ‬ ‫اف اللَّهَ َر َّ‬ ‫نك ِإّنى َ‬


‫ال ِإّنى َب ِرىء ّم َ‬ ‫ان ِإ ْذ قَ َ ِ‬ ‫{ َكمثَ ِل َّ‬
‫ين(‪)16‬‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫َأخ ُ‬ ‫ان ا ْكفُْر َفلَ َّما َكفََر قَ َ‬ ‫ال لِإل َ‬
‫نس ِ‬ ‫طِ‬ ‫الش ْي َ‬ ‫َ‬
‫ال ( ) ‪( } . ،‬األنفال‪ .)48 :‬وكان عدة من خرج من‬ ‫ص َعلَى َعِقَب ْي ِه َوقَ َ‬ ‫آءت اْلِفَئتَ ِ‬
‫ان َن َك َ‬
‫َفلَ َّما تَر ِ‬
‫َ‬
‫المشركين تسعمائة وخمسين رجالً معهم مائة فرس وسبعمائة بعير‪.‬‬

‫أما رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فلم يكن يعرف شيئاً مما فعله المشركون‪ ،‬ولم يكن خروجه إال‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫الس ْقيا خارج المدينة‪ ،‬واستعرض الجيش َّ‬


‫فرد َم ْن ليس له قدرة على الحرب‪ ،‬ثم‬ ‫للعير‪ ،‬فعسكر ببيوت ُّ‬
‫الر ْوحاء جاءه الخبر بمسير قريش لمنع عيرهم‪،‬‬
‫أرسل اثنين يتجسسان األخبار عن العير‪ .‬ولما بلغ َّ‬
‫وجاءه مخبراه بأن العير ستصل بدراً غداً أو بعد غد‪ ،‬فجمع عليه الصالة والسالم كبراء الجيش وقال‬
‫«أيها الناس َّ‬
‫إن اهلل قد وعدني إحدى الطائفتين أنها لكم‪ :‬العير أو النفير» فتبين له عليه الصالة‬ ‫لهم‪ّ :‬‬
‫والسالم أن بعضهم يريدون غير ذات الشوكة وهي العير ليستعينوا بما فيها من األموال‪ ،‬فقد قالوا‪:‬‬
‫هالّ ذكرت لنا القتال فنستعد وجاء مصداق ذلك قوله في سورة األنفال‪:‬ـ َوِإ ْذ َي ِع ُد ُك ُم اللَّهُ ِإ ْح َدى‬
‫ات َّ ِ‬ ‫َأن َغ ْير َذ ِ‬ ‫َّ ِئ‬
‫ون لَ ُك ْم} (األنفال‪ .)7 :‬ثم قام المقدادبن األسود‬ ‫الش ْو َكة تَ ُك ُ‬ ‫ون َّ َ‬ ‫الطا فَتَْي ِن ََّأنهَا لَ ُك ْم َوتََو ُّد َ‬
‫امض لما أمرك اهلل‪ ،‬فواهلل ال نقول لك كما قالت بنو إسرائيل‬ ‫ِ‬ ‫فقال‪ :‬يا رسول اهلل‬ ‫رضي اهلل عنه َ‬
‫ِ‬ ‫َأنت ورب َ ِ‬
‫ون} (المائدة‪ )24 :‬ولكن اذهب أنت وربك فقاتال َّإنا‬ ‫اهَنا قَاع ُد َ‬‫ُّك فَقَاتآل ِإَّنا َه ُ‬ ‫ب َ ََ‬ ‫لموسى‪{ :‬فَا ْذ َه ْ‬
‫الغ َماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه‪ ،‬فدعا له بخير‪ ،‬ثم‬ ‫معكما مقاتلون‪ ،‬واهلل لو سرت بنا إلى بر َك ِ‬
‫َْ‬
‫علي ّأيها الناس» وهو يريد األنصار ألن بيعة العقبة ربما يفهم منها أنه ال‬
‫قال عليه السالم‪« :‬أشيروا ّ‬
‫تَ ِجب عليهم نصرته إال ما دام بين أظهرهم‪ .‬فإن فيها‪ :‬يا رسول اهلل َّإنا‬

‫ُبرآء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا‪ ،‬فإذا وصلت إليها فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا‬
‫ونساءنا‪ .‬فقال سعدبن معاذ‪ ،‬سيد األوس‪ :‬كأنك تريدنا يا رسول اهلل؟ فقال‪« :‬أجل» فقال سعد‪ :‬قد آمنا‬
‫ِ‬
‫فامض لما أمرك اهلل‪ ،‬فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت‬ ‫وصدقناك‪ ،‬وأعطيناك على ذلك عهودنا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بك‬
‫لصُبر عند الحرب‪،‬‬
‫بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك‪ ،‬وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غداً‪ّ ،‬إنا ُ‬
‫تقر به َع ْيُنك‪ ،‬فسر على بركة اهلل‪ .‬فأشرق وجهه عليه‬
‫منا ما ّ‬
‫ص ُدق عند اللقاء‪ ،‬ولع ّل اهلل ُيريك ّ‬
‫ُ‬
‫وس ّر بذلك‪ ،‬وقال كما في رواية البخاري‪« :‬أبشروا واهلل كأني أنظر إلى مصارع القوم» فَعلم‬
‫السالم‪ُ ،‬‬
‫بد حاصلة‪ ،‬وحقيقةً حصلت‪ ،‬فإن أبا سفيان لما علم بخروج‬ ‫القوم من هذه الجملة أن الحرب ال ّ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫المسلمين له ترك الطريق المسلوكة‪ ،‬وسار متّبعاً ساحل البحر فنجا‪ ،‬وأرسل إلى قريش ُيعلمهم بذلك‪،‬‬
‫الجزور‪،‬‬
‫ويشير عليهم بالرجوع‪ ،‬فقال أبو جهل‪ :‬ال نرجع حتى نحضر بدراً فنقيم فيه ثالثاً‪ :‬ننحر َ‬
‫ونسقي الخمر‪ ،‬وتسمع بنا العرب فال يزالون يهابوننا أبداً‪ .‬فقال األخنسبن شريق‬
‫ونطعم الطعام‪ُ ،‬‬
‫الثقفي لبني زهرة ـ ـ وكان حليفاً لهم ـ ــ‪ :‬ارجعوا يا قوم فقد نجَّى اهلل أموالكم فرجعوا‪ ،‬ولم يشهد بدراً‬
‫زهري وال عدوي‪ ،‬ثم سار الجيش حتى وصلوا وادي بدر فنزلوا عدوته القصوى عن المدينة في‬
‫أرض سهلة لينة‪.‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫العوام ليعرفا‬
‫عليبن أبي طالب والزبيربن ّ‬
‫لما قارب بدراً أرسل عليه السالم ّ‬
‫أما جيش المسلمين‪ ،‬فإنه ّ‬
‫األخبار‪ ،‬فصادفا ُسقاةً لقريش فيهم غالم لبني الحجاج وغالم لبني العاص السهميين‪ ،‬فأتيا بهما‪،‬‬
‫والرسول عليه السالم قائم يصلي‪ ،‬ثم سأالهما عن أنفسهما‪ ،‬فقاال‪ :‬نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم‬
‫الماء‪ ،‬فضرباهما ألنهما ظنا أن الغالمين ألبي سفيان‪ .‬فقال الغالمان‪ :‬نحن ألبي سفيان فتركاهما‪.‬‬
‫أتم الرسول عليه السالم صالته‪ ،‬قال‪« :‬إذا صدقاكم ضربتموهما‪ ،‬وإ ذا كذباكم تركتموهما؟‬
‫ولما َّ‬
‫صدقا واهلل إنهما لقريش»‪ .‬ثم قال لهما‪« :‬أخبراني عن قريش؟» قاال‪ :‬هم وراء هذا ال َكثيب‪ ،‬فقال‬
‫لهما‪« :‬كم هم؟» فقاال‪ :‬ال ندري‪ .‬قال‪« :‬كم ينحرون كل يوم؟»‪ .‬قاال‪ :‬يوماً تسعاً ويوماً عشراً‪ .‬قال‪:‬‬
‫عمن في النفير من أشراف قريش فذكرا له عدداً‬
‫«القوم ما بين التسعمائة واأللف»‪ ،‬ثم سألهما ّ‬
‫عظيماً‪ ،‬فقال عليه السالم ألصحابه‪« :‬هذه مكة قد ألقت إليكم أفالذ كبدها»‪ ،‬ثم ساروا حتى نزلوا‬
‫بع ْد َو ِة الوادي الدنيا من المدينة بعيداً عن الماء في أرض سبخة‪ ،‬فأصبح المسلمون عطاشاً بعضهم‬
‫ُ‬
‫ُجنب وبعضهم ُم ْح ِدث‪َّ ،‬‬
‫فحدثهم الشيطان بوسوسته‪ ،‬ولوال فضل اهلل عليهم ورحمته لثنيت عزائمهم‪،‬‬
‫فإنه قال لهم‪ :‬ما ينتظر المشركون منكم إال أن يقطع العطش رقابكم‪ ،‬وي ِ‬
‫ذهب قواكم فيتحكموا فيكم‬ ‫ُ‬
‫كيف شاؤوا‪.‬‬

‫فأرسل اهلل لهم الغيث حتى سال الوادي‪ ،‬فشربوا واتخذوا ِ‬


‫الحياض على ُع ْد َو ِة الوادي‪ ،‬واغتسلوا‬
‫وتوضؤوا وملؤوا األسقية‪ ،‬ولبدت األرض‪ ،‬حتى ثبتت عليها األقدام‪ ،‬على حين أن كان هذا المطر‬
‫مصيبة على المشركين فإنه َوحَّل األرض حتى لم يعودوا يقدرون على االرتحال‪ .‬ومصداق هذا قوله‬
‫ب َعن ُكم ِر ْج َز َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫طِ‬
‫ان‬ ‫الش ْي َ‬ ‫ْ‬ ‫طهَّر ُك ْم بِه َوُي ْذه َ‬ ‫َّمآء َمآء لُّي َ‬ ‫{وُيَن ّز ُل َعلَْي ُكم ّمن الس َ‬‫تعالى في سورة األنفال‪َ :‬‬
‫ال ْق َد َام} (األنفال‪:‬ـ ‪ )11‬وقد أرى اهلل رسوله في منامه األعداء كما‬ ‫ت بِ ِه ا ْ‬
‫ط َعلَى ُقلُوبِ ُك ْم َوُيثَّب َ‬‫َوِلَي ْربِ َ‬
‫أراهموه وقت اللقاء قليلي العدد كيال يفشل المسلمون‪ ،‬وليقضيـ اهلل أمراً كان مفعوالً‪.‬ـ قال تعالى في‬
‫ال ْم ِر َواَل ِك َّن‬
‫ام َك َقِليالً َولَ ْو ََأرا َكهُ ْم َكثِيراً لَّفَ ِشْلتُ ْم َولَتََن َاز ْعتُ ْم ِفى ا ْ‬‫سورة األنفال‪ِ{ :‬إ ْذ ي ِري َكهم اللَّه ِفى مَن ِ‬
‫ُ ُُ ُ َ‬
‫َأعُينِ ِه ْم‬
‫َأعُينِ ُك ْم َقِليالً َوُي َقلّلُ ُك ْم ِفى ْ‬
‫وه ْم ِإ ِذ اْلتَقَْيتُ ْم ِفى ْ‬
‫ور(‪َ )43‬وِإ ْذ ُي ِري ُك ُم ُ‬ ‫ُّد ِ‬‫ات الص ُ‬ ‫اللَّه سلَّم ِإَّنه عِليم بِ َذ ِ‬
‫َ ََ ُ َ ٌ‬
‫ور(‪)44‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ َّ‬
‫االم ُ‬
‫ان َم ْف ُعوالًـ َوِإ لَى الله تُْر َجعُ ُ‬ ‫َأمراً َك َ‬ ‫لَي ْقض َى اللهُ ْ‬

‫والحالِئ ِل وبعد انقضاء هذه المبارزة‪ ،‬وقف عليه الصالة‬ ‫ِئ‬


‫ون ْذ َه َل َع ْن َأبنا نا َ‬
‫ع َح ْولَهُ َ‬ ‫ُ ِ‬
‫ون ْسل ُمهُ َحتَّى ُن َ‬
‫ص َّر َ‬
‫فمر بسوادبن َغ ِزية حليف بني النجار وهو خارج من‬ ‫ِ‬
‫والسالم بين الصفوفـ يعدلها بقضيب في يده‪ّ ،‬‬
‫وقال‪« :‬استقم يا سواد»‪ ،‬فقال أوجعتني يا رسول اهلل وقد ُبعثت‬
‫الصف‪ ،‬فضربه بالقضيب في بطنه َ‬
‫بالحق والعدل فَ َِأق ْدني من نفسك‪ .‬فكشف الرسول عليه الصالة والسالم عن بطنه‪ ،‬وقال‪« :‬استقد يا‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫سواد»‪ ،‬فاعتنقه سواد وقبَّل بطنه‪ .‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬ما حملك على ذلك؟» فقال يا رسول‬
‫جلدك‪ ،‬فدعا له بخير‪ ،‬ثم ابتدأ عليه‬‫يمس جلدي َ‬ ‫فأردت أن يكون آخر العهد أن ّ‬
‫ُ‬ ‫اهلل قد حضر ما ترى‬
‫السالم يوصي الجيش فقال‪« :‬ال تحملوا حتى آمركم‪ ،‬وإ ن اكتََنفكم القوم فانضحوهم بالنبل وال تَ ُسلُّوا‬
‫حضهم على الصبر والثبات‪ ،‬ثم رجع إلى عريشه ومعه رفيقه أبو بكر‪،‬‬ ‫السيوف حتى َي ْغ َشوكم» ثم ّ‬
‫وحارسه سعدبن معاذ واقف على باب العريش متوشح سيفه‪ ،‬وكان من دعاء الرسول عليه الصالة‬
‫اللهم إن شئت لم‬
‫«اللهم أنشدك عهدك ووعدك‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫والسالم ذاك الوقت كما جاء في صحيح البخاري‪:‬‬
‫تُعبد» فقال أبو بكر‪َ :‬ح ْسُبك فإن اهلل سينجز لك وعده‪ .‬فخرج عليه الصالة والسالم من العريش وهو‬
‫ون ُّ‬
‫الدُب َر(‪)45‬‬ ‫ُّ‬
‫يقول‪َ :‬سُي ْه َز ُم اْل َج ْمعُ َوُي َول َ‬

‫واشتد القتال‪ ،‬وحمي الوطيس‪ ،‬وأيد اهلل المسلمين بالمالئكة ُبشرى لهم ولتطمئن به قلوبهم‪ .‬فلم تكن‬
‫نحو‬ ‫ُّ‬
‫إال ساعة حتى ُهزم الجمع‪ ،‬وولّوا الدُب َر‪ ،‬وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون‪ ،‬فقتل من المشركين ُ‬
‫السبعين‪ ،‬منهم من قريش‪ :‬عتبة وشيبة ابنا ربيعة‪ ،‬والوليدبن عتبة‪ ،‬قُتلوا مبارزة أول القتال‪ ،‬وأبو‬
‫الب ْختريبن هشام‪ ،‬والجراح والد أبي عبيدة قتله ابنه بعد أن ابتعد عنه فلم يزدجر‪ ،‬وقُتل ُأميةبن خلف‬
‫َ‬
‫وعماربن ياسر‪ ،‬وقد سعيا في ذلك‬
‫وابنه علي‪ ،‬اشترك في قتلهما جماعة من األنصار مع باللبن رباح ّ‬
‫ُأمّيةُ في مكة‪ .‬ومن القتلى حنظلةبن أبي سفيان‪ ،‬وأبو جهلبن هشام‪ ،‬أثخنه فَتيان‬
‫لما كان يفعله بهما َ‬
‫شديد اإليذاء لرسول اهلل‪ ،‬وأجهز عليه عبد‬
‫صغيران من األنصار‪ ،‬لما كانا يسمعانه من أنه كان َ‬
‫اللهبن مسعود‪ ،‬وقُتل نوفلبن خويلد قتله عليبن أبي طالب‪ ،‬وقتل عبيدة والعاصي ولدا أبي ُأح ْيحةَ ِ‬
‫سعيد‬ ‫َ َ‬
‫بن أمية‪ ،‬وقُتِل كثيرون غيرهم‪ .‬أما األسرى فكانوا سبعين أيضاً‪َ ،‬‬
‫قتل منهم عليه السالم‬ ‫ِ‬
‫العاص ِ‬ ‫ِ‬
‫بن‬
‫والنضربن الحارث اللذين كانا بمكة من أشد المستهزئين‪ .‬وكانت هذه‬
‫َ‬ ‫وهو راجع عقبةَبن أبي ُمعيط‪،‬‬
‫الواقعة في (‪ )17‬رمضان‪ ،‬وهو اليوم الذي ابتدأ فيه نزول القرآن وبين التاريخين (‪ )14‬سنة قمرية‬
‫كاملة‪.‬‬

‫فنقلوا من مصارعهم التي كان الرسول عليه الصالة والسالم‬


‫وقد أمر عليه الصالة والسالم بالقتلى ُ‬
‫مر بجيفة‬
‫أخبر بها قبل حصول الموقعة إلى قليب بدر‪ ،‬ألنه عليه السالم كان من ُسننه في مغازيه إذا ّ‬
‫إنسان أمر بها فدفنت‪ ،‬ال يسأل عنه مؤمناً أو كافراً‪ .‬ولما ألقي عتبة والد أبي حذيفة أحد السابقين إلى‬
‫اإلسالم تغير وجه ابنه ففطن الرسول عليه السالم لذلك‪ ،‬فقال‪« :‬لعلّك دخلك من شأن أبيك شيء؟»‬
‫فقال‪ :‬ال واهلل ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضالً‪ ،‬فكنت أرجو أن يهديه اهلل لإلسالم‪ ،‬فلما‬
‫رأيت ما مات عليه أحزنني ذلك‪ ،‬فدعا له الرسول عليه السالم بخير‪ ،‬ثم أمر عليه السالم ِ‬
‫براحلته ف ُش َّد‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫عليها حتى قام على َشفَ ِة القليب الذي رمي فيه المشركون‪ ،‬فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم‪« :‬يا‬
‫فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً‪،‬‬
‫أيسركم أنكم كنتم أطعتم اهلل ورسوله؟ ّ‬ ‫فالنبن فالن ويا فالنبن فالن ّ‬
‫فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟» فقال عمر‪ :‬يا رسول اهلل ما تُ َكلِّ ُم من أجساد ال أرواح فيها؟ فقال‪:‬‬
‫بأسم َع لما أقو ُل منهم»‪ .‬وتقولـ عائشة رضي اهلل عنها إنما قال‪« :‬إنهم‬ ‫نفس محمد بيده ما أنتم َ‬ ‫«والذي ُ‬
‫ِ‬ ‫ِإ‬
‫َأنت‬ ‫كنت أقول لهم حق»‪ ،‬ثم قرأت‪َّ :‬ن َك الَ تُ ْسمعُ اْل َم ْوتَى} (النمل‪َ )80 :‬‬
‫{و َمآ َ‬ ‫َأن ما ُ‬ ‫اآلن ليعلمون َّ‬
‫تبوؤوا مقاعدهم من النار»‪ .‬رواه‬ ‫ور} (فاطر‪ ،)22 :‬يقول‪« :‬يعلمون ذلك حينما ّ‬ ‫بِ ُم ْس ِم ٍع َّمن ِفى اْلقُُب ِ‬
‫البخاري‪ .‬ثم أرسل عليه السالم المبشرين‪ ،‬فأرسل عبد اللهبن رواحة ألهل العالية‪ ،‬وأرسل زيدبن‬
‫حارثة ألهل السافلة راكباً على ناقة رسول اهلل‪ ،‬وكان المنافقون والكفار من اليهود قد أرجفوا‬
‫الضراء‪ ،‬يقصدون بذلك فتنة‬
‫ّ‬ ‫بالرسول صلى اهلل عليه وسلم والمسلمين‪ ،‬عادة األعداء في إذاعة‬
‫سر أهل المدينة‪ ،‬وكان ذلك وقت انصرافهم من دفن رقية بنت‬
‫المسلمين‪ ،‬فجاء أولئك المبشرون بما ّ‬
‫رسول اهلل وزوج عثمان‪ .‬ثم قفل رسول اهلل راجعاً‪ ،‬وهنا وقع ُخلف بين بعض المسلمين في قسمة‬

‫الغنائم‪ ،‬فالشبان يقولون‪ :‬باشرنا القتال‪ ،‬فهي لنا خالصة‪ ،‬والشيوخ يقولون‪ :‬كنا ردءاً لكم فنشارككم‪.‬‬
‫ولما كان هذا االختالف مما يدعو إلى الضعف‪ ،‬ويزرع في القلوب العداوة والبغضاء المؤديين إلى‬
‫ال ُق ِل االنفَا ُل ِللَّ ِه‬
‫ون َك َع ِن االنفَ ِ‬
‫{ي ْسَألُ َ‬
‫تشتت الشمل أنزل اهلل حسماً لهذا الخالف أول سورة األنفال‪:‬ـ َ‬
‫ول فَاتَّقُوْا ( ) ‪( }1:‬األنفال‪ )1 :‬فسطع على أفئدتهم نور القرآن‪ ،‬فتألّفت بعد أن كادت تفترق‪،‬‬ ‫الرس ِ‬
‫َو َّ ُ‬
‫وتركوا أمر الغنائم لرسول اهلل يضعها كيف شاء ـ ـ كما حكم القرآن ـ ـ فقسمها عليه الصالة والسالم‬
‫على السواء الراجل مع الراجل‪ ،‬والفارس مع الفارس‪ ،‬وأدخل في األسهام بعض َم ْن لم يحضر ألمر‬
‫ُكلف به وهم‪ :‬أبو لُبابة األنصاري ألنه كان مخلَّفاً على أهل المدينة‪ ،‬والحارثبن حاطب ألن الرسول‬
‫وخ َّواتبن‬
‫الصمة َ‬
‫َّ‬ ‫عليه الصالة والسالم خلفه على بني عمروبن عوف ليحقّق أمراً بلغه‪ ،‬والحارثبن‬
‫اء فلم يتمكنا من السير‪ ،‬وطلحةبن عبيد اهلل‪ ،‬وسعيدبن زيد ألنهما ِ‬
‫ُأرسال‬ ‫بالروح ِ‬ ‫ِ‬
‫جبير ألنهما ُكسرا َّ ْ َ‬
‫يتجسسان األخبار‪ ،‬فلم يرجعا إال بعد انتهاء الحرب‪ ،‬وعثمانبن عفان ألن الرسول عليه السالم خلَّفه‬
‫رقية يمرضها‪ ،‬وعاصمبن عدي ألنه خلفه على أهل قُباء والعالية‪ ،‬وكذلك أسهم لمن قتل‬
‫على ابنته ّ‬
‫ببدر وهم أربعة عشر منهم ُعبيدةبن الحارثبن عبد المطلببن هاشم الذي ُجرح في المبارزة األولى‪،‬‬
‫فإنه رضي اهلل عنه مات عند رجوع المسلمين من بدر ودفن بالصَّفراء‪ .‬ولما قارب عليه السالم‬
‫المدينة تلقته الوالئد بالدفوف يقلن‪:‬‬

‫المطاع‬
‫داعأيها المبعوث فيناجئت باألمر ُ‬
‫ّ‬ ‫ثنيات الوداعوجب الشكر عليناما دعا هلل‬
‫طلع البدر علينامن ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫أسرى بدر‬

‫ولما دخلوا المدينة استشار عليه الصالة والسالم أصحابه فيما يفعل باألسرى‪ ،‬فقال عمربن الخطاب‪:‬‬
‫يا رسول اهلل قد ك ّذبوك وقاتلوك وأخرجوك فأرى أن ِّ‬
‫تمكنني من فالن ـ ـ لقريب له ـ ـ فأضرب عنقه‪،‬‬
‫مودة‬
‫وعلياً من أخيه عقيل‪ .‬وهكذا حتى يعلم الناس أنه ليس في قلوبنا ّ‬
‫وتمكن حمزة من أخيه العباس‪ّ ،‬‬
‫للمشركين‪ ،‬ما أرى أن تكون لك أسرى‪ ،‬فاضرب أعناقهم‪ ،‬هؤالء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم‪ .‬ووافقه‬
‫على ذلك سعدبن معاذ وعبد اللهبن رواحة‪ ،‬وقال أبو بكر‪ :‬يا رسول اهلل هؤالء أهلك وقومك قد‬
‫أعطاك اهلل الظفر والنصر عليهم‪ ،‬أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا‬
‫على الكفار‪ ،‬وعسى اهلل أن يهديهم بك فيكونوا لك عضداً‪ .‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬إن اهلل ُليلِّين‬
‫أشد من الحجارة‪ ،‬وإ ن‬
‫قلوب أقوام حتى تكون ألين من اللبن‪ ،‬وإ ن اهلل ليشدد قلوب أقوام حتى تكون ّ‬
‫ِ‬ ‫مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال‪ :‬فَمن تَبِعنِى فَِإ َّنه ِمّنى ومن ع ِ‬
‫يم} (إبراهيم‪:‬‬ ‫صانى فَِإ َّن َك َغفُ ٌ‬
‫ور َّرح ٌ‬ ‫ََْ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال ْر ِ‬
‫ض م َن اْل َكاف ِر َ‬
‫ين َديَّاراً} (نوح‪»)26 :‬‬ ‫ب الَ تَ َذ ْر َعلَى ا ْ‬
‫{ر ّ‬
‫‪ )36‬وإ ن مثلك يا عمر مثل نوح قال‪َّ :‬‬
‫ورأى عليه الصالة والسالم رأي أبي بكر بعد أن مدح كالًّ من الصاحبين ألن الوجهة واحدة وهي‬
‫إعزاز الدين‪ ،‬وخذالن المشركين‪ ،‬ثم قال ألصحابه‪« :‬أنتم اليوم عالة فال يفلتن أحد من أسراكم إال‬
‫بفداء» وقد بلغ قريشاً ما عزم عليه رسول اهلل في أمر األسرى‪ ،‬فناحت على القتلى شهراً‪ ،‬ثم أشير‬
‫وصمموا على‬
‫ّ‬ ‫عليهم من كبارهم أالّ يفعلوا كيال يبلغ محمداً وأصحابه جزعهم فيشمتوا بهم‪ ،‬فسكتوا‬
‫أال يبكوا قتالهم حتى يأخذوا بثأرهم‪ ،‬وتواصوا فيما بينهم أالّ يعجلوا في طلب الفداء لئال يتغالى‬
‫المسلمون فيه‪.‬‬

‫الفداء‬

‫فلم يلتفت إلى ذلك المطَّلببن أبي َو َداعة السهمي‪ ،‬وكان أبوه من األسرى‪ ،‬فخرج خفية حتى أتى‬
‫المدينة وفدى أباه بأربعة آالف درهم‪ ،‬وعند ذلك بعثت قريش في فداء أسراها‪ ،‬وكان أربعة آالف إلى‬
‫ألف درهم‪ ،‬ومن لم يكن معه فداء وهو يحسن القراءة والكتابة أعطوه عشرة من غلمان المدينة‬
‫فداءه‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫ُيعلمهم‪ ،‬وكان ذلك َ‬
‫ومن األسرى عمروبن أبي سفيان‪ ،‬ولما طُلب من أبيه فداؤه أبى‪ ،‬وقال‪ :‬واهلل ال يجمع محمد بين ابني‬
‫ومالي‪ ،‬دعوه يمسكوه في أيديهم ما بدا لهم‪ .‬فبينما أبو سفيان بمكة إذ وجد سعدبن النعمان األنصاري‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫معتمراً‪ ،‬فعدا عليه فحبسه بابنه عمرو‪ ،‬فمضى قوم سعد إلى رسول اهلل وأخبروه فأعطاهم َع ْمراً‬
‫فف ّكوا به سعداً‪.‬‬
‫ومن األسرى أبو العاصبن الربيع زوج زينب بنت الرسول‪ ،‬وكان عليه الصالة والسالم قد أثنى عليه‬
‫خيراً في مصاهرته‪ ،‬فإنه لما استحكمت العداوة بين قريش ورسول اهلل بمكة‪ ،‬طلبوا من أبي العاص‬
‫أن يطلِّق زينب كما فعل ابنا أبي لهب بابنتي الرسول‪ ،‬فامتنع وقال‪ :‬واهلل ال أفارق صاحبتي‪ ،‬وما‬
‫أحب أن لي بها امرأة من قريش‪ ،‬ولما ُأسر أرسلت زينب في فدائه ِقالدة لها كانت حلَّتها بها أمها‬
‫خديجة ليلة عرسها‪ .‬فلما رأى عليه الصالة والسالم تلك القالدة َر َّ‬
‫ق لها رقّة شديدة‪ ،‬وقال ألصحابه‪:‬‬
‫األصحاب بذلك‪ ،‬فأطلقه عليه‬
‫ُ‬ ‫وتردوا لها قالدتها فافعلوا» فرضي‬
‫ّ‬ ‫«إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها‬
‫ْ‬
‫الصالة والسالم بشرط أن يترك زينب تهاجر إلى المدينة‪ .‬فلما وصل إلى مكة أمرها باللحاق بأبيها‪،‬‬
‫رد‬
‫وكان الرسول أرسل لها من يأتي بها فاحتملوها‪ .‬هذا‪ ،‬ولما أسلم أبو العاصبن الربيع قبيل الفتح ّ‬
‫عليه امرأته بالنكاح األول‪.‬‬

‫ومن األسرى‪ُ :‬سهيلبن عمرو‪ ،‬وكان من خطباء قريش وفصحائها وطالما آذى المسلمين بلسانه‪ ،‬فقال‬
‫لسانهُ‪ ،‬فال يقوم عليك خطيباً في موطن‬
‫عمربن الخطاب‪َ :‬د ْعني يا رسول اهلل أنزع ثنيتي سهيل‪َ ،‬ي ْدلع ُ‬
‫تذمه»‬ ‫في َمثِّل اهلل بي وإ ن كنت ّ‬
‫نبياً‪ ،‬وعسى أن يقوم مقاماً ال ّ‬ ‫أبداً‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬ال ُأمثِّل ُ‬
‫ٍ‬
‫مقدار حبس نفسه بدله حتى جاء بالفداء‪ .‬هذا‪،‬‬ ‫وقدم بفدائه مكرزبن حفص‪ ،‬ولما ارتضى معهم على‬
‫وقد حقّق اهلل خبر الرسول في سهيل‪ ،‬فإنه لما مات عليه الصالة والسالم أراد أهل مكة االرتداد كما‬
‫فعل غيرهم من األعراب‪ ،‬فقام سهيل هذا خطيباً وقال بعد أن حمد اهلل وأثنى عليه وصلى على‬
‫حي ال يموت‬ ‫رسوله‪ :‬أيها الناس َم ْن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد اهلل فإن اهلل ٌّ‬
‫الر ُس ُل‬ ‫ون(‪َ )30‬و َما ُم َح َّم ٌد ِإالَّ َر ُسو ٌل قَ ْد َخلَ ْ‬
‫ت ِمن قَْبِل ِه ُّ‬ ‫ألم تعلموا أن اهلل قال‪ِ{ :‬إَّن َك َمّي ٌ‬
‫ت َوِإ َّنهُ ْم َّمّيتُ َ‬
‫َأعقَابِ ُك ْم} (آل عمران‪ )144 :‬ثم قال‪ :‬واهلل إني أعلم أن هذا الدين سيمتد‬ ‫ات َْأو قُتِ َل َ‬
‫انقلَْبتُ ْم َعلَى ْ‬ ‫َأفِإ ْين َّم َ‬
‫يغرنكم هذا ـ ـ يريد أبا سفيان ـ ـ من أنفسكم‪ ،‬فإنه يعلم من هذا األمر ما‬ ‫امتداد الشمس في طلوعها فال ّ‬
‫تامة‪،‬‬
‫ربكم‪ ،‬فإن دين اهلل قائم‪ ،‬وكلمته ّ‬ ‫أعلم لكنه قد ختم على صدره حسد بني هاشم‪ ،‬وتوكلوا على ّ‬
‫ومقو دينه‪ ،‬وقد جمعكم اهلل على خيركم ـ ـ يريد أبا بكر ـ ـ وإ ن ذلك لم يزد‬
‫ناصر من نصره َـ‬‫وإ ن اهلل ِ‬
‫عما كانوا عزموا عليه‪ ،‬وكان هذا‬ ‫اإلسالم إال قوة‪ ،‬فمن رأيناه ارتد ضربنا عنقه‪ .‬فتراجع الناس ّ‬
‫الخبر من معجزات نبينا صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫ي ورجع إلى مكة أسلم فقيل له‪ :‬هالّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬


‫ومن األسرى‪ :‬الوليدبن الوليد افتكه أخواه خالد وهشام‪ ،‬فلما ا ْفتُد َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ففر إلى النبي في‬ ‫أسلمت قبل ِ‬


‫يعدوا إسالمي خوفاً‪ .‬ولما أراد الهجرة منعه أخواه ّ‬
‫الفداء؟ فقال خفت أن ّ‬
‫عمرة القضاء‪.‬‬

‫ومن األسرى‪ :‬السائببن يزيد‪ ،‬وكان صاحب الراية في تلك الحرب‪ ،‬فدى نفسه‪ .‬وهو الجد الخامس‬
‫لإلمام محمدبن إدريس الشافعي‪.‬‬
‫الج َم ِح ّي كان أبوه عمير شيطاناً من شياطين قريش كثير اإليذاء لرسول اهلل‪،‬‬
‫ومنهم‪ :‬وهببن ُع َم ْي ٍر ُ‬
‫جلس يوماً بعد انتهاء هذه الحرب مع صفوانبن أمية يتذاكران ُمصاب بدر‪ ،‬فقال عمير‪ :‬واهلل لوال َد ْي ٌن‬
‫وعيال أخشى عليهم الفقر بعدي‪ ،‬كنت آتي محمداً فأقتله‪ ،‬فإن ابني أسير في‬ ‫علي ليس عندي قضاؤه ِ‬ ‫َّ‬
‫وسمه‪ ،‬وانطلق حتى‬
‫علي وعيالك مع عيالي‪ ،‬فأخذ ُعمير سيفه وشحذه ّ‬ ‫أيديهم‪ ،‬فقال صفوان‪َ :‬دينك ّ‬
‫قَِدم المدينة‪ ،‬فبينا عمر مع نفر من المسلمين إذ نظر إلى عمير متوشحاً سيفه‪ ،‬فقال‪ :‬هذا الكلب عدو‬
‫بشر‪ ،‬ثم قال للنبي عليه الصالة والسالم‪ :‬هذا عدو اهلل عمير قد جاء متوشحاً سيفه‪،‬‬
‫هلل ما جاء إال َ‬
‫علي»‪ .‬فأخذ عمر بحمائل سيفه وأدخله‪ .‬فلما رآه عليه الصالة والسالم قال‪« :‬أطلقه يا‬ ‫فقال‪« :‬أدخله ّ‬
‫عمر ادن يا عمير» فدنا‪ ،‬وقال‪ِ :‬‬
‫أنعموا صباحاً‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬قد أبدلنا اهلل تحية خيراً‬
‫من تحيتك وهي‪ :‬السالم»‪ ،‬ثم قال‪« :‬ما جاء بك يا عمير؟» قال‪ :‬جئت لهذا األسير الذي في أيديكم‬
‫فأحسنوا فيه‪ ،‬فقال‪« :‬فما با ُل السيف؟» قال‪ :‬قبَّحها اهلل من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال عليه‬
‫جئت له؟» قال‪ :‬ما جئت إال لذلك‪ .‬قال عليه الصالة والسالم‪:‬‬‫«اصدقني ما الذي َ‬‫ُ‬ ‫الصالة والسالم‪:‬‬
‫كنا نك ّذبك بما تأتي‬ ‫قعدت أنت وصفوانـ في ِ‬
‫الح ْج ِر وقلتما كيت وكيت»‪،‬ـ فأسلم ُعمير وقال‪ّ :‬‬ ‫َ‬ ‫«كال بل‬
‫به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي‪ ،‬وهذا أمر لم يحضره إال أنا وصفوان فقال عليه‬
‫الصالة والسالم‪« :‬فقّهوا أخاكم في دينه‪ ،‬وأقرئوه القرآن‪ ،‬وأطلقوا أسيره»‪ ،‬فعاد عمير إلى مكة‬
‫وأظهر إسالمه‪.‬‬

‫مر به أخوه فقال للذي أسره‪ُ :‬ش َّد يدك به‪،‬‬


‫ومن األسرى‪ :‬أبو عزيزبن عمير‪ ،‬أخو مصعببن عمير‪ّ .‬‬
‫فإن أمه ذات متاع لعلّها تفديه منك‪ .‬فقال له‪ :‬يا أخي هذه وصايتك بي؟ ثم بعثت أمه بفدائه أربعة‬
‫آالف درهم‪.‬‬
‫ومن األسرى‪ :‬العباسبن عبد المطلب َع ُّم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬كان قد خرج لهذه الحرب‬
‫عالم ندفع وقد‬
‫َ‬ ‫مكرهاً‪ ،‬ولما وقع في األسر طُلب منه فداء نفسه وابن أخيه عقيلبن أبي طالب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫استكرهنا على الخروج؟ فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬لقد كنت في الظاهر علينا»‪ ،‬فُأخذت منه فديه‬
‫نفسه وابن أخيه‪ ،‬ثم قال للرسول‪ :‬لقد تركتني فقير قريش ما بقيت‪ ،‬قال‪« :‬كيف وقد تركت ُألم الفضل‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫مت فقد تركتك غنية» فقال العباس‪ :‬واهلل ما اطلّع على ذلك أحد‪ .‬وهذا العمل‬ ‫وقلت لها‪ :‬إن ُّ‬ ‫َ‬ ‫أمواالً؟‬
‫عمه مع علمه بأنه إنما خرج‬ ‫عف َّ‬ ‫غاية ما يفعل من العدل والمساواة فإنه عليه الصالة والسالم لم ي ِ‬
‫ُ‬
‫ُمكرهاً‪ ،‬وقد أعفى غيره جماعة تحقق له فقرهم فهكذا العدل‪ ،‬وال غرابة‪ ،‬فذلك أدب قوله تعالى‪:‬‬
‫امين بِاْلِقس ِط ُشه َدآء للَّ ِه ولَو علَى َأنفُ ِس ُكم َِأو اْل ِ‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ال ْق َربِ َ‬
‫ين} (النساء‪:‬‬ ‫وال َد ْي ِن َوا ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ونوْا قَ َّو َ‬
‫ءامُنوْا ُك ُ‬
‫ين َ‬ ‫{يَأيُّهَا الذ َ‬
‫َ‬
‫‪.)135‬‬

‫ومن األسرى‪ :‬أبو َع َّزة ُ‬


‫الج َمحي الشاعر‪ ،‬كان شديد اإليذاء لرسول اهلل بمكة فلما ُأسر قال‪ :‬يا محمد‬
‫فامُن ْن‪َّ ،‬‬
‫فمن عليه فضالً منه‪.‬‬ ‫إني فقير‪ ،‬وذو عيال‪ ،‬وذو حاجة قد عرفتها ْ‬

‫العتاب في الفداء‬
‫ون‬ ‫ض تُِر ُ‬
‫يد َ‬ ‫َأس َرى َحتَّى ُيثْ ِخ َن ِفي ا ْ‬
‫ال ْر ِ‬ ‫ون لَهُ ْ‬
‫ولما تَ َّم الفداء أنزل اهلل في شأنه‪{ :‬ما َك ِ‬
‫ان لَنبِ ٍّى َأن َي ُك َ‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫اب ّم َن اللَّ ِه َسَب َ‬
‫يم لَّ ْوالَ ِكتَ ٌ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫يد ا ْ ِ‬
‫الد ْنَيا َواللَّهُ ُي ِر ُ‬
‫ض ُّ‬
‫اب‬
‫َأخ ْذتُ ْم َع َذ ٌ‬
‫يمآ َ‬
‫ق لَ َم َّس ُك ْم ف َ‬ ‫الخ َرةَ َواللهُ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬ ‫َع َر َ‬
‫يم(‪)68‬‬ ‫ِ‬
‫َعظ ٌ‬

‫يصدون عن سبيل اهلل ويمنعون دين اهلل من‬


‫نهى سبحانه عن اتخاذ األسرى قبل اإلثخان في قتل الذين ّ‬
‫بعض المسلمين على إرادة َع َر ِ‬
‫ض الدنيا وهو الفدية‪ ،‬ولوال حكم سابق من اهلل أال‬ ‫وعاب َ‬
‫َ‬ ‫االنتشار‪،‬‬
‫ب مجتهداً على اجتهاده ما دام المقصد خيراً لكان العذاب‪ ،‬ثم َأباح لهم األكل من تلك الفدية المبني‬ ‫ِ‬
‫ُي َعاق َ‬
‫نبينا عليه الصالة والسالم فيما جاء به‪،‬‬
‫أخذها على النظر الصحيح‪ .‬وهذا من أقوى األدلة على صدق ّ‬
‫بناء على رأي كثير من الصحابة‪ .‬وقد وعد‬ ‫ألنه لو كان من عنده ما كان يعاتب نفسه على عمل عمله ً‬
‫النبِ ُّى ُقل‬
‫ُأخ َذ منهم ويغفر لهم فقال‪َ :‬ياَأيُّهَا َّ‬ ‫اهلل األسرى الذين يعلم في قلوبهم خيراً بأن يؤتيهم خيراً مما ِ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫لّ َمن ِفى َْأي ِدي ُكم ّم َن ا ْ‬
‫ال ْس َرى ِإن َي ْعلَِم اللهُ في ُقلُوبِ ُك ْم َخْيراً يُْؤ تِ ُك ْم َخْيراً ّم َّمآ ُأخ َذ من ُك ْم َوَي ْغف ْر لَ ُك ْم َواللهُ‬
‫يم(‪)70‬‬ ‫ِ‬
‫ور َّرح ٌ‬ ‫َغفُ ٌ‬
‫وخرب محله‪ ،‬مع قلّة‬ ‫وقوى أهله‪ ،‬ودمغ فيه الشرك ّ‬ ‫أعز اهلل بها اإلسالم ّ‬ ‫وهذه الغزوة هي التي ّ‬
‫المسلمين وكثرة عدوهم‪ ،‬فهي آية ظاهرة على عناية اهلل تعالى باإلسالم وأهله مع ما كان عليه العدو‬
‫المسومة‪ ،‬والخيالء الزائدة‪ ،‬ولذلك قال اهلل ممتناً على‬
‫َّ‬ ‫والعدة الكاملة‪ ،‬والخيل‬ ‫ّ‬ ‫من القوة بسوابغ الحديد‬
‫ص َر ُك ُم اللَّهُ بَِب ْد ٍر َوَأنتُ ْم َِأذلَّةٌ} (آل عمران‪ )123 :‬أي‪ :‬قليل عددكم‪ ،‬لتعلموا‬
‫عباده بهذا النصر‪َ :‬ولَقَ ْد َن َ‬
‫أن النصر إنما هو من عند اهلل‪ ،‬فهي أعظم غزوات اإلسالم‪ ،‬إذ بها كان ظهوره‪ ،‬وبعد وقوعها أشرق‬
‫األلداء لإلسالم‪ ،‬ودخل الرعب‬
‫على اآلفاق نوره‪ ،‬فقد قتل فيها من صناديد قريش من كانوا األعداء ّ‬
‫في قلوب العرب اآلخرين‪ ،‬فكانت للمسلمين هيبة بها يكسرون الجيوش‪ ،‬ويهزمون الرجال‪ ،‬فال َجَر َم‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫العلي األعلى على هذه العناية‪ ،‬واتخذنا يوم النصر في بدر وهو السابع عشر من شهر‬
‫َّ‬ ‫أن شكرنا‬
‫رمضان عيداً نتذكر فيه نعمة اهلل على رسوله وعلى المسلمين‪.‬‬

‫غزوة بني قَ ُينقاع‬


‫عدوان فانتصر على أحدهما َحَّرك ذلك شجو اآلخر‪ ،‬وهاج فؤاده‪ ،‬فتبدو‬
‫هذا‪ ،‬وإ ذا كان للشخص َّ‬
‫بغضاؤه غير مكترث بعاقبة عدائه‪ ،‬وهذا ما حصل من يهود بني قينقاع عند تمام الظفر في بدر‪،‬‬
‫فإنهم نبذوا ما عاهدوا المسلمين عليه‪ ،‬وأظهروا مكنون ضمائرهم‪ ،‬فبدت البغضاء من أفواههم‪،‬‬
‫للتحرز منهم وعدم ائتمانهم في‬
‫وانتهكوا حرمة سيدة من نساء األنصار‪ ،‬وهذا ما يدعو المسلمين ّ‬
‫{وِإ َّما‬
‫شبت الحرب في المدينة بين المسلمين وغيرهم‪ ،‬فأنزل اهلل في سورة األنفال‪:‬ـ َ‬ ‫المستقبل إذا ّ‬
‫ين} (األنفال‪ )58 :‬فدعا عليه الصالة‬ ‫ب َ ِئ ِ‬
‫تَ َخافَ َّن ِمن قَ ْوٍم ِخَي َانةً فَانبِ ْذِإلَْي ِه ْم َعلَى َس َوآء ِإ َّن اللَّهَ الَ ُي ِح ُّ‬
‫الخا ن َ‬
‫يغرنك ما لقيت من قومك‬ ‫والسالم رؤساءهم وح ّذرهم عاقبة البغي ونكث العهد‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا محمد ال ّ‬
‫تعلمن ّأنا نحن الناس‪ ،‬وكانوا أشجع يهود‪ ،‬فأنزل اهلل في سورة آل‬ ‫فإنهم ال علم لهم بالحرب ولو لقيتنا لَ َ‬
‫ءايةٌ ِفي ِفَئتَْي ِن‬ ‫ان لَ ُك ْم َ‬ ‫اد(‪ )12‬قَ ْد َك َ‬ ‫ون ِإلَى َجهََّن َم َوبِْئ َس اْل ِمهَ ُ‬ ‫ون َوتُ ْح َش ُر َ‬ ‫ين َكفَ ُروْا َستُ ْغلَُب َ‬
‫َِّ‬
‫عمران‪ُ :‬ق ْل لّلذ َ‬
‫ص ِر ِه َمن َي َشآء ِإ َّن‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫يل اللَّ ِه َو ْ‬‫اْلتَقَتَا ِفَئةٌ تُقَاتِ ُل ِفى سبِ ِ‬
‫ْأى اْل َع ْي ِن َواللهُ ُيَؤ ّي ُد بَِن ْ‬
‫ُأخ َرى َكاف َرةٌ َي َر ْوَنهُ ْم ّمثْلَْي ِه ْم َر َ‬ ‫َ‬
‫ضهُ ْم‬ ‫ص َارى َْأوِلَيآء َب ْع ُ‬ ‫الن َ‬‫ود َو َّ‬‫ءامُنوْا الَ تَتَّ ِخ ُذوْا اْلَيهُ َ‬‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫ص ِار(‪َ )13‬يَأيُّهَا الذ َ‬ ‫ذال َك لَ ِع ْب َرةً ِال ْوِلى ا ْ‬
‫ال ْب َ‬
‫ِفى ِ‬
‫ين ِفى ُقلُوبِ ِهم‬ ‫َِّ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ين(‪ )51‬فَتََرى الذ َ‬ ‫ض َو َمن َيتََولهُ ْم ّمن ُك ْم فَِإ َّنهُ م ْنهُ ْم ِإ َّن اللهَ الَ َي ْهدى اْلقَ ْو َم الظالم َ‬ ‫َْأوِلَيآء َب ْع ٍ‬
‫َأم ٍر ّم ْن ِع ِند ِه‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِئ‬ ‫ِ‬
‫ون َن ْخ َشى َأن تُص َيبَنا َدآ َرةٌ فَ َع َسى اللهُ َأن َيْأت َى بِاْلفَتْ ِح َْأو ْ‬
‫ض يس ِارع ِ‬
‫ون في ِه ْم َيقُولُ َ‬‫َّم َر ٌ ُ َ ُ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين} (المائدة‪ 51 :‬ـ ـ ‪.)52‬‬ ‫َأس ُّروْا فى َأنفُس ِه ْم َنادم َ‬‫صبِ ُحوْا َعلَى َمآ َ‬ ‫فَُي ْ‬

‫وعندما تظاهر يهود قينقاع بالعداوة وتحصنوا بحصونهم‪ ،‬سار إليهم عليه الصالة والسالم في نصف‬
‫شوال من هذه السنة‪ ،‬يحمل لواءه عمه حمزة‪ ،‬وخلَّف على المدينة أبا لبابة األنصاري‪ ،‬فحاصرهم‬
‫خمس عشرة ليلة‪.‬‬

‫جالء بني قينقاع‬


‫ولما رأوا من أنفسهم العجز عن مقاومة المسلمين‪ ،‬وأدركهم الرعب‪ ،‬سألوا رسول اهلل أن يخلي‬
‫والذرية‪ ،‬وللمسلمين األموال‪ .‬فقَبِل ذلك عليه الصالة‬
‫ّ‬ ‫سبيلهم‪ ،‬فيخرجوا من المدينة ولهم النساء‬
‫ووكل بجالئهم عبادةبن الصامت وأمهلهم ثالث ٍ‬
‫ليال‪ ،‬فذهبوا إلى َأ ْذرعات‪ ،‬ولم يحل عليهم‬ ‫والسالم‪َّ ،‬‬
‫وخمس عليه الصالة والسالم أموالهم‪ ،‬وأعطى سهم ذوي القربى لبني هاشم‬
‫الح ْول حتى هلكوا‪َّ ،‬‬
‫َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ولبني المطلب دون بني أخويهما عبد شمس ونوفل‪ ،‬ولما ُسِئل عن ذلك قال‪« :‬إنما بنو هاشم وبنو‬
‫المطلب شيء واحد في الجاهلية واإلسالم هكذا»‪ ،‬وشبك بين أصابعه‪.‬‬

‫غزوة السَّويق‬
‫يمس رأسه الماء‬
‫كان أبو سفيان متهيجاً‪ ،‬ألنه لم يشهد بدراً التي قتل فيها ابنه وذوو قرباه فحلف أالّ ّ‬
‫قاربها‪ ،‬أراد أن يقابل‬
‫وليبر بقسمه خرج بمائتين من أصحابه يريد المدينة‪ ،‬ولما َ‬
‫حتى يغزو محمداً‪ّ ،‬‬
‫طب فلم‬ ‫َأخ َ‬
‫اليهود من بني النضير ليهيجهم‪ ،‬ويستعين بهم على حرب المسلمين‪ ،‬فأتى سيدهم ُحَييَّبن ْ‬
‫يرض مقابلته‪ ،‬فأتى َسالّمبن ِم ْشكم فأذن له واجتمع به‪ ،‬ثم خرج من عنده‪ ،‬وأرسل رجاالً من قريش‬
‫َ‬
‫فحرقوا في بعض نخلها‪ ،‬ووجدوا أنصارياً فقتلوه‪ ،‬ولما علم بذلك رسول اهلل‪ ،‬خرج في‬ ‫إلى المدينة‪َّ ،‬‬
‫أثرهم في مائتين من أصحابه‪ ،‬لخمس َخلَون من ذي الحجة‪ ،‬بعد أن ولّى على المدينة َب ِشيربن عبد‬
‫المنذر‪ ،‬ولكن لم يلحقهم‪ ،‬ألنهم هربوا وجعلوا يخفّفون ما يحملونه ليكونوا أقدر على اإلسراع‪ ،‬فألقوا‬
‫َّويق‪ ،‬فأخذه المسلمون‪ ،‬ولذلك سميت هذه الغزوة بغزوة الس ِ‬
‫َّويق‪.‬‬ ‫ِ‬
‫جرب الس ِ‬ ‫ما معهم من‬
‫صالة العيد‬

‫سنة عظيمة‪ ،‬بها يتمكن أبناء البلد الواحد من المسلمين أن‬


‫سن اهلل للعالم اإلسالمي ّ‬
‫وفي هذا العام ّ‬
‫يجددوا عهود اِإل خاء‪ ،‬ويقوواـ ُعروة الدين الوثقى‪ ،‬وهي االجتماع في يومي عيد الفطر وعيد‬
‫األضحى‪ .‬وكان عليه الصالة والسالم يجمع المسلمين في صعيد واحد‪ ،‬ويصلي بهم ركعتين تضرعاً‬
‫َّ‬
‫حاضاً لهم على االئتالف‪،‬‬ ‫صم عروتهم‪ ،‬وأن ينصرهم على عدوهم‪ ،‬ثم يخطبهم‬‫إلى اهلل أن ال ي ْف ِ‬
‫َ‬
‫ومذكراً لهم ما يجب عليهم ألنفسهم‪ ،‬ثم يصافح المسلمون بعضهم بعضاً‪ ،‬وبعد ذلك يخرجون ألداء‬
‫عاماً لجميع المسلمين‪ ،‬فبعد الفطر زكاته‪ ،‬وبعد‬
‫الصدقات للفقراء والمساكين‪ ،‬حتّى يكون السرور ّ‬
‫األضحى تضحيته‪ ،‬نسأله تعالى أن يؤلّف بين قلوبنا‪ ،‬ويوفّقنا ألعمال سلفنا‪.‬‬

‫زواج علي بفاطمة عليهما السالم‬


‫وفي هذه السنة تزوج عليبن أبي طالب وعمره إحدى وعشرون سنة بفاطمة بنت رسول اهلل‪ ،‬وسنها‬
‫خمس عشرة سنة‪ ،‬وكان منها عقب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بنوه‪ :‬الحسن والحسين وزينب‪.‬‬
‫وفيها دخل عليه الصالة والسالم بعائشة بنت أبي بكر ِ‬
‫وسُّنها إذ ذاك تسع سنوات‪.‬‬
‫السَّنة الثّ ِالثَة‬
‫رداء‪ ،‬والخيانة شعاراً‪ ،‬فال‬
‫يا هلل ُيقضى على الشقي بالشقاوة حتى ال يسمع وال يبصر‪ ،‬فيتخذ الغدر ً‬
‫شره‪ .‬هذا كعببن األشرف اليهودي عظيم بني النضير‪ ،‬أعمته عداوة‬
‫ينجح معه إال إراحة العالم من ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫خلع ُبرقُع الحياء‪ ،‬وصار يحرض قريشاً على حرب رسول اهلل‪ ،‬ويهجوه بالشعر‪،‬‬
‫المسلمين حتى َ‬
‫الشقي بما‬
‫ُّ‬ ‫ويجتهد في إثارة الشحناء بين المسلمين‪ ،‬فكلما جبر عليه الصالة والسالم كسراً هاضه هذا‬
‫ينفثه من سموم لسانه‪.‬‬

‫قتل كعببن األشرف‬

‫نين في الحبال خرج إلى قريش يبكي قتالهم‬


‫مقر َ‬
‫ولما انتصر المسلمون ببدر‪ ،‬ورأى األسرى َّ‬
‫ويحرضهُم على حرب المسلمين‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬من لكعببن األشرف‪ ،‬فإنه قد آذى اهلل‬
‫ِّ‬
‫ورسوله؟» فقال محمدبن مسلمة األنصاري األوسي‪ِ :‬‬
‫أتح ُّ‬
‫ب أن أقتله؟ قال‪« :‬نعم»‪ ،‬قال‪ :‬أنا لك به‪،‬‬
‫وائذن لي أقول شيئاً أتمكن به‪ ،‬فأذن له‪ ،‬ثم خرج ومعه أربعة من قومه حتى أتى كعباً فقال له‪ :‬إن هذا‬
‫ْ‬
‫الرجل ـ ـ يريد رسول اهلل ـ ـ قد سألنا صدقة وإ نه قد َعَّنانا‪ ،‬وإ ني قد أتيتك أستسلفك‪ ،‬قال‪ :‬وأيضاً واهلل‬
‫أي شيء يصير شأنه‪ ،‬وقد أردنا أن‬
‫نحب أن ندعه حتى ننظر إلى ّ‬ ‫لتملّنهُ‪ ،‬قال‪ :‬إنا قد اتّبعناه‪ ،‬فال ُّ‬
‫وسقاً أو وسقين‪ .‬قال‪ :‬نعم ولكن ْار َهُنوني‪ .‬قالوا‪ :‬أي شيء تُريد؟ قال‪ :‬ارهنوني نساءكم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫تُ ْسلفنا ْ‬
‫قالوا‪ :‬كيف َن ْر َهُنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال‪ :‬فارهنوني أبناءكم‪ .‬قالوا‪ :‬كيف نرهنك أبناءنا‬
‫الْألمةَ ـ ـ يعني‪ :‬السالح ـ ـ‬
‫ب أحدهم‪ ،‬فيقال‪ُ :‬رهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا‪ ،‬ولكن نرهنك َ‬ ‫فَُي َس ُّ‬
‫فرضي‪ ،‬فواعده ليالً أن يأتيه فجاءه ليالً ومعه أبو نائلة أخو كعب من الرضاع وعبَّادبن بِشر‪،‬‬
‫ينزل‪ ،‬فقالت‬
‫أوسيون ـ ـ فناداه محمدبن مسلمة‪ ،‬فأراد أن َ‬
‫ابن َجْبر ـ ـ وكلهم ّ‬
‫والحارثبن أوس‪ ،‬وأبو عبس ُ‬
‫له امرأته‪ :‬أين تخرج الساعة وإ نك امرؤ ُمحارب؟ فقال‪ :‬إنما هو ابن أخي محمدبن مسلمة ورضيعي‬
‫أبو نائلة‪ ،‬إن الكريم لو ُدعي إلى طعنة بليل ألجاب‪ .‬ثم قال محمد لمن معه‪ :‬إذا جاءني فإني آخذ‬
‫ِّ‬
‫متوشحاً سيفه‪ ،‬وهو‬ ‫بشعره فأ َش ُّمهُ‪ ،‬فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فاضربوه‪ ،‬فنزل إليهم كعب‬
‫َأشم رأسك؟ قال‪ :‬نعم‬
‫َي ْنفَ ُح منه ريح المسك‪ .‬فقال محمد‪ :‬ما رأيت كاليوم ريحاً أطيب‪ ،‬أتأذن لي أن َّ‬
‫فشمه‪ ،‬فلما استمكن منه قال‪ :‬دونكم فاقتلوه ففعلوا‪ ،‬وأراح اهلل المسلمين من شر أعماله التي كان‬
‫َّ‬
‫يقصدها بهم‪ ،‬ثم أتوا النبي فأخبروه‪ ،‬وكان قتل هذا الشقي في ربيع األول من هذا العام‪ ،‬وكان عليه‬
‫الصالة‬

‫والسالم إذا رأى من رئيس غدراً‪ ،‬ومقاصد سوء‪ ،‬ومحبة إلثارة الحرب‪ ،‬أرسل له من ُيريحه من‬
‫شره‪ .‬وقد فعل كذلك مع أبي َعفَك اليهودي وكان مثل كعب في الشر‪.‬‬
‫ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫طفَان‬
‫غزوة َغ َ‬
‫بلغ رسول اهلل أن بني ثعلبة ومحارب من غطفان تجمعوا برياسة رئيس منهم اسمه ُد ْعثُور‪ ،‬يريدون‬
‫الغارة على المدينة‪ ،‬فأراد عليه الصالة والسالم أن َي ُغ َّل أيديهم كيال يتمكنوا من هذا االعتداء‪ ،‬فخرج‬
‫إليهم من المدينة في أربعمائة وخمسين رجالً الثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع األول‪ ،‬وخلف على‬
‫المدينة عثمانبن عفان‪ .‬ولما سمعوا بسير رسول اهلل هربوا إلى رؤوس الجبال‪ ،‬ولم َي َزل المسلمون‬
‫َأم َّر‪ ،‬فعسكروا به‪ ،‬وحدث أنه عليه الصالة والسالم نزع ثوبه‬
‫سائرين حتى وصلوا ماء ُيسمى ذا َ‬
‫يجفِّفه من مطر بلَّله وارتاح تحت شجرة والمسلمون متفرقون‪ ،‬فأبصره ُدعثور فأقبل إليه بسيفه حتى‬
‫ورعب أسقطا‬
‫ٌ‬ ‫وقف على رأسه‪ ،‬وقال‪َ :‬م ْن يمنعك مني يا محمد؟ فقال‪« :‬اهلل»‪ ،‬فأدركت الرجل هيبةٌ‬
‫«م ْن يمنعك مني»؟ قال‪ :‬ال أحد‪ .‬فعفا‬
‫السيف من يده‪ ،‬فتناوله عليه الصالة والسالم‪ ،‬وقال لدعثور‪َ :‬‬
‫جمع الناس لحربه إلى‬ ‫وحول اهلل قلبه من عداوة رسول اهلل‪َ ،‬و ْ‬ ‫عنه فأسلم الرجل‪ ،‬ودعا قومه لإلسالم‪ّ ،‬‬
‫يه َمن َي َشآء} (المائدة‪ )54 :‬وهذا ما ينتجه حسن‬ ‫ض ُل اللَّ ِه ي تِ ِ‬ ‫محبته وجمع الناس له‪ِ ،‬‬
‫{ذال َك فَ ْ‬
‫ُْؤ‬
‫ظاً َغِلي َ‬
‫ظ اْل َقْل ِب‬ ‫ت فَ ّ‬ ‫المعاملة‪ ،‬والبعد عن الفظاظة وغلظ القلب‪{ ،‬فَبِ َما َر ْح َم ٍة ّم َن اللَّ ِه ِل َ‬
‫نت لَهُ ْم َولَ ْو ُك ْن َ‬
‫ال ْم ِر} (آل عمران‪.)159 :‬‬ ‫استَ ْغِف ْر لَهُ ْم َو َش ِاو ْر ُه ْم ِفى ا ْ‬
‫ف َع ْنهُ ْم َو ْ‬ ‫الَْنفَضُّوْا ِم ْن َح ْوِل َك فَ ْ‬
‫اع ُ‬

‫غزوة ُب ْحران‬
‫بلغه عليه الصالة والسالم أن جمعاً من بني ُسليم يريدون الغارة على المدينة‪ ،‬فسار إليهم في ثالثمائة‬
‫ت َخلَون من جمادى األولى‪ ،‬وخلَّف على المدينة ابن أم مكتوم‪ ،‬ولما وصل ُبحران‬ ‫من أصحابه ِل ِس َ‬
‫تفرقوا‪ ،‬ولم يلق كيداً فرجع‪.‬‬

‫سرية‬
‫لما تيقنت قريش أن طريق الشام من جهة المدينة ُأغلق في وجه تجارتهم‪ ،‬وال يمكنهم الصبر عنها‬
‫ألن بها حياتهم‪ ،‬أرسلوا ِعيراً إلى الشام من طريق العراق‪ ،‬وكان فيها جمع من قريش منهم أبو‬
‫سفيانبن حرب‪ ،‬وصفوانبن أمية‪ ،‬وحويطببن عبد العزى‪ ،‬فجاءت أخبارهم لرسول اهلل‪ ،‬فأرسل لهم‬
‫زيدبن حارثة في مائة راكب يترقبونهم‪ ،‬وكان ذلك في جمادى اآلخرة‪ ،‬فسارت السرية حتى لقيت‬
‫خمس الرسول‬ ‫العير على ماء اسمه القَر َدة بناحية نجد فأخذت ِ‬
‫العير وما فيها‪ ،‬وهرب الرجال‪ ،‬وقد َّ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬
‫عليه الصالة والسالم هذه حينما وصلت له‪.‬‬

‫ُأحد‬
‫غزوة ُ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وُأغِلقت في وجوههم طرق التجارة‪ ،‬اجتمع َم ْن بقي من أشرافهم‬


‫أصاب قريشاً ما أصابها ببدر‪ْ ،‬‬
‫َ‬ ‫ولما‬
‫إلى أبي سفيان رئيس تلك العير التي جلبت عليهم المصائب‪ ،‬وكانت موقوفة بدار الندوة‪ ،‬ولم تكن‬
‫نترك ربح أموالنا‬
‫َ‬ ‫ُسلِّمت ألصحابها بعد‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن محمداً قد َوتَرنا‪ ،‬وقتل خيارنا‪ ،‬وإ ّنا رضينا أن‬
‫وكان ربحها نحواً‬
‫كل من له فيها نصيب‪َ ،‬‬ ‫فيها‪ ،‬استعداداً لحرب محمد وأصحابه‪ ،‬وقد رضي بذلك ُّ‬
‫من خمسين ألف دينار‪ ،‬فجمعوا لذلك الرجال‪ ،‬فاجتمع من قريش ثالثة آالف رجل ومعهم األحابيش ـ ـ‬
‫طلق وبني الهونبن خزيمة‪ ،‬ومعهم أبو عامر الراهب األوسي‪ ،‬وكان قد‬
‫المص َ‬
‫ْ‬ ‫وهم حلفاؤهم من بني‬
‫ممن هم على شاكلته‪ ،‬وخرج معهم‬ ‫فارق المدينة كراهية لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ومعه عدد ّ‬
‫جماعات من أعراب ِكنانة وتهامة‪ ،‬وقال صفوانبن أمية ألبي َع ّزةَ الشاعر ـ ـ الذي ال ينسى القارىء‬
‫أن الرسول م َّن عليه ببدر وأطلقه من غير فداء ـ ــ‪ :‬إنك رجل شاعر ِ‬
‫فأعّنا بلسانك‪ ،‬فقال‪ :‬إني عاهدت‬ ‫َ‬
‫وقعت في يده مرة ثانية أال أنجو‪ ،‬فلم يزل به صفوان حتى أطاعه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أعين عليه‪ ،‬وأخاف إن‬‫محمداً أالّ ِ‬
‫ط ِعٍم غالماً حبشياً له‪ ،‬اسمه َوحشي‪ ،‬وكان‬
‫وذهب يستنفر الناس لحرب المسلمين‪ ،‬ودعا ُجبيربن ُم ْ‬
‫بعمي طُ َع ْيمة فأنت حر‪ .‬ثم خرج‬
‫رامياً قلّما ُيخطىء‪ ،‬فقال له‪ :‬اخرج مع الناس‪ ،‬فإن أنت قتلت حمزة ِّ‬
‫األشراف منهم نساءهم كيال‬ ‫يان والدفوف والمعازف والخمور‪ ،‬واصطحب‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫الجيش‪ ،‬ومعهم الق ُ‬
‫الحلَيفة‪.‬‬
‫ينهزموا‪ ،‬ولم يزالوا سائرين حتى نزلوا مقابل المدينة بذي ُ‬

‫أما رسول اهلل عليه الصالة والسالم‪ ،‬فكان قد بلغه الخبر من كتاب بعث به إليه عمه العباسبن عبد‬
‫محتجاً بما أصابه يوم بدر‪ .‬ولما وصلت‬
‫ّ‬ ‫المطلب‪ ،‬الذي لم يخرج مع المشركين في هذه الحرب‪،‬‬
‫األخبار باقتراب المشركين‪ ،‬جمع عليه الصالة والسالم أصحابه وأخبرهم الخبر‪ ،‬وقال‪« :‬إن رأيتم‬
‫أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن هم أقاموا أقاموا بشر مقام‪ ،‬وإ ن هم دخلوا علينا قاتلناهم»‬
‫ُأبي‪ ،‬أما األحداث وخصوصاً‬
‫فكان مع رأيه شيوخ المهاجرين واألنصار ورأى ذلك أيضاً عبد اللهبن ّ‬
‫َم ْن لم يشهد بدراً منهم فأشاروا عليه بالخروج‪ ،‬وكان مع رأيهم حمزةبن عبد المطلب‪ ،‬وما زال‬
‫هؤالء بالرسول حتى تبع رأيهم‪ ،‬ألنهم األكثرون عدداً واألقوونـ جلداً‪ ،‬فصلى الجمعة بالناس في‬
‫وحضهم في خطبتها على الثبات والصبر وقال لهم‪« :‬لكم النصر ما‬
‫ّ‬ ‫يومها لعشر َخلَون من شوال‪،‬‬
‫عدته‪ ،‬فظاهر بين درعين‪ ،‬وتقلد السيف‪ ،‬وألقى الترس وراء ظهره‪.‬‬
‫صبرتم» ثم دخل حجرته‪ ،‬ولبس ّ‬
‫ولما رأى ذوو الرأي من األنصار أن األحداث استكرهوا الرسول على الخروج الموهم‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫َّ‬
‫ردوا األمر لرسول اهلل‪ ،‬فما أمر ائتمرنا‪ ،‬فلما خرج عليه الصالة والسالم‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل َنتبعُ‬
‫ّ‬
‫رأيك‪ ،‬فقال‪« :‬ما كان لنبي لَبِ َس سالحه أن يضعه حتى يحكم اهلل بينه وبين أعدائه» ثم عقد األلوية‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫للحباببن المنذر‪ ،‬ولواء األوس ُألسيدبن‬


‫فأعطى لواء المهاجرين لمصعببن عمير‪ ،‬ولواء الخزرج ُ‬
‫الحضير‪ ،‬وخرج من المدينة بألف رجل‪ .‬فلما وصلوا رأس الثنية‪ ،‬نظر عليه الصالة والسالم إلى‬
‫«إنا ال نستعين بكافر‬
‫ُأبي من اليهود‪ ،‬فقال‪ّ :‬‬
‫كتيبة كبيرة‪ ،‬فسأل عنها‪ ،‬فقيل‪ :‬هؤالء حلفاء عبد اللهبن ّ‬
‫بردهم ألنه ال يأمن جانبهم من حيث لهم اليد الطُولى في الخيانة‪ g.‬ثم استعرض‬
‫على مشرك» وأمر ّ‬
‫وس ُم َرةبن ُجندب‪ ،‬ثم أجاز رافعاً لما قيل له‬
‫رد‪ :‬رافعبن خديج‪َ ،‬‬
‫فرد من استصغر‪ ،‬وكان فيمن ّ‬‫الجيش َّ‬
‫وردني مع‬ ‫إنه ٍ‬
‫رام‪ ،‬فبكى َس ُمرة‪ ،‬وقال لزوج أمه‪ :‬أجاز رسول اهلل رافعاً ّ‬

‫أني أصرعه‪ ،‬فبلغ رسول اهلل الخبر‪ ،‬فأمرهما بالمصارعة‪ ،‬فكان الغالب سمرة‪ ،‬فأجازه‪ .‬ثم بات عليه‬
‫الصالة والسالم محله ليلة السبت‪ ،‬واستعمل على حرس الجيش محمدبن مسلمة‪ ،‬وعلى حرسه‬
‫ُأحد‬ ‫الخاص ذكوانبن عبد قيس‪ .‬وفي السَّحر سار الجيش حتى إذا كان َّ ِ‬
‫بالش ْوط ـ ـ وهو بستان بين ُ‬ ‫َ‬
‫والمدينة ـ ـ رجع عبد اللهبن َُأبي بثالثمائة من أصحابه وقال‪ :‬عصاني وأطاع ِ‬
‫الوْلدان فعالم نقتل‬ ‫َ‬
‫أنفسنا؟ فتبعهم عبد اللهبن عمرو والد جابر‪ ،‬وقال‪ :‬يا قوم ُأ َذ ِّكر ُك ُم اهلل أال تخذلوا قومكم ّ‬
‫ونبيكم‪{ ،‬قَالُوْا‬
‫َّ‬
‫نبيه‪ .‬ولما فعل‬ ‫لَ ْو َن ْعلَ ُم ِقتَاالً التََّب ْعَنا ُك ْم} (آل عمران‪ )167 :‬فقال لهم‪َْ :‬أب َع َد ُكم اهلل‪ ،‬فسيغني اهلل عنكم ّ‬
‫همت طائفتان من المؤمنين أن تفشال‪ :‬بنو حارثة من األوس‪ ،‬وبنو َسِلمة من‬ ‫ذلك عبد اللهبن َُأب ّي‪َّ ،‬‬
‫الخزرج‪ ،‬فعصمهما اهلل‪ .‬وقد افترق المسلمون فرقتين فيما يفعلون بالمنخذلين‪ ،‬فقوم يقولون‪ :‬نقاتلهم‪،‬‬
‫ين ِفَئتَْي ِن َواللَّهُ َْأر َك َسهُ ْم بِ َما‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫وقوم يقولون‪ :‬نتركهم‪ ،‬فأنزل اهلل في سورة النساء‪{ :‬فَ َما لَ ُك ْم فى اْل ُمَنافق َ‬
‫ضِل ِل اللَّهُ َفلَن تَ ِج َد لَهُ َسبِيالً(‪)88‬‬ ‫َأض َّل اللَّهُ َو َمن ُي ْ‬
‫ون َأن تَ ْه ُدوْا َم ْن َ‬ ‫َك َسُبوْا َأتُِر ُ‬
‫يد َ‬

‫أحد على الدنو منه ولَّوا األدبار ونساؤهم يبكين‬


‫هذا‪ ،‬ولما قُتل َح َملةُ اللواء من المشركين‪ ،‬ولم يقدر ٌ‬
‫ويولولن‪ ،‬وتبعهم المسلمون يجمعون الغنائم واألسالب‪ ،‬فلما رأى ذلك الرماة الذين يحمون ظهور‬
‫ُ‬
‫المسلمين فوق الجبل‪ ،‬قالوا‪ :‬ما لنا في الوقوف من حاجة‪ ،‬ونسوا أمر السيد الحكيم صلى اهلل عليه‬
‫رئيسهم فثبت وثبت معه قليل منهم‪ ،‬فلما‬
‫ُ‬ ‫فذكرهم رئيسهم به فلم يلتفتوا وانطلقوا ينتهبون‪ .‬أما‬
‫وسلم‪ّ ،‬‬
‫أحد رؤساء المشركين ـ ـ ُخلَُّو الجبل من الرماة‪ ،‬انطلق ببعض الجيش‪ ،‬فقتل من‬
‫خالدبن الوليد ـ ـ ُ‬
‫رأى ُ‬
‫ثبت من الرماة‪ ،‬وأتى المسلمين من ورائهم وهم مشتغلون بدنياهم‪ ،‬فلما رأوا ذلك البالء دهشوا‬
‫بعضهم بعضاً‪،‬‬ ‫وانتقضت صفوفهم‪ ،‬واختلطوا من غير شعار‪ ،‬حتى صار يضرب ُ‬ ‫ْـ‬ ‫وتركوا ما بأيديهم‪،‬‬
‫ورفعت إحدى نساء المشركين اللواء فاجتمعوا حوله‪ ،‬وكان من المشركين رجل يقال له ابن قَ ِمَئةَ قتل‬
‫بعضهم‪:‬‬
‫صعببن عمير صاحب اللواء‪ ،‬وأشاع أن محمداً قد قتل‪ ،‬فدخل الفش ُل في المسلمين حتى قال ُ‬
‫ُم َ‬
‫عالم نقاتل إذا كان محمد قد قُتل؟ فارجعوا إلى قومكم يَؤ ِّمُنوكم‪ .‬وقال جماعة‪ :‬إذا كان محمد قد قُتل‬
‫َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫فقاتلوا عن دينكم‪ .‬وكان من نتيجة هذا الفشل أن انهزم جماعةٌ من المسلمين‪ ،‬من بينهم‪ :‬الوليدبن‬
‫عقبة‪ ،‬وخارجةبن زيد‪ِ ،‬‬
‫ورفاعةبن المعلى‪ ،‬وعثمانبن عفان‪ ،‬وتوجهوا إلى المدينة‪ ،‬ولكنهم استحيوا أن‬
‫يدخلوها‪ ،‬فرجعوا بعد ثالث‪ ،‬وثبت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ومعه جماعة‪ ،‬منهم أبو طلحة‬
‫بح َجفَتِ ِه‪ ،‬وكان رامياً شديد الرمي‪ .‬فنثر ِكنانته بين يدي رسول‬
‫األنصاري استمر بين يديه يمنع عنه َ‬
‫اهلل‪ ،‬وصار يقول‪:‬ـ نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقَاء‪ .‬وكل من كان يمر ومعه كنانة يقول له‬
‫عليه الصالة والسالم‪« :‬انثرها ألبي طلحة»‪ ،‬وكان ينظر إلى القوم ليرى مواضع النبل‪ ،‬فيقولـ له أبو‬
‫طلحة‪ :‬يا نبي اهلل بأبي أنت وأمي‪ ،‬ال تنظر يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك‪.‬‬

‫ثبت سعدبن أبي وقاص‪ ،‬فكان عليه الصالة والسالم يقول له‪ِ :‬‬
‫«ارم سعد فداك أبي وأمي»‪.‬ـ‬ ‫وممن َ‬
‫ّ‬
‫نضح عن رسول اهلل بالنبل حتى انفرج عنه الناس‪.‬‬
‫َ‬ ‫ومنهم سهلبن ُحَنيف وكان من مشاهير الرماة‬
‫ومنهم أبو ُدجانة ِس َما ُكبن َخَر َشة األنصاري تترس على رسول اهلل‪ ،‬فصار النب ُل يقع على ظهره وهو‬
‫الجراح مقاتله‪ ،‬فأمر به‬
‫ُ‬ ‫منحن حتى كثر فيه‪ .‬وكان يقاتل عن الرسول زيادةبن الحارث حتى أصابت‬ ‫ٍ‬
‫تحملها بما أعطاه‬
‫فُأدني منه ووسده قدمه حتى مات‪ .‬وقد أصابه عليه الصالة والسالم شدائد عظيمة َّ‬
‫ممن كانوا معه‪،‬‬
‫اهلل من الثبات‪ ،‬فقد أقبل ُأبيُّبن خلف يريد قتله فأخذ عليه الصالة والسالم الحربة ّ‬
‫سبب هالكه وهو راجع‪ ،‬ولم يقتل رسول‬
‫فلما قَ ُرب منه ضربه ضربةً كانت َ‬
‫وقال‪« :‬خلّوا طريقه»‪ّ ،‬‬
‫اهلل غيره ال في هذه الغزوة وال في غيرها‪.‬‬

‫فوقع الرسول في حفرة منها‪،‬‬


‫وكان أبو عامر الراهب قد حفر ُحفراً وغطّاها ليقَع فيها المسلمون‪َ ،‬‬
‫ممن ثبت ـ ـ حتى‬
‫علي بيده‪ ،‬ورفعه طلحةبن عبيد اهلل ـ ـ وهما ّ‬
‫وخدشت ركبتاه‪ ،‬فأخذ ّ‬
‫فُأغمي عليه‪ُ ،‬‬
‫استوى قائماً‪ ،‬فرماه عتبةبن أبي وقاص بحجر كسر رباعيته فتبعه حاطببن أبي بلتعة فقتله‪ ،‬و َش َّج‬
‫وجهه عليه الصالة والسالم عبد اللهبن شهاب الزهري‪ ،‬وجرحت وجنتاه بسبب دخول حلقتي المغفر‬
‫فيهما من ضربة ضربه بها ابن قَ ِمَئةَ غضب اهلل عليه‪ ،‬فجاء أبو عبيدة وعالج الحلقتين حتى نزعهما‪،‬‬
‫نبيهم؟»‬
‫حينئذ عليه الصالة والسالم‪« :‬كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ف ُكسرت في ذلك ثنيتاه‪ ،‬وقال‬
‫ون(‬ ‫الم ِر َشىء َأو يتُوب علَْي ِهم َأو يع ّذبهم فَِإ َّنهم َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ظال ُم َ‬ ‫ْ ْ َ َ َ ْ ْ ُ َ َ ُْ ُْ‬ ‫فأنزل اهلل في سورة آل عمران‪ :‬لَْي َس لَ َك م َن ا ْ ْ‬
‫‪)128‬‬

‫وقد أصاب المسلمين الذين كانوا يحوطون رسول اهلل كثير من الجراحات‪ ،‬ألن الشخص منهم كان‬
‫نيف وسبعون جراحة‪ ،‬وشلَّت يده‪ ،‬وأصاب كعببن‬
‫يتلقى السهم‪ ،‬خوفاً أن يصل للرسول‪ ،‬فوجد بطلحة ٌ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫مالك سبع عشرة جراحة‪ .‬أما القتلى فكانوا نيفاً وسبعين منهم ستة من المهاجرين‪ ،‬والباقون من‬
‫األنصار‪ .‬ومن المهاجرين‪ :‬حمزةبن عبد المطلب‪ ،‬ومصعببن عمير‪ ،‬ومن األنصار حنظلةبن أبي‬
‫عامر‪ ،‬وعمروبن الجموح‪ ،‬وابنه خالَّدبن عمرو‪ ،‬وأخو زوجه ُ‬
‫والد جابربن عبد اهلل‪ ،‬فأتت زوج‬
‫هند بنت عمروبن حرام وحملتهم‪ :‬زوجها وابنها وأخاها على بعير لتدفنهم بالمدينة‪ ،‬فنهى‬
‫عمرو ُ‬
‫عليه الصالة والسالم عن الدفن خارج أحد‪ ،‬فرجعوا‪ .‬وقتل سعدبن الربيع‪ ،‬وأرسل عليه الصالة‬
‫لمبِلغه‪:‬‬
‫والسالم َمن يأتيه بخبره فوجده بين القتلى‪ ،‬وبه رمق‪ ،‬فقيل له‪ :‬إن رسول اهلل يسأل عنك‪ ،‬فقال ُ‬
‫سعدبن الربيع‪ :‬اهلل اهلل وما عاهدتم عليه رسوله ليلة العقبة‪ ،‬فواهلل ما لكم عند اهلل‬
‫ُقل لقومي‪:‬ـ يقو ُل لكم ُ‬
‫عم أنسبن مالك‪ ،‬فإنه لما سمع بقتل رسول اهلل قال‪ :‬يا قوم ما تصنعون‬
‫عذر‪ .‬وقتل أنسبن النضر ّ‬
‫بالبقاء بعده؟ موتوا على ما مات عليه إخوانكم‪ ،‬فلم يزل يقاتل حتى قُتل رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫ُأحد حتى إن هنداً زوج أبي سفيان بقرت بطن حمزة‪ ،‬وأخذت كبده لتأكلها‪،‬‬ ‫ومثَّ ْ‬
‫لت قريش بقتلى ُ‬ ‫َ‬
‫فالكتها ثم أرسلتها‪ ،‬وفعلوا قريباً من ذلك بإخوانه الشهداء‪ .‬ثم إن أبا سفيان صعد الجبل ونادى بأعلى‬
‫يوم بيوم بدر‪ ،‬وموعدكم بدر العام المقبل‪ ،‬ثم قال‪ :‬إنكم‬ ‫ِ‬ ‫ت ِ‬ ‫صوته‪ :‬نِ ْع َم ْ‬
‫الحرب سجا ٌل‪ٌ ،‬‬
‫َ‬ ‫فعال‪ ،‬إن‬
‫ستجدون في قتالكم ُمثْلَةً لم آمر بها ولم تَسُْؤ ني‪ .‬ثم إن المشركين رجعوا إلى مكة ولم يعرجوا على‬
‫ذلك اليوم‪ ،‬وإ ال لم يكن ٌّ‬
‫بد من تعقب‬ ‫المدينة‪ ،‬وهذا مما يدل على أن المسلمين لم ينهزموا في َ‬
‫المشركين لهم حتى ُي ِغيروا على مدينتهم‪ .‬ثم تفقَّد عليه الصالة والسالم القتلى وحزن على عمه حمزة‬
‫بُأحد‪ ،‬كل شهيد بثوبه الذي قتل فيه‪ .‬وكانوا يدفنون الرجلين والثالثة‬
‫حزناً شديداً‪ ،‬ودفن الشهداء كلهم ُ‬
‫يشق عليهم أن يحفروا لكل شهيد حفرة‪ .‬ولما‬
‫في لحد واحد لما كان عليه المسلمون من تعب‪ ،‬فكان ّ‬
‫رجع المسلمون إلى المدينة سخر منهم اليهود والمنافقون‪،‬ـ وأظهروا ما في قلوبهم من البغضاء‪،‬‬
‫وقالوا إلخوانهم‪ :‬لَّ ْو َك ُانوْا ِع ْن َدَنا َما َماتُوْا َو َما قُتِلُوْا} (آل عمران‪.)156 :‬‬

‫وهذا الذي ابتلي به المسلمون درس مهم لهم‪ِّ ،‬‬


‫يذكرهم بأمرين عظيمين تركهما المسلمون فُأصيبوا‪،‬‬
‫أولهما‪ :‬طاعة الرسول في أمره‪ ،‬فقد قال للرماة‪ :‬ال تبرحوا مكانكم إن نحن ُنصرنا أو قُهرنا‪ ،‬فعصوا‬
‫أمره ونزلوا‪ .‬والثاني‪ :‬أن تكون األعمال كلها هلل غير منظورة فيها لهذه الدنيا التي كثيراً ما تكون‬
‫سبباً في مصائب عظيمة‪ ،‬وهؤالء أرادوا َعرض الدنيا‪ ،‬والتهَوا بالغنائم حتى ُعوقبوا‪ ،‬وفي ذلك أنزل‬
‫ُأحد‪ ْ ّ :‬ا هلل ـ » « صلى اهلل عليه وسلم } ّمن َب ْع ِد َمآ ََأرا ُك ْم‬ ‫ت غزوة ُ‬ ‫صلَ ْ‬‫اهلل في سورة آل عمران التي فَ َّ‬
‫َّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫يد ا ْ ِ‬
‫الد ْنَيا َو ِمن ُكم َّمن ُي ِر ُ‬ ‫ُّون ِمن ُكم َّمن ُي ِر ُ‬
‫يد ُّ‬ ‫ِ‬
‫ص َرفَ ُك ْم َع ْنهُ ْم لَي ْبتَلَي ُك ْم َولَقَ ْد َعفَا َع ْن ُك ْم َواللهُ‬
‫الخ َرةَ ثَُّم َ‬ ‫َّما تُحب َ‬
‫ِ‬
‫ين(‪)152‬‬ ‫ض ٍل َعلَى اْل ُمْؤ ِمن َ‬
‫ُذو فَ ْ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫غزوة حمراء األسد‬

‫لما رجع عليه الصالة والسالم إلى المدينة أصبح َحِذراً من رجوع المشركين إلى المدينة ليتمموا‬
‫انتصارهم‪ ،‬فنادى في أصحابه بالخروج خلف العدو‪ ،‬وأالّ يخرج إال من كان معه باألمس‪ ،‬فاستجابوا‬
‫فضمدوا جراحاتهم وخرجوا واللواء معقود لم ُي َح َّل‪ ،‬فأعطاه‬
‫هلل والرسول من بعد ما أصابهم القَرح‪َّ ،‬‬
‫عليبن أبي طالب‪ ،‬وولى على المدينة ابن أم مكتوم‪ ،‬ثم سار الجيش حتى وصلوا حمراء األسد وقد‬
‫كان ما ظنه الرسول حقاً‪ ،‬فإن المشركين تالوموا على ترك المسلمين من غير شن الغارة على‬
‫فأصروا على الرجوع‪ ،‬ولكن لما بلغهم خروج الرسول في أثرهم ظنوا‬
‫ّ‬ ‫المدينة حتى يتم لهم النصر‪،‬‬
‫أنه قد حضر معه َم ْن لم يحضر باألمس‪ ،‬وألقى اهلل الرعب في قلوبهم‪ ،‬فتمادوا في سيرهم إلى مكة‪،‬‬
‫وظفر عليه الصالة والسالم وهم في حمراء األسد بأبي عزة الشاعر‪ ،‬الذي َم َّن عليه ببدر بعد أن تعهد‬
‫علي‪ ،‬ودعني لبناتي‪ ،‬وأعطيك‬
‫وامنن ّ‬
‫أالّ يكون على المسلمين‪ ،‬فأمر بقتله‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد أقْلني‪ُ ،‬‬
‫عهداً أالّ أعود لمثل ما فعلت‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬ال واهلل ال تمسح عارضيك بمكة تقول‪:‬‬
‫المؤمن من ُج ْح ٍر مرتين‪ ،‬اضرب عنقه يا زبير» فضرب عنقه‪ ،‬وفي‬
‫ُ‬ ‫خدعت محمداً مرتين‪ ،‬ال ُيْل َدغُ‬
‫ُ‬
‫هذا تأديب عظيم من صاحب الشرع الشريف‪ ،‬فإن الرجل الذي ال يحترز مما ُأصيب منه ليس بعاقل‪،‬‬
‫المْلك‪.‬‬
‫بد من الحزم إلقامة دعائم ُ‬
‫فال ّ‬
‫حوادث‬

‫زوج عليه الصالة والسالم بنته ُأم كلثوم لعثمانبن عفان بعد أن ماتت رقية عنده‪،‬‬
‫وفي هذه السنة َّ‬
‫وُأمها‬
‫تزوج عليه الصالة والسالم حفصة بنت عمربن الخطاب‪ُّ ،‬‬
‫ولذلك كان ُي َس َّمى ذا النورين‪ .‬وفيها َّ‬
‫أخت عثمانبن مظعون‪ ،‬وكانت قبله تحت ُخنيسبن حذافة السهمي رضي اهلل عنه‪ ،‬فتوفي عنها‬
‫زينب بنت خزيمة الهاللية من بني هاللبن‬
‫َ‬ ‫بجراحة أصابته ببدر‪ ،‬وفيها تزوج عليه الصالة والسالم‬
‫عامر‪ ،‬كانت تدعى في الجاهلية ُأم المساكين لرأفتها وإ حسانها إليهم‪ ،‬وكانت قبله تحت عبد اللهبن‬
‫بُأحد وهي أخت ميمونة بنت الحارث ألمها‪ ،‬وفيها ولد الحسنبن علي رضي اهلل‬
‫جحش‪ ،‬فقُتل عنها ُ‬
‫عنهما‪ .‬وفيها ُحرمت الخمر‪ ،‬وكان تحريمها بالتدريج‪ ،‬لما كان عليه العرب من المحبة الشديدة لها‪،‬‬
‫فيصعب إذاً تحريمها دفعة واحدة‪ ،‬وكان ذلك التحريم تابعاً لحوادث تَُنفِّر عنها‪ ،‬ألن المنكر إذا ُأسند‬
‫أشد تأثيراً في النفس‪ .‬فأو ُل ما ُبيِّن فيها قوله تعالى‬ ‫أقر الجميع على تقبيحها كان ذلك ّ‬ ‫تحريمه لحادثة ّ‬
‫اس} (البقرة‪.)219 :‬‬ ‫ون َك َع ِن اْل َخ ْم ِر واْل َم ْي ِس ِر ُق ْل ِفي ِه َمآ ِإثْ ٌم َكبِ ٌير و َمَن ِافعُ ِل َّلن ِ‬
‫في سورة البقرة‪َ :‬ي ْسَئ لُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫فمنفعة الميسر التصدق بربحه على الفقراء كما كانت عادة العرب‪ ،‬ومنفعة الخمر تقوية الجسم‪ ،‬ولما‬
‫شربها بعض المسلمين وخلَّط في القراءة ُح ِّرمت الصَّالة على السكران‪ ،‬فقال تعالى في سورة النساء‪:‬‬
‫َِّ‬
‫حدث‬
‫ون} (النساء‪ )43 :‬ولما َ‬ ‫ءامُنوْا الَ تَ ْق َرُبوْا الصالةَ َوَأنتُ ْم ُس َك َارى َحتَّى تَ ْعلَ ُموْا َما تَقُولُ َ‬
‫ين َ‬‫{يَأيُّهَا الذ َ‬
‫َ‬
‫{يَأيُّهَا‬
‫من شربها اعتداء بعض المسلمين على إخوانهم ُح ِّرمت قطعياً بقوله تعالى في سورة المائدة‪َ :‬‬
‫ون‬ ‫َّ ِ‬ ‫ان فَ ْ ِ‬
‫طِ‬ ‫ال ْزالَم ِر ْج ٌس م ْن َعم ِل َّ‬ ‫آمُنوْا ِإَّن َما اْل َخ ْم ُر َواْل َم ْي ِس ُر َوا ْ‬ ‫َِّ‬
‫اجتَنُبوهُ لَ َعل ُك ْم تُْفل ُح َ‬ ‫الش ْي َ‬ ‫ّ َ‬ ‫اب َوا ْ ُ‬ ‫نص ُ‬ ‫ال َ‬ ‫ين َ‬ ‫الذ َ‬
‫ضآء‬‫ان َأن ُيو ِق َع َب ْيَن ُك ُم اْل َع َد َاوةَ َواْلَب ْغ َ‬
‫ط ُ‬ ‫يد َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫ِإَّن َما ُي ِر ُ‬

‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ص َّد ُك ْم َعن ذ ْك ِر الله َو َع ِن الصالة فَهَ ْل َْأنتُ ْم ُّمنتَهُ َ‬
‫ون(‪)91‬‬ ‫فى اْل َخ ْم ِر َواْل َم ْيس ِر َوَي ُ‬

‫الرابعة‬
‫السَّنة َّ‬

‫سرية‬
‫في بدء السنة الرابعة بلغ رسول اهلل أن طُليحة وسلمة ابني خويلد األسديين يدعوان قومهما بني أسد‬
‫لحربه عليه الصالة والسالم‪ ،‬فدعا أبا سلمةبن عبد األسد المخزومي‪ ،‬وعقد له لواء وقال له‪ِ :‬‬
‫«س ْر‬ ‫ً‬
‫َأغ ْر عليهم»‪ ،‬وأرسل معه رجاالً‪ ،‬فسار في هالل المحرم حتى‬‫حتى تنزل أرض بني أسدبن خزيمة فَ ِ‬
‫وشاء فأخذها‪ ،‬ولم يلق حرباً‪ ،‬ورجع‬
‫ً‬ ‫طناً فأغار عليهم‪ ،‬فهربوا من منازلهم‪ ،‬ووجد أبو سلمة إبالً‬
‫بلغ قَ َ‬
‫بعد عشرة أيام من خروجه‪.‬‬

‫سرية‬
‫الجموع‬
‫َ‬ ‫بع َرَنة يجمع‬
‫وفي بدئها أيضاً بلغه عليه الصالة والسالم أن سفيانبن خالدبن ُنَب ْيح الهُذلي المقيم ُ‬
‫لحربه‪ ،‬فأرسل له عبد اللهبن َُأن ْيس الجهني وحده ليقتله‪ ،‬فاستأذن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن‬
‫َيتَقَ َّو َل حتى يتمكن‪ ،‬فأذن له‪ ،‬وقال‪« :‬انتسب لخزاعة»‪ ،‬فخرج لخمس َخلَون من المحرم‪ ،‬ولما وصل‬
‫سمعت بجمعك لمحمد فجئت ألكون معك‪ ،‬فقال‬ ‫ُ‬ ‫ممن الرجل؟ قال‪ :‬من ُخزاعة‪،‬‬
‫إليه قال له سفيان‪ّ :‬‬
‫وحدثه وسفيان يستحلي حديثه‪ ،‬فلما انتهى إلى ِخبائه‬
‫له‪ :‬أجل‪ ،‬إني لفي الجمع له‪ ،‬فمشى عبد اهلل معه َّ‬
‫تفرق الناس عنه فجلس معه عبد اهلل حتى نام‪ ،‬فقام وقتله‪ ،‬ثم ارتحل حتى أتى المدينة‪ ،‬ولم يلحقه‬
‫الطلب وكفىـ اهلل المؤمنين القتال‪.‬‬

‫سرية‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ضل والقَ َار ِة‪،‬‬


‫صفَر أرسل عليه الصالة والسالم عشرة رجال عيوناً على قريش‪ ،‬مع رهط َع َ‬
‫وفي َ‬
‫الذين جاؤوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يطلبون من يفقِّههم في الدين‪َّ ،‬‬
‫وأمر عليهم عاصمبن ثابت‬
‫بالرجيع غدر بهم أولئك الرهط‪،‬‬‫األنصاري‪ ،‬فخرجوا يسيرون الليل ويكمنون النهار حتى إذا كانوا َّ‬
‫ودلُّوا عليهم هذيالً قوم سفيانبن خالد الهذلي الذي كان قتله عبد اللهبن أنيس‪ ،‬فنفروا إليهم فيما يقرب‬
‫أحس بهم رجال السرية لجؤوا إلى جبل هناك‪،‬‬ ‫من مائتي ٍ‬
‫رام‪ ،‬واقتفوا آثارهم حتى قربوا منهم‪ ،‬فلما َّ‬
‫فقال لهم األعداء‪ :‬انزلوا ولكم العهد أالّ نقتلكم‪ ،‬فنزل إليهم ثالثة اغتروا بعهدهم‪ ،‬وقاتلهم الباقون‪،‬‬
‫عين الغدر امتنع‬ ‫َّ‬
‫ومعهم عاصم غير راضين بالنزول في ذمة مشرك‪ .‬ولما رأى الثالثة الذين سلموا َ‬
‫ممن كان له ثأر عند المسلمين‪ ،‬وهناك قُتِال‪ .‬وقد قال‬
‫أحدهم فقتلوه‪ ،‬وأما االثنان فباعوهما بمكة ّ‬
‫أحدهما وهو ُخبيببن عدي حين أرادوا قتله‪:‬‬
‫ذات ِ‬ ‫عيوذلك في ِ‬ ‫حين ُأ ْقتَ ُل ُم ْسِلماًعلى ِّ‬
‫ارك‬
‫اإلله َوِإ ْن َي َش ُْأيَب ْ‬ ‫َ‬ ‫َأي َج ْن ٍب كان في اهلل َم ْ‬
‫ص َر‬ ‫ت ُأبالي َ‬ ‫َولَ ْس ُ‬
‫ال ِشْل ٍو ُم َم َّز ِع‬
‫على َأوص ِ‬
‫َ‬

‫سرية‬

‫األسنة‪ ،‬وهو من رؤوس بني عامر‪،‬‬ ‫ب‬ ‫ِ‬


‫ّ‬ ‫صفَر وفد على رسول اهلل أبو براء عامربن مالك ُمالع ُ‬
‫وفي َ‬
‫فدعاه عليه الصالة والسالم إلى اإلسالم فلم يسلم ولم يبعد‪ ،‬بل قال‪ :‬إني أرى أمرك هذا حسناً شريفاً‬
‫رجوت أن يستجيبوا لك‪ ،‬فقال‬
‫ُ‬ ‫بعثت معي رجاالً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك‪،‬‬
‫َ‬ ‫ولو‬
‫عليه الصالة والسالم‪« :‬إني أخشى عليهم أهل نجد»‪ .‬فقال أبو براء عامر‪ :‬أنا لهم جار‪ ،‬فأرسل معه‬
‫القراء لكثرة ما كانوا يحفظون من القرآن‪،‬‬
‫المنذربن عمرو في سبعين من أصحابه كانوا ُي َس َّمون َّ‬
‫فساروا حتى نزلوا بئر معونة‪ ،‬فبعثوا حرامبن ِملحان بكتاب إلى عامربن الطفيل ِ‬
‫سيد بني عامر‪ ،‬فلما‬ ‫ََ‬
‫وصل إليه لم يلتفت إلى الكتاب بل عدا على َح َرام فقتله‪ ،‬ثم استصرخ على بقية البعثة أصحابه من‬
‫بني عامر فلم يرضوا أن يخفروا جوار مالعب األسنة‪ ،‬فاستصرخ عليهم قبائل من بني ُسليم‪ ،‬وهم‬
‫بالقراء أحاطوا بهم‪ ،‬وقاتلوهم حتى قتلوهم‬ ‫صيَّة فأجابوا وذهبوا معه‪ ،‬حتى إذا التقوا َّ‬ ‫ِر ْع ٌل و َذكوان ُ‬
‫وع َ‬
‫ينج إال كعببن زيد‪ ،‬وقع بين‬ ‫ِ‬
‫عن آخرهم‪ ،‬بعد دفاع شديد لم ُي ْجدهم نفعاً لقلّة عددهم وكثرة عدوهم‪ ،‬ولم ُ‬
‫القتلى حتى ظُ َّن أنه منهم‪ ،‬وعمروبن أمية كان في َس ْرح القوم‪َ .‬و ُْأبِل َغ عليه الصالة والسالم خبر‬
‫القراء فخطب في أصحابه‪ ،‬وكان فيما قال‪« :‬إن إخوانكم قد لقوا المشركين وقتلوهم‪ ،‬وإ نهم قالوا‪:‬‬
‫عنا»‪ ،‬وكان وصول خبر هذه السرية وسرية‬ ‫ربنا بلِّغ قومنا ّأنا قد لقينا ربنا فرضينا عنه ورضي ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫الرجيع في يوم واحد‪ ،‬فحزن عليهم صلى اهلل عليه وسلم حزناً شديداً‪ ،‬وأقام يدعو على الغادرين بهم‬
‫شهراً في الصالة‪.‬‬

‫الن ِ‬
‫ضير‬ ‫غزوة بني َّ‬

‫يا هلل‪ ،‬ما أسوأ عاقبة الطيش فقد تكون األمة مرتاحة البال‪ ،‬هادئة الخواطر‪ ،‬حتى تقوم جماعة من‬
‫رؤسائها بعمل غدر‪ ،‬يظنون من ورائه النجاح‪ ،‬فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم‪ ،‬وهذا ما‬
‫حصل ليهود بني النضير حلفاء الخزرج‪ ،‬الذين كانوا يجاورون المدينة‪ ،‬فقد كان بينهم وبين المسلمين‬
‫عهود يأمن بها ٌّ‬
‫كل منهم اآلخر‪ ،‬ولكن بنو النضير لم يوفوا بهذه العهود حسداًمنهم وبغياً‪ .‬فبينما‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبعض من أصحابه في ديار بني النضير إذ ائتمر جماعة منهم على‬
‫واحد منهم صخرةً ويلقيها عليه من علو‪ ،‬فُأطلع عليه الصالة والسالم على قصدهم‪،‬‬
‫قتله بأن يأخذ ٌ‬
‫فرجع وتبعه أصحابه‪ ،‬ثم أرسل لهم محمدبن مسلمة يقول لهم‪« :‬اخرجوا من بالدي فقد هممتم بما‬
‫هممتم من الغدر»‪ .‬إذ الحزم كل الحزم أال يتهاون اإلنسان مع َم ْن ُعرف منه الغدر‪ ،‬فتهيأ القوم‬
‫للرحيل‪ ،‬فأرسل لهم إخوانهم المنافقون يقولون‪ :‬ال تخرجوا من دياركم ونحن معكم لَِئ ْن ْ‬
‫ُأخ ِر ْجتُ ْم‬
‫ون(‪ )11‬لَِئ ْن‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫نص َرَّن ُك ْم َواللهُ َي ْشهَ ُد ِإَّنهُ ْم لَ َكاذُب َ‬
‫َأحداً ََأبداً َوِإ ن قُوتِْلتُ ْم لََن ُ‬
‫ِ‬
‫لََن ْخ ُر َج َّن َم َع ُك ْم َوالَ ُنطيعُ في ُك ْم َ‬
‫ون(‬
‫نص ُر َ‬ ‫وه ْم لَُي َولُّ َّن ا ْ‬
‫ال ْدَب َار ثَُّم الَ ُي َ‬ ‫ص ُر ُ‬
‫ِئ‬
‫ونهُ ْم َولَ ن َّن َ‬‫نص ُر َ‬ ‫ِئ‬
‫ون َم َعهُ ْم َولَ ن قُوتِلُوْا الَ َي ُ‬
‫ُأخ ِر ُجوْا الَ َي ْخ ُر ُج َ‬ ‫ْ‬
‫َّ‬ ‫‪َ )12‬أ َش ُّد اْل ِكتَ ِ ِ‬
‫ُأخ ِر ْجتُ ْم َواللهُ‬
‫اصةٌ َو َمن ْ‬ ‫ص َ‬ ‫اصةٌ َعلَى َخ َ‬ ‫ص َ‬‫اصةٌ َخ َ‬ ‫ص َ‬ ‫اب فى ََأبداً ِإَّن َك َنافَقُوْا تََر َجآءوا َخ َ‬
‫نص َرَّن ُك ْم َألَ ْم ِفى ِفى‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َوِإ ن م ْن َواللهُ فى ُقلُوبَِنا لََن ُ‬
‫َأبداً َأحداً قُوتِْلتُم ِفى َأبداً ِإَّنهم لََننصرَّن ُكم واللَّه َّر ِح َِّ‬
‫يم الذ َ‬‫ٌ‬ ‫َُ ْ َ ُ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫ءوف تََر َواللَّهُ ِفى ِم ْن قُوتِْلتُ ْم ِفى ََأبداً َربََّنآ َوِإل ْخوانَِنا‬
‫ونا َر ٌ‬ ‫ين َسَبقُ َ‬ ‫َّ َِّ‬
‫يم َعلَى َواللهُ لّلذ َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ََأبداً َواللهُ م ْن َّرح ٌ‬
‫ونا َوِإ ن تََر ِم ْن ََأبداً‬
‫َعلَى ُن ِطيعُ َسَبقُ َ‬

‫نص َرَّن ُك ْم ِإَّنهُ ْم‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِإَّنهم لََننصرَّن ُكم ِفى َأبداً يقُولُ ِ ًّ َّ ِ‬
‫ين َوِإ ن ُقلُوبَِنا فى ََأبداً لّلذ َ‬
‫ين لََن ُ‬ ‫ون غال َواللهُ فى ََأبداً الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َُ ْ‬ ‫ُْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ين َوِإ ن م ْن فى ََأبداً‬ ‫نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َعلَى ُنطيعُ ََأبداً َوِإ ن فى فى َربََّنآ لّلذ َ‬‫ين فى ََأبداً لََن ُ‬ ‫يم ِ‬
‫ان ََأبداً في ُك ْم لّلذ َ‬ ‫باَإل َ‬
‫ءوف تََر َربََّنآ ُقلُوبَِنا‬ ‫ِ َِّ‬
‫ين َعلَى َر ٌ‬ ‫قُوتِْلتُ ْم فى الذ َ‬

‫يم ِإَّنهُ ْم قُوتِْلتُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لََننصرَّن ُكم وِإ ن علَى واللَّه ِفى الَِّذين لّلَِّذ ِ‬
‫ين م ْن َوِإ ن ََأبداً م ْن ََأبداً َي ْشهَ ُد فى ََأبداً َوِإ ن َّرح ٌ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ ْ َ َ َ ُ‬
‫ين َي ْشهَ ُد‬ ‫ونا ي ْخرجون وِإ ن وِإ ن َأحداً لّلَِّذين واللَّه وِإ ن علَى واللَّه سبقُ َ ِ َِّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ًّ ِ‬
‫ونا م ْن الذ َ‬ ‫َ َ ُ َ َ َ ُ ََ‬ ‫َ‬ ‫غال فى ُقلُوبَنا قُوتْلتُ ْم َسَبقُ َ َ ُ ُ َ َ َ‬
‫ونا َوِإ ن ِفى ُقلُوبَِنا قُوتِْلتُ ْم َواللَّهُ ِفى‬‫ون َولَ ْو َسَبقُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِئ ِ‬ ‫ِ‬
‫نص َرَّن ُك ْم م ْن ََأبداً ِإَّنهُ ْم َولَ ن فى لَ َكاذُب َ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫تََر فى ِإَّنهُ ْم لّلذ َ‬
‫ين لََن ُ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫َّ ِ ِ‬ ‫ِئ‬ ‫ِ َِّ‬ ‫ِ‬


‫ون َولَ ن الَ قُوتِْلتُ ْم َواللهُ فى ُنطيعُ ِإَّنهُ ْم ِإَّن َك َيقُولُ َ‬
‫ون‬ ‫ين ِإَّن َك َيقُولُ َ‬ ‫ََأبداً قُوتِْلتُ ْم ِإل ْخ َوان ِه ُم ِإَّنهُ ْم تََر ُنطيعُ لّلذ َ‬
‫نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َوِإ ن ِفى قُوتِْلتُ ْم‬‫ونا قُوتِْلتُ ْم لََن ُ‬ ‫نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َواللَّهُ َكفَ ُروْا قُوتِْلتُ ْم َواللَّهُ ِفى َسَبقُ َ‬ ‫َّ‬
‫َواللهُ قُوتِْلتُ ْم لََن ُ‬
‫نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن ِم ْن ََأبداً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِئ‬ ‫ِ‬
‫نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َوِإ ن قُوتِْلتُ ْم فى َولَ ن َعلَى ُنطيعُ ِإَّن َك فى َيقُولُ َ‬
‫ون تََر لََن ُ‬ ‫ين لََن ُ‬
‫ِ َِّ‬
‫م ْن لّلذ َ‬
‫ُأخ ِر ُجوْا َعلَى‬‫ين ََأبداً ِإَّنهُ ْم ِفى ََأبداً ْ‬ ‫ِإَّنهم لََننصرَّن ُكم ِفى َأبداً يقُولُون ِغالًّ واللَّه ِفى َأبداً الَِّذين وِإ ن الَِّذ َِّ‬
‫ين لّلذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َُ ْ‬ ‫ُْ‬
‫ين ِم ْن قُوتِْلتُ ْم َر ٌ‬
‫ءوف ِإَّنهُ ْم‬ ‫َِّ‬
‫ونا َوِإ ن تََر ُقلُوبَِنا في ُك ْم الذ َ‬ ‫ءامُنوْا َوِإ ن َسَبقُ َ‬ ‫َ‬

‫ونا َّر ِحيم ِمن ي ْشه ُد والَ َأبداً ي ْشه ُد لّلَِّذ َِّ‬ ‫َأحداً َواللَّهُ قُوتِْلتُ ْم َسَبقُ َ‬
‫ين ََأبداً‬ ‫ين الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ ْ َ َ َ َ َ َ‬ ‫نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن ََأبداً ِإَّنهُ ْم َ‬
‫ََأبداً لََن ُ‬
‫َّ‬ ‫ِئ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫نص َرَّن ُك ْم‬ ‫نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َعلَى ُنطيعُ في ُك ْم َألَ ْم ُنطيعُ فى َولَ ن ُنطيعُ ِإَّنهُ ْم في ُك ْم ََأبداً َواللهُ ُقلُوبَِنا لََن ُ‬ ‫ِإَّنهُ ْم َوِإ ن لََن ُ‬
‫يم ِفى َولَِئن ُقلُوبَِنا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫َوِإ ن فى ََأبداً تََر م ْن ُقلُوبَِنا َواللهُ ََأبداً َوِإ ن ِإَّنهُ ْم تََر َواللهُ فى َوِإ ن قُوتِْلتُ ْم م ْن ُقلُوبَِنا َّرح ٌ‬
‫ِ‬
‫يم ِغالًّ َعلَى ُقلُوبَِنا ََأبداً‬ ‫ِ‬ ‫ُأخ ِرجوْا وِإ ن الَِّذ ِ ِ‬
‫ين فى م ْن َّرح ٌ‬ ‫َ‬
‫ِئ‬
‫ون ُقلُوبَنا الَ َّنهُ ْم َولَ ن ْ ُ َ‬
‫ِإ‬ ‫ونا َي ْخر ُج َ ِ‬
‫قُوتْلتُ ْم َسَبقُ َ ُ‬
‫ِ‬
‫َأحداً َوِإ ن ِفى َر ٌ‬
‫ءوف َألَ ْم ََأبداً ُقلُوبَِنا قُوتِْلتُ ْم ِإَّنهُ ْم في ُك ْم ِإَّنهُ ْم قُوتِْلتُ ْم‬ ‫نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َعلَى َ‬ ‫ءوف َألَ ْم ََأبداً لََن ُ‬
‫َر ٌ‬
‫َِّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ َِّ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين‬
‫ونا ََأبداً َواللهُ فى تََر الذ َ‬ ‫ين َسَبقُ َ‬ ‫نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َعلَى ُنطيعُ الذ َ‬ ‫في ُك ْم فى م ْن َوِإ ن قُوتِْلتُ ْم في ُك ْم ُقلُوبَِنا ََأبداً لََن ُ‬
‫َأحداً ُن ِطيعُ َولَِئن‬ ‫َّ‬
‫نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َعلَى َواللهُ ِإَّنهُ ْم َ‬ ‫َواللَّهُ ََأبداً ِفى َولَِئن َسَبقُ َ‬
‫ونا قُوتِْلتُ ْم ِإَّنهُ ْم َربََّنآ ََأبداً ِإَّنهُ ْم لََن ُ‬
‫نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َوِإ ن ِفى‬ ‫ونا قُوتِْلتُ ْم ََأبداً لََن ُ‬ ‫نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َعلَى َواللَّهُ َسَبقُ َ‬ ‫ِ‬
‫يم َوِإ ن فى تَ ْج َع ْل لََن ُ‬
‫ِ‬
‫م ْن قُوتِْلتُ ْم َّرح ٌ‬
‫ِ‬
‫َِّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ين ِفى ُقلُوبَِنا ََأبداً َوِإ ن قُوتِْلتُ ْم َسَبقُ َ‬ ‫َِّ‬
‫نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َعلَى َوالَ الذ َ‬
‫ين‬ ‫ونا َوِإ ن َواللهُ فى ََأبداً لََن ُ‬ ‫ِإَّن َك َوِإ ن ََأبداً لّلذ َ‬
‫ِ‬ ‫َأبداً ِغالًّ ِفى َأبداً ِإَّن َك تَر ُقلُوبَِنا ُن ِطيع ُن ِطيع ِمن َأبداً علَى واللَّه يقُولُ ِ‬
‫ون فى تََر فى ََأبداً ِإَّنهُ ْم لََن ُ‬
‫نص َرَّن ُك ْم‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ َ َ َ َُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يم ِإَّنهُ ْم َر ٌ‬
‫ءوف تََر‬ ‫َّ ِ‬
‫َواللهُ َّرح ٌ‬

‫ِ‬ ‫َّ َِّ‬ ‫َّ‬


‫يم ِإَّنهُ ْم لََن ُ‬
‫نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن‬ ‫ونا ِإَّنهُ ْم َّرح ٌ‬
‫نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن ُقلُوبَِنا َسَبقُ َ‬ ‫ُقلُوبَِنا َواللهُ قُوتِْلتُ ْم ُقلُوبَِنا ِإَّنهُ ْم َواللهُ لّلذ َ‬
‫ين لََن ُ‬
‫ين ََأبداً َوِإ ن َواللَّهُ قُوتِْلتُ ْم َولَ ْو‬ ‫َِّ‬ ‫ِ ِ‬
‫نص َرَّن ُك ْم فى فى ََأبداً َوِإ ن الذ َ‬‫َأحداً قُوتِْلتُ ْم لََن ُ‬‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫َأحداً ِإَّنهُ ْم ِإَّنهُ ْم الذ َ‬
‫َ‬

‫الحقَْيق‪ ،‬ومنهم من‬


‫ولما سار اليهود نزل بعضهم بخيبر‪ ،‬ومنهم أكابرهم ُحَييُّبن أخطب‪ ،‬وسالّمبن أبي ُ‬
‫يخمس رسو ُل اهلل‬
‫رعات بالشام‪ ،‬وأسلم منهم اثنان‪ :‬يامينبن عمرو وأبو سعدبن وهب‪ ،‬ولم ِّ‬
‫سار إلى َأ ْذ َ‬
‫لمعدات الحرب‪،‬‬
‫فيء لم يوجف عليه بخيل وال ركاب‪ ،‬ومثل هذا يكون ّ‬
‫ما أخذ من بني النضير‪ ،‬فإنه ٌ‬
‫وللرسول‪ ،‬يطعم منه أهله‪ ،‬ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‪ ،‬كما قال تعالى في سورة‬
‫ين َو ْاب ِن‬ ‫ول وِل ِذى اْلقُربى واْليتَامى واْلمس ِ‬
‫اك ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ ِ ِ‬ ‫الحشر‪َّ :‬مآ َأفَآء اللَّهُ َعلَى رسوِل ِه ِم ْن ْ ِ‬
‫َْ َ َ َ َ ََ‬ ‫َأهل اْلقَُرى َفلله َول َّلر ُس َ‬ ‫َ ُ‬
‫ال ْغنَِيآء ِمن ُك ْم} (الحشر‪ )7 :‬فأعطى عليه الصالة والسالم من هذا‬ ‫ون ُدولَةً َب ْي َن ا ْ‬ ‫السبِ ِ‬
‫يل َكى الَ َي ُك َ‬ ‫َّ‬
‫وردوا إلخوانهم من األنصار ما كانوا‬
‫الفيء فقراء المهاجرين‪ ،‬الذين ُأخرجوا من ديارهم وأموالهم‪ّ ،‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ويد ِخر منها قُوت أهله عاماً‪.‬‬


‫قد أخذوه منهم أيام هجرتهم‪ ،‬وأخذ عليه الصالة والسالم أرضاً يزرعها ّ‬

‫غزوة ذات الرقاع‬

‫وفي ربيع اآلخر بلغه عليه الصالة والسالم أن قبائل من نجد يتهيؤون لحربه‪ ،‬وهم‪ :‬بنو محارب وبنو‬
‫ثعلبة‪ ،‬فتجهَّز لهم‪ ،‬وخرج في سبعمائة مقاتل‪ ،‬وولّى على المدينة عثمانبن عفان‪ ،‬ولم يزالوا سائرين‬
‫فأخذهن‪ ،‬فبلغ الخبر رجالهم‪ ،‬فخافوا وتفرقوا‬
‫ّ‬ ‫حتى وصلوا ديار القوم‪ ،‬فلم يجدوا فيها أحداً غير نسوة‬
‫وأخاف بعضهم بعضاً‪ .‬ولما‬
‫َ‬ ‫الناس‪،‬‬
‫في رؤوس الجبال‪ ،‬ثم اجتمع جمع منهم وجاؤوا للحرب‪ ،‬فتقارب ُ‬
‫حانت صالة العصر وخاف عليه الصالة والسالم أن يغدر بهم األعداء وهم يصلّون‪ ،‬صلى بالمسلمين‬
‫صالة الخوف‪ ،‬فألقى اهلل الرعب في قلوب األعداء‪ ،‬وتفرقت جموعهم خائفين منه صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫وأجمع أه ُل السَِّي ِر على خالفه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ومال اإلمام البخاري إلى أن هذه الغزوة كانت في السنة السابعة‬

‫غزوة بدر اآلخرة‬

‫ُأحد قال للمسلمين‪ :‬موعدنا‬


‫شعبان هذا العام كان موعد أبي سفيان‪ ،‬فإنه بعد انقضاء غزوة ُ‬
‫ُ‬ ‫لما أه ّل‬
‫بدر العام المقبل‪ ،‬فأجابه الرسول إلى ذلك‪ ،‬وكان بدر محل سوق تُعقد كل عام للتجارة في شعبان يقيم‬
‫التجار فيه ثمانياً‪ ،‬فلما َح َّل األج ُل وقريش ُمجدبون‪ ،‬لم يتمكن أبو سفيان من اإليفاء بوعده‪ ،‬فأراد أن‬
‫يخذل المسلمين عن الخروج كيال ُيوسم بخلف الوعد‪ ،‬فاستأجر ُنعيمبن مسعود األشجعي‪ ،‬ليأتي‬
‫رجف بما جمعه أبو سفيان من الجموع العظيمة‪ ،‬فقدم ُنعيم المدينة وقال للمسلمين‪ِ{ :‬إ َّن‬ ‫وي َ‬ ‫المدينة ُ‬
‫يماناً َوقَالُوْا َح ْسُبَنا اللَّهُ َونِ ْع َم اْل َو ِكي ُل} (آل عمران‪ )173 :‬ولم‬ ‫ِإ‬
‫اخ َش ْو ُه ْم فََز َاد ُه ْم َ‬
‫اس قَ ْد َج َم ُعوْا لَ ُك ْم فَ ْ‬ ‫َّ‬
‫الن َ‬
‫يلتفت عليه الصالة والسالم لهذا اإلرجاف اتِّكاالً على ربه‪ ،‬بل خرج بألف وخمسمائة من أصحابه‪،‬‬
‫واستخلف على المدينة عبد اللهبن عبد اللهبن َُأب َي‪ .‬ولم يزالوا سائرين حتى أتوا بدراً‪ ،‬فلم يجدوا بها‬
‫ظاناً أن‬
‫أحداً ألن أبا سفيان أشار على قريش بالخروج على ّنية الرجوع بعد مسير ليلة أو ليلتين ّ‬
‫إرجاف ُنعيم يفيد‪ ،‬فيكون المخلف هم المسلمون‪ ،‬فسار حتى أتى َّ‬
‫مجنة ـ ـ وهي سوق معروفة من‬
‫ناحية َم ّر الظهران ـ ـ فقال لقومه‪ :‬إن هذا عام جدب وال يصلحنا إال عام عشب فارجعوا‪ ،‬أما‬
‫ض ٍل لَّ ْم َي ْم َس ْسهُ ْم ُسوء‬
‫المسلمون فأقاموا ببدر ال يشاركهم في تجارته أحد {فَ ْان َقلَُبوْا بِنِ ْع َم ٍة ّم َن اللَّ ِه َوفَ ْ‬
‫ض ٍل َع ِظ ٍيم(‪)174‬‬
‫وان اللَّ ِه َواللَّهُ ُذو فَ ْ‬
‫ض َ‬ ‫َواتََّب ُعوْا ِر ْ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫حوادث‬
‫وفي هذا العام ولد الحسينبن علي‪ ،‬وفيه توفيت زينب بنت خزيمة ُأم المؤمنين‪ ،‬وفيه توفي أبو َسلَمة‬
‫رضي اهلل عنه ابن عمة رسول اهلل‪ ،‬وأخوه من الرضاعة‪ ،‬وأو ُل من هاجر إلى الحبشة‪ ،‬وفيه تزوج‬
‫عليه الصالة والسالم َُّأم َسلَ َمةَ هنداً زوج أبي سلمة بعد وفاته‪.‬‬

‫ِ‬
‫الخام َسة‬ ‫السَّنة‬

‫غزوة دومة الجندل‬

‫بدومة الجندل‬
‫وفي ربيع األول من هذا العام بلغ النبي صلى اهلل عليه وسلم أن جمعاً من األعراب ُ‬
‫يظلمون من َم َّر بهم‪ ،‬وأنهم يريدون الدنو من المدينة فتجهز لغزوهم‪ ،‬وخرج في ألف من أصحابه‪،‬‬
‫ويكمن النهار حتى قرب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫بعد أن َولى على المدينة سَباعبن ُع ْرفُطة الغفاري‪ ،‬ولم يزل يسير الليل ُ‬
‫ُأصيب‪ ،‬وهرب‬
‫َ‬ ‫منهم‪ ،‬فلما بلغهم الخبر تفرقوا‪ ،‬فهجم المسلمون على ماشيتهم ورعائهم‪ ،‬فُأصيب َم ْن‬
‫وبث السرايا فلم يجد منهم أحداً‪ ،‬فرجع عليه الصالة‬
‫يلق أحداً‪ّ ،‬‬
‫من هرب‪ ،‬ثم نزل بساحتهم فلم َ‬
‫ِ‬
‫ص ٍن الفَزاري‪ ،‬وهو الذي كان ّ‬
‫يسميه عليه الصالة‬ ‫والسالم غانماً‪ ،‬وصالح وهو عائد عيينةَبن ح ْ‬
‫والسالم األحمق المطاع‪ ،‬ألنه كان يتبعه ألف قََناة‪ ،‬وأقطعه عليه الصالة والسالم أرضاً يرعى فيها‬
‫بهمه على بعد ستة وثالثين ميالً من المدينة ألن أرضه كانت قد أجدبت‪.‬‬

‫طِلق‬
‫صَ‬‫الم ْ‬
‫غزوةبن ُ‬

‫سيد بني المصطلق الذين ساعدوا‬


‫في شعبان‪ ،‬بلغه عليه الصالة والسالم أن الحارثبن أبي ضرار‪َ ،‬‬
‫ُأحد‪ ،‬يجمع الجموع لحربه‪ ،‬فخرج له عليه الصالة والسالم في جمع‬
‫قريشاً على حرب المسلمين في ُ‬
‫كثير‪ ،‬وولَّى على المدينة َ‬
‫زيدبن حارثة‪ ،‬وخرج معه من نسائه عائشةُ وُأم سلمة‪ .‬وخرج معه ناس من‬
‫المنافقين لم يخرجوا قطُّ في غزوة مثلها‪ ،‬يرجون أن يصيبوا من َع َر ِ‬
‫ض الدنيا‪ ،‬وفي أثناء مسيره عليه‬
‫بع ْي ِن بني المصطلق‪ ،‬فسأله عن أحوال العدو فلم ْ‬
‫يجب فأمر بقتله‪ .‬ولما بلغ‬ ‫الصالة والسالم التقى َ‬
‫الحارث رئيس الجيش مجيء المسلمين لحربه‪ ،‬وأنهم قتلوا جاسوسه‪ ،‬خاف هو وجيشه خوفاً شدياً‬
‫ص َّ‬
‫اف الفريقان للقتال‪ ،‬بعد أن عرض‬ ‫ِ‬
‫حتى تفرق عنه بعضهم‪ ،‬ولما وصل المسلمون إلى اْل ُم َر ْيسيع تَ َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫عليهم اإلسالم فلم يقبلوا‪ ،‬فتراموا بالنبل ساعة‪ ،‬ثم حمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد‪ ،‬فلم يتركوا‬
‫لرجل من عدوهم مجاالً للهرب‪ ،‬بل قتلوا عشرة منهم وأسروا باقيهم مع النساء والذرية‪ ،‬واستاقوا‬
‫اإلبل والشياه‪ ،‬وكانت اإلبل ألفي بعير‪ ،‬والشياه خمسة آالف‪ ،‬واستعمل الرسول على ضبطها مواله‬
‫ُشقران‪ ،‬وعلى األسرى ُب َريدة‪ .‬وكان في نساء المشركين َب َّرة بنت الحارث سيد القوم‪ ،‬وقد أخذ من‬
‫ت على المسلمين‪ ،‬وهنا يظهر ُح ْسن السياسة ومنتهى الكرم‪ ،‬فإن بني‬ ‫قومها مئتا ٍ‬
‫بيت أسرى ُو ِّز َع ْ‬
‫فأس ُر نسائهم بهذه الحال صعب جداً‪ ،‬فأراد عليه الصالة والسالم أن‬ ‫المصطلق من ِّ‬
‫أعز العرب داراً ْ‬
‫سماها‬ ‫يجعل المسلمين َي ُمُّن َ‬
‫ون على النساء بالحرية من تلقاء أنفسهم‪ ،‬فتزوج ّبرة بنت الحارث التي ّ‬
‫ُج َو ْي ِرَيةَ‪ ،‬فقال المسلمون‪ :‬أصهار رسول اهلل ال ينبغي أسرهم في أيدينا ّ‬
‫فمنوا عليهم بالعتق‪ ،‬فكانت‬
‫ٍ‬
‫امرأة على قومها كما قالت عائشة رضي اهلل عنها‪ ،‬وتسبَّب عن هذا الكرم العظيم وهذه‬ ‫أيمن‬
‫جويريةُ َ‬
‫المعاملة الجليلة أن أسلم بنو المصطلق عن بكرة أبيهم‪ ،‬وكانوا للمسلمين بعد أن كانوا عليهم‪.‬‬

‫صاحَبتْهُما حكمةُ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لعادتا‬


‫َ‬ ‫أن‬
‫وقد حصل في هذه الغزوة نادرتان‪ ،‬لوال ْ‬
‫بالتفريق على المسلمين‪.‬‬

‫األجير الحليف حتى سال‬


‫ُ‬ ‫فأوالهما‪ :‬أن أجيراً لعمربن الخطاب اختصم مع حليف للخزرج‪ ،‬فضرب‬
‫دمه‪ ،‬فاستصرخ بقومه الخزرج‪ ،‬واستصرخ األجير بالمهاجرين‪ ،‬فأقبل الذعر من الفريقين‪ ،‬وكادوا‬
‫يقتتلون لوال أن خرج عليهم رسول اهلل فقال‪« :‬ما بال دعوى الجاهلية؟» وهي ما يقال في االستغاثة‪:‬‬
‫المضروب حتى أسقط حقه‬
‫َ‬ ‫«د ُعوا هذه الكلمة فإنها منتنة»‪ ،‬ثم كلم‬
‫يا لَفُالن‪ .‬فأخبر الخبر‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫غضب‪ ،‬وكان عنده رهط من الخزرج‪،‬‬
‫َ‬ ‫وبذلك سكنت الفتنة‪ ،‬فلما بلغ عبد اللهبن َُأب َي هذا الخصام‬
‫فقال‪ :‬ما رأيت كاليوم م ّذلة أو قد فعلوها؟ نافرونا في ديارنا‪ ،‬واهلل ما نحن والمهاجرون إال كما قال‬
‫سمن كلبك يأكلك‪ ،‬أما واهلل‪ :‬لَِئن } (المنافقون‪ ،)8 :‬ثم التفت إلى َم ْن معه‪ ،‬وقال‪ :‬هذا ما فعلتم‬
‫األول‪ِّ :‬‬
‫َّ‬
‫بأنفسكم‪ ،‬أحللتموهم بالدكم وقاسمتموهم أموالكم‪ ،‬أما واهلل لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير‬
‫داركم ثم لم يرضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم غرضاً للمنايا دون محمد فأيتمتم أوالدكم‪َ ،‬و َقلَْلتُم‬
‫حديث السن‪ ،‬قوي اإلسالم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وكثروا‪ ،‬فال تنفقوا عليهم حتى َي ْنفَضُّوا من عنده‪ ،‬وكان في مجلسه شاب‬
‫اسمه زيدبن أرقم‪ ،‬فأخبر رسول اهلل الخبر فتغير وجهه‪ ،‬وقال‪« :‬يا غالم لعلك غضبت عليه فقلت ما‬
‫قلت؟» فقال‪ :‬واهلل يا رسول اهلل لقد سمعته‪ .‬قال‪« :‬لعلّه أخطأ سمعك»‪ ،‬فاستأذن عمر الرسول في قتل‬
‫الناس أن محمداً‬
‫ابن َُأب ّي أو أن يأمر أحداً غيره بقتله فنهاه عن ذلك‪ .‬وقال‪« :‬كيف يا عمر إذا تحدث ُ‬
‫يقتل أصحابه؟» ثم أذن بالرحيل في وقت لم يكن يرتحل فيه حين اشتد الحر يقصد بذلك عليه الصالة‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫والسالم َش ْغ َل الناس عن التكلم في هذا الموضوع‪،‬ـ فجاءه أسيدبن ُحضير وسأله عن سبب االرتحال‬
‫رجع إلى‬
‫َ‬ ‫في هذا الوقت‪ ،‬فقال‪« :‬أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن‬

‫شئت‪ ،‬هو واهلل الذلي ُل‬


‫األعز منها األذل»‪ .‬قال‪ :‬أنت واهلل يا رسول اهلل تخرجه إن َ‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫ليخرجن‬ ‫المدينة‬
‫سار عليه الصالة والسالم بالناس سيراً حثيثاً حتى آذتهم الشمس‪ ،‬فنزل بالناس فلم‬
‫العزيز‪ ،‬ثم َ‬
‫ُ‬ ‫وأنت‬
‫يلبثوا أن وجودا َم َّس األرض حتى وقعوا نياماً‪.‬‬
‫ُأبي في أن يطلب من الرسول االستغفار فلوى رأسه واستكبر‪.‬‬
‫عبد اللهبن ّ‬
‫وكلّم رجا ٌل من األنصار َ‬
‫وصدقت زيدبن أرقم‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ُأبي وإ خوانه‬
‫وهنا نزل على الرسول سورةُ المنافقين التي فضحت عبد اللهبن ّ‬
‫ُأبي‪ ،‬استأذن رسول اهلل في قتل أبيه حذراً من أن ُي َكلِّف بذلك‬
‫بلغ ذلك عبد اللهبن عبد اللهبن ّ‬
‫ولما َ‬
‫غيره‪ ،‬فيكون عنده من ذلك أضغان وأحقاد‪ ،‬فأمره عليه الصالة والسالم باإلحسان إلى أبيه‪.‬‬

‫حديث اإلفك‬

‫الصديقة‪ ،‬زوج‬
‫ّ‬ ‫رمي عائشة‬
‫وأجلب منها للمصائب‪ ،‬وهي ُ‬ ‫ُ‬ ‫النادرة الثانية‪ :‬وهي أفظعُ من األولى‬
‫المعطَّل السلمي‪ ،‬وذلك أنهم لما دنوا من المدينة أذن عليه‬ ‫رسول اهلل باإلفك‪ ،‬فاتَّهموها بصفوانبن َ‬
‫الصالة والسالم ليلة بالرحيل‪ ،‬وكانت السيدة عائشة قد مضت لقضاء حاجتها حتى جاوزت الجيش‪،‬‬
‫ظفَ ِار قد انقطع فرجعت‬‫جزع َ‬‫فلما قضت شأنها أقبلت إلى َر ْحلها‪ ،‬فلمست صدرها فإذا ِع ْق ٌد لها من ْ‬
‫ونها‪ ،‬فاحتملوا هودجها ِّ‬
‫ظانين أنها فيه‪،‬‬ ‫تلتمس عقدها‪ ،‬فحبسها ابتغاؤه‪ ،‬فأقبل الرهط الذين كانوا َي ْرحلُ َ‬
‫كن إذ ذاك خفافاً لم َي ْغ َشهُ َّن اللحم‪ ،‬فلم يستنكر القوم ِخفَّةَ الهودج‪ ،‬وكانت عائشة جارية‬
‫ألن النساء َّ‬
‫داع وال ُمجيب‪ ،‬فغلبتها‬
‫حديثة السن‪ ،‬فجاءت منزل الجيش بعد أن وجدت عقدها‪ ،‬وليس بالمنزل ٍ‬
‫الم َعطَّل‪ ،‬فأصبح عند منزلها‬
‫يسير وراء الجيش يفتقد ضائعه صفوانبن ُ‬ ‫فنامت‪ ،‬وكان الذي ُ‬ ‫ْ‬ ‫عيناها‬
‫فعرفها ألنه كان رآها قبل الحجاب‪ ،‬فاسترجع‪ ،‬فاستيقظت باسترجاعه وسترت وجهها بجلبابها‪ ،‬فأناخ‬
‫راحلته وأركبها من غير أن يتكلما بكلمة‪ ،‬ثم انطلق يقود بها الراحلة حتى وصل الجيش وهو نازل‬
‫للراحة‪ ،‬فقامت قيامة أهل اإلفك‪ ،‬وقالوا ما قالوا في عائشة وصفوان‪،‬ـ والذي تََولى كبر اإلفك عبد‬
‫ُأبي‪.‬‬
‫اللهبن ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ولما قدموا المدينة مرضت عائشة شهراً‪ ،‬والناس يفيضون في قول اإلفك‪ ،‬وهي ال تشعر بشيء‪،‬‬
‫وكانت تعرف في رسول اهلل رقة إذا مرضت‪ ،‬فلم يعطها نصيباً منها في هذا المرض‪ ،‬بل كان يمر‬
‫ت خرجت‬ ‫على باب الحجرة ال يزيد على قوله‪« :‬كيف حالكم؟» مما جعلها في ريب عظيم‪ .‬فلما َنِقهَ ْ‬
‫للتبرز خارج البيوت‪ ،‬فعثرت ُأم مسطح في ِم ْرطها فقالت‪:‬‬ ‫ِ‬
‫هي وُأم مسطحبن أثاثة ـ ـ أحد أهل اإلفك ـ ـ ّ‬
‫تعس ِمسطح فقالت عائشة‪ :‬بئس ما ِ‬
‫قلت أتسبين رجالً شهد بدراً؟ فقالت يا َه ْنتاهُ أو لم تسمعي ما‬
‫قالوا؟ فسألتها عائشة عن ذلك فأخبرتها الخبر‪ ،‬فازدادت مرضاً على مرضها‪ .‬ولما جاءها عليه‬
‫عما يقول الناس‪،‬‬
‫فسألت أمها ّ‬
‫ْ‬ ‫تمرض في بيت أبيها‪ ،‬فأذن لها‪،‬‬
‫الصالة والسالم كعادته‪ ،‬استأذنته أن ّ‬
‫هوني عليك‪ ،‬فواهلل لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئه عند رجل يحبها ولها ضرائر إال‬
‫بنية ِّ‬
‫فقالت‪ :‬يا ّ‬
‫أكثرن عليها‪ ،‬فقالت عائشة‪ :‬سبحان اهلل َأو قد تحدث الناس بهذا؟ وبكت تلك الليلة حتى أصبحت ال‬
‫كبار أهل بيته فيما‬
‫يرقأ لها دمع‪ ،‬وال تكتحل بنوم‪ .‬وفي خالل ذلك كان عليه الصالة والسالم يستشير َ‬
‫يفعل‪ ،‬فقال له أسامة لما يعلمه من براءة عائشة‪ :‬أهلك أهلك وال نعلم عليهم إال خيراً‪ .‬وقال عليبن أبي‬
‫ص ُد ْق َك‪ .‬فدعا عليه الصالة والسالم‬ ‫ق اهلل عليك‪ ،‬والنساء سواها كثير‪ِ ،‬‬
‫وسل الجاريةَ تَ ْ‬ ‫ضِّي ِ‬
‫طالب‪ :‬لم ُي َ‬
‫َبريرة جارية عائشة‪ ،‬وقال لها‪ :‬هل رأيت من شيء َي ِر ْيُب ِك؟ فقالت‪ :‬والذي بعثك بالحق ما رأيت‬
‫ِّن‪ ،‬تنام عن عجينها‪ ،‬فتأتي الداجن فتأكله‪.‬‬ ‫عليها أمراً قطّ ِ‬
‫أغمصه غير أنها جارية حديثة الس ِّ‬

‫ذرني من‬
‫«م ْن َي ْع ُ‬
‫فقام عليه الصالة والسالم من يومه وصعد المنبر والمسلمون مجتمعون وقال‪َ :‬‬
‫رجل قد بلغني أذاه في أهلي؟ واهلل ما علمت على أهلي إال خيراً‪ ،‬ولقد ذكروا رجالً ما علمت عليه إال‬
‫خيراً وما يدخل على أهلي إال معي»‪ .‬فقال سعدبن معاذ‪ :‬أنا يا رسول اهلل ِ‬
‫َأعذ ُرك منه‪ ،‬فإن كان من‬
‫سعدبن عبادة‬
‫األوس ضربت عنقه‪ ،‬وإ ن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك‪ ،‬فقام ُ‬
‫أحببت أنه‬
‫َ‬ ‫لع ْم ُر اهلل‪ ،‬ال تقتله وال تقدر على قتله‪ ،‬ولو كان من رهطك ما‬
‫كذبت َ‬
‫َ‬ ‫الخزرجي وقال‪:‬‬
‫كذبت لعمر اهلل لنقتلنه فإنك منافق تجاد ُل عن‬
‫َ‬ ‫ُيقتل‪ ،‬فقام ُأسيدبن ُحضير‪ ،‬وقال لسعدبن عبادة‪:‬‬
‫وخفَّ َ‬
‫ضهم‬ ‫المنافقين‪ .‬وكادت تكون فتنة بين األوس والخزرج لوال أن رسول اهلل نزل من فوق المنبر َ‬
‫حتى سكتوا‪ .‬أما عائشة فبقيت ليلتين ال يرقأ لها دمع‪ ،‬وال تكتحل بنوم‪ .‬وبينما هي مع أبويها إذ دخل‬
‫النبي عليه الصالة والسالم فسلّم ثم جلس فقال‪« :‬أما بعد‪ ،‬يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا‪ ،‬فإن‬
‫كنت بريئة فسيبرئك اهلل‪ ،‬وإ ن كنت ألممت بذنب فاستغفري اهلل وتوبي إليه‪ ،‬فإن العبد إذا اعترف‬
‫وتاب‪ ،‬تاب اهلل عليه»‪ ،‬فتقلص دمعُ عائشة‪ ،‬وقالت ألبويها‪ :‬أجيبا رسول اهلل‪ ،‬فقاال‪ :‬واهلل ما ندري ما‬
‫علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به‪ ،‬فلئن‬
‫ُ‬ ‫نقول‪ ،‬فقالت‪ :‬إني واهلل لقد‬
‫ص ِّدقُِّني فواهلل‬
‫قلت لكم إني بريئة ال تصدقوني‪ ،‬ولئن اعترفت لكم بأمر ـ ـ واهلل يعلم أني منه بريئة ـ ـ لتُ َ‬
‫ُ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ون} (يوسف‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬


‫ان َعلَى َما تَصفُ َ‬
‫ص ْبٌر َجمي ٌل َواللهُ اْل ُم ْستَ َع ُ‬
‫أجد لي ولكم مثالً إال أبا يوسف حيث قال‪ :‬فَ َ‬
‫ال ُ‬
‫‪.)18‬‬

‫يزاول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مجلسه حتى نزلت‬ ‫ْ‬ ‫تحولت واضطجعت على فراشها‪ ،‬ولم‬ ‫ْ‬ ‫ثم‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫صَبةٌ‬‫ين َجآءوا بِاإل ْفك ُع ْ‬ ‫الصديقة‪ِ{ :‬إ َّن الذ َ‬ ‫ّ‬ ‫عليه اآليات من سورة النور ببراءة السيدة المطهرة عائشة‬
‫ب ِم َن اإلثِْم َوالَِّذى تََولَّى ِك ْب َرهُ ِم ْنهُ ْم‬ ‫ام ِرىء ّم ْنهُ ْم َّما ا ْكتَ َس َ‬
‫َّ ِ‬ ‫َّ‬
‫ّم ْن ُك ْم الَ تَ ْح َسُبوهُ َشّراً ل ُك ْم َب ْل ُه َو َخ ْيٌر ل ُك ْم ل ُك ّل ْ‬
‫ين(‬ ‫ك ُّمبِ ٌ‬ ‫ات بَِأنفُ ِس ِه ْم َخْيراً َوقَالُوْا َها َذآ ِإ ْف ٌ‬‫ون َواْل ُمْؤ ِمَن ُ‬ ‫يم(‪ )11‬لَّ ْوآل ِإ ْذ َس ِم ْعتُ ُموهُ َ‬
‫ظ َّن اْل ُمْؤ ِمُن َ‬
‫لَه ع َذ ٌ ِ‬
‫اب َعظ ٌ‬ ‫ُ َ‬
‫ون(‪َ )13‬ولَ ْوالَ‬ ‫ِ‬ ‫الشه َدآء فَُأولَِئ َك ِع َ َّ ِ‬ ‫ِ ُّ‬ ‫ِإ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫َّ‬
‫ند الله ُه ُم اْل َكاذُب َ‬ ‫ْ‬ ‫‪ )12‬ل ْوالَ َجآءو َعلَْيه ب َْأرَب َعة ُشهَ َدآء فَ ْذ لَ ْم َيْأتُوْا ب َ‬
‫يه ع َذ ٌ ِ‬ ‫ال ِخر ِة لَم َّس ُكم ِفى مآ َأفَ ْ ِ ِ‬ ‫ض ُل اللَّ ِه َعلَْي ُك ْم و َر ْح َمتُهُ ِفى ُّ‬
‫يم(‪ِ )14‬إ ْذ تَلَقَّ ْوَنهُ‬ ‫اب َعظ ٌ‬ ‫ضتُ ْم ف َ‬ ‫َ‬ ‫الد ْنَيا َوا ْ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫فَ ْ‬
‫يم(‪َ )15‬ولَ ْوآل ِإ ْذ‬ ‫ونه هّيناً وهو ِع َ َّ ِ ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫بَِأْل ِسَنتِ ُكم وتَقُولُ ـ ِ ِ‬
‫ند الله َعظ ٌ‬ ‫ون بَأ ْفواه ُك ْم َّما ل ْي َس لَ ُك ْم به عْل ٌم َوتَ ْح َسُب َ ُ َ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫ودوْا ِل ِمثِْلهِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫يم(‪َ )16‬يعظُ ُك ُم اللهُ َأن تَ ُع ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ون لََنآ َأن َّنتَ َكل َم بهَا َذا ُسْب َح َان َك َها َذا ُب ْهتَ ٌ‬ ‫ِ‬
‫ان َعظ ٌ‬ ‫َسم ْعتُ ُموهُ ُقْلتُ ْم َّما َي ُك ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫َأبداً ِإن ُكنتُم ُّم ِمنِين(‪ )17‬ويبّين اللَّه لَ ُكم ا ْ ِ َّ ِ‬
‫يع‬
‫ُّون َأن تَش َ‬
‫ين ُيحب َ‬ ‫يم(‪ِ )18‬إ َّن الذ َ‬ ‫يم َحك ٌ‬‫الَيات َواللهُ َعل ٌ‬ ‫َ َُ ُ ُ ُ‬ ‫ْ ْؤ َ‬ ‫َ‬
‫َّ‬ ‫الد ْنيا وا ْ ِ‬
‫اب َِأل ٌ ِ ُّ‬ ‫ِ ِ َِّ‬
‫الخ َر ِة َواللهُ َي ْعلَ ُم َو َْأنتُ ْم الَ تَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون(‪َ )19‬ولَ ْوالَ‬ ‫يم فى َ َ‬ ‫ءامُنوْا لَهُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫ين َ‬ ‫اْلفَاح َشةُ فى الذ َ‬
‫طِ‬
‫ان‬ ‫وات َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫ءوف َّر ِحيم(‪ )20‬يَأيُّها الَِّذين ءامُنوْا الَ تَتَّبِعوْا ُخطُ ِ‬ ‫َأن اللَّهَ َر ٌ‬ ‫ض ُل اللَّ ِه َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ َو َّ‬
‫فَ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫ْأم ُر بِاْلفَ ْح َشآء‬ ‫ط ِ ِإ‬ ‫وات َّ‬ ‫ومن يتَّبِع ُخطُ ِ‬
‫ان فَ َّنهُ َي ُ‬ ‫الش ْي َ‬ ‫ََ َ ْ‬

‫َّ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ض ُل اللَّ ِه علَْي ُكم ور ْحمتُه ما َز َكى ِمن ُكم من ٍ‬ ‫َواْل ُم ْن َك ِر َولَ ْوالَ فَ ْ‬
‫َأحد ََأبداً َواَل ك َّن اللهَ ُي َز ّكى َمن َي َشآء َواللهُ‬
‫ّْ َ‬ ‫َ ْ ََ َ ُ َ‬
‫ين واْلمه ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ِل ِمن ُكم والس ِ‬ ‫يم(‪َ )21‬والَ َيْأتَ ِل ُْأولُوْا اْلفَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اج ِر َ‬
‫ين‬ ‫َّعة َأن يُْؤ تُوْا ُْأولى اْلقُْرَبى َواْل َم َساك َ َ ُ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َسميعٌ َعل ٌ‬
‫يم} (النور‪ )22 :‬فقال‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِفى سبِ ِ َّ ِ‬
‫ور َّرح ٌ‬ ‫ُّون َأن َي ْغف َر اللهُ لَ ُك ْم َواللهُ َغفُ ٌ‬
‫صفَ ُحوْا َأالَ تُحب َ‬
‫يل الله َوْلَي ْعفُوْا َوْلَي ْ‬ ‫َ‬
‫أبو بكر‪ :‬بل نحب ذلك يا رسول اهلل‪ ،‬وأعاد النفقة على ِمسطح‪ .‬فهذه مضار المنافقين الذين يدخلون‬
‫بين األمم مظهرين لهم المحبة وقلوبهم مملوءة حقداً يتربصون الفتن‪ ،‬فمتى رأوا باباً لها َولَجوه فنعوذ‬
‫باهلل منهم‪.‬‬

‫غزوة الخندق‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫يقر لعظماء بني النضير قرار بعد جالئهم عن ديارهم وإ رث المسلمين لها‪ ،‬بل كان في نفوسهم‬
‫لم ّ‬
‫ويستردوا بالدهم‪ ،‬فذهب جمع منهم إلى مكة‪ ،‬وقابلوا رؤساء قريش‪،‬‬
‫ّ‬ ‫دائماً أن يأخذوا ثأرهم‬
‫ومنوهم المساعدة‪ ،‬فوجدوا منهم قبوالً لما طلبوه‪ ،‬ثم جاؤوا إلى‬
‫وحرضوهم على حرب رسول اهلل ّ‬
‫ّ‬
‫وحرضوا رجالها كذلك‪ ،‬وأخبروهم بمبايعة قريش لهم على الحرب‪ ،‬فوجدوا منهم‬
‫قبيلة غطفان ّ‬
‫ارتياحاً‪ ،‬فتجهزت قريش وأتباعها يرأسهم أبو سفيان‪ ،‬ويحمل لواءهم عثمانبن طلحةبن أبي طلحة‬
‫العبدري‪ ،‬وعددهم أربعة آالف‪ ،‬معهم ثالثمائة فرس‪ ،‬وألف وخمسمائة بعير‪ .‬وتجهزت غطفان‬
‫يرأسهم ُعَي ْيَنةُبن ِحصن الذي جازى إحسان رسول اهلل كفراً‪ ،‬فإنه كما ّ‬
‫قدمنا أقطعه أرضاً يرعى فيها‬
‫سوائمه‪ ،‬حتى إذا سمن خفُّه وحافره‪ ،‬قام يقود الجيوش لحرب من أنعم عليه‪ ،‬وكان معه ألف فارس‪.‬‬
‫مرة يرأسهم الحارثبن عوف المري وهم أربعمائة‪ ،‬وتجهزت بنو أشجع يرأسهم أبو‬
‫وتجهزت بنو ّ‬
‫مسعودبن ُر َخيلَةَ‪ ،‬وتجهزت بنو سليم يرأسهم سفيانبن عبد شمس‪ ،‬وهم سبعمائة‪ ،‬وتجهزت بنو أسد‬
‫يرأسهم طليحةبن خويلد األسدي‪ ،‬وعدة الجميع عشرة آالف محارب قائدهم العام أبو سفيان‪ .‬ولما‬
‫بلغه عليه الصالة والسالم أخبار هاتِه التجهيزات‪ ،‬استشار أصحابه فيما يصنع أيمكث بالمدينة أم‬
‫الجرار؟ فأشار عليه سلمان الفارسي بعمل الخندق وهو عمل لم تكن العرب‬
‫يخرج للقاء هذا الجيش ّ‬
‫الحره‬
‫تعرفه‪ ،‬فأمر عليه الصالة والسالم المسلمين بعمله‪ ،‬وشرعوا في حفره شمالي المدينة من ّ‬
‫الحرة الغربية وهذه هي الجهة التي كانت عورة تُؤتى المدينة من قبلها‪ .‬أما بقية حدودها‬
‫الشرقية إلى ّ‬
‫فمشتبكة بالبيوت والنخيل‪ ،‬ال يتمكن العدو من الحرب جهتها‪ ،‬وقد قاسى المسلمون صعوبات جسيمة‬
‫في حفر الخندق‪ ،‬ألنهم لم يكونوا في سعة من العيش حتى يتيسر لهم العمل‪ ،‬وعمل معهم عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬فكان ينقل التراب متمثالً بشعر ابن رواحة‪:‬‬

‫األقدام إن القيناوالمشركون قد‬ ‫تصد ْقنا وال صلّينافَ َْأن ِزلَن سكينةً عليناوثب ِ‬
‫ِّت‬ ‫اللهم لوال أنت ما اهتديناوال َّ‬
‫َّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫َب َغوا عليناوإ ن أرادوا فتنةً أبينا وأقام الجيش في الجهة الشرقية مسنداً ظهره إلى َسْلع وهو جبل مطل‬
‫وعدتهم ثالثة آالف‪ ،‬وكان لواء المهاجرين مع زيدبن حارثة‪ ،‬ولواء األنصار مع سعدبن‬
‫على المدينة ّ‬
‫ُأحد‪ .‬وكان المشركون معجبين‬ ‫بم ْجمع األسيال‪ ،‬وأما غطفان فنزلت جهة ُ‬
‫عبادة‪ .‬أما قريش فنزلت َ‬
‫بمكيدة الخندق التي لم تكن العرب تعرفها‪ ،‬فصاروا يترامون مع المسلمين بالنبل‪ .‬ولما طال المطال‬
‫عليهم أكره جماعة منهم أفراسهم على اقتحام الخندق‪ ،‬منهم‪ :‬عكرمةبن أبي جهل‪ ،‬وعمروبن َع ْبِد َو َد‬
‫وآخرون‪ ،‬وقد برز عليبن أبي طالب رضي اهلل تعالى عنه لعمروبن عبد ود فقتله وهرب إخوانه‪،‬‬
‫ورمي سعدبن معاذ رضي اهلل عنه بسهم قطع‬
‫وهوى في الخندق نوفلبن عبد اهلل‪ ،‬فاندقت عنقه‪ُ ،‬‬
‫َأ ْكحله‪ ،‬وهو شريان الذراع‪ ،‬واستمرت المناوشة والمراماة بالنبل يوماً كامالً حتى فاتت المسلمين‬
‫صالة ذاك اليوم وقضوها بعد‪ ،‬وجعل عليه الصالة والسالم على الخندق ُحَّراساً حتى ال يقتحمه‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫المشركون بالليل‪ ،‬وكان يحرس بنفسه ثُلمة فيه مع شدة البرد‪ ،‬وكان عليه الصالة والسالم يب ّشر‬
‫وي ِعدهم الخير‪.‬‬
‫أصحابه بالنصر والظفر َ‬

‫{ما وع َدنا اللَّه ورسولُه ِإالَّ‬ ‫أما المنافقون فقد أظهروا في هذه الشدة ما ُّ‬
‫تكنه ضمائرهم حتى قالوا‪ُ ُ َ َ ُ َ َ َ َّ :‬‬
‫{و َما ِه َى‬‫ُغ ُروراً} (األحزاب‪ )12 :‬وانسحبوا قائلين‪ :‬إن بيوتنا عورة نخاف أن ُيغير عليها العدو َ‬
‫صاحَبه‬
‫َ‬ ‫ون ِإالَّ ِف َراراً} (األحزاب‪ )13 :‬واشتدت الحال بالمسلمين‪ ،‬فإن هذا الحصار‬ ‫بِ َع ْو َر ٍة ِإن ُي ِر ُ‬
‫يد َ‬
‫ضيق على فقراء المدينة‪ ،‬والذي زاد الشدة عليهم ما بلغهم من أن يهود بني قريظة الذين ُيساكنونهم‬
‫طب سيد بني النضير‬
‫َأخ َ‬
‫في المدينة قد انتهزوا هذه الفرصة لنقض العهود‪ ،‬وسبب ذلك أن ُحَييَّبن ْ‬
‫المجلين توجه إلى كعببن أسد القرظي سيد بني قريظة‪ ،‬وكان له كالشيطان إذ قال لإلنسان اكفر‪،‬‬
‫فحسَّن له نقض العهد‪ ،‬ولم يزل به حتى أجابه لقتال المسلمين‪.‬‬

‫ولما بلغت هذه األخبار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أرسل مسلمةبن أسلم في مائتين‪ ،‬وزيدبن‬
‫العوام يستجلي له‬ ‫ٍ‬
‫حارثة في ثالثمائة لحراسة المدينة‪ ،‬خوفاً على النساء والذراري‪ ،‬وأرسل الزبيربن ّ‬
‫الخبر‪ ،‬فلما وصلهم وجدهم حانقين‪ ،‬يظهر على وجوههم الشر‪ ،‬ونالوا من رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم والمسلمين أمامه‪ ،‬فرجع وأخبر الرسول بذلك‪ .‬وهناك اشتد َو َج ُل المسلمين وزلزلوا زلزاالً‬
‫شديداً‪ ،‬ألن العدو جاءهم من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت األبصار وبلغت القلوب الحناجر وظنوا‬
‫ص ٍن‪،‬‬ ‫ِ‬
‫لعَي ْيَنةَبن ح ْ‬
‫باهلل الظنون‪ ،‬وتكلم المنافقون بما َبدا لهم‪ ،‬فأراد عليه الصالة والسالم أن يرسل ُ‬
‫ويصالحه على ثلث ثمار المدينة لينسحب بغطفان‪ ،‬فأبى األنصار ذلك قائلين‪ :‬إنهم لم يكونوا ينالون‬
‫منا قليالً من ثمارنا ونحن كفار‪ ،‬أفبعد اإلسالم يشاركوننا فيها؟ وإ ذا أراد اهلل العناية بقوم هيأ لهم‬
‫ّ‬
‫أسباب الظفر من حيث ال يعلمون‪ .‬فانظر إلى هذه العناية من اهلل للمتمسكين بدينه القويم‪ .‬جاء ُنعيمبن‬
‫مسعود األشجعي وهو صديق قريش واليهود ومن غطفان‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل إني قد أسلمت وقوميـ‬
‫فمرني بأمرك حتى ُأساعدك‪ .‬فقال‪« :‬أنت رجل واحد وماذا عسى أن تفعل؟‬
‫ال يعلمون بإسالمي ُ‬
‫خدعه»‪.‬‬ ‫ولكن َخ ِّذل ّ‬
‫عنا ما استطعت فإن الحرب ْ‬

‫الخدعة في الحرب‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫فخرج من عنده وتوجه إلى بني قريظة الذين نقضوا عهود المسلمين‪ ،‬فلما رأوه أكرموه لصداقته‬
‫عني‪ ،‬قالوا‪:‬‬ ‫ودي لكم وخوفي عليكم‪ ،‬وإ ني ِّ‬
‫محدثكم حديثاً فاكتموه ّ‬ ‫معهم‪ ،‬فقال‪ :‬يا بني قريظة تعرفون ّ‬
‫نعم‪ ،‬فقال‪ :‬لقد رأيتم ما وقع لبني قينقاع والنضير من إجالئهم وأخذ أموالهم وديارهم‪ ،‬وإ ن قريشاً‬
‫وغطفان ليسوا مثلكم فهم إذا رأوا فرصة انتهزوها وإ ال انصرفوا لبالدهم‪ .‬وأما أنتم فتساكنون الرجل‬
‫ـ ـ يريد الرسول ـ ـ وال طاقة لكم بحربه وحدكم‪ ،‬فأرى أالّ تدخلوا في هذه الحرب حتى تستيقنوا من‬
‫قريش وغطفان أنهم لن يتركوكم ويذهبوا إلى بالدهم بأن تأخذوا منهم رهائن سبعين شريفاً منهم‪،‬‬
‫فاستحسنوا رأيه وأجابوه إلى ذلك‪.‬‬
‫ودي لكم‪ ،‬ومحبتي ّإياكم‪،‬‬
‫ثم قام من عندهم وتوجه إلى قريش فاجتمع برؤسائهم‪ ،‬وقال‪ :‬أنتم تعرفون ّ‬
‫محدثكم حديثاً فاكتموه عني‪ ،‬قالوا‪ :‬نفعل‪ ،‬فقال لهم‪ :‬إن بني قريظة قد ندموا على ما فعلوه مع‬
‫وإ ني ّ‬
‫محمد وخافوا منكم أن ترجعوا وتتركوهم معه فقالوا له‪ُ :‬أيرضيك أن نأخذ جمعاً من أشرافهم‬
‫وترد جناحنا الذي كسرت ـ ـ يريد بني النضير ـ ـ فرضي بذلك منهم‪ .‬وها هم مرسلون‬
‫ّ‬ ‫ونعطيهم لك‪،‬‬
‫إليكم فاحذروهم وال تذكروا مما قلت لكم حرفاً‪.‬‬

‫ثم أتى غطفان فأخبرهم بمثل ما أخبر به قريشاً‪ ،‬فأرسل أبو سفيان وفداً لقريظة يدعوهم للقتال غداً‬
‫صبنا ما أصابنا إال من‬‫فأجابوا‪ّ :‬إنا ال يمكننا أن نقاتل في السبت ـ ـ وكان إرساله لهم ليلة السبت ـ ـ ولم ي ِ‬
‫ُ‬
‫التعدي فيه‪ ،‬ومع ذلك فال نقاتل حتى تعطونا رهائن منكم حتى ال تتركونا وتذهبوا إلى بالدكم‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فتحققتـ قريش وغطفان كالم ُنعيمبن مسعود‪ ،‬وتفرقت القلوب فخاف بعضهم بعضاً‪ ،‬وكان عليه‬
‫سريع‬
‫َ‬ ‫«اللهم ُم ْن ِز َل الكتاب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الصالة والسالم قد ابتهل إلى اهلل الذي ال ملجأ إال إليه ودعاه بقوله‪:‬‬
‫أجاب اهلل دعاءه عليه الصالة والسالم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم» وقد‬ ‫الحساب اهزم األحزاب‪ّ ،‬‬
‫فأرسل على األعداء ريحاً باردة في ليلة مظلمة‪ ،‬فخاف العرب أن تتفق اليهود مع المسلمين ويهجموا‬
‫المدلهمة فأجمعوا أمرهم على الرحيل قبل أن يصبح الصباح‪ .‬ولما سمع عليه الصالة‬
‫َّ‬ ‫عليهم في الليلة‬
‫فمن منكم ينظر لنا خبر‬
‫بد من حادث‪َ ،‬‬
‫والسالم الضوضاء في جيش العدو‪ ،‬قال ألصحابه‪« :‬ال ّ‬
‫القوم؟» فسكتوا حتى كرر ذلك ثالثاً‪ .‬وكان فيهم ُحذيفةبن اليمان‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬تسمع‬
‫صوتي منذ الليلة وال تجيب» فقال‪ :‬يا رسول اهلل البرد شديد‪ ،‬فقال‪« :‬اذهب في حاجة رسول اهلل‬
‫جلية الخبر‪،‬‬
‫طلع على ّ‬
‫واكشف لنا خبر القوم» فخاطر رضي اهلل عنه بنفسه في خدمة نبيِّه‪ ،‬حتى ا ّ‬
‫وأن األعداء عازمون على الرحلة‪.‬‬

‫هزيمة األحزاب‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ليتعرف ٌّ‬
‫كل منكم أخاه‪ ،‬وليمسك بيده حذراً‬ ‫وقد بلغ من خوفهم‪ ،‬أن كان رئيسهم أبو سفيان يقول لهم‪َّ :‬‬
‫ال بعيره يريد أن يبدأ بالرحيل‪ ،‬فقال له صفوانبن أمية‪َّ :‬إنك‬
‫من أن يدخل بينكم عدو‪ ،‬وقد ح ّل عقَ َ‬
‫رئيس القوم فال تتركهم وتمضي‪،‬ـ فنزل أبو سفيان وأذن بالرحيل‪ ،‬وترك خالدبن الوليد في جماعة‬
‫تحزب‬
‫الغمة التي ّ‬
‫ليحموا ظهور المرتحلين حتى ال يدهموا من ورائهم‪ ،‬وأزاح اهلل عن المسلمين هذه ّ‬
‫فيها األحزاب من عرب ويهود على المسلمين‪ ،‬ولوال لطف اهلل وعنايته بهذا الدين ِمَّنةً منه وفضالً‬
‫لساءت الحال‪.‬‬
‫يسميه نعمة بقوله في سورة األحزاب‪:‬‬ ‫وكان جالء األحزاب في ذي القعدة‪ ،‬وكان حقّاً على اهلل أن ّ‬
‫ود فَ َْأر َسْلَنا َعلَْي ِه ْم ِريحاً َو ُجُنوداً لَّ ْم تََر ْو َها‬
‫ءامُنوْا ا ْذ ُك ُروْا نِ ْع َمةَ اللَّ ِه َعلَْي ُك ْم ِإ ْذ َجآءتْ ُك ْم ُجُن ٌ‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫{ياَأيُّهَا الذ َ‬
‫ص ُار َوَبلَ َغ ِت‬ ‫اغ ِت ا ْ‬
‫ال ْب َ‬ ‫َأس َف َل ِمن ُك ْم َوِإ ْذ َز َ‬
‫ون َبصيراً(‪ِ )9‬إ ْذ َجآءو ُك ْم ّمن فَ ْو ِق ُك ْم َو ِم ْن ْ‬
‫ِ‬ ‫و َك َّ‬
‫ان اللهُ بِ َما تَ ْع َملُ َ‬‫َ َ‬
‫ون َو ُزْل ِزلُوْا ِزْل َزاالً َش ِديداً(‪َ )11‬وِإ ْذ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬
‫ون ْا(‪ُ )10‬هَنال َك ْابتُل َى اْل ُمْؤ ِمُن َ‬ ‫ون بِاللَّ ِه الظُن َ‬ ‫اج َر َوتَظُُّن َ‬ ‫وب اْل َحَن ِ‬‫اْل ُقلُ ُ‬
‫ض َّما َو َع َدَنا اللَّهُ َو َر ُسولُهُ ِإالَّ ُغ ُروراً(‪َ )12‬وِإ ْذ قَالَت طَّآِئفَةٌ ّم ْنهُ ْم‬ ‫ين ِفى ُقلُوبِ ِهم َّم َر ٌ‬ ‫َِّ‬
‫ون َوالذ َ‬
‫ِ‬
‫َيقُو ُل اْل ُمَنافقُ َ‬
‫ون ِإ َّن ُبُيوتََنا َع ْو َرةٌ َو َما ِه َى بِ َع ْو َر ٍة‬
‫النبِ َّى َيقُولُ َ‬
‫يق ّم ْنهُ ُم َّ‬‫ام لَ ُك ْم فَ ْار ِج ُعوْا َوَي ْستَ ِْأذ ُن فَ ِر ٌ‬‫ب الَ ُمقَ َ‬ ‫‪.‬يثْ ِر َ‬‫ياَأه َل َ‬
‫ْ‬
‫ون ِإالَّ ِف َراراً(‪)13‬‬ ‫يد َ‬ ‫ِإن ُي ِر ُ‬

‫غزوة بني قَُر ْيظة‬

‫ولما رجع عليه الصالة والسالم بأصحابه‪ ،‬وأراد أن يخلع لباس الحرب‪ ،‬أمره اهلل باللحوق ببني‬
‫قريظة‪ ،‬حتى يطهِّر أرضه من قوم لم تعد تنفع معهم العهود‪ ،‬وال تربطهم المواثيق‪ ،‬وال يأمن‬
‫صلَِّي َّن أحد منكم العصر إال في بني قريظة» فساروا‬
‫المسلمون جانبهم في شدة‪ ،‬فقال ألصحابه‪« :‬ال ُي َ‬
‫مسرعين‪ ،‬وتبعهم عليه الصالة والسالم راكباً على حماره‪ ،‬ولواؤه بيد عليبن أبي طالب‪ ،‬وخليفته‬
‫على المدينة عبد اهلل ابن أم مكتوم‪ ،‬وكان عدد المسلمين ثالثة آالف‪ ،‬وقد أدرك جماعة من األصحاب‬
‫صالة العصر في الطريق فصالّها بعضهم حاملين أمر الرسول بعدم صالتها على قصد السرعة‪،‬‬
‫ولم يصلِّها اآلخرون إال في بني قريظة بعد مضي وقتها حاملين األمر على حقيقته فلم ُي ِّ‬
‫عنف فريقاً‬
‫منهم‪.‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫التنصل من فعلتهم القبيحة‬


‫ّ‬ ‫ولما رأى بنو قريظة جيش المسلمين ألقى اهلل الرعب في قلوبهم‪ ،‬وأرادوا‬
‫وهي الغدر بمن عاهدوهم وقت الشغل بعدو آخر‪ ،‬ولكن َّأنى لهم ذلك وقد ثبت للمسلمين غدرهم؟ فلما‬
‫رأوا ذلك تحصنوا بحصونهم وحاصرهم المسلمون خمساً وعشرين ليلة‪ ،‬فلما رأوا أن ال مناص من‬
‫الحرب‪ ،‬وأنهم إن استمروا على ذلك ماتوا جوعاً‪ ،‬طلبوا من المسلمين أن ينزلوا على ما نزل عليه‬
‫بنو النضير من الجالء باألموال وترك السالح‪ ،‬فلم يقبل الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فطلبوا أن‬
‫بد من النزول والرضا بما يحكم‬
‫يجلوا بأنفسهم من غير مال وال سالح فلم يرض أيضاً‪ ،‬بل قال‪ :‬ال ّ‬
‫عليهم خيراً كان أو شراً‪ ،‬فقالوا له‪ :‬أرسل لنا أبا لُبابة نستشيره‪ ،‬وكان أوسياً من ُحلفاء بني قريظة‪ ،‬له‬
‫بينهم أوالد وأموال‪ ،‬فلما توجه إليهم استشاروه في النزول على حكم الرسول‪ .‬فقال لهم‪ :‬انزلوا‪،‬‬
‫علمت أني خنت‬
‫ُ‬ ‫وأومأ بيده إلى حلقه‪ ،‬يريد‪ :‬أن الحكم الذبح‪ ،‬ويقولـ أبو لبابة‪ :‬لم أبارح موقفيـ حتى‬
‫اهلل ورسوله‪ ،‬فنزل من عندهم قاصداً المدينة خجالً من مقابلة رسول اهلل‪ ،‬وربط نفسه في سارية من‬
‫سواري المسجد حتى يقضي اهلل فيه أمره‪ .‬ولما سأل عنه عليه الصالة والسالم أخبر بما فعل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أما لو جاءني الستغفرت له‪ ،‬أما وقد فعل ما فعل فنتركه حتى يقضي اهلل فيه‪ .‬ثم إن بني قريظة لما لم‬
‫بداً من النزول على حكم رسول اهلل فعلوا‪ ،‬فأمر برجالهم ف ُكتِّفوا‪ ،‬فجاءه رجال من األوس‬
‫يروا ّ‬
‫وسألوه أن يعاملهم كما عامل بني قينقاع حلفاء إخوانهم الخزرج‪ ،‬فقال لهم‪ :‬أال يرضيكم أن يحكم‬
‫فيهم رجل منكم؟ فقالوا‪ :‬نعم‪ .‬واختاروا سيدهم سعدبن معاذ الذي كان جريحاً من السهم الذي ُأصيب‬
‫معدة لمعالجة الجرحى‪ ،‬فأرسل عليه الصالة والسالم‬
‫به في الخندق‪ ،‬وكان مقيماً بخيمة في المسجد ّ‬
‫والتف عليه جماعة من األوس يقولون له‪ :‬أحسن في مواليك‪ ،‬أال‬
‫ّ‬ ‫َم ْن يأتي به‪ ،‬فحملوه على حماره‪،‬‬
‫ترى ما فعل ابن َُأب ّي في مواليه؟ فقال رضي اهلل عنه‪ :‬لقد‬

‫آن لسعد أالّ تأخذه في اهلل لومةُ الئم‪.‬‬

‫سيدكم‬
‫ولما أقبل على الرسول وأصحابه وهم جلوس‪ ،‬قال عليه الصالة والسالم‪« :‬قوموا إلى ّ‬
‫فأنزلوه»‪ ،‬ففعلوا‪ ،‬وقالوا له‪ :‬إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد والّك أمر مواليك لتحكم فيهم‪.‬‬
‫وقال له الرسول‪« :‬احكم فيهم يا سعد»‪ .‬فالتفت سعد للناحية التي ليس فيها رسول اهلل وقال‪ :‬عليكم‬
‫عهد اهلل وميثاقه أن الحكم كما حكمت؟ فقالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فالتفت إلى الجهة التي فيها الرسول وقال‪ :‬وعلى‬
‫ُ‬
‫ٌّ‬
‫غاض طرفه إجالالً‪ ،‬فقالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪ :‬فإني أحكم أن تقتلوا الرجال‪ ،‬وتسبوا‬ ‫َم ْن هنا كذلك؟ وهو‬
‫حكمت فيهم بحكم اهلل يا سعد» ألن هذا جزاء الخائن‬
‫َ‬ ‫النساء والذرية‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬لقد‬
‫الغادر‪ .‬ثم أمر بتنفيذ الحكم فنفذ عليهم‪ ،‬وجمعت غنائمهم‪ ،‬فكانت ألفاً وخمسمائة سيف‪ ،‬وثالثمائة‬
‫ِ‬
‫نواض َح‪ ،‬وشياهاً‪،‬‬ ‫وح َجفَ ٍة‪ ،‬ووجد أثاثاً كثيراً‪ ،‬وآنية‪ ،‬وَأجماالً‬
‫درع‪ ،‬وألفي رمح‪ ،‬وخمسمائة ترس َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫فخمس ذلك كله مع النخل والسبي للراجل ثلث الفارس‪ ،‬وأعطى النساء الالتي ُيمرضن الجرحى‪،‬‬
‫َّ‬
‫ووجد في الغنيمة ِجرار خمر فُأريقت‪ .‬وبعد تمام هذا األمر انفجر جرح سعدبن معاذ فمات رضي اهلل‬
‫عنه وأرضاه‪ .‬كان في األنصار كأبي بكر في المهاجرين‪ .‬وقد كان له العزم الثابت في جميع المشاهد‬
‫التي تقدمت الخندق‪ ،‬وكان عليه الصالة والسالم يحبه كثيراً وب ّشره بالجنة على عظيم أعماله‪.‬‬
‫اعتََرفُوْا بِ ُذُنوبِ ِه ْم َخلَطُوْا‬
‫ون ْ‬
‫ءاخ ُر َ‬
‫وعقب رجوع المسلمين إلى المدينة تاب اهلل على أبي لُبابة بقوله‪َ :‬و َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ص ِالحاً َو َ‬
‫يم(‪)102‬‬ ‫وب َعلَْي ِه ْم ِإ َّن اللهَ َغفُ ٌ‬
‫ور َّرح ٌ‬ ‫ءاخ َر َسّيئاً َع َسى اللهُ َأن َيتُ َ‬ ‫َع َمالً َ‬
‫يبق‬
‫وبتمام هذه الغزوة أراح اهلل المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة‪ ،‬ولم َ‬
‫إال بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها وهم الذين كانوا السبب في إثارة األحزاب‪ .‬وسيأتي للقارىء‬
‫قريباً اليوم الذي يعاقبون فيه‪.‬‬

‫زواج زينب بنت جحش‬


‫وفي هذا العام تزوج عليه الصالة والسالم زينب بنت جحش ـ ـ وأمها أميمة عمته ـ ـ بعد أن طلقها‬
‫فتأفف‬
‫َ‬ ‫مواله زيدبن حارثة‪ .‬وكان من أمر زواجها لزيد أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم خطبها له‬
‫أهلها من ذلك لمكانها في الشرف العظيم‪ ،‬فإن العرب كانوا يكرهون تزويج بناتهم من الموالي‪،‬‬
‫ويعتقدون أن ال كفؤ ِم ْن سواهم لبناتهم‪ ،‬وزيد ـ ـ وإ ن كان الرسول تبناه ـ ـ ولكن هذا ال ُيْل ِحقه‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫باألشراف‪ ،‬فلما نزل قوله تعالى في سورة األحزاب‪ :‬وما َك ِ‬
‫ضى اللهُ‬ ‫ان ل ُمْؤ ِم ٍن َوالَ ُمْؤ ِمَنة ِإ َذا قَ َ‬
‫ََ َ‬
‫ورسولُه َأمراً َأن ي ُكون لَهم اْل ِخيرةُ ِمن َأم ِر ِهم ومن يع ِ َّ‬
‫ض َّل َ‬
‫ضاَل الً ُّمبِيناً(‪)36‬‬ ‫ص اللهَ َو َر ُسولَهُ فَقَ ْد َ‬ ‫َ َ ُُ ََ ْ ْ ْ َ َ َ ْ‬ ‫ََ ُ ُ ْ‬
‫ت اهلل حكمه بإبطال‬ ‫ق اللَّهَ} (األحزاب‪ .)37 :‬وأخفى في نفسه ما أبداه اهلل‪ ،‬فََب َّ‬ ‫َأم ِس ْك َعلَْي َك َز ْو َج َك واتَّ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫طراً‬ ‫ضى َز ْي ٌد ّم ْنهَا َو َ‬ ‫المتبنى بقوله في سورة األحزاب‪َ { :‬فلَ َّما قَ َ‬ ‫َّ‬ ‫هذه القاعدة وهي‪ :‬تحريم زوج‬
‫َأم ُر اللَّ ِه‬
‫ان ْ‬ ‫طراً َو َك َ‬ ‫ض ْوْا ِم ْنهُ َّن َو َ‬ ‫َز َّو ْجَنا َكها ِل َكى الَ ي ُكون علَى اْلم ِمنِين حر ٌج ِفى َْأزو ِ ِ ِئ‬
‫اج َْأدعَيآ ِه ْم ِإ َذا قَ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْؤ َ َ َ‬ ‫َ ْ َ َ َ‬
‫َم ْف ُعوالً} (األحزاب‪ .)37 :‬ثم إن اهلل حرم التبني على المسلمين لما فيه من األضرار‪ ،‬وأنزل فيه في‬
‫ان اللَّهُ بِ ُك ّل‬
‫ين َو َك َ‬ ‫ول اللَّ ِه َو َخاتَ َم َّ‬
‫النبِّي َ‬ ‫َأحٍد ّمن ّر َج ِال ُك ْم َواَل ِكن َّر ُس َ‬
‫ان ُم َح َّم ٌد ََأبآ َ‬
‫{ما َك َ‬‫سورة األحزاب‪َّ :‬‬
‫َش ْىء َعِليماً(‪)40‬‬

‫ممن ضاع رشده‪ ،‬ولم‬


‫يقول المؤرخون وذوو المقاصد السافلة منهم في هذه القصة أقواالً ال تجوز إال ّ‬
‫ي ْفقَه حقيقة ما يقول‪،‬ـ فإنهم يذكرون أن الرسول توجه يوماً لزيارة زيد فرأى زوجه مصادفة ألن الريح‬
‫رفعت الستر عنها فوقعت في قلبه‪ ،‬فقال‪ :‬سبحان اهلل فلما جاء زوجها ذكرت له ذلك‪ ،‬فرأى من‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫الواجب عليه فراقها‪ ،‬فتوجه وأخبر الرسول بعزمه فنهاه عن ذلك‪ ...‬إلخ‪ .‬وهذا مما يكذبه أن نساء‬
‫العرب لم تكن قبل ذلك تعرف ستر الوجوه‪ ،‬وزينب بنت عمته أسلمت قديماً ورسول اهلل بمكة‪ ،‬فكيف‬
‫لم يرها‪ ،‬وقد مضى على إسالمها نحو عشر سنوات وهي بنت عمته‪ ،‬إال حينما رفعت الريح الستر‬
‫مصادفة‪ ،‬ورسول اهلل هو الذي زوجها زيداً؟ فلو كان له فيها رغبة حب أو عشق لتزوجها هو وال‬
‫منا يتصور السيد األكرم يقول لقومه إنه مرسل من ربه‪ ،‬ويتلو عليهم‬ ‫مانع يمنعه من ذلك‪ .‬ومن ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صباح مساء أمر اهلل له بقوله في سورة الح ْج ِر المكية‪ :‬الَ تَ ُم َّد َّن َع ْيَن ْي َك ِإلَى َما َمتَّ ْعَنا بِه َْأز َو ً‬
‫اجا ّم ْنهُ ْم}‬
‫{والَ تَ ُم َّد َّن َع ْيَن ْي َك ِإلَى َما َمتَّ ْعَنا بِ ِه َْأزواجاً ّم ْنهُ ْم َز ْه َرةَ‬
‫(الحجر‪ .)88 :‬وفي سورة طه المكية أيضاً‪َ :‬‬
‫الد ْنَيا} (طه‪ .)131 :‬ثم هو بعد ذلك يدخل بيت رجل من متَّبعيه‪ ،‬وينظر إلى زوجه مصادفة ثم‬ ‫اْل ِ‬
‫حياة ُّ‬
‫يشتهي زواجها؟ إن هذا ألمر عظيم تشعر بذلك صدورنا‪ .‬ولو حدث أمر مثل ذلك من أقل الناس‬
‫لعيب عليه‪ ،‬فكيف بمن اجتمعت كلمة المؤرخين على أنه أحسن الناس ُخلُقاً‪ ،‬وأبعدهم عن الدنايا‪،‬‬
‫ق َع ِظ ٍيم(‪َ )4‬وِإ ْذ تَقُو ُل ِللَِّذى‬ ‫وأشدهم ذكاء وفراسة حتى مدحه اهلل بقوله في سورة ن‪{ :‬وِإ َّن َك لَ َعلَى ُخلُ ٍ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫يه َوتَ ْخ َشى‬ ‫ق اللَّه وتُ ْخِفى ِفى نِ ْف ِس َك ما اللَّه م ْب ِد ِ‬ ‫َأم ِس ْك َعلَْي َك َز ْو َج َك واتَّ ِ‬ ‫َأنعم اللَّه علَْي ِه و َْأنعم َ ِ‬
‫َ ُُ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ت َعلَْيه ْ‬ ‫ََ ُ َ َ َ ْ‬
‫ون َعلَى‬ ‫ِ‬ ‫َأح ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫طراً َز َّو ْجَنا َكهَا ل َك ْى الَ َي ُك َ‬ ‫ضى َز ْي ٌد ّم ْنهَا َو َ‬‫ق َأن تَ ْخ َشاهُ َفلَ َّما قَ َ‬ ‫اس َواللهُ َ‬
‫الن َ‬

‫َأم ُر اللَّ ِه َم ْف ُعوالً} (األحزاب‪.)37 :‬‬


‫ان ْ‬ ‫ض ْوْا ِم ْنهُ َّن َو َ‬
‫طراً َو َك َ‬
‫اْلم ِمنِين حر ٌج ِفى َْأزو ِ ِ ِئ‬
‫اج َْأدعَيآ ِه ْم ِإ َذا قَ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْؤ َ َ َ‬
‫يبد غير ذلك وهذا القرآن أعظم شاهد‪.‬‬ ‫والذي أبداه اهلل هو زواجه بها‪ ،‬ولم ِ‬

‫الحجاب‬
‫وفيه نزلت آية الحجاب وهو خاص بنساء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكان عمربن الخطاب‬
‫َّ‬
‫رأتكن‬ ‫طاع فيكن ما‬ ‫ويود أن ينزل فيه قرآن‪ ،‬وكان يقول‪ :‬لو ُأ َ‬ ‫يحبه ويذكره كثيراً‪ّ ،‬‬ ‫قبل نزول آيته ّ‬
‫اب ِ‬ ‫وه َّن ِمن ورآء ِح َج ٍ‬
‫طهَ ُر‬
‫ذال ُك ْم َأ ْ‬ ‫ََ‬ ‫وه َّن َمتَاعاً فَ ْ‬
‫اسَئ لُ ُ‬ ‫{وِإ َذا َسَأْلتُ ُم ُ‬
‫عين‪ ،‬فنزل في سورة األحزاب‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫عمنا إال من وراء حجاب؟ لئن‬ ‫ل ُقلُوبِ ُك ْم َو ُقلُوبِ ِه َّن} (األحزاب‪ .)53 :‬فقال بعضهم‪َُ :‬أن ْنهى أن نكلم بنات ّ‬
‫ول اللَّ ِه َوالَ َأن‬
‫ان لَ ُك ْم َأن تْؤ ُذوْا َر ُس َ‬
‫{و َما َك َ‬
‫مات محمد ألتزوجن عائشة فنزل بعد اآلية المتقدمة‪َ :‬‬
‫ند اللَّ ِه َع ِظيماً} (األحزاب‪ .)53 :‬أما غير أزواجه عليه‬ ‫ان ِع َ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫نكحوْا َْأزو ِ‬
‫اجهُ من َب ْعده ََأبداً ِإ َّن ذال ُك ْم َك َ‬
‫َ َ‬
‫ِ‬
‫تَ ُ‬
‫بغض األبصار‪ ،‬وحفظ الفروج‪ ،‬كما أمر بذلك الرجال‪ ،‬وُأمرن‬ ‫الصالة والسالم من المؤمنات‪ ،‬فأمرن ّ‬
‫زينتهن لألجانب إال ما ظهر منها كالخاتم في اإلصبع‪ ،‬والخضاب في اليد‪ ،‬والكحل في‬ ‫ّ‬ ‫أالّ يبدين‬
‫والدملُج للعضد‪ ،‬والخلخال للرجل‪ِ ،‬‬
‫والقالدة‬ ‫العين‪ ،‬أما ما َخفي منها فال يح ّل إبداؤه كالسوار للذراع‪ْ ُّ ،‬‬
‫للعنق‪ ،‬واإلكليل للرأس‪ ،‬والوشاح للصدر‪ ،‬والقرط لألذن‪ .‬والمراد بالزينة الظاهرة والخفية‬
‫َّ‬
‫صدورهن مكشوفة‪ ،‬فإن النساء‬ ‫بخمرهن على الجيوب كيال تبقى‬
‫ّ‬ ‫موضعها‪ ،‬وُأمرن أيضاً بأن يضربن‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫الخ ُمر من‬


‫وكن يسدلن ُ‬
‫وصدورهن وما حواليها‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫نحورهن‬
‫ّ‬ ‫جيوبهن واسعة تبدو منها‬
‫ّ‬ ‫إذ ذاك كانت‬
‫أنهن ذوات خلخال‪ .‬وإ ذا كان النهي عن إظهار صوت‬
‫بأرجلهن ليعلم ّ‬
‫ّ‬ ‫ونهين عن أن يضربن‬‫ورائهن‪ُ ،‬‬
‫ّ‬
‫الحلي بعدما نهين عن إظهار الحلي‪ُ ،‬عِل َم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ‪ ،‬قال‬
‫تعالى في‬

‫ين ِز َينتَهُ َّن ِإالَّ َما‬ ‫ِ‬


‫وجهُ َّن َوالَ ُي ْبد َ‬
‫ظ َن فُُر َ‬ ‫ص ِار ِه َّن َوَي ْحفَ ْ‬ ‫ات ي ْغض ْ ِ‬
‫ض َن م ْن َْأب َ‬
‫ِ‬
‫{و ُقل لّْل ُمْؤ ِمَن َ ُ‬ ‫سورة النور‪َ :‬‬
‫ض ِر ْبن بِ ُخم ِر ِه َّن علَى جيوبِ ِه َّن والَ ي ْبِدين ِز َينتَه َّن ِإالَّ ِلبعولَتِ ِه َّن َأو ِئ‬ ‫َ ِ‬
‫ءابآء‬‫ءابآ ِه َّن َْأو َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ ُُ‬ ‫ظهََر م ْنهَا َوْلَي ْ َ ُ‬
‫َأخواتِ ِه َّن َْأو نِ َسآِئ ِه َّن َْأو َما‬
‫ُب ُعولَتِ ِه َّن َْأو َْأبَنآِئ ِه َّن َْأو َْأبَنآء ُب ُعولَتِ ِه َّن َْأو ِإ ْخ َوانِ ِه َّن َْأو َبنِى ِإ ْخ َوانِ ِه َّن َْأو َبنِى َ‬
‫ظهروْا علَى عو ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ين َغ ْي ِر ُأوِلى اِإل رَب ِة ِم َن الر َج ِ‬ ‫ِ‬
‫رات‬ ‫ين لَ ْم َي ْ َ ُ َ َ ْ‬ ‫ال َِأو الطّ ْف ِل الذ َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ت َْأي َم ُانهُ َّن َِأو التَّابِع َ‬ ‫َملَ َك ْ‬
‫ون لَ َعلَّ ُك ْم‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫وبوْا ِإلَى الله َجميعاً َأيُّهَ اْل ُمْؤ ِمُن َ‬
‫ِ‬ ‫ض ِر ْبن بَِأرجِل ِه َّن ِليعلَم ما ي ْخِف ِ‬
‫ين من ِز َينت ِه َّن َوتُ ُ‬
‫ُْ َ َ ُ َ‬ ‫الن َسآء َوالَ َي ْ َ ْ ُ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫كن في الجاهلية متبذالت‪ ،‬تبرز المرأة في‬ ‫ون} (النور‪ .)31 :‬وكان النساء في أول اِإل سالم كما ّ‬ ‫تُْفل ُح َ‬
‫واَألمة‪ ،‬وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون لإلماء إذا خرجن‬ ‫الح ّرة‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫د ْرع وخمار‪ ،‬ال فرق بين ُ‬
‫اَألمة يقولون‪:‬‬ ‫َّ‬
‫للح ّرة بعلة َ‬ ‫حوائجهن في النخيل والغيطان‪ ،‬وربما تعرضوا ُ‬ ‫ّ‬ ‫بالليل إلى مقاضيـ‬
‫جالبيبهن ليغطي الوجه‬
‫ّ‬ ‫عليهن من‬
‫ّ‬ ‫بزيهن ِز ّ‬
‫ي اإلماء بأن يدنين‬ ‫ّ‬ ‫فُأمرن أن يخالفن‬
‫َ‬ ‫َأمةً‪،‬‬
‫حسبناها َ‬
‫النبِ ُّى ُقل‬
‫فيهن طامع‪ ،‬قال تعالى في سورة األحزاب‪{ :‬يَأيُّهَا َّ‬ ‫ويهَْبن فال يطمع ّ‬ ‫واألعطاف ليحتشمن‪ُ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َعلَْي ِه َّن من َجاَل بِيبِ ِه َّن ذال َك َْأدَنى َأن ُي ْع َر ْف َن فَالَ يُْؤ َذ ْي َن َو َك َ‬
‫ان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِال ْز ِ‬
‫واج َك َوَبَنات َك َونِ َسآء اْل ُمْؤ ِمن َ‬
‫ين ُي ْدن َ‬
‫اللَّهُ َغفُوراً َّر ِحيماً(‪)59‬‬

‫عمن يريد خطبتها فهو أمر لم يكن ُيفعل في عهد الرسول صلى اهلل عليه وسلم وال‬ ‫ب المرأة ّ‬
‫أما َح ْج ُ‬
‫سن ذلك ليكون الرجل على علم مما ُي ِقدم عليه‪ ،‬حتى يتم‬‫في عهد السلف الصالح‪ ،‬فإن ال ّشارع الحكيم ّ‬
‫الوفاق والوئام بين الزوجين في أمر أجمع عليه أئمة الدين‪.‬‬
‫استحب‬
‫ّ‬ ‫قال حجة اإلسالم الغزالي في «اإلحياء»‪ :‬وقد ندب الشرع إلى مراعاة أسباب األلفة ولذلك‬
‫النظر‪ ،‬فقال‪« :‬إذا أوقع اهلل في نفس أحدكم من امرأة‪ ،‬فلينظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما» ـ ـ أي‪:‬‬
‫اَألدمة‪ ،‬وهي الجلدة الباطنة‪ ،‬والبشرة‪ :‬الجلدة الظاهرة‪ ،‬وإ نما‬
‫اَألد َمة على َ‬
‫يؤلف بينهما ـ ـ من وقوع َ‬
‫ذكر ذلك للمبالغة في االئتالف‪ ،‬وقال عليه الصالة والسالم‪« :‬إن في أعين األنصار شيئاً فِإذا أراد‬
‫َّ‬
‫أعينهن عمش‪ .‬وقيل‪ :‬صغر‪ .‬وكان بعض‬ ‫إليهن» قيل‪ :‬كان في‬
‫منهن فلينظر ّ‬‫أحدكم أن يتزوج ّ‬
‫الصالحين ال ينكحون كرائمهم إال بعد النظر احترازاً من الغرور‪ ،‬وقال األعمش‪ :‬كل تزويج يقع‬
‫على غير نظر فآخره هم وغم‪.‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وال يبعد أن يكون فساد الزمن واالبتعاد عن التربية الدينية التي تسوق إلى مكارم األخالق قد َحسَّنا‬
‫ود ْرءاً للفتنة‪.‬‬
‫عند عامة المسلمين في العصور األولى حجب المرأة مطلقاً حسماً للمفاسد َ‬

‫فرض الحج‬
‫وفي هذا العام ـ ـ على ما عليه األكثرون ـ ـ فرض اهلل على األمة اإلسالمية حج البيت من استطاع إليه‬
‫ويعينهم‬
‫سبيالً‪ ،‬ليجتمع المسلمون من جميع األقطار‪ ،‬فيتجهوا إلى اهلل ويبتهلوا إليه أن يؤيدهم بنصره ُ‬
‫على اتباع دينه القويم‪ .‬وفي ذلك من تقوية الرابطة واتحاد القلوب ما فيه للمسلمين الفائدة العظمى‪.‬‬

‫َّادسة‬
‫السَّنة الس َ‬

‫سرية‬

‫ولعشر خلون من محرم السنة السادسة‪ ،‬أرسل عليه الصالة والسالم محمدبن َمسلمة في ثالثين راكباً‬
‫ض ِريَّة‪ ،‬فسار إليهم يكمن النهار ويسير‬
‫لشن الغارة على بني بكربن كالب الذين كانوا نازلين بناحية َ‬
‫الليل حتى دهمهم فقتل منهم عشرة‪ ،‬وهرب باقيهم‪ ،‬فاستاقت السرية َّ‬
‫الن َع َم والشياه‪ ،‬وعادوا راجعين‬
‫إلى المدينة‪ ،‬وقد التقوا وهو عائدون بثُمامةبن ُأثال الحنفي‪ ،‬من عظماء بني حنيفة‪ ،‬فأسروه وهم ال‬
‫يعرفونه‪ ،‬فلما أتَوا به رسول اهلل عرفه وعامله بمنتهى مكارم األخالق‪ ،‬فإنه أطلق إساره بعد ثالث‬
‫أبي فيها االنقياد لإلسالم بعد أن عرض عليه‪ .‬ولما رأى ثمامة هذه المعاملة‪ ،‬وهذه المكارم‪ ،‬رأى من‬
‫العبث أن يتبع هواه ويترك ديناً عماده المحامد‪ ،‬فرجع إلى رسول اهلل وأسلم غير مكره وخاطب‬
‫إلي من وجهك‪ ،‬فقد أصبح وجهك‬
‫الرسول بقوله‪ :‬يا محمد واهلل ما كان على األرض من وجه أبغض ّ‬
‫فسر‬
‫إلي‪ّ %.‬‬ ‫أحب البالد ّ‬
‫إلي من بلدك‪ ،‬فقد أصبح ّ‬ ‫إلي‪ .‬واهلل ما كان من بلد أبغض ّ‬‫أحب الدين كله ّ‬
‫ّ‬
‫عليه الصالة والسالم كثيراً بإسالمه ألن من ورائه قوماً يطيعونه‪ .‬ولما رجع ثُمامة إلى بالده َم َّر‬
‫بمكة معتمراً وأظهر فيها إسالمه‪ ،‬فأرادت قريش إيذاءه‪ ،‬فذكروا احتياجهم لحبوب اليمامة التي منها‬
‫ثُمامة فتركوه‪ ،‬ومع ذلك فقد حلف هو أال يرسل إليهم من اليمامة حبوباً حتى يؤمنوا‪ ،‬فجهدوا جداً‪،‬‬
‫بداً من االستغاثة برسول اهلل‪ ،‬فعاملهم عليه الصالة والسالم بما ُجبِل عليه من الشفقة‬
‫ولم َيروا ّ‬
‫والمرحمة‪ ،‬وأرسل لثمامة أن ُيعيد عليهم ما كان يأتيهم من أقوات اليمامة ففعل‪ .‬وقد كان لهذا الرجل‬
‫الكريم األصل قدم راسخة في اِإل سالم عقب وفاة الرسول حينما ّ‬
‫ارتد أكثر أهل بالده‪ ،‬فكان ينهى‬
‫قومه عن اتباع ُمسيلمة‪ ،‬ويقولـ لهم‪ :‬إياكم وأمراً مظلماً ال نور فيه‪ ،‬وإ نه لشقاء كتبه اهلل على من‬
‫اتبعه‪ ،‬فثبت معه كثير من قومه رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫غزوة بني ِلحيان‬

‫بنو لحيان هم الذين قتلوا عاصمبن ثابت وإ خوانه‪ ،‬ولم يزل رسول اهلل حزيناً عليهم متشوقاً للقصاص‬
‫من عدوهم حتى ربيع األول من هذه السنة‪ ،‬فأمر أصحابه بالتجهّز‪ ،‬ولم ُيظهر مقصده كما هي عادته‬
‫عليه الصالة والسالم في غالب الغزوات‪ ،‬لتعمى األخبار عن األعداء‪ ،‬وولى على المدينة ابن ُأم‬
‫مكتوم‪ ،‬وسار في مائتي راكب معهم عشرون فرساً‪ ،‬ولم يزل سائراً حتى مقتل أصحاب الرجيع‪،‬‬
‫فترحم عليهم ودعا لهم‪ ،‬ولما سمع به بنو لحيان تفرقوا في الجبال‪ ،‬فأقام عليه الصالة والسالم‬
‫بديارهم يومين يبعث السرايا فال يجدون أحداً‪ ،‬ثم أرسل بعضاً من أصحابه ليأتوا ُع ْسفَان حتى يعلم‬
‫بهم أهل مكة فُيداخلهم الرعب‪ ،‬فذهبوا إلى ُك َراع الغميم‪ ،‬ثم رجع عليه الصالة والسالم إلى المدينة‪،‬‬
‫وهو يقول‪:‬ـ «آيبون‪ ،‬تائبون‪ ،‬لربنا حامدون‪ ،‬أعوذ باهلل من وعثاء السفر‪ ،‬وكآبة المنقلب‪ ،‬وسوء‬
‫المنظر في األهل والمال»‪.‬‬

‫غزوة الغابة‬

‫كان للنبي عليه الصالة والسالم عشرون ِل ْق َحة ترعى بالغابة‪ ،‬فأغار عليها ُعيينةبن حصن في أربعين‬
‫فارساً واستلبها من راعيها‪ ،‬فجاءت األخبار رسول اهلل عليه الصالة والسالم‪ ،‬والذي بلَّغه هو َسلَ َمةُبن‬
‫اء فأمره الرسول بأن يخرج في أثر القوم ليشغلهم بالنبل حتى‬ ‫األكوع‪ ،‬أحد رماة األنصار‪ ،‬وكان َع ّد ً‬
‫وجهت الخيل نحوه‬
‫يدركهم المسلمون‪ ،‬فخرج يشتد في أثرهم حتى لحقهم‪ ،‬وجعل يرميهم بالنبل‪ ،‬فإذا ّ‬
‫رجع هارباً‪ ،‬فال ُيلحق‪ ،‬فإذا دخلت الخيل بعض المضايق عال الجبل‪ ،‬فرمى عليها الحجارة حتى ألقوا‬
‫كثيراً مما بأيديهم من الرماح واألبراد ليخفّفوا عن أنفسهم‪ ،‬حتى ال يلحقهم الجيش‪ ،‬ولم يزل سلمة‬
‫على ذلك حتى تالحق به الجيش‪ ،‬فإن الرسول دعا أصحابه فأجابوه‪ ،‬وأول من انتهى إليه المقدادبن‬
‫عمرو‪ ،‬فقال له‪« :‬اخرج في طلب القوم حتى ألحقك» وأعطاه اللواء فخرج‪ ،‬وتبعته الفرسان حتى‬
‫غالب‬
‫َ‬ ‫أدركوا أواخر العدو‪ ،‬فحصلت بينهم مناوشات قتل فيها مسلم ومشركان‪ ،‬واستنقذ المسلمون‬
‫اللقاح‪ ،‬وهرب أوائل القوم بالبقية‪ ،‬وطلب سلمةبن األكوعـ من رسول اهلل أن يرسله مع جماعة في أثر‬
‫ت‬
‫«ملَ ْك َ‬
‫غرة‪ ،‬وهم نازلون على أحد مياههم‪ ،‬فقال له عليه الصالة والسالم‪َ :‬‬
‫القوم‪ ،‬ليأخذهم على ّ‬
‫َأس ِج ْح» ثم رجع بعد خمس ليال‪.‬‬
‫فَ ْ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫سرية‬
‫يمر بهم من المسلمين‪ ،‬فأرسل لهم عليه الصالة‬‫كان بنو أسد الذين َم ّر ذكرهم كثيراً ما يؤذون َم ْن ّ‬
‫صن في أربعين راكباً ُليغير عليهم‪ ،‬ولما قارب بالدهم علموا به فهربوا‪ ،‬وهناك‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫والسالم ُعكاشةبن م ْح َ‬
‫فأمنوه ليدلّهم على َن َعم القوم‪ ،‬فدلّهم عليها فاستاقوها‪ ،‬وكانت مائة بعير ثم قدموا‬
‫وجدوا رجالً نائماً ّ‬
‫المدينة ولم يلقوا كيداً‪.‬‬

‫سرية‬

‫صة يريدون اإلغارة على َن َعم المسلمين‬


‫وفي ربيع األول بلغه عليه الصالة والسالم أن من بذي القَ ّ‬
‫التي ترعى بالهيفاء‪ ،‬فأرسل لهم محمدبن مسلمة في عشرة من المسلمين‪ ،‬فبلغ ديارهم ليالً‪ ،‬وقد َك َمن‬
‫المشركون حينما علموا بهم‪ ،‬فنام المسلمون‪ ،‬ولم يشعروا إال والنبل قد خالطهم‪ ،‬فتواثبوا على‬
‫أسلحتهم ولكن تغلب عليهم األعداء فقتلوهم‪ ،‬غير محمدبن مسلمة تركوه لظنهم أنه قُتِل‪ ،‬فعاد إلى‬
‫المدينة‪ ،‬وأخبر الرسول عليه الصالة والسالم‪ ،‬فأرسل أبا عبيدة عامربن الجراح في ربيع اآلخر‬
‫ليقتص من األعداء‪ ،‬فلما وصل ديارهم وجدهم تشتتوا هاربين فاستاق َن َع َمهم ورجع‪.‬‬
‫َّ‬
‫سرية‬
‫عا َك َس بنو ُسليم الذين كانوا من المتحزبين في غزوة الخندق المسلمين في سيرهم‪ ،‬فأرسل عليه‬
‫الج ُموم فلما بلغوا ديارهم وجدوهم‬
‫زيدبن حارثة في ربيع اآلخر ُليغير عليهم في َ‬
‫الصالة والسالم َ‬
‫وشاء‪ ،‬ووجدوا‬
‫ً‬ ‫تفرقوا‪ ،‬ووجدوا هناك امرأة من ُمزينة دلّتهم على منازل بني ُسليم‪ ،‬أصابوا بها َن َعماً‬
‫رجاالً أسروهم‪ ،‬وفيهم زوج تلك المرأة‪ ،‬فرجعوا بذلك إلى المدينة‪ ،‬فوهب الرسول لهذه المرأة نفسها‬
‫وزوجها‪.‬‬
‫سرية‬
‫بلغ الرسول أن ِعيراً لقريش أقبلت من الشام تريد مكة‪ ،‬فأرسل لها زيدبن حارثة في مائة وسبعين‬
‫راكباً ليعترضها‪ ،‬فأخذها وما فيها وأسر َمن معها من الرجال‪ ،‬وفيهم أبو العاصبن الربيع‪ ،‬زوج‬
‫زينب بنت رسول اهلل‪ ،‬وكان من رجال مكة المعدودين تجارة وماالً وأمانةً‪ ،‬فاستجار بزوجه زينب‬
‫فأجارته‪ ،‬ونادت بذلك في مجمع قريش‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬المسلمون يد واحدة‪ُ ،‬يجير‬
‫ورد عليه‬ ‫ِ‬
‫أجرت» وهذا أبلغ ما قيل في المساواة بين أفراد المسلمين ّ‬ ‫عليهم أدناهم‪ ،‬وقد أجرنا من‬
‫حق حقَّه‪ ،‬ورجع إلى المدينة‬
‫الرسول ماله بأسره ال يفقد منه شيء‪ ،‬فذهب إلى مكة‪ .‬فأدى لكل ذي َ‬
‫فرد عليه رسول اهلل زوجه‪.‬‬
‫مسلماً‪ّ ،‬‬
‫سرية‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫زيدبن حارثة في خمسة عشر رجالً‪ ،‬لإلغارة على‬ ‫وفي جمادى اآلخرة أرسل عليه الصالة والسالم َ‬
‫ف‪ .‬فتوجهت السرية لذلك‪ ،‬ولما‬‫بني ثعلبة‪ ،‬الذين قتلوا أصحاب محمدبن مسلمة وهم مقيمون بالطَّر ِ‬
‫َ‬
‫رآهم األعداء ظنوهم طليعة لجيش رسول اهلل‪ ،‬فهربوا وتركوا َن َعمهم وشاءهم‪ ،‬فاستاقها المسلمون‬
‫ورجعوا إلى المدينة بعد أربع ٍ‬
‫ليال‪.‬‬

‫سرية‬
‫غير على بني فََزارة ألنهم تعرضوا لزيد‬
‫زيدبن حارثة‪ُ ،‬لي َ‬
‫وفي رجب أرسل عليه الصالة والسالم َ‬
‫وهو راجع بتجارة من الشام‪ ،‬فسلبوا ما معه‪ ،‬وكادوا يقتلونه‪ ،‬فلما جاء المدينة‪ ،‬وأخبر الرسول الخبر‪،‬‬
‫أرسله مع رجاله للقصاص من فَزارة المقيمين في وادي القُرى‪ .‬فساروا حتى دهموا العدو وأحاطوا‬
‫ممن‬
‫بهم‪ ،‬وقتلوا منهم جمعاً كثيراً‪ ،‬وأخذوا امرأة من كبارهم أسيرة‪ ،‬فاستوهبها عليه الصالة والسالم ّ‬
‫أسرها وفدى بها أسيراً كان بمكة‪.‬‬

‫سرية‬
‫وفي شعبان أرسل عليه الصالة والسالم عبد الرحمانبن عوف مع سبعمائة من الصحابة لغزو بني‬
‫وصاهم عليه الصالة والسالم قبل السفر بقوله‪« :‬اغزوا جميعاً في سبيل‬ ‫الج ْندل‪ ،‬وقد ّ‬ ‫كلب في ُدومة َ‬
‫اهلل‪ ،‬فقاتلوا من كفر باهلل‪ ،‬وال تَ ُغلُّوا وال تغدروا وال تمثِّلوا‪ ،‬وال تقتلوا وليداً‪ ،‬فهذا عهد اهلل وسيرة ّ‬
‫نبيه‬
‫فيكم» ثم أعطاه اللواء فساروا على بركة اهلل حتى حلّوا بديار العدو‪ ،‬فدعوهم إلى اإلسالم ثالثة أيام‪،‬‬
‫اَألصَبغبن عمرو النصراني‪ ،‬وأسلم معه جمع من قومه‪ ،‬وبقيـ‬
‫ْ‬ ‫وفي اليوم الرابع أسلم رئيس القوم‬
‫آخرون راضين بإعطاء الجزية‪ ،‬فتزوج عبد الرحمان بنت رئيسهم‪ ،‬كما أمره بذلك عليه الصالة‬
‫يهم اآلخر‪ ،‬فنِعما هي‬ ‫ًّ‬
‫يهم كال ما ّ‬
‫الود بين األمراء بحيث ّ‬
‫والسالم‪ ،‬وهذه أقرب واسطة لتمكين صالت ّ‬
‫سياسة السلم والمحبة‪.‬‬
‫سرية‬

‫وفي شعبان أرسل عليه الصالة والسالم عليبن أبي طالب في مائة لغزو بني سعدبن بكر بفَ َدك ألنه‬
‫طونه من تمر‬
‫بلغه أنهم يجمعون الجيوش لمساعدة يهود خيبر على حرب المسلمين مقابل تمر ُيع َ‬
‫للعدو‪ ،‬وكانوا قد أرسلوه إلى خيبر ليعقد‬
‫خيبر‪ ،‬فسارت السرية‪ ،‬وبينما هم سائرون التقوا بجاسوس ّ‬
‫آمن‪ ،‬فدلهم على موضعهم‪ ،‬فاستاق منه‬
‫المعاهدة مع يهودها‪ ،‬فطلبوا منه أن يدلّهم على القوم وهو ٌ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫اخلَهم الرعب‪ ،‬وتفرقوا‪،‬ـ فرجع المسلمون‬


‫فد َ‬ ‫المسلمون َنعم القوم‪ ،‬وهرب الرعاةُ‪َّ ،‬‬
‫فحذروا قومهم‪َ ،‬‬ ‫َ‬
‫كيد المشركين فلم ُّ‬
‫يمدوا اليهود بشيء‪.‬‬ ‫ورد اهلل َ‬ ‫ومعهم خمسمائة بعير وألفا ٍ‬
‫شاة‪ّ ،‬‬ ‫َ‬
‫قتل أبي رافع‬

‫الحقيق الملقب‬
‫المحرك ألهل خيبر على حرب المسلمين‪ ،‬وهو سيدهم‪ ،‬أبو رافع َسالّمبن أبي ُ‬ ‫ّ‬ ‫وكان‬
‫قلوب اليهود‬
‫َ‬ ‫بتاجر أهل الحجاز‪ ،‬لما كان له من المهارة في التجارة‪ ،‬وكان ذا ثروة طائلة ُي َقلِّ ُ‬
‫ب بها‬
‫كما يريد‪ ،‬فانتدب له عليه الصالة والسالم َم ْن يقتله‪ ،‬فأجاب لذلك خمسة رجال من الخزرج رئيسهم‬
‫كعببن األشرف‪ ،‬فإن من نِعم‬ ‫ِ‬
‫عبد اللهبن َعت ْيك‪ ،‬ليكون لهم مثل أجر إخوانهم من األوس الذين قتلوا َ‬
‫اهلل على رسوله أن كان األوس والخزرج يتفاخرون بما يفعلونه من تنفيذ رغبات رسول اهلل‪ ،‬فال‬
‫الخزرج في مثله‪ ،‬فأمرهم الرسول بذلك بعد أن وصَّاهم أالّ يقتلوا وليداً‬
‫ُ‬ ‫األوس عمالً إال اجتهد‬
‫ُ‬ ‫تعمل‬
‫للبواب ومتلطِّف له‬ ‫منطلق ّ‬
‫ٌ‬ ‫مكانكم‪ ،‬فإني‬
‫وال امرأة‪ ،‬فساروا حتى أتوا خيبر‪ ،‬فقال عبد اهلل ألصحابه‪َ :‬‬
‫تقنع بثوب كأنه يقضي حاجته‪ ،‬وقد دخل الناس‪ ،‬فهتف به‬ ‫لعلّي أدخل‪ ،‬فأقبل حتى دنا من الباب‪ ،‬ثم َّ‬
‫البواب‪ :‬ادخل يا عبد اهلل إن كنت تريد الدخول‪ ،‬فإني ُأريد أن ُأغلق الباب‪ ،‬فدخل و َك َمن حتى نام‬
‫ّ‬
‫البواب‪ ،‬فأخذ المفاتيح‪ ،‬وفتح ليسهُل له الهرب‪ ،‬ثم توجه إلى بيت أبي رافع‪ ،‬وصار يفتح األبواب التي‬ ‫َّ‬
‫تُوصل إليه‪ ،‬وكلما فتح باباً أغلقه من الداخل حتى انتهى إليه‪ ،‬فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله‪ ،‬فلم‬
‫يمكنه تمييزه‪ ،‬فنادى يا أبا رافع قال‪ :‬من؟ فأهوى بالسيف نحو الصوت فلم يغن شيئاً‪ ،‬وعند ذلك قالت‬
‫ُأم ِك وأين ابن عتيك اآلن؟ فعاد عبد اهلل للنداء ُمغيِّراً‬
‫امرأته‪ :‬هذا صوت ابن عتيك‪ ،‬فقال لها‪ :‬ثكلتك ُّ‬
‫صوته‪ ،‬قائالً‪ :‬ما هذا الصوت الذي نسمعه يا أبا رافع؟ قال‪ :‬ألمك الويل‪ ،‬إن رجالً في البيت ضربني‬
‫وغيَّر صوته‪ ،‬فوجده‬
‫كالمغيث َ‬ ‫بالسيف‪ ،‬فعمد إليه فضربه أخرى لم تُ ِ‬
‫غن شيئاً‪ ،‬فتوارى ثم جاءه ُ‬
‫مستلقياً على ظهره‪ ،‬فوضع السيف في بطنه‪ ،‬وتحامل عليه حتى سمع صوت العظم‪ ،‬ثم خرج من‬
‫فعصبها بعمامته‪ ،‬ثم انطلق إلى‬ ‫البيت‪ ،‬وكان نظره ضعيفاً فوقع من فوق َّ‬
‫السلم فكسرت رجله‪َ ،‬‬
‫ُ‬
‫أصحابه‪ ،‬وقال‪ :‬النجاة‪ ،‬قتِل‬

‫فحدثوه ثم قال لعبد اهلل‪« :‬ابسط رجلك» فمسحها عْليه الصالة‬ ‫واهلل أبو رافع‪ ،‬فانتهوا إلى الرسول‪َّ ،‬‬
‫والسالم فكأنه لم يشتَ ِكها ق ّ‬
‫ط‪ ،‬وعادت أحسن ما كانت فانظر ـ ـ رعاك اهلل ـ ـ إلى ما كان عليه المسلمون‬
‫من استسهال المصاعب ما دامت في إرضاء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فرضي اهلل عنهم‬
‫وأرضاهم‪.‬‬
‫سرية‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ُأسيربن ِرزام‪ ،‬فأرسل عليه الصالة والسالم َم ْن يستعلم له خبره‪،‬‬


‫كعب ولّى اليهود مكانه َ‬
‫ولما قُتل ٌ‬
‫أحد قبلي‪ ،‬أسير إلى غطفان فأجمعهم‬
‫فجاءته األخبار بأنه قال لقومه‪ :‬سأصنع بمحمد ما لم يصنعه ٌ‬
‫لحربه‪ ،‬وسعى في ذلك‪ .‬فأرسل عليه الصالة والسالم عبد اللهبن رواحة الخزرجي في ثالثين من‬
‫األنصار الستمالته‪ ،‬فخرجوا حتى قدموا خيبر‪ ،‬وقالوا ألسير‪ :‬نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا‬
‫له؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬ولي مثل ذلك‪ ،‬فأجابوه‪ ،‬ثم عرضوا عليه أن يقدم على رسول اهلل ويترك ما عزم عليه‬
‫من الحرب فيولِّيه الرسول على خيبر‪ ،‬فيعيش أهلها بسالم‪ ،‬فأجاب إلى ذلك وخرج في ثالثين يهودياً‬
‫ُأسير على مجيئه‪ ،‬وأراد التخلّص مما فعل بالغدر‬ ‫ُّ‬
‫رديف لمسلم‪ ،‬وبينما هم في الطريق ندم َ‬
‫ٌ‬ ‫كل يهودي‬
‫أمنوه فأهوى بيده إلى سيف عبد اللهبن رواحة‪ ،‬فقال له‪ :‬أغدراً يا عدو اهلل؟ ثم نزل وضربه‬
‫بمن َّ‬
‫عامة فخذه‪ ،‬ولم يلبث أن هلك‪ ،‬فقام المسلمون على َمن معه من اليهود فقتلوهم عن‬
‫بالسيف فأطاح ّ‬
‫آخرهم‪ .‬وهذه عاقبة الغدر‪.‬‬

‫وع َر ْيَنة‬
‫قصة ُع ْكل ُ‬

‫وع َر ْيَنة‪ ،‬فأظهروا اإلسالم وبايعوا رسول اهلل‪ .‬وكانوا‬ ‫ِ‬


‫شوال جماعة من ُع ْكل ُ‬
‫قد َم على رسول اهلل في ّ‬
‫ِسقاماً‪ ،‬مصفرةً ألوانهم‪ ،‬عظيمةً بطونهم‪ ،‬فلم يوافقهم هواء المدينة‪ ،‬فأمر لهم عليه الصالة والسالم‬
‫راع‪ ،‬وأمرهم باللحوق بها في مرعاها ليشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا‪ ،‬ولما‬ ‫ب َذ ْود من اإلبل معها ٍ‬
‫ومثَّلُوا به‪ ،‬واستاقوا اإلبل‪ ،‬فلما بلغ ذلك رسول اهلل‬
‫تم شفاؤهم جازوا اإلحسان كفراً‪ ،‬فقتلوا الراعي َ‬
‫الفهري في عشرين فارساً فلحقوا بهم‪ ،‬وقبضوا على جميعهم‪ ،‬ولما جيء‬ ‫أرسل وراءهم ُكرزبن جابر ِ‬
‫بهم إلى المدينة أمر عليه الصالة والسالم أن يمثل بهم كما َمثَّلُوا بالراعي‪ ،‬فقُطعت أيديهم وأرجلُهم‬
‫جزاء الخائن الذين ال ُينتظر منه صالح‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بالحرة حتى ماتوا‪ ،‬فهكذا يكون‬
‫ّ‬ ‫أعينهم وألقوا‬
‫ت ُ‬ ‫وس ِّم َر ْ‬
‫ُ‬
‫وع َم ُل هؤالء الشريرين مما يدل على فساد األصل‪ ،‬ولؤم العشيرة‪ ،‬وقد نهى رسول اهلل صلى اهلل‬
‫َ‬
‫الم ْثلَة‪.‬‬
‫عليه وسلم بعد ذلك عن ُ‬

‫سرية‬

‫جلس أبو سفيانبن حرب يوماً في نادي قومه‪ ،‬فقال‪ :‬أال رجل يذهب لمحمد فيقتله غدراً فإنه يمشي‬
‫لنستريح منه؟ فتقدم له رجل وتعهد له بما أراد‪ ،‬فأعطاه راحلةً ونفقةً وجهّزه لذلك‪ .‬فخرج‬
‫َ‬ ‫باألسواق‬
‫ٍ‬
‫سادسة من خروجه‪ ،‬فسأل عن رسول اهلل فَ ُد َّل عليه وهو بمسجد‬ ‫ص ْب َح‬
‫الرجل حتى وصل إلى المدينة ُ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫بني عبد األشهل‪ ،‬فلما رآه عليه الصالة والسالم قال‪« :‬إن هذا الرجل ليريد غدراً‪ ،‬وإ ن اهلل مانعي‬
‫منه» فذهب لينحني على الرسول‪ ،‬فجذبه ُأسيدبن حضير من إزاره‪ ،‬وهنالك سقط الخنجر‪ ،‬فندم‬
‫الرج ُل على فعلته‪ ،‬ثم سأله عليه الصالة والسالم عن سبب عمله فصدقه بعد أن توثّق من حفظ دمه‪،‬‬
‫َأن‬
‫أخاف الرجال‪ ،‬فما هو إال ْ‬
‫ُ‬ ‫فخلّى عليه الصالة والسالم سبيله‪ .‬فقال الرجل‪ :‬واهلل يا محمد ما كنت‬
‫فعرفت أنك‬
‫ُ‬ ‫ممت به مما لم يعلمه أحد‪،‬‬
‫طلعت على ما َه ُ‬ ‫رأيتك فذهب عقلي وضعفت نفسي‪ ،‬ثم إنك ا ّ‬
‫حزب الشيطان‪ ،‬ثم أسلم‪ .‬وعند ذلك أرسل عليه‬
‫ُ‬ ‫ممنوع‪ ،‬وأنك على حق‪ ،‬وأن حزب أبي سفيان‬
‫َّم ِري‪ ،‬وكان رجالً جريئاً فاتكاً في الجاهلية‪ ،‬وأصحبه برفيق‪،‬‬
‫الصالة والسالم عمروبن أمية الض ْ‬
‫ليقتال أبا سفيان غيلة جزاء اعتدائه‪ ،‬فلما قدما مكة توجها ليطوفا بالبيت قبل أن يؤديا ما أرسال له‪،‬‬
‫ُأمية ما جاء إال بشر‪ ،‬فلما رآهم علموا به لم يجد‬
‫أحد رجال مكة‪ ،‬فقال‪ :‬هذا عمروبن ّ‬
‫فعرف َع ْمراً ُ‬
‫مناصاً من الهرب‪ ،‬فاصطحب معه رفيقه‪ ،‬ورجعا إلى المدينة‪َّ ،‬‬
‫وكَأن اهلل سبحانه أراد أن يعيش أبو‬
‫مفاتيح الكعبة للمسلمين‪ ،‬ويعتنق الدين الحنيفي القويم‪.‬‬
‫َ‬ ‫سفيان حتى ُي َسلِّ َم بيده‬

‫الح َد ْي َبية‬
‫غزوة ُ‬

‫رؤوسهم‬
‫َ‬ ‫رأى عليه الصالة والسالم في نومه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلِّقين‬
‫ومقصرين‪ ،‬فأخبر المسلمين أنه يريد العمرة‪ ،‬واستنفر األعراب الذين حول المدينة ليكونوا معه‪،‬‬
‫ِّ‬
‫تردهم قريش عن عمرتهم‪ ،‬ولكن هؤالء األعراب أبطؤوا عليه ألنهم ظنوا أالّ ينقلب‬ ‫حذراً من أن ّ‬
‫الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً‪ ،‬وتخلَّصوا بأن قالوا‪ :‬شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا‪ ،‬فخرج‬
‫عدتهم ألفاً وخمسمائة‪ ،‬وولى على‬
‫عليه الصالة والسالم بمن معه من المهاجرين واألنصار تبلغ ّ‬
‫ي ليعلم الناس أنه لم يأت محارباً‪ ،‬ولم‬
‫المدينة ابن ُأم مكتوم‪ ،‬وأخرج معه زوجه أم سلمة‪ ،‬وأخرج الهَ ْد َ‬
‫يرض أن يحملوا السيوف‬
‫َ‬ ‫يكن مع أصحابه شيء من السالح إال السيوف في القُُرب‪ ،‬ألن الرسول لم‬
‫مجردة وهم معتمرون‪ ،‬ثم سار الجيش حتى وصل ُع ْسفان فجاءه عينه يخبره أن قريشاً أجمعت رأيها‬
‫وأعدوا خالدبن الوليد‬
‫ّ‬ ‫يصدوا المسلمين عن مكة وأالّ يدخلوها عليهم َع ْنوةً أبداً‪ .‬وتجهزوا للحرب‪،‬‬
‫أن ّ‬
‫ليصدوا المسلمين عن التقدم‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬هل من رجل‬
‫ّ‬ ‫في مائتي فارس طليعة لهم‬
‫يأخذ بنا على غير طريقهم؟» فقال رجل من أسلم‪ :‬أنا يا رسول اهلل‪ .‬فسار بهم في طريق وعرة‪ ،‬ثم‬
‫خرج بهم إلى ٍ‬
‫مستو سهل يملك مكة من أسفلها‪ ،‬فلما رأى خالد ما فعل المسلمون رجع إلى قريش‬
‫الم َرار بركت ناقته‪ .‬فزجروها فلم تقم‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫بثنية ُ‬
‫وأخبرهم الخبر‪ .‬ولما كان عليه الصالة والسالم ّ‬
‫حابس‬ ‫بخلق‪ ،‬ولكن حبسها‬‫ص َواء‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬ما خألت وما ذلك لها ُ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫خَألت القَ ْ‬
‫تعظيم حرمات اهلل إال أجبتهم إليها» مع‬ ‫صلَة فيها‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫نفس محمد بيده ال تدعوني قريش ل َخ ْ‬
‫الفيل‪ .‬والذي ُ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫أن المسلمين لو قاتلوا أعداءهم في مثل هذا الوقت لظفروا بهم‪ ،‬ولكن َك َّ‬
‫ف اهلل أيدي المسلمين عن‬
‫قريش‪ ،‬و َك َّ‬
‫ف أيدي قريش عن المسلمين كيال تُنتهك ُحرمات البيت الذي أراد اهلل أن يكون حرماً آمناً‪،‬‬
‫دعائم أخوتهم‬
‫َ‬ ‫ويوطد المسلمون من جميع األقطار‬

‫الخزاعي‬
‫فيه‪ .‬ثم أمرهم عليه الصالة والسالم بالنزول أقصى الحديبية وهناك جاء ُب َديلبن َو ْرقَاء ُ‬
‫رسوالً من قريش‪ ،‬يسأل عن سبب مجيء المسلمين‪ ،‬فأخبره عليه الصالة والسالم بمقصده‪ ،‬فلما رجع‬
‫ُبديل إلى قريش وأخبرهم بذلك‪ ،‬لم يثقوا به ألنه من خزاعة الموالية لرسول اهلل كما كانت كذلك‬
‫محمد أن يدخل علينا في جنوده معتمراً تسمع العرب أنه قد دخل علينا عنوة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ألجداده‪ ،‬وقالوا‪ :‬أيريد‬
‫طرف‪ .‬ثم أرسلوا ُحلَْي َسبن علقمة‬ ‫وبيننا وبينهم من الحرب ما بيننا؟ واهلل ال كان هذا أبداً ومنا َع ْين تَ ْ‬
‫الهدي‪،‬‬
‫ظمون ْ‬ ‫َسيِّد األحابيش وهم حلفاء قريش‪ ،‬فلما رآه عليه الصالة والسالم قال‪« :‬هذا ِم ْن قوم يع ّ‬
‫ابعثوه في وجهه حتى يراه»‪ ،‬ففعلوا‪ ،‬واستقبله الناس ُيلَبُّون‪ ،‬فلما رأى ذلك ُحلَْيس رجع‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ويمنع عن البيت ابن عبد المطلب؟‬ ‫ُّ‬
‫أتحج لخم وجذام وحمير‪ُ ،‬‬ ‫ص ُّدوا‪.‬‬
‫سبحان اهلل ما ينبغي لهؤالء أن ُي َ‬
‫ِّ‬
‫ورب البيت إن القوم َأتَوا معتمرين‪.‬‬ ‫هل ْكت قريش‪،‬‬

‫اجلس إنما أنت أعرابي ال علم لك بالمكايد‪ ،‬ثم أرسلوا ُع ْر َوةَبن‬


‫ْ‬ ‫فلما سمعت قريش منه ذلك قالوا له‪:‬‬
‫أوباش الناس‪ ،‬ثم‬‫َ‬ ‫جمعت‬
‫َ‬ ‫مسعود الثقفي سيد أهل الطائف فتوجه إلى رسول اهلل‪ ،‬وقال‪ :‬يا محمد قد‬
‫جئت إلى أهلك وعشيرتك ِلتَفُضَّها بهم إنها قريش قد خرجت تعاهد اهلل أال تدخلها عليهم َع ْنوة أبداً‪.‬‬
‫وايم اهلل لكأني بهؤالء قد انكشفوا عنك‪ .‬فنال منه أبو بكر‪ ،‬وقال‪ :‬نحن ننكشف عنه؟ ويحك‬‫ُ‬

‫يمس لحية رسول اهلل‪ ،‬فكان المغيرةبن شعبة يقرع يده إذا أراد ذلك‪ ،‬ثم رجع‬
‫وكان عروة يتكلم وهو ّ‬
‫وضوءاً إال كادوا يقتتلون عليه يتمسحون به‪،‬‬
‫عروة وقد رأى ما يصنع بالرسول أصحابه‪ ،‬ال يتوضأ ُ‬
‫جئت كسرى‬ ‫وإ ذا تكلموا َخفَضوا أصواتهم عنده‪ ،‬وال ُي ِح ُّدون النظر إليه‪ .‬فقال‪ :‬واهلل يا معشر قريش ُ‬
‫رأيت َمِلكاً في قومه مثل محمد في أصحابه‪ ،‬ولقد رأيت قوماً ال‬
‫ُ‬ ‫وقيصر في عظمته‪ ،‬فما‬
‫َ‬ ‫في ملكه‬
‫ُيسلمونه لشيء أبداً‪ ،‬فانظروا رأيكم‪ ،‬فإنه عرض عليكم رشداً فاقبلوا ما عرض عليكم‪ ،‬فإني لكم‬
‫نرده عامنا ويرجع إلى‬ ‫ناصح‪ ،‬مع أني أخاف أال تنصروا عليه‪ .‬فقالت قريش‪ :‬ال تتكلم بهذا‪ ،‬ولكن ّ‬
‫قابل‪ .‬ثم إن الرسول اختار عثمانبن عفان رسوالً من عنده إلى قريش حتى يعلمهم م ْق ِ‬
‫صده‪ ،‬فتوجَّه‬ ‫َ‬
‫وتوجَّه معه عشرة استأذنوا الرسول في زيارة أقاربهم‪ ،‬وأمر عليه الصالة والسالم عثمان أن يأتي‬
‫وأن اللّه ُم ِظهر دينه‪ ،‬فدخل عثمان مكة في‬
‫المستضعفين من المؤمنين بمكة فيبشرهم بقرب الفتح َّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫جوار َأبانبن سعيد األموي فََبلَّغ ما حمل‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن محمداً ال يدخلها علينا َع ْنوة أبداً‪ .‬ثم طلبوا منه أن‬
‫فشاع عند المسلمين أن عثمان‬
‫َ‬ ‫يطوف بالبيت‪ ،‬فقال‪ :‬ال أطوف ورسول اهلل ممنوع‪ ،‬ثم إنهم حبسوه‪،‬‬
‫قُتِ َل‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم حينما سمع ذلك‪« :‬ال نبرح حتى ُنناجزهم الحرب»‪.‬‬

‫بيعة الرضوان‬
‫الناس للبيعة على القتال فبايعوه تحت شجرة هناك ـ ـ سميت بعد بشجرة الرضوان ـ ـ على‬
‫ودعا َ‬
‫فشاع أمر هذه البيعة في قريش فداخلهم منها رعب عظيم‪ ،‬وكانوا قد أرسلوا خمسين رجالً‬
‫َ‬ ‫الموت‪،‬‬
‫مكرزبن حفص ليطوفوا بعسكر المسلمين لعلهم يصيبون منهم ِغ َّرة‪ ،‬فأسرهم حارس الجيش‬
‫ُ‬ ‫عليهم‬
‫محمدبن مسلمة وهرب رئيسهم‪ ،‬ولما علمت بذلك قريش جاء جمع منهم وابتدؤوا يناوشون المسلمين‬
‫حتى أسر منهم اثنا عشر رجالً وقُتل من المسلمين واحد‪.‬‬

‫الح َديبية‬
‫صلح ُ‬

‫بن َع ْمرو للمكالمة في الصلح‪ ،‬فلما جاء قال‪ :‬يا محمد إن‬
‫وعند ذلك خافت قريش وأرسلت سهيل َ‬
‫منا فابعث بمن أسرت‪ ،‬فقال‪ :‬حتى ترسلوا‬
‫الذي حصل ليس من رأي عقالئنا بل شيء قام به السفهاء ّ‬
‫ٍ‬
‫وعندئذ أرسلوا عثمان والعشرة الذين معه‪ ،‬ثم عرض سهيل الشروط التي تريدها قريش‬ ‫َم ْن عندكم‪.‬‬
‫وهي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ـ وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنوات‪.‬‬
‫برده‪.‬‬
‫يردونه‪ ،‬ومن جاء قريشاً من المسلمين ال يلزمون ّ‬
‫‪ 2‬ـ ـ من جاء المسلمين من قريش ّ‬
‫‪ 3‬ـ ـ أن يرجع النبي من غير عمرة هذا العام‪ ،‬ثم يأتي العام المقبل فيدخلها بأصحابه بعد أن تخرج‬
‫منها قريش‪ ،‬فيقيم بها ثالثة أيام ليس مع أصحابه من السالح إال السيف في القراب والقوس‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ـ من أراد أن يدخل في عهد محمد من غير قريش دخل فيه‪ ،‬ومن أراد أن يدخل في عهد قريش‬
‫دخل فيه‪.‬‬
‫فقبل عليه الصالة والسالم كل هذه الشروط‪ .‬أما المسلمون فداخلهم منها أمر عظيم وقالوا‪ :‬سبحان‬
‫اهلل كيف َن ُر ُّد إليهم من جاءنا مسلماً‪ ،‬وال ّ‬
‫يردون َم ْن جاءهم ُم ْرتداً؟ فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬إنه‬
‫منا إليهم فأبعده اهلل‪ ،‬ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم فسيجعل اهلل له فرجاً ومخرجاً»‪Y.‬‬
‫من ذهب ّ‬
‫أما األمر الثالث‪ :‬وهو ُّ‬
‫صد المسلمين عن الطواف بالبيت فكان أشد تأثيراً في قلوبهم‪ ،‬ألن الرسول‬
‫أخبرهم أنه رأى في منامه أنهم دخلوا البيت آمنين‪ ،‬وقد سأل عمر أبا بكر في ذلك فقال رضي اهلل‬
‫عنه‪ :‬وهل ذكر أنه في هذا العام؟ ثم كتبت شروط الصلح بين الطرفين‪ ،‬وكان الكاتب عليبن أبي‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫اللهم‪،‬‬
‫طالب‪ ،‬فأماله عليه الصالة والسالم‪« :‬بسم اهلل الرحمان الرحيم»‪ .‬فقال ُسهيل‪ :‬اكتب باسمك ّ‬
‫فأمره الرسول بذلك‪ ،‬ثم قال‪« :‬هذا ما صالح عليه محمد رسول اهلل» فقال سهيل‪ :‬لو نعلم أنك رسول‬
‫علياً بمحو ذلك وكتابة محمدبن‬
‫اهلل ما خالفناك‪ ،‬اكتب محمدبن عبد اهلل‪ .‬فأمر عليه الصالة والسالم ّ‬
‫عبد اهلل‪ ،‬فامتنع‪ ،‬فمحاها النبي بيده‪ ،‬وكتبت نسختان نسخة لقريش ونسخة للمسلمين‪.‬‬

‫وبعد كتابة الشروط جاءهم أبو َج ْندلبن ُسهيل َي ْح ِج ُل في قيوده‪ ،‬وكان من المسلمين الممنوعين من‬
‫الهجرة‪ ،‬فهرب للمسلمين هذه المرة ليحموه‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬اصبر واحتسب‪ ،‬فإن اهلل‬

‫فرجاً ومخرجاً‪َّ ،‬إنا قد عقدنا بين القوم ُ‬


‫صلحاً وأعطيناهم‬ ‫جاعل لك ولمن معك من المستضعفين َ‬
‫وأعطونا على ذلك عهداً فال نغدر بهم»‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وقد دخلت قبيلة ُخزاعة في عهد رسول اهلل ودخل بنو بكر في عهد قريش‪.‬‬

‫الهدي ليتحلَّلوا‬
‫ولما انتهى األمر‪ ،‬أمر عليه الصالة والسالم أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم‪ ،‬وينحروا ْ‬
‫هماً عظيماً‪ ،‬حتى إنهم لم يبادروا باالمتثال‪ ،‬فدخل عليه‬
‫من عمرتهم‪ ،‬فاحتمل المسلمون من ذلك َّ‬
‫الصالة والسالم على ُأم المؤمنين‪ُ ،‬أم سلمة‪ ،‬وقال لها‪« :‬هلك المسلمون أمرتهم فلم يمتثلوا»‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫حملت نفسك أمراً عظيماً في الصلح‪ ،‬ورجع المسلمون من غير فتح فهم‬
‫يا رسول اهلل اعذرهم‪ ،‬فقد َّ‬
‫رأو َك فعلت تبعوك‪ ،‬فتقدم عليه‬
‫اخرج يا رسول اهلل وابدأهم بما تريد فإذا ْ‬
‫ْ‬ ‫لذلك مكروبون‪ ،‬ولكن‬
‫الصالة والسالم إلى َه ْديِ ِه فنحره ودعا بالحالّق فحلق رأسه‪ ،‬فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي‬
‫قر قرارهم جاءتهم‬‫فنحروه وحلقوا‪ ،‬ثم رجع المسلمون إلى المدينة‪ ،‬وقد أمن ك ّل فريق اآلخر‪ .‬ولما َّ‬
‫مهاجرة ُأم كلثوم بنت عقبةبن أبي معيط‪ ،‬أخت عثمان ألمه‪ ،‬فطلبها المشركون فقالت‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫ءامُنوْا ِإ َذا‬ ‫َِّ‬
‫ين َ‬ ‫إني امرأة‪ ،‬وإ ن رجعت إليهم فتنوني في ديني‪ ،‬فأنزل اهلل في سورة الممتحنة‪ :‬ياَأيُّهَا الذ َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َأعلَم بِِإ ِ‬ ‫َّ‬ ‫رات فَ ِ‬ ‫اج ٍ‬
‫وه َّن ِإلَى‬‫وه َّن ُمْؤ ِمَنات فَالَ تَْر ِج ُع ُ‬ ‫يمان ِه َّن فَِإ ْن َعل ْمتُ ُم ُ‬ ‫وه َّن اللهُ ْ ُ َ‬ ‫امتَحُن ُ‬ ‫ْ‬
‫ات مه ِ‬ ‫ِ‬
‫َجآء ُك ُم اْل ُمْؤ مَن ُ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ُّ‬ ‫ِ َّ‬
‫وه َّن ِإ َذآ‬
‫اح َعلَْي ُك ْم َأن تَنك ُح ُ‬ ‫وهم َّمآ َأنفَقُوْا َوالَ ُجَن َ‬ ‫ون لَهُ َّن َوءاتُ ُ‬‫اْل ُكفَّ ِار الَ ُه َّن ح ٌّل لهُ ْم َوالَ ُه ْم َيحل َ‬
‫اسَئ لُوْا َمآ َأنفَ ْقتُ ْم َوْلَي ْسَئ لُوْا َمآ َأنفَقُوْا َذِل ُك ْم ُح ْك ُم اللَّ ِه‬ ‫ِ‬ ‫ُأجور ُه َّن والَ تُم ِس ُكوْا بِ ِع ِ‬
‫صم اْل َك َواف ِر َو ْ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫وه َّن ُ َ‬‫ءاتَْيتُ ُم ُ‬
‫يم(‪)10‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫يم َحك ٌ‬‫َي ْح ُك ُم َب ْيَن ُك ْم َواللهُ َعل ٌ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وقد تمكن أبو بصير عتبةبن أسيد الثقفي ـ ـ رضي اهلل عنه ـ ـ من الفرار إلى رسول اهلل‪ ،‬فأرسلت قريش‬
‫في أثره رجلين يطلبان تسليمه‪ ،‬فأمره عليه الصالة والسالم بالرجوع معهما‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫أتردني إلى الكفار يفتنوني في ديني بعد أن خلّصني اهلل منهم؟ فقال‪« :‬إن اهلل جاعل لك وإلخوانك‬
‫ّ‬
‫الحلَيفة عدا على أحدهما فقتله‪،‬‬
‫فرجاً»‪ ،‬فلم يجد بداً من اتّباعه‪ ،‬فرجع مع صاحبيه‪ ،‬ولما كان بذي ُ‬
‫ت ذمتك‪ ،‬أما أنا فنجوت‪ ،‬فقال له‪:‬‬
‫وهرب منه اآلخر‪ ،‬فرجع إلى المدينة وقال‪ :‬يا رسول اهلل وفَ ْ‬
‫تمر به تجارة قريش‪ ،‬فأقام به‬ ‫ِ‬
‫«اذهب حيث شئت وال تُق ْم بالمدينة» فذهب إلى محل بطريق الشام ّ‬
‫ونجوا‪ ،‬وسار إليه أبو جندلبن سهيل‪ ،‬واجتمع إليه جمع‬ ‫ممن كانوا مسلمين بمكة َ‬‫واجتمع معه جمع ّ‬
‫من األعراب‪ ،‬وقطعوا الطريق على تجارة قريش حتى قطعوا عنهم األمداد‪ ،‬فأرسل رجال قريش‬
‫إمساك من جاءه مسلماً‪ ،‬فقبل منهم‬
‫لرسول اهلل يستغيثون به في إبطال هذا الشرط ويعطونه الحق في َ‬
‫تحملها في الحديبية حينما أمرهم عليه‬
‫الغمة التي لم يتمكنوا من ّ‬
‫ذلك‪ ،‬وأزاح اهلل عن المسلمين هذه ّ‬
‫برد أبي جندل‪ ،‬وعلموا أن رأي رسول اهلل أفضل وأحسن من رأيهم حيث كان فيه‬
‫الصالة والسالم ّ‬
‫أمن تسبب عنه اختالط الكفار بالمسلمين‪ ،‬فخالطت بشاشة اإلسالم قلوبهم حتى قال أبو بكر رضي اهلل‬
‫عما كان بين محمد‬
‫أعظم من فتح الحديبية ولكن الناس قصر رأيهم ّ‬
‫َ‬ ‫عنه‪ :‬ما كان فتح في اإلسالم‬
‫والعباد َي ْع َجلُون‪ ،‬واهلل ال َي ْع َج ُل لعجلة العباد حتى تبلغ األمور ما أراد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وربِّه‪،‬‬

‫وفي رجوعه عليه الصالة والسالم من الحديبية نزلت عليه سورة الفتح‪ ،‬وقال سبحانه في أولها‪ِ :‬إَّنا‬
‫فَتَ ْحَنا لَ َك فَتْحاً ُّمبِيناً} (الفتح‪ )1:‬وفي تسمية هذه الغزوة بالفتح المبين تصديق لما ّ‬
‫قدمنا لك عن‬
‫الصديق‪.‬‬‫ِّ‬

‫مكاتبة الملوك‬

‫بعد رجوع المسلمين من الحديبية في أواخر سنة ست وأمن الطريق من قريش‪ ،‬كاتب عليه الصالة‬
‫والسالم ملوك األرض يدعوهم إلى اإلسالم‪ ،‬واتخذ إذ ذاك خاتماً من فضة يختم به خطاباته‪ ،‬وكان‬
‫نقشه‪ :‬محمد رسول اهلل‪ ،‬فوجَّه ِد ْحَية الكلبي بكتاب إلى قيصر ملك الروم‪ ،‬وأمره أن يدفعه إلى عظيم‬
‫ُبصرى ليوصله إلى الملك‪.‬‬
‫كتاب قيصر‬
‫وكان في الكتاب‪« :‬بسم اهلل الرحمان الرحيم من محمد عبد اهلل ورسوله إلى ِه َر ْقل عظيم الروم‪ ،‬سالم‬
‫على من اتّبع الهُدى‪ ،‬أما بعد‪ :‬فإني أدعوك بدعاية اإلسالم‪ ،‬أسلم تسلَم يؤتك اهلل أجرك مرتين‪ ،‬فإن‬
‫َّ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ياَأه َل اْل ِكتَ ِ‬
‫اب تَ َعالَ ْوْا ِإلَى َكل َمة َس َوآء َب ْيَنَنا َوَب ْيَن ُك ْم َأال َن ْعُب َد ِإال اللهَ‬ ‫توليت فإنما عليك إثم األريسيين‪ :‬و ُق ْل ْ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫والَ ُن ْش ِر َك بِ ِه َشْيئاً والَ يتَّ ِخ َذ بعضَنا بعضا َأربابا من ُد ِ َّ ِ‬


‫ون الله فَِإن تََول ْوْا فَقُولُوْا ا ْشهَ ُدوْا بِ ََّأنا ُم ْسل ُم َ‬
‫ون(‬ ‫َ َ َْ ُ َْ ً ْ َ ً ّ‬ ‫َ‬
‫‪)64‬‬

‫حديث أبي سفيان‬

‫ولما وصل هذا الكتاب قيصر‪ ،‬قال‪ :‬انظروا لنا من قومه أحداً نسأله عنه‪ ،‬وكان أبو سفيانبن حرب‬
‫ود َعوه لمقابلة الملك فأجاب‪،‬‬
‫بالشام مع رجال من قريش في تجارة‪ ،‬فجاءت ُر ُسل قيصر ألبي سفيان َ‬
‫لتر ُجمانه‪َ :‬سْلهُ ْم ّأيهم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال‬
‫ولما قدموا عليه في القدس قال ْ‬
‫ادن مني‪ ،‬ثم أمر‬
‫أبو سفيان‪ :‬أنا‪ ،‬ألنه لم يكن في الركب من بني عبد مناف غيره‪ ،‬فقال قيصر‪ُ :‬‬
‫قدمت هذا أمامكم ألسأله عن هذا‬
‫أصحابه فجعلوا خلف ظهره‪ ،‬ثم قال لترجمانه‪ :‬قل ألصحابه إنما ّ‬
‫رد كذبه عليه إذا كذب‪ ،‬ثم سأله كيف‬
‫الرجل الذي يزعم أنه نبي‪ ،‬وقد جعلتكم خلفه كيال تخجلوا من ّ‬
‫نسب هذا الرجل فيكم؟ قال‪ :‬هو فينا ذو نسب‪ .‬قال‪ :‬هل تكلَّم بهذا القول ٌ‬
‫أحد منكم قبله؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪:‬‬
‫هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬فهل كان من آبائه من ملك؟ قال‪ :‬ال‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأشراف الناس َيتَّبِ ُعونه أم ضعفاؤهم؟ قال‪ :‬بل ضعفاؤهم‪ .‬قال‪ :‬فهل يزيدون أم ينقصون؟ قال‪:‬‬
‫يرتد أحد منهم َس ْخطة لدينه؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬هل يغدر إذا عاهد؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬ونحن‬
‫بل يزيدون‪ .‬قال‪ :‬هل ّ‬
‫اآلن منه في ذمة ال ندري ما هو فاعل فيها‪ .‬قال‪ :‬فهل قاتلتموه؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فكيف حربكم‬
‫يأمركم؟ قال‪ :‬يقول‪« :‬اعبدوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وحربه؟ قال‪ :‬الحرب بيننا وبينه س َجال مرة لنا ومرة علينا‪ .‬قال‪ :‬فَب َم ُ‬
‫عما كان يعبد آباؤنا ويأمر بالصالة والصدق والعفافـ والوفاء‬‫اهلل وحده وال تشركوا به شيئاً‪ ،‬وينهى ّ‬
‫بالعهد وأداء األمانة»‪.‬‬

‫فزعمت أنه فيكم ذو نسب‪ ،‬وكذلك الرسل تُْبعث في نسب قومها‪،‬‬


‫َ‬ ‫فقال الملك‪ :‬إني سألتك عن نسبه‬
‫لقلت‪ :‬رج ٌل‬
‫أحد قال هذا القول قبله ُ‬
‫أن ال‪ ،‬فلو كان ٌ‬‫فزعمت ْ‬
‫َ‬ ‫وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟‬
‫أن ال‪ ،‬فقلت‪ :‬ما‬
‫فزعمت ْ‬
‫َ‬ ‫يْأتَ ُّم ٍ‬
‫بقول قيل قبله‪ ،‬وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟‬
‫الكذب على الناس ويكذب على اهلل‪ ،‬وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فقلت‪ :‬ال‪ ،‬فلو كان‬
‫َ‬ ‫ليذر‬
‫كان َ‬
‫فقلت‪ :‬بل‬
‫أأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ َ‬
‫ُ‬ ‫من آبائه ملك لقلت‪ :‬رجل يطلب ُملك أبيه‪ ،‬وسألتك‬
‫ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل‪ ،‬وسألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلت‪ :‬بل يزيدون‪ ،‬وكذلك اإليمان‬
‫يرتد أحد منهم َس ْخطة لدينه؟ فقلت‪ :‬ال‪ ،‬وكذلك اإليمان حين تخالط بشاشته‬
‫حتى يتم‪ ،‬وسألتك هل ّ‬
‫القلوب‪ ،‬وسألتك‪ :‬هل قاتلتموه؟ فقلت‪ :‬نعم‪ ،‬وإ ن الحرب بينكم وبين ِس َجال‪ ،‬وكذلك ُّ‬
‫الر ُسل تُبتلى ثم‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫فزعمت أنه يأمر بالصالة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد‬


‫َ‬ ‫تكون لهم العاقبة‪ ،‬وسألتك‪ :‬بماذا يأمر؟‬
‫علمت‬
‫ُ‬ ‫نبي‪ ،‬وقد‬
‫فعلمت أنه ٌّ‬
‫ُ‬ ‫وأداء األمانة‪ ،‬وسألتك‪ :‬هل يغدر؟ فذكرت أن ال‪ ،‬وكذلك الرسل ال تغدر‪،‬‬
‫قدمي هاتين‪ ،‬ولو أعلم أني‬
‫َّ‬ ‫موضع‬
‫َ‬ ‫أنه مبعوث‪ ،‬ولم أظن أنه فيكم‪ ،‬وإ ن كان ما كلّمتني به حقاً فسيملك‬
‫أصوات الذين عنده وكثر لَ َغطُهم فال أدري ما قالوا‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫أخلص إليه لتكلفت ذلك‪ ،‬قال أبو سفيان‪ :‬فَ َعلَ ْ‬
‫وُأمر بنا فأخرجنا‪.‬‬

‫فلما خرج أبو سفيان مع أصحابه قال‪ :‬لقد بلغ أمر ابن أبي كبشة أن يخافه ملك بني األصفر‬

‫ولما سار قيصر إلى حمص َِأذن لعظماء الروم في َد ْس َكرة له‪ ،‬ثم أمر بأبوابها فُأغلقت ثم قال‪ :‬يا‬
‫معشر الروم هل لكم في الفالح والرشد وأن يثبت ُملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة ُح ُمر‬
‫علي‪ ،‬فقال لهم‪ :‬إني قلت‬
‫ردوهم َّ‬
‫الوحش إلى األبواب فوجدوها مغلقة‪ ،‬فلما رأى قيصر نفرتهم‪ ،‬قال‪ّ :‬‬
‫شدتكم على دينكم‪ ،‬فسكتوا له‪ ،‬ورضوا عنه‪ .‬فغلبه ُح ُّ‬
‫ب ُملكه على اإلسالم‪ ،‬فذهب‬ ‫مقالتي أختبر بها ّ‬
‫رد دحيةَ َّ‬
‫رداً جميالً‪.‬‬ ‫بإثمه وإ ثم رعيته كما قال عليه الصالة والسالم ولكنه ّ‬

‫كتاب أمير ُبصرى‬


‫وأرسل عليه الصالة والسالم الحارثبن عمير األزدي بكتاب إلى أمير ُبصرى‪ ،‬فلما بلغ مؤتة‪ ،‬وهي‬
‫تعرض له شرحبيلبن عمرو الغساني‪ ،‬فقال له‪ :‬أين تريد؟ قال‪ :‬الشام‪.‬‬
‫قرية من عمل البلقاء بالشام‪ّ ،‬‬
‫ت عنقه‪ .‬ولم ُيقتل لرسول اهلل عليه الصالة‬
‫رب ْ‬
‫فض َ‬
‫قال‪ :‬لعلّك من ُر ُسل محمد؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فأمر به‪ُ ،‬‬
‫والسالم رسول غيره‪ ،‬وقد َو َج َد لذلك َو ْجداً شديداً‪.‬‬

‫كتاب الحارثبن أبي َش ِمر‬


‫شجاعبن وهب إلى أمير دمشق ـ ـ من ِقَب َل ِه َر ْقل ـ ـ الحارثبن أبي َش ِمر‪،‬‬
‫َ‬ ‫ووجه عليه الصالة والسالم‬
‫ّ‬
‫وكان يقيم بغوطتها وفيه‪« :‬بسم اهلل الرحمان الرحيم‪ ،‬من محمد رسول اهلل إلى الحارثبن أبي شمر‪،‬‬
‫سالم على من اتبع الهدى‪ ،‬وآمن باهلل‪ ،‬وصدق‪ ،‬وإ ني أدعوك أن تؤمن باهلل وحده ال شريك له‪ ،‬يبقى‬
‫ليرسل جيشاً لحرب‬
‫َ‬ ‫واستعد‬
‫ّ‬ ‫مني‪.‬‬
‫لك ملكك» فلما قرأ الكتاب رمى به‪ ،‬وقال‪ :‬من ينزعُ ُملكي ّ‬
‫المسلمين‪ ،‬وقال لشجاع‪ :‬أخبر صاحبك بما ترى‪ ،‬ثم أرسل إلى قيصر يستأذنه في ذلك‪ ،‬وصادف أن‬
‫قيصر إليه يثنيه عن هذا العزم ويأمره أن ُيهيِّىء بإيلياء ما يلزم لزيارته‪ ،‬فإنه‬
‫ُ‬ ‫كان عنده دحية فكتب‬
‫شجاعبن وهب بالحسنى‪،‬‬
‫َ‬ ‫صرف‬
‫َ‬ ‫الحارث كتاب قيصر‬
‫ُ‬ ‫بعد أن قهر الفرس نذر زيارتها‪ ،‬فلما رأى‬
‫ووصلَهُ بنفقة وكسوة‪.‬‬
‫َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫المقَ ْو ِقس‬
‫كتاب ُ‬

‫حاطببن أبي َبْلتعة بكتاب إلى المقوقس أمير مصر من جهة قيصر‪ ،‬وكان‬
‫َ‬ ‫ووجه عليه الصالة والسالم‬
‫ّ‬
‫فيه‪« :‬بسم اهلل الرحمان الرحيم‪ ،‬من محمد رسول اهلل إلى المقوقس عظيم القبط‪ ،‬سالم على َمن اتبع‬
‫توليت فإنما‬
‫َ‬ ‫أسلم تَ ْسلَم ُيؤتك اهلل أجرك مرتين‪ ،‬وإ ن‬ ‫الهدى‪ ،‬أما بعد‪ :‬فإني أدعوك بدعاية اإلسالم ْ‬
‫ِ ٍ‬ ‫وياَأه َل اْل ِكتَ ِ‬
‫ين} اآلية (آل عمران‪:‬‬‫ين اْل ُم ْمتَ ِر َ‬ ‫اب تَ َعالَ ْوْا ِإلَى َكل َمة اْل ُم ْمتَ ِر َ‬
‫ين اْل ُم ْمتَ ِر َ‬ ‫ْ‬ ‫عليك إثم القبط»‪،‬‬
‫نبياً أن يدعو على َمن خالفه‬ ‫‪ )64‬فأوصله له حاطب بإسكندرية‪ ،‬فلما قرأه قال‪ :‬ما منعه إن كان ّ‬
‫تشهد أن عيسى ابن مريم رسو ُل اهلل‪ ،‬فما له حيث أخذه قومه‬
‫ُ‬ ‫ألست‬
‫َ‬ ‫وأخرجه من بلده؟ فقال حاطب‪:‬‬
‫فأرادوا أن يقتلوه أالّ يكون دعا عليهم أن يهلكهم اهلل حتى رفعه اهلل إليه؟ قال‪ :‬أحسنت أنت حكيم جاء‬
‫فوجدت أنه ال يأمر بمزهود فيه‪ ،‬وال ينهى‬
‫ُ‬ ‫نظرت في أمر هذا النبي‬
‫ُ‬ ‫من عند حكيم‪ .‬ثم قال‪ :‬إني قد‬
‫النبوة‪ :‬إخراج‬
‫ووجدت معه آلة ّ‬
‫ُ‬ ‫الضا ّل‪ ،‬وال الكاهن الكذاب‪،‬‬
‫عن مرغوب فيه‪ ،‬ولم أجده بالساحر ّ‬
‫الغائب المستور‪ ،‬واإلخبار بالنجوى‪ ،‬وسأنظر‪.‬‬
‫ِ‬
‫عظيم القبط‪،‬‬ ‫رد الجواب يقول فيه‪ :‬بسم اهلل الرحمان الرحيم‪ :‬لمحمدبن عبد اهلل من المقوقس‬
‫ثم كتب ّ‬
‫علمت أن نبياً قد بقي‬
‫ُ‬ ‫وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه‪ ،‬وقد‬
‫ُ‬ ‫سالم عليك‪ ،‬أما بعد‪ :‬فقد قرأت كتابك‬
‫أكرمت رسولك‪ ،‬وبعثت لك بجاريتين لهما مكان عظيم في القبط‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يخرج بالشام‪ ،‬وقد‬
‫ُ‬ ‫وكنت أظن أنه‬
‫ُ‬
‫تسرى بها عليه الصالة‬
‫وبثياب‪ ،‬وأهديت إليك بغلة تركبها والسالم‪ .‬وإ حدى الجاريتين مارية التي ّ‬
‫والسالم‪ ،‬وجاء منها بولده إبراهيم‪ ،‬واألخرى أعطاها لحسانبن ثابت‪ .‬ولم يسلم المقوقس‪.‬‬

‫النجاشي‬
‫كتاب ّ‬

‫الض ْم ِري بكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة وفيه‪« :‬بسم اهلل‬
‫ووجه عليه الصالة والسالم عمروبن أمية ّ‬
‫الرحمان الرحيم من محمد رسول اهلل‪ ،‬إلى النجاشي عظيم الحبشة سالم‪ .‬أما بعد‪ :‬فإني أحمد إليك اهلل‬
‫الذي ال إله إالّ هو‪ ،‬الملك القدوس السالم المؤمن المهيمن‪ ،‬وأشهد أن عيسى ابن مريم روح اهلل‪،‬‬
‫وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة‪ ،‬فحملت بعيسى من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده‪،‬‬
‫وإ ني أدعوك إلى اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬والمواالة على طاعته‪ ،‬وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني‪،‬‬
‫ونصحت‪ ،‬فاقبلوا نصيحتي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫غت‬
‫عز وج ّل‪ ،‬وقد بلّ ُ‬
‫فإني رسول اهلل‪ ،‬وإ ني أدعوك وجنودك إلى اهلل ّ‬
‫والسالم على من اتبع الهدى» ولما وصله الكتاب احترمه غاية االحترام‪ ،‬وقال لعمرو‪ :‬إني أعلم واهلل‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫األعوان وألين القلوب‪.‬‬


‫َ‬ ‫ولكن أعواني بالحبشة قليل فأنظرني حتى ُأ َكثِّر‬ ‫أن عيسى َّ‬
‫بش َر به‪َّ ،‬‬
‫وقد عرض عمرو على َم ْن بقي من مهاجري الحبشة الرجوع إلى رسول اهلل بالمدينة‪ ،‬وكان من‬
‫المهاجرين ُأم حبيبة بنت أبي سفيان زوج عبيد اللهبن جحش الذي كان أسلم وهاجر بها‪ ،‬ولكن قد‬
‫زوجها له‬
‫فتنصر‪ ،‬فتزوج عليه الصالة والسالم ُّأم حبيبة وهي بالحبشة‪ ،‬والذي ّ‬
‫ّ‬ ‫غلبت عليه الشقاوة‬
‫النجاشي بتوكيل منه عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫كتاب كسرى‬

‫ووجه عليه الصالة والسالم عبد اللهبن حذافة السهمي بكتاب إلى كسرى‪ ،‬ملك الفرس‪ ،‬وفيه‪« :‬بسم‬
‫ّ‬
‫اهلل الرحمان الرحيم‪ ،‬من محمد رسول اهلل إلى كسرى عظيم فارس‪ ،‬سالم على من اتََّب َع الهدى‪ ،‬وآمن‬
‫باهلل ورسوله‪ ،‬وشهد أن ال إله إالّ اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأن محمداً عبده ورسوله‪ ،‬أدعوك بدعاية‬
‫ويحق القول على الكافرين‪ ،‬أسلم تسلم‬
‫ّ‬ ‫حياً‪،‬‬
‫اهلل‪ ،‬فإني أنا رسول اهلل إلى الناس كافة‪ ،‬ألنذر من كان ّ‬
‫فإن أبيت فإنما عليك إثم المجوس» فلما وصله الكتاب َم َّزقَهُ استكباراً‪ ،‬ولما بلغه عليه الصالة والسالم‬
‫ممزق» وقد فعل‪ ،‬فكانت مملكته أقرب الممالك سقوطاً وقد بدأ هذا‬ ‫«مزق اهلل ُملكه كل ّ‬ ‫ذلك‪ ،‬قال‪َّ :‬‬
‫يوجه إلى الرسول َمن يأتي به إليه فعاجله اهلل بقيام ابنه‬ ‫الشقي بالعدوان‪ ،‬فأرسل ِ‬
‫لعامله باليمن أن ّ‬
‫عما أمره به أبوه‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫شيرويه عليه وقَ ْتله له‪ ،‬ثم أرسل لعامله في اليمن ينهاه ّ‬
‫كتاب المنذربن ساوى‬

‫العالءبن الحضرمي بكتاب إلى المنذربن ساوى ملك البحرين يدعوه إلى‬
‫َ‬ ‫ووجه عليه الصالة والسالم‬
‫ّ‬
‫اإلسالم وفيه‪« :‬بسم اهلل الرحمان الرحيم‪ ،‬سالم أنت‪ ،‬فإني أحمد إليك اهلل الذي ال إله إالّ هو‪ .‬أما بعد‪:‬‬
‫أحب‬
‫وذمة الرسول‪َ ،‬م ْن ّ‬ ‫ِ‬
‫من صلى صالتنا‪ ،‬واستقبل قبلتنا‪ ،‬وأكل ذبيحتنا‪ ،‬فذلك المسلم له ذمة اهلل ّ‬ ‫فإن ْ‬
‫ّ‬
‫ذلك من المجوس فإنه آمن‪ ،‬ومن أبى فإن عليه الجزية» فأسلم وكتب في رد الجواب‪ :‬أما بعد‪ ،‬يا‬
‫رسول اهلل فإني قرأت كتابك على أهل البحرين فمنهم من َّ‬
‫أحب اإلسالم وأعجبه ودخل فيه‪ ،‬ومنهم َم ْن‬
‫إلي في ذلك أمرك‪ .‬فكتب إليه عليه الصالة والسالم‪« :‬بسم‬
‫كرهه‪ ،‬وبأرضي مجوس ويهود فأحدث ّ‬
‫اهلل الرحمان الرحيم‪ ،‬من محمد رسول اهلل إلى المنذربن ساوى‪ ،‬سالم عليك‪ ،‬فإني أحمد اهلل إليك الذي‬
‫عز وج ّل‬
‫ال إله إالّ هو‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وأن محمداً عبده ورسوله‪ ،‬أما بعد‪ :‬فإني أذكرك اهلل ّ‬
‫طع ُر ُسلي‪ ،‬ويتّبع أمرهم فقد أطاعني‪ ،‬ومن نصح لهم‬
‫فإنه َم ْن ينصح فإنما ينصح لنفسه‪ ،‬وإ نه من ُي ْ‬
‫فقد نصح لي‪ ،‬وإ ن ُرسلي قد أثنوا عليك خيراً‪ ،‬وإ ني قد شفَّعتك في قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫عليه‪ ،‬وعفوتـ عن أهل الذنوب فاقبل منهم‪ ،‬وإ نك مهما تصلح فلن َن ْع ِزلَ َك عن عملك‪ ،‬ومن أقام على‬
‫يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية»‪.‬‬

‫كتاب َمِل َك ْي ُع َمان‬

‫ان وفيه‪:‬‬
‫لندى ملكي ُع َم َ‬
‫الج َ‬
‫ووجه عليه الصالة والسالم عمروبن العاص بكتاب إلى َج ْيفَر وعبد ابني ُ‬
‫ّ‬
‫الجلَْن َدى‪ ،‬سالم على من اتبع‬
‫«بسم اهلل الرحمان الرحيم‪ ،‬من محمد رسول اهلل إلى َج ْيفَر وعبد ابني ُ‬
‫الهدى‪ ،‬أما بعد‪ :‬فإني أدعوكما بدعاية اإلسالم‪ ،‬أسلما تسلماً‪ ،‬فإني رسول اهلل إلى الناس كافة ألنذر‬
‫تقرا‬
‫ويحق القول على الكافرين‪ ،‬وإ نكما إن أقررتما باإلسالم ولّيتكما‪ ،‬وإ ن أبيتما َأن ّ‬
‫ّ‬ ‫حياً‬
‫من كان ّ‬
‫باإلسالم فإن ملككما زائل‪ ،‬وخيلي تح ّل بساحتكما‪ ،‬وتظهر نبوتي على ملككما» فلما دخل بناديهما‬
‫عز وج ّل‪،‬‬
‫عما يأمر به الرسول وينهى عنه‪ ،‬فقال‪ :‬يأمر بطاعة اهلل ّ‬
‫الجلَْندى ّ‬
‫عمرو سأله عبدبن ُ‬
‫بالبر‪ ،‬وصلة الرحم‪ ،‬وينهى عن الظلم والعدوان والزنا وشرب الخمر‪،‬‬
‫وينهى عن معصيته‪ ،‬ويأمر ّ‬
‫وعن عبادة الحجر والوثن والصليب‪ ،‬فقال‪ :‬ما أحسن هذا الذي يدعو إليه ولو كان أخي يتابعني‬
‫بمْلكه من أن يدعه ويصير تابعاً‪ .‬قال عمرو‪:‬‬‫أضن ُ‬
‫ونصدق به‪ ،‬ولكن أخي ّ‬‫ّ‬ ‫لركبنا حتى نؤمن بمحمد‬
‫فردها على فقيرهم‪ ،‬فقال عبد‪ :‬إن‬‫إن أسلم أخوك َملَّ ُكه رسول اهلل على قومه‪ ،‬فأخذ الصدقة من غنيهم ّ‬
‫لق حسن‪ .‬وما الصدقة؟ فأخبره بما فرض اهلل من الصدقات في األموال‪ ،‬ولما ذكر المواشي‪،‬‬ ‫لخ ٌ‬
‫هذا ُ‬
‫قال‪ :‬يا عمرو يؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى في الشجر وترد المياه؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فقال عبد‪ :‬واهلل‬
‫ما أرى قومي على بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا‪ .‬ثم إن عبداً أوصل َع ْمراً ألخيه جيفر‬
‫وم َّكناهُ من الصدقات‪.‬‬
‫أالن قلبه حتى أسلم هو وأخوه‪َ ،‬‬
‫فتكلم معه عمرو بما َ‬

‫كتاب َه ْو َذةبن علي‬

‫ووجه عليه الصالة والسالم َسِل ْيطبن عمرو العامري بكتاب إلى َه ْوذةبن علي ملك اليمامة‪ ،‬وفيه‪:‬‬
‫ّ‬
‫«بسم اهلل الرحمان الرحيم‪ ،‬من محمد رسول اهلل إلى َه ْوذةبن علي‪ ،‬سالم على من اتبع الهدى‪ ،‬وأعلم‬
‫ِ‬
‫والحافر‪ ،‬فأسلم تسلم‪ ،‬وأجعل لك ما تحت يديك» فلما جاءه الكتاب‬ ‫الخ ِّ‬
‫ف‬ ‫أن ديني سيظهر إلى منتهى ُ‬
‫رده‪ :‬ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني‪،‬‬
‫كتب في ّ‬
‫فاجعل لي بعض األمر أتبعك‪.‬‬
‫باد وباد ما في يديه»‪ .‬فلم يلبث‬
‫فعلت‪َ ،‬‬
‫ولما بلغ ذلك رسول اهلل قال‪« :‬لو سألني قطعة من األرض ما ُ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫نص َرف الرسول صلى اهلل عليه وسلم من فتح مكة‪ .‬وكان عليه الصالة والسالم يولّي على‬
‫أن مات ُم َ‬
‫كل قوم قبلوا اإلسالم كبيرهم‪.‬‬

‫السََّنة السَّابعة‬

‫غزوة َخيبر‬
‫وفي محرم السنة السابعة أمر عليه الصالة والسالم بالتجهّز لغزو يهود خيبر‪ ،‬الذين كانوا أعظم‬
‫ِّج لألحزاب ضد رسول اهلل في غزوة الخندق‪ ،‬والذين ال يزالون مجتهدين في محالفة األعراب‬
‫ُمهَي ٍ‬
‫قدمنا ذلك في قصة كعببن األشرف‪ .‬وقد استنفر رسو ُل اهلل لذلك َم ْن حوله من‬ ‫ضد رسول اهلل كما ّ‬
‫األعراب الذين كانوا معه بالحديبية‪ ،‬وجاء المخلَّفون عنها ليؤ َذن لهم‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬ال‬
‫تخرجوا معي إال رغبة في الجهاد‪ ،‬أما الغنيمة فال أعطيكم منها شيئاً»‪ ،‬وأمر منادياً ينادي بذلك‪ ،‬ثم‬
‫طةَ الغفاري‪ .‬وكان معه من أزواجه‬ ‫اعبن ُع ْرفُ َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫خرج عليه الصالة والسالم بعد أن ولى على المدينة سَب َ‬
‫ُّأم سلمة‪ ،‬ولما وصل جيش المسلمين إلى خيبر التي تبعد عن المدينة نحو مائة ميل من الشمال‬
‫الغربي‪ ،‬رفعوا أصواتهم بالتكبير والدعاء‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬ارفقوا بأنفسكم‪ ،‬فإنكم ال‬
‫أصم وال غائباً‪ ،‬إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم»‪.‬‬
‫تدعون َّ‬

‫طاة‪ ،‬وحصون ال َكتيبة‪،‬‬ ‫وكانت حصون خيبر ثالثة‪ ،‬منفصالً بعضها عن بعض‪ ،‬وهي‪ :‬حصون َّ‬
‫الن َ‬
‫َّعب‪ ،‬وحصن ُقلَّ ٍة‪ ،‬والثانية حصنان‪:‬‬ ‫وحصون َّ‬
‫الشق‪ ،‬واألولىـ ثالثة‪ :‬حصن ناعم‪ ،‬وحصن الص ْ‬
‫الو ِط ْيح‪ ،‬وحصن‬
‫ُأبي‪ ،‬وحسن البريء‪ ،‬والثالثة ثالثة حصون‪ :‬حصن القَ ُموص‪ ،‬وحصن َ‬ ‫حصن ّ‬
‫الس ِ‬
‫ُّاللم‪ ،‬فبدأ عليه الصالة والسالم بحصون َّ‬
‫النطاة‪ ،‬وعسكر المسلمون شرقيها بعيداً عن مدى النبل‪،‬‬
‫وأمر عليه الصالة والسالم أن يقطع نخلهم ليرهبهم حتى يسلموا‪ ،‬فقطع المسلمون نحو أربعمائة‬
‫نخلة‪ .‬ولما رأى عليه الصالة والسالم تصميم اليهود على الحرب نهى عن القطع‪ ،‬ثم ابتدأ القتال مع‬
‫حصن ناعم بالمراماة‪ ،‬وكان لواء المسلمين بيد أحد المهاجرين فلم يصنع في ذلك اليوم شيئاً‪ ،‬وفيه‬
‫مات محمودبن مسلمة أخو محمدبن مسلمة‪ ،‬وصار عليه الصالة والسالم يغدو كل يوم مع بعض‬
‫الجيش للمناوشة‪ ،‬ويخلّف على العسكر أحد المسلمين‪ ،‬حتى إذا كانوا في الليلة السادسة‪ ،‬ظفر حارس‬
‫الجيش‪ ،‬وهو عمربن الخطاب‪ ،‬بيهودي خارج في جوف الليل‪ ،‬فأتى به رسول اهلل عليه الصالة‬
‫أدلكم على أمر فيه نجاحكم‪ d.‬فقالوا‪ُ :‬دلََّنا فقد‬
‫أم ْنتُموني ّ‬
‫والسالم‪ ،‬ولما أدرك الرجل الرعب قال‪ :‬إن َّ‬
‫َأمَّناك‪ ،‬فقال‪ :‬إن أهل هذا الحصن أدركهم المالل والتعب‪ ،‬وقد تركتهم يبعثون بأوالدهم إلى حصن‬
‫َّ‬
‫َّ‬
‫الشق‪ ،‬وسيخرجون لقتالكم غداً‪ ،‬فإذا فتح عليكم هذا الحصن غداً فإني أدلكم على بيت فيه منجنيق‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ودبابات ودروع وسيوف‪ ،‬يسهل عليكم بها فتح بقية الحصون‪ ،‬فإنكم تنصبون المنجنيق‪ ،‬ويدخل‬
‫الرجال تحت الدبابات‪ ،‬فينقبون الحصن فتفتحه من يومك‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم لمحمدبن‬
‫ويحبانه» فبات المهاجرون واألنصار كلهم‬
‫يحب اهلل ورسوله ّ‬ ‫مسلمة‪« :‬سُأعطي الراية غداً رجالً ّ‬
‫يتمنونها‪ ،‬حتى قال عمربن الخطاب‪ :‬ما تمنيت اإلمارة إال ليلتئذ‪.‬‬
‫ّ‬

‫فلما كان الغد سأل عليه الصالة والسالم عن عليبن أبي طالب فقيل له‪ :‬إنه أرمد‪ ،‬فأرسل َم ْن يأتيه به‪،‬‬
‫ولما جاء تََف َل في عينيه فشفاهما اهلل كأن لم يكن بهما شيء‪ ،‬ثم أعطاه الراية‪ ،‬فتوجه مع المسلمين‬
‫ب‪،‬‬ ‫للقتال‪ ،‬وهناك وجدوا اليهود متجهزين‪ ،‬فخرج يهودي يطلب البَِراز فقتله ٌّ‬
‫علي‪ ،‬ثم خرج َم ْر َح ٌ‬
‫حمل المسلمون على‬
‫العوام‪ ،‬ثم َ‬
‫وهو أشجع القوم‪ ،‬فألحقه برفيقه‪ ،‬فخرج أخوه ياسر‪ ،‬فقتله الزبيربن ّ‬
‫اليهود حتى كشفوهم عن مواقفهم‪ ،‬وتبعوهم حتى دخلوا الحصن بالقوة وانهزم األعداء إلى الحصن‬
‫َّع ِب‪ ،‬وغنم المسلمون من حصن ناعم كثيراً من الخبز والتمر‪ ،‬ثم تتبعوا‬
‫الذي يليه وهو حصن الص ْ‬
‫َّعب‪ ،‬فقاتل عنه اليهود قتاالً شديداً حتى رد عنه المسلمون‪ ،‬ولكن ثبت الحباببن‬
‫اليهود إلى حصن الص ْ‬
‫المنذر ومن معه وقاتلوا قتاالً شديداً حتى هزموا اليهود‪ ،‬فتبعوهم حتى افتتحوا عليهم الحصن‪،‬‬
‫فوجدوا فيه غنائم كثيرة من الطعام فأمر عليه الصالة والسالم منادياً يقول‪:‬ـ «كلوا واعلفوا دوابكم وال‬
‫تأخذوا شيئاً»‪.‬‬

‫ثم إن الذين انهزموا من هذا الحصن ساروا إلى حسن ُقلَّ ٍة‪ ،‬فتبعهم المسلمون‪ ،‬وحاصروهم ثالثة أيام‬
‫حتى استصعب عليهم فتحه‪ ،‬وفي اليوم الرابع دلَّهم يهودي على جداول الماء التي يستقي منها اليهود‪،‬‬
‫فمنعوها عنهم‪ ،‬فخرجوا‪ ،‬وقاتلوا قتاالً شديداً انتهى بهزيمتهم إلى حصون َّ‬
‫الش ِّ‬
‫ق‪ ،‬فتبعهم المسلمون‬
‫بالء حسناً حتى‬
‫وبدؤوا بحصن َُأب ّي‪ ،‬فخرج أهله‪ ،‬وقاتلوا قتاالً شديداً أبلى فيه أبو دجانة األنصاري ً‬
‫تمكن من دخول الحصن َع ْنوةً‪ ،‬ووجد المسلمون فيه أثاثاً كثيراً ومتاعاً وغنماً وطعاماً‪ ،‬وهرب‬
‫أشد اليهود رمياً بالنبل‬
‫التمنع‪ ،‬وكان أهله ّ‬
‫المنهزمون منه إلى حصن البريء‪ ،‬فتمنعوا به أشد ّ‬
‫والحجارة حتى أصاب رسول اهلل بعض منه‪ ،‬فنصب المسلمون عليه المنجنيق فوقع في قلب أهله‬
‫الرعب‪ ،‬وهربوا منه من غير عناء شديد‪ ،‬فوجد فيه المسلمون أواني لليهود من نحاس وفخار‪ ،‬فقال‬
‫عليه الصالة والسالم‪« :‬اغسلوها واطبخوا فيها»‪.‬‬
‫تتبع المسلمون بقايا العدو إلى حصون الكتيبة‪ ،‬وبدأوا بحصن القَموص‪ ،‬فحاصروه عشرين ليلة ثم‬
‫ثم ّ‬
‫فتحه اهلل على يد عليبن أبي طالب‪ ،‬ومنه ُسبيت صفية بنت ُح ّييبن أخطب‪ ،‬ثم سار المسلمون لحصار‬
‫حصني الوطيح والس ِ‬
‫ُّاللم‪ ،‬فلم يقاوم أهلهما بل سلّموا طالبين حقن دمائهم‪ ،‬وأن يخرجوا من أرض‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫خيبر بذراريهم ال يصطحب الواحد منهم إال ثوباً واحداً على ظهره‪ ،‬فأجابهم رسول اهلل إلى ذلك‪،‬‬
‫وغنم المسلمون من هذين الحصنين مائة درع‪ ،‬وأربعمائة سيف‪ ،‬وألف رمح‪ ،‬وخمسمائة قوس‬
‫عربية‪ ،‬ووجدوا صحفاً من التوراة فسلّموها ِ‬
‫لطالبيها‪.‬‬

‫الحقَيق ألنه أنكر ُحِل َّي ُحَيّيبن أخطب‪ ،‬وقد‬


‫وقد أمر عليه الصالة والسالم بقتل كنانةبن الربيعبن أبي ُ‬
‫عثر عليها المسلمون‪ ،‬فوجدوا فيها أساور ودمالج وخالخيل وقرطة وخواتيم الذهب وعقود الجواهر‬
‫والزمرد وغير ذلك‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬والذين استشهدوا من المسلمين بخيبر خمسة عشر رجالً‪ ،‬وقتل من اليهود ثالثة وتسعون رجالً‪،‬‬
‫وفي هذه الغزوة أهدت إحدى نساء اليهود ُك َراع شاة مسمومة لرسول اهلل‪ ،‬فأخذ منها مضغة‪ ،‬ثم‬
‫ظها حيث ُأعلم أنها مسمومة‪ ،‬وأكل منها بِ ْشربن البراء فمات لوقته‪ ،‬واحتجم رسول اهلل صلى اهلل‬
‫لَفَ َ‬
‫نبياً‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وجيء له بالمرأة التي فعلت هذه الفعلة‪ ،‬فسألها عن سبب ذلك فأجابت‪ :‬قلت إن كان ّ‬
‫يضره‪ ،‬وإ ن كان كاذباً أراحنا اهلل منه‪ ،‬فعفا عنها عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫لن ّ‬

‫زواج صفية‬
‫حيي‪ ،‬سيد بني النضير‪ ،‬وأصدقها‬
‫وبعد تمام الظفر والنصر تزوج عليه الصالة والسالم صفية بنت ّ‬
‫ِعتْقَهَا‪ ،‬وقد أسلمت رضي اهلل عنها‪ ،‬فشرفت بُأمومة المؤمنين‪.‬‬

‫النهي عن نكاح المتعة‬


‫ونهى عليه الصالة والسالم ـ ـ وهو بخيبر ـ ـ عن نكاح المتعة‪ ،‬وهي‪ :‬النكاح ٍ‬
‫ألجل وقد كان حالالً في‬
‫حرمه الشرع في هذه السنة‪ ،‬ونهى كذلك عن أكل لحوم‬
‫الجاهلية‪ ،‬واستعمل في بدء اإلسالم حتى ّ‬
‫الح ُمر األهلية فأكفأ المسلمون قدورها بعد أن نضجت ولم يطعموها‪.‬‬
‫ُ‬

‫رجوع مهاجري الحبشة‬


‫وحين رجوع المسلمين من خيبر ِقدم من الحبشة جعفربن أبي طالب ومعه األشعريون‪ :‬أبو موسى‬
‫وقومه‪ ،‬بعد أن أقاموا فيها نحواً من عشر سنين آمنين مطمئنين‪ ،‬وفرح عليه الصالة والسالم بمقدمهم‬
‫فرحاً عظيماً‪ ،‬وأعطى لألشعريين من مغانم الحصون المفتوحة صلحاً‪ ،‬وكان مع جعفر ُُّأم َحبيبة بنت‬
‫أبي ُسفيان ُّأم المؤمنين‪ .‬وقدم في هذا الوقت على النبي عليه الصالة والسالم الدوسيون إخوان أبي‬
‫هريرة رضي اهلل عنه وهو معهم‪ ،‬فأعطاهم أيضاً رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫فتح فَ َدك‬

‫وبعد تمام الفتح‪ ،‬أرسل عليه الصالة والسالم َم ْن يطلب من يهود فَ َدك االنقياد والطاعة‪ ،‬فصالحوا‬
‫خاصة ُينفق‬
‫ّ‬ ‫رسول اهلل على أن يحقن دماءهم‪ ،‬ويتركوا األموال‪ .‬وكانت أرض فدك هذه لرسول اهلل‬
‫ِّمهُ ْم‪.‬‬
‫منها على نفسه‪ ،‬ويعول منها صغيربن هاشم ويزوج منها َأي َ‬

‫صلح تيماء‬
‫ولما بلغ يهود تيماء ما فعله المسلمون بيهود خيبر صالحوا على دفع الجزية‪ ،‬ومكثوا في بالدهم‬
‫آمنين مطمئنين‪.‬‬

‫فتح وادي القُرى‬


‫يهود وادي القرى إلى االستسالم فأبوا وقاتلوا‪ ،‬فقاتلهم المسلمون‪،‬‬
‫ثم دعا عليه الصالة والسالم َ‬
‫وأصابوا منهم أحد عشر رجالً‪ ،‬وغنموا منهم مغانم كثيرة‪َ ،‬خ َّمسها عليه الصالة والسالم‪ ،‬وترك‬
‫األرض في أيدي أهلها يزرعونها بشطر ما ُيخرجون منها‪ ،‬وكذلك صنع بأرض خيبر‪ ،‬وكان يرسل‬
‫إليهم عبد اللهبن رواحة لتقدير الثمر‪ ،‬وكان تقديره شديداً عليهم‪ ،‬فأرادوا أن يرشوه‪ ،‬فقال لهم‪ :‬يا‬
‫إلي من القردة‬
‫إلي‪ ،‬وألنتم أبغض ّ‬
‫أحب الناس ّ‬
‫أعداء اهلل تعطوني السُّحت؟ واهلل لقد جئتكم من عند ّ‬
‫وحبي إياه على أالّ أعدل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والخنازير‪ ،‬وال يحملني بغضي ّإياكم‬
‫هذا وبانقياد جميع اليهود المجاورين للمدينة ارتاح المسلمون من شر عدو كان يتربص بهم الدوائر‪،‬‬
‫مهما كان بين الفريقين من العهود والمواثيق‪ .‬ورجع المسلمون مؤيدين ظافرين‪.‬‬

‫إسالم خالد ورفيقيه‬


‫وأعقب هذه الغزوة وهذا الفتح المبين إسالم ثالثة طالما كانت لهم اليد الطولى في قيادة الجيوش‬
‫لحرب المسلمين وهم‪ :‬خالدبن الوليد المخزومي‪ ،‬وعمروبن العاص السهمي‪ ،‬وعثمانبن طلحة‬
‫كنت‬
‫فس ّر بهم عليه الصالة والسالم سروراً عظيماً‪ ،‬وقال لخالد‪« :‬الحمد هلل الذي هداك‪ ،‬قد ُ‬ ‫العبدري‪ُ ،‬‬
‫أرى لك عقالً رجوت أالّ يسلمك إال إلى خير» فقال‪ :‬يا رسول اهلل ادعُ اهلل لي أن يغفر تلك المواطن‬
‫التي كنت أشهدها عليك‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬اإلسالم يقطع ما قبله»‪.‬‬
‫سرية‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ربة يظهرون العداوة للمسلمين‪ ،‬فأرسل‬


‫وفي شعبان بلغه عليه الصالة والسالم أن جمعاً من هوازن بتُ َ‬
‫لهم عمربن الخطاب في ثالثين رجالً‪ ،‬فسار إليهم‪ .‬ولما بلغهم الخبر تفرقوا فلم يجد بها عمر أحداً‪،‬‬
‫فرجع‪.‬‬
‫سرية‬
‫مرة بناحية فَ َداك‪ ،‬فلما ورد بالدهم لم َير منهم أحداً‪ ،‬فأخذ‬
‫ثم أرسل بشيربن سعد األنصاري لقتال بني ّ‬
‫َن َع َمهم وانحدر إلى المدينة‪ ،‬أما القوم فكانوا في الوادي‪ ،‬فجاءهم الصريخ فأدركوا بشيراً ليالً وهو‬
‫وج ِر َح بشير‬
‫غالب المسلمين‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫راجع فتراموا بالنبل‪ ،‬ولما أصبح اقتتل الفريقان قتاالً شديداً حتى قُتِل‬
‫جرحاً شديداً حتى ظن أنه مات‪ ،‬ولما انصرف عنه العدو تحامل حتى جاء إلى رسول اهلل وأخبره‬
‫الخبر‪.‬‬
‫سرية‬
‫وفي رمضان أرسل عليه الصالة والسالم غالببن عبد اهلل الليثي إلى أهل ِ‬
‫الم ْيفَ َعة في مائة وثالثين‬
‫رجالً‪ ،‬فساروا حتى هجموا على القوم فقتلوا بعضاً وأسروا آخرين‪ ،‬وفي أثناء الحرب طارد ُأسامةبن‬
‫زيد رجالً من المشركين‪ ،‬ولما رأى المشرك الموت في يد ُأسامة تشهَّد فظن ُأسامة أن عدوه إنما قال‬
‫ذلك تخلصاً فقتله‪.‬‬
‫ولما رجع المسلمون إلى المدينة‪ ،‬وُأخبر رسول اهلل بفعلة ُأسامة قال‪« :‬أقتلته بعد أن قال‪ :‬ال إله إالّ‬
‫اهلل‪ ،‬فكيف تصنع بال إله إالّ اهلل؟» قال‪ :‬يا رسول اهلل إنما قالها متعوذاً من القتل‪ ،‬قال عليه الصالة‬
‫والسالم‪« :‬فهالّ شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟» فقال‪ :‬يا رسول اهلل استغفر لي‪ .‬قال‬
‫عليه الصالة والسالم‪« :‬فكيف بال إله إالّ اهلل؟» فما زال يكررها حتى تمنى ُأسامة أنه لم يسلم قبل‬
‫ت ُمْؤ ِمناً ( }‬ ‫{والَ تَقُولُوْا ِل َم ْن َأْلقَى ِإلَْي ُك ُم َّ‬
‫الساَل َم لَ ْس َ‬ ‫ذلك اليوم‪ ،‬وأنزل اهلل في ذلك في سورة النساء‪َ :‬‬
‫(النساء‪ ،)94 :‬ثم أمر عليه الصالة والسالم ُأسامة أن يعتق رقبة كفارة ألنه قتل خطأ‪.‬‬

‫سرية‬

‫واعد جماعة من غطفان كانوا مقيمين قريباً‬


‫َ‬ ‫وفي شوال بلغه عليه الصالة والسالم أن ُعيينةبن حصن‬
‫وجَبار لإلغارة على المدينة‪ ،‬فأرسل لهم بشيربن سعد في ثالثمائة رجل‪،‬‬
‫من خيبر بأرض اسمها ُي ْمن ُ‬
‫الرعاء‬
‫فساروا إليهم يكمنون النهار‪ ،‬ويسيرون الليل حتى أتوا محلتهم‪ ،‬فأصابوا َن َعماً كثيرة‪ ،‬وتفرق ِّ‬
‫بعْليا بالدهم‪ ،‬ولم يظفر المسلمون إال برجلين أسلما‪ ،‬ثم رجعوا بالغنائم‬
‫فأخبروا قومهم ففزعوا ولحقوا ُ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫إلى المدينة‪.‬‬
‫عمرة القضاء‬

‫ص ّد معه فيها ليقضي عمرته‪،‬‬


‫حال الحول على عمرة الحديبية خرج عليه الصالة والسالم بمن ُ‬
‫لما َ‬
‫واستخلف على المدينة أبا ذر الغفاري‪ ،‬وساق معه الهدي ستين َب َدَنةً‪ ،‬وأخرج معه السالح حذراً من‬
‫غدر قريش‪ ،‬وكان معه مائة فرس عليها محمدبن مسلمة‪ ،‬وعلى السالح بشيربن سعد‪ ،‬وأحرم عليه‬
‫الحلَيفة َّ‬
‫قدم الخيل أمامه‪ ،‬فقيل‪ :‬يا رسول‬ ‫الصالة والسالم من باب المسجد المدني‪ ،‬ولما انتهى إلى ذي ُ‬
‫اهلل حملت السالح‪ ،‬وقد شرطوا أالّ تحمله؟ فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬ال ندخل الحرم به ولكن‬
‫نفر من قريش‪ ،‬ففزعوا من‬ ‫يكون قريباً منا‪ ،‬فإن هاجنا هائج فزعنا له» فلما كان ِّ َّ‬
‫بمر الظهران قابله ٌ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫العدة‪ ،‬وأسرعوا إلى قومهم فأخبروهم فجاءه فتيان منهم وقالوا‪ :‬واهلل يا محمد ما ُعرفت بالغدر‬
‫هذه ّ‬
‫«إنا ال ندخل الحرم بالسالح» ولما حان وقت دخوله‬
‫صغيراً وال كبيراً‪ ،‬وإ ّنا لم نحدث َح َدثاً فقال‪ّ :‬‬
‫مكة خرج أهلوها كارهين رؤية المسلمين يطوفون بالبيت‪ ،‬فدخل عليه الصالة والسالم وأصحابه‬
‫متوشحين سيوفهم من ثَنيَّة َك َداء وأمامه عبد اللهبن رواحة يقول‪ :‬ال إله إالّ اهلل وحده‪ ،‬صدق وعده‪،‬‬
‫وأعز جنده‪ ،‬وهزم األحزاب وحده‪ .‬وطاف عليه الصالة والسالم بالبيت وهو على‬ ‫ونصر عبده‪ّ ،‬‬
‫راحلته‪ ،‬واستلم الحجر بِ ِم ْح َجنِ ِه‪ ،‬وأمر أصحابه أن يسرعوا ثالثة أشواط إظهاراً للقوة ألن المشركين‬
‫قالوا‪ :‬سيطوف اليوم بالكعبة قوم نهكتهم ُح َّمى يثرب‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬رحم اهلل امرءاً‬
‫الفتوة‪،‬‬
‫واضطبع عليه الصالة والصالم بردائه‪ ،‬وكشف عضده اليمنى شأن ّ‬‫َ‬ ‫أراهم من نفسه قوة»‬
‫ومقص ِرينـ كما رأى‬
‫ِّ‬ ‫وفعل مثله المسلمون‪ ،‬وقد أتم المسلمون طوافهم بالبيت آمنين محلِّقين رؤوسهم‬
‫عليه الصالة والسالم في منامه‪.‬‬
‫زواج ميمونة‬

‫وتزوج صلى اهلل عليه وسلم وهو بمكة ميمونة بنت الحارث الهاللية زوج عمه حمزةبن عبد المطلب‬
‫ُأحد‪ ،‬وخالة عبد اللهبن العباس ـ ـ وهي آخر نسائه زواجاً ـ ـ ولم يدخل بها إال بعد الخروج من‬
‫شهيد ُ‬
‫مكة حيث كان بِ َس ِرف‪ .‬ولما خرج عليه الصالة والسالم أمر الذين كان تركهم لحراسة َ‬
‫الخيل بالذهاب‬
‫ليطوفوا ففعلوا‪ ،‬ثم رجع عليه الصالة والسالم إلى المدينة فرحاً مسروراً بما َحَباه اهلل من تصديق‬
‫رؤياه‪.‬‬

‫السََّنة ِ‬
‫الثامَنة‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫سرية‬
‫الملَ ِّوح‪ ،‬وهم قوم من العرب‬
‫صفَر أرسل عليه الصالة والسالم غالببن عبد اهلل الليثي إلى بني ُ‬ ‫وفي َ‬
‫يسكنون بال َكِديد‪ ،‬فسار القوم حتى إذا كانوا بقُ َد ٍيد التقوا بالحارثبن مالك الليثي المعروف بابن‬
‫البرصاء‪ ،‬وكان خصماً لدوداً فأسروه‪ ،‬فقال لهم‪ :‬ما جئت إال لإلسالم‪ ،‬فقالوا له‪ :‬إن تكن مسلماً لن‬
‫الملوح فاستاقوا َّ‬
‫الن َعم والشاء‪،‬‬ ‫يضرك رباط ليلة وإ ال استوثقنا منك‪ ،‬ثم ساروا حتى وصلوا محلة بني ّ‬
‫من اهلل على المسلمين‪ ،‬فأرسل سيالً شديداً‬
‫وخرج الصريخ إلى القوم فجاءهم ما ال قبل لهم به‪ ،‬ولكن ّ‬
‫ردها‪.‬‬
‫حال بينهم وبين عدوهم حتى صار المشركون يرون َن َع َمهم تُساق وهم ال يقدرون على ّ‬
‫َ‬

‫سرية‬

‫مرة‬
‫ليقتص من بني ّ‬
‫ّ‬ ‫ولما رجع غالب إلى المدينة ظافراً أرسله عليه الصالة والسالم في مائتي رجل‬
‫بفدك ـ ـ وهم الذين أصابوا سرية بشيربن سعد ـ ـ فساروا حتى إذا كانوا قريباً من القوم خطب غالب‬
‫فيمن معه‪ ،‬فقال بعد أن حمد اهلل وأثنى عليه‪ :‬أما بعد فإني ُأوصيكم بتقوى اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأن‬
‫تطيعوني وال تخالفوا لي أمراً فإنه ال رأي لمن ال ُيطاع‪ .‬ثم آخى بين الجند‪ ،‬فقال‪ :‬يا فالن أنت‬
‫فأقول له‪ :‬أين‬
‫َ‬ ‫وفالن‪ ،‬ويا فالن أنت وفالن‪ ،‬ال يفارق أحد منكم زميله‪ ،‬وإ ّياكم أن يرجع الرجل منكم‬
‫وجردوا السيوف‬
‫كبروا‪ّ ،‬‬ ‫وكبر ّ‬
‫فكبروا‪ ،‬فلما أحاطوا بالعدو‪ّ ،‬‬
‫صاحبك؟ فيقول‪ :‬ال أدري‪ ،‬فإذا كبَّرت ّ‬
‫فلم يفلت من عدوهم أحد‪ ،‬واستاقوا َنعمهم‪ ،‬فكان لكل واحد من الغزاة عشرة ِ‬
‫أبعرة‪.‬‬ ‫َ َ ُْ‬

‫سرية‬
‫وفي ربيع األول أرسل عليه الصالة والسالم كعببن ُعمير الغفاري إلى ذات أطالح ـ ـ من أرض الشام‬
‫ـ ـ في خمسة عشر رجالً‪ ،‬فوجدوا جمعاً كثيراً‪ ،‬فدعوهم إلى اإلسالم فلم يجيبوا وقاتلوا‪ ،‬وكانوا أكثر‬
‫عدداً‪ ،‬فاستشهد المسلمون عن آخرهم إال رئيسهم كعببن عمير فإنه نجا‪ ،‬وأتى بالخبر إلى رسول اهلل‪،‬‬
‫تحولوا من منزلهم فعدل عن ذلك‪.‬‬ ‫فَ َش َّ‬
‫ق عليه‪ ،‬وأراد أن يبعث إليهم من يقتص منهم‪ ،‬فبلغه أنهم َّ‬

‫غزوة ُمْؤ تَة‬


‫جهَّز عليه الصالة والسالم في جمادى األولى جيشاً للقصاص ممن قتلوا الحارثبن عمير األزدي‪،‬‬
‫زيدبن حارثة‪ ،‬وقال لهم‪« :‬إن ُأصيب فاألمير جعفربن أبي‬
‫وأمر عليهم َ‬
‫رسوله إلى أمير ُبصرى‪َّ ،‬‬
‫عدة الجيش ثالثة آالف‪ ،‬فساروا وشيَّعهم عليه الصالة‬
‫طالب‪ ،‬فإن ُأصيب فعبد اللهبن رواحة»‪ .‬وكان ّ‬
‫وعدوكم بالشام‪ ،‬وستجدون فيها‬
‫ّ‬ ‫عدو اهلل‬
‫وصاهم به‪« :‬اغزوا باسم اهلل فقاتلوا ّ‬
‫والسالم‪ ،‬وكان فيما ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫رجاالً في الصوامع معتزلين فال تتعرضوا لهم‪ ،‬وال تقتلوا امرأة وال صغيراً وال بصيراً فانياً‪ ،‬وال‬
‫بناء»‪.‬‬
‫تقطعوا شجراً وال تهدموا ً‬

‫ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا ُمْؤ تة مقتل الحارثبن عمير‪ ،‬وهناك وجدوا الروم قد جمعوا لهم جمعاً‬
‫المتنصرة‪ .‬فتفاوض رجال الجيش فيما يفعلونه‪ :‬أيرسلون لرسول اهلل‬
‫ِّ‬ ‫عظيماً‪ ،‬منهم ومن العرب‬
‫يطلبون منه َمدداً أم يقدمون على الحرب؟ فقال عبد اللهبن رواحة‪ :‬يا قوم واهلل إن الذي تكرهون هو‬
‫ما خرجتم له‪ ،‬خرجتم تطلبون الشهادة ونحن ما نقاتل بعدد وال بقوة وال بكثرة‪ ،‬ما نقاتل إال بهذا الدين‬
‫الذي أكرمنا اهلل تعالى به‪ ،‬فإنما هي إحدى الحسنيين‪ :‬إما الظهور وإ ما الشهادة‪ ،‬فقال الناس‪ :‬صدق‬
‫واهلل ابن رواحة‪ .‬ومضوا للقتال‪ ،‬فلقوا هذه الجموع المتكاثرة‪ ،‬فقاتل زيدبن حارثة رضي اهلل عنه‬
‫جعفربن أبي طالب وهو يقول‪:‬ـ‬
‫حتى استشهد‪ ،‬فأخذ الراية ُ‬
‫هاعلي إذ القيتُها‬
‫َّ‬ ‫أنساب‬
‫عذابهاكافرةٌ بعيدةٌ ُ‬
‫هاوالروم روم قد َدنا ُ‬
‫ُ‬ ‫راب‬
‫وبارد َش ُ‬
‫ٌ‬ ‫الجَّنةُ وا ْقتَِر ُابهاطيَِّبةٌ‬
‫يا حبَّذا َ‬
‫ضرابها ولم يزل يقاتل حتى استشهد رضي اهلل عنه‪ ،‬فأخذ الراية عبد اللهبن رواحة فتقدم ثم تردد‬ ‫ُ‬
‫التردد‪ ،‬فقال يخاطب نفسه‪:‬‬
‫بعض ّ‬
‫الجن ْه؟قد‬ ‫الرَّنهما لي ِ‬
‫أراك تكرهين َّ‬ ‫وشدوا َّ‬
‫الناس ّ‬ ‫لتنز َّلنهطائعةً أو لَت ْك َر ِهَّن ْهإن‬
‫نفس ِ‬
‫أجلب ُ‬
‫َ‬ ‫أقسمت يا ُ‬
‫ُ‬
‫أنت إال ُنطفة في َشَّنه؟ ثم اقتحم بفرسه المعمعة‪ ،‬ولم يزل يقاتل ـ ـ رضي‬ ‫طمئنههل ِ‬‫كنت ُم َّ‬ ‫طال ما قد ِ‬
‫فهم بعض المسلمين بالرجوع إلى الوراء‪ ،‬فقال لهم عقبةبن عامر‪ :‬يا قوم‬ ‫اهلل عنه ـ ـ حتى استشهد‪َّ ،‬‬
‫ُيقتل اإلنسان مقبالً خير من أن يقتل مدبراً‪ ،‬فتراجعوا واتفقوا على تأمير الشهم الباسل خالدبن الوليد‪،‬‬
‫ومهارته الحربية حمى هذا الجيش من الضياع‪ ،‬إذ ما تفعل ثالثة آالف بمائة وخمسين ألفاً؟‬
‫وبهمته َ‬
‫َّ‬
‫فإنه لما أخذ الراية قاتل يومه قتاالً شديداً‪ ،‬وفي غده خالف ترتيب العسكر‪ ،‬فجعل الساقة مقدمة‪،‬‬
‫الم َدد جاء للمسلمين فرعبوا‪.‬‬ ‫والمقدمة ساقة‪ ،‬والميمنة ميسرة‪ ،‬والميسرة ميمنة‪َّ ،‬‬
‫فظن الروم أن َ‬

‫ثم أخذ خالد الجيش وصار يرجع إلى الوراء حتى انحاز إلى ُمؤتة‪ ،‬ثم مكث يناوش األعداء سبعة أيام‬
‫يجروهم إلى وسط‬
‫ثم تحاجز الفريقان ألن الكفار ظنوا أن األمداد تتوالى للمسلمين‪ ،‬وخافوا أن ّ‬
‫الصحارى حيث ال يمكنهم التخلّص وبذلك انقطع القتال‪ ،‬وقد نعى النبي صلى اهلل عليه وسلم زيداً‬
‫وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم‪ ،‬فقال‪« :‬أخذ الراية زيد فُأصيب‪ ،‬ثم أخذها جعفر‬
‫فُأصيب‪ ،‬ثم أخذها ابن رواحة فأصيب ـ ـ وكانت عينا رسول اهلل تذرفان ـ ـ ثم قال‪ :‬حتى أخذ الراية‬
‫سيف من سيوف اهلل حتى فتح اهلل عليهم» وجاءه رجل فقال‪ :‬يا رسول اهلل إن نساء جعفر يبكين‪،‬‬
‫نهيتهن فلم ُي ِط ْع َن‪ ،‬فأمره فذهب ثانياً‪ ،‬ثم جاء فقال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ينهاهن‪ ،‬فذهب الرجل ثم أتى فقالت‪ :‬قد‬
‫ّ‬ ‫فأمره أن‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫أفواههن التراب»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ث في‬
‫«اح ُ‬
‫واهلل لقد غلبننا‪ ،‬فقال له عليه الصالة والسالم‪ْ :‬‬
‫ولما أقبل الجيش إلى المدينة قابلهم المسلمون يقولون لهم‪ :‬يا فُّرار‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬بل‬
‫هم ال ُك َّرار»‪ .‬ظن المقيمون بالمدينة أن انحياز خالد بالجيش هزيمة‪ ،‬ولكن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أراهم أن ذلك من مكايد الحرب‪ ،‬وأثنى على خالد في مهارته‪.‬‬

‫سرية‬
‫وفي جمادى اآلخرة بلغه عليه الصالة والسالم أن جمعاً من قضاعة يتجمعون في ديارهم وراء وادي‬
‫القُرى ُليغيروا على المدينة‪ ،‬فأرسل لهم عمروبن العاص في ثالثمائة رجل من َسراة المهاجرين‬
‫أمده بأبي عبيدةبن الجراح في مائتين من المهاجرين واألنصار فيهم أبو بكر وعمر‪،‬‬
‫واألنصار‪ ،‬ثم ّ‬
‫فلحقوا َع ْمراً قبل أن يصل إلى القوم‪ ،‬وقد أراد رجال من الجيش إيقاد نار فمنعهم عمرو‪ ،‬فأنكر عليه‬
‫منا فال‬
‫عمربن الخطاب‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬إنما بعثه رسول اهلل علينا رئيساً لمعرفته بالحرب أكثر ّ‬
‫تعصه‪ ،‬فامتثل‪.‬‬

‫ولما حلُّوا بساحة القوم حملوا عليهم فلم يكن أكثر من ساعة حتى تفرق األعداء منهزمين‪ ،‬فجمعوا‬
‫غنائمهم وأرادوا اتباع أثرهم فمنعهم قائدهم‪ ،‬ثم رجعوا إلى المدينة ظافرين‪ ،‬وبينما هم في الطريق‬
‫أدركت عمروبن العاص جنابة في ليلة باردة‪ ،‬فلما أصبح قال‪ :‬إن أنا اغتسلت هلكت واهلل يقول‪َ :‬والَ‬
‫تُْلقُوْا بِ َْأي ِدي ُك ْم ِإلَى التَّ ْهلُ َك ِة} (البقرة‪ )195 :‬ثم تيمم وصلى‪ ،‬ثم أمر بالسير حتى إذا وصلوا إلى المدينة‬
‫قام رسول اهلل عليه الصالة والسالم يسأل عن أنباء سفرهم كما هي عادته‪ ،‬فأخبروه بما نقموه من‬
‫عمروبن العاص من نهيهم عن إيقاد النار‪ ،‬ونهيهم عن اتباع العدو‪ ،‬وصالته جنباً‪ ،‬فسأله عليه الصالة‬
‫والسالم عن ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬منعتهم من إيقاد النار لئال يرى العدو قلّتهم فيطمع فيهم‪ ،‬ونهيتهم عن اتباع‬
‫{والَ تُْلقُوْا بِ َْأي ِدي ُك ْم ِإلَى التَّ ْهلُ َك ِة} (البقرة‪)195 :‬‬
‫العدو لئال يكون له كمين‪ ،‬وصلّيت جنباً ألن اهلل يقول‪َ :‬‬
‫وإ ن أنا اغتسلت هلكت‪ ،‬فتبسم عليه الصالة والسالم وأثنى على عمرو خيراً‪.‬‬

‫سرية‬

‫وفي رجب أرسل عليه الصالة والسالم أبا عبيدة عامربن الجراح في ثالثمائة فارس لغزو قبيلة‬
‫وزود عليه الصالة والسالم هذا الجيش جراباً من التمر‪ ،‬فساروا‬
‫ُجهَينة التي تسكن ساحل البحر‪ّ ،‬‬
‫حتى إذا وصلوا الساحل أقاموا فيه نحو نصف شهر ينتظرون العدو‪ ،‬وقد فني زادهم حتى أكلوا‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫تقرحت أشداقهم‪ ،‬وكان في القوم الكريم ابن‬ ‫ُّ‬


‫َّمر‪ ،‬يبلونه بالماء ويأكلونه إلى أن ّ‬
‫الخَبط‪ ،‬وهو ورق الس ُ‬
‫َ‬
‫الكريم قيسبن سعدبن عبادة فنحر لهم ثالث جزر في كل يوم جزور‪ .‬وفي اليوم الرابع أراد أن ينحر‬
‫فنهاه رئيسه أبو عبيدة‪ ،‬ألن قيساً كان أخذ تلك الجزر بدين على أبيه‪ ،‬فخاف أبو عبيدة أالّ يفي له أبوه‬
‫بما استدان‪ ،‬فقال قيس‪ :‬أترى سعداً يقضي ديون الناس‪ ،‬ويطعم في المجاعة‪ ،‬وال يقضي ديناً استدنته‬
‫لقوم مجاهدين في سبيل اهلل؟ ولما يئسوا من لقاء عدوهم رجعوا إلى المدينة‪ ،‬فقال قيسبن سعد ألبيه‪:‬‬
‫كنت في الجيش فجاعوا‪ ،‬فقال‪ :‬انحر‪ ،‬قال‪ :‬نحرت‪ ،‬قال‪ :‬ثم جاعوا قال‪ :‬انحر‪ ،‬قال‪ :‬نحرت‪ ،‬قال‪ :‬ثم‬
‫جاعوا‪ ،‬قال‪ :‬انحر‪ ،‬قال‪ :‬نحرت‪ ،‬قال‪ :‬ثم جاعوا‪ ،‬قال‪ :‬انحر‪ ،‬قال‪ُ :‬نهيت‪x.‬‬

‫غزوة الفتح األعظم‬

‫هيأ أسبابه وأزال موانعه‪ ،‬فقد كان عليه الصالة والسالم يعلم أنه ال تذ ّل العرب حتى‬
‫إذا أراد اهلل أمراً ّ‬
‫تذل قريش‪ ،‬وال تَنقاد البالد حتى تنقاد مكة‪ ،‬فكان يتشوف لفتحها‪ ،‬ولكن كان يمنعه من ذلك العهود‬
‫علمت أن‬
‫َ‬ ‫التي أعطاها قريشاً في الحديبية وهو سيد من َوفَّى‪ .‬ولكن إذا أراد اهلل أمراً هيأ أسبابه‪ ،‬فقد‬
‫قبيلة ُخزاعة دخلت في عهد رسول اهلل‪ ،‬وقبيلة بني بكر دخلت في عهد قريش‪ ،‬وكان بين خزاعة‬
‫وبني بكر دماء في الجاهلية كمنت نارها بظهور اإلسالم‪ ،‬فلما حصلت الهدنة وقف رجل من بني بكر‬
‫فحرك‬
‫يتغنى بهجاء الرسول صلى اهلل عليه وسلم على مسمع من رجل خزاعي‪ ،‬فقام هذا وضربه‪ّ ،‬‬
‫فشدوا العزيمة لحرب خصومهم‪ ،‬واستعانوا بأوليائهم من‬
‫ذلك كامن األحقاد‪ ،‬وتذكر بنو بكر ثأرهم ّ‬
‫بالعدة والرجال‪ ،‬ثم توجهوا إلى خزاعة وهم آمنون فقتلوا منهم ما يربو على‬
‫سراً ّ‬‫قريش‪ ،‬فأعانوهم ّ‬
‫العشرين‪ ،‬ولما رأى ذلك حلفاء السيد األمين أرسلوا منهم وفداً برياسة عمروبن سالم الخزاعي ليخبر‬
‫رسول اهلل بما فعل بهم بنو بكر وقريش‪ ،‬فلما َحلُّوا بين يديه‪ ،‬وأخبروه‪ ،‬قال‪« :‬واهلل ألمنعنكم مما أمنع‬
‫نفسي منه»‪.‬‬

‫أما قريش فإنهم لما رأوا أن ما عملوه نقض للعهود التي أخذت عليهم ندموا على ما فعلوا‪ ،‬وأرادوا‬
‫ليشد العقد‪ ،‬ويزيد في المدة‪ ،‬فركب‬
‫مداواة هذا الجرح‪ ،‬فأرسلوا قائدهم أبا سفيانبن حرب إلى المدينة ّ‬
‫راحلته‪ ،‬وهو يظن أنه لم يسبقه أحد‪ ،‬حتى إذا جاء المدينة نزل على أم المؤمنين أم حبيبة بنته وقد‬
‫أرغبت به عني أم رغبت بي عنه؟‬‫ِ‬ ‫بنية‬
‫أراد أن يجلس على فراش رسول اهلل فطوته عنه فقال‪ :‬يا ّ‬
‫فقالت‪ :‬ما كان لك أن تجلس على فراش رسول اهلل وأنت مشرك نجس‪ ،‬فقال‪ :‬لقد أصابك بعدي شر‪.‬‬
‫ثم خرج من عندها‪ ،‬وأتى النبي في المسجد‪ ،‬وعرض عليه ما جاء له‪ ،‬فقال له عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫«هل كان من َح َدث؟» قال‪ :‬ال‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬فنحن على مدتنا وصلحنا»‪ .‬ولم يزد‬
‫عن ذلك‪ .‬فقام أبو سفيان‪ ،‬ومشى إلى أكابر المهاجرين من قريش لعلّهم يساعدونه على مقصده‪ ،‬فلم‬
‫يجد منهم ُمعيناً‪ ،‬وكلهم قالوا‪ِ :‬جوارنا في ِجوار رسول اهلل‪ ،‬فرجع إلى قومه ولم يصنع شيئاً‪ ،‬فاتهموه‬
‫بأنه خانهم واتَّبع اإلسالم‪ّ ،‬‬
‫فتنسك عند األوثان لينفي عن نفسه هذه التهمة‪.‬‬

‫الصديق بالوجهة‪ ،‬فقال‬


‫ّ‬ ‫أما رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فتجهز للسفر‪ ،‬وأمر أصحابه بذلك‪ ،‬وأخبر‬
‫له‪ :‬يا رسول اهلل َأو ليس بينك وبين قريش عهد؟ قال‪« :‬نعم‪ ،‬ولكن غدروا ونقضوا»‪.‬ـ ثم استنفر عليه‬
‫الصالة والسالم األعراب الذين حول المدينة‪ ،‬وقال‪« :‬من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليحضر‬
‫وجهينة‪ ،‬وطوى عليه الصالة‬
‫وم َزينة وأشجع ُ‬ ‫ِ‬
‫رمضان بالمدينة»‪ .‬فقدم جمع من قبائل أسلم وغفار ُ‬
‫والسالم األخبار عن الجيش كيال يشيع األمر‪ ،‬فتعلم قريش فتستعد للحرب‪ ،‬والرسول عليه الصالة‬
‫بحرمتها‪ ،‬فدعا مواله ج ّل‬
‫والسالم ال يريد أن ُيقيم حرباً بمكة بل يريد انقياد أهلها مع عدم المساس ُ‬
‫«اللهم ُخِذ العيون واألخبار عن قريش حتى نبغتها في بالدها» فقام حاطببن أبي بلتعة‬
‫ّ‬ ‫ذكره وقال‪:‬‬
‫أحد الذين شهدوا بدراً‪ ،‬وكتب كتاباً لقريش يخبرهم ببعض أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫وأرسله مع جارية لتوصله إلى قريش على ُج ْع ٍل‪ ،‬فأعلم اهلل رسوله ذلك‪ ،‬فأرسل في أثرها ّ‬
‫علياً‬
‫ظ ِعينة معها كتاب فخذوه منها»‪.‬‬‫ضةَ خاخ‪ ،‬فإن بها َ‬
‫والزبير والمقداد وقال‪« :‬انطلقوا حتى تأتوا َر ْو َ‬
‫فانطلَقوا حتى أتوا الروضة‪ ،‬فوجدوا بها المرأة‪ ،‬فقالوا لها‪ :‬أخرجي الكتاب‪ ،‬قالت‪ :‬ما معي كتاب‬
‫لتخرجن الكتاب أو ُلنلقين الثياب‪ ،‬فأخرجته من ِعقَ ِ‬
‫اصها‪ ،‬فأتوا به رسول اهلل‪ ،‬فقال عليه‬ ‫ّ‬ ‫فقالوا‪ّ ِ :‬‬
‫علي‪ ،‬إني كنت حليفاً لقريش ولم‬
‫الصالة والسالم‪« :‬يا حاطب ما هذا؟» قال‪ :‬يا رسول اهلل ال تعجل ّ‬
‫أكن من َْأنفُ ِسها‪ ،‬وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم‪ ،‬فأحببت إذ فاتني‬
‫ذلك من النسب أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي‪ ،‬ولم أفعله ارتداداً عن ديني‪ ،‬وال رضاً بالكفر‬
‫بعد اإلسالم‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬أما إنه قد صدقكم»‪ .‬فقال عمر‪ :‬دعني يا رسول اهلل‬
‫أضرب عنق هذا المنافق‪ ،‬فقال‪« :‬إنه قد شهد بدراً‪ ،‬وما يدريك لع ّل اهلل َّ‬
‫اطلع على من شهد بدراً‪،‬‬
‫فقال‪ :‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»‪ ،‬وفي ذلك أنزل‬

‫ون ِإلَْي ِه ْم بِاْل َم َو َّد ِة َوقَ ْد‬ ‫ِ‬


‫ءامُنوْا الَ تَتَّخ ُذوْا َع ُد ّوى َو َع ُد َّو ُك ْم َْأوِلَيآء تُْلقُ َ‬ ‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫اهلل في سورة الممتحنة‪{ :‬ياَأيُّهَا الذ َ‬
‫ول َوِإ يَّا ُك ْم َأن تُْؤ ِمُنوْا بِاللَّ ِه َرّب ُك ْم ِإن ُكنتُ ْم َخَر ْجتُ ْم ِجهَاداً ِفى‬ ‫الر ُس َ‬ ‫ون َّ‬ ‫ق ُي ْخ ِر ُج َ‬ ‫َكفَ ُروْا بِ َما َجآء ُك ْم ّم َن اْل َح ّ‬
‫َأعلَنتُ ْم َو َمن َي ْف َعْلهُ ِمن ُك ْم فَقَ ْد‬
‫َأخفَْيتُ ْم َو َمآ ْ‬ ‫ون ِإلَْي ِه ْم بِاْل َم َو َّد ِة َو ََأن ْا ْ‬
‫َأعلَ ُم بِ َمآ ْ‬ ‫سبِ ِيلى و ْابتِ َغآء مر ِ ِ‬
‫ضاتى تُس ُّر َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يل(‪)1‬‬ ‫ض َّل َس َوآء َّ‬
‫السبِ ِ‬ ‫َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ابن ُأم‬
‫ثم سار عليه الصالة والسالم بهذا الجيش العظيم في منتصف رمضان بعد أن ولّى على المدينة َ‬
‫أشد أعدائه‬
‫عدة الجيش عشرة آالف مجاهد‪ ،‬ولما وصل األبواء لقيه اثنان كانا من ّ‬
‫مكتوم‪ ،‬وكانت ّ‬
‫وهما‪ :‬ابن عمه أبو سفيانبن الحارثبن عبد المطلب شقيق عبيدةبن الحارث شهيد بدر‪ ،‬وصهره عبد‬
‫اللهبن أبي أميةبن المغيرة شقيق زوجه ُأم سلمة‪ ،‬وكانا يريدان اإلسالم‪ ،‬فقبلهما عليه الصالة والسالم‪،‬‬
‫ين} (يوسف‪:‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ َّ‬
‫يب َعلَْي ُك ُم اْلَي ْو َم َي ْغف ُر اللهُ لَ ُك ْم َو ُه َو َْأر َح ُم الرحم َ‬
‫وفرح بهما شديد الفرح‪ ،‬وقال‪ :‬الَ تَثَْر َ‬
‫‪ .)92‬ولما وصل عليه الصالة والسالم ال َكِديد رأى أن الصوم شق على المسلمين‪ ،‬فأمرهم بالفطر‪،‬‬
‫وأفطر هو أيضاً‪ ،‬وقد قابل عليه الصالة والسالم في الطريق عمه العباسبن عبد المطلب مهاجراً‬
‫بأهله وعياله‪ ،‬فأمره أن يعود معه إلى مكة ويرسل عياله إلى المدينة‪.‬‬

‫مر الظهران أمر بإيقاد عشرة آالف نار‪ ،‬وكانت قريش قد بلغهم أن‬
‫ولما وصل عليه الصالة والسالم ّ‬
‫وب َديلبن‬
‫محمداً زاحف بجيش عظيم ال تدرى وجهته‪ ،‬فأرسلوا أبا سفيانبن حرب وحكيمبن حزام ُ‬
‫ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول اهلل‪ ،‬فأقبلوا يسيرون حتى أتوا َم َّر الظهران فإذا هم بنيران كأنها‬
‫نيران َع َرفة‪ ،‬فقال أبو سفيان‪ :‬ما هذه؟ لكأنها نيران َع َرفة فقال بديلبن ورقاء‪ :‬نيران بني عمرو‪ ،‬فقال‬
‫أبو سفيان‪ :‬عمرو أقل من ذلك‪ ،‬فرآهم ناس من حرس رسول اهلل فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم‬
‫طم الجبل حتى ينظر إلى‬
‫رسول اهلل‪ ،‬فأسلم أبو سفيان‪ ،‬فلما سار قال للعباس‪« :‬احبس أبا سفيان عند َخ ْ‬
‫تمر كتيبةً كتيبة على أبي سفيان وهو يسأل عنها ويقول‪:‬ـ ما‬‫المسلمين»‪ ،‬فحبسه العباس فجعلت القبائل ّ‬
‫ِ‬
‫وحامل رايتها سعدبن عبادة فقال سعد‪ :‬يا أبا سفيان اليوم‬ ‫مرت به قبيلة األنصار‬ ‫لي ولها‪ ،‬حتى إذا ّ‬
‫الذمار‪ .‬ثم جاءت كتيبة وهي‬ ‫حل الكعبة‪ .‬فقال أبو سفيان‪ :‬يا عباس حبذا يوم ِّ‬
‫يوم الملحمة‪ ،‬اليوم تُستَ ُّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫أقل الكتائب فيها رسول اهلل وأصحابه‪ ،‬وحامل الراية الزبيربن العوام‪ ،‬فأخبر أبو سفيان رسول اهلل‬
‫«كذب سعد‪ ،‬ولكن هذا يوم ُيعظِّم اهلل فيه الكعبة ويوم تُكسى‬
‫َ‬ ‫بمقالة سعد‪ .‬فقال عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫بالح ُجون‪ ،‬وأمر خالدبن الوليد أن يدخل من‬ ‫فيه الكعبة»‪ .‬ثم أمر عليه الصالة والسالم أن تركز رايته َ‬
‫«من دخل داره وأغلق بابه فهو‬
‫أسفل مكة من ُك ًدى‪ ،‬ودخل هو من أعالها من َك َداء ونادى مناديه‪َ :‬‬
‫منة له‪ ،‬واستثنى‬
‫آمن‪ ،‬ومن دخل المسجد فهو آمن‪ ،‬ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»‪ .‬وهذه أعظم ّ‬
‫من ذلك جماعة عظمت ذنوبهم‪ ،‬وآذوا اإلسالم وأهله عظيم األذى‪ ،‬فأهدر دمهم ـ ـ وإ ن تعلقوا بأستار‬
‫ارتد‪ ،‬وافترى‬
‫الكعبة ـ ـ منهم‪ :‬عبد اللهبن سعدبن أبي َس ْرح الذي أسلم‪ ،‬وكتب لرسول اهلل الوحي‪ ،‬ثم ّ‬
‫الكذب على األمين المأمون‪ ،‬فكان يقول‪ :‬إن محمداً كان يأمرني أن أكتب عليم حكيم فأكتب غفور‬
‫رحيم‪ ،‬فيقول كل جيد ومنهم ِعكرمةبن‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫أبي جهل وصفوانبنـ أمية‪ ،‬وهبَّاربن األسود‪ ،‬والحارثبن هشام‪ ،‬وزهيربن أبي أمية‪ ،‬وكعببن زهير‪،‬‬
‫ووحشي قاتل حمزة‪ ،‬وهند بنت عتبة زوج أبي سفيان‪ ،‬وقليل غيرهم‪ ،‬ونهى عن قتل أحد سوى‬
‫صده‪ ،‬فقاتلهم وقتل منهم‬
‫عر من قريش يريدون ّ‬ ‫ُّ‬
‫هؤالء إال من قاتل‪ ،‬فأما جيش خالدبن الوليد فقابله الذ ُ‬
‫أربعة وعشرين‪ ،‬وقُتل من جيشه اثنان‪ ،‬ودخلها َع ْنوة من هذه الجهة‪ ،‬وأما جيش رسول اهلل صلى اهلل‬
‫ٍ‬
‫منحن على الرحل تواضعاً هلل‬ ‫عليه وسلم فلم يصادف مانعاً وهو عليه الصالة والسالم راكب راحلته‬
‫الر ْحل‪ ،‬وأسامةبن زيد رديفه‪ ،‬وكان ذلك صبح يوم‬
‫وشكراً له على هذه النعمة حتى تكاد جبهته تَ َم ُّس َّ‬
‫نصبت له هناك قبة فيها ُّأم‬
‫ْ‬ ‫الح ُجون موضع رايته‪ ،‬وقد‬
‫الجمعة لعشرين خلت من رمضان حتى وصل َ‬
‫سلمة وميمونة‪ ،‬فاستراح قليالً ثم سار وبجانبه أبو بكر يحادثه‪ ،‬وهو يقرأ سورة الفتح‪ ،‬حتى بلغ‬
‫البيت‪ ،‬وطاف سبعاً على راحلته‪ ،‬واستلم الحجر بمحجنه‪ ،‬وكان حول الكعبة إذا ذاك ثالثمائة وستون‬
‫ق ِ‬
‫الباط ُل وما‬ ‫وز َه َ‬ ‫ُّ‬
‫الحق َ‬ ‫صنماً‪ ،‬فجعل عليه الصالة والسالم يطعنها بعود في يده‪ ،‬ويقول‪:‬ـ «جاء‬
‫عيد» ثم أمر باآللهة فأخرجت من البيت وفيها صورة إسماعيل وإ براهيم في‬ ‫ي ْبِدىء ِ‬
‫الباط ُل وما ُي ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫أيديهما األزالم‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬قاتلهم اهلل‪ ،‬لقد علموا ما استقسما بها قطّ»‪ .‬وهذا أول‬
‫يوم طهّرت فيه الكعبة من هذه المعبودات الباطلة‪ .‬وبطهارة الكعبة المقدسة عند جميع العرب باديها‬
‫وحاضرها من هذه األدناس سقطت عبادة األوثان من جميع بالد العرب إال قليالً‪ .‬ويوشك أن نذكر‬
‫للقارىء اختفاء آثارها ومحو عبادتها بالكلية‪.‬‬

‫العفو عند المقدرة‬

‫ثم إن النبي صلى اهلل عليه وسلم دخل الكعبة وكبَّر في نواحيها‪ ،‬ثم خرج إلى مقام إبراهيم‪ ،‬وصلّى فيه‬
‫ركعتين‪ ،‬ثم شرب من زمزم‪ ،‬وجلس في المسجد‪ ،‬والناس حوله‪ ،‬والعيون شاخصة إليه‪ ،‬ينتظرون ما‬
‫هو فاعل بمشركي قريش الذين آذوه‪ ،‬وأخرجوه من بالده وقاتلوه‪ ،‬ولكن هنا تظهر مكارم األخالق‬
‫التي يلزم أن يتعلم منها المسلم‪ ،‬أن يكون رضاه وغضبه هلل ال لهوى النفس‪ ،‬فقال عليه الصالة‬
‫والسالم‪« :‬يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟» قالوا‪ :‬خيراً‪ ،‬أخ كريم وابن أخ كريم‪ ،‬فقال‬
‫عليه الصالة والسالم‪« :‬اذهبوا فأنتم الطُّلقاء»‪ .‬ويرحم اهلل اإلمام البوصيري حيث قال‪:‬‬
‫لدامت قطيعةٌ‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫النفس‬ ‫أن انتقامه لهوى‬ ‫طعُ والوص ُل للهتساوى التَّ ُ‬
‫قريب واإلقصاءولوـ َّ‬ ‫وإ ذا كان القَ ْ‬
‫اإلناء؟‬
‫ُ‬ ‫ينضح إال بما حواهُ‬
‫ُ‬ ‫فعله كله جميل وهل‬
‫ووفاء ُ‬
‫ُ‬ ‫تباين‬
‫وجفاءقام هلل في األمور فأرضى اللهمنه ٌ‬
‫ُ‬
‫ثم خطب عليه الصالة والسالم خطبةً أبان فيها كثيراً من األحكام اإلسالمية‪ ،‬منها‪ :‬أالّ ُيقتَل مسلم‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫بكافر‪ ،‬وال يتوارث أهل ملَّتين مختلفتين‪ ،‬وال تنكح المرأة على عمتها أو خالتها‪ ،‬والبينة على من‬
‫ّادعى‪ ،‬واليمين على من أنكر‪ ،‬وال تسافر المرأة مسيرة ثالثة أيام إال مع ذي محرم‪ ،‬وال صالة بعد‬
‫الصبح والعصر‪ ،‬وال يصام يوم األضحى ويوم الفطر‪ ،‬ثم قال‪« :‬يا معشر قريش إن اهلل قد أذهب‬
‫اس‬ ‫عنكم َن ْخوة الجاهلية وتَ َعظُّ َمهَا باآلباء‪ ،‬والناس من آدم‪ ،‬وآدم من تراب‪ ،‬ثم تال هذه اآلية‪{ :‬يَأيُّهَا َّ‬
‫الن ُ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِإَّنا َخلَ ْقَنا ُكم من َذ َك ٍر و ُْأنثَى وجعْلَنا ُكم ُشعوباً وقَبآِئ َل ِلتَعارفُوْا ِإ َّن َأ ْكرم ُكم ع َ َّ ِ‬
‫ند الله َأتْقَا ُك ْم ِإ َّن اللهَ َعل ٌ‬
‫يم‬ ‫ََ ْ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ ََ ْ ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫َخبِ ٌير(‪)13‬‬

‫أما الذين أهدر رسول اهلل دمهم فقد ضاقت عليهم األرض بما رحبت‪ ،‬فمنهم من حقّت عليه كلمة‬
‫العذاب فقتل‪ ،‬ومنهم من أدركته عناية اهلل فأسلم‪ ،‬فعبد اللهبن سعدبن أبي سرح لجأ إلى أخيه من‬
‫الرضاع عثمانبن عفان‪ ،‬وطلب منه أن يستأمن له رسول اهلل‪ ،‬فغيبه عثمان حتى هدأ الناس‪ ،‬ثم أتى به‬
‫وقال‪ :‬يا رسول اهلل قد أمنته فبايعه‪ ،‬فأعرض عنه عليه الصالة والسالم مراراً ثم بايعه‪ ،‬فلما خرج‬
‫ليقوم إليه أحدكم فيضرب عنقه»‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫«أعرضت عنه َ‬
‫ُ‬ ‫عثمان وعبد اهلل قال عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫أشرت إلينا؟ فقال‪« :‬ال ينبغي لنبي أن تكون له خائنة األعين»‪.‬‬
‫َ‬ ‫هالّ‬
‫وبنت عمه ُّأم حكيم بنت الحارثبن هشام‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فخرجت وراءه زوجته‬
‫ْ‬ ‫فهرب‪،‬‬
‫َ‬ ‫وأما عكرمةبن أبي جهل‬
‫وكانت قد أسلمت يوم الفتح‪ ،‬وقد أخذت له أماناً من رسول اهلل فلحقته‪ ،‬وقد أراد أن يركب البحر‪،‬‬
‫أبر الناس‪ ،‬وخيرهم‪ ،‬ال تهلك نفسك‪ ،‬وإ ني قد استأمنته لك فرجع‪ ،‬ولما رآه عليه‬
‫فقالت‪ :‬جئتك من عند ّ‬
‫الصالة والسالم وثب قائماً فرحاً به‪ ،‬وقال‪« :‬مرحباً بمن جاءنا مهاجراً مسلماً» ثم أسلم رضي اهلل‬
‫عنه‪ ،‬وطلب من رسول اهلل أن يستغفر له كل عداوة عاداه ّإياها فاستغفر له‪ ،‬وكان رضي اهلل عنه بعد‬
‫ذلك من خيرة المسلمين وأغيرهم على اإلسالم‪.‬‬

‫بالج ِع َّرانة جاءه مسلماً‪ ،‬وقال‪ :‬يا‬


‫وأما هبَّاربن األسود فهرب‪ ،‬واختفى‪ ،‬حتى إذا كان رسول اهلل ِ‬
‫عمن جهل عليك‪،‬‬
‫وأردت اللحاق باألعاجم ثم ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك ّ‬
‫ُ‬ ‫هربت منك‬
‫ُ‬ ‫رسول اهلل‬
‫وكنا يا رسول اهلل أهل شرك فهدانا اهلل بك‪ ،‬وأنقذنا من الهلكة فاصفح الصفح الجميل‪ ،‬فقال عليه‬
‫عفوت عنك»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الصالة والسالم‪« :‬قد‬
‫وأما الحارثبن هشام‪ ،‬وزهيربن أبي أمية المخزومي‪ ،‬فأجارتهما أم هانىء بنت أبي طالب‪ ،‬فأجاز‬
‫عليه الصالة والسالم ِجوارها‪ ،‬ولما قابل رسو ُل اهلل الحارثَبن هشام مسلماً قال له‪« :‬الحمد هلل الذي‬
‫ضالء الصحابة‪.‬‬
‫هداك ما كان مثلك يجهل اإلسالم» وقد كان بعد ذلك من فُ َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وأما صفوانبن أمية فاختفى وأراد أن يذهب ويلقي نفسه في البحر‪ ،‬فجاء ابن عمه ُعميربن وهب‬
‫أمنت‬
‫َأم ْنهُ فإنك قد ّ‬
‫صفوان سيد قومه‪ ،‬هرب ليقذف نفسه في البحر فَ ِّ‬
‫َ‬ ‫الجمحي وقال‪ :‬با نبي اهلل إن‬
‫ُ‬
‫األحمر واألسود‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬أدرك ابن عمك فهو آمن» فقال‪ :‬أعطني عالمة‪،‬‬
‫فأعطاه ِعمامته‪ ،‬فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان‪ ،‬قال له‪ :‬فداك أبي وأمي‪ ،‬جئتك من عند أفضل‬
‫وعزه ُّ‬
‫عزك‪ ،‬وشرفه شرفك‪ ،‬وملكه‬ ‫وأبر الناس‪ ،‬وَأحلم الناس‪ ،‬وخير الناس‪ ،‬وهو ابن عمك‪ُّ ،‬‬
‫الناس‪ّ ،‬‬
‫ملكك‪ ،‬قال صفوان‪ :‬إني أخاف على نفسي‪ ،‬قال‪ :‬هو أحلم من ذلك وأكرم‪ ،‬وأراه العمامة عالمة‬
‫أمنتني؟ قال‪« :‬صدق» قال‪ :‬أمهلني‬
‫األمان‪ ،‬فرجع إلى رسول اهلل‪ ،‬وقال له‪ :‬إن هذا يزعم أنك َّ‬
‫بالخيار فيه شهرين‪ ،‬قال‪« :‬أنت بالخيار فيه أربعة أشهر» ثم أسلم رضي اهلل عنه وحسن إسالمه‪.‬‬
‫فرحب بها وقالت له‪ :‬واهلل يا رسول‬
‫َ‬ ‫وأما هند بنت عتبة فاختفت ثم َأسلمت‪ ،‬وجاءت إلى رسول اهلل‬
‫إلي أن يذلوا من أهل خبائك‪ ،‬ثم ما َأصبح اليوم أهل‬
‫أحب ّ‬
‫اهلل ما كان على ظهر األرض أهل خباء ّ‬
‫إلي أن يعزوا من أهل خبائك‪.‬‬
‫أحب ّ‬
‫خباء ّ‬

‫وفود كعببن زهير‬


‫كعببن زهير فلما ضاقت به األرض‪ ،‬ولم يجد له مجيراً‪ ،‬جاء المدينة بعد أن قدمها رسو ُل اهلل‬
‫وأما ُ‬
‫من مكة فأسلم وأنشد قصيدته التي يقول فيها‪:‬‬
‫الرحمان‬
‫ُ‬ ‫فقلت‪َ :‬خلُّوا سبيلي ال أبا لكم ُّ‬
‫فكل ما قَ َّدر‬ ‫كنت آملُهُال ُأْلهََيَّن َك إني َ‬
‫عنك مشغولُ ُ‬ ‫ق ُ‬ ‫وقال ُّ‬
‫كل صدي ٍ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫اهلل أوعدنيوالعفو عند‬ ‫رسول ِ‬ ‫ِّئت َأن‬ ‫طالت سالمتُهيوماً على ٍ‬ ‫مفعولُ ُّ‬
‫َ‬ ‫حدباء محمولُُنب ُ‬
‫َ‬ ‫آلة‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫كل ابن أنثى وإ ن‬
‫هداك الذي أعطاك نافلةَ القرآن فيها مواعيظٌ وتفصي ُل وقال فيها مادحاً‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫رسول اهلل مأمولُمهالً‬
‫اهلل مسلو ُل ولما قال هذا البيت خلع عليه الرسول‬ ‫سيوف ِ‬
‫ِ‬ ‫بهم َّ‬
‫هن ٌد من‬ ‫َّ‬
‫ستضاء ُ‬‫ُ‬ ‫لسيف ُي‬
‫ٌ‬ ‫الرسول‬
‫َ‬ ‫إن‬
‫بردته‪.‬‬

‫وأما وحشي قاتل حمزة فكذلك أسلم‪ ،‬وحسن إسالمه‪ ،‬وقبله عليه الصالة والسالم‪ ،‬وقد جاءه ابنا أبي‬
‫لهب عتبة ومعتب فأسلما وفرح بهما عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫وكان من الذين اختفوا سهيلبن عمرو‪ ،‬فاستأمن له ابنه عبد اهلل فأمنه عليه الصالة والسالم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫«إن سهيالً له عقل وشرف‪ ،‬وما مثل سهيل يجه ُل اإلسالم»‪ .‬فلما بلغت هذه المقالة ُسهيالً قال‪ :‬كان‬
‫واهلل َب ّراً صغيراً‪ّ ،‬براً كبيراً‪ ،‬ثم أسلم بعد ذلك‪.‬‬

‫بيعة النساء‬
‫وكن يبايعن على أالّ يشركن باهلل شيئاً‪ ،‬وال يسرقن‪ ،‬وال‬
‫هذا‪ ،‬ولما تمت بيعة الرجال بايعه النساء‪ّ ،‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وأرجهلن‪ ،‬وال يعصين الرسول في‬


‫ّ‬ ‫أيديهن‬
‫ّ‬ ‫يزنين‪ ،‬وال يقتلن أوالدهن‪ ،‬وال يأتين بيهتان يفترينه بين‬
‫معروف‪.‬‬
‫ثم أمر عليه الصالة والسالم بالالً أن يَؤ ِّذ َن على ظهر الكعبة‪ ،‬وهذا بدء ظهور اإلسالم على ظهر‬
‫البيت الكريم‪ ،‬فال عجب أن اتخذ المسلمون هذا اليوم عيداً يحمدون فيه اهلل َح َّ‬
‫ق حمده على هذه النعمة‬
‫الكبرى والنصر العظيم‪.‬‬
‫وأقام عليه الصالة والسالم بمكة بعد فتحها تسعة عشر يوماً يقصر فيها الصالة‪ ،‬وولى عليها َعتَّاب‬
‫أشبع اهلل بطناً جاع على‬ ‫بن َأسيد‪ ،‬وجعل رزقه كل يوم درهماً‪ ،‬فكان َعتَّ ٌ‬
‫اب رضي اهلل عنه يقول‪ :‬ال َ‬ ‫َ‬
‫درهم ُك َّل يوم‪.‬‬

‫الع َّزى‬
‫هدم ُ‬
‫وفي الخامس من ُمقامه عليه الصالة والسالم بمكة أرسل خالدبن الوليد في ثالثين فارساً لهدم هيكل‬
‫الع ّزى ـ ـ وهي أكبر صنم لقريش‪ ،‬وكان هيكلها ببطن َن ْخلة ـ ـ فتوجه إليها خالد وهدمها‪.‬‬
‫ُ‬

‫هدم ُس َواع‬
‫وأرسل عليه الصالة والسالم عمروبن العاص لهدم سواع ـ ـ وهو أعظم صنم لهذيل ـ ـ وهيكله على‬
‫ثالثة أميال من مكة‪ ،‬فذهب إليه وهدمه‪.‬‬

‫هدم مناة‬
‫سعدبن زيد األشهلي في عشرين فارساً لهدم مناة‪ ،‬وهي صنم لكلب وخزاعة‪ .‬وهيكلها‬ ‫وبعث َ‬
‫بالم َشلَّ ِل‪ ،‬وهو جبل على ساحل البحر يهبط منه إلى قُ َد ْيد‪ .‬فتوجهوا إليها وهدموها‪.‬‬
‫ُ‬

‫غزوة ُحنين‬
‫بهذا الفتح العظيم وسقوط دولة األوثان‪ ،‬دانت لإلسالم جموعُ العرب ودخلوا فيه أفواجاً‪ .‬أما قبيلتا‬
‫غ محمد من‬ ‫األشراف منهم للشورى‪ ،‬وقالوا‪ :‬قد فر َ‬
‫ُ‬ ‫هوازن وثقيف فأدركتهما َح ِمَّيةُ الجاهلية‪ ،‬واجتمع‬
‫عنا‪َ ،‬فْلَن ْغ ُزه قبل أن يغزونا‪ .‬فأجمعوا أمرهم على ذلك‪ ،‬وولّوا رياستهم مال َكبن‬
‫قتال قومه وال ناهية له ّ‬
‫النصري‪ ،‬فاجتمع له من القبائل جموعٌ كثيرة‪ ،‬فيهم بنو ِ‬
‫سعدبن بكر‪ ،‬الذي كان رسول اهلل‬ ‫عوف َّ ْ‬
‫الص َّمة المشهور بأصالة الرأي‪ ،‬وشدة البأس في الحرب‪،‬‬‫مسترضعاً فيهم‪ ،‬وكان في القوم ُد َر ْيدبن ِّ‬
‫ولتقدم ِّ‬
‫سنه لم يكن له في هذه الحرب إال الرأي‪ ،‬ثم إن مالكبن عوف أمر الناس أن يأخذوا معهم‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫سقت مع الناس أموالهم‬


‫نساءهم وذراريهم وأموالهم‪ ،‬فلما علم ذلك ُدريد سأل مالكاً عن السبب‪ ،‬فقال‪ُ :‬‬
‫َ‬
‫يرد المنهزم‬
‫وذراريهم ونساءهم ألجعل خلف كل رجل أهله وماله يقاتل عنهم‪ ،‬فقال دريد‪ :‬وهل ّ‬
‫ضحت في أهلك ومالك‪ ،‬فلم‬ ‫شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك إال رجل بسيفه ورمحه‪ ،‬وإ ن كانت عليك فُ ِ‬
‫ُ‬
‫النساء صفوفاً وراء المقاتلة‪ ،‬ووراءهم اإلبل‪ ،‬ثم البقر‪ ،‬ثم الغنم‪ ،‬كيال يفر‬
‫َ‬ ‫يقبل مالك مشورته‪ ،‬وجعل‬
‫ْ‬
‫أحد من المقاتلين‪.‬‬
‫أما رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فإنه لما بلغه أن هوازن وثقيف يستعدون لحربه أجمع رأيه على‬
‫المسير إليهم‪ ،‬وخرج معه اثنا عشر ألف ٍ‬
‫غاز‪ ،‬منهم ألفان من أهل مكة‪ ،‬والباقون هم الذين أتوا معه‬
‫ٍ‬
‫ضعف يرجون الغنائم‪،‬‬ ‫من المدينة‪ ،‬وخرج أه ُل مكة ركباناً ومشاة حتى النساء يمشين من غير‬
‫وسهيلبن عمرو‪ ،‬ولما قرب الجيش‬
‫صفوانبن أمية‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫وخرج في الجيش ثمانون من المشركين‪ ،‬منهم‬
‫لعليبن‬ ‫ص َّ‬
‫ف عليه الصالة والسالم الغزاةَ‪ ،‬وعقد األلوية‪ ،‬فأعطى لواء المهاجرين ّ‬ ‫من معسكر العدو َ‬
‫للحَباببن المنذر‪ ،‬ولواء األوس ألسيدبن حضير‪ ،‬وكذلك أعطى ألوية لقبائل‬
‫أبي طالب‪ ،‬ولواء الخزرج ُ‬
‫العرب األخرى‪ .‬ثم ركب عليه الصالة والسالم بغلته ولبس درعين والبيضة ِ‬
‫والمغفر‪.‬‬

‫ُأعجب المسلمون بكثرتهم فلم تُ ْغ ِن عنهم شيئاً‪ ،‬فإن مقدمة المسلمين توجهت جهة العدو‪،‬‬
‫هذا‪ ،‬وقد ْ‬
‫فخرج لهم كمين كان مستتراً في ِشعاب الوادي ومضايقه‪ ،‬وقابلهم بنبل كأنه الجراد المنتشر‪ ،‬فلووا‬
‫أعنة خيلهم متقهقرين‪،‬ـ ولما وصلوا إلى من قبلهم تبعوهم في الهزيمة لما لحقهم من الدهشة‪ ،‬أما‬
‫ّ‬
‫فثبت على بغلته في ميدان القتال‪ ،‬وثبت معه قليل من المهاجرين‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم َ‬
‫واألنصار‪ ،‬منهم‪ :‬أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل وأبو سفيانبن الحارث وأخوه ربيعةبن‬
‫ومعتببن أبي لهب‪ ،‬وكان العباس آخذاً بلجام البغلة‪ ،‬وأبو سفيان آخذاً بالركاب‪ ،‬وكان عليه‬
‫ُ‬ ‫الحارث‬
‫«إلي ّأيها الناس» وال يلوي عليه أحد‪ ،‬وضاقت بالمنهزمين األرض بما‬ ‫الصالة والسالم ينادي‪َّ :‬‬
‫رحبت‪ .‬أما رجال مكة الذين هم حديثو عهد باإلسالم والذين لم ينزعوا عنهم ِر ْبقَةَ الشرك فمنهم من‬
‫فرح‪ ،‬ومنهم من ساءه هذا اإلدبار‪ ،‬فقال أبو سفيانبن حرب‪ :‬ال تنتهي هزيمتهم دون البحر‪ .‬وقال أخ‬
‫لصفوانبن أمية‪ :‬اآلن بطل السحر‪ .‬فقال له صفوان ـ ـ وهو على شركه ـ ــ‪ :‬اسكت فَ َّ‬
‫ض اهلل فاك‪ ،‬واهلل‬
‫ومر عليه رجل من قريش وهو‬ ‫َألن َي ُربَّني رجل من قريش خير من أن َي ُربَّني رجل من هوازن‪ّ .‬‬
‫ْ‬
‫صفوان وقال‪ :‬ويلك أتبشرني‬ ‫ٍ‬
‫محمد وأصحابه فواهلل ال يجبرونها أبداً‪ ،‬فغضب‬ ‫يقول‪ :‬أبشر بهزيمة‬
‫ُ‬
‫بظهور األعراب؟ وقال عكرمةبن أبي جهل لذاك الرجل‪ :‬كونهم ال يجبرونها أبداً ليس بيدك‪ ،‬األمر‬
‫بيد اهلل ليس إلى محمد منه شيء‪ ،‬إن ُأديل عليه اليوم فإن العاقبة له غداً‪ ،‬فقال سهيلبن عمرو‪ :‬واهلل إن‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫عهدك بخالفه لحديث‪ ،‬فقال له‪ :‬يا أبا يزيد ّإنا كنا على غير شيء‪ ،‬وعقولنا ذاهبة‪ ،‬نعبد حجراً ال‬
‫الفارين مكة‪ ،‬كل هذا ورسول واقف مكانه يقول‪:‬‬
‫يضر وال ينفع‪ H.‬وبلغت هزيمة بعض ّ‬
‫ّ‬

‫ي الصوت ـ ـ ِ‬ ‫النبِ ُّي ال َك ِذبَأنا ابن عبِد َّ‬


‫«ناد باألنصار يا‬ ‫المطِل ْ‬
‫ب ثم قال للعباس‪ :‬ـ ـ وكان َج ْه َو ِر َّ‬ ‫ْ َ ُ َْ ُ‬ ‫أنا َّ‬
‫فأسمع َم ْن في الوادي‪ ،‬وصار األنصار‬
‫َ‬ ‫عباس» فنادى‪ :‬يا معشر األنصار يا أصحاب بيعة الرضوان‬
‫يقولون‪ :‬لبَّيك لبَّيك‪ ،‬ويريد كل واحد منهم أن يلوي ِعنان بعيره فيمنعه من ذلك كثرة األعراب‬
‫ويؤم‬
‫المنهزمين‪ .‬فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه‪ ،‬وينزل عن بعيره‪ ،‬ويخلي سبيله‪ُّ ،‬‬
‫حول رسول اهلل جمع عظيم منهم‪ .‬وأنزل اهلل سكينته على رسوله‪ ،‬وعلى‬
‫الصوت حتى اجتمع َ‬
‫َ‬
‫فكر المسلمون على عدوهم يداً واحدة فانتكث فتل المشركين‪.‬‬
‫المؤمنين‪ ،‬وأنزل جنوداً لم يروها‪َّ ،‬‬
‫وتفرقوا في كل وجه ال يلوون على شيء من األموال والنساء والذراري‪ ،‬وتبعهم المسلمون يقتلون‬
‫وجرح في هذا‬ ‫ويأسرون‪ ،‬فأخذوا النساء والذراري وأسروا كثيراً من المحاربين‪ ،‬وهرب من هرب‪ُ ،‬‬
‫وأسلم ناس كثيرون من مشركي مكة لما رأوهُ من عناية اهلل‬ ‫ٍ‬
‫جراحات بالغة‪،‬‬ ‫اليوم خالدبن الوليد‬
‫َ‬
‫بالمسلمين‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬والذي حصل في هذه الغزوة درس مهم من دروس الحرب‪ ،‬فإن هذا الجيش دخله أخالط‬
‫نصر اإلسالم وخذالنه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫كثيرون من مشركين وأعراب وحديثي عهد باإلسالم‪ ،‬هؤالء سيَّان عندهم ُ‬
‫ولذلك بادروا ألول صدمة إلى الهزيمة‪ ،‬وكادت تتم الكلمة على المسلمين لوال فضل اهلل‪ ،‬فال ينبغي‬
‫أن يكون في الجيش إال من يقاتل خالصاً مخلصاً من قلبه ليكون مدافعاً حقاً عن دينه‪ ،‬فال تميل نفسه‬
‫للفارين من أليم العقاب‪.‬‬
‫أعده اهلل ّ‬
‫إلى الفرار خشية مما ّ‬
‫ثم أمر عليه الصالة والسالم بجمع السبي والغنائم‪ ،‬وكانت نحو أربعة وعشرين ألف بعير‪ ،‬وأكثر من‬
‫عرانة‪ .‬أما المشركون فتفرقوا‬ ‫أربعين ألف شاة‪ ،‬وأربعة آالف أوقية من الفضة‪ ،‬فجمع ذلك كله ِ‬
‫بالج َّ‬
‫ثالث فرق‪ :‬فرقة لحقت بالطائف‪ ،‬وفرقة لحقت بنخلة‪ ،‬وفرقة عسكرت بأوطاس‪.‬‬

‫سرية‬

‫فأرسل عليه الصالة والسالم لهذه الفرقة أبا عامر األشعري في جماعة منهم أبو موسى األشعري‪،‬‬
‫وبددهم وظفر بما بقي معهم من الغنائم‪ .‬وقد استشهد أبو عامر في هذه الغزوة وخلَّف على‬
‫فسار إليهم َّ‬
‫الغزاة ابن أخيه أبا موسى‪ ،‬فرجع ظافراً منصوراً‪.‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫غزوة الطائف‬
‫وسار عليه الصالة والسالم بمن معه إلى الطائف ليجهز على بقية حياة ثقيف ومن تجمع معهم من‬
‫ومر عليه الصالة والسالم بحصن لمالكبن عوف‬
‫هوازن‪ ،‬وجعل على مقدمته خالدبن الوليد‪ّ ،‬‬
‫ومر ببستان لرجل من ثقيف قد تمنع فيه‪ ،‬فأرسل إليه أن اخرج وإ ال َح َّرقنا‬ ‫َّ‬
‫النصري فأمر بهدمه‪َّ .‬‬
‫عليك بستانك‪ ،‬فامتنع الرجل فأمر عليه الصالة والسالم بحرقه‪ .‬ولما وصل المسلمون إلى الطائف‬
‫قوت سنتهم‪ ،‬فعسكر المسلمون قريب الحصن‪ .‬فرماهم‬
‫وجدوا األعداء قد تحصَّنوا به وأدخلوا معهم َ‬
‫المشركون َّ‬
‫بالنبل رمياً شديداً حتى ُأصيب منهم كثيرون بجراحات منهم عبد اللهبن أبي بكر‪ ،‬وقد‬
‫طاوله جرحه حتى أماته في خالفة أبيه‪ ،‬ومنهم أبو سفيانبن حرب فُقئت عينه‪ .‬وقد مات بالجراحات‬
‫اثنا عشر رجالً من المسلمين‪ .‬ولما رأى رسول اهلل أن العدو متم ّكن من رميهم ارتفع إلى محل مسجد‬
‫الحصار ثمانية عشر يوماً‪ ،‬كان فيها‬
‫ُ‬ ‫ُألم سلمة وزينب قبتين هناك‪ ،‬واستمر‬
‫وضرب ّ‬
‫َ‬ ‫الطائف اآلن‪،‬‬
‫ُينادي خالدبن الوليد بالبِراز فلم يجبه أحد‪ ،‬وناداه عبد ياليل ـ ـ عظيم ثقيف ـ ـ ال ينزل إليك ّ‬
‫منا أحد‪،‬‬
‫ولكن نقيم في حصننا‪ ،‬فإن فيه من الطعام ما يكفينا سنين‪ ،‬فإن أقمت حتى يفنى هذا الطعام خرجنا‬
‫صب عليهم المنجنيق‬ ‫إليك بأسيافنا جميعاً حتى نموت عن آخرنا‪ ،‬فأمر عليه الصالة والسالم بأن ُي ْن َ‬
‫ب‪ .‬ودخل جمع من األصحاب تحت دبابتين لينقبوا الحصن‪ ،‬فأرسلت عليهم ثقيف ِس َك َك الحديد‬ ‫ِ‬
‫فَُنص َ‬
‫ُمحماة بالنار حتى أرجعوهم‪ .‬فأمر عليه الصالة والسالم أن تقطع أعنابهم ونخيلهم‪ ،‬فقطع المسلمون‬
‫فيها قطعاً ذريعاً‪ ،‬فناداه أهل الحصن‪ ،‬أن دعها هلل وللرحم‪ ،‬فقال‪« :‬أدعها هلل‬

‫كل من ترك الحصن ونزل فهو آمن‪ ،‬فخرج إليه بضعة عشر رجالً‪.‬‬ ‫وللرحم» ثم أمر م ْن ينادي بأن َّ‬
‫َ‬
‫ولما رأى عليه الصالة والسالم أن ُّ‬
‫تمنع ثقيف شديد‪ ،‬وأن الفتح لم يؤذن فيه استشار نوفلبن معاوية‬
‫الديلي في الذهاب أو المقام‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل ثعلب في جحر إن أقمت أخذته‪ ،‬وإ ن تركته لم‬
‫يضرك‪ .‬فأمر عليه الصالة والسالم بالرحيل‪ ،‬وطلب منه بعض الصحابة أن يدعو على ثقيف‪ ،‬فقال‪:‬‬‫ّ‬
‫ِ‬
‫«اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم مسلمين»‪.‬‬
‫ّ‬
‫تقسيم السبي‬

‫وخمسه‪ ،‬وأعطى منه شيئاً‬‫الج ِع َّرانة حيث ترك السبي فأحصاه‪َّ ،‬‬ ‫ثم رجع عليه الصالة والسالم إلى ِ‬
‫ِّب إليهم اإلسالم‪ ،‬ومن‬ ‫َّ‬
‫كثيراً ُألناس ضعف إسالمهم يتألفُهم بذلك‪ .‬وأعطى ُأناساً لم يسلموا ُلي َحب َ‬
‫األولين‪ :‬أبو سفيان أعطاه أربعين ُأوقية من الذهب ومائة من اإلبل‪ ،‬وكذلك ابناه معاوية ويزيد‪ ،‬فقال‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫له‪ :‬بأبي أنت وأمي ألنت كريم في السلم والحرب‪ .‬ومنهم حكيمبن حزام أعطاه كأبي سفيان فاستزاده‬
‫ضرة حلوة‪ ،‬فمن أخذه بسخاوة‬ ‫فأعطاه‪ ،‬ثم استزاده فأعطاه مثلها‪ ،‬وقال‪« :‬يا حكيم إن هذا المال َخ ِ‬
‫ّ‬
‫العليا‬
‫واليد ُ‬
‫يشبع‪ُ ،‬‬ ‫نفس ُبورك له فيه‪ ،‬ومن أخذه بإشراف نفس لم ُيبارك له فيه‪ ،‬وكان كالذي يأ ُك ُل وال َ‬
‫وترك ما عداها‪ ،‬ثم قال‪ :‬والذي بعثك بالحق ال َْأر َزُأ‬
‫َ‬ ‫خير من ِ‬
‫اليد السُّفلى» فأخ َذ حكيم المائة األولى‬
‫أحداً بعدك شيئاً حتى ُأفارق الدنيا‪ ،‬فكان الخلفاء بعد رسول اهلل يعرضون عليه العطاء الذي يستحقه‬
‫من بيت المال فال يأخذه‪ .‬وأعطى عليه الصالة والسالم ُعَي ْيَنةَبن حصن مائة من اإلبل‪ ،‬وكذلك‬
‫وشاء كان رآه يرمقه‪،‬‬
‫ً‬ ‫صفوانبن أمية ِش ْعباً مملوءاً َن َعماً‬
‫َ‬ ‫األقرعبن حابس‪ ،‬والعباسبن ِمرداس‪ ،‬وأعطى‬
‫َ‬
‫نفس أحد‪،‬‬
‫«ه َو لك» فقال صفوان‪ :‬ما طابت بمثل هذا ُ‬ ‫فقال له‪« :‬هل يعجبك هذا؟» قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ُ :‬‬
‫وكان سبب إسالمه‪ .‬وكان عليه الصالة والسالم يقصد من هذه العطايا تأليف القلوب وجمعها على‬
‫الدين القويم‪ ،‬وهذا ضرب من ضروب السياسة الدينية حتى َجعل من الصدقات قسماً للمؤلفة قلوبهم‪،‬‬
‫ممن أعطوا في هذا اليوم ولم يكونوا ُأشربوا في قلوبهم ُح َّ‬
‫ب‬ ‫وقد عاد ذلك بفائدة عظمى‪ ،‬فإن كثيرين ّ‬
‫بعد من أجالّء المسلمين‪ ،‬وأعظمهم نفعاً‪ ،‬كصفوانبن أمية‪ ،‬ومعاويةبن أبي سفيان‪،‬‬
‫اإلسالم صاروا ُ‬
‫والحارثبن هشام وغيرهم‪.‬‬

‫وقسمه على الغزاة بعد أن اجتمع‬


‫ثم أمر عليه الصالة والسالم زيدبن ثابت فأحصى ما بقي من الغنائم ّ‬
‫«ردوا‬
‫إليه األعراب‪ ،‬وصاروا يقولون له‪ :‬اقسم علينا‪ ،‬حتى ألجؤوه إلى شجرة‪ ،‬فتعلق رداؤه‪ ،‬فقال‪ّ :‬‬
‫ردائي أيها الناس‪ ،‬فواهلل إن كان لي شجر تهامة َن َعماً لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيالً وال جباناً‬
‫«أيها الناس واهلل ما لي من غنيمتكم وال‬ ‫امه‪ ،‬وقال‪ّ :‬‬‫وال كذوباً» ثم قام إلى بعيره‪ ،‬وأخذ وبرةً من سَن ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الغلول يكون على أهله‬ ‫ط‪ ،‬فإن ُ‬ ‫ط ِ‬
‫والم ْخَي َ‬ ‫فأدوا ِ‬
‫الخيا َ‬ ‫والخ ُم ُس مردود عليكم‪ّ ،‬‬
‫الخ ُمس‪ُ ،‬‬ ‫هذه الوبرة إال ُ‬
‫عاراً وشناراً وناراً يوم القيامة» فصار كل من أخذ شيئاً من الغنائم ِخلسة ُّ‬
‫يرده ولو كان زهيداً‪ ،‬ثم‬
‫الرجل أربعة من اإلبل وأربعون شاة‪ ،‬والفارس ثالثةُ أمثال ذلك‪ ،‬فقال رجل من‬
‫َ‬ ‫فأصاب‬
‫َ‬ ‫شرع يقسم‬
‫َ‬
‫احمر وجهه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫المنافقين‪ :‬هذه قسمة ما ُأريد بها وجهُ اهلل‪ ،‬فغضب عليه الصالة والسالم حتى ّ‬
‫يؤده غضبه أن ينتقم لنفسه‪ ،‬حاشاه عليه الصالة والسالم من‬ ‫«ويحك َم ْن يعد ُل إذا لم أعدل؟» فلم ّ‬
‫نضرب عنقه‪،‬‬
‫ْ‬ ‫وحذر‪ ،‬وقال له عمر وخالدبن الوليد‪ :‬دعنا يا رسول اهلل‬ ‫يزد على أن نصح َّ‬ ‫ذلك‪ ،‬بل لم ْ‬
‫َ‬
‫مص َل يقو ُل بلسانه ما ليس في قلبه فقال صلى‬‫فقال‪« :‬ال لعلّه أن يكون ُيصلي» فقال خالد‪ :‬وكم من ُ‬
‫ق عن بطونهم»‪.‬‬ ‫اهلل عليه وسلم‪« :‬إني لم ُأومر أن َُأنقِّ َ‬
‫ب عن قلوب الناس‪ ،‬وال َأ ُش َّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وترك األنصار غضب‬


‫َ‬ ‫ولما أعطى رسول اهلل ما أعطى من تلك العطايا لقريش وقبائل العرب‪،‬‬
‫تقطر من دمائهم فبلغه ذلك‪،‬‬
‫العجب ُيعطي قريشاً‪ ،‬ويتركنا وسيوفنا ُ‬
‫ُ‬ ‫بعضهم حتى قالوا‪ :‬إن هذا لهو‬
‫ُ‬
‫غيرهم‪ .‬فلما اجتمعوا قال‪« :‬يا معشر األنصار ما مقالة بلغتني عنكم؟ ألم‬ ‫ُ‬ ‫فأمر بجمعهم وليس معهم‬
‫ف اهلل بين قلوبكم بي؟ إن قريشاً‬ ‫وأعداء فألّ َ‬
‫ً‬ ‫ضالّالً فهداكم اهلل بي؟ وعالةً فأغناكم اهلل بي؟‬ ‫أجدكم ُ‬
‫أخُبرهم وأتَألَّفَهم‪ ،‬أغضبتم يا معشر األنصار في أنفسكم‬ ‫أردت أن ْ‬
‫ُ‬ ‫حديثو عهد بكفر ومصيبة‪ ،‬وإ ني‬
‫ت به قوماً ليسلموا‪ ،‬ووكلتكم إلى إسالمكم الثابت الذي ال ُي َزْل َزل؟ أال ترضون‬ ‫لشيء قليل من الدنيا ألَّ ْف ُ‬
‫يذهب الناس بالشاة والبعير‪ ،‬وترجعوا برسول اهلل إلى رحالكم؟ فوالذي نفس‬
‫َ‬ ‫يا معشر األنصار أن‬
‫الناس ِش ْعباً وسلك األنصار ِشعباً لسلكت‬
‫محمد بيده لوال الهجرة لكنت امرأ من األنصار‪ ،‬ولو سلك ُ‬
‫ت لحاهم‪ ،‬وقالوا‪:‬‬‫ضلَّ ْ‬
‫اخ َ‬
‫وأبناء األنصار»‪ .‬فبكى القوم حتى ْ‬
‫َ‬ ‫األنصار‪،‬‬
‫َ‬ ‫اللهم ارحم‬
‫شعب األنصار‪ّ ،‬‬
‫انصرف عليه الصالة والسالم وتفرقوا‪.‬ـ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫برسول اهلل قسماً وحظاً‪ ،‬ثم‬ ‫رضينا‬

‫وفود هوازن‬
‫وبعد بضع عشرة ليلة جاءه صلى اهلل عليه وسلم وفد هوازن يرأسهم زهيربن صرد وقالوا‪ :‬يا رسول‬
‫وهن َمخازي األقوام‪ ،‬ونرغب إلى اهلل‬
‫والعمات والخاالت‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫اهلل إن فيمن أصبتم األمهات واألخوات‬
‫كن يكفلنك‪ ،‬ثم‬
‫وإ ليك يا رسول اهلل وقال زهير‪ :‬إن في الحظائر عماتك وخاالتك وحواضنك الالتي ّ‬
‫قال أبياتاً يستعطفه بها‪:‬‬

‫ض ُعهاإذ فوك مملوءة‬ ‫امنن على نسو ٍة كنت تَْر َ‬ ‫وننتظر ْ‬


‫ُ‬ ‫المرء نرجوه‬
‫ُ‬ ‫رسول اهلل في كرمفإنك‬
‫َ‬ ‫امنن علينا‬
‫ْ‬
‫نؤمل عفواً منك نلبسههدى‬ ‫الد َر ُرإ نا لنشكر للنعماء إن كفرتوعندنا بعد هذا اليوم ُم َّدخرإ ّنا ِّ‬
‫ضها ِّ‬‫من م ْخ ِ‬
‫َ‬
‫العفو مشتهر فقال صلى اهلل‬ ‫ض ُعهُمن ُأمهاتك إن َ‬ ‫البرية أن تعفو وتنتصرفألبس العفو من قد كنت تَْر َ‬
‫َأص َدقُهُ‪ ،‬فاختاروا إحدى الطائفتين‪ :‬إما السبي وإ ما المال‪ .‬وقد‬ ‫إلي ْ‬
‫أحب الحديث َّ‬
‫عليه وسلم‪« :‬إن ّ‬
‫ارد ْد علينا نساءنا‬
‫كنا نعدل باألحساب شيئاً‪ُ ،‬‬
‫كنت انتظرتكم حتى ظننت أنكم ال تقدمون»‪ .‬فقالوا‪ :‬ما ّ‬
‫أحب إلينا وال نتكلم في شارة وال بعير‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أما ما لي ولبني عبد‬
‫وأبناءنا فهو ّ‬
‫المطلب فهو لكم‪ ،‬فإذا أنا صلّيت الظهر فقوموا‪ ،‬وقولوا‪ :‬نحن نستشفع برسول اهلل إلى المسلمين‪،‬‬
‫وبالمسلمين إلى رسول اهلل بعد أن تظهروا إسالمكم‪ ،‬وتقولوا‪:‬ـ نحن إخوانكم في الدين» ففعلوا‪ .‬فقال‬
‫أرد‬
‫رأيت أن ّ‬‫ُ‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم ألصحابه‪« :‬أما بعد‪ :‬فإن إخوانكم هؤالء جاؤوا تائبين‪ ،‬وإ ني قد‬
‫نعطيه إياه‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫أحب منكم أن يكون على َحظه حتى َ‬ ‫يب بذلك فليفعل‪ ،‬ومن ّ‬ ‫أحب أن ُيط َ‬
‫عليهم سبيهم‪ ،‬فمن ّ‬
‫وامتنع‬ ‫يء اهلل علينا فليفعل»‪ ،‬فقال المهاجرون واألنصار‪ :‬ما كان لنا فهو لرسول اهلل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫من أول ما ُيف ُ‬
‫من ذلك جماعة من األعراب‪ ،‬كاألقرعبن حابس‪ ،‬وعيينةبن حصن‪ ،‬والعباسبن ِمرداس‪ ،‬فأخذه‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫الرسو ُل منهم قرضاً‪ ،‬وأمر صلى اهلل عليه وسلم بأن تُ ْحَبس عائلةُ مالكبن عوف النصري رئيس تلك‬
‫الحرب بمكة عند عمتهم ُّأم عبد اللهبن أمية‪ .‬فقال له الوفد‪ :‬أولئك ساداتنا‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫«إنما ُأريد بهم الخير» ثم سأل عن مالك فقالوا‪ :‬هرب مع ثقيف‪ ،‬فقال‪« :‬أخبروه أنه إن جاءني مسلماً‬
‫رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من اإلبل» فلما بلغ ذلك مالكاً نزل من الحصن ُخ ْفية حتى أتى‬
‫بالج ِع َّرانة‪ ،‬فأسلم وأحرز ماله‪ ،‬واستعمله عليه الصالة والسالم على َم ْن أسلم من‬
‫رسول اهلل ِ‬

‫هوازن‪.‬‬

‫عمرة ِ‬
‫الجع َّرانة‬
‫ثم إن الرسول صلى اهلل عليه وسلم اعتمر فأحرم من الجعرانة‪ ،‬ودخل مكة بليل‪ ،‬فطاف‪ ،‬واستلم‬
‫ثالث عشرة ليلة‪ ،‬ثم أمر عليه الصالة والسالم‬
‫الحجر‪ ،‬ثم رجع من ليلته‪ ،‬وكانت إقامته بالجعرانة َ‬
‫ٍ‬
‫لثالث بقين من ذي القعدة‪.‬‬ ‫بالرحيل‪ ،‬فسار الجيش آمناً مطمئناً حتى دخل المدينة‬
‫وأدال دولته‪ ،‬وأفقد َسراةَ أهله‪ ،‬فإن هوازن لم‬
‫َ‬ ‫جموع الشرك‪،‬‬
‫َ‬ ‫فرق اهلل بها‬
‫وغزوة حنين هي التي ّ‬
‫تترك وراءها رجالً ِّ‬
‫تمكنه الحرب إال ساقته‪ ،‬ولم تترك لها بعيراً وال شاة إال جاءت به معها‪ ،‬فأراد‬
‫اهلل إعزاز اإلسالم بخذالن أعدائه وأخذ أموالهم‪ ،‬فانكسرت ِح ّدة المشركين‪ ،‬ولم يبق فيهم َم ْن يمانع أو‬
‫يبق فيهم إال فئات‬‫يدافع‪ ،‬ولذلك يمكننا أن نقول‪ :‬إن انكسار هوازن كان خاتمة لحروب العرب‪ ،‬فلم َ‬
‫قليلة يسوقهم الطيش إلى شهر السالح‪ ،‬ثم ال يلبثون أن يغمدوا السيوف حينما تظهر لهم قوة الحق‬
‫الساطعة‪.‬‬

‫سرية‬
‫صداء ـ ـ قبيلة تسكن‬
‫ولما رجع عليه الصالة والسالم إلى المدينة أرسل قيسبن سعد في أربعمائة ليدعو ُ‬
‫عمن‬
‫اليمن ـ ـ إلى اإلسالم‪ ،‬فجاء إلى رسول اهلل رجل منهم‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل إني جئتك وافداً ّ‬
‫برد الجيش‪.‬‬
‫الجيش وأنا لك بقومي‪ ،‬فأمر عليه الصالة والسالم ّ‬
‫َ‬ ‫ورائي‪ ،‬فاردد‬

‫ص َداء‬
‫وفود ُ‬
‫وخرج الرجل إلى قومه فقدم بخمسة عشر رجالً منهم‪ ،‬فنزلوا ضيوفاً على سعدبن عبادة‪ ،‬ثم بايعوا‬
‫رسول اهلل على اإلسالم‪ ،‬وقالوا‪ :‬نحن لك على من وراءنا من قومنا‪ ،‬ولما رجعوا فشا فيهم اإلسالم‪،‬‬
‫وقدم على رسول اهلل منهم مائة في حجة الوداع‪.‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫سرية‬

‫ثم أرسل عليه الصالة والسالم بشربن سفيان العدوي إلى بني كعب من خزاعة ألخذ صدقات‬
‫أموالهم‪ ،‬فمنعهم بنو تميم المجاورون لهم من أداء ما فُ ِر َ‬
‫ض عليهم‪ ،‬فلما علم بذلك رسول اهلل أرسل‬
‫إليهم عيينةبن حصن في خمسين فارساً من األعراب‪ ،‬فجاءهم وحاربهم‪ ،‬وأخذ منهم أحد عشر رجالً‪،‬‬
‫وإ حدى وعشرين امرأة‪ ،‬وثالثين صبياً‪ ،‬وتوجه بالكل إلى المدينة‪ ،‬فأمر عليه الصالة والسالم بجعلهم‬
‫في دار َر ْملَة بنت الحارث‪.‬‬

‫وفود تميم‬
‫والزبرقانبن بدر‪ ،‬وعمروبن األهتم‪ ،‬فجلسوا‬ ‫فجاء في أثرهم وفد تميم‪ ،‬وفيه ُعطاردبن حاجب‪ّ ،‬‬
‫اف‪ :‬يا محمد اخرج إلينا‬ ‫نادوا من وراء الحجرات بصوت ج ٍ‬ ‫ينتظرون الرسول‪ ،‬فلما أبطأ عليهم َ‬
‫َ‬
‫ذمنا َش ْين‪ ،‬فخرج إليهم عليه الصالة والسالم‪ ،‬وقد تأذى من صياحهم‪،‬‬ ‫نفاخرك‪ ،‬فإن مدحنا َز ْين‪ ،‬وإ ن َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اد َ ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون(‪)4‬‬‫ون َك من َو َرآء اْل ُح ُجرات َأ ْكثَُر ُه ْم الَ َي ْعقلُ َ‬ ‫وفيهم نزل في أوائل سورة الحجرات‪َ :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين ُيَن ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫يم(‪)5‬‬ ‫ور َّرح ٌ‬ ‫صَب ُروْا َحتَّى تَ ْخ ُر َج ِإلَْي ِه ْم لَ َك َ‬
‫ان َخ ْيراً لهُ ْم َواللهُ َغفُ ٌ‬ ‫َولَ ْو ََّأنهُ ْم َ‬

‫سرية‬

‫ثم بعث عليه الصالة والسالم الوليدبن عقبةبن أبي ُم َعيط ألخذ صدقات بني المصطلق‪ ،‬فلما علموا‬
‫بقدومه خرج منهم عشرون رجالً متقلدين سالحهم احتفاالً بقدومه ومعهم إبل الصدقة‪ ،‬فلما نظرهم‬
‫ظنهم يريدون حربه لما كان بينه وبينهم من العداوة في الجاهلية‪ ،‬فرجع مسرعاً إلى المدينة‪ ،‬وأخبر‬
‫ارتدوا ومنعوا الزكاة‪ ،‬فأرسل لهم خالدبن الوليد الستكشاف الخبر‪ ،‬فسار إليهم في‬
‫الرسول أن القوم ّ‬
‫عسكره خفية حتى إذا كان بناديهم سمع مؤ ّذنهم يؤ ّذن بالصبح‪ ،‬فأتاهم خالد فلم َير منهم إال طاعة‪،‬‬
‫فرجع وأخبر الرسول‪ ،‬فأرسل عليه الصالة والسالم لهم غير الوليد ألخذ الصدقات‪ ،‬وفي الوليد نزل‬
‫يببوْا قَ ْو َما بِ َجهَالَ ٍة‬ ‫ِ‬
‫ق بَِنَبٍإ فَتََبيَُّنوْا َأن تُص ُ‬
‫في أوائل الحجرات‪ :‬ياَأيُّها الَِّذين ءامُنوْا ِإن جآء ُكم فَ ِ‬
‫اس ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صبِ ُحوْا َعلَى َما فَ َعْلتُ ْم َنادم َ‬
‫ين(‪)6‬‬ ‫فَتُ ْ‬

‫سرية‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ثم بلغ رسول اهلل أن جمعاً من الحبشة رآهم أهل ُج َّدةَ في مراكبهم يريدون اإلغارة عليها‪ ،‬فأرسل لهم‬
‫علقمةبن ُم َج ِّزز في ثالثمائة‪ ،‬فذهب حتى وصل ُج َّدةَ‪ ،‬ونزل في المراكب ليدركهم‪ ،‬وكان األحباش‬
‫يلق المسلمون كيداً‪ ،‬فرجع‬
‫متحصنين في جزيرة هناك‪ ،‬فلما رأوا المسلمين يريدونهم هربوا‪ ،‬ولم َ‬
‫علقمة بمن معه‪ .‬ولما كان بالطريق أذن ِل َسرعان القوم أن يتعجلوا‪ ،‬وأمر عليهم عبد اللهبن ُحذافة‬
‫َّهمي‪ ،‬وكان فيه دعابة‪ ،‬فأوقد لهم في الطريق ناراً‪ ،‬وقال لهم‪ :‬ألستم مأمورين بطاعتي؟ قالوا‪:‬‬
‫الس ْ‬
‫وهم‬
‫نعم‪ ،‬قال‪ :‬عزمت عليكم إال ما تواثبتم في هذه النار‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬ما أسلمنا إال فراراً من النار‪َّ ،‬‬
‫بذلك بعضهم‪ ،‬فمنعهم عبد اهلل‪ ،‬وقال‪ :‬كنت مازحاً‪ .‬فلما ذكروا ذلك لرسول اهلل‪ ،‬قال‪« :‬ال طاعة‬
‫لمخلوق في معصية الخالق»‪.‬‬

‫السََّنة التّ ِ‬
‫اس َعة‬

‫سرية‬

‫في ربيع األول أرسل عليه الصالة والسالم عليبن أبي طالب في مائة راكب وخمسين فارساً لهدم‬
‫الفلُس ـ ـ ٍ‬
‫صنم لطيىء ـ ـ فسار إليه وهدمه وأحرقه‪ ،‬ولما حارب ُعبَّاده هزمهم واستاق َن َعمهم وشاءهم‬ ‫ُ‬
‫طيىء‪ .‬ولما رجع علي إلى المدينة طلبت سفَّانة من رسول اهلل أن‬
‫وسبيهم‪ ،‬وكان فيه َسفَّانةُ بنت حاتم ّ‬
‫َي ُم َّن عليها‪ ،‬فأجابها ألنه كان من سنته صلى اهلل عليه وسلم أن يكرم الكرام‪ ،‬فدعت له‪ ،‬وكان من‬
‫ملكتك يد استغنت بعد فقر‪ ،‬وأصاب اهلل بمعروفك‬
‫َ‬ ‫دعائها‪ :‬شكرتْ َك يد افتقرت بعد غنى‪ ،‬وال‬
‫لردها عليه‪ .‬وكانت هذه‬
‫مواضعه‪ ،‬وال جعل لك إلى لئيم حاجة‪ ،‬وال سلب نعمة كريم إال وجعلك سبباً ّ‬
‫فر إلى الشام عندما رأى‬
‫المعاملة من رسول اهلل سبباً في إسالم أخيها عديبن حاتم الطائي الذي كان ّ‬
‫الرايات اإلسالمية قاصدة بالده‪ ،‬وكان من حديث مجيئه أن أخته توجهت إليه بالشام‪ ،‬وأخبرته بما‬
‫ُعوملت به من الكرم‪ ،‬فقال لها‪ :‬ما ترين في أمر هذا الرجل؟ فقالت‪ :‬أرى أن تلحق به سريعاً‪ ،‬فإن‬
‫يكن نبياً فللسابق إليه فضل‪ ،‬وإ ن يكن ملكاً فأنت أنت‪ .‬قال‪ :‬واهلل هذا هو الرأي‪.‬‬

‫وفود عديبن حاتم‬

‫فخرج حتى جاء المدينة‪ ،‬ولقي رسول اهلل‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬من الرجل؟» قال‪ :‬عديبن‬
‫حاتم‪ ،‬فأخذه إلى بيته‪ ،‬وبينما هما يمشيان إذ لقيت رسول اهلل امرأة عجوز‪ ،‬فاستوقفته‪ ،‬فوقف لها‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫طويالً تُ َكلمه في حاجتها‪ ،‬فقال عدي‪ :‬واهلل ما هو بملك‪ .‬ثم مضى رسول اهلل حتى إذا دخل بيته تناول‬
‫«اجلس على هذه»‪ .‬فقال‪ :‬بل أنت تجلس عليها‪،‬‬
‫ْ‬ ‫فقدمها إلى عدي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫محشوة ليفاً ّ‬
‫ّ‬ ‫ِوسادة من جلد‬
‫تسلم»‬
‫فامتنع عليه الصالة والسالم وأعطاها له‪ ،‬وجلس هو على األرض‪ ،‬ثم قال‪« :‬يا عدي أسلم‪ْ ،‬‬
‫قالها ثالثاً‪ ،‬فقال عدي‪ :‬إني على دين‪ ،‬وكان نصرانياً‪ .‬فقال له عليه الصالة والسالم‪« :‬أنا أعلم بدينك‬
‫عدد له أشياء كان يفعلها اتباعاً لقواعد‬
‫مني؟ قال‪« :‬نعم»‪ .‬ثم ّ‬
‫منك» فقال عدي‪ :‬أأنت أعلم بديني ّ‬
‫العرب وليست من دين المسيح في شيء‪ ،‬كأخذه الرباع وهو ربع الغنائم‪ .‬ثم قال‪« :‬يا عدي إنما‬
‫يمنعك من الدخول في الدين ما ترى‪ ،‬تقول‪:‬ـ إنما اتَّبعه َ‬
‫ض َعفةُ الناس ومن ال قدرة لهم‪ ،‬وقد رمتهم‬
‫العرب مع حاجتهم‪ ،‬فواهلل ُليوش َك َّن الما ُل أن يفيض فيهم حتى ال ُيوجد َم ْن يأخذه‪ ،‬ولعلّك إنما يمنعك‬
‫الح ْيرة؟» قال‪ :‬لم أرها وقد سمعت‬ ‫من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم‪ ،‬أتعرف ِ‬
‫ليتم َّن هذا األمر حتى تخرج المرأة من الحيرة تطوف بالبيت من غير جوار أحد‪،‬‬
‫بها‪ ،‬قال‪« :‬فواهلل َّ‬
‫َّ‬
‫ليوشكن أن تسمع‬ ‫ولعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم‪ ،‬وايم اهلل‬
‫بالقصور البيض من أرض بابل قد فُتحت عليهم»‪ .‬فأسلم عدي رضي اهلل عنه وعاش حتى رأى كل‬
‫ذلك‪.‬‬

‫غزوة تَُبوك‬

‫بلغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن الروم جمعت الجموع تريد غزوه في بالده‪ ،‬وكان ذلك في‬
‫يحبون المقام في ثمارهم‬
‫الحر حين طابت الثمار‪ ،‬والناس ّ‬
‫زمن ُع ْسرة الناس‪ ،‬وجدب البالد‪ ،‬وشدة ّ‬
‫ورى بغيرها‪ُ ،‬لي َع ِّمي‬
‫وظاللهم‪ ،‬فأمر عليه الصالة والسالم بالتجهز‪ ،‬وكان قلّما يخرج في غزوة إال ّ‬
‫عدتهم‬
‫العدو‪ ،‬ليأخذ الناس ّ‬‫قة ولشدة ِّ‬‫األخبار على العدو إال في هذه الغزوة‪ ،‬فإنه أخبر بمقصده لبعد ال ّش ِ‬
‫ُ‬
‫وحث الموسرين على تجهيز المعسرين‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫لذلك‪ ،‬وبعث إلى مكة وقبائل األعراب يستنفرهم لذلك‪،‬‬
‫فأنفق عثمانبن عفان َع َشرةَ آالف دينار‪ ،‬وأعطى ثالثمائة بعير بعير بأحالسها وأقتابها‪ ،‬وخمسين‬
‫ٍ‬
‫راض عنه»‪ .‬وجاء أبو بكر بكل‬ ‫ارض عن عثمان فإني‬
‫َ‬ ‫«اللهم‬
‫ّ‬ ‫فرساً‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫ماله وهو أربعة آالف درهم‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬هل أبقيت ألهلك شيئاً؟» فقال‪ :‬أبقيت لهم‬
‫اهلل ورسوله‪ ،‬وجاء عمربن الخطاب بنصف ماله‪ ،‬وجاء عبد الرحمانبن عوف بمائة أوقية‪ ،‬وجاء‬
‫وسقاً من تمر‪ ،‬وأرسلت النساء بكل ما‬
‫وتصدق عاصمبن عدي بسبعين ْ‬
‫ّ‬ ‫العباس وطلحة بمال كثير‪.‬‬
‫يقدرن عليه من حيلهن‪ ،‬وجاءه صلى اهلل عليه وسلم سبعةُ أنفس من فقراء الصحابة يطلبون إليه أن‬
‫يحملهم‪ .‬فقال‪« :‬ال أجد ما أحملكم عليه»‪ .‬فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع َح َزناً أالّ يجدوا ما ُينفقون‪.‬‬
‫العباس اثنين‪ ،‬وجهز يامينبن عمرو اثنين‪.‬‬
‫ُ‬ ‫فجهز عثمان ثالثة منهم‪ ،‬وجهز‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ولما اجتمع الرجال خرج بهم رسول اهلل وهم ثالثون ألفاً‪ ،‬وولّى على المدينة محمدبن مسلمة‪ ،‬وعلى‬
‫ف كثير من المنافقين يرأسهم عبد اللهبن َُأب ّي‪ ،‬وقال‪ :‬يغزو محمد بني‬ ‫أهله عليبن أبي طالب‪ ،‬وتخلَّ َ‬
‫أيحسب محمد أن قتال بني األصفر معه اللعب؟ واهلل لكأني‬
‫ُ‬ ‫األصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد‬
‫مقرنين في الحبال‪ .‬واجتمع جماعة منهم‪ ،‬فقالوا في حق رسول اهلل وأصحابه ما‬
‫أنظر إلى أصحابه ّ‬
‫كنا‬
‫عما قالوا‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنما ّ‬
‫عماربن ياسر يسألهم ّ‬
‫يريدون من اإلرجاف‪ ،‬فبلغه ذلك‪ ،‬فأرسل إليهم ّ‬
‫نخوض ونلعب‪.‬‬
‫ألنا‬
‫تفتنا ّ‬
‫وجاء إليه جماعة منهم الجدبن قيس يعتذرون عن الخروج‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل ائذن لنا وال ّ‬
‫المعذرون من األعراب ـ ـ وهم أصحاب األعذار من ضعف‬ ‫ِّ‬ ‫ال نأمن من نساء بني األصفر‪ ،‬وجاء إليه‬
‫أو قلّة ـ ـ ليؤذن لهم فأذن لهم‪ ،‬وكذلك استأذن كثير من المنافقين فأذن لهم‪ ،‬وقد عتب اهلل عليه في ذلك‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫نك ِل َم َِأذ َ‬‫اإلذن بقوله في سورة براءة‪َ :‬عفَا اللَّهُ َع َ‬
‫ص َدقُوْا َوتَ ْعلَ َم اْل َكاذبِ َ‬
‫ين(‬ ‫ين َ‬ ‫َّن لَ َك الذ َ‬ ‫نت لَهُ ْم َحتَّى َيتََبي َ‬
‫ِ‬ ‫ال ِخ ِر َو ْارتَ َاب ْ‬‫ون بِاللَّ ِه َواْلَي ْوِم ا ْ‬ ‫ِ َِّ‬
‫ون(‪)45‬‬ ‫وبهُ ْم فَهُ ْم فى َر ْيبِ ِه ْم َيتََر َّد ُد َ‬ ‫ت ُقلُ ُ‬ ‫ين الَ يُْؤ ِمُن َ‬‫‪ِ )43‬إَّن َما َي ْستَْأذُن َك الذ َ‬
‫ين(‪ )46‬لَ ْو‬ ‫ِِ‬ ‫طهُ ْم َو ِق َ‬ ‫الع ُّدوْا لَهُ ُع َّدةً َواَل ِكن َك ِرهَ اللَّهُ انبِ َعاثَهُ ْم فَثََّب َ‬
‫يل ا ْق ُع ُدوْا َم َع اْلقَاعد َ‬ ‫وج َ‬ ‫ادوْا اْل ُخ ُر َ‬ ‫َولَ ْو ََأر ُ‬
‫َّ ِ‬ ‫ادو ُكم ِإالَّ َخباالً والَوضعوْا ِخاَل لَ ُكم ي ْب ُغ َ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم‬
‫ون لَهُ ْم َواللهُ َعل ٌ‬ ‫اع َ‬ ‫ون ُك ُم اْلفتَْنةَ َو ِفي ُك ْم َس َّم ُ‬ ‫َْ‬ ‫ْ َُ‬ ‫َ‬ ‫َخَر ُجوْا في ُكم َّما َز ُ ْ‬
‫َّ ِ ِ‬
‫ين(‪)47‬‬ ‫بِالظالم َ‬

‫‪ g‬ولما استراح الجيش لحقه أبو خيثمة‪ ،‬وكان من خبر مجيئه أن دخل على أهله في يوم حار‪ ،‬فوجد‬
‫وهيأت‬
‫ْ‬ ‫وبردت فيها ماء‪،‬‬ ‫امرأتين له في عريشين لهما في بستان‪ ،‬قد رشت ٌّ‬
‫كل منهما عريشها‪َّ ،‬‬
‫طعاماً‪ ،‬وكان يوماً شديد الحر‪ ،‬فلما نظر ذلك قال‪ :‬يكون رسول اهلل في الحر وأبو خيثمة في ظل بارد‬
‫عريش واحدة منكما حتى ألحق‬
‫َ‬ ‫صف‪ .‬ثم قال‪ :‬واهلل ال أدخل‬ ‫وماء مهيأ وامرأة حسناء ما هذا َّ‬
‫بالن َ‬
‫فهيئا لي زاداً ففعلتا‪ ،‬ثم ركب بعيره‪ ،‬وأخذ سيفه ورمحه‪ ،‬وخرج يريد رسول اهلل فصادفه‬
‫برسول اهلل ّ‬
‫حين نزل بتبوك‪.‬‬

‫وفود صاحب َْأيلة‬


‫هذا ولم َير صلى اهلل عليه وسلم بتبوك جيشاً كما كان قد سمع‪ ،‬فأقام هناك أياماً جاءه في أثنائها ُي َحَّنة‪،‬‬
‫صاحب أيلة‪ ،‬وصحبته أه ُل َج ْرباء‪ ،‬وأهل َأ ْذ ُرح‪ ،‬وأهل َم ْقنا‪ ،‬فصالح ُي َحَّنة رسول اهلل على إعطاء‬
‫الجزية‪ ،‬ولم يسلم‪ .‬وكتب له الرسول كتاباً هذه صورته‪:‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫كتاب صاحب أيلة‬


‫َّ‬
‫ليوحنةبن رؤبة وأهل أيلة‪:‬‬ ‫َأمَنةٌ من اهلل ومحمد النبي رسول اهلل‬
‫«بسم اهلل الرحمان الرحيم‪ ،‬هذا َ‬
‫سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة اهلل ومحمد النبي‪ ،‬ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن‬
‫وأهل البحر‪ ،‬فمن أحدث منهم حدثاً فإنه ال يحول ماله دون نفسه‪ ،‬وإ نه لَطيبةٌ لمن أخذه من الناس‪،‬‬
‫وإ نه ال يح ّل أن ُيمنعوا ماء يردونه‪ ،‬وال طريقاً يريدونه من بر أو بحر»‪.‬‬

‫وج ْرَباء‬
‫كتاب أهل َأ ْذ ُرح َ‬
‫وكتب ألهل أذرح وجرباء كتاباً صورته‪« :‬بسم اهلل الرحمان الرحيم‪ ،‬هذا كتاب من محمد النبي ألهل‬
‫أذرح وجرباء‪ ،‬إنهم آمنون بأمان اهلل وأمان محمد‪ ،‬وإ ن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة‪،‬‬
‫واهلل كفيل بالنصح واإلحسان للمسلمين»‪.‬‬
‫وصالَح أهل َم ْقنا على ربع ثمارها‪.‬‬

‫ثم إن الرسول استشار أصحابه في مجاوزة تبوك إلى ما هو أبعد منها من ديار الشام‪ ،‬فقال له عمر‪:‬‬
‫َأستَ ِش ْر»‪ .‬فقال‪ :‬يا‬ ‫ِ‬
‫إن كنت ُأمرت بالسير فس ْر‪ .‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬لو كنت ُأمرت بالسير لم ْ‬
‫دنوك‪،‬‬
‫رسول اهلل إن للروم جموعاً كثيرة‪ ،‬وليس بالشام أحد من أهل اإلسالم‪ ،‬وقد دنونا‪ ،‬وقد أفزعهم ُّ‬
‫فلو رجعنا في هذه السنة حتى نرى أو يحدث اهلل أمراً‪ ،‬فتبع عليه الصالة والسالم مشورته‪ ،‬وأمر‬
‫بالقفول فرجع الجيش إلى المدينة‪.‬‬

‫مسجد ِّ‬
‫الضرار‬
‫الضرار وهو مسجد أسَّسه جماعةٌ من المنافقين معارضة‬ ‫ولما كان على مقربة منها‪ ،‬بلغه خبر مسجد ِّ‬
‫لمسجد قُباء‪ ،‬ليفرقوا جماعة المسلمين‪ .‬وجاء جماعة منهم إلى الرسول طالبين منه أن يصلِّي لهم فيه‪،‬‬
‫فسألهم عن سبب بنائه‪ ،‬فحلفوا باهلل إن أردنا إال الحسنى‪ ،‬واهلل يشهد إنهم لكاذبون‪ ،‬فأمر عليه الصالة‬
‫والسالم جماعة من أصحابه لينطلقوا إليه‪ ،‬ويهدموه‪ ،‬ففعلوا‪ .‬هذا‪ ،‬ولما استقر عليه الصالة والسالم‬
‫بالمدينة جاءه جماعات من الذين تخلفوا يعتذرون كذباً‪ ،‬فقبل منهم عليه الصالة والسالم عالنيتهم‪،‬‬
‫ووكل ضمائرهم إلى اهلل‪ ،‬واستغفر لهم‪.‬‬

‫حديث الثالثة الذين ُخلِّفوا‬


‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫مقرين بذنوبهم‪ ،‬فلما دخل‬


‫األوسيان ِّ‬
‫ّ‬ ‫الربيع‪ ،‬وهاللبن أميَّة‬
‫ومرارةبن ّ‬ ‫كعببن مالك الخزرجي‪ُ ،‬‬ ‫وجاءه ُ‬
‫جلست عند غيرك من أهل‬‫ُ‬ ‫الغضب‪ ،‬وقال‪« :‬ما خلَّفك؟» فقال‪ :‬يا رسول اهلل لو‬ ‫ُّم َ‬
‫عليه كعب تََبسَّم تََبس َ‬
‫علمت لئن َّ‬
‫حدثتك اليوم‬ ‫ُ‬ ‫ُأوتيت جدالً‪ ،‬ولكني واهلل لقد‬
‫ُ‬ ‫لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر‪ ،‬ولقد‬ ‫ُ‬ ‫الدنيا‬
‫علي‬
‫صدق تغضب َّ‬ ‫علي فيه‪ ،‬ولئن حدثتك حديث ِ‬ ‫حديث كذب ترضى به عني‪ ،‬ليوش َك َّن اهلل أن يسخط َّ‬
‫فيه‪ ،‬إني ألرجو فيه عفو اهلل‪ ،‬واهلل ما كان لي من عذر‪ .‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬أما هذا فقد‬
‫صدق‪ ،‬فقم حتى يقضي اهلل فيك»‪ .‬وقال صاحباه مثل قوله‪ ،‬فقال لهما عليه الصالة والسالم كما قال‬
‫زوج‬
‫لكعب‪ ،‬ونهى المسلمين عن كالمهم‪ ،‬فاجتنبهم الناس‪ ،‬وأمرهم أن يعتزلوا نساءهم‪ ،‬واستأذنت ُ‬
‫هاللبن أمية في خدمة زوجها ألنه شيخ ضائع ليس له خادم فأذن لها‪ ،‬ولم يزالوا كذلك حتى ضاقت‬
‫عليهم األرض بما رحبت‪ ،‬وضاقت عليهم أنفسهم‪ ،‬وظنوا أال ملجأ من اهلل إال إليه‪ ،‬ثم تاب عليهم‪،‬‬
‫فأرسل لهم عليه الصالة والسالم من يبشرهم بهذه النعمة الكبرى‪ ،‬فتلقاهم الناس أفواجاً يهنئونهم بتوبة‬
‫اهلل‪ .‬فلما دخل كعب المسجد تلقاه رسول اهلل مسروراً‪ ،‬فقال‪« :‬أبشر يا كعب بخير يوم يمر عليك منذ‬
‫ولدتك أمك»‪ ،‬فقال‪ :‬من عندك يا رسول اهلل أم من عند اهلل؟ قال‪« :‬بل من عند اهلل»‪ .‬فقال كعب‪ :‬يا‬
‫«أمسك‬
‫ْ‬ ‫أنخلع من مالي صدقة هلل ولرسوله‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫َ‬ ‫رسول اهلل إن من توبتي أن‬
‫عليك بعض مالك فهو خير لك»‪ .‬ثم قرأ عليه الصالة والسالم اآليات التي فيها توبته هو وصاحباه‬
‫ت َعلَْي ِه ْم‬ ‫ض بِ َما َر ُحَب ْ‬ ‫َّ ِ َِّ‬
‫ضاقَ ْ‬
‫ت َو َ‬ ‫ت َعلَْي ِه ُم ْ‬
‫االر ُ‬ ‫ضاقَ ْ‬‫ين ُخلّفُوْا َحتَّى ِإ َذا َ‬ ‫في سورة براءة‪َ :‬و َعلَى الثاَل ثَة الذ َ‬
‫يم(‪)118‬‬ ‫ظُّنوْا َأن الَّ مْلجَأ ِمن اللَّ ِه ِإالَّ ِإلَْي ِه ثَُّم تَاب علَْي ِهم ِليتُوبوْا ِإ َّن اللَّه هو التََّّواب َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ َ ْ َ ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َأنفُ ُسهُ ْم َو َ‬

‫وفود ثقيف‬
‫وعقب مقدمه عليه الصالة والسالم من تبوك وفد عليه وفد ثقيف‪ ،‬وكان من خبرهم‪ ،‬أنه لما انصرف‬
‫رسول اهلل من محاصرتهم‪ ،‬تبع أثره عروةبن مسعود الثقفي حتى أدركه قبل أن يصل المدينة‪ ،‬فأسلم‪،‬‬
‫وسأله أن يرجع إلى قومه ويدعوهم إلى اإلسالم‪ ،‬فقال له‪« :‬إنهم قاتلوك»‪ .‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل أنا‬
‫أحب إليهم من أبكارهم‪ ،‬فخرج إلى قومه يرجو منهم طاعته لمرتبته فيهم‪ ،‬ألنه كان فيهم محبباً‬
‫مطاعاً‪ ،‬فلما جاء الطائف وأظهر لهم ما جاء به رموه بالنبل فقتلوه‪ ،‬وبعد شهر من مقتله ائتمروا فيما‬
‫بينهم ورأوا أنه ال طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب‪ ،‬فأجمعوا أمرهم على أن يرسلوا لرسول‬
‫اهلل رجالً منهم يكلِّمه‪ ،‬وطلبوا من عبد ياليلبن عمرو أن يكون ذلك الرجل فأبى‪ ،‬وقال‪ :‬لست فاعالً‬
‫حتى ترسلوا معي رجاالً‪ ،‬فبعثوا معه خمسة من أشرافهم‪ ،‬فخرجوا متوجهين إلى المدينة‪ ،‬ولما قابلوا‬
‫رسول اهلل ضرب لهم قبة في ناحية المسجد ليسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلّوا‪ .‬وكانوا َي ْغدون‬
‫سناً عثمانبن أبي العاص‪ .‬فكان إذا رجعوا‬ ‫إلى رسول اهلل كل يوم ويخلِّفون في رحالهم أصغرهم ّ‬
‫ذهب للنبي واستقرأه القرآن‪ ،‬وإ ذا رآه نائماً استقرأ أبا بكر حتى حفظ شيئاً كثيراً من القرآن‪ ،‬وهو‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫فأم َر عليهم عثمانبن أبي‬


‫يؤمهم‪َّ ،‬‬
‫يكتم ذلك عن أصحابه‪ ،‬ثم أسلم القوم‪ ،‬وطلبوا أن ُي َعيِّن لهم من ُّ‬
‫العاص لما رآه من حرصه على اإلسالم وقراءة القرآن وتعلم الدين‪.‬‬

‫كتاب أهل الطائف‬

‫ثم كتب لهم كتاباً من جملته‪« :‬بسم اهلل الرحمان الرحيم‪ ،‬من محمد النبي رسول اهلل إلى المؤمنين‪ ،‬إن‬
‫ض ُد شجره‪ ،‬ومن ُوجد يفعل شيئاً من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه»‪ .‬ثم‬ ‫ِ‬
‫ص ْي َدهُ َح َر ٌام‪ ،‬ال ُي ْع َ‬
‫ضاهَ َو َج َو َ‬
‫ع َ‬
‫سألوا رسول اهلل أن يَؤ ِّجل هدم صنمهم شهراً حتى يدخل اإلسالم في قلوب القوم‪ ،‬وال يرتاع السفهاء‬
‫من النساء من هدمه‪ ،‬فرضي بذلك عليه الصالة والسالم‪ ،‬ولما خرجوا من عنده قال لهم رئيسهم‪ :‬أنا‬
‫وخوفوهم الحرب والقتال‪ ،‬وأخبروهم أن محمداً طلب أموراً‬
‫أعلمكم بثقيف‪ ،‬اكتموا عنهم إسالمكم ِّ‬
‫عظيمة أبيناها عليه‪ .‬سألنا أن نهدم الطاغية‪ ،‬وأن نترك الزنا‪ ،‬وشرب الخمر والربا‪ ،‬فلما حلّوا بالدهم‬
‫ظاً غليظاً قد ظهر بالسيف‪ ،‬ودان الناس له‪ ،‬فعرض علينا‬
‫جاءتهم ثقيف‪ ،‬فقال الوفد‪ :‬جئنا رجالً ف ّ‬
‫ورموا‬
‫أموراً شديدة‪ ،‬وذكروا ما تقدم‪ .‬فقالوا‪ :‬واهلل ال نطيعه أبداً‪ ،‬فقالوا لهم‪ :‬أصلحوا سالحكم‪ُّ ،‬‬
‫حصونكم‪ ،‬واستعدوا للقتال‪ ،‬فأجابوا‪ ،‬واستمروا على ذلك يومين أو ثالثة‪ ،‬ثم ألقى اهلل الرعب في‬
‫قلوبهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬واهلل ما لنا بحربه من طاقة‪ ،‬ارجعوا إليه وأعطوه ما سأل‪ ،‬فقال الوفد‪ :‬قد قاضيناه‬
‫وأسلمنا‪ ،‬فقالوا ِل َم كتمتم علينا ذلك؟ قالوا‪ :‬حتى تذهب عنكم نخوة الشيطان فأسلموا‪.‬‬

‫هدم الالت‬
‫رسول اهلل إسالم ثقيف أرسل أبا سفيان‪ ،‬والمغيرةبن شعبة الثقفي‪،‬ـ لهدم الالت‪ :‬صنم ثقيف‬
‫َ‬ ‫ولما بلغ‬
‫سو ْوهُ باألرض‪.‬‬
‫بالطائف‪ ،‬فتوجهوا وهدموه حتى َّ‬

‫حج أبي بكر‬

‫ليحج بالناس‪ ،‬فخرج في ثالثمائة رجل‬


‫وفي ُأخريات ذي القعدة‪ ،‬أرسل عليه الصالة والسالم أبا بكر ّ‬
‫من المدينة‪ ،‬ومعه الهَ ْدي‪ :‬عشرون َب َدَنةً أهداها رسول اهلل‪ ،‬وساق أبو بكر خمس َب َدنات‪ ،‬ولما سافر‬
‫علياً ليبلغها الناس في يوم الحج األكبر‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫نزل على رسول اهلل أوائل سورة براءة‪ ،‬فأرسل بها ّ‬
‫مني» فلحق أبا بكر في الطريق‪ ،‬فقال الصديق‪ :‬هل استعملك رسول اهلل على‬ ‫«ال يبلغُ عني إال رجل ّ‬
‫الحج؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬ولكن بعثني أقرأ أو أتلو «براءة» على الناس‪ .‬فلما اجتمعوا بمنى‪ ،‬يوم النحر‪ ،‬قرأ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫علي ثالث عشرة آية من أول سورة براءة‪ ،‬تتضمن نبذ العهود لجميع المشركين الذين لم يوفّوا‬
‫عليهم ٌّ‬
‫عهودهم‪ ،‬وإ مهالهم أربعة أشهر يسيحون فيها في األرض كيف شاؤوا‪ ،‬وإ تمام عهد المشركين الذين‬
‫لم ُيظاهروا على المسلمين‪ ،‬ولم يغدروا بهم إلى مدتهم‪ ،‬ثم نادى‪ :‬ال ُّ‬
‫يحج بعد العام مشرك‪ ،‬وال‬
‫يطوف بالبيت عريان‪ ،‬وكان علي يصلي في هذا السفر وراء أبي بكر رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫أبي‬
‫وفاة ابن ّ‬
‫َّع جنازته‬ ‫َّ‬
‫وفي ذي القعدة مات عبد اللهبن َُأب َي‪ ،‬وقد صلى عليه رسول اهلل صالة لم يطل مثلها‪ ،‬و َشي َ‬
‫حتى وقف على قبره‪ ،‬وإ نما فعل ذلك تطييباً لقلب ولده عبد اللهبن عبد اهلل‪ ،‬وتأليفاً لقلوب الخزرج‬
‫أبي فيهم‪ ،‬وقد نزع ربقة النفاق كثير من المنافقين بعد هذا اليوم‪ ،‬لما رأوه من‬
‫لمكانة عبد اللهبن ّ‬
‫أعمال السيد الكريم صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقد نهى اهلل رسوله عن الصالة على المنافقين‪ ،‬فقال ج ّل‬
‫َأح ٍد ّم ْنهُم َّم َ‬
‫ات ََأبداً َوالَ تَقُ ْم َعلَى قَْب ِر ِه} (التوبة‪.)84 :‬‬ ‫ص ّل َعلَى َ‬
‫شأنه في سورة براءة‪َ :‬والَ تُ َ‬
‫وفاة ُّأم كلثوم‬
‫وفي هذه السنة توفيت ُّأم كلثوم بنت رسول اهلل وزوج عثمان رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫السََّنة العاشرة‬
‫سرية‬

‫الم َدان بنجران من‬


‫في ربيع اآلخر أرسل عليه الصالة والسالم خالدبن الوليد في جمع لبني عبد َ‬
‫أرض اليمن‪ ،‬وأمره أن يدعوهم إلى اإلسالم ثالث مرات فإن أبوا قاتلهم‪ ،‬فلما قدم إليهم بعث الركبان‬
‫في كل وجه يدعون إلى اإلسالم ويقولون‪:‬ـ أسلموا‪ ،‬تسلموا‪ ،‬فأسلموا ودخلوا في دين اهلل أفواجاً‪ ،‬فأقام‬
‫خالد بينهم يعلمهم اإلسالم والقرآن‪ ،‬وكتب إلى رسول اهلل بذلك‪ ،‬فأرسل إليه أن يقدم بوفدهم ففعل‪.‬‬
‫وحين اجتمعوا به صلى اهلل عليه وسلم قال لهم‪« :‬بِ َم كنتم تغلبون َم ْن قاتلكم في الجاهلية؟» قالوا‪ :‬كنا‬
‫وأمر عليهم زيدبن حصين‪.‬‬
‫نجتمع وال نتفرق‪ ،‬وال نبدأ أحداً بظلم‪ ،‬قال‪« :‬صدقتم» َّ‬

‫سرية‬
‫وع َّممه بيده‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وفي رمضان أرسل عليه الصالة والسالم علياً في جمع إلى بني م ْذحج ـ ـ قبيلة يمانية ـ ـ َ‬
‫وقال‪« :‬سر حتى تنزل بساحتهم‪ ،‬فادعهم إلى قول‪ :‬ال إله إالّ اهلل‪ ،‬فإن قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فَ ُم ْر ُه ْم بالصالة وال‬
‫َألن يهدي اهلل بك رجالً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس‪ ،‬وال تقاتلهم‬
‫تبغ منهم غير ذلك‪َ ،‬و ْ‬
‫ِ‬
‫حتى يقاتلوك» فلما انتهى إليهم لقي جموعهم فدعاهم إلى اإلسالم فأبوا‪ ،‬ورموا المسلمين بالنبل‬
‫علي أصحابه وأمرهم بالقتال‪ ،‬فقاتلوا حتى هزموا عدوهم َّ‬
‫فكف عن طلبهم‪ ،‬ثم لحقهم ودعاهم‬ ‫َّ‬
‫فصف ٌّ‬
‫إلى اإلسالم فأجابوا‪ ،‬وبايعه رؤساؤهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬نحن على َم ْن وراءنا من قومنا‪ ،‬وهذه صدقاتنا فخذ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫منها حق اهلل‪ ،‬ففعل‪ .‬ثم رجع إلى رسول اهلل فوافاه بمكة في حجة الوداع‪.‬‬

‫بعث العمال إلى اليمن‬

‫ثم بعث عليه الصالة والسالم إلى اليمن عماالً من قبله‪ ،‬فبعث معاذبن جبل على الكورة العليا من جهة‬
‫ووصاهما صلى اهلل عليه وسلم بقوله‪« :‬يسِّرا‬
‫ّ‬ ‫عدن‪ ،‬وبعث أبا موسى األشعري على الكورة السفلى‪،‬‬
‫وال تعسِّرا‪ِّ ،‬‬
‫وبشرا وال تنفِّرا» وقال لمعاذ‪« :‬إنك ستأتي قوماً أهل كتاب‪ ،‬فإذا جئتهم فادعهم إلى أن‬
‫يشهدوا أن ال إله إال اهلل َّ‬
‫وَأن محمداً رسول اهلل‪ ،‬فإن أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن اهلل فرض عليهم‬
‫خمس صلوات في اليوم والليلة‪ ،‬فإن أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن اهلل فرض عليهم صدقة تؤخذ من‬
‫وكرائم أموالهم‪ ،‬واتق دعوة المظلوم فإنه‬
‫َ‬ ‫فترد على فقرائهم‪ ،‬فإن هم أطاعوا لك بذلك‪ ،‬فإياك‬
‫أغنيائهم ّ‬
‫ليس بينها وبين اهلل حجاب» وقد مكث معاذ باليمن حتى توفي رسول اهلل‪ ،‬أما أبو موسى فقدم على‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم في حجة الوداع‪.‬‬

‫خطبة الوداع‬
‫ودع فيها المسلمين‪ ،‬ولم يحج غيرها‪.‬‬
‫وفي السنة العاشرة حج صلى اهلل عليه وسلم بالناس حجة ّ‬
‫وخرج لها يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة‪ ،‬وولّى على المدينة أبا دجانة األنصاري‪ ،‬وكان مع‬
‫«لبيك اللهم‬
‫الرسول جمع عظيم يبلغ تسعين ألفاً‪ ،‬وأحرم للحج حيث انبعثت به راحلته ثم ّلبى‪ ،‬فقال‪ّ :‬‬
‫والمْلك ال شريك لك»‪ .‬ولم َي َزل صلى اهلل عليه‬
‫ّلبيك‪ّ ،‬لبيك ال شرك لك ّلبيك‪ ،‬إن الحمد والنعمة لك ُ‬
‫زده‬
‫«اللهم ْ‬
‫ّ‬ ‫وسلم سائراً حتى دخل مكة ضحى من الثنية العليا وهي ثنية َك َداء‪ .‬ولما رأى البيت قال‪:‬‬
‫تشريفاً وتعظيماً ومهابةً وبراً»‪ .‬ثم طاف بالبيت سبعاً‪ ،‬واستلم الحجر األسود‪ ،‬وصلّى ركعتين عند‬
‫مقام إبراهيم‪ ،‬ثم شرب من ماء زمزم‪ ،‬ثم سعى بين الصفا والمروة سبعاً راكباً على راحلته‪ ،‬وكان إذا‬
‫صعد الصفا يقول‪:‬ـ «ال إله إال اهلل‪ ،‬اهلل أكبر‪ ،‬ال إله إالّ اهلل وحده‪ ،‬أنجز وعده‪ ،‬ونصر عبده‪ ،‬وهزم‬
‫األحزاب وحده»‪ .‬وفي الثامن من ذي الحجة توجه إلى منى فبات بها‪.‬‬

‫حجة الوداع‬

‫وفي التاسع منه توجه إلى َع َرفة‪ ،‬وهناك خطب خطبته الشريفة التي بيَّن فيها الدين كله ُأسَّهُ وفرعه‪،‬‬
‫وهاك نصها‪:‬‬
‫َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫«الحمد هلل نحمده‪ ،‬ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونتوب إليه‪ ،‬ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‪.‬‬
‫وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد‬
‫ُ‬ ‫ضلل فال هادي له‪،‬‬ ‫ضل له‪ ،‬ومن ُي ْ‬ ‫من ِ‬
‫يهد اهلل فال م َّ‬
‫ُ‬ ‫َْ‬
‫وَأحثُّ ُكم على طاعته‪ ،‬وأستفتح بالذي هو خير‪،‬‬
‫أن محمداً عبده ورسوله‪ُ :‬أوصيكم عباد اهلل بتقوى اهلل ُ‬
‫مني َُأبيِّن لكم فإني ال أدري لعلّي ال ألقاكم بعد عامي هذا في موقفيـ هذا‪.‬‬
‫أما بعد‪ :‬أيها الناس اسمعوا ّ‬
‫كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في‬
‫حرام عليكم إلى أن تلقَوا ربَّكم‪ُ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫ّأيها الناس إن دماءكم وأموالكم‬
‫فليؤدها إلى من ائتمنه عليها‪.‬‬
‫اللهم فاشهد‪ ،‬فمن كانت عنده أمانة ّ‬
‫بلدكم هذا‪ ،‬أال هل بلغت؟ ّ‬
‫إن ربا الجاهلية موضوع‪،‬ـ وإ َّن أول رباً أبدأ به ربا عمي العباسبن عبد المطلب‪ ،‬وإ ن َ‬
‫دماء الجاهلية‬
‫وأو ُل دم أبدأ به دم عامربن ربيعةبن الحارث‪ ،‬وإ ن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة‬ ‫موضوعة َّ‬
‫الع ْمد ما قُتِل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير‪ ،‬فمن زاد فهو من أهل‬ ‫ِ‬
‫والع ْمد قَ َو ٌد‪َ ،‬وش ْبهُ َ‬
‫والسقاية‪َ ،‬‬
‫الجاهلية‪.‬‬
‫أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن ُيعبد في أرضكم هذه‪ ،‬ولكنه قد رضي أن ُيطاع فيما سوى ذلك مما‬
‫ِ‬
‫تحقرون من أعمالكم‪.‬‬
‫ض ُّل به الذين كفروا يحلّونه عاماً‪ ،‬ويحرمونه عاماً‪ ،‬ليواطئوا‬
‫أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر ُي َ‬
‫حرم اهلل‪ ،‬وإ ن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اهلل السموات واألرض‪ ،‬وإ ن ِع َّدةَ الشهور‬
‫عدة ما ّ‬
‫عند اهلل اثنا عشر شهراً في كتاب اهلل يوم خلق اهلل السموات واألرض‪ ،‬منها أربعة ُح ُر ٌم‪ ،‬ثالث‬
‫متواليات وواحد فرد‪ :‬ذو القعدة وذو الحجة والمحرم‪ ،‬ورجب الذي بين ُجمادى وشعبان‪ ،‬أال هل‬
‫اللهم اشهد‪.‬‬
‫بلغت؟ ّ‬

‫دخلن أحداً تكرهونه‬ ‫عليهن ٌّ‬


‫حق إالّ يوطئن فر َش ُكم غيركم‪ ،‬وال ُي َ‬ ‫ّ‬ ‫ُأيها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم‬
‫وتهجروه َّن في‬
‫ُ‬ ‫وه َّن‪،‬‬
‫ضلُ ُ‬
‫بيوتَكم إال بإذنكم‪ ،‬وال يأتين بفاحشة‪ ،‬فإن فعلن‪ ،‬فإن اهلل أذن لكم أن تَ ْع ُ‬
‫وكسوتهن بالمعروف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫رزقهن‬
‫ّ‬ ‫وتضربوهن ضرباً غير ُمَب ِّرح‪ ،‬فإن انتهين وأطعنكم فعليكم‬
‫ّ‬ ‫المضاجع‪،‬‬
‫فروجهن بكلمة‬
‫ّ‬ ‫أخذتموهن بأمانة اهلل‪ ،‬واستحللتم‬
‫ّ‬ ‫ألنفسهن شيئاً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وإ نما النساء عندكم َع َوان‪ ،‬ال يملكن‬
‫اللهم اشهد‪.‬‬
‫بهن خيراً‪ ،‬أال هل بلغت؟ ّ‬
‫اهلل‪ ،‬فاتقوا اهلل في النساء‪ ،‬واستوصوا ّ‬

‫ّأيها الناس إنما المؤمنون إخوة‪ ،‬وال َي ِح ُّل المرىء مال أخيه إال عن طيب نفس منه‪ ،‬أال هل بلّغت؟‬
‫ٍ‬
‫بعض‪ ،‬فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به‬ ‫رقاب‬
‫َ‬ ‫اللهم اشهد‪ ،‬فال تَْر ِج ُع َّن بعدي ُكفَّاراً يضرب بعضكم‬
‫ّ‬
‫اللهم اشهد‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لم تضلوا بعده‪ :‬كتاب اهلل‪ ،‬أال هل بلغت؟ ّ‬
‫أيها الناس إن ربكم واحد‪ ،‬وإ َّن أباكم واحد‪ ،‬كلكم آلدم وآدم من تراب‪ ،‬أكرمكم عند اهلل أتقاكم‪ ،‬ليس‬
‫الشاهد منكم الغائب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫اللهم اشهد‪ ،‬فليبلغ‬
‫لعربي فض ٌل على عجمي إال بالتقوى‪ .‬أال هل بلغت؟ ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ٍ‬
‫لوارث وصية‪ ،‬وال تجوز وصية‬ ‫أيُّها الناس إن اهلل قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث‪ ،‬وال تجوز‬
‫ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه‬
‫الح َج ُر‪ ،‬من ّ‬
‫في أكثر من الثلث‪ ،‬والولد للفراش‪ ،‬وللعاهر َ‬
‫فعليه لعنة اهلل والمالئكة والناس أجمعين‪ ،‬ال يقبل منه صرف وال عدل‪ ،‬والسالم عليكم ورحمة اهلل»‬
‫ت َعلَْي ُك ْم‬‫ت لَ ُك ْم ِد َين ُك ْم َوَأتْ َم ْم ُ‬ ‫وفي هذا اليوم َّ‬
‫امتن اهلل على المؤمنين بقوله في سورة المائدة‪{ :‬اْلَي ْو َم َأ ْك َمْل ُ‬
‫األسالَ َم ِديناً} (المائدة‪ )3 :‬فال غرابة أن اتخذه المسلمون عيداً‪ ،‬ويوماً سعيداً‪،‬‬ ‫يت لَ ُك ُم ْ‬
‫ض ُ‬‫نِعمتِى ور ِ‬
‫َْ ََ‬
‫أدى مناسك الحج من‬ ‫ُيظهرون فيه شكر اهلل على هذه النعمة الكبرى‪ .‬ثم إنه عليه الصالة والسالم َّ‬
‫رمي الجمار‪ ،‬والنحر‪ ،‬والحلق‪ ،‬والطواف‪ .‬وبعد أن أقام بمكة عشرة أيام قََف َل إلى المدينة ولما رآها‬
‫المْلك وله الحمد وهو على كل شيء قدير‪،‬‬
‫كبَّر ثالثاً وقال‪« :‬ال إله إالّ اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬له ُ‬
‫آيبون‪ ،‬تائبون‪ ،‬عابدون‪ ،‬ساجدون‪ ،‬لربنا حامدون‪ ،‬صدق اهلل وعده‪ ،‬ونصر عبده‪ ،‬وهزم األحزاب‬
‫وحده»‪.‬‬
‫الوفود‬
‫في هذه السنة والتي قبلها كان ُوفود العرب إلى رسول اهلل ليبايعوه على اإلسالم‪ ،‬وكانوا َي ْق ُدمون‬
‫أفواجاً‪ ،‬ولما في أخبار هذه الوفود من التعاليم الحميدة التي يحتاج ذو األدب أن يعرفها‪ ،‬رأينا أن نذكر‬
‫وينير بصيرتك فنقول‪:‬ـ‬
‫لك منها ما يزيدك يقيناً ُ‬
‫وفود َن ْجران‬
‫ومن الوفود وفد نصارى نجران‪ ،‬وكانوا ستين راكباً‪ ،‬دخلوا المسجد وعليهم ثياب ِ‬
‫الحَب َر ِة وأردية‬
‫وح جاؤوا بها هدية للنبي صلى اهلل عليه‬
‫وم ُس ٌ‬
‫الحرير‪ ،‬مختمين بالذهب‪ ،‬ومعهم بسط فيها تماثيل‪ُ ،‬‬
‫الم ُسوح‪ .‬ولما جاء وقت صالتهم صلّوا في المسجد مستقبلين بيت‬
‫وسلم‪ ،‬فلم يقبل البسط وقبل ُ‬
‫المقدس‪.‬‬

‫كنا مسلمين قبلكم‪ ،‬فقال عليه‬


‫ولما أتموا صالتهم دعاهم عليه الصالة والسالم لإلسالم فأبوا وقالوا‪ّ :‬‬
‫الصالة والسالم‪« :‬يمنعكم من اإلسالم ثالث‪ :‬عبادتكم الصليب‪ ،‬وأكلكم لحم الخنزير‪ ،‬وزعمكم أن هلل‬
‫ولداً»‪ ،‬قالوا‪ :‬فمن مثل عيسى خلق من غير أب؟ فأنزل اهلل في ذلك في سورة آل عمران‪ِ{ :‬إ َّن َمثَ َل‬
‫يه ِمن َب ْع ِد َما َج َ‬
‫آءك‬ ‫َّك ِف ِ‬‫ون(‪ )59‬فَ َم ْن َحآج َ‬ ‫ال لَهُ ُكن فََي ُك ُ‬ ‫ءادم َخلَقَهُ ِمن تُر ٍ‬
‫اب ثَُّم قَ َ‬ ‫َ‬
‫ِعيسى ِع َ َّ ِ ِ‬
‫ند الله َك َمثَل َ َ‬ ‫َ‬
‫ت اللَّ ِه‬ ‫آءنا َونِ َسآء ُك ْم َوَأنفُ َسَنا وَأنفُ َس ُك ْم ثَُّم َن ْبتَ ِه ْل فََن ْج َعل لَّ ْعَن ُ‬ ‫ِم َن اْل ِعْلِم فَ ُق ْل تَ َعالَ ْوْا َن ْدعُ َْأبَن َ‬
‫آءنا َو َْأبَنآء ُك ْم َونِ َس َ‬
‫ِ‬
‫ين(‪)61‬‬ ‫َعلَى اْل َكاذبِ َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وفود ِ‬
‫ض َمامبن ثعلبة‬
‫ومن الوفود ضمامبن ثعلبة‪ ،‬بينما رسول اهلل بين أصحابه متكئاً جاء رجل من أهل البادية‪ ،‬ثائر‬
‫ابن عبد المطلب؟‬
‫الرأس‪ُ ،‬يسمع دوي صوته‪ ،‬وال ُي ْفقَه ما يقول‪ ،‬فأناخ جمله في المسجد‪ ،‬ثم قال‪ّ :‬أيكم ُ‬
‫«س ْل‬
‫علي في نفسك‪ .‬فقال‪َ :‬‬ ‫ِ‬
‫فمشد ٌد عليك في المسألة‪ ،‬فال تَج ْد ّ‬
‫ّ‬ ‫فدلّوه عليه‪ ،‬فدنا منه وقال‪ :‬إني سائلُ َك‬
‫أرسلك إلى الناس كلِّهم؟ فقال‪« :‬نعم»‪ ،‬فقال‪َْ :‬أن ُش ُد َك باهلل‪ ،‬آهلل‬
‫ما بدا لك»‪ ،‬فقال‪َْ :‬أن ُش ُدك باهلل‪ ،‬آهلل َ‬
‫«اللهم نعم»‪ ،‬فقال‪َْ :‬أن ُش ُد َك باهلل‪ ،‬آهلل أمرك أن‬
‫ّ‬ ‫خمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال‪:‬‬ ‫أمرك أن نصلّي َ‬
‫«اللهم نعم»‪ ،‬فقال‪َْ :‬أن ُش ُد َك باهلل‪ ،‬آهلل أمرك أن َّ‬
‫نحج‬ ‫ّ‬ ‫تأخذ من أموال أغنيائنا َّ‬
‫فترده على فقرائنا؟ قال‪:‬‬
‫امبن‬ ‫ِ‬
‫وصدقت وأنا ض َم ُ‬
‫ُ‬ ‫آمنت‬
‫ُ‬ ‫«اللهم نعم»‪ ،‬قال‪ :‬فإني قد‬
‫ّ‬ ‫هذا البيت من استطاع إليه سبيالً؟ قال‪:‬‬
‫ثعلبة‪.‬‬
‫ولما ولَّى‪ ،‬قال عليه الصالة والسالم‪« :‬فَقُهَ الرجل»‪ ،‬ثم ذهب ضمام إلى قومه‪ ،‬ودعاهم إلى اإلسالم‪،‬‬
‫ِ‬
‫وترك عبادة األوثان فأسلموا كلهم‪.‬‬

‫وفود عبد القيس‬

‫ومن الوفود عبد القيس‪ ،‬وكان من خبرهم أن الرسول كان جالساً بين أصحابه يوماً‪ ،‬فقال لهم‪:‬‬
‫أنضوا الركائب‪،‬‬
‫ركب هم خير أهل المشرق‪ ،‬لم ُيكرهوا على اإلسالم‪ ،‬قد َ‬
‫«سيطلع عليكم من هنا ٌ‬
‫اللهم اغفر لعبد القيس»‪ .‬فلما أتوا ورأوا النبي صلى اهلل عليه وسلم َر َموا بأنفسهم عن‬
‫وأفنوا الزاد‪ّ ،‬‬
‫الركائب بباب المسجد‪ ،‬وتبادروا إلى رسول اهلل‪ ،‬يسلمون عليه‪ ،‬وكان فيهم عبد اللهبن عوف اَأل َش ّج‪،‬‬
‫ف عند الركائب حتى أناخها وجمع المتاع‪ ،‬وأخرج ثوبين أبيضين فلبسهما‪،‬‬ ‫سناً‪ ،‬فتخلَّ َ‬
‫وكان أصغرهم َّ‬
‫ثم جاء يمشي َه ْوناً حتى سلَّم على رسول اهلل‪ ،‬وكان رجالً دميماً‪ ،‬فَفَ ِطن لنظر الرسول إلى َد َمامته‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسول اهلل إنه ال ُيستقى في مسوك ـ ـ أي‪ :‬جلود ـ ـ الرجال‪ ،‬وإ نما الرجل بأصغريه‪ :‬قلبه‬
‫ولسانه‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن فيك خلتين يحبُّهما اهلل ورسوله‪ِ :‬‬
‫الحلم واألناة»‪ v.‬وقد قال‬
‫صلى اهلل عليه وسلم لهذا الوفد‪« :‬مرحباً بالقوم غير خزايا وال ندامى»‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل ّإنا نأتيك‬
‫الحي من كفار ُمضر‪ ،‬وإ ّنا ال نص ُل إالّ في شهر حرام‪،‬‬ ‫َّ ٍ‬
‫من ُشقة بعيدة‪ ،‬وإ نه يحول بيننا وبينك هذا ّ‬
‫فمرنا ٍ‬
‫بأمر فصل‪ ،‬فقال‪« :‬آمركم باإليمان باهلل‪ .‬أتدرون ما اإليمان باهلل؟ شهادة أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأن‬ ‫ُ‬
‫محمداً رسول اهلل‪ ،‬وإ قام الصالة‪ ،‬وإ يتاء الزكاة‪ ،‬وصوم رمضان‪ ،‬وأن تُعطوا من المغنم الخمس‪،‬‬
‫والنِقير‪ ،‬والمزفَّت» والمراد بذلك‪ :‬ما ينبذ في هذه األواني‪ .‬فقال األشج‪:‬‬
‫والحنتَِم‪َّ ،‬‬ ‫وأنهاكم عن ُّ‬
‫الدبَّاء‪َ ،‬‬
‫يا رسول اهلل إن أرضنا ثقيلة وخمة‪ ،‬وإ نا إذا لم نشرب هذه األشربة عظمت بطوننا‪ ،‬فََر ِّخص لنا في‬
‫رخصت لك في مثل‬
‫ُ‬ ‫مثل هذه‪ ،‬وأشار إلى يده‪ ،‬فأومأ عليه الصالة والسالم بكفّيه‪ ،‬وقال‪« :‬يا أشج إن‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫هذه شربته في مثل هذه ـ ـ وفرج بين يديه وبسطه ـ ـ حتى إذا ثَ ِم َل أحدكم من شرابه قام إلى ابن عمه‬
‫ص عليه الصالة والسالم نهيهم بما ذكر لكثرة األشربة‬
‫فضرب ساقه بالسيف»‪ .‬وإ نما َخ َّ‬
‫َ‬

‫بينهم‪.‬‬
‫وفود بني َحنيفة‬
‫ومن الوفود بنو حنيفة وكان معهم ُم َسيلمة الكذاب‪ ،‬وكان مسيلمة يقول‪:‬ـ إن جعل لي األمر من بعده‬
‫اتبعته‪ ،‬فأقبل عليه الصالة والسالم ومعه ثابتبن قَْيسبن َش َّماس‪ ،‬وفي يد رسول اهلل قطعة من جريد‬
‫«إن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها‪ ،‬وإ ني ُألراك الذي‬
‫حتى وقف على مسيلمة في أصحابه‪ ،‬فقال‪ْ :‬‬
‫فأهمه‬
‫منه رأيت»‪ .‬وكان عليه الصالة والسالم قد رأى في منامه أن في يده سوارين من ذهب‪َّ ،‬‬
‫كذاب ْين يخرجان من‬
‫فأولهما صلى اهلل عليه وسلم َ‬
‫شأنهما‪ ،‬فأوحى اهلل إليه أن انفخهما فنفخهما فطارا‪ّ ،‬‬
‫بعده‪ ،‬فكان مسيلمة أحدهما‪ ،‬والثاني‪ :‬األسود العنسي صاحب صنعاء‪ .‬وقد أسلم بنو حنيفة‪.‬‬

‫طيِّىء‬
‫وفود َ‬
‫كر‬
‫ومن الوفود وفد طيِّىء‪ ،‬وفيهم زيد الخيل رئيسهم‪ ،‬وقد قال صلى اهلل عليه وسلم في حقه‪« :‬ما ُذ َ‬
‫وسماه صلى اهلل عليه وسلم زيد الخير‪.‬‬
‫لي رجل من العرب إال رأيته دون ما قيل فيه إال زيد الخيل» ّ‬
‫وفود ِك ْندة‬
‫وكان وجيهاً مطاعاً في قومه‪ .‬ولما دخلوا على رسول اهلل‬
‫ومنهم وفد كندة وفيهم األشعثبن قيس‪َ ،‬‬
‫عما َخبأناه لك؟ فقال‪« :‬سبحان اهلل إنما يفعل ذلك بالكاهن‪ ،‬وإ َّن الكاهن‬
‫خبأوا له شيئاً‪ ،‬وقالوا‪ :‬أخبرنا ّ‬
‫علي كتاباً ال يأتيه الباطل من بين يديه وال‬ ‫والمتكهن في النار»‪ .‬ثم قال‪« :‬إن اهلل بعثني بالحق‪ ،‬وأنزل ّ‬
‫الزج ِ‬
‫رات َز ْجراً(‪)2‬‬ ‫صفَّا(‪ )1‬فَ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫من خلفه»‪ ،‬فقالوا‪ :‬أسمعنا منه‪ ،‬فتال عليه الصالة والسالم‪َ :‬والصَّافات َ‬
‫ق(‪َ )5‬ولَِئن‬‫ب اْل َم َش ِار ِ‬ ‫ال ْر ِ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما َو َر ُّ‬ ‫ب السَّم ِ‬
‫اوات َوا ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِإ‬
‫فَالتالَيات ذ ْكراً(‪َّ )3‬ن اله ُك ْم لَ َواح ٌد(‪َّ )4‬ر ُّ َ‬
‫َّ ِ ِ ِ‬
‫َّ‬
‫ان‬ ‫ِشْئ َنا لََن ْذ َهَب َّن بِالَِّذى َْأو َح ْيَنا ِإلَْي َك ثَُّم الَ تَ ِج ُد لَ َك بِ ِه َعلَْيَنا َو ِكيالً(‪ِ )86‬إال َر ْح َمةً ّمن َّرّب َك ِإ َّن فَ ْ‬
‫ضلَهُ َك َ‬
‫َعلَْي َك َكبِ ًيرا(‪)87‬‬

‫شنوءة‬
‫َ‬ ‫وفود َْأز ِد‬

‫وأمره عليهم‪ ،‬وأمره بأن يجاهد‬


‫ص َر ُدبن عبد اهلل األزدي‪ ،‬فأسلموا َّ‬
‫ومنهم وفد أزد شنوءة‪ ،‬ورئيسهم ُ‬
‫بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك‪.‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وفود رسول ملوك ِح ْمَير‬


‫ومنهم وفد رسول ملوك حمير وهم‪ :‬الحارثبن عبد ُكالل‪ ،‬ونعيمبن عبد ُكالل‪ُّ ،‬‬
‫والنعمان قَْي ُل ذي‬
‫وه ْمدان‪ ،‬وكانوا قد أسلموا وأرسلوا رسولهم بذلك فكتب إليهم النبي صلى اهلل عليه‬ ‫ِ‬
‫وم َعاف َر‪َ ،‬‬
‫ُرعين‪َ ،‬‬
‫وسلم‪.‬‬

‫كتاب ملوك ِح ْمَير‬

‫بسم اهلل الرحمان الرحيم‪ ،‬من محمد رسول اهلل‪ ،‬إلى الحارثبن عبد ُكالل وإ لى ُنعيمبن عبد ُكالل‪ ،‬وإ لى‬
‫وه ْمدان‪ .‬أما بعد‪ :‬فإني أحمد اهلل إليكم الذي ال إله إال هو‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫ومعافر‪َ ،‬‬ ‫ِ‬
‫النعمان قَيل ذي ُر َع ْين‪َ ،‬‬
‫فإنه قد وقع بنا رسولكم مقفلنا من أرض الروم‪ ،‬فلقيناه بالمدينة فبلَّغ ما أرسلتم به‪ ،‬وخبَّر ما قبلكم‪،‬‬
‫وأنبأنا بإسالمكم‪ ،‬وقتلكم المشركين‪ ،‬وأن اهلل قد هداكم بهداه‪ ،‬إن أصلحتم وأطعتم اهلل ورسوله‪ ،‬وأقمتم‬
‫وصِفيَّهُ‪ ،‬وما ُكتب على المؤمنين‬
‫وسهم النبي َ‬
‫َ‬ ‫الصالة‪ ،‬وآتيتم الزكاة‪ ،‬وأعطيتم من الغنائم ُخ ُمس اهلل‪،‬‬
‫من الصَّدقة‪ .‬أما بعد‪ :‬فإن محمداً النبي أرسل إلى ُز ْر َعةَبن ذي يزن إذا أتاكم ُر ُسلي فأوصيكم بهم‬
‫وعقبةبن نمر‪ ،‬ومالكبن ُم ّرة وأصحابهم‪ ،‬وأن‬
‫خيراً‪ُ :‬معاذبن جبل‪ ،‬وعبد اللهبن زيد‪ ،‬ومالكبن ُعبادة‪ُ ،‬‬
‫رسلي‪ ،‬وإ ن أميرهم معا ُذبن جبل فال‬ ‫اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخاليفكم‪ ،‬وأبلغوها ُ‬
‫ِ‬
‫َي َنقلَب َّن إال راضياً‪ ،‬أما بعد‪ :‬فإن محمداً يشهد أن ال إله إالّ اهلل وأنه عبده ورسوله‪ ،‬ثم إن مالكبن ّ‬
‫مرة‬
‫حدثني أنك قد أسلمت من أول ِحمير‪ ،‬وقتلت المشركين‪ ،‬فأبشر بخير وآمرك ِ‬
‫بح ْمَير‬ ‫الرهاوي قد ّ‬ ‫َّ‬
‫َْ‬ ‫ّ‬
‫خيراً‪ ،‬وال تخونوا وال تخاذلوا‪ ،‬فإن رسول اهلل هو مولى غنيكم وفقيركم‪ ،‬وإ ن الصدقة ال تَ ِح ُّل لمحمد‬
‫وال أهل بيته‪ ،‬إنما هي زكاة ُي َزكى بها على فُقراء المسلمين وابن السبيل‪ ،‬وإ ن مالكاً قد بلَّغ الخبر‪،‬‬
‫الغيب‪ ،‬وآمركم به خيراً‪ ،‬والسالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وحفظ َ‬

‫وفود َه ْمدان‬
‫ومنها وفد َه ْمدان‪ ،‬وفيهم مالكبن َن َمط‪ ،‬وكان شاعراً مجيداً‪ ،‬فلقوا رسول اهلل َم ْر ِج َعهُ من تبوك‪ ،‬عليهم‬
‫الحَبرات اليمنية‪ ،‬والعمائم العدنية‪ ،‬وقد أنشد مالك لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬ ‫مقَطَّعات من ِ‬
‫ُ َ‬

‫ص َّدقٌرسو ٌل أتى‬ ‫َ ِ‬ ‫ضب قَ ْر َد ِدبَأن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫رسول اهلل فينا ُم َ‬ ‫بالركبان من َه ْ‬ ‫وادر‬
‫ىص َ‬‫برب الراقصات إلى مًن َ‬
‫حلفت ّ‬
‫ُ‬
‫أمره صلى اهلل‬ ‫ِ‬
‫محمد وقد َّ‬ ‫رحلهاأشد على أعداِئ ِه من‬‫َّ‬ ‫فوق‬ ‫حملت من ٍ‬
‫ناقة َ‬ ‫ْ‬ ‫من عند ذي العرش ِ‬
‫مهتدفما‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫الحي َه ْم َدان‪ ،‬ما أسرعها‬


‫عليه وسلم على من أسلم من قومه‪ ،‬وقد قال الرسول في حق َه ْمدان‪« :‬نعم ّ‬
‫إلى النصر وأصبرها على الجهد‪ ،‬وفيهم أبدال وفيهم أوتاد»‪.‬‬
‫وفود تُ ِج ْيب‬
‫جيب‪ ،‬قبيلة من ِك ْندة‪ ،‬وفد على رسول اهلل ثالثة عشر رجالً منهم‪ ،‬ومعهم صدقات أموالهم‬
‫ومنها وفد تُ ْ‬
‫فس ّر بهم عليه الصالة والسالم وأكرم مثواهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬يا رسول اهلل ّإنا ُس ْقَنا‬
‫التي فرض اهلل عليهم‪ُ ،‬‬
‫«ردوها فاقسموها على فقرائكم»‪ .‬فقالوا‪ :‬يا‬
‫إليك حق اهلل في أموالنا‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪ّ :‬‬
‫رسول اهلل ما قدمنا عليك إال بما فضل عن فقرائنا‪ ،‬قال أبو بكر‪ :‬يا رسول اهلل ما قدم علينا من وفد‬
‫من العرب مثل هذا‪ .‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬إن الهدى بيد اهلل‪ ،‬فمن أراد به خيراً شرح صدره‬
‫لإليمان»‪ ،‬وجعلوا يسألونه عن القرآن‪ ،‬فازداد صلى اهلل عليه وسلم رغبة فيهم‪ ،‬ثم أرادوا الرجوع‬
‫إلى أهليهم فقيل لهم‪ :‬ما يعجلكم؟ قالوا‪ :‬نرجع إلى َم ْن وراءنا فنخبرهم برؤية رسول اهلل ولقائنا ّإياه‬
‫رد علينا‪ ،‬ثم جاؤوا إلى رسول اهلل فودعوه‪ ،‬فأجازهم بأفضل ما كان ُيجيز به الوفود‪ ،‬ثم قال لهم‪:‬‬ ‫وما ّ‬
‫«هل بقي منكم أحد؟» قالوا‪ُ :‬غالم َخلّ ْفناه في رحالنا وهو أحدثنا ِسّناً‪ ،‬قال‪« :‬فأرسلوه إلينا» فأرسلوه‪،‬‬
‫ِ‬
‫فاقض حاجتي‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫فأقبل الغالم‪ ،‬وقال‪ :‬يا رسول اهلل أنا من الرهط الذين أتوك آنفاً فقضيت حاجتهم‬
‫ويجعل غناي في قلبي‪ .‬فقال عليه الصالة‬
‫َ‬ ‫يغفر لي ويرحمني‬
‫«وما حاجتك؟» قال‪ :‬تسأل اهلل أن َ‬
‫«اللهم اغفر له‪ ،‬وارحمه‪ ،‬واجعل غناه في قلبه»‪ ،‬ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من‬
‫ّ‬ ‫والسالم‪:‬‬
‫أصحابه‪.‬‬
‫وفود ثعلبة‬

‫مقرين باإلسالم‪ ،‬فسلَّموا عليه وقالوا‪ :‬يا رسول اهلل‬


‫ومنها وفد ثَ ْعلَبة‪ ،‬وفد على رسول اهلل أربعة منهم ّ‬
‫مقرون باإلسالم‪ ،‬وقد قيل لنا‪ :‬إنك تقول‪ :‬ال إسالم لمن ال هجرة‬
‫ّإنا ُرسل َم ْن خلفنا من قومنا ونحن ُّ‬
‫له‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬حيثما كنتم واتَّقَْيتُم اهلل فال َي ُ‬
‫ض ُّركم»‪ ،‬ثم قال لهم‪« :‬كيف بالدكم؟»‬
‫فقالوا‪ :‬مخصبون‪ ،‬فقال‪« :‬الحمد هلل»‪ .‬ثم أقاموا في ضيافته أياماً‪ ،‬وحين إرادتهم االنصراف أجاز كل‬
‫واحد منهم بخمس أواق من فضة‪.‬‬

‫وفود بني سعدبن ُه َذيم‬


‫ضاعةَ‪ ،‬قال النعمان منهم‪ِ :‬قدمت على رسول اهلل وافداً في نفر من‬
‫ومنها وفد بني سعدبن هذيم من قُ َ‬
‫قومي‪ ،‬وقد أوطأ رسول اهلل البالد‪ ،‬وأزاح العرب‪ ،‬والناس صنفان‪ :‬إما داخل في اإلسالم راغب فيه‪،‬‬
‫وإ ما خائف السيف‪ ،‬فنزلنا ناحية من المدينة‪ ،‬ثم خرجنا َنُؤ ُّم المسجد حتى انتهينا إلى بابه‪ ،‬فوجدنا‬
‫رسول اهلل يصلي على َجنازة في المسجد‪ ،‬فقمنا خلفه ناحية‪ ،‬ولم ندخل مع الناس في صالتهم‪ ،‬وقلنا‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫«ممن أنتم؟» فقلنا‬


‫ونبايعه‪ .‬ثم انصرف رسول اهلل فنظر إلينا فدعا بنا فقال‪ّ :‬‬ ‫حتى يصلي رسول اهلل ُ‬
‫«هالَّ صلّيتم على أخيكم؟» قلنا‪ :‬يا‬
‫من بني سعدبن هذيم‪ ،‬فقال‪« :‬أمسلمون أنتم؟» قلنا‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫رسول اهلل ظننا أن ذلك ال يجوز حتى نبايعك‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬أينما أسلمتم فأنتم‬
‫مسلمون»‪ .‬قال‪ :‬فأسلمنا وبايعنا رسول اهلل بأيدينا‪ ،‬ثم انصرفنا إلى ِر َحالنا‪ ،‬وقد ُكَّنا َخلَّ ْفَنا عليها‬
‫أصغرنا فبعث عليه الصالة والسالم في طلبنا‪ ،‬فأتى بنا إليه فتقدم صاحبنا فبايعه صلى اهلل عليه وسلم‬
‫على اإلسالم‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا رسول اهلل إنه أصغرنا وإ نه خادمنا‪ ،‬فقال‪« :‬سيد القوم خادمهم‪ ،‬بارك اهلل‬
‫عليه»‪ .‬قال النعمان‪ :‬فكان خيرنا وأقرأنا للقرآن لدعاء النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬ثم أجازهم‬
‫وانصرفوا‪.‬‬
‫وفودبن فََزارة‬

‫مقرين باإلسالم وهم ُم ْسنِتون‪ ،‬فسألهم عليه‬


‫ومنها وفد بني فزارة‪ ،‬وفَ َد على رسول اهلل جماعة منهم ّ‬
‫وأجدب‬
‫َ‬ ‫بالدنا‪ ،‬وهلكت مواشينا‪،‬‬
‫ت ُ‬ ‫َأسَنتَ ْ‬
‫الصالة والسالم عن بالدهم‪ ،‬فقال رجل منهم‪ :‬يا رسول اهلل ْ‬
‫َجَن ُابنا‪ ،‬وجاعت عيالنا‪ .‬فادعُ لنا ربك ُيغثْنا‪ .‬واشفع لنا إلى ربك‪ ،‬وليشفع لنا ربك إليك‪ ،‬فقال عليه‬
‫الصالة والسالم‪« :‬سبحان اهلل ويلك هذا أنا أشفع إلى ربي‪ ،‬فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه؟ ال إله إال هو‬
‫كرسيه السموات واألرض‪ ،‬فهي تَِئطُّ من عظمته وجالله كما يئط َّ‬
‫الر ْحل‬ ‫ّ‬ ‫العلي العظيم‪ِ ،‬‬
‫وس َع‬ ‫ّ‬
‫عز وج ّل حتى أغاث‬ ‫الحديث»‪ .‬أي من ثقل الحمل‪ .‬ثم صعد عليه الصالة والسالم المنبر‪ ،‬ودعا اهلل ّ‬
‫بالد هذا الوفد بالمطر الغزير‪ ،‬والرحمة التامة‪.‬‬
‫َأسد‬
‫وفود بني َ‬
‫النبوة بعد ذلك‪ ،‬فأسلموا‪،‬‬ ‫ومنها وفد بني أسد‪ ،‬وفيهم‪ِ :‬‬
‫ادعى ّ‬‫األزور وطُليحةبن خويلد الذي ّ‬
‫َ‬ ‫ض َر ُاربن‬
‫نتدرع الليل البهيم في سنة شهباء ولم تبعث إلينا بعثاً‪ ،‬فأنزل اهلل في ذلك‪:‬‬ ‫وقالوا‪ :‬يا رسول اهلل أتيناك َّ‬
‫َأن َهدا ُك ْم ِل ْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ان ِإ ُن ُكنتُ ْم‬
‫يم ِ‬
‫ال َ‬ ‫َأسلَ ُموْا ُقل ال تَ ُمُّنوْا َعلَ َّى ِإ ْساَل َم ُك ْم َب ِل اللهُ َي ُم ُّن َعلَْي ُك ْم ْ‬
‫َأن ْ‬ ‫َي ُمُّن َ‬
‫ون َعلَْي َك ْ‬
‫ين(‪)17‬‬ ‫ِِ‬
‫صادق َ‬‫َ‬

‫وفود بني ُع ْذ َرة‬


‫خوالن ـ ـ وهي قبائل باليمن ـ ـ وقد أمرهم‬ ‫ِ‬
‫ومنها وفد بني عذرة‪ ،‬ووفد بني َبل ّي‪ ،‬ووفد بني ُم َّرة‪ ،‬ووفد ْ‬
‫عليه الصالة والسالم بالوفاء بالعهد وأداء األمانة‪ ،‬وحسن الجوار لمن جاوروا‪ ،‬وأن ال يظلموا أحداً‬
‫ظلمات يوم القيامة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫الظلم‬
‫َ‬ ‫فإن‬

‫وفود بني ُمحارب‬


‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫الذين ُّ‬
‫ردوا الرد القبيح حينما كان رسول اهلل بعكاظ يدعو القبائل‬ ‫ومنها وفد بني محارب‪ ،‬وكانوا من َ‬
‫ألد األعداء ـ ـ مسلمين ُمنقادين‬
‫منة اهلل الذي أتى بهؤالء ـ ـ وكانوا ّ‬
‫إلى اهلل‪ ،‬فما أعظم ّ‬

‫وفود َغسَّان‬
‫ومنها وفد غسان‪ ،‬ووفد بني َع ْبس‪ ،‬ووفد النخع‪.‬‬

‫ويجيزهم‬
‫وكان عليه الصالة والسالم يقابل هذه الوفود بما َجَبلَهُ اهلل عليه من البشاشة‪ ،‬وكرم األخالق‪ُ ،‬‬
‫بما يرضيهم‪ ،‬ويعلمهم اإليمان والشرائع‪ ،‬ليعلِّ ُموا من وراءهم‪ ،‬وكانت هذه الوفود أعظم وصلة‬
‫إلظهار الدين بين األعراب في البوادي‪.‬‬
‫وفاة إبراهيم ابن النبي عليه الصالة والسالم‬
‫وفي هذه السنة توفي إبراهيم ابن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫السََّنة الحادية عشرة‬
‫سرية‬
‫بقين من صفر‪ ،‬جهز عليه الصالة والسالم جيشاً برياسة ُأسامةبن زيد إلى ُْأبنى حيث قتل‬
‫ألربع َ‬
‫زيدبن حارثة‪ ،‬والد ُأسامة‪ ،‬وقال له‪« :‬سر إلى موضع قتل أبيك‪ ،‬فأوطئهم الخيل‪ ،‬فقد ولّيتك هذا‬
‫وحرق عليهم‪ ،‬وأسرع السير لتسبق األخبار‪ ،‬فإن أظفرك اهلل‬ ‫الجيش‪ِ ،‬‬
‫فَأغ ْر صباحاً على أهل ُْأبنى‪ِّ ،‬‬
‫وقدم العيون والطالئع معك»‪ .‬وكان مع ُأسامة في هذا الجيش كبار‬‫فأقل اللبث فيهم‪ ،‬وخذ األدالَّء‪ِّ ،‬‬
‫َّ‬
‫المهاجرين واألنصار منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد‪.‬‬
‫«اغز باسم اهلل‪ ،‬في سبيل اهلل‪ ،‬وقاتل من كفر‬
‫ُ‬ ‫ثم عقد عليه الصالة والسالم ُألسامة اللواء‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫باهلل»‪.‬‬
‫وقد انتقد جماعة على تأمير ُأسامة وهو شاب لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره على جيش فيه كبار‬
‫المهاجرين‪ ،‬فُأبلغ الرسول هذه المقالة فغضب غضباً شديداً‪ ،‬وخرج‪ ،‬فقال‪« :‬أما بعد‪ّ ،‬أيها الناس فما‬
‫مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري ُأسامة؟ ولئن طعنتم في تأميري ُأسامة لقد طعنتم في تأميري أباه‬
‫أحب الناس‬
‫لخليق بها‪ ،‬وإ ن كان لمن ّ‬
‫ٌ‬ ‫وايم اهلل إنه كان لخليقاً باِإل مارة‪ ،‬وان ابنه من بعده‬
‫من قبله‪ُ ،‬‬
‫لمظنة لكل خير‪ ،‬فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم»‪.‬‬
‫إلي‪ ،‬وإ نهما ّ‬
‫َّ‬
‫ولم يتم لهذا الجيش الخروج في عهد المصطفى صلى اهلل عليه وسلم ألن المرض بدأة فاختاره اهلل‬
‫متمماً في كتابنا «إتمام الوفاء بسيرة‬
‫للرفيق األعلى‪ .‬وسيرى القارىء إن شاء اهلل خروج هذا الجيش ّ‬
‫الخلفاء»‪.‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫مرض الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫تمم عليه الصالة والسالم ما ُكلِّ َ‬


‫ف به‪ ،‬وأدى ما اؤتمن عليه‪ ،‬وهدى اهلل به أمته‪ ،‬اختاره اهلل للرفيق‬ ‫لما ّ‬
‫َأن يؤتيه زهرة الدنيا وبين‬
‫األعلى‪ ،‬فجلس على المنبر مرة‪ ،‬وكان فيما قال‪« :‬إن عبداً خيَّره اهلل بين ْ‬
‫ما عنده‪ ،‬فاختار ما عنده»‪ .‬فبكى أبو بكر‪ ،‬وقال‪ :‬يا رسول اهلل فديناك بآبائنا وأمهاتنا‪ ،‬فقال عليه‬
‫التخذت أبا‬ ‫كنت متخذاً خليالً‬
‫علي في صحبته وماله أبو بكر‪ ،‬لو ُ‬ ‫الصالة والسالم‪« :‬إن َ َّ‬
‫ُ‬ ‫أمن الناس ّ‬
‫بكر‪ ،‬ولكن ُأخوة اإلسالم‪ ،‬ال يبقى في المسجد َخوخة إال ُس َّدت إال َخ ْوخة أبي بكر»‪.‬‬
‫صفَر من السنة الحادية عشرة من الهجرة في بيت‬
‫مرضه في أواخر َ‬
‫ُ‬ ‫وقد بدأه عليه الصالة والسالم‬
‫ميمونة‪ ،‬واستمر مريضاً ثالثة عشر يوماً‪ ،‬كان في خاللها ينتقل إلى بيوت أزواجه‪ ،‬ولما اشتد عليه‬
‫الصديقة ِ‬
‫فَأذ َّن له‪ ،‬ولما دخل بيتها واشتد عليه‬ ‫ض في بيت عائشة‬
‫ّ‬ ‫منهن أن ُي َم َّر َ‬
‫المرض استأذن ّ‬
‫«هريقوا علي من سبع ِق َرب لم تُ ْحلَ ْل أوكيتُهُ ّن لعلّي أعهد إلى الناس»‪ .‬فُأجلس في‬ ‫وجعه‪ ،‬قال‪َ :‬‬
‫وصب عليه الماء حتى أشار بيده أن قد فعلتن‪ ،‬وكان هذا الماء لتخفيف حرارة الحمى التي‬ ‫خضب‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫م َ‬
‫كانت تصيب َمن يضع يده فوق ثيابه‪.‬‬

‫صالة أبي بكر بالناس‬

‫ِّ‬
‫فليصل بالناس» فرضيه عليه الصالة‬ ‫«مروا أبا بكر‬ ‫َّ‬
‫ولما تعذر عليه الخروج إلى الصالة قال‪ُ :‬‬
‫فدخل العباس‪،‬‬
‫َ‬ ‫اشتداد وجع الرسول طافوا بالمسجد‪،‬‬
‫َ‬ ‫األنصار‬
‫ُ‬ ‫والسالم خليفةً له في حياته‪ .‬ولما رأت‬
‫علي والفضل‪ ،‬وتقدم العباس‬‫وأعلمه بمكانهم وإ شفاقهم‪ ،‬فخرج صلى اهلل عليه وسلم متوكئاً على ّ‬
‫معصوب الرأس َي ُخطُّ برجليه‪ ،‬حتى جلس في أسفل ِمرقاة المنبر‪ ،‬وثار الناس إليه‬
‫ُـ‬ ‫أمامهم والنبي‬
‫نبيكم‪ ،‬هل خلد نبي قبلي‬
‫فحمد اهلل‪ ،‬وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪« :‬أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت ّ‬
‫فيمن بعث اهلل فَُأخلَّد فيكم؟ أال إني الحق بربي‪ ،‬وإ نكم الحقون بي‪ ،‬فأوصيكم بالمهاجرين األولين‬
‫خيراً‪ ،‬وأوصيـ المهاجرين فيما بينهم‪ ،‬فإن اهلل تعالى يقول‪:‬ـ واْلعص ِر(‪ِ )1‬إ َّن اِإل نسان لَِفى ُخس ٍر(‪ِ )2‬إالَّ‬
‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫َّب ِر(‪ )3‬فَهَ ْل َع َس ْيتُ ْم ِإن تََولَّْيتُ ْم َأن‬
‫اص ْوْا بِالص ْ‬ ‫اص ْوْا بِاْل َح ّ‬
‫ق َوتََو َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ءامُنوْا َو َعملُوْا الصَّال َحات َوتََو َ‬
‫ين َ‬ ‫الذ َ‬
‫َِّ‬
‫ام ُك ْم(‪)22‬‬
‫ض َوتُقَطّ ُعوْا َْأر َح َ‬ ‫تُ ْف ِس ُدوْا ِفى ا ْ‬
‫ال ْر ِ‬
‫وبينما المسلمون في صالة الفجر‪ ،‬من يوم االثنين ثالث عشر ربيع األول‪ ،‬وأبو بكر يصلي بهم‪ ،‬إذا‬
‫ف حجرة عائشة‪ ،‬فنظر إليهم وهم في صفوف الصالة‪،‬‬ ‫برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد كشف ِس ْج َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ليصل الص َّ‬


‫َّف‪ ،‬وظن أن رسول اهلل يريد‬ ‫َ‬ ‫ثم تبسم يضحك‪ ،‬فنكص أبو بكر رضي اهلل عنه على عقبه‬
‫وهم المسلمون أن يفتتنوا في صالتهم فرحاً برسول اهلل‪ ،‬فأشار إليهم بيده‪ :‬أن‬
‫أن يخرج إلى الصالة‪ّ ،‬‬
‫أتّموا صالتكم‪ ،‬ثم دخل الحجرة وأرخى الستر‪.‬‬

‫وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولم تأت ضحوة هذا اليوم حتى فارق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم دنياه‪ ،‬ولحق بمواله‪ ،‬وكان ذلك‬
‫في يوم االثنين ‪ 13‬ربيع أول سنة ‪ 8( 11‬يونيو سنة ‪ )633‬فيكون عمره عليه الصالة والسالم ‪63‬‬
‫سنة قمرية كاملة‪ ،‬وثالثة أيام‪ ،‬وإ حدى وستين شمسية‪ ،‬وأربعة وثمانين يوماً‪ ،‬وكان أبو بكر غائباً‬
‫بالس ُّْنح ـ ـ وهي منازل بني الحارثبن الخزرج ـ ـ عند زوجه حبيبة بنت خارجةبن زيد‪َّ ،‬‬
‫فسل عمر سيفه‪،‬‬
‫فلبث عن قومه‬ ‫وتوعَّد َم ْن يقول‪:‬ـ مات رسول اهلل‪ ،‬وقال‪ :‬إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى‪َ ،‬‬
‫ٍ‬
‫رجال وأرجلَهم‪.‬‬ ‫أربعين ليلة‪ ،‬واهلل إني ألرجو أن يقَ ِّ‬
‫طع أيدي‬ ‫ُ‬
‫فلما أقبل أبو بكر وُأخبر الخبر دخل بيت عائشة‪ ،‬وكشف عن وجه رسول اهلل‪ ،‬فجثا ُيقَِّبلُه‪ ،‬ويبكي‪،‬‬
‫حياً وميتاً‪ ،‬بأبي أنت وأمي‬
‫ويقول‪ :‬توفي والذي نفسي بيده صلوات اهلل عليك يا رسول اهلل ما أطيبك ّ‬
‫فإن محمداً‬ ‫يعبد محمداً‪ّ ،‬‬ ‫ال يجمع اهلل عليك موتتين‪ .‬ثم خرج فحمد اهلل وأثنى عليه ثم قال‪ :‬أال من كان ُ‬
‫ت َوِإ َّنهُ ْم َّمّيتُ َ‬
‫ون(‪َ )30‬و َما‬ ‫حي ال يموت‪ ،‬وتال قوله تعالى‪ِ :‬إَّن َك َمّي ٌ‬ ‫قد مات ومن كان يعبد اهلل فإن اهلل ٌّ‬
‫ب َعلَى َعِقَب ْي ِه‬
‫َأعقَابِ ُك ْم َو َمن َي َنقِل ْ‬ ‫ات َْأو قُتِ َل َ‬
‫انقلَْبتُ ْم َعلَى ْ‬ ‫ُم َح َّم ٌد ِإالَّ َر ُسو ٌل قَ ْد َخلَ ْ‬
‫ت ِمن قَْبِل ِه ُّ‬
‫الر ُس ُل َأفِإ ْين َّم َ‬
‫َفلَن يض َّر اللَّه َش ْيئاً وسي ْج ِزى اللَّه َّ ِ‬
‫ين(‪)144‬‬ ‫الشاك ِر َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬

‫ثم مكث عليه الصالة والسالم في بيته بقية يوم االثنين‪ ،‬وليلة الثالثاء ويومه وليلة األربعاء‪ ،‬حتى‬
‫ود ِف َن‪ ،‬وكان الذي يغسله عليُّبن أبي طالب‪ ،‬ويساعده‬
‫ِّل ُ‬ ‫انتهى المسلمون من إقامة خليفة عليهم‪ ،‬فَ ُغس َ‬
‫العباس‪ ،‬وابناه الفضل َوقُثَم‪ ،‬وُأسامةبن زيد‪ ،‬و ُش ْقران مولى رسول اهلل‪ ،‬و ُكفِّ َن في ثالثة أثواب بيض‪،‬‬
‫ُ‬
‫ليس فيها قميص وال عمامة‪ .‬ولما فرغوا من تجهيزه ُوضع على سريره في بيته‪ ،‬ودخل الناس عليه‬
‫يؤمهم أحد‪ ،‬ثم ُحِف َر له لحد في حجرة عائشة حيث توفي‪ ،‬وأنزله‬ ‫صلون عليه‪ ،‬ولم ّ‬
‫أرساالً متتابعين ي ُّ‬
‫ُ َ‬
‫ورفع قبره عن األرض قدر شبر‪.‬‬ ‫ش قبره بالل بالماء‪ُ ،‬‬ ‫القبر علي والعباس وولداه الفضل َوقُثَم‪َ ،‬و َر َّ‬
‫َ‬
‫ّ‬
‫كتاب اهلل الذي‬
‫َ‬ ‫يضرهم شيء‪:‬‬
‫توفي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وترك للمسلمين ما إن اتبعوه لم ّ‬
‫ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه‪ ،‬تنزيل من حكيم حميد‪ ،‬وترك أصحابه البررة ِ‬
‫الكرام‪،‬‬
‫يتمم‬
‫ويظهرون في الدنيا شمس الدين اإلسالمي القويم‪ ،‬حتى ّ‬
‫ويتممون فتح البالد‪ُ ،‬‬ ‫ِّ‬
‫يوضحون الدين‪ّ ،‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫المنة العظمى‪،‬‬
‫يقدرنا على أداء شكره على هذه ّ‬
‫ويحق وعده‪ ،‬وقد فعل‪ ،‬فنسأل اهلل أن ّ‬
‫ّ‬ ‫اهلل كلمته‪،‬‬
‫والنعمة الكبرى‪.‬‬

‫شمائله عليه الصَّالة والسَّالم‬


‫ممن قبله أو‬
‫نبينا صلى اهلل عليه وسلم من كماالت الدنيا واآلخرة ما لم يمنحه غيره ّ‬
‫منح اهلل سبحانه ّ‬
‫بد أن نأتي لك في هذا الباب بنبذة يسيرة من محاسن صفاته‪ ،‬وأحاسن آدابه‪ ،‬لتكون لك‬
‫بعده‪ ،‬وال ّ‬
‫نبيك صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فتستحق الحمد في الدنيا والذخر‬
‫أنموذجاً تسير عليه‪ ،‬حتى تكون على قدم ّ‬
‫في األخرى‪.‬‬
‫فاعلم ـ ـ أرشدني اهلل وإ ياك‪ ،‬وهدانا للصراط السوي ـ ـ أن خصال الجالل والكمال في البشر نوعان‪:‬‬
‫ب إلى‬
‫ويقَِّر ُ‬
‫ومكتسب ديني‪ :‬وهو ما ُيحمد فاعله ُ‬
‫ٌ‬ ‫الجبلَّة‪ ،‬وضرورة الحياة‪،‬‬
‫ضروري دنيوي‪ :‬اقتضته ِ‬
‫اهلل زلفى‪.‬‬

‫فأما الضروري‪ :‬فما ليس للمرء فيه اختيار وال اكتساب مثل ما كان في جبلَّته عليه الصالة والسالم‬
‫الخْلقة‪ ،‬وجمال الصورة‪ ،‬وقوة العقل‪ ،‬وصحة الفهم‪ ،‬وفصاحة اللسان‪ ،‬وقوة الحواس‪،‬‬ ‫من كمال ِ‬
‫وعزة القوم‪ ،‬وكرم األرض‪ ،‬ويلحق به ما تدعو‬
‫واألعضاء‪ ،‬واعتدال الحركات‪ ،‬وشرف النسب‪ّ ،‬‬
‫ضرورة الحياة إليه من الغذاء والنوم والملبس والمسكن والمال والجاه‪.‬‬
‫العلية واآلداب الشرعية من الدين‪ ،‬والعلم‪ِ ،‬‬
‫والحلم‪ ،‬والصبر‪،‬‬ ‫أما المكتسبة األخروية‪ :‬فسائر األخالق ّ‬
‫والشكر‪ ،‬والعدل‪ ،‬والزهد‪ ،‬والتواضع‪ ،‬والعفو‪،‬ـ والعفّة‪ ،‬والجود‪ ،‬والشجاعة‪ ،‬والحياء‪ ،‬والمروءة‪،‬‬
‫وحسن األدب‪ ،‬والمعاشرة‪ ،‬وأخواتها وهي التي يجمعها ُحسن‬
‫والصمت‪ ،‬والتؤدة‪ ،‬والوقار‪ ،‬والرحمة‪ُ ،‬‬
‫الخلق‪.‬‬
‫ُ‬

‫فإذا نظرت ـ ـ رعاك اهلل ـ ـ إلى خصال الكمال التي هي غير مكتسبة‪ ،‬وفي جبلَّة ِ‬
‫الخلقة‪ ،‬وجدته عليه‬
‫الصالة والسالم حائزاً لجميعها‪ ،‬محيطاً بشتات محاسنها‪ .‬فأما الصورة وجمالها وتناسب أعضائه في‬
‫ُحسنها‪ ،‬فقد جاءت اآلثار الصحيحة والمشهورة الكثيرة بذلك من أنه صلى اهلل عليه وسلم كان‪ :‬أزهر‬
‫اللون‪ ،‬أدعج‪ ،‬أنجل‪ ،‬أش َكل‪ ،‬أهدب األشفار‪ ،‬أبلج أزج أقنى أفلج مدور الوجه واسع الجبين كث اللحية‬
‫العظام‪َ ،‬عْبل العضدين والذراعين‬‫تمأل صدره‪ ،‬سواء البطن عظيم الصدر‪ ،‬عظيم المنكبين‪ ،‬ضخم ِ‬
‫َ‬
‫المسربة‪َ ،‬ر ْبعة ِّ‬
‫القد‪ ،‬ليس‬ ‫المتَ َج َّرد‪ ،‬دقيق‬ ‫َّ‬
‫ُ‬ ‫أنور ُ‬
‫واألسافل‪َ ،‬ر ْحب الكفين والقدمين‪ ،‬سائل األطراف‪َ ،‬‬
‫ِّ‬
‫المتردد‪ ،‬ومع ذلك فلم يكن ُيماشيه أحد ينسب إلى الطول إال طالَه صلى‬ ‫بالطويل الباِئن‪ ،‬وال القصير‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫افتر ضاحكاً افتر عن مثل َسنا البرق‪ ،‬وعن مثل ِّ‬


‫حب الغمام‪ ،‬وإ ذا‬ ‫اهلل عليه وسلم‪َ ،‬ر ِجل الشعر‪ ،‬إذا َّ‬
‫ِ‬
‫متماسك البدن‪،‬‬ ‫طهٍَّم‪ ،‬وال ُم َكْلثٍَم‪،‬‬
‫يخرج من بين ثناياه‪ ،‬أحسن الناس ُعُنقاً‪ ،‬ليس بِ ُم َ‬ ‫تكلم ُرِئي ُّ‬
‫كالنور‬
‫ُ‬
‫رسول‬ ‫ِ ِ‬ ‫ضرب اللَّحم‪ c.‬قال البراءبن عازب‪ :‬ما‬
‫رأيت من ذي ل َّمة سوداء‪ ،‬في حلّة حمراء‪ ،‬أحسن من ُ‬ ‫ُ‬
‫رأيت شيئاً أحسن من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقال أبو هريرة‪ :‬ما‬
‫الج ُدر‪ .‬وفي حديث ابن أبي هالة‪ :‬يتألأل وجهه‬ ‫كأن الشمس تجري في وجهه‪ ،‬وإ ذا ضحك يتألأل في ُ‬
‫تأللؤ القمر ليلة البدر‪ .‬وقال علي في آخر وصفه له‪ :‬من رآه َبديهة َه َابهُ‪ ،‬ومن خالطهُ ِ‬
‫معرفةً أحبَّه‪،‬‬
‫يقول ِ‬
‫ناعتُهُ‪ :‬لم َأر قبله وال بعده مثله صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫وعرقه‪ ،‬ونزاهته عن األقذار‪ ،‬وعورات الجسد‪ ،‬فكان قد خصَّه اهلل‬


‫وأما نظافة جسمه وطيب ريحه َ‬
‫تعالى في ذلك بخصائص لم توجد في غيره‪ ،‬ثم تممها بنظافة الشرع‪ .‬قال عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫«بنِي الدين على النظافة»‪ .‬وقال أنس‪ :‬ما َشممت عنبراً قط‪ ،‬وال مسكاً‪ ،‬وال شيئاً أطيب من ريح‬‫ُ‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وعن جابربن سمرة‪ ،‬أنه عليه الصالة والسالم مسح َخ َّده‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فوجدت ليده َبرداً وريحاً كأنما أخرجها من ُجؤنة عطار‪ .‬قال غيره‪َ :‬مسَّها بطيب أو لم يمسَّها‪.‬‬
‫الصبيان‬
‫فيعرف من بين ِّ‬
‫يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها‪ ،‬يضع يده على رأس الصبي‪ُ ،‬‬
‫يمر في‬ ‫بريحها‪ ،‬وروى البخاري في تاريخه الكبير عن جابر‪ :‬لم يكن النبي صلى اهلل عليه وسلم ّ‬
‫طريق فيتبعه أحد إال ع ِرف أنه سلكه من طيبه‪ .‬وأما وفُور ِ‬
‫عقله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وذكاء لُبِّه‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وقوةُ حواسه‪ ،‬وفصاحةُ لسانه‪ ،‬واعتدا ُل حركاته‪ ،‬وحسن شمائله‪ ،‬فال ِمرية أنه كان أعقل الناس‬
‫أم َر بواطن الخلق‪ ،‬وظواهرهم‪ ،‬وسياسته للعامة والخاصة‪ ،‬مع عجيب‬ ‫تأمل تدبيره ْ‬
‫وأذكاهم‪ ،‬ومن َّ‬
‫وقرره من الشرع‪ ،‬دون تعلّم سابق‪ ،‬وال ممارسة‬ ‫ِ‬
‫عما أفاده من العلم‪ّ ،‬‬ ‫شمائله وبديع سَيره فضالً ّ‬
‫مت‪ ،‬وال مطالعة للكتب منه‪ ،‬لم يمتَ ِر في ُر ْجحان عقله‪ ،‬وثُقُوبـ فهمه ألول بديهة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫تقد ْ‬
‫وكان عليه الصالة والسالم إذا قام في الصالة يرى من خلفه كما يرى من أمامه‪ ،‬وبذلك فُسِّر قوله‬
‫ين(‪)219‬‬ ‫تعالى‪ :‬وتََقلُّب َك ِفى الس ِ ِ‬
‫َّاجد َ‬ ‫َ َ‬

‫ِّ‬
‫بالمحل األفضل‪،‬‬ ‫وأما فصاحةُ اللسان‪ ،‬وبالغة القول‪ ،‬فقد كان صلى اهلل عليه وسلم من ذلك‬
‫والموضع الذي ال ُيجهل‪ ،‬سالسة طبع‪ ،‬وبراعة منزع‪ ،‬وإ يجاز مقطع‪ ،‬ونصاعة لفظ‪ ،‬وجزالة قول‪،‬‬
‫وعلِّم ألسنةَ العرب‪ ،‬فكان‬
‫ببدائع الحكم‪ُ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ص‬ ‫جوامع ال َكِلم‪ُ ،‬‬
‫وخ َّ‬ ‫ِ‬ ‫وصحة ٍ‬
‫معان‪ ،‬وقلة تكلف‪ُ ،‬أوتي‬
‫ويباريها في منزع بالغتها‪ ،‬حتى كان كثير من‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُيخاطب كل أمة منها بلسانها‪ ،‬ويحاورها بلغتها‪ُ ،‬‬
‫وسيره علم ذلك‬
‫أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كالمه‪ ،‬وتفسير قوله‪ .‬من تأمل حديثه َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وتحقَّقه‪ .‬وليس كالمه مع قريش ككالمه مع أقيال حضرموت‪ ،‬وملوك اليمن‪ ،‬وعظماء نجد‪ .‬بل‬
‫يستعمل لكل قبيلة ما استحسنته من األلفاظ‪ ،‬وما انتهجته من طرق البالغة ُليَبيِّن للناس ما ُن ِّزل إليهم‪،‬‬
‫ِّ‬
‫وليحدث الناس بما يعلمون‪.‬‬

‫اس فيها‬
‫الن ُ‬ ‫وأما كالمه المعتاد‪ ،‬وفصاحته المعلومة‪ ،‬وجوامع كلمه‪ ،‬وحكمه المأثورة‪ ،‬فقد ألَّ َ‬
‫ف َّ‬
‫وجمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب‪ ،‬ومنها ما ال ُيوازى فصاحة‪ ،‬وال يبارى بالغة‪،‬‬
‫الدواوين‪ُ ،‬‬
‫كقوله‪« :‬المسلمون تتكافأ دماؤهم‪ ،‬ويسعى بذمتهم أدناهم‪ ،‬وهم يد على من سواهم»‪ .‬وقوله‪« :‬الناس‬
‫صحبة َم ْن ال يرى لك ما ترى له»‪،‬‬
‫ب»‪ ،‬و«ال خير في ُ‬
‫أح ّ‬
‫كأسنان المشط»‪ ،‬و«المرء مع من َ‬
‫و«الناس معادن»‪ ،‬و«ما هلك امرؤ عرف قدره»‪ ،‬و«المستَ َشار مؤتمن»‪ ،‬و«رحم اهلل عبداً قال خيراً‬
‫إلي وأقربكم‬ ‫«أسلم تَسلم‪ ،‬وأسلم ُيؤتِك اهلل أجرك مرتين»‪ ،‬و«إن ّ‬ ‫ِ‬
‫أحبكم ّ‬ ‫فغنم‪ ،‬أو سكت فسلم»‪ .‬وقوله‪:‬‬
‫ويؤلفون»‪ .‬وقوله‪« :‬لعلّه كان‬ ‫ِ‬
‫مني مجالس يوم القيامة أحاسُن ُكم أخالقاً الموطؤون أكنافاً الذين َيألفون ُ‬
‫يتكلم بما ال يعنيه‪ ،‬أو يبخل بما ال يغنيه»‪ ،‬وقوله‪« :‬ذو الوجهين ال يكون عند اهلل وجيهاً»‪ .‬ونهيه عن‬
‫وهات‪ ،‬وعقوق األمهات‪ ،‬ووأد البنات»‪ ،‬وقوله‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫وم ْن ٍع‬
‫«قيل وقال‪ ،‬وكثرة السُّؤال‪ ،‬وإ ضاعة المال‪َ ،‬‬
‫«اتق اهلل حيثما كنت‪ ،‬وأتبع السيئة الحسنة تمحها‪ ،‬وخالق الناس بِ ُخلق حسن»‪ ،‬و«خير األمور‬
‫أوساطها»‪ .‬وقوله‪« :‬أحبب حبيبك هوناً ما‪ ،‬عسى أن يكون بغيضك يوماً ما»‪ ،‬وقوله‪« :‬الظلم ظلمات‬
‫«اللهم إني أسألك رحمة تهدي بها قلبي‪ ،‬وتجمع بها أمري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يوم القيامة»‪ .‬وقوله في بعض دعائه‪:‬‬
‫وترد بها ُأْلفَتي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وتلم بها َش ْعثي‪ ،‬وتُصلح بها غائبي‪ ،‬وتُزكي بها عملي‪ ،‬وتُلهمني بها ُرشدي‪،‬‬
‫ّ‬
‫وعيش السعداء‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ون ُزل الشهداء‪،‬‬
‫اللهم إني أسألك الفوز في القضاء‪ُ ،‬‬
‫وتعصمني بها من كل سوء‪ّ ،‬‬
‫والنصر على األعداء»‪ .‬إلى غير ذلك مما َر َوتهُ الكافّة عن الكافّة عن مقاماته‪ ،‬ومحاضراته‪،‬‬
‫وخطبه‪ ،‬وأدعيته‪ ،‬ومخاطباته‪ ،‬وعهوده‪ ،‬مما ال خالف أنه نزل من ذلك مرتبة ال ُيقاس بها غيره‪،‬‬
‫وحاز فيها َس ْبقاً ال ُي ْق َد ُر قَ ْد ُرهُ‪ .‬وقد قال أصحابه‪ :‬ما رأينا الذي هو أفصح منك‪ ،‬فقال‪« :‬وما يمنعني؟‬
‫وإ نما ُْأنزل القرآن بلساني‪ٍ ،‬‬
‫لسان عربي ُمبين»‪ .‬وقال‬

‫بيد أني من قريش‪ ،‬ونشأت في بني سعد»‪ .‬فجمع له بذلك قوة‬


‫مرة أخرى‪« :‬أنا أفصح العرب َ‬
‫عارضة البادية وجزالتها‪ ،‬ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كالمها‪ ،‬إلى التأييد اِإل لهي الذي ُ‬
‫مددهُ‬
‫الوحي الذي ال ُيحيط بعلمه بشر‪.‬‬
‫وأما سرو نسبه‪ ،‬وكرم بلده‪ ،‬ومنشئه‪ ،‬فمما ال يحتاج إلى إقامة دليل عليه‪ ،‬وال بيان م ٍ‬
‫شكل‪ ،‬وال خفي‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫وأعزهم نفراً من قبل أبيه‬
‫منه‪ .‬فإنه نخبة بني هاشم‪ ،‬وساللة قريش وصميمها‪ ،‬وأشرف العرب‪ّ ،‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫قدمنا لك في أول الكتاب ما فيه الكفاية‬


‫وأمه‪ ،‬ومن أهل مكة‪ ،‬أكرم بالد اهلل على اهلل وعلى عباده‪ .‬وقد ّ‬
‫في هذا المقام‪.‬‬

‫أما ما تدعو إليه ضرورة الحياة‪ ،‬فمنه ما الفضل في قلته‪ ،‬ومنه ما الفضل في كثرته‪ ،‬ومنه ما تختلف‬
‫األحوال فيه‪ ،‬فاألول‪:‬ـ كالغذاء والنوم‪ ،‬ولم تََزل العرب والحكماء قديماً تتمادح بقلتهما‪ ،‬وتذم بكثرتهما‪،‬‬
‫مسبب لمضار الدنيا‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫وغلبة الشهو ِة‪،‬‬ ‫والحرص‪َّ ،‬‬
‫والش َر ِه‬ ‫ِ‬ ‫ألن كثرة األكل والشرب دلي ٌل على َّ‬
‫النهَم‬
‫وخثارة النفس‪ ،‬وامتالء الدماغ‪ .‬وقلته دلي ٌل على القناعة‪ ،‬وملك‬‫جالب ألدواء الجسد‪ُ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫واآلخرة‪،‬‬
‫وحدة الذهن‪ ،‬كما أن النوم دليل على الفسولة‬
‫ِّب للصحة‪ ،‬وصفاء الخاطر‪ّ ،‬‬
‫النفس‪ .‬وقمع الشهوة‪ُ ،‬م َسب ٌ‬
‫ب للكسل‪ ،‬وعادة العجز‪ ،‬وتضييع العمر في غير نفع‪ ،‬وقساوة‬
‫مسب ٌ‬
‫والضعف‪ ،‬وعدم الذكاء والفطنة‪ّ ،‬‬
‫وحض عليه قال‬ ‫َّ‬ ‫القلب وغفلته وموته‪ .‬وكان عليه الصالة والسالم قد أخذ من األكل والنوم باألقل‪،‬‬
‫صْلَبهُ‪ ،‬فَِإ ْن‬ ‫بطنه‪ ،‬حسب ابن آدم لُقَْيم ٌ ِ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ما مَأل ابن آدم وعاء َشراً من ِ‬
‫ات ُيق ْم َن ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ً ّ‬ ‫ُ َ‬
‫وثلث ِلَنفَ ِس ِه»‪ .‬وألن كثرة النوم من كثرة األكل والشرب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لشرابه‪ٌ ،‬‬ ‫وثلث‬ ‫ِ‬
‫لطعامه‪ٌ ،‬‬ ‫ث‬‫كان ال محالةَ‪ ،‬فَثُلُ ٌ‬

‫وقالت عائشة رضي اهلل عنها‪ :‬لم يمتلىء جوف النبي صلى اهلل عليه وسلم شبعاً قطّ‪ ،‬وإ نه كان في‬
‫بل‪ ،‬وما سقوه شرب‪ .‬وفي صحيح‬
‫أهله ال يسألهم طعاماً وال يتشهَّاه‪ ،‬إن أطعموه أكل‪ ،‬وما أطعموه قَ َ‬
‫كالمتربع‬
‫ّ‬ ‫والتقعد ُد في الجلوس له‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الحديث‪« :‬أما أنا فال آكل متكئاً» واالتِّ َكاء‪ :‬هو التَّ ُ‬
‫مكن لألكل‪،‬‬
‫تمكن الجلسات التي يعتمد فيها الجالس على ما تحته‪ ،‬والجالس على هذه الهيئة يستدعي‬ ‫وشبهه‪ ،‬من ُّ‬
‫األكل ويستكثر منه‪ ،‬والنبي عليه الصالة والسالم إنما كان جلوسه لألكل جلوس المستو ِف ِز ُم ْق ِعياً‪،‬‬
‫العبد»‪ ،‬وكذلك نومه كان قليالً‪ ،‬ومع‬
‫ويقول‪« :‬إنما أنا عبد‪ ،‬آكل كما يأكل العبد‪ ،‬وأجلس كما يجلس ُ‬
‫ينام قلبي»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تنامان وال ُ‬ ‫ذلك فقد قال‪ِ« :‬إ َّن َع ْيَن َّي‬
‫محمود عند العقالء عادة‪ ،‬وبقَ ْد ِر جاهه ِع َ‬
‫ظ ُمهُ في القلوب‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وأما ما الفضل في كثرته‪ ،‬فكالجاه‪ ،‬وهو‬
‫ال ِخ َر ِة} (آل عمران‪.)45 :‬‬ ‫وقد قال تعالى في صفة عيسى عليه السالم‪ :‬و ِجيهًا ِفي ُّ‬
‫الد ْنَيا َوا ْ‬ ‫َ‬
‫وكان النبي صلى اهلل عليه وسلم قد ُر ِزق من الحشمة‪ ،‬والمكانة في القلوب‪ ،‬والعظمة قبل ّ‬
‫النبوة عند‬
‫الجاهلية وبعدها‪ ،‬وهم يكذبونه ويؤذون أصحابه‪ ،‬ويقصدون أذاه في نفسه خفية‪ ،‬حتى إذا واجههم‬
‫يبهت ويفرق لرؤيته َم ْن لم يره‪ ،‬كما‬
‫ُ‬ ‫أعظموا أمره وقضوا حاجته‪ ،‬كما ذكرنا ذلك ِمراراً‪ ،‬وقد كان‬
‫عليك السكينة»‪ .‬وفي حديث أبي‬ ‫ت من الفَرق فقال‪« :‬يا مسكينة ِ‬ ‫روي عن قَْيلَةَ أنها لما رأته ُْأر ِع َد ْ‬
‫َ‬
‫«هون عليك فإني لست بملك»‪.‬‬ ‫فُأر ِع َد‪ ،‬فقال له عليه الصالة والسالم‪ِّ :‬‬
‫مسعود‪ ،‬أن رجالً قام بين يديه ْ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫بالنبوة‪ ،‬وشريف منزلته بالرسالة‪ ،‬وإ نافة رتبته باالصطفاء والكرامة في الدنيا‪ ،‬فأمر‬
‫وأما عظيم قدره ّ‬
‫هو مبلغ النهاية‪ ،‬ثم هو في اآلخرة سيد ولد آدم‪.‬‬

‫وأما ما تختلف فيه الحاالت في التمدح به‪ ،‬والتفاخر بسببه والتفضيل ألجله‪ ،‬ككثرة المال‪ ،‬فصاحبه‬
‫صلَهُ به إلى حاجته‪ ،‬وتم ّكنه في أغراضه‪ ،‬وإ ال فليس‬
‫العامة العتقادها تََو ُّ‬ ‫َّ‬
‫على الجملة معظم عند ّ‬
‫وَأملَهُ‪،‬‬
‫فضيلة في نفسه‪ ،‬فمتى كان بهذه الصورة‪ ،‬وصاحبه ُمنفقاً له في مهماته‪ ،‬ومهمات من قصده َّ‬
‫يصرفه في مواضعه‪ ،‬مشترياً به المعالي والثناء الحسن‪ ،‬والمنزلة في القلوب‪ .‬كان فضيلة في‬
‫البر‪ ،‬وأنفقه في سبل الخير‪ ،‬وقَصد بذلك اهلل تعالى‬
‫صاحبه عند أهل الدنيا‪ .‬وإ ذا صرفه في وجوه ّ‬
‫والدار اآلخرة‪ ،‬كان فضيلة عند الكل بكل حال‪ ،‬ومتى كان صاحبه ُم ْمسكاً له‪ ،‬غير موجهه وجوهه‪،‬‬
‫يقف به على َج َدِد السالمة‪،‬‬‫صة في صاحبه‪ ،‬ولم ْ‬ ‫حريصاً على جمعه‪ ،‬عادت كثرته كالعدم‪َ ،‬وكان َم ْنقَ َ‬
‫للتوصل به إلى غيره‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ومذمة النذالة‪ ،‬فالتمدح بالمال ليس لذاته بل‬‫ّ‬ ‫بل أوقعه في َو ْهدة رذيلة البخل‪،‬‬
‫وُأحلَّت له‬
‫ونبينا صلى اهلل عليه وسلم ُأوتي خزائن األرض‪ ،‬ومفاتيح البالد‪ِ ،‬‬ ‫ص َّرفاته‪ّ ،‬‬
‫وتصريفه في ُمتَ َ‬
‫الغنائم‪ ،‬وفتح عليه في حياته بالد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب‪ ،‬وما دانى ذلك من الشام‬
‫وجلب إليه كثير من أخماسها َو ِج ْزَيتِها وصدقاتها‪ ،‬وهاداه جماعة من ملوك األقاليم‪ ،‬فما‬ ‫والعراق‪ُ ،‬‬
‫وقوى به المسلمين‪،‬‬ ‫استأثر بشيء منه‪ ،‬وال أمسك منه درهماً بل صرفه مصارفه‪ ،‬وأغنى به غيره‪ّ ،‬‬
‫ُأحداً ذهباً يبيت عندي منه دينار إال ديناراً أرصده ِل َد ْيني»‪.‬‬‫وقال‪« :‬ما يسرني أن لي ُ‬
‫وأتته دنانير مرة فقسَّمها‪ ،‬وبقيت منها بقية فدفعها لبعض نسائه‪ ،‬فلم يأخذه نوم حتى قام فقسمها‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫«اآلن استرحت»‪.‬‬

‫ومات ودرعه مرهونة في نفقة عياله‪ ،‬واقتصر في نفقته وملبسه ومسكنه على ما تدعو ضرورته‬
‫والب ْرد‬ ‫إليه‪ ،‬وزهد فيما سواه‪ ،‬فكان يلبس ما وجده‪ ،‬فيلبس في الغالب َّ‬
‫الش ْملَة‪ ،‬والكساء الخشن‪ُ ،‬‬
‫الغليظ‪ ،‬ويقسم على من حضره أقبية الديباج المخوصة بالذهب‪ ،‬ويرفعُ لمن لم يحضر‪ ،‬فأنت ترى‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حاز فضيلة المال بالزهد فيه‪ ،‬وإ نفاقه على مستحقيه‪.‬‬
‫الخلق فجميعها قد‬
‫وأما الخصال المكتسبة من األخالق الحميدة واآلداب الشريفة وهي المسماة بحسن ُ‬
‫كانت خلق نبيِّنا صلى اهلل عليه وسلم على االنتهاء في كمالها‪ ،‬واالعتدال إلى غايتها حتى أثنى اهلل‬
‫ق َع ِظ ٍيم(‪)4‬‬
‫تعالى عليه بذلك فقال‪{ :‬وِإ َّن َك لَ َعلَى ُخلُ ٍ‬
‫َ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ويتفرعـ‬
‫وعنصر ينابيعها‪ ،‬ونقطة دائرتها‪ :‬العقل الذي منه ينبعث العلم والمعرفة‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫فأصل فروعها‪،‬‬
‫عن هذا ثقوب الرأي‪ ،‬وجودة الفطنة‪ ،‬واإلصابة‪ ،‬وصدق الظن‪ ،‬والنظر للعواقب‪ ،‬ومصالح النفس‪،‬‬
‫وحسن السياسة والتدبير‪ ،‬واقتناء الفضائل‪ُّ ،‬‬
‫وتجنب الرذائل‪ ،‬وقد بلغ عليه الصالة‬ ‫ومجاهدة الشهوة‪ُ ،‬‬
‫َّع مجاري أحواله‪،‬‬
‫يعلم ذلك من تَتَب َ‬
‫والسالم منه ومن العلم الغاية القصوى التي لم يبلغها بشر سواه‪ُ ،‬‬
‫وحسن شمائله‪ ،‬وبدائع ِسَيره‪ ،‬وحكم حديثه‪ ،‬وعلمه بما في‬ ‫ِ‬
‫وطالع جوامع َكلمه‪ُ ،‬‬
‫َ‬ ‫طراد سيره‪،‬‬
‫وا ّ‬
‫التوراة واإلنجيل والكتب المنزلة‪ ،‬وحكم الحكماء‪ِ ،‬‬
‫وسَير األمم الخالية وأيامها‪ ،‬وضرب األمثال‪،‬‬
‫وسياسات األنام‪ ،‬وتقرير الشرائع‪ ،‬وتأصيل اآلداب النفيسة‪ ،‬والشيم الحميدة‪ ،‬إلى فنون العلوم التي‬
‫اتَّخذ أهلها كالمه فيها قدوة وإ شاراته حجة‪ ،‬كالطب والحساب والفرائض والنسب وغير ذلك دون‬
‫أمي ال يعرف شيئاً‬ ‫تعليم وال مدارسة‪ ،‬وال مطالعة كتب من تقدم‪ ،‬وال الجلوس إلى علمائهم‪ ،‬بل نبي ّ‬
‫وبح َسب عقله كانت معارفه عليه الصالة‬ ‫َّ‬
‫من ذلك‪ ،‬حتى شرح اهلل صدره‪ ،‬وأبان أمره وعلمه‪َ .‬‬
‫والسالم إلى سائر ما علَّمه اهلل‪ ،‬وأطلعه عليه من علم ما يكون وما كان‪ ،‬وعجائب قدرته‪ ،‬وعظيم‬
‫ض ُل اللَّ ِه َعلَْي َك َع ِظيماً} (النساء‪.)113 :‬‬ ‫ان فَ ْ‬ ‫َّ‬
‫ملكوته قال تعالى‪َ :‬و َعل َم َك َما لَ ْم تَ ُك ْن تَ ْعلَ ُم َو َك َ‬
‫نبيه صلى اهلل عليه‬ ‫وأما الحلم واالحتمال والعفو مع القدرة‪ ،‬والصبر على ما يكرهه‪ ،‬فمما ّأدب اهلل به ّ‬
‫َأص َاب َك ِإ َّن َذِل َك‬
‫اصبِ ْر َعلَى َمآ َ‬ ‫ين(‪َ )199‬و ْ‬
‫ِِ‬
‫َأع ِرض َع ِن اْل َجاهل َ‬ ‫ف َو ْ‬ ‫{خِذ اْلع ْفو وْأمر بِاْلعر ِ‬
‫وسلم فقال‪ْ ُ ْ ُ َ َ َ ُ :‬‬
‫ور‬ ‫َّ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِم ْن َع ْزِم ا ْ‬
‫ال ُم ِ‬
‫ُّون َأن َي ْغف َر اللهُ لَ ُك ْم َواللهُ َغفُ ٌ‬
‫صفَ ُحوْا َأالَ تُحب َ‬ ‫{وْلَي ْعفُوْا َوْلَي ْ‬‫ور} (لقمان‪ .)17 :‬وقال‪َ :‬‬
‫ور(‪)43‬‬ ‫صَب َر َو َغفََر ِإ َّن َذِل َك لَ ِم ْن َع ْزِم ا ْ‬
‫ال ُم ِ‬ ‫{ولَ َمن َ‬ ‫يم} (النور‪ .)22 :‬وقال‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫َّرح ٌ‬

‫قالت عائشة رضي اهلل عنها‪« :‬ما ُخيِّر عليه الصالة والسالم في أمرين قطّ إال اختار أيسرهما‪ ،‬ما لم‬
‫يكن إثماً‪ ،‬فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه‪ ،‬وما انتقم لنفسه إال أن تُْنتَهك حرمة اهلل‪ ،‬فينتقم هلل»‪.‬‬
‫«اللهم اغفر لقوميـ فإنهم ال‬
‫ّ‬ ‫ُأحد‪ ،‬وطُلب منه أن يدعو عليهم قال‪:‬‬
‫ولما فعل به المشركون ما فعلوا في ُ‬
‫يعلمون»‪.‬‬
‫وحسبك في هذا الباب ما فعله مع مشركي قريش الذين آذوه‪ ،‬واستهزؤوا به‪ ،‬وأخرجوه من دياره هو‬
‫وحرضوا عليه غيرهم من مشركي العرب‪ ،‬حتى تماَأل عليه جمعهم‪ ،‬ثم لما فتح‬
‫وأصحابه‪ ،‬ثم قاتلوه‪ّ ،‬‬
‫أخ كريم‪،‬‬
‫اهلل عليه مكة ما زاد على أن عفا وصفح‪ ،‬وقال‪« :‬ما تقولون أني فاعل بكم؟» قالوا‪ :‬خيراً ٌ‬
‫أخ كريم‪ ،‬فقال‪« :‬اذهبوا فأنتم الطُّلقاء»‪ .‬وعن أنس‪ :‬كنت مع النبي عليه الصالة والسالم وعليه‬
‫وابن ٍ‬
‫ُ‬
‫ُبرد غليظ الحاشية فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه‪ ،‬ثم‬
‫بعيري هذين من مال اهلل الذي عندك‪ ،‬فإنك ال تحمل لي من مالك وال‬
‫َّ‬ ‫قال‪ :‬يا محمد احمل لي على‬
‫«ويقاد منك يا أعرابي ما‬
‫من مال أبيك‪ ،‬فسكت النبي ثم قال‪« :‬المال مال اهلل وأنا عبده»‪ .‬ثم قال‪ُ :‬‬
‫ِ‬
‫بالسيئة السيئةَ‪ ،‬فضحك عليه الصالة والسالم‪،‬‬ ‫فعلت بي» قال‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ِ :‬‬
‫«ل َم؟» قال‪ :‬ألنك ال تكافىء‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫تمر‪.‬‬
‫شعير‪ ،‬وعلى اآلخر ٌ‬
‫ثم أمر أن ُيحمل له على بعير ٌ‬

‫لم ٍة ظلمها قطُّ‪ ،‬ما لم تكن ُح ْر َمةً من محارم اهلل‬


‫ظَ‬ ‫قالت عائشة‪ :‬ما رأيت رسول اهلل منتصراً من َم ْ‬
‫ضرب خادماً وال امرأة‪ ،‬فصلى اهلل‬ ‫َ‬ ‫ضرب بيده شيئاً قطُّ إال أن يجاهد في سبيل اهلل‪ ،‬وما‬
‫َ‬ ‫تعالى‪ ،‬وما‬
‫سنته‪.‬‬
‫وأقر عينه باتباع المسلمين ّ‬
‫تعالى عليه‪َّ ،‬‬

‫وأما الجود والكرم والسخاء والسماحة‪ ،‬فكان عليه الصالة والسالم ال ُيوازى في هذه األخالق‬
‫وصفَهُ بهذا كل من عرفه‪ ،‬قال جابر رضي اهلل عنه‪ :‬ما ُسئل عليه الصالة‬
‫الكريمة‪ ،‬وال ُيبارى‪َ .‬‬
‫وأجود‬
‫َ‬ ‫أجود الناس بالخير‪،‬‬
‫والسالم عن شيء فقال‪ :‬ال‪ .‬وقال ابن عباس‪ :‬كان عليه الصالة والسالم َ‬
‫أجود بالخير من الريح المرسلة‪ .‬وقالت خديجة في‬ ‫َ‬ ‫ما كان في شهر رمضان‪ ،‬وكان إذا لقيه جبريل‬
‫ِ‬
‫ب المعدوم‪.‬‬‫صفته عليه الصالة والسالم مخاطبة له‪ :‬إنك تحمل ال َك َّل‪ ،‬وت ْكس ُ‬
‫وح ْسُبك شاهداً في هذا الباب ما فعله مع هوازن من ِّ‬
‫رد السبي إليها‪ ،‬وما فعله يوم تقسيم السبي من‬ ‫َ‬
‫إعطاء المؤلفة قلوبهم عظيم األعطية‪ .‬وقد استوفينا ذلك في موضعه‪.‬‬
‫وحمل إليه عليه الصالة والسالم تسعون ألفاً‪ ،‬فوضعها على حصير وأخذ يقسمها فما قام حتى فرغ‬
‫ُ‬
‫منها‪.‬‬
‫علي‪ ،‬فإذا جاءنا شيء قضيناه» فقال له عمر‪:‬‬
‫ابتع ّ‬
‫وجاءه رجل فسأله فقال‪« :‬ما عندي شيء‪ ،‬ولكن ْ‬
‫تقدر عليه‪ ،‬فكره ذلك عليه الصالة والسالم‪ ،‬فقال له رجل من األنصار‪ :‬يا رسول‬ ‫َّ‬
‫ما كلفَ َك اهلل ما ال ُ‬
‫البشر في وجهه وقال‪:‬‬
‫ف ُ‬ ‫وع ِر َ‬
‫تخف من ذي العرش إقالالً‪ ،‬فتبسم عليه الصالة والسالم ُ‬
‫اهلل أنفق وال ْ‬
‫رت»‪.‬‬
‫ُأم ُ‬ ‫«بهذا ِ‬
‫واألخبار بجوده وكرمه عليه الصالة والسالم كثيرة يكفي منها لتعليمك ما ذكرناه‪.‬‬
‫ومنها الشجاعة والنجدة‪ ،‬فكان عليه الصالة والسالم منهما بالمكان الذي ال ُيجهل‪ ،‬قد حضر المواقف‬
‫وم ْقبلـ ال ُيدبر‪ ،‬وال يتزحزح‪ ،‬وما‬
‫وفر ال ُك َماةُ واألبطال عنه غير مرة‪ ،‬وهو ثابت ال َي ْب َرح‪ُ ،‬‬
‫الصعبة‪ّ ،‬‬
‫فرة‪ ،‬وحفظت عنه جولة‪ ،‬سواه‪ .‬وحسبك ما فعله في ُحَن ْي ٍن ُ‬
‫وُأحد مما ذكرناه‬ ‫من شجاع إال ُأحصيت له ّ‬
‫مستوفى‪.‬‬

‫أنجد وال أجود وال أرضى من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫أشجع وال َ‬
‫َ‬ ‫رأيت‬
‫ُ‬ ‫وقال ابن عمر‪ :‬ما‬
‫أقرب إلى العدو‬
‫َ‬ ‫أحد‬
‫ق اتقينا برسول اهلل‪ ،‬فما يكون ٌ‬
‫الح َد ُ‬
‫مرت َ‬
‫واح َّ‬
‫البأس‪ْ ،‬‬
‫كنا إذا اشتد ُ‬
‫علي‪ّ :‬إنا ّ‬
‫وقال ٌّ‬
‫منه‪ ،‬ولقد رأيتُني يوم بدر‪ ،‬ونحن نلوذ بالنبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهو أقربنا إلى العدو‪ ،‬وكان من‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وأجود‬
‫َ‬ ‫وأحسن الناس‪،‬‬ ‫أشجع الناس‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫يومئذ بأساً‪ .‬وقال أنس‪ :‬كان عليه الصالة والسالم‬ ‫أشد الناس‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ناس ِقَبل الصوت‪ ،‬فتلقاهم عليه الصالة والسالم راجعاً‪ ،‬قد‬
‫الناس‪ ،‬لقد فزع أهل المدينة ليلةً‪ ،‬فانطلق ٌ‬
‫سبقهم إلى الصوت‪ ،‬واستبرأ الخبر على فرس ألبي طلحة ُع ْر ٍي‪ ،‬والسيف في عنقه‪ ،‬وهو يقول‪:‬ـ «لن‬
‫تُراعوا»‪.‬‬

‫حياء‪ ،‬وأكثرهم عن العورات إغضاء‪،‬‬ ‫أشد الناس ً‬ ‫وأما الحياء واإلغضاء‪ ،‬فكان عليه الصالة والسالم َّ‬
‫حياء من العذراء في ِخ ْدرها‪ .‬وكان إذا كره‬
‫أشد ً‬ ‫قال أبو سعيد الخدري‪ :‬كان عليه الصالة والسالم َّ‬
‫شيئاً عرفناه في وجهه‪.‬‬
‫وكرم نفس‪.‬‬ ‫حياء‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫رقيق الظاهر‪ ،‬ال ُي َشافهُ أحداً بما يكرهه‪ً ،‬‬
‫َ‬ ‫الب َشرة‪،‬‬
‫لطيف َ‬
‫َ‬ ‫وكان عليه الصالة والسالم‬
‫يقل‪ :‬ما بال فالن يقول كذا‬
‫أحد ما يكرهه لم ْ‬‫قالت عائشة‪ :‬كان عليه الصالة والسالم إذا بلغه عن ٍ‬
‫فاعله‪ ،‬وقالت رضي‬‫وكذا؟ بل يقول‪:‬ـ «ما بال أقوام يصنعون أو يقولون كذا؟»‪ .‬ينهى عنه وال يس ِّمي ِ‬
‫َُ‬
‫اهلل عنها‪ :‬لم يكن عليه الصالة والسالم فاحشاً‪ ،‬وال متفحشاً‪ ،‬وال صخاباً باألسواق‪ ،‬وال يجزي بالسيئة‬
‫السيئة‪ ،‬ولكن يعفو ويصفح‪.‬‬

‫وأما حسن عشرته وأدبه‪ ،‬وبسط خلقه مع أصناف الخلق‪ ،‬فمما انتشرت به األخبار الصحيحة‪ ،‬قال‬
‫وأصدق الناس لهجة‪ ،‬وألينهم‬
‫َ‬ ‫أوسع الناس صدراً‪،‬‬‫َ‬ ‫علي رضي اهلل عنه‪ :‬كان عليه الصالة والسالم‬
‫عريكة‪ ،‬وأكرمهم عشرة‪ .‬وكان عليه الصالة والسالم يؤلِّفهم‪ ،‬وال ينفِّرهم‪ ،‬ويكرم كريم ِ‬
‫كل قوم‬
‫ويولِّيه عليهم‪ْ ،‬‬
‫ويح َذر الناس‪ ،‬ويحترس منهم‪ ،‬من غير أن يطوي على أحد منهم بشره‪ ،‬وال خلقه‪،‬‬
‫ويتفقد أصحابه‪ ،‬ويعطي كل جلسائه نصيبه‪ ،‬ال يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه‪ .‬من جالسه أو‬
‫يرده إال بها‪ ،‬أو بميسور من‬
‫يكون هو المنصرف عنه‪ ،‬ومن سأله حاجة لم ّ‬
‫َ‬ ‫قاربه لحاجة صابره حتى‬
‫وخلُقه‪ ،‬فصار لهم أباً‪ ،‬وصاروا عنده في الحق سواء‪ ،‬بهذا وصفه ابن‬
‫القول‪ ،‬قد وسع الناس بسطه ُ‬
‫صخاب‪ ،‬وال فحَّاش‪،‬‬ ‫ظ وال غليظ‪ ،‬وال َّ‬ ‫أبي هالة‪ .‬وكان دائم البشر‪ ،‬سهل الخلق‪ّ ،‬لين الجانب‪ ،‬ليس بف َ‬
‫عما ال يشتهي‪ ،‬وال يؤيس منه‪ ،‬قال تعالى‪ :‬فَبِ َما َر ْح َم ٍة ّم َن اللَّ ِه ِل َ‬
‫نت لَهُ ْم‬ ‫مداح‪ ،‬يتغافل ّ‬ ‫وال عيَّاب‪ ،‬وال َّ‬
‫ال ْم ِر} (آل‬ ‫استَ ْغِف ْر لَهُ ْم َو َش ِاو ْر ُه ْم ِفى ا ْ‬ ‫ف َع ْنهُ ْم َو ْ‬
‫اع ُ‬‫ظ اْل َقْل ِب الَْنفَضُّوْـا ِم ْن َح ْوِل َك فَ ْ‬
‫ت فَظّاً َغِلي َ‬
‫َولَ ْو ُك ْن َ‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫{ادفَ ْع بِالَّتِى ِه َى ْ‬
‫َأح َس ُن فَِإ َذا الذى َب ْيَن َك َوَب ْيَنهُ َع َد َاوةٌ َك ََّأنهُ َوِل ٌّى َحم ٌ‬
‫يم}‬ ‫عمران‪ .)159 :‬وقال تعالى‪ْ :‬‬
‫(فصلت‪.)34 :‬‬
‫وكان عليه الصالة والسالم يجيب من دعاه‪ ،‬ويقبل الهدية‪ ،‬ولو كانت ُكراعاً‪ ،‬ويكافىء عليها‪ ،‬وكان‬
‫يمازح أصحابه‪ ،‬ويخالطهم‪ ،‬ويحادثهم‪ ،‬ويالعب صبيانهم‪ ،‬ويجلسهم في ِحجره‪ ،‬ويجيب دعوة الحر‬
‫ويعود المرضى في أقصى المدينة‪ ،‬ويقبل عذر المعتذر‪ .‬وقال أنس‪ :‬ما‬
‫والعبد‪ ،‬واألمة والمسكين‪ُ ،‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫أحد بيده‬ ‫التقم أحد ُأذن النبي يحادثه فنحَّى رأسه‪ ،‬حتى يكون الرجل هو الذي ِّ‬
‫ينحي رأسه‪ ،‬وما أخذ ٌ‬
‫فيرسل يده حتى يرسلها اآلخر‪.‬‬

‫ِّق‬
‫ضي َ‬‫ماداً رجليه بين أصحابه حتى ُي َ‬
‫وكان يبدأ من لقيه بالسالم‪ ،‬ويبدأ أصحابه بالمصافحة‪ ،‬لم ُي َر قطّ ّ‬
‫بهما على أحد‪ُ ،‬يكرم من يدخل عليه‪ ،‬وربما بسط له ثوبه‪ ،‬ويؤثره بالوسادة التي تحته‪ ،‬ويعزم عليه‬
‫ِّ‬
‫بأحب أسمائهم تكرمةً لهم‪ ،‬وال يقطعُ على أحد‬ ‫وي َكِّني أصحابه‪ ،‬ويدعوهم‬
‫في الجلوس عليها إن أبى‪ُ ،‬‬
‫أكثر الناس تبسماً‪ ،‬وأطيبهم نفساً‪ ،‬ما لم ُينزل عليه‬
‫يتجو َز فيقطعه بنهي أو قيام‪ ،‬وكان َ‬
‫حديثه‪ ،‬حتى َّ‬
‫قرآن‪ ،‬أو يعظ‪ ،‬أو يخطب‪.‬‬
‫{ع ِز ٌيز َعلَْي ِه َما َعنِتُّ ْم‬
‫وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق فقد وصفه اهلل بها في قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ءوف َّر ِحيم} (التوبة‪ .)128 :‬وقال‪{ :‬ومآ َأرسْلن َ َّ‬ ‫ِ‬
‫ين(‬‫اك ِإال َر ْح َمةً لّْل َعالَم َ‬ ‫ََ ْ ََ‬ ‫ٌ‬ ‫يص َعلَْي ُك ْم بِاْل ُمْؤ ِمن َ‬
‫ين َر ٌ‬ ‫َح ِر ٌ‬
‫‪)107‬‬

‫روي أن أعرابياً جاءه يطلب منه شيئاً فأعطاه‪ ،‬ثم قال‪« :‬أأحسنت إليك؟» قال األعرابي‪ :‬ال‪ ،‬وال‬
‫أجملت‪ .‬فغضب المسلمون وقاموا إليه‪ ،‬فأشار إليهم أن ُكفُّوا‪ ،‬ثم قام ودخل منزله‪ ،‬وأرسل إليه‪ ،‬وزاده‬
‫َ‬
‫شيئاً‪ ،‬ثم قال‪« :‬أأحسنت إليك؟» فقال‪ :‬نعم‪ ،‬فجزاك اهلل من أهل وعشيرة خيراً‪ ،‬فقال عليه الصالة‬
‫أحببت فقل بين أيديهم ما قلت‬
‫َ‬ ‫لت‪ ،‬وفي أنفس أصحابي من ذلك شيء‪ ،‬فإن‬
‫قلت ما ُق َ‬
‫والسالم‪« :‬إنك َ‬
‫يذهب ما في صدورهم عليك» قال‪ :‬نعم‪ ،‬فلما كان الغد ـ ـ أو العشي ـ ـ جاء فقال عليه‬
‫َ‬ ‫يدي‪ ،‬حتى‬
‫بين ّ‬
‫فزعم أنه رضي أكذلك؟» قال‪ :‬نعم‪ ،‬فجزاك‬
‫َ‬ ‫الصالة والسالم‪« :‬إن هذا األعرابي قال ما قال‪ ،‬فزدناه‬
‫شردت‬
‫ْ‬ ‫اهلل من أهل وعشيرة خيراً‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬مثلي ومث ُل هذا مثل رجل له ناقة‬
‫عليه‪ ،‬فاتَّبعها الناس فلم يزيدوها إال نفوراً‪ ،‬فناداهم صاحبها‪ :‬خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها‬
‫واستناخت‪َّ ،‬‬
‫وشد‬ ‫ْ‬ ‫جاءت‬
‫ْ‬ ‫فردها‪ ،‬حتى‬
‫منكم وأعلم‪ ،‬فتوجه لها بين يديها‪ ،‬فأخذ لها من قمام األرض‪ّ ،‬‬
‫حيث قال الرج ُل ما قال فقتلتموه دخل النار»‪ .‬وقال‬
‫عليها رحلها واستوى عليها‪ ،‬وإ ني لو تركتكم ُ‬
‫سليم‬ ‫ِّ‬
‫عليه الصالة والسالم‪« :‬ال ُيَبلغني أحد منكم عن أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا ُ‬
‫فيتجو ُز في صالته‪ .‬وعن ابن مسعود كان عليه الصالة والسالم‬
‫َّ‬ ‫الصدر»‪ .‬وكان يسمعُ بكاء الصبي‬
‫يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا‪.‬‬
‫ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وأما خلقه عليه الصالة والسالم في الوفاء‪ ،‬وحسن العهد‪ ،‬وصلة الرحم‪ ،‬فروي عن عبد اللهبن أبي‬
‫ِ‬
‫وبقيت له بقية‪ ،‬فوعدته أن آتَيهُ‬
‫ْ‬ ‫الحمساء قال‪ :‬بايعت النبي عليه الصالة والسالم ببيع قبل أن ُيبعث‪،‬‬
‫علي‬
‫ذكرت بعد ثالث‪ ،‬فجئت‪ ،‬فإذا هو في مكانه‪ ،‬فقال‪« :‬يا فتى‪ ،‬لقد شققت ّ‬ ‫ُ‬ ‫بها في مكانه فنسيت‪ ،‬ثم‬
‫ُأتي بهدية‪ ،‬قال‪« :‬اذهبوا بها إلى بيت فالنة‪ ،‬فإنها كانت صديقة‬
‫أنا هنا منذ ثالث أنتظرك»‪ .‬وكان إذا َ‬
‫صل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم‬ ‫تحب خديجة»‪ .‬وكان عليه الصالة والسالم ي ِ‬
‫لخديجة‪ ،‬إنها كانت ّ‬
‫َ‬
‫فقام يخدمهم بنفسه‪ ،‬فقال له أصحابه‪ :‬نكفيك‪ ،‬فقال‪« :‬إنهم‬
‫ووفد عليه وفد‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫على من هو أفضل منهم‪.‬‬
‫كانوا ألصحابنا مكرمين‪ ،‬وإ ني أحب أن أكافئهم»‪ .‬وفي حديث خديجة‪ :‬أبشر‪ ،‬فواهلل ال يخزيك اهلل‬
‫ِ‬
‫أبداً‪ ،‬إنك لتص ُل الرحم‪ ،‬وتحمل ال َك َّل‪ ،‬وتكس ُ‬
‫ب المعدوم‪ ،‬وت ْق ِري الضيف‪ ،‬وتعين على نوائب الحق‪.‬‬

‫وأما تواضعه عليه الصالة والسالم‪ ،‬على علو منصبه ورفعة رتبته‪ ،‬فكان َّ‬
‫أشد الناس تواضعاً‪ ،‬وأقلّهم‬
‫ِكبراً‪ ،‬وحسبك أنه خيِّر بين أن يكون ّ‬
‫نبياً ملكاً‪ ،‬أو نبياً عبداً‪ ،‬فاختار أن يكون نبياً عبداً‪ ،‬وخرج عليه‬
‫الصالة والسالم مرة على أصحابه متوكئاً على عصا‪ ،‬فقاموا‪ ،‬فقال‪« :‬ال تقومواـ كما تقوم األعاجم‬
‫ُي َعظِّم بعضهم بعضاً»‪ .‬وقال‪« :‬إنما أنا ٌ‬
‫عبد‪ ،‬آكل كما يأكل العبد‪ ،‬وأجلس كما يجلس العبد»‪ .‬وكان‬
‫ويجيب دعوة العبد‪ ،‬ويجلس بين‬ ‫ويجالس الفقراء‪ُ ،‬‬ ‫وي ْر ِد ُ‬
‫ف خلفه‪ ،‬ويعود المساكين‪ُ ،‬‬ ‫يركب الحمار ُ‬
‫طروني كما‬
‫أصحابه مختلطاً بهم‪ ،‬حيثما انتهى به المجلس جلس‪ .‬وقال عليه الصالة والسالم‪« :‬ال تُ ْ‬
‫أطرت النصارى ابن مريم‪ .‬إنما أنا عبد‪ ،‬فقولوا‪ :‬عبد اهلل ورسوله» وحج عليه الصالة والسالم على‬
‫«اللهم اجعله حجاً ال رياء فيه وال سمعة» هذا‬ ‫ر ْح ٍل ِّ‬
‫رث‪ ،‬وعليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم فقال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫وقد فتحت عليه األرض‪ ،‬وأهدى في حجه ذلك مائة َب َدنة‪ .‬ولما فُتحت عليه مكة‪ ،‬ودخلها بجيوش‬
‫كاد َي َم ُّس قادمته تواضعاً هلل تعالى‪ .‬وعن أبي هريرة رضي‬
‫المسلمين طأطأ على رحله رأسه حتى َ‬
‫دخلت السوق مع النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فاشترى سراويل‪ ،‬وقال للوازن‪« :‬زن‬
‫ُ‬ ‫اهلل عنه‪:‬‬
‫يقبلها‪ ،‬فجذب يده‪ ،‬وقال‪« :‬هذا تفعله‬
‫وأرجح»‪ ،‬ثم قال‪ :‬فوثب إلى يد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ّ‬
‫«صاحب‬
‫ُ‬ ‫فذهبت ألحمله قال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫السراويل‬
‫َ‬ ‫األعاجم بملوكها ولست بملك إنما أنا رجل منكم»‪ ،‬ثم أخذ‬
‫الشيء ُّ‬
‫أحق بشيئه أن يحمله»‪.‬‬

‫آمن الناس‪ ،‬وأعدل الناس‪،‬‬


‫وأما عدله عليه الصالة والسالم‪ ،‬وأمانته‪ ،‬وعفّته‪ ،‬وصدق لهجته‪ ،‬فكان َ‬
‫نبوته‬ ‫وأعف الناس‪ ،‬وأصدقهم لهجة منذ كان‪ ،‬اعترف له بذلك ُّ‬
‫محادوه وأعداؤه‪ ،‬وكان ُي َس َّمى قبل ّ‬ ‫ّ‬
‫النبوة‪ .‬وفي الحديث عنه عليه الصالة‬ ‫قدمنا ذلك في سيرته عليه الصالة والسالم قبل ّ‬ ‫األمين‪ ،‬وقد ّ‬
‫المَب ِّرد‪ :‬قسَّم كسرى أيامه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫يد أمرأة قطّ ال يملك رقّها‪ .‬قال أبو العباس ُ‬
‫يدهُ َ‬
‫والسالم‪ :‬ما لمست ُ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ويوم الشمس للحوائج‪ .‬ولكن‬


‫ويوم الغيم للصيد‪ ،‬ويوم المطر للهو والشرب‪ُ ،‬‬
‫صلح للنوم‪ُ ،‬‬
‫يوم الريح َي ْ‬
‫جزأ‬ ‫نبينا عليه الصالة والسالم َّ‬
‫جزأ نهاره ثالثة أجزاء‪ ،‬جزء هلل‪ ،‬وجزء ألهله‪ ،‬وجزء لنفسه‪ ،‬ثم ّ‬ ‫ّ‬
‫العامة‪ ،‬ويقول‪« :‬أبلغوا حاجة َم ْن ال يستطيعُ‬
‫بالخاصة على ّ‬
‫ّ‬ ‫جزأه بينه وبين الناس‪ ،‬فكان يستعين‬
‫إبالغي‪ ،‬فإن من أبلغ حاجة َم ْن ال يستطيعُ إبالغها آمنهُ اهلل يوم الفزع األكبر»‪ .‬وكان عليه الصالة‬
‫والسالم ال يأخذ أحداً بذنب أحد‪ ،‬وال يصدق أحداً على أحد‪.‬‬

‫وأما وقاره عليه الصالة والسالم وصمته‪ ،‬وتؤدته‪ ،‬ومروءته‪ ،‬وحسن هديه‪ .‬فكان عليه الصالة‬
‫يكاد ُي ِ‬
‫خرج شيئاً من أطرافه‪ ،‬وكان إذا جلس احتبى بيديه‪ ،‬وكذلك‬ ‫أوقر الناس في مجلسه‪ ،‬ال ُ‬
‫والسالم َ‬
‫عمن تكلم بغير‬
‫كان أكثر جلوسه محتبياً‪ .‬وكان كثير السكوت‪ ،‬ال يتكلم في غير حاجة‪ُ .‬يعرض ّ‬
‫ك أصحابه عنده التبسم‬‫ض ِح ُ‬
‫صالً‪ ،‬ال فضول وال تقصير‪ ،‬وكان َ‬ ‫جميل‪ ،‬وكان ضحكه تبسماً‪ ،‬وكالمه فَ ْ‬
‫بن فيه‬
‫مجلس حلم وحياء وخير وأمانة‪ ،‬ال تُرفع فيه األصوات‪ ،‬وال تُْؤ ُ‬
‫ُ‬ ‫توقيراً له‪ ،‬واقتداء به‪ .‬مجلسه‬
‫الح َر ُم‪ ،‬إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير‪ .‬وقال ابن أبي هالة‪ :‬كان سكوته صلى اهلل‬
‫ُ‬
‫عليه وسلم على أربع‪ :‬على الحلم‪ ،‬والحذر‪ ،‬والتقدير‪ ،‬والتف ّكر‪ .‬وقالت عائشة رضي اهلل عنها‪ :‬كان‬
‫ب الطِّيب‪ ،‬والرائحة الحسنة‪،‬‬
‫عده العاد ألحصاه‪ ،‬وكان ُي ِح ّ‬
‫ث حديثاً لو ّ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ُي َح ّد ُ‬
‫ويحض عليهما‪ .‬ومن مروءته صلى اهلل عليه وسلم نهيه عن النفخ في الطعام‬ ‫ّ‬ ‫ويستعملهما كثيراً‪،‬‬
‫والشراب واألمر باألكل مما يلي‪ ،‬واألمر بالسِّواك وإ نقاء البراجم والرواجب (مفاصل األصابع من‬
‫ظاهر الكف وباطنها)‪.‬‬

‫قدمنا لك فيه ما فيه الكفاية‪ ،‬وحسبك شاهداً على تقلُِّل ِه‬


‫وأما زهده عليه الصالة والسالم في الدنيا فقد ّ‬
‫من الدنيا‪ ،‬وإ عراضه عن زهرتها‪ ،‬وقد سيقت إليه بحذافيرها‪ ،‬وترادفت عليه فتوحها‪ ،‬أنه توفي عليه‬
‫رزق‬
‫َ‬ ‫اجعل‬
‫ْ‬ ‫«اللهم‬
‫ّ‬ ‫الصالة والسالم‪ ،‬ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله‪ .‬وهو يدعو ويقول‪:‬ـ‬
‫آل محمد قوتاً»‪ .‬وقالت عائشة رضي اهلل عنها‪ :‬ما شبع عليه الصالة والسالم ثالثة أيام تباعاً من‬
‫خبز حتى مضى لسبيله‪ .‬وقالت‪ :‬ما ترك عليه الصالة والسالم ديناراً‪ ،‬وال درهماً‪ ،‬وال شاة‪ ،‬وال‬
‫بعيراً‪ ،‬ولقد مات وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إال شطر شعير في رف لي‪ .‬وقال‪« :‬إني ُعرض‬
‫رب أجوعُ يوماً‪ ،‬وأشبع يوماً‪ .‬فأما اليوم الذي أجوع‬
‫علي أن تُجعل لي بطحاء مكة ذهباً فقلت‪ :‬ال يا ّ‬
‫ّ‬
‫كنا‬
‫فيه فأتضرع إليك وأدعوك‪ ،‬وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك»‪ ،‬وقالت عائشة‪ :‬إن ّ‬
‫آل محمد لنمكث شهراً ما نستوقد ناراً‪ ،‬إن هو إال التمر والماء‪ .‬وعن أنس‪ :‬ما أكل عليه الصالة‬
‫وان‪ ،‬وال في ُس ُك ُّر َج ٍة‪ ،‬وال ُخبَِز له ُم َرقَّق‪ ،‬وال أرى شاة سميطاً قطّ‪.‬‬
‫والسالم على ُخ ٍ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وفي حديث حفصة‪ :‬كان فراش رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في بيته ِم ْسحاً نثنيه ثنيتين‪ ،‬فينام‬
‫«ردوه بحاله فإن‬
‫عليه‪ ،‬فثنيناه ليلة بأربع‪ ،‬فلما أصبح‪ ،‬قال‪« :‬ما فرشتم لي؟» فذكرنا له ذلك فقال‪ّ :‬‬
‫اءتَهُ منعتني الليلة صالتي»‪.‬‬
‫ط َ‬‫َو َ‬

‫يبث شكوى إلى أحد‪ ،‬وكانت‬


‫وقالت َعائشة‪ :‬لم يمتلىء جوف النبي عليه الصالة والسالم شبعاً‪ ،‬ولم ّ‬
‫أحب إليه من الغنى‪ .‬وإ ن كان ُّ‬
‫ليظل جائعاً يلتوي طول ليلته من الجوع فال يمنعه صيام يومه‪.‬‬ ‫الفاقة ّ‬
‫كنت أبكي رحمة له مما أرى به‪،‬‬ ‫ورغد عيشها‪ .‬ولقد ُ‬
‫َ‬ ‫ربه جميع كنوز األرض وثمارها‬ ‫ولو شاء ّ‬
‫وأمسح بيدي على بطنه مما أرى به من الجوع‪ ،‬وأقول‪ :‬نفسي لك الفداء‪ ،‬لو تبلَّ ْغ َ‬
‫ت من الدنيا بما‬ ‫ُ‬
‫يقوتُك‪ ،‬فيقول‪« :‬يا عائشة ما لي وللدنيا‪ ،‬إخواني من ُأولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد‬
‫وأجزل ثوابهم‪ .‬فأجدني أستحي إن‬ ‫َ‬ ‫من هذا‪ ،‬فمضوا على حالهم‪ ،‬فَقَِد ُموا على ربهم فأكرم مآبهم‪،‬‬
‫إلي من اللحوق بإخواني‬ ‫ُّ‬
‫َّر بي غداً دونهم‪ ،‬وما من شيء هو أحب ّ‬ ‫ترفَّ ْه ُ‬
‫ت في معيشتي أن ُيقَص َ‬
‫صلوات اهلل عليه وسالمه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫بعد إال شهراً حتى توفي‬ ‫وأخالّئي»‪ .‬قالت‪ :‬فما أقام ُ‬
‫وشدة عبادته‪ ،‬فعلى قدر علمه بربه‪ .‬ولذلك قال‪« :‬لو تعلمون ما أعلم‬ ‫وأما خوفه ربه‪ ،‬وطاعته له‪ّ ،‬‬
‫وح َّ‬
‫ق‬ ‫السماء ُ‬
‫ُ‬ ‫ص َّوتت ـ ـ‬ ‫لضحكتم قليالً ولب َكيتم كثيراً» «أرى ما ال ترون وأسمع ما ال تسمعون َأطَّ ْ‬
‫ت ــ َ‬
‫لها أن تَِئطَّ ما فيها موضع أربع أصابع إال وملك واضع جبهته ساجداً هلل‪ ،‬واهلل لو تعلمون ما أعلم‬
‫ُّعدات تجأرون إلى اهلل‬
‫لضحكتم قليالً ولب َكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش‪ ،‬ولخرجتم إلى الص ُ‬
‫تعالى‪ .‬لوددت أني شجرة تعضد»‪.‬‬

‫وكان عليه الصالة والسالم يصلي حتى تَ ِر َم قدماه‪ ،‬فقيل له‪َ :‬أتَ َكلَّ ُ‬
‫ف هذا وقد غفر اهلل لك ما تقدم من‬
‫ذنبك وما تأخر؟ قال‪« :‬أفال أكون عبداً شكوراً»‪ .‬وقالت عائشة رضي اهلل عنها‪ :‬كان عمل رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ِديمةً‪ُّ ،‬‬
‫وأي ُكم يطيق ما كان يطيق؟ وقالت‪ :‬كان يصوم حتى نقول ال يفطر‪،‬‬
‫ويفطر حتى نقول ال يصوم‪ .‬وقال عوفبن مالك‪ :‬كنت مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ليلة‪،‬‬
‫يمر بآية رحمة إال وقف فسأل‪ ،‬وال‬
‫فاستاك‪ ،‬ثم توضأ‪ ،‬ثم قام يصلي‪ ،‬فقمت معه فاستفتح البقرة‪ ،‬فال ّ‬
‫َ‬
‫يمر بآية عذاب إال وقف فتعوذ‪ ،‬ثم ركع فمكث بقدر قيامه‪ ،‬يقول‪« :‬سبحان ذي الجبروت والملكوت‬
‫ّ‬
‫والكبرياء والعظمة»‪ ،‬ثم سجد‪ ،‬وقال مثل ذلك‪ .‬ثم قرأ (آل عمران) ثم سورة سورة يفعل مثل ذلك‪.‬‬
‫أتيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل‪ ،‬وفي‬
‫وقال بعضهم‪ُ :‬‬
‫متواصل األحزان دائم الفكرة ليست له راحة‪.‬‬
‫َ‬ ‫وصف ابن أبي هالة‪ :‬كان‬
‫سنته فقال‪« :‬المعرفةُ رأس‬
‫وعن علي رضي اهلل عنه قال‪ :‬سألت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫والحزن‬
‫ُ‬ ‫والشوق مركبي‪ ،‬وذكر اهلل أنيسي‪ ،‬والثقة كنزي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫والحب أساسي‪،‬‬ ‫مالي‪ ،‬والعق ُل أصل ديني‪،‬‬
‫واليقين‬
‫ُ‬ ‫والزهد ِحرفتي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫والعجز فخري‪،‬‬
‫ُ‬ ‫والصبر ردائي‪ ،‬والرضا غنيمتي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫والعلم سالحي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫رفيقي‪،‬‬
‫وقرة عيني في الصالة‪ ،‬وثمرة فؤادي في‬
‫قوتي‪ ،‬والصدق شفيعي‪ ،‬والطاعة حسبي‪ ،‬والجهاد خلقي‪ّ ،‬‬
‫وغمي ألجل أمتي‪ ،‬وشوقي إلى ربي» فجزاه اهلل من نبي عن أمته خيراً‪ ،‬ورحم اهلل عبداً تأمل‬
‫ذكره‪ِّ ،‬‬
‫في هذه الشمائل الكريمة والخصال الجميلة فتمسك بها‪ ،‬واتبع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ليحوز‬
‫اللهم التوفيق لما فيه الخير ِّ‬
‫بمنك وكرمك يا‬ ‫شفاعته يوم الفزع األكبر‪ ،‬ويرضى اهلل عنه‪ ،‬فنسألك ّ‬
‫أرحم الراحمين‪.‬‬

‫ُم ْعجزاتُهُ عليه السالم‬

‫قدمناه من جميل أثر هذا السيد الكريم‪ ،‬وحميد سيره‪ ،‬وبراعة علمه‪ ،‬ورجاحة‬
‫إذا تأمل المتأمل ما ّ‬
‫نبوته‪،‬‬
‫عقله وحلمه‪ ،‬وجملة كماله‪ ،‬وجميع خصاله‪ ،‬و َشاهد حاله‪ ،‬وصواب مقاله‪ .‬لم يمتر في صحة ّ‬
‫وصدق دعوته‪ ،‬وقد كفى هذا غير واحد في إسالمه واإليمان به كعبد اللهبن سالم‪ .‬فإنه قال‪ :‬لما قدم‬
‫ت وجهه عرفت َّ‬
‫َأن وجهه ليس بوجه‬ ‫النبي صلى اهلل عليه وسلم المدينة جئته ألنظر إليه فلما استََب ْن ُ‬
‫كذاب‪.‬‬
‫أن ِ‬
‫ضماداً لما وفد عليه قال له صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن الحمد هلل نحمده ونستعينه‪ ،‬من‬ ‫وروى مسلم َّ‬
‫ض َّل له‪ ،‬ومن يضلل اهلل فال هادي له‪ .‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له وأن‬‫يهد اهلل فال م ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫علي كلماتك هؤالء‪ ،‬فلقد بلغن قاموس البحر‪ ،‬هات يدك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫محمداً عبده ورسوله» فقال له ضماد‪ :‬أع ْد ّ‬
‫ُأبايعك‪.‬‬
‫ملك ُعمان أن رسول اهلل عليه الصالة والسالم يدعوه إلى اِإل سالم‪ ،‬قال‪ :‬واهلل لقد دلّني على‬
‫ولما بلغ َ‬
‫هذا النبي األمي أنه ال يأمر بخير إال كان أول آخذ به‪ ،‬وال ينهى عن شيء إال كان أول تارك له‪ ،‬وأنه‬
‫ض َجر‪ ،‬ويفي بالعهد‪ ،‬وينجز الموعود‪ ،‬وأشهد أنه نبي‪ .‬وقال ابن‬
‫ويغلب فال َي ْ‬
‫لب فال يبطر‪ُ ،‬‬
‫َي ْغ ُ‬
‫رواحة‪:‬‬
‫بالخَبر كيف وقد أظهر اهلل على يده تصديقاً لدعوته من‬
‫نبيك َ‬
‫منظرهُ ُي َ‬
‫ُ‬ ‫ِّنةلكان‬
‫َ‬ ‫تكن فيه آيات مبي‬
‫لو لم ْ‬
‫العد‪ ،‬فهو أكثر األنبياء آيةً‪ ،‬وأظهرهم برهاناً‪ ،‬وسنذكر لك في هذا الفصل من‬
‫المعجزات ما ال يفي به ّ‬
‫الجم الغفير من الصحابة رضوان اهلل عليهم‪،‬‬
‫عينك‪ ،‬ويزداد به يقينك‪ ،‬مما رواه ّ‬
‫َ‬ ‫تقر به‬
‫اآليات ما ُّ‬
‫المحدثون في صحاحهم‪ ،‬ونبدأ منها بأظهرها شأناً‪ ،‬وأوضحها بياناً‪ ،‬وهو القرآن الشريف‬
‫ّ‬ ‫وأثبته‬
‫وإ عجازه‪.‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫اعلم أن كتاب اهلل العزيز ُم ْن ٍ‬


‫طو على وجوه من اإلعجاز كثيرة‪ ،‬وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في‬
‫أربعة‪:‬‬

‫أولها‪ :‬حسن تأليفه‪ ،‬والتئام كلمه‪ ،‬وفصاحته‪ ،‬ووجوه إيجازه‪ ،‬وبالغته الخارقة عادة العرب‪ ،‬وذلك‬
‫ص به غيرهم‬
‫أرباب هذا الشأن‪ ،‬وفرسان الكالم‪ ،‬قد ُخصُّوا من البالغة والحكم بما لم ُي َخ َّ‬
‫َ‬ ‫أنهم كانوا‬
‫ؤت إنسان‪ ،‬ومن فصل الخطاب ما ُيقَيِّد األلباب‪ ،‬جعل اهلل‬‫من األمم‪ ،‬وُأوتوا من َذرابة اللسان ما لم ُي َ‬
‫وي ْدلُون به إلى كل سبب‪،‬‬ ‫ِ‬
‫لهم ذلك طبعاً وخْلقة‪ ،‬وفيهم غريزة وقوة‪ ،‬يأتون منه على البديهة بالعجب‪ُ ،‬‬
‫طب‪ ،‬ويرتجزون به بين الطعن والضرب‪ ،‬ويقدحون‬ ‫الخ ْ‬
‫يخطبون بديهاً في المقامات‪ ،‬وشديد َ‬
‫ط ِّوقون‬
‫وي َ‬
‫ويمدحون‪ ،‬ويتوسلون ويتوصلون‪،‬ـ ويرفعون ويضعون‪ ،‬فيأتون من ذلك بالسِّحر الحالل‪ُ ،‬‬
‫وي ْذهبون اِإل حن‪،‬‬ ‫ِ‬
‫َأج َم َل من س ْمط الآلل‪ ،‬فيخدعون األلباب‪ ،‬ويذللون الصعاب‪ُ ،‬‬
‫من أوصافهم ْ‬
‫ويجرئون الجبان‪ ،‬ويصيرون الناقص كامالً‪ ،‬ويتركون النبيه خامالً‪ ،‬منهم البدوي‬‫الد َمن‪ِّ ،‬‬ ‫ويهيجون ِّ‬
‫ُ‬
‫صل‪ ،‬والكالم الفخم‪ ،‬والطبع الجوهري‪ ،‬والمنزع القوي‪ ،‬ومنهم‬
‫ذو اللفظ الجزل‪ ،‬والقول الفَ ْ‬
‫والتصرف في‬
‫ّ‬ ‫الحضري‪ ،‬ذو البالغة البارعة‪ ،‬واأللفاظ الناصعة‪ ،‬والكلمات الجامعة‪ ،‬والطبع السهل‪،‬‬
‫القول القليل الكلفة‪ ،‬الكثير الرونق‪ ،‬الرقيق الحاشية‪ ،‬وكالهما له في البالغة الحجة البالغة‪ ،‬والقوة‬
‫والم ْهيعُ الناهج‪ ،‬ال يشكون أن الكالم طوع مرادهم‪ ،‬والبالغة ملك قيادهم‪ ،‬قد‬ ‫ِ‬
‫دح الفالج‪َ ،‬‬ ‫الدامغة‪ ،‬والق ُ‬
‫وعلَوا صرحاً لبلوغ أسبابها‪ ،‬فقالوا‬
‫َحووا فنونها‪ ،‬واستنبطوا عيونها‪ ،‬ودخلوا من كل باب من أبوابها‪َ ،‬‬
‫القل وال ُكثْر‪ ،‬وتساجلوا في النظم‬ ‫الغث والسمين‪ ،‬وتقاولوا في ُّ‬ ‫في الخطير والمهين‪ ،‬وتفننوا في ّ‬
‫اط ُل ِمن َب ْي ِن َي َد ْي ِه َوالَ ِم ْن َخْلِف ِه تَ ِ‬
‫نزي ٌل‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫يه اْلب ِ‬
‫راعهم إال رسول كريم‪ ،‬بكتاب عزيز‪ :‬ال َيْأت َ‬ ‫والنثر‪ ،‬فما َ‬
‫ور ٍة ّمن ِّمثِْل ِه َو ْاد ُعوْا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ ٍِ‬
‫ّم ْن َحكيم َحميد(‪َ )38( )42‬وِإ ن ُكنتُ ْم فى َر ْيب ّم َّما َن َّزْلَنا َعلَى َع ْبدَنا فَْأتُوْا ب ُس َ‬
‫ون اللَّ ِه ِإن ُكنتُ ْم‬
‫ُشهَ َدآء ُكم ِّمن ُد ِ‬

‫نس َواْل ِج ُّن َعلَى َأن‬ ‫ص ِاد ِقين(‪ )23‬فَِإن لَّم تَ ْفعلُوْا ولَن تَ ْفعلُوْا} (البقرة‪ 23 :‬ـ ـ ‪ُ { ،)24‬قل لَِّئ ِن ْ ِ‬
‫اجتَ َم َعت اِإل ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ظ ِه ًيرا(‪)88‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َيْأتُوْا بِ ِم ْث ِل َها َذا اْلقُْر ِ‬
‫ضهُ ْم لَب ْع ٍ‬
‫ض َ‬ ‫ون بِم ْثله َولَ ْو َك َ‬
‫ان َب ْع ُ‬ ‫ءان الَ َيْأتُ َ‬

‫أعالمهم‪ ،‬ويشتِّ ُ‬
‫ت‬ ‫َ‬ ‫ويحط‬
‫أشد التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ‪ ،‬ويسفّه أحالمهم‪ُ ،‬‬
‫فلم يزل يقرعهم ّ‬
‫نظامهم‪ ،‬ويذم آلهتهم وآباءهم‪ ،‬ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم‪ ،‬وهم في كل هذا ناكصون عن‬
‫معارضته‪ ،‬محجمون عن مماثلته‪ ،‬يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب‪ ،‬واالغترار باالفتراء‪،‬‬
‫وقولهم‪ِ :‬إ ْن َها َذآ ِإالَّ ِس ْحٌر يُْؤ ثَُر(‪ِ )24‬س ْحٌر ُّم ْستَ ِمٌّر} (القمر‪ .)2 :‬و{ِإ ْف ٌ‬
‫ك ا ْفتََراهُ} (الفرقان‪.)4 :‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫و{َأس ِ‬
‫ف} (البقرة‪:‬‬ ‫وبَنا ُغْل ٌ‬ ‫ين} (األنعام‪ .)25 :‬والمباهتة‪ ،‬والرضا بالدنية‪ .‬كقولهم‪ُ { :‬قلُ ُ‬ ‫ال َّوِل َ‬
‫اط ُير ا ْ‬ ‫َ‬
‫اب} (فصلت‪ ،)5 :‬و{الَ‬ ‫ونا ِإلَْي ِه َو ِفى ءاذانَِنا َو ْقٌر َو ِمن َب ْينَِنا َوَب ْينِ َك ِح َج ٌ‬
‫َأكَّن ٍة ِم َّما تَ ْد ُع َ‬
‫و{فى ِ‬‫‪ِ ،)88‬‬
‫يه} (فصلت‪ ،)26 :‬واالدعاء مع العجز‪ ،‬كقولهم‪{ :‬لَ ْو َن َشآء لَ ُقْلَنا ِم ْث َل‬ ‫ءان واْل َغوْا ِف ِ‬ ‫ِ‬
‫تَ ْس َم ُعوْا لهَا َذا اْلقُْر ِ َ ْ‬
‫{ولَن تَ ْف َعلُوْا} (البقرة‪ )24 :‬فما فعلوا وال قدروا‪ ،‬ومن تعاطى ذلك‬ ‫َها َذآ} (األنفال‪ )31 :‬وقد قال لهم‪َ :‬‬
‫ف‬‫ف عواره لجميعهم‪ .‬وسلبهم اهلل ما ألفوه من فصيح كالمهم‪ ،‬وإ ال لم َي ْخ َ‬ ‫كمسيلمة‪ُ ،‬ك ِش َ‬‫ِ‬ ‫من سخفائهم‬
‫على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم‪ ،‬وال جنس بالغتهم‪ ،‬بل ولّوا عنه مدبرين‪ ،‬وأتوا إليه‬
‫{ولَ ْو تََرى ِإ ْذ‬ ‫مذعنين‪ ،‬وأنت إذا تأملت قوله تعالى‪{ :‬ولَ ُك ْم ِفي اْلِق َ ِ‬
‫صاص حياةٌ} (البقرة‪ )179 :‬وقوله‪َ :‬‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ُأخ ُذوْا ِمن َّم َك ٍ‬
‫ان قَ ِر ٍ‬ ‫تو ِ‬
‫َأح َس ُن فَِإ َذا الذى َب ْيَن َك َوَب ْيَنهُ َع َد َاوةٌ َك ََّأنهُ‬‫يب(‪ْ )51‬ادفَ ْع بِالتى ه َى ْ‬ ‫فَ ِز ُعوْا فَالَ فَ ْو َ َ‬
‫ض ْابلَ ِعى‬
‫ياَأر ُ‬
‫يل ْ‬ ‫{و ِق َ‬
‫يم} (فصلت‪ )34 :‬وقوله‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫َوِل ٌّى َحم ٌ‬

‫َّ ِ ِ‬ ‫ى َو ِق َ‬ ‫ت َعلَى اْل ُج ِ‬ ‫آءك وياسمآء َأ ْقِل ِعى و ِغيض اْلمآء وقُ ِ‬ ‫م ِ‬
‫ين(‬‫يل ُب ْع ًدا لّْلقَ ْوِم الظالم َ‬ ‫ود ّ‬ ‫استََو ْ‬ ‫ال ْم ُر َو ْ‬
‫ض َى ا ْ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ‬
‫َّي َحةُ َو ِم ْنهُ ْم َّم ْن َخ َس ْفَنا بِ ِه‬ ‫اصباً َو ِم ْنهُ ْم َّم ْن َ‬
‫َأخ َذتْهُ الص ْ‬ ‫ْ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪ )44‬فَ ُكالًّ َ‬
‫َأخ ْذَنا بِ َذنبِ ِه فَ ِم ْنهم َّمن َأرسْلَنا علَْي ِه ح ِ‬
‫ظِلمهم واَل ِكن َك ُانوْا َأنفُسهم ي ِْ‬ ‫َأغر ْقَنا وما َك َّ ِ‬
‫ون(‪)40‬‬ ‫ظل ُم َ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫ض َو ِم ْنهُ ْم َّم ْن ْ َ َ َ َ‬
‫ان اللهُ لَي ْ َ ُ ْ َ‬ ‫ال ْر َ‬
‫اْ‬
‫الوجه الثاني من إعجاز القرآن‪ :‬صورة نظمه العجيب‪ ،‬واألسلوب الغريب المخالف ألساليب كالم‬
‫وانتهت فواصل كلماته إليه‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ووقفت عليه مقاطع آيِه‬
‫ْ‬ ‫العرب‪ ،‬ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه‬
‫وتدلَّ ْ‬
‫هت‬ ‫حارت فيه عقولهم‪َ ،‬‬
‫أحد مماثلة شيء منه‪ ،‬بل َ‬‫ولم يوجد قبله وال بعده نظير له‪ ،‬وال استطاع ٌ‬
‫دونه أحالمهم‪ ،‬ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كالمهم من نثر‪ ،‬أو نظم‪ ،‬أو سجع‪ ،‬أو رجز‪ ،‬أو شعر‪.‬‬

‫واِإل عجاز بكل واحد من النوعين‪ ،‬واِإل يجاز والبالغة بذاتها‪ ،‬أو األسلوب الغريب بذاته‪ ،‬كل واحد‬
‫منهما نوع إعجاز‪ ،‬لم تقدر العرب على اِإل تيان بواحد منهما‪ ،‬إذ كل واحد منهما خارج عن قدرتها‬
‫مباين لفصاحتها وكالمها‪.‬‬
‫ٌ‬

‫يبات‪ ،‬وما لم يكن ولم يقع فوقع‪ ،‬فوجد‬ ‫الوجه الثالث من اإلعجاز‪ :‬ما انطوى عليه من اإلخبار بالم َغ ِ‬
‫ُ‬
‫َّ ِ ِ‬
‫كما ورد وعلى الوجه الذي أخبر كقوله تعالى‪ :‬لَتَ ْد ُخلُ َّن اْل َم ْس ِج َد اْل َح َر َام ِإن َشآء اللهُ ءامن َ‬
‫ين} (الفتح‪:‬‬
‫ين} (الروم‪ 3 :‬ـ ـ ‪ ،)4‬وقوله‪:‬‬ ‫‪ ،)27‬وقوله عن الروم‪{ :‬وهم من بع ِد َغلَبِ ِهم سي ْغِلبون ِفى بِ ْ ِ ِ‬
‫ض ِع سن َ‬ ‫ْ ََ ُ َ‬ ‫َ ُ ّ َْ‬
‫َّالح ِ‬
‫ات‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َِّ‬ ‫الد ِ ِ‬ ‫ِ{لُي ْ‬
‫ظ ِه َرهُ َعلَى ّ‬
‫ءامُنوْا م ْن ُك ْم َو َعملُوْا الص َ‬
‫ين َ‬ ‫{و َع َد اللهُ الذ َ‬ ‫ين ُكلّه} (الصف‪ )9 :‬وقوله‪َ :‬‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ف الَِّذ ِ ِ‬ ‫لََي ْستَ ْخِلفََّنهُ ْم ِفى ا ْ‬
‫ضى لَهُ ْم َولَُيَب ّدلََّنهُ ْم‬ ‫ين من قَْبل ِه ْم َولَُي َم ّكَن َّن لَهُ ْم د َينهُ ُم الذى ْارتَ َ‬
‫َ‬ ‫استَ ْخلَ َ‬ ‫ال ْر ِ‬
‫ض َك َما ْ‬
‫ون ِفى‬ ‫اس َي ْد ُخلُ َ‬ ‫ت َّ‬
‫الن َ‬ ‫ص ُر اللَّ ِه َواْلفَتْ ُح(‪َ )1‬و َر َْأي َ‬‫َأمناً} (النور‪ )55 :‬وقوله‪ِ{ :‬إ َذا َجآء َن ْ‬
‫ِ‬
‫ّمن َب ْعد َخ ْو ِف ِه ْم ْ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِد ِ َّ ِ‬


‫الدُب َر(‪)45‬‬ ‫ون ُّ‬ ‫ون(‪َ )9‬سُي ْه َز ُم اْل َج ْمعُ َوُي َول َ‬ ‫ين الله َأ ْفواجاً(‪ِ )2‬إَّنا َن ْح ُن َن َّزْلَنا ال ّذ ْك َر َوِإ َّنا لَهُ لَ َحافظُ َ‬
‫طلع عليه قارىء هذه السيرة‪ ،‬وما فيه من‬ ‫وه ْم ُي َع ّذ ْبهُ ُم اللَّهُ بِ َْأيِدي ُك ْم} (التوبة‪ )14 :‬فكان كذلك مما ا ّ‬ ‫ِ‬
‫قَاتلُ ُ‬
‫ون ِفى َأنفُ ِس ِه ْم لَ ْوالَ ُي َع ّذُبَنا‬‫{وَيقُولُ َ‬ ‫ِِ‬
‫كشف أسرار المنافقين واليهود‪ ،‬ومقالهم وكذبهم في َحلفهم كقوله‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫اللَّه بِما َنقُو ُل} (المجادلة‪ )8 :‬وقوله‪{ :‬ي ْخفُ ِ‬
‫ون لَ َك} (آل عمران‪)154 :‬‬ ‫ون فى َْأنفُس ِهم َّما الَ ُي ْب ُد َ‬
‫ُ َ‬ ‫ُ َ‬
‫اس َم ْع َغ ْي َر ُم ْس َم ٍع‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ص ْيَنا َو ْ‬
‫ون َسم ْعَنا َو َع َ‬ ‫ون اْل َكل َم َعن َّم َواضعه َوَيقُولُ َ‬ ‫ادوْا ُي َح ّرفُ َ‬ ‫ين َه ُ‬ ‫{م َن الذ َ‬ ‫وقوله‪ّ :‬‬
‫البينات‪.‬‬ ‫ين} (النساء‪ )46 :‬إلى غير ذلك من اآليات ّ‬ ‫ط ْعناً ِفى ّ‬
‫الد ِ‬ ‫راعَنا لَّياً بَِأْل ِسَنتِ ِه ْم َو َ‬
‫و ِ‬
‫َ‬

‫الوجه الرابع‪ :‬ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة‪ ،‬واألمم البائدة‪ ،‬والشرائع الداثرة‪ ،‬مما كان ال يعلم‬
‫منه القصة الواحدة إال الف ّذ من أحبار أهل الكتاب‪ ،‬الذي قطع عمره في تعلّم ذلك‪ ،‬فيورده عليه الصالة‬
‫فيقر العالم بذلك بصحته وصدقه‪ ،‬وأن مثله لم ينله بتعليم‪،‬‬
‫والسالم على وجهه‪ ،‬ويأتي به على نصه‪ُّ ،‬‬
‫ُأمي‪ ،‬ال يقرأ وال يكتب‪ ،‬وال اشتغل بمدارسة وال مجالسة‪ ،‬لم يغب‬
‫وقد علموا أنه صلى اهلل عليه وسلم ّ‬
‫عنهم‪ ،‬وال َج ِه َل حالَه أحد منهم‪ ،‬وكثيراً ما كان يسأله كثير من أهل الكتاب عن هذا‪ ،‬فينزل عليه من‬
‫القرآن ما يتلو عليهم منه ذكراً‪ ،‬كقصص األنبياء‪ ،‬وبدء الخلق‪ ،‬وما في الكتب السابقة مما صدقه فيه‬
‫العلماء بها‪ ،‬ولم يقدروا على تكذيب ما ُذكر منها‪ ،‬ولم يؤثر أن واحداً منهم أظهر خالف قوله من‬
‫قرعهم ووبَّخهم بقوله‪ُ { :‬ق ْل فَْأتُوْا بِالتَّْو َر ِاة‬
‫كتبه‪ ،‬وال أبدى صحيحاً‪ ،‬وال سقيماً من صحفه‪ ،‬بعد أن ّ‬
‫ين} (آل عمران‪.)93 :‬‬ ‫فَ ْاتلُوها ِإن ُكنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬

‫ال ِخ َرةُ‬ ‫ت لَ ُكم َّ‬


‫الد ُار ا ْ‬ ‫ِإ‬
‫تحداهم فيه اهلل بقوله‪ُ { :‬ق ْل ن َك َان ْ ُ‬
‫ومما يد ّل على أن أهل الكتاب يعلمون صدقه ما ّ‬
‫ين(‪)94‬‬ ‫ت ِإن ُك ْنتُم ِ ِ‬ ‫الن ِ‬
‫اس فَتَ َمَّن ُوْا اْل َم ْو َ‬ ‫ون َّ‬
‫صةً ّمن ُد ِ‬ ‫ِع َ َّ ِ ِ‬
‫صادق َ‬‫ْ َ‬ ‫ند الله َخال َ‬
‫الروعة التي تلحق قلوب سامعيه‪ ،‬والهيبة التي‬
‫ومما يدل على أن هذا القرآن ليس من كالم البشر‪ّ :‬‬
‫لقوة حاله‪ ،‬وإ نافة خطره‪ ،‬حتى كانوا يستثقلون سماعه‪ ،‬ويزيدهم نفوراً‪ ،‬ولهذا‬
‫تعتريهم عند تالوته‪ّ ،‬‬
‫مستصعب على َمن كرهه‪ ،‬وهو الحكم»‪.‬‬
‫َ‬ ‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن القرآن صعب‬

‫وأما المؤمن فال تزال روعته به وهيبته إياه مع تالوته توليه إقباالً‪ ،‬وتَ ْك ِسُبهُ هشاشة لميل قلبه إليه‬
‫وبهُ ْم ِإلَى ِذ ْك ِر اللَّ ِه}‬
‫ود ُه ْم َو ُقلُ ُ‬
‫ين ُجلُ ُ‬ ‫ِ‬
‫ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم ثَُّم تَل ُ‬
‫وتصديقه به‪ .‬قال تعالى‪ :‬تَ ْق َش ِع ُّر ِم ْنه جلُ ُ َِّ‬
‫ود الذ َ‬ ‫ُ ُ‬
‫ص ّدعاً ّم ْن َخ ْشَي ِة اللَّ ِه}‬ ‫ِ‬ ‫ٍ َّ‬
‫ءان َعلَى َجَبل ل َر َْأيتَهُ َخاشعاً ُّمتَ َ‬ ‫َأنزْلَنا َها َذا اْلقُْر َ‬
‫(الزمر‪ .)23 :‬وقال تعالى‪{ :‬لَ ْو َ‬
‫(الحشر‪f.)21 :‬‬
‫ومن وجوه إعجاز القرآن‪ :‬كونه آية باقية ال تعدم ما بقيت الدنيا‪ ،‬مع تكفل اهلل بحفظه‪ ،‬فقال‪ِ{ :‬إَّنا َن ْح ُن‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫اط ُل ِمن َب ْي ِن َي َد ْي ِه َوالَ ِم ْن َخْلِف ِه} (فصلت‪ )42 :‬وسائر‬ ‫َّ ِ ِ‬


‫يه اْلب ِ‬ ‫ِ‬
‫َن َّزْلَنا ال ّذ ْك َر َوِإ َّنا لَهُ لَ َحافظُ َ‬
‫ون(‪ )9‬ال َيْأت َ‬
‫معجزات األنبياء لم يبق إال خبرها‪ ،‬والقرآن إلى وقتنا هذا حجة قاهرة‪ ،‬ومعارضة ممتنعة‪،‬‬
‫واألعصار كلها طافحة بأهل البيان‪ ،‬وحملة علم اللسان‪ ،‬وأئمة البالغة‪ ،‬وفرسان الكالم‪ ،‬وجهابذة‬
‫البراعة‪ ،‬والملحد فيهم كثير‪ ،‬والمعادي للشرع عتيد‪ ،‬فما منهم من أتى بشيء يؤثر في معارضته‪ ،‬وال‬
‫المتكلف من ذهنه في ذلك إال‬
‫ُ‬ ‫ألّف كلمتين في مناقضته‪ ،‬وال قدر فيه على مطعن صحيح‪ ،‬وال قدح‬
‫بَِز ْند شحيح‪ ،‬بل المأثور عن كل من رام ذلك إلقاءه في العجز بيديه‪ ،‬والنكوص على عقبيه‪.‬‬

‫ولنختم لك هذا الباب بحديثه عليه الصالة والسالم في القرآن قال‪« :‬إن اهلل أنزل هذا القرآن آمراً‬
‫وح ْكم ما بينكم‪،‬‬
‫وسنة خالية‪ ،‬ومثالً مضروباً‪ ،‬فيه نبؤكم وخبر من كان قبلكم ونبأ ما بعدكم ُ‬
‫وزاجراً‪ّ ،‬‬
‫الر ِّد‪ ،‬وال تنقضي عجائبه‪ ،‬هو الحق ليس بالهزل‪ ،‬من قال به صدق‪ ،‬ومن حكم به‬
‫ال يخلقه طول َّ‬
‫دي إلى صراط‬ ‫عدل‪ ،‬ومن خاصم به َفلَ َج‪ ،‬ومن حكم به أقسط‪ ،‬ومن عمل به ِ‬
‫ُأج َر‪ ،‬ومن تمسك به ُه َ‬
‫والنور‬
‫ُ‬ ‫الذكر الحكيم‪،‬‬
‫صمه اهلل‪ ،‬هو ُ‬‫مستقيم‪ ،‬ومن طلب الهدى من غيره أضلّه اهلل‪ ،‬ومن َح َك َم بغيره قَ َ‬
‫والشفاء النافع‪ ،‬عصمة لمن تمسك به‪ ،‬ونجاةٌ لمن‬
‫ُ‬ ‫المبين‪ ،‬والصراطُ المستقيم‪ ،‬وحبل اهلل المتين‪،‬‬
‫ب»‪.‬‬ ‫اتّبعه‪ ،‬ال يعوج فيقَ َّوم‪ ،‬وال يزيغ فَُي ْستَ ْعتَ َ‬

‫قدمنا حديثه مستوفى‪.‬‬


‫ومن معجزاته صلى اهلل عليه وسلم انشقاق القمر وقد ّ‬
‫الجم‬
‫وتكثيره ببركته‪ ،‬وقد روى هذا ُّ‬
‫ُ‬ ‫ومن معجزاته صلى اهلل عليه وسلم نبع الماء من بين أصابعه‪،‬‬
‫الغفير من الصحابة‪ ،‬منهم أنس وجابر وابن مسعود‪.‬‬
‫ماء‬
‫فالتمس الناس ً‬
‫َ‬ ‫حانت صالة العصر‪،‬‬
‫ْ‬ ‫رأيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقد‬
‫ُ‬ ‫قال أنس‪:‬‬
‫للوضوء‪ ،‬فلم يجدوه‪ ،‬فُأتي النبي صلى اهلل عليه وسلم بِ َوضوء‪ ،‬فوضع في اإلناء يده‪ ،‬وأمر الناس أن‬
‫الناس حتى توضؤوا عن آخرهم‪،‬‬
‫فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه‪ ،‬فتوضأ ُ‬
‫ُ‬ ‫يتوضؤوا منه‪ .‬قال‪:‬‬
‫فقيل‪ :‬كم كنتم؟ قال زهاء ثالثمائة‪.‬‬
‫فقال لنا‪« :‬اطلبوا من‬
‫وقال ابن مسعود‪ :‬بينما نحن مع النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وليس معنا ماء‪َ ،‬‬
‫الماء ينبع من بين أصابعه‪.‬‬ ‫معه فض ُل ٍ‬
‫وضع كفّه فيه فجعل ُ‬
‫فصبه في إناء‪ ،‬ثم َ‬
‫ماء»‪ ،‬فُأتي بماء‪ّ ،‬‬
‫الح َديبية ورسول اهلل بين يديه ِركوةٌ فتوضأ منها‪ ،‬وأقبل الناس نحوه‪،‬‬
‫الناس يوم ُ‬
‫وقال جابر‪ :‬عطش ُ‬
‫الركوة‪ ،‬فجعل الماء يفور من بين أصابعه‬
‫وقالوا ليس عندنا ماء إال ما في ركوتك‪ ،‬فوضع يده في ِّ‬
‫كنا خمس عشرة مائة‪.‬‬
‫كنا مائة ألف لكفانا‪ّ ،‬‬
‫كأمثال العيون‪ .‬قيل كم كنتم؟ قال‪ :‬لو ّ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫وروى هذه القصة جمع عظيم من الصحابة‪ ،‬ومثل هذا في هذه المواطن الحفيلة‪ ،‬والجموع الكثيرة‪ ،‬ال‬
‫نفوسهم من ذلك‪،‬‬
‫المحدث به‪ ،‬ألنهم كانوا أسرع شيء إلى تكذيبه‪ ،‬لما ُجبلت عليه ُ‬
‫ّ‬ ‫تتطرق التهمة إلى‬
‫يسكت على باطل‪ ،‬فهؤالء قد رووا هذا‪ ،‬وأشاعوه ونسبوا حضور الجم الغفير‬
‫ُ‬ ‫ممن ال‬
‫وألنهم كانوا ّ‬
‫له‪ ،‬ولم ينكر عليهم أحد من الناس ما َّ‬
‫حدثوا به عنهم أنهم فعلوه وشاهدوه‪ ،‬فصار كتصديق جميعهم‬
‫لهم‪.‬‬
‫بمسه ودعوته‪ ،‬كما ورد عن معاذبن جبل في قصة‬
‫ومما يشبه هذا تفجير الماء ببركته‪ ،‬وانبعاثه ّ‬
‫غزوة تبوك‪ ،‬وأنهم وردوا العين وهي تلمع بشيء من ماء مثل ِّ‬
‫الشراك‪ ،‬فغرفُوا من العين بأيديهم‬ ‫ُ‬
‫حتى اجتمع فيه شيء‪ ،‬ثم غسل عليه الصالة والسالم فيه وجهه ويديه‪ ،‬وأعاده فيها فجرت بماء كثير‪،‬‬
‫كحس الصواعق ـ ـ ثم قال‪:‬‬
‫فاستقى الناس ـ ـ وفي رواية ابن إسحاق فانخرق من الماء ما له حس ِّ‬
‫قدمنا ذلك في غزوة تبوك‪.‬‬
‫«يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة‪ ،‬أن ترى ما هنا قد ملىء جناناً»‪ .‬وقد ّ‬
‫الحديبية بدعوته عليه الصالة والسالم‪ .‬وروى أبو‬‫البراء وسلمةبن األكوعـ تكثير عين َ‬ ‫وروي عن َ‬
‫بالم ْيض َِأة فجعلها في ِ‬
‫ض ْبنه (ما‬ ‫قتادة أن الناس َش َكوا إلى رسول اهلل العطش في بعض أسفاره فدعا ِ‬
‫َ‬
‫بين الكشح إلى اإلبط) ثم التقم فمها‪ ،‬فاهلل أعلم‪ ،‬أنفث فيها أم ال؛ فشرب الناس حتى رووا وملؤوا كل‬
‫فخيل لي أنها كما أخذها مني‪ .‬وكانوا اثنين وسبعين رجالً‪.‬‬
‫إناء معهم‪ّ ،‬‬

‫َّ‬
‫محال مختلفة‪ ،‬بحيث ال‬ ‫ورويت قصص مشابهة لهذه عن كثير من الصحابة رضوان اهلل عليهم في‬
‫يشك أحد في صدقها بعد تضافر الثقات على روايتها‪.‬‬
‫ومن ذلك تكثير الطعام ببركته ودعائه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬روى أبو طلحة أنه عليه الصالة والسالم‬
‫أطعم ثمانين أو سبعين رجالً من أقراص من شعير جاء بها أنس تحت إبطه‪ ،‬فأمر بها عليها الصالة‬
‫والسالم ففُتِّتت‪ ،‬وقال فيها ما شاء اهلل أن يقول‪.‬ـ‬

‫وعَناق‪ ،‬وقال‬
‫وروى جابر أنه عليه الصالة والسالم أطعم يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير َ‬
‫جابر‪ :‬فُأقسم باهلل ألكلوا حتى تركوه وانحرفوا‪ ،‬وإ ن ُب ْر َمتنا لَتَ ِغطُّ كما هي‪ ،‬وإ ن عجيننا ليخبز‪ .‬وكان‬
‫عليه الصالة والسالم قد بصق في العجين والبرمة وبارك‪ .‬وروى أبو أيوب أنه صنع لرسول اهلل‬
‫وأبي بكر طعاماً يكفيهما‪ ،‬فأطعم منه عليه الصالة والسالم مائة وثمانين رجالً‪ .‬وروى مثل ذلك كثير‬
‫من الصحابة كعبد الرحمانبن أبي بكر‪ ،‬وسلمةبن األكوع‪ ،‬وأبي هريرة‪ ،‬وعمربن الخطاب‪ ،‬وأنسبن‬
‫مالك‪ ،‬رضوان اهلل عليهم أجمعين‪.‬‬
‫ومن معجزاته عليه الصالة والسالم قصة حنين الجذع‪ ،‬قال جابربن عبد اهلل‪ :‬كان المسجد مسقوفاً‬
‫صنع له المنبر‬
‫على جذوع نخل‪ ،‬فكان عليه الصالة والسالم إذا خطب يقوم إلى جذع منها‪ ،‬فلما ُ‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت ِ‬


‫الع َشار‪ .‬وفي رواية أنس‪ :‬حتى َّ‬
‫ارتج المسجد لخواره‪ .‬وفي رواية‬
‫سهل‪ :‬وكثر بكاء الناس لما رأوه به‪ .‬وفي رواية المطلب‪ :‬وانشق حتى جاء النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فوضع يده عليه فسكت‪ .‬زاد غيره‪ :‬فقال عليه الصالة والسالم‪َّ :‬‬
‫«إن هذا بكى لما فقد من‬
‫الذكر»‪ .‬وزاد غيره‪« :‬والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة تحزناً على رسول‬
‫خرجه أهل الصحة‪ ،‬ورواه من‬ ‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم» فأمر به فدفن تحت المنبر‪ .‬وهذا الحديث َّ‬
‫عدتهم يقع العلم لمن ُعنِ َي بهذا‬
‫ضعفُهم‪ ،‬وبمن دون ّ‬‫الصحابة كثيرون‪ ،‬ورواه عنهم من التابعين ِ‬
‫الباب‪ ،‬واهلل المثبِّت على الصواب‪.‬‬

‫عين‬
‫ُأحد ُ‬
‫ومن معجزاته عليه الصالة والسالم إبراء المرضى‪ ،‬وذوي العاهات‪ ،‬فقد ُأصيبت يوم ُ‬
‫وأحدهما‪،‬‬
‫فردها عليه الصالة والسالم‪ ،‬فكانت أحسن عينيه ّ‬
‫قتادةبن النعمان حتى وقعت على وجنتيه‪ّ ،‬‬
‫اح‪ ،‬وأصاب ابن‬‫وبصق على أثر سهم في وجه أبي قتادة في يوم ذي قَرد‪ ،‬فما ضرب عليه وال قَ َ‬
‫اَألسَّن ِة استسقاء‪ ،‬فبعث إلى النبي عليه الصالة والسالم‪ ،‬فأخذ بيده َحثَْوةً من األرض‪ ،‬فتفل‬
‫مالعب ِ‬
‫زىء به‪ ،‬فأتاه بها وهو على َشفًى‪ ،‬فشربها فشفاه اهلل‪.‬‬
‫عليها‪ ،‬ثم أعطاها رسوله‪ ،‬فأخذها يرى أنه قد ُه َ‬
‫عده‪ ،‬ورواه ثقات‬
‫وتقدم حديث علي ورمده في غزوة خيبر‪ ،‬وغير ذلك كثير مما يعجز قلمنا عن ّ‬
‫المسلمين األعالم‪.‬‬

‫أما ما منحه اهلل إياه من إجابة دعواته‪ ،‬فروي عن أنسبن مالك‪ ،‬قال‪ :‬قالت أمي ُُّأم ُسلَْيٍم‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫«اللهم أكثر ماله وولده‪ ،‬وبارك له فيما آتيته»‪ .‬قال أنس‪ :‬فواهلل َّ‬
‫إن‬ ‫ّ‬ ‫خادمك أنس ادعُ اهلل له‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫مالي لكثير‪ ،‬وإ َّن ولدي وولد ولدي ُلي ّ‬
‫عادون اليوم نحو المائة‪.‬‬
‫ودعا لعبد الرحمانبن عوف بالبركة‪ ،‬فكان نصيب كل زوجة من زوجاته األربع من تركته ثمانين‬
‫فتصدق بها‪ ،‬وبما عليها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ألفاً‪ ،‬وتصدق مرة ِ‬
‫بعير فيها سبعمائة بعير وردت عليه تحمل من كل شيء‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وبأقتابها‪ ،‬وأحالسها‪.‬‬
‫ودعا لمعاوية بالتمكين في األرض فنال الخالفة‪ ،‬ودعا لسعد بإجابة الدعوة‪ ،‬فما دعا على أحد إال‬
‫اللهم‬
‫«أفلح وجهك‪ّ ،‬‬‫َ‬ ‫يعز اإلسالم به‪ ،‬وقال ألبي قتادة‪:‬‬
‫استجيب له‪ ،‬وتقدم دعاؤه لعمربن الخطاب أن ّ‬
‫بارك في شعره وبشره»‪ ،‬فمات وهو ابن سبعين سنة‪ ،‬كأنه ابن خمس عشرة‪ ،‬ودعواته عليه الصالة‬
‫والسالم المستجابة أكثر من أن تُحصى يطّلع عليها قارىء سيرتنا هذه‪.‬‬
‫نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين‬

‫أما ما أطلعه اهلل عليه من علم ما لم يكن فمما سارت به الركبان‪ ،‬فعن حذيفة رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬قام‬
‫حدثه‪ ،‬حفظه من حفظه‪،‬‬
‫فينا رسو ُل اهلل مقاماً‪ ،‬فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إالّ ّ‬
‫ونسيه من نسيه‪ ،‬قد علمه أصحابي هؤالء‪ ،‬وإ نه ليكون منه الشيء فأعرفه فأذكره‪ ،‬كما يذكر الرجل‬
‫وجه الرجل إذا غاب عنه‪ ،‬ثم إذا رآه عرفه‪ ،‬وما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه؟ واهلل ما ترك عليه‬
‫سماه لنا‬
‫الصالة والسالم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثالثمائة فصاعداً إال قد َّ‬
‫خرج أهل الصحيح واألئمة ما أعلم به أصحابه مما وعدهم به‬
‫باسمه‪ ،‬واسم أبيه‪ ،‬واسم قبيلته‪ .‬وقد َّ‬
‫من الظهور على أعدائه‪ ،‬وفتح مكة‪ ،‬وبيت المقدس‪ ،‬واليمن‪ ،‬والشام‪ ،‬والعراق‪ ،‬وظهور األمن حتى‬
‫وأن المدينة ستُغزى‪ ،‬وتُفتح خيبر على يد علي في‬
‫تظعن المرأة من الحيرة إلى مكة‪ ،‬ال تخاف إال اهلل‪ّ ،‬‬
‫أمته من الدنيا‪ ،‬ويُْؤ تَون من زهرتها‪ ،‬وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر‪ ،‬وقد‬
‫غد يومه‪ ،‬وما يفتح اهلل على ّ‬
‫وقدمنا ما في القرآن من ذلك‪ ،‬وهذا ُيغنينا عن اإلطالة في هذا‬
‫قدمنا كثيراً من ذلك في هذه السيرة‪ّ ،‬‬
‫المقام فحسبك ما سمعت‪.‬‬

‫ومما ينير بصيرتك ـ ـ أيها القارىء ـ ـ ما َم ّن اهلل به على رسولنا من عصمته له من الناس‪ ،‬وكفايته من‬
‫َأعُينَِنا}‬
‫اصبِ ْر ِل ُح ْكِم َرّب َك فَِإ َّن َك بِ ْ‬
‫{و ْ‬ ‫ص ُم َك ِم َن َّ ِ‬
‫الناس} (المائدة‪ )67 :‬وقال‪َ :‬‬
‫آذاه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬واللَّه يع ِ‬
‫َ ُ َْ‬
‫(الطور‪ ،)48 :‬وقال‪َ{ :‬ألَْيس اللَّه بِ َك ٍ‬
‫اف َع ْب َدهُ} (الزمر‪ ،)36 :‬وقال‪ِ{ :‬إَّنا َكفَْيَن َ‬
‫ءين(‪)95‬‬ ‫اك اْل ُم ْستَ ْه ِز َ‬ ‫َ ُ‬
‫وقدمنا‬
‫اس} (المائدة‪ )67 :‬صرف ُحجَّابه‪ ،‬وقال‪« :‬انصرفوا فقد عصمني اهلل»‪ّ .‬‬ ‫ص ُم َك ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬ ‫واللَّه يع ِ‬
‫َ ُ َْ‬
‫لنبينا‪ ،‬وذكرنا كثيراً مما حصل‬
‫حديث ُدعثور وإ رادته قتل النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وعصمة اهلل ّ‬
‫من اهلل به عليه ليلة الهجرة‪ ،‬وحديث‬
‫شره‪ ،‬وما ّ‬
‫من أبي جهل لما أراد بالرسول المكايد‪ ،‬فكفاه اهلل ّ‬
‫ألداء‬
‫ُسراقة في الطريق‪ ،‬وعلى الجملة فيكفينا من هذا الباب أنه عليه الصالة والسالم مكث بين أعداء ّ‬
‫بمكة ثالث عشرة سنة‪ ،‬وبين مشابهيهم من المنافقين واليهود عشر سنين‪ .‬فما تمكن أحد من إيصال‬
‫وتممه‪.‬‬
‫شر أعدائه حتى أظهر الدين ّ‬
‫أذى إليه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬بل كفاه مواله ّ‬

You might also like