Professional Documents
Culture Documents
مقدمة المؤلف
نحمدك يا من أوضحت لنا ُسُبل الهداية ،وأزحت عن بصائرنا غشاوة الغواية ،ونصلّي ونسلِّم على
ومبشراً ونذيراً ،وداعياً إلى اهلل بإذنه وسراجاً منيراً ،وعلى األصحاب الذين
َمن أرسلته شاهداً ُ
آووا ونصروا وبذلوا إلعزاز
هجروا األوطان يبتغون من اهلل الفضل والرضوان ،واألنصار الذين َ
الدين ما جمعوا وما َّادخروا.
أما بعد ،فيقول محمد الخضري ابن المرحوم الشيخ عفيفي الباجوري :كنت أجد من نفسي منذ النشأة
األولى ارتياحاً لقراءة تواريخ السالفين وقصص الغابرين ،وأجدها لعقل اإلنسان أحسن ِّ
مهذب،
لقيهُ من أذى قومه حينما وأنصح معلِّم ،وكنت أرى في تاريخ ّ
نبينا ـ ـ عليه الصالة والسالم ـ ـ وما َ
رب ألفكار المسلمين ،فإنه يدلّهم
دعاهم إلى الحق ،وعظيم صبره حتى هجر أوطانه وبالده ،أعظم ُم َ
ساد سابقوهم ،وخصوصاً ما يتعلق بالحكام ،من
على ما يجب اتباعه ،وما يلزم اجتنابه ،ليسودوا كما َ
اجتذاب النفوس النافرة ،والتأليف بين القلوب المختلفة ،وما يتعلق بقواد الجيوش ،من تأليف الرجال
بالعامة ،من اتحاد قلوبهم وصيرورتهم
ّ المعدات حتى يتم لهم النصر على أعدائهم ،وما يتعلقّ وإ حكام
فكنت أجد من قراءتها ارتياحاً عظيماً ،وكانت نفسي كثيراً ما تأسف على ِ
ترك ُ يداً على َم ْن سواهم.
المسلمين لها ،فقلّما أجد من يشتغل بها ،ولكني كنت ُأقدم لهم العذر بتطويل الكتب المؤلفة في هذا
الموضوع .فلما قدمت مدينة المنصورة جمعتني النوادي مع محمود بك سالم ،القاضي بمحكمة
المنصورة المختلطة ،فوجدت منه علماً بدينه تقف دونه فحول الرجال ،وتتأخر عن مسابقته فيه
األبطال ،فقلّما توضع مسألة دينية إال وجدته مبرزاً فيها ،مفصحاً عن الجواب عنها .أما علمه بسيرة
يتشوف لعمل
الرسول األكرم صلى اهلل عليه وسلم فعنده منها الخبر اليقين ،وكنت كثيراً ما أسمعه ّ
عامة المسلمين ،فقلت :يا هلل لقد وافق هذا السيد الكريم ما
سيرة خالية من الحشو والتعقيد تنتفع بها ّ
في نفسي،
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ولكني كنت أرى في عزيمتي قصوراً عن تنفيذ رغبته وتتميم أمنيته ،فإن المقام عظيم ،وصعوباته
أعظم .ولكن لم َأر من األمر ُب ّداً تلقاء ما كنت أسمعه من كبار رجال المنصورة ،فإنهم أكثروا من
األماني لعمل هذا الكتاب ،العميم النفع ،الجزيل الفائدة ،فقمت معتمداً على اهلل راجياً منه أن يوفّقني
لما فيه رضاه ،وواصلت الس َّْي َر بالسُّرى حتى بلغت المنى ،فجاء بحمد اهلل ،سهل المنال ،عذب
موردي في تأليفه :القرآن الشريف ،وصحيح الخاصة .وقد كان ِ
ّ العامة ،وترجع إليه
المورد ،تنتفع به ّ
بد من تفيهم العبارات ،فكان
السنة مما رواه اإلمامان البخاري ومسلم ،ولم أخرج عنهما إال فيما ال ّ
ّ
يساعدني «الشفا» للقاضي عياض و«السيرة الحلبية» و«المواهب اللدنية» للقسطالني ،و«إحياء
بسيدنا
علوم الدين» للغزالي .هذا ،وأسأل اهلل من فيض فضله أن يوفّق أئمتنا وأمراءنا لالقتداء ّ
وموالنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وإ حياء ِ
معالم دينه حتى يؤيَّدوا بروح من عند اهلل .وقد آن
أن نشرع فيما قصدناه مستعينين بحول اهلل فنقول:ـ
السيد األكرم الذي شرف الناس بوجوده هو( :محمد بن عبد اهلل) من زوجه آمنة بنت و ْهب ُّ
الزهرية َ
القرشية( .ابن عبد المطلب) من زوجه فاطمة بنت عمرو المخزومية القرشية .وكان عبد المطلب
ص ُدرون عن رأيه في مشكالتهم ويقدمونه في مهماتهم( .ابن هاشم) من
شيخاً معظماً في قريش َي ْ
زوجه سلمى بنت عمرو النجارية الخزرجية( .ابن عبد مناف) من زوجه عاتكة بنت ُم ّرة السلمية.
قصي في الجاهلية حجابة البيت ،وسقاية ّ ص ّي) من زوجه ُحبَّى بنت ُحلَيل الخزاعية ،وكان إلى
(ابن قُ َ
الحاج ،وإ طعامه المسمى بالرفادة ،والندوة وهي الشورى ال يتم أمر إال في بيته ،واللواء ،ال تعقد
راية لحرب إال بيده .ولما أشرف على الموت جعلها في يد أحد أوالده عبد الدار ،لكن بنو عبد مناف
أجمعوا رأيهم على أال يتركوا بني عمهم عبد الدار يستأثرون بهذه المفاخر ،وكاد يفضي األمر إلى
عقالء الفريقين ،فأعطوا بني عبد المناف السقاية والرفادة فدامتا فيهم إلى
ُ األمر
القتال لوال أن تدارك َ
أن انتهتا للعباس بن عبد المطلب ،ثم لبنيه من بعده ،أما الحجابة فبقيت بيد بني عبد الدار ،وَأقََّرها لهم
الع َّزى بن عثمان بن عبد
الشرع فهي فيهم إلى اآلن .وهم بنو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد ُ
الدار ،وأما اللواء فدام فيهم حتى أبطله اإلسالم ،وجعله حقاً للخليفة على المسلمين يضعه فيمن يراه
صالحاً له ،وكذلك الندوة .وقصي (بن كالب) من زوجه فاطمة بنت سعد ،وهي يمانية من أزد
وءة( .ابن مرة) من زوجه هند بنت سرير من بني فهر بن مالك( .ابن كعب) من زوجه وحشية َشُن َ
بنت شيبان من بني فهر أيضاً( .ابن لؤي) من زوجه أم كعب ِ
ماويَّة بنت كعب من قُضاعة( .ابن
غالب) من زوجه أم لؤي سلمى بنت عمرو الخزاعي( .ابن فهر) من زوجه أم غالب ليلى بنت سعد
من ُهذيل .وفهر هو قريش ـ ـ في قول األكثرين ـ ـ ـ وكانت قريش اثنتي َع ْش َرة قبيلة :بنو عبد مناف،
الع َّزى بن قصي ،وبنو زهرة وبنو عبد الدار بن قصي ،وبنو أسد بن عبد ُ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
هذا هو النسب المتفق على صحته من علماء التاريخ والمحدثين ،أما النسب فوق ذلك فال يصح فيه
طريق ،غاية األمر أنهم أجمعوا على أن نسب الرسول صلى اهلل عليه وسلم ينتهي إلى إسماعيل بن
إبراهيم أبي العرب المستعربة .نسب شريف كما ترى :آباء طاهرون وأمهات طاهرات ،لم يزل
عليه السالم ينتقل من أصالب أولئك إلى أرحام هؤالء حتى اختاره اهلل هادياً مهدياً من أوسط العرب
القدم األولى في الشرف وعلو المكانة بين العرب ،وال تجد في
نسباً .فهو من صميم قريش التي لها ُ
قبائلهن
ّ سلسلة آبائه إال كراماً ليس فيهم مستر َذل بل كلهم سادة قادة ،وكذلك ُأمهات آبائه من أرفع
شأناً ،وال شك أن شرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة ،وكل اجتماع بين آبائه وأمهاته كان
شرعياً بحسب األصول العربية ،ولم ينل نسبه شيء من سفاح الجاهلية بل طهَّره اهلل من ذلك والحمد
هلل.
كان عبد اهلل بن عبد المطلب من أحب ولد أبيه إليه ،فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن ُزهرة
ٍ
يومئذ من أفضل نساء قريش نسباً وموضعاً ،ولما دخل بن كالبُّ ،
وسنه ثماني عشرة سنة ،وهي
عليها حملت بالرسول صلى اهلل عليه وسلم ،ولم يلبث أبوه أن توفي بعد الحمل بشهرين ،ودفن
بالمدينة عند أخواله بني عدي بن النجار ،فإنه كان قد ذهب بتجارة إلى الشام ،فأدركته منيته بالمدينة
بث في
تمت مدة حمل آمنة وضعت ولدها ،فاستبشر العالم بهذا المولود الكريم الذي ّ
وهو راجع ،ولما ّ
أرجائه روح اآلداب وتمم مكارم األخالق .وقد حقق المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
صبيحة يوم االثنين تاسع ربيع األول الموافق لليوم العشرين من أبريل سنة ( )571من الميالد ،وهو
يوافق السنة األولى من حادثة الفيل ،وكانت والدته في دار أبي طالب بِ ِش ْعب بني هاشم ،وكانت قابلته
وسماه محمداً، ِّ َّ َّ
الشفاء أم عبد الرحمان بن عوف ،ولما ولد أرسلت أمه لجده تبشره ،فأقبل مسروراً ّ
قدره وذكره في الكتب التيولم يكن هذا االسم شائعاً قب ُل عند العرب ،ولكن أراد اهلل أن يحقق ما ّ
جده أن يسميه بذلك إنفاذاً ألمره ،وكانت ِ
حاضنته أم أيمن جاءت بها األنبياء كالتوراة واإلنجيل ،فألهم َّ
ّ
َأمةُ عمه أبي لهب. ِ َّ ِ
َأمة أبيه عبد الله ،وأول َم ْن أرضعه ثَُو ْيَبةُ َ
بركة الحبشيةَ ،
الرضاع
حادثة شق الصدر
وحصل له وهو بينهم حادثة مهمة وهي شق صدره وإ خراج حظ الشيطان منه ،فأحدث ذلك عند
وحدثتها قائلة :بينما هو وإ خوته في َب ْهم لنا خلف بيوتنا إذ أتى أخوه يعدو،
حليمة خوفاً فردته إلى أمه ّ
فقال لي وألبيه :ذاك أخي القرشي قد أخذه رجالن عليهما ثياب بيض ،فأضجعاه ،ف َشقَّا بطنه فهما
َي ُسوطانه .فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه منتقعاً لونه ،فالتزمته والتزمه أبوه ،فقلنا له :ما لك يا
بني؟ فقال :جاءني رجالن عليهما ثياب بيض ،فقال أحدهما لصاحبه :أهو هو؟ قال :نعم .فأقبال ّ
يبتدراني فأضجعاني فشقَّا بطني ،فالتمسا فيه شيئاً ،فأخذاه وطرحاه وال أدري ما هو.
ثم إن أمه أخذته منها ،وتوجهت به إلى المدينة لزيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار ،وبينما هي
عائدة أدركتها منيتها في الطريق فماتت باألبواء فحضنته ُُّأم أيمن ،وكفله جده عبد المطلبَّ ،
ورق له
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ِرقَّةً لم تُ ْعهَد له في ولده ،لما كان يظهر عليه مما يد ّل على أن له شْأناً عظيماً في المستقبل ،وكان
يكرمه غاية اإلكرام ،ولكن لم يلبث عبد المطلب أن تُوفي بعد ثماني سنوات من عمر الرسول صلى
اهلل عليه وسلم ،فكفله شقيق أبيه أبو طالب فكان له رحيماً وعليه غيوراً ،وكان أبو طالب ُمقالً من
مثال القناعة
المال فبارك اهلل له في قليله ،وكان الرسول صلى اهلل عليه وسلم في مدة كفالة عمه َ
والبعد عن السفاسف التي يشتغل بها األطفال عادة ،كما روت ذلك ُأم أيمن حاضنته ،فكان إذا أقبل
سييسرهُ اهلل له.
ُ وقت األكل جاء األوالد يختطفون وهو قانع بما
ُ
حرب ِ
الفجار
الح ْو ُل جمعت قيس ُج ُموعها وكانت معها ثقيف وغيرها ،وجمعت قريش جموعها من كنانة
حال َ
َ
الزبيربن عبد المطلب ومعه إخوته أبو طالب
ُ واألحابيش ـ ـ وهم حلفاء قريش ـ ـ وكان رئيس بني هاشم
أمية ،وله القيادة العامة لمكانه
أمية حرببن ّ
وحمزة والعباس وابن أخيه النبي الكريم ،وكان على بني ّ
في قريش شرفاً وسناً .وهكذا كان على كل بطن من بطون قريش رئيس ،ثم تناجزوا الحرب ،فكان
أشد أيام العرب َهوالً ،ولما استُ ِح َّل فيه ِم ْن ُح ُرمات مكة التي كانت مقدسة عند العرب ُسمي
يوماً من ّ
الفجار .وكادت الدائرة تدور على قيس يوم ِ
ِحلف الفضول
ضولـ فتم في دار عبد اللهبن ُج ْد َعان التَّْي ِمي ِ
وعند رجوع قريش من حرب الف َجار تداعوا لحلف الفُ ُ
أحد رؤساء قريش ،وكان المتحالفون :بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف ،وبني أسدبن عبد
العزى ،وبني زهرةبن كالب ،وبني تَْيمبن ُم ّرة تحالفوا وتعاقدوا أال يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو
ّ
ظِلمته ،وقد حضر هذا الحلف رسول اهلل ترد إليه َم ْ
من غيرهم من سائر الناس إال قاموا معه ،حتى ّ
شرفه اهلل بالرسالة« :لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في صلى اهلل عليه وسلم مع أعمامه ،وقال بعد أن ّ
الن َعِم ولو دعيت به في اإلسالم ألجبت» وذلك ألنه أحب أن لي به ُح ْمر َّ
دار عبد اللهبن ُجدعان ما ّ
دين اِإل سالم كثيراً منها ،يرشدك
عليه الصالة والسالم مبعوث بمكارم األخالق ،وهذا منها ،وقد أقر ُ
إلى هذا قوله عليه الصالة والسالم« :بعثت ألتمم مكارم األخالق» وقد دعا بهذا الحلف كثيرون
فأنصفوا.
زواجه خديجة
فلما قَِدما مكة ورأت خديجة ربحها العظيم ُس َّرت من األمين عليه الصالة والسالم وأرسلت إليه
تخطُُبهُ لنفسها ،وكانت سنها نحو األربعين ،وهي من أوسط قريش حسباً وأوسعهم ماالً ،فقام األمين
ْ
عمها عمروبن أسد ،فخطبها منه بواسطة عمه أبي
عليه الصالة والسالم مع أعمامه حتى دخل على ّ
عمها .وقد خطب أبو طالب في هذا اليوم فقال :الحمد هلل الذي جعلنا من ذرية فزوجها ّطالبّ ،
وس ّواس حرمه، ض ِ وضْئ ِ
إبراهيم ،وزرع إسماعيل ِ
معد ،وعنصر مضر ،وجعلنا حضنة بيته ُ ىء ّ
وجعله لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً ،وجعلنا ح ّكام الناس ،ثم إن ابن أخي هذا محمدبن عبد اهلل ال
ُيوزن به رجل شرفاً ونبالً وفضالً ،وإ ن كان في المال ُق ٌّل ،فإن المال ظل زائل ،وأمر حائل ،وعارية
مستردة ،وهو واهلل بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل ،وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة،
ّ
َّدا ِ
ق كذا .وعلى ذلك تم األمر .وقد كانت متزوجة قبله بأبي هالة ،توفي عنها وله وقد بذل لها من الص َ
منها ولد اسمه هالة ،وهو ربيب المصطفى عليه الصالة والسالم.
بناء البيت
ولما بلغت سنه عليه الصالة والسالم خمساً وثالثين سنة ،جاء سيل جارف َّ
فصدع جدران الكعبة بعد
توهينها من حريق كان أصابها قبل ،فأرادت قريش هدمها ليرفعوها ويسقفوها ،فإنها كانت رضيمة
فوق القامة ،فاجتمعت قبائلهم لذلك ،ولكنهم هابوا هدمها لمكانها في قلوبهم .فقال لهم الوليدبن
المغيرة :أتريدون بهدمها اإلصالح أم اإلساءة؟ قالوا :بل اإلصالح ،قال :إن اهلل ال يهلك الم ِ
صلحين، ُ
وشرع يهدم فتبعوه وهدموا حتى وصلوا إلى أساس إسماعيل ،وهناك وجدوا ِ
صحافاً ُنقش فيها كثير
من ِ
الح َكم على عادة َم ْن يضعون أساس بناء شهير ليكون تذكرة للمتأخرين بعمل المتقدمين .ثم
بغي وال بيعُ ِربا ،وجعل األشراف من قريش
هر َوأعدوا لذلك نفقة ليس فيها َم ُ
ابتدؤوا في البناء ّ
يحملون الحجارة على أعناقهم ،وكان العباس ورسول اهلل فيمن يحمل ،وكان الذي يلي البناء نجار
خصص لكل ركن جماعة من العظماء ينقلون إليه الحجارة ،وقد ضاقت بهم رومي اسمه باقوم ،وقد ّ
النفقة الطيبة عن إتمامه على قواعد إسماعيل ،فأخرجوا منها ِ
الح ْج َر ،وبنوا عليه جداراً قصيراً،
يد فيه عن أصله تسعة أذرع عالمة على أنه من الكعبة ،ولما تم البناء ثمانية عشر ذراعاً بحيث ِز َ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ورفع الباب عن األرض بحيث ال ُيصعد إليه إال بدرج أرادوا وضع الحجر األسود موضعه ،فاختلف
تشب بينهم نار الحرب ،ودام بينهم هذا الخصام
أشرافهم فيمن يضعه ،وتنافسوا في ذلك حتى كادت ّ
عم خالدبن الوليد فقال
أسن رجل في قريش إذ ذاك أبو أميةبن المغيرة المخزومي ُّ ليال ،وكان ّأربع ٍ
ألول داخل ،فكان هذا ِ ِّ
لهم :يا قوم ال تختلفوا وحكموا بينكم من ترضون بحكمه .فقالواَ :نك ُل األمر ّ
الداخل هو األمين المأمون عليه الصالة والسالم ،فاطمأن الجميع له ِل َما يعهدونه فيه من األمانة
وصدق الحديث وقالوا :هذا األمين رضيناه ،هذا محمد؛ ألنهم كانوا يتحاكمون إليه إذ كان ال ُيداري
وال ُيماري .فلما أخبروه الخبر بسط رداءه وقال :لتأخذ كل قبيلة بناحية
من الثوب ،ثم وضع فيه الحجر وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه فأخذه ووضعه فيه وهكذا
انتهت هذه المشكلة التي كثيراً ما يكون أمثالها سبباً في انتشار حروب هائلة بين العرب ،لوال أن َم َّن
اهلل عليهم بعاقل مثل أبي أمية يرشدهم إلى الخير ،وحكيم مثل الرسول صلى اهلل عليه وسلم يقضي
بينهم بما ُيرضي جميعهم .وال ُيستغرب من قريش تنافسهم هذا ،ألن البيت ِقبلَة العرب وكعبتهم التي
ضع للعبادة بشهادة القرآن يحجون إليها ،فكل عمل فيه عظيم به الفخر والسيادة ،وهو أول بيت و ِ ّ
ُ
اس لَلَِّذى بَِب َّكةَ ُمَب َاركاً َو ُه ًدى
ض َع ِل َّلن ِ
الكريم ،قال تعالى في سورة آل عمرانِ{ :إ َّن ََّأو َل ب ْي ٍت و ِ
َ ُ
ءامناً} (آل عمران )97 ،96 :وكان يلي راهيم ومن َد َخلَه َكان ِ ات َّمقَ ِإ ِ ِِ ِ
ُ َ ام ْب َ َ َ ات َبّيَن ٌ ُ
ءاي ٌ
ين( )96فيه َ
لّْل َعالَم َ
أمره بعد ولد إسماعيل قبيلة ُجرهم فلما َبغوا وظلموا َم ْن دخل مكة اجتمعت عليهم خزاعة وأجلَوهم
عن البيت ،ووليته خزاعة حيناً من الدهر ،ثم أخذته منهم في عهد قصيبن كالب ،وبسببه ِ
أمنوا في
وامتن اهلل
ّ بالدهم ،فكانت قبائل العرب تهابهم ،وإ ذا احتموا به كان حصناً أميناً من اعتداء العادين،
اس ف َّ
الن ُ ءامناً َوُيتَ َخطَّ ُ
عليهم بذلك في تنزيله ،فقال في سورة العنكبوتَ{ :أولَم يروْا ََّأنا جعْلَنا حرماً ِ
َ َ ََ َ ْ ََ ْ
ِم ْن َح ْوِل ِه ْم} (العنكبوت.)67 :
لم َيرث عليه الصالة والسالم من والده شيئاً ،بل ولد يتيماً عائالً فاسترضع في بني سعد ،ولما بلغ
لما رجع إلى ِّ
مبلغاً يمكنه أن يعمل عمالً كان يرعى الغنم مع إخوته من الرضاع في البادية ،وكذلك ّ
مكة كان يرعاها ألهلها على قراريط كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه .ووجود األنبياء في حال
بد منه ،ألنهم لو وجدوا أغنياء أللهتهم الدنيا وشغلوا بها عن
التجرد عن الدنيا ومشاغلها أمر ال ّ
السعادة األبدية ،ولذلك ترى جميع الشرائع اإللهية متفقة على استحسان الزهد فيها والتباعد عنها،
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ت إليه
ضْوب ِّغ َ
وقد حفظه اهلل في صغره من كل أعمال الجاهلية التي جاء شرعه الشريف بضدها ُ
َّادها .وقال عليه الصالة
األوثان بغضاً شديداً حتى ما كان يحضر لها احتفاالً أو عيداً مما يقوم به ُعب ُ
أهم بشيء مما كانت الجاهليةإلي الشعر ،ولم ّ ت إلي األوثانِّ ُ ، نشأت ُب ِّغ َ
وبغض ّ ضْ ّ ُ والسالم« :لما
هممت بسوء بعدهما حتى
ُ تفعله إال مرتين ،كل ذلك يحول اهلل بيني وبين ما أريد من ذلك .ثم ما
فأس ُمر
أكرمني اهلل برسالته .قلت ليلة لغالم كان يرعى معي :لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة ْ
جئت أول ٍ
دار من مكة أسمع عزفاً بالدفوف والمزامير لعرس كما يسمر الشباب ،فخرجت لذلك حتى ُ
مس الشمس ولم ِ
أقض شيئاً ،ثم أذني فنمت فما أيقظني إال ّ
بعضهم ،فجلست لذلك ،فضرب اهلل على َّ
وحرم شرب عراني مرة أخرى مثل ذلك» .وكان عليه الصالة والسالم ال يأكل ما ذبح على النصب ّ
الخمر على نفسه مع شيوعه في قومه شيوعاً عظيماً ،وذلك كله من الصفات التي ُي َحلِّي اهلل بها أنبياءه
النبوة وبعدها ،أما قبل
ليكونوا على تمام االستعداد لتلقّي وحيه ،فهم معصومون من األدناس قبل ّ
وأما بعدها فليكونوا قدوة ألممهم .عليهم من اهلل
سيسند إليهمَّ ،
النبوة فليتأهلوا لألمر العظيم الذي ُ
وأتم التسليمات.
أفضل الصلوات ّ
النبوة
ما أكرمه اهلل به قبل ّ
أول منحة من اهلل ما حصل من البركات على آل حليمة الذين كان مسترضعاً فيهم ،فقد كانوا قبل
حلوله بناديهم مجدبين فلما صار بينهم صارت ُغَنيماتهم تؤوب من مرعاها وإ ن أضراعها لتسيل لبناً،
ويرحم اهلل البوصيري حيث يقول في همزيته:
فإنهم سعداء ثم أعقب ذلك ما حصل من شق صدره وإ خراج ِّ ٍ وإ ذا َّ
حظ الشيطان سخر اإلله ُأناساًلسعيد َّ ُ ُ
منه ،وليس هذا بالعجيب على قدرة اهلل تعالى ،فمن استبعد ذلك كان قليل النظر ،ال يعرف من قوة اهلل
شيئاً ،ألن خرق العادات لألنبياء ليس باألمر المستحدث وال المستغرب.
ومن المكرمات اإللهية تسخير الغمامة له في سفره إلى الشام ،حتى كانت تظله في اليوم الصائف ال
يشترك معه أحد في القافلة ،كما روى ذلك ميسرة غالم خديجة الذي كان ُمشاركاً له في سفره ،وهذا
النبوة
حببه إلى خديجة حتى خطبته لنفسها ،وتيقنت أن له في المستقبل شأناً .ولذلك لما جاءته ّ
ما ّ
كانت أسرع الناس إيماناً به ،ولم تنتظر آيةً أخرى زيادة على ما علمته من مكارم األخالق ،وما
سمعته من خوارق العادات.
أبعد
ومن منن اهلل عليه ما كان يسمعه من السالم عليه من األحجار واألشجار ،فكان إذا خرج لحاجته َ
يمر بحجر وال شجر إال سمع :الصالة
حتى ال يرى بناء ،ويفضيـ إلى الشعاب وبطون األودية فال ّ
والسالم عليك يا رسول اهلل ،وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فال يرى أحداً ،وقد َّ
حدث بذلك عن
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وروي مثله عن عبد اللهبن َسالم رضي اهلل عنه وهو الذي كان رئيس اليهود فلم تُ ْع ِمه الرياسة حتى
ص َّخ ٍ
اب في األسواق وال يترك الدين القويم ،وكذلك كعب األحبار .وفي بعض طرق الحديث« :وال َ
والبر شعاره ،والتقوى
قوال للخناُ ،أسدده لكل جميل ،وأهب له كل خلق كريم ،وأجعل السكينة لباسهّ ،
َّ
ضميره ،والحكمة مقوله ،والصدق والوفاء طبيعته ،والعفو والمعروف خلقه ،والعدل سيرته ،والحق
شريعته ،والهدى إمامه ،واإلسالم ملَّته ،وأحمد اسمه ،أهدي به بعد الضاللة ،وأعلِّم به بعد الجهالة،
العْيلة ،وأجمع به بعد ِّ
وأرفع به بعد الخمالة ،وُأسمي به بعد النكرة ،وُأكثر به بعد القلّة ،وُأغني به بعد َ
الفرقة ،وُأؤلِّف به بين قلوب مختلفة ،وأهواء متشتتة ،وأمم متفرقة ،وأجعل أمته خير أمة ُأخرجت
للناس» .وقد أخبر عليه الصالة والسالم عن صفته في التوراة فقال ـ ـ وهو الصادق األمين ـ ــ :عبدي
الحمادون اهلل على كل حال.
طْيبة ـ ـ وأمته َّ
أحمد المختار مولده مكة ومهاجره المدينة ـ ـ أو قالَ :
تبشير اإلنجيل
ويصدقه في ّ ب ّشر عيسى عليه السالم قومه في اإلنجيل بالفارقليط ومعناه قريب من محمد أو أحمد
راءيل ِإّنى َر ُسو ُل اللَّ ِه
َ يابنِى ِإ ْس
يسى ْاب ُن َم ْرَي َم َ
القرآن قول اهلل تعالى في سورة الصف :وِإ ْذ قَ َ ِ
ال ع َ َ
ِ ِ ِ ٍ ِ ِإلَْي ُكم ُّمص ّدقاً لّما ب ْين ي َد َّ ِ
َأح َم ُد} (الصف )6 :وقد اس ُمهُ ْى م َن التَّْو َراة َو ُمَب ّشراً ب َر ُسول َيْأتى من َب ْعدى ْ
ِ َ َ َ َ َ
نبينا فقال :إنه يوبخ العالم على خطيئته، وصف المسيح هذا الفارقليط بأوصاف ال تنطبق إال على ّ
وإ نه يعلِّمهم جميع الحق ألنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ،وهذا ما ورد في القرآن
َّ الكريم في سورة النجم{ :وما ي ِ
ق َع ِن اْلهَ َوى(ِ )3إ ْن ُه َو ِإال َو ْح ٌى ُي َ
وحى(( } )4النجم 3 :ـ ـ )4وقد نط ُ ََ َ
ذكر اسم الرسول عليه
ورد في إنجيل برنابا ـ ـ الذي ظهر منذ زمن قريب وأخفته حجب الجهالة ـ ـ ُ
الصالة والسالم صراحة.
وهذا يسهل لك فهم الحركة العظيمة من األحبار والرهبان قبيل البعثة فكان اليهود يستفتحون على
حدث عاصمبن عمربن قتادة عن رجال من قومه ،قالوا :إنما دعانا عرب المدينة برسول منتظر .فقد َّ
وأصحاب أوثان
َ أحبار َيهود ،كنا أهل ِشرك
لإلسالم ـ ـ مع رحمة اهلل تعالى لنا ـ ـ ما كنا نسمع من ْ
وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت ال تزال بيننا وبينهم شرور ،فإذا نلنا منهم بعض ما
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
يكرهون ،قالوا لنا :قد تقارب زمان نبي ُيبعث اآلن ،نقتلكم معه قتل عاد وإ رم .فكثيراً ما نسمع ذلك
أج ْبنا حين دعانا إلى اهلل وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به ،فبادرناهم
منهم .فلما بعث اهلل رسوله محمداً َ
فآمنا وكفروا .وإ نما قال لهم اليهود نقتلكم معه قتل عاد وإ رم ألن من صفته عليه الصالة والسالم
إليه ّ
النبي يستأصل المشركين بالقوة ،ولم يكونوا يظنون َّ
َأن الحسد والبغي سيتمكنان من في كتبهم أن هذا َّ
المتنصر
ّ أميةبن أبي الصلت
فيحق عليهم العذاب في الدنيا واآلخرة .وكان ّ
ّ القيم
أفئدتهم فينبذون الدين ّ
العربي كثيراً ما يقول:ـ إني ألجد في الكتب صفة نبي يبعث في بالدناَّ .
وحدث سلمان الفارسي رضي
اهلل عنه عن نفسه أنه صحب قسيساً فكان يقول له :يا سلمان إن اهلل سوف يبعث رسوالً اسمه أحمد،
يخرج من جبال تهامة ،عالمته أنه يأكل الهدية وال يأكل الصدقة ،وهذا الحديث كان من أسباب إسالم
سلمان .ولما راسل عليه الصالة والسالم ملوك األرض لم ُي ِه ْن كتابه إال كسرى الذي ليس عنده علم
من الكتاب ،وأما جميع ملوك النصارى كالنجاشي ملك الحبشة ،والمقوقس ملك مصر ،وقيصر ملك
رداً لطيفاً وكاد يسلم لوال غلبة
رد ّ الروم ،فأكرموا ِوفَ َ
ادةَ رسله .ومنهم من آمن كالنجاشي ،ومنهم من ّ
ب بها هؤالءقوة ُير ِه ُ
الملك كقيصر ،ومنهم من هادى كالمقوقس ،ولم يكن عليه الصالة والسالم في ّ
اللهم ما ذاك إال ألنهم يعلمون أن المسيح عليه السالم ب ّشر برسول يأتي من بعده ،ووافقت
الملوك َّ
صفات رسولنا ما عندهم
فأجابوا بالتي هي أحسن ،وأما ما ُسمع من الهواتف وال ُكهان قبيل زمنه فهو ما ال يدخل تحت حصر.
وليس بعد ما ذكرته لك زيادة لمستكثر .ومع ذلك كله فاألعمال التي جاد اهلل بها على يديه واألقوال
فتأمْله ترشد ٍ
ومؤيد لدعوته .وسيأتي عليك بيان ذلك كله بأجلى بيان َّ مقو لحجته
التي أتانا بها أعظم َ
السوي.
ّ هداك اهلل إلى الصراط
بدء الوحي
لما بلغ عليه الصالة والسالم سن الكمال وهي أربعون سنة أرسله اهلل للعالمين بشيراً ونذيراً ُليخرجهم
ّ
من ظُلمات الجهالة إلى نور العلم وكان ذلك في أول فبراير سنة 610من الميالد كما أوضحه
المرحوم محمود باشا الفلكي ،تبين بعد دقة البحث َّ
َأن ذلك كان في 17رمضان سنة 13قبل الهجرة
وذلك يوافق يوليو سنة .610وأول ما بدىء به الوحي الرؤيا الصادقة ،فكان ال يرى رؤيا إال جاءت
مثل َفلق الصبح ،وذلك لما جرت به عادة اهلل في خلقه من التدريج في األمور كلها حتى تصل إلى
حبب إليه عليه
الملَك ألول مرة ،ثم ّ
درجة الكمال .ومن الصعب جداً على البشر تلقي الوحي من َ
صفاء
َ الصالة والسالم الخالء ،ليبتعد عن ظُلُمات هذا العالم وينقطع عن الخلق إلى اهلل فإن في العزلة
السريرة .وكان يخلو بغار ِحراء فيتعبَّد فيه الليالي ذوات العدد ،فتارة عشراً ،وتارة أكثر إلى شهر.
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وكانت عبادته على دين أبيه إبراهيم عليه السالم ويأخذ لذلك زاده ،فإذا فرغ رجع إلى خديجة فيتزود
لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ،فبينما هو قائم في بعض األيام على الجبل إ ْذ ظهر له
شخص ،وقال :أبشر يا محمد أنا جبريل ،وأنت رسول اهلل إلى هذه األمة .ثم قال له :اقرأ ،قال :ما
أمي لم يتعلم القراءة قبالً .فأخذه فغطه بالنمط الذي كان ينام
أنا بقارىء ،فإنه عليه الصالة والسالم ّ
طه ثانية ثم أرسله،
عليه حتى بلغ منه الجهد ،ثم أرسله ،فقال :اقرأ .قال :ما أنا بقارىء .فأخذه فغ ّ
فقال :اقرأ .قال :ما أنا بقارىء ،فأخذه فغطّه الثالثة ،ثم أرسله
ال ْك َر ُم( )3الَِّذى َعلَّ َم بِاْل َقلَِم( ق( )2ا ْق َرْأ َو َرب َ
ُّك ا ْ ان ِم ْن َعلَ ٍ ق اِإل َ
نس َ ق(َ )1خلَ َ اسِم َرّب َك الَِّذى َخلَ َ
فقال :ا ْق َرْأ بِ ْ
ود َّن ِفى ِملَّتَِنا}ضَنآ َْأو لَتَ ُع ُال الَِّذين َكفَروْا ِلرسِل ِهم لَُن ْخ ِرجَّن ُكم من َأر ِ
َ ْ ّْ ْ َ ُ ُ ُ ْ ان َما لَ ْم َي ْعلَ ْم(َ )5وقَ َ
نس َ
َّ
َ )4عل َم اِإل َ
يدر ْكني ق ورقة برسالة الرسول األكرم عليه الصالة والسالم قال :وإ ن ْ (إبراهيم )13 :ولتمام تصدي ِ
مؤزراً (معضداً) .ثم لم يلبث ورقة أن توفي. ص ْر َك نصراً ّ يومك َْأن ُ
فترة الوحي
ليشتد شوق الرسول
ّ مدة لم يتفق عليها المؤرخون ،وأرجح أقوالهم فيها أربعون يوماً،
َوفَتََر الوحي ّ
اشتد به عليه الصالة والسالم حتى صار كلما أتى ذروة جبل بدا له أن
للوحي ،وقد كان ،فإن الحال ّ
يرمي نفسه منها ،حذراً من قطيعة اهلل له بعد أن أراهُ نعمته الكبرى ،وهي اختياره ألن يكون واسطة
عما عزم عليه،
فيتبدى له الملَك قائالً :أنت رسول اهلل َحقاً ،فيطمئن خاطره ويرجع ّ
بينه وبين خلقهّ ،
حتى أراد اهلل أن يظهر للوجود نور الدين فعاد إليه الوحي.
عود الوحي
فبينما هو يمشي إذ سمع صوتاً من السماء فرفع إليه بصره ،فإذا الملَك الذي جاءه ِ
بحراء جالس بين َ
فرعب منه لتذ ّكر ما فعله في المرة األولى فرجع وقال :دثروني ،دثروني .فأنزل السماء واألرضُ ،
اه ُج ْر()5
الر ْج َز فَ ْ َّك فَ َكّب ْر(َ )3وثَِي َاب َك فَ َ
طهّ ْر(َ )4و ُّ اهلل تعالى عليه{ :يَأيُّها اْلم َّدثّر( )1قُم فَ ِ
َأنذ ْر(َ )2و َرب َ ْ َ ُ ُ
اصبِ ْر()7 ِ
َوالَ تَ ْمُنن تَ ْستَ ْكث ُر(َ )6وِل َرّب َك فَ ْ
سرا
الدعوة ّ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
فقام عليه الصالة والسالم باألمر ودعا لعبادة اهلل أقواماً ُجفاة ال دين لهم ،إال أن يسجدوا ألصنام ال
تنفع وال تضر ،وال حجة لهم أال أنهم متّبِعون لما كان يعبد آباؤهم ،وليس عندهم من مكارم األخالق
واَألنفة ،وهو الذي كثيراً ما كان سبباً في الغارات والحروب وإ هراق
بالعزة َ
إال ما كان مرتبطاً ّ
الدماء ،فجاءهم رسول اهلل بما ال يعرفونه .فذوو العقول السليمة بادروا إلى التصديق وخلع األوثان،
طع عليه نور اإلسالم
أع َمته الرياسة أدبر واستكبر كيال تُسلَب منه عظمته .وكان أول من َس َ
ومن ْ
خديجة بنت خويلد َزوجه ،وعليبن أبي طالب ابن عمه ،وكان ُمقيماً عنده ُيطعمه ويسقيه ويقوم بأمره،
ألن قريشاً كانوا قد أصابتهم مجاعة ،وكان أبو طالب ُمِقالًّ كثير األوالد ،فقال عليه الصالة والسالم
لعمه العباسبن عبد المطلب «إن أخاك أبا طالب كثير العيال ،والناس فيما ترى من الشدة ،فانطلق بنا ّ
إليه لنخفِّف من عياله ،تأخذ واحداً ،وأنا واحداً» ،فانطلقا وعرضا عليه األمر ،فأخذ العباس جعفربن
النبوة وقد
علياً ،فكان في كفالته كأحد أوالده إلى أن جاءت ّ
أبي طالب ،وأخذ عليه الصالة والسالم ّ
بدَنس الجاهلية من عبادة األوثان ،واتّباع
ناهز االحتالم ،فكان تابعاً للنبي في كل أعماله ،ولم يتدنس َ
الهوى ،وأجاب أيضاً زيدبن حارثةبن شرحبيل الكلبي ،مواله عليه الصالة والسالم ،وكان ُيقال له
َّ
المتبنى معتبراً كابن حقيقي يرث ويورث ،وأجابت زيدبن محمد ،ألنه لما اشتراه أعتقه َّ
وتبناه ،وكان
زوجها لمواله زيد .وأول َم ْن أجابه من غير أهل بيته أبو بكربن أبي
أيضاً ُُّأم أيمن حاضنته التي ّ
مرة التيمي القرشي ،كان صديقاً لرسول اهلل صلى اهلل
قحافةبن عامربن عمروبن كعببن سعدبن تَْيمبن ّ
فأول ما
النبوة يعلم ما اتّصف به من مكارم األخالق ولم َي ْعهد عليه كذباً منذ اصطحباّ ،
عليه وسلم قبل ّ
أخبره برسالة اهلل أسرع بالتصديق ،وقال :بأبي أنت وأمي ،أهل الصدق أنت ،أشهد أن ال إله
إالّ اهلل وأنك رسول اهلل .وكان رضي اهلل عنه صدراً معظّماً في قريش على سعة من المال وكرم
أعف الناس ،سخياً ،يبذل المال ،محبباً في قومه ،حسن المجالسة ،ولذلك كله كان
األخالق ،وكان من ّ
من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بمنزلة الوزير ،فكان يستشيره في أموره كلها ،وقال في حقه:
سراً حذراً
«ما دعوت أحداً إلى اإلسالم إال كانت له كبوة غير أبي بكر» .وكانت الدعوة إلى اإلسالم ّ
من مفاجأة العرب بأمر شديد كهذا ،فيصعب استسالمهم ،فكان عليه الصالة والسالم ال يدعو إال َم ْن
يثق به .ودعا أبو بكر إلى اإلسالم َم ْن يثق به من رجال قريش ،فأجابه جمع منهم :عثمانبن عفانبن
الح َك ُم بإسالمه ،أوثقه
أبي العاصبن أميةبن عبد شمسبن عبد مناف األموي القرشي ،ولما علم عمه َ
كتافاً وقال :ترغب عن دين آبائك إلى دين مستحدث؟ واهلل ال أحلّك حتى تدع ما أنت عليه ،فقال
عثمان :واهلل ال أدعه وال ُأفارقه .فلما رأى الحكم صالبته في الحق تركه ،وكان كهالً يناهز الثالثين
العوامبن خويلدبن أسدبن عبد العزىبن قصي القرشي ،وأمه صفية بنت
من عمره .ومنهم :الزبيربن ّ
فقواه اهلل بالثبات،
عم الزبير يرسل الدخان عليه وهو مقيد ليرجع إلى دين آبائهّ ،
عبد المطلب ،وكان ّ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ومنهم :عبد الرحمانبن عوفبن عبد عوفبن الحارثبن زهرةبن كالب القرشي الهاشمي ،وكان اسمه في
فسماه عليه الصالة والسالم عبد الرحمان.
الجاهلية عبد عمرو ّ
ومنهم :سعدبن أبي وقاص مالكبن ُأهيببن عبد منافبن زهرةبن كالب الزهري القرشي .ولما علمت
أمه َح ْمَنةُ بنت أبي سفيانبن أمية بإسالمه قالت له :يا سعد بلغني أنك قد صبأت ،فواهلل ال يظلُّني سقف
علي حرام حتى تكفر بمحمد .وبقيت كذلك ثالثة أيام فجاءمن الحر والبرد ،وإ َّن الطعام والشراب َّ
سعد إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وشكا إليه أمر أمه فنزل في ذلك تعليماً قول اهلل تعالى في
اك ِلتُ ْش ِر َك بِى َما لَْي َس لَ َك بِ ِه ِعْل ٌم فَالَ
اه َد َ ِ ِ
ان بِ َوال َد ْيه ُح ْسناً َوِإ ن َج ََّيَنا اِإل ْن َس َ
سورة العنكبوتَ :و َوص ْ
ِ
حق
وم ْن أشرك ،فُأجازيكم ّ ون( )8ـ ف } من آمن منكم َ تُط ْعهُ َمآ ِإلَ َّى َم ْر ِج ُع ُك ْم فَ َُأنبُِئ ُكم بِ َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُ َ
تحدث نفسك بجفوتهما جزائكم .وفي ختام هذه اآلية فائدتان :التنبيه على أن الجزاء إلى اهلل فال ّ
شر الجزاء في األخرى.
والحض على الثبات في الدين لئال ينال ّ
ّ إلشراكهما،
مرة التيمي القرشي وقد كان
ومنهم :طلحةبن عبيد اللهبن عثمانبن عمروبن كعببن سعدبن تيمبن ّ
ذكر الرسول وصفته ،فلما دعاه أبو بكر وسمع من رسول اهلل ما نفعه اهلل به،
َع َرف من الرهبان َ
عما العرب من المثالب ،بادر إلى اإلسالمh.
ورأى الدين متيناً بعيداً ّ
وعماربن ياسر العنسي وقد قال رضي
وممن سبقوا إلى اإلسالم :صهيب الرومي وكان من المواليّ ،
رأيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وما معه إال خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر وكذلك
ُ اهلل عنه:
سمية.
أسلم أبوه ياسر وأمه ّ
ومن السابقين األولين :عبد اللهبن مسعود ،كان يرعى الغنم لبعض ُم ِ
شركي قريش ،فلما رأى اآليات
الباهرة وما يدعو إليه عليه السالم من مكارم األخالق ،ترك عبادة األوثان ولزم رسول اهلل ،وكان
رضي اهلل عنه كثير الدخول على الرسول ال ُيحجب ،ويمشي أمامه ،ويستره إذا اغتسل ،ويوقظه إذا
ويلبسهُ نعليه إذا قام ،فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه.
نامُ ،
فتزو َد وحمل ِقربة له فيها ماء ،حتى قَِد َم مكة فأتى المسجد،
بالشعر ،فقال :ما شفيتني مما أردتّ .
فالتمس النبي صلى اهلل عليه وسلم وال يعرفه ،و َك ِره أن يسأل عنه لما يعرفه من كراهة قريش لكل
علي فعرف أنه غريب فأضافه عنده ،ولم يسأل أحد
َم ْن يخاطب رسول اهلل ،حتى إذا أدركه الليل رآه ّ
منهما صاحبه عن شيء (على قاعدة الضيافة عند العرب ال ُيسأل الضيف عن سبب قدومه إال بعد
أصب َح احتمل ِقربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم وال يراه الرسول حتى أمسى ،فعاد
ثالث) فلما َ
علي فقال :أما آن للرجل أن يعرف منزله الذي ُأضيف به باألمس؟ فأقامه،
فمر به ّإلى مضجعهّ ،
علي مثل ذلك ،ثم
فذهب معه ال يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء ،حتى إذا كان اليوم الثالث عاد ّ
أقدم َك؟ قال :إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت ،ففعل
تحدثني ما الذي َ
قال له علي :أال ّ
فأخبره ،قال :فإنه حق ،وهو رسول اهلل ،فإذا أصبحت فاتبعني ،فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك قمت
مدخلي ففعل .فانطلق يتبع أثره حتى دخل على
مضيت فاتبعني حتى ندخل َ
ُ كأني أريق الماء ،فإن
النبي ،ودخل معه ،فسمع من قوله ،وأسلم مكانه ،فقال له النبي صلى اهلل عليه وسلم« :ارجع إلى
ظهرانيهم .فخرج حتى
ألصرخن بها بين َ
ّ قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري» ،قال :والذي نفسي بيده
أتى المسجد ،فنادى بأعلى صوته :أشهد أن ال إله إال اهلل وأن محمداً رسول اهلل .فقام القوم فضربوه
ستم تعلمون أنه من َّ
فأكب عليه وقال :ويلكم َأولَ ُ حتى أضجعوه ،وأتى العباس
ِغفار ،وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليه؟ فأنقذه منهم ،ثم عاد من الغد لمثلها ،فضربوه وثاروا إليه،
َّ
فأكب العباس عليه .رواه البخاري .وكان رضي اهلل عنه من أصدق الناس قوالً ،وأزهدهم في الدنيا.
وزوجه فاطمة بنت الخطاب أخت عمر ،وُأم الفضل
ومن السابقين :سعيدبن زيد العدوي القرشيَ ،
وعبيدةبن الحارثبن عبد المطلببن هاشم ،ابن
لُبابة بنت الحارث الهاللية ،زوج العباسبن عبد المطلبُ ،
عم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وأبو سلمة عبد اللهبن عبد األسد المخزومي القرشي ابن عمة
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وزوجه أم سلمة ،وعثمانبن مظعون الجمحي القرشي ،وأخواه
قُدامة ،وعبد اهلل ،واألرقمبن أبي األرقم المخزومي القرشي.
األولين :خالدبن سعيدبن العاصبن أميةبن عبد شمس األموي القرشي ،كان أبوه سيد ومن السابقين ّ
يعتم قرشي إجالالً له ،وكان خالدبن سعيد قد رأى في منامه أنه سيقع في هاوية،
اعتم لم ّ
قريش إذا َّ
إالم تدعو يا محمد؟ قال« :أدعوك إلى عبادة اهلل
فأدركه رسول اهلل وخلّصه منها فجاء إليه وقالَ :
يضر وال ينفع،
وحده ال شريك له ،وأن تخلع ما أنت عليه من عبادة حجر ال يسمع وال يبصر وال ّ
واإلحسان إلى والديك ،وأن ال تقتل ولدك خشية الفقر ،وأن ال تقرب الفاحشة ما ظهر منها وما بطن،
أشده،
حرم اهلل إال بالحق ،وأن ال تقرب مال اليتيم إال بالتي هي أحسن حتى يبلغ ّ
وأن ال تقتل نفساً ّ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وأن توفي الكيل والميزان بالقسط ،وأن تعدل في قولك ولو حكمت على ذوي قرباك ،وأن توفي لمن
ٍ
وحينئذ غضب عليه أبوه وآذاه حتى منعه القوت ،فانصرف إلى عاهدت» فأسلم رضي اهلل عنه،
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فكان يلزمه ويعيش معه ،ويغيب عن أبيه في ضواحي مكة ،وأسلم
بعده أخوه عمروبن سعيد.
وهكذا دخل هؤالء األشراف في دين اإلسالم ،ولم يكن مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سيف
يضرب به أعناقهم حتى يطيعوه صاغرين ،وليس معه ما يرغب فيه حتى يترك هؤالء العظماء
آباءهم ،وذوي الثروة منهم ،ويتبعوا الرسول ليأكلوا من فضل ماله ،بل كان الكثير منهم واسع الثروة
أكثر منه عليه الصالة والسالم كأبي بكر وعثمان وخالدبن سعيد وغيرهم ،والذين اتّبعوه من الموالي
اختاروا األذى والجوع والمشقّات مع اتّباع الرسول ،بحيث لو اتبعوا سادتهم لكانوا في هذه الدنيا أهدأ
اللهم ليس ذلك إال من هداية اهلل وسطوع أنوار الدين عليهم ،حتى أدركوا ما هم
باالً وأنعم عيشةّ ،
عليه من الضاللة وما عليه رسول اهلل من الهدى.
الجهر بالتبليغ
مضت كل هذه المدة والنبي عليه الصالة والسالم ال ُيظهر الدعوة في مجامع قريش العمومية ،ولم
يكن المسلمون يتم ّكنون من إظهار عبادتهم حذراً من تعصب قريش ،فكان ُّ
كل من أراد العبادة ذهب
ولما دخل في الدين ما يربو على الثالثين ،وكان من الالزم اجتماع ِ
إلى شعاب مكة يصلّي مستخفياًّ ،
ممن ذكرنا إسالمهم ـ ـ الرسول بهم ليرشدهم ويعلّمهم ،اختار لذلك دار األرقمبن أبي األرقم ـ ـ وهو ّ
ع بِ َما
اص َد ْ ِ
سراً حتى نزل عليه قوله تعالى في سورة الحجر :فَ ْ ومكث عليه الصالة والسالم يدعو ّ
ات لَهَ ٍب()3 ِ
صلَى َناراً َذ َ
ب(َ )2سَي ْ َأغَنى َع ْنهُ َمالُهُ َو َما َك َس َ
ين(َ )1( )94مآ ْ ض َع ِن اْل ُم ْش ِرك َ َأع ِر ْ تُْؤ َم ُر َو ْ
ض اخِف ْ ين(َ )214و ْ َأنذ ْر َع ِش َيرتَ َك ا ْ
ال ْق َربِ َ
ط ِب(ِ )4فى ِج ِيدها حْب ٌل من َّمس ٍد( )5و ِ
َ َ َ َ ّ ام َرَأتُهُ َح َّمالَةَ اْل َح َ
َو ْ
ِ ِ ِ
ص ْو َك} (الشعراء )216 ،215 :أي :العشيرة ين( )215فَِإ ْن َع َ اح َك ل َم ِن اتََّب َع َك م َن اْل ُمْؤ ِمن َ
َجَن َ
ون} (الشعراء )216 :فجمعهم عليه الصالة والسالم وقال لهم: واألقربون {فَ ُق ْل ِإّنى َب ِرىء ّم َّما تَ ْع َملُ َ
غررت الناس جميعاً ما
ُ كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم ،ولو
ُ «إن الرائد ال يكذب أهله ،واهلل لو
غررتكم ،واهلل الذي ال إله إال هو إني لرسول اهلل إليكم خاصة ،وإ لى الناس كافة ،واهلل لتموتُ َّن كما
ولتجزو ّن باإلحسان إحساناً ،وبالسوء سوءاً،
ُ تنامون ،ولتُبعثُ َّن كما تستيقظون ،ولتُ َح ّ
اسبن بما تعملون،
لجنة أبداً أو لنار أبداً» .فتكلم القوم كالماً ّليناً غير عمه أبي لهب الذي كان خصماً لدوداً فإنه
وإ ّنها ّ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
قال :خذوا على يديه قبل أن تجتمع عليه العرب ،فإن أسلمتموه إذاً ذللتم ،وإ ن منعتموه قُتلتم ،فقال أبو
طالب :واهلل لنمنعنه ما بقينا ،ثم انصرف الجمع.
ولما جهر رسول اهلل عليه الصالة والسالم بالدعوة َس ِخرت منه قريش واستهزؤوا به في مجالسهم
مر عليهم يقولون :هذا ابن أبي كبشة ُيكلَّم من السماء ،وهذا غالم عبد المطلب ُيكلم من
فكان إذا َّ
وسفّهَ عقولهم وقال لهم« :واهلل يا قوم لقد خالفتم دين
السماء ال يزيدون على ذلك ،فلما عاب آلهتهمَ ،
أبيكم إبراهيم» ،ثارت في رؤوسهم حمية الجاهلية َغ ْي َرةً على تلك اآللهة التي كان يعبدها آباؤهم،
فذهبوا إلى عمه أبي طالب سيد بني هاشم الذي أخذ على نفسه حمايته من أيدي أعدائه ،فطلبوا منه أن
رداً جميالً فانصرفوا عنه ،ومضى رسول اهلل لما يريده
فردهم ّ
عما يقولّ ،
ُيخلي بينهم وبينه أو يكفّه ّ
ال يصده عن مراده شيء ،فتزايد األمر ،وأضمرت قريش الحقد والعداوة لرسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،وحث بعضهم بعضاً على ذلك .ثم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى وقالوا له :إن لك سناً
عنا ،وإ ّنا واهلل ال نصبر على هذا
منا ،وإ ّنا قد طلبنا منك أن تنهى ابن أخيك فلم تَْنهَهُ ّ
وشرفاً ومنزلة ّ
من شتم آبائنا ،وتسفيه عقولنا ،وعيب آلهتنا .فإنهم كانوا إذا احتجوا بالتقليد في استمرارهم على عدم
{وِإ َذا ِق َ
يل لَهُ ُم ذمهم لعدم استعمال عقولهم فيما ُخلقت له .قال تعالى في سورة البقرةَ : اتّباع الحق ّ
ِ ِ اتَّبِعوْا مآ َ َّ
ون(ون َش ْيًئا َوالَ َي ْهتَ ُد َ
ءاباُؤ ُه ْم الَ َي ْعقلُ َان َ آءنآ ََأولَ ْو َك َ
ءاب َ َأنز َل اللهُ قَالُوْا َب ْل َنتَّبِعُ َمآ َأْلفَْيَنا َعلَْيه َ ُ َ
ان ِ الرس ِ يل لَهم تَعالَوْا ِإلَى مآ َ َّ ِ
اءنآ ََأولَ ْو َك َءاب َ ول قَالُوْا َح ْسُبَنا َما َو َج ْدَنا َعلَْيه َ َأنز َل اللهُ َوِإ لَى َّ ُ َ َ )170وِإ َذا ق َ ُ ْ َ ْ
ق لَ ُكم ّم ْن َأنفُ ِس ُك ْم َْأزواجاً لّتَ ْس ُكُنوْا ِإلَْيهَا
َأن َخلَ َ ءابا هم الَ يعلَمون َشْيئاً والَ يهتَ ُدون( )104و ِمن ِ ِ
ءاياته ْ َ ْ َ َ َْ َ َ ُؤ ُ ْ َ ْ ُ َ
ٍ ِ ِ
وهآ
ال ُمتَْرفُ َ ون( )21قَ َ اليات لّقَ ْوٍم َيتَفَ َّك ُر َ
َو َج َع َل َب ْيَن ُكم َّم َو َّدةً َو َر ْح َمةً ِإ َّن فى َذل َك َ
آءنا علَى َّ ٍ
شبههم بمن قبلهم من ون} (الزخرف .)23 :ولما ّ ُأمة َوِإ َّنا َعلَى ءاثَ ِار ِهم ُّم ْقتَ ُد َ ءاب َ َ ِإَّنا َو َج ْدَنآ َ
ِ الدالة على التعصب والعناد قالُ { :ق ْل َأولَو ِجْئ تُ ُكم بِ ْ ِ
َأه َدى م َّما َو َجدتُّ ْم َعلَْيه َ
ءابآء ُك ْم ْ َ ْ األمم في هذه المقالة ّ
ِ ِ ِ
ون()24 قَالُوْا ِإَّنا بِ َمآ ُْأرسْلتُ ْم بِه َكاف ُر َ
اإليذاء
الشدة ،خصوصاً إذا ذهب إلى الصالة عند البيت،
ورأى رسول اهلل من المشركين كثير األذى وعظيم ّ
سموا لكثرة أذاهم بالمستهزئين.
وكان من أعظمهم أ ًذى لرسول اهلل جماعة ّ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وأشدهم :أبو جهل عمروبن هشامبن المغيرة المخزومي القرشي ،قال يوماً :يا معشر قريش ّ فأولهم
ّ
وسب آبائكم ،إني ُأعاهد اهلل
ّ ِإ َّن محمداً قد أتى ما ترون من عيب دينكم وشتم آلهتكم ،وتسفيه أحالمكم،
فَأسِل ُموني عند ذلك أو
خت به رأسه ْ
رض ُألجلسن له غداً بحجر ال أطيق حمله ،فإذا سجد في صالته َ
ّ
امنعوني ،فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم ،فلما أصبح أخذ حجراً كما وصف ،ثم جلس
لرسول اهلل ينتظره ،وغدا عليه الصالة والسالم كما كان يغدو إلى صالته ،وقريش في أنديتهم
ينتظرون ما أبو جهل ِ
فاعل ،فلما سجد عليه الصالة والسالم احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه،
حتى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه من الفزع ورمى حجره من يده .فقام إليه رجال من قريش
الح َكم؟ قال :قمت إليه ألفعل ما قلت لكم ،فلما دنوت منه عرض لي فحل من اإلبل
لك يا أبا َ
فقالوا :ما َ
واهلل ما رأيت مثله قطّ َه َّم بي أن يأكلني ،فلما ُذكر ذلك لرسول اهلل قال :ذاك جبريل ولو دنا ألخذه.
وكان أبو جهل كثيراً ما ينهى الرسول عن صالته في البيت فقال له مرة بعد أن رآه يصلي :ألم أنهك
عن هذا؟ فأغلظ له رسول اهلل القول وهدده ،فقال :أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟ فأنزل اهلل
اطَئ ٍة(َ )16فْلَي ْدعُ
اصي ٍة َك ِاذب ٍة َخ ِ
ِ تهديداً له في آخر سورة اقرأَ :كالَّ لَِئن لَّم ينتَ ِه لََنسفَعاً بِ َّ ِ ِ
َ الناصَية(َ )15ن َ ْ َْ
اس ُج ْد َوا ْقتَ ِرب َن ِادَيهُ()19 ِ َّ َن ِاديه( )17سَن ْدعُ َّ ِ
الزَبانَيةَ(َ )18كال الَ تُط ْعهُ َو ْ َ َُ
ومن أذيته للرسول ما حكاه عبد اللهبن مسعود من رواية البخاري قال :كنا مع رسول اهلل في المسجد
وهو يصلي ،فقال أبو جهل :أال رجل يقوم إلى فَ ْرث جزور بني فالن فيلقيه على محمد وهو ساجد؟
فقام عقبةبن أبي ُم َعيطبن أبي عمروبن أميةبن عبد شمس ،وجاء بذلك الفرث ،فألقاه على النبي صلى
اهلل عليه وسلم وهو ساجد ،فلم يقدر أحد من المسلمين الذين كانوا بالمسجد على إلقائه عنه لضعفهم
عن مقاومة عدوهم ،ولم يزل عليه الصالة والسالم ساجداً حتى جاءت فاطمة بنته فأخذت القذر
وسمى
«اللهم عليك بالمأل من قريش» ّ
ّ ورمته .فلما قام دعا على َم ْن صنع هذا الصنع القبيح فقال:
أقواماً ،قال ابن مسعود :فرأيتهم قُتلوا يوم بدر.
ومما حصل لرسول اهلل مع أبي جهل أن هذا ابتاع أجماالً من رجل يقال له اإلراشي فمطله بأثمانها
فجاء الرجل مجمع قريش يريد منهم مساعدة على أخذ ماله ،فدلّوه على رسول اهلل ُلينصفه من أبي
جهل استهزاء لما يعلمونه من أفعال ذلك الشقي بالرسول ،فتوجه الرجل إليه وطلب منه المساعدة
على أبي جهل فخرج معه حتى ضرب عليه بابه فقالَ :م ْن هذا؟ قال :محمد ،فخرج منتقعاً لونه فقال
تبرح حتى تأخذه ،فلم يبرح الرجل حتى أخذ َدْينه،
ْ له الرسولِ :
أعط هذا حقه ،فقال أبو جهل :ال
علي
فقالت قريش :ويلك يا أبا الحكم ما رأينا مثل ما صنعت قال :ويحكم واهلل ما هو إال أن ضرب َّ
بابي حتى سمعت صوته فملئت منه رعباً ،ثم خرجت إليه وإ ن فوق رأسي فحالً من اِإل بل ما رأيت
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
مثله.
أشد عليه من األباعد ،فكان
عم رسول اهلل كان ّ
ومن جماعة المستهزئين :أبو لهببن عبد المطلبّ ،
أي جوار
يرمي القذر على بابه ألنه كان جاراً له ،فكان الرسول يطرحه ويقول :يا بني عبد مناف ُّ
تسب رسول
هذا؟ وكانت تشاركه في قبيح عمله زوجه ُّأم جميل بنت حرببن أمية ،فكانت كثيراً ما ّ
اهلل ،وتتكلم فيه بالنمائم ،وخصوصاً بعد أن نزل فيها وفي زوجها سورة أبي لهب.
ومن المستهزئينُ :عقبةبن أبي ُمعيط كان الجار الثاني لرسول اهلل ،وكان يعمل معه كأبي لهب ،صنع
مرة وليمة ودعا لها كبراء قريش وفيهم رسول اهلل فقال عليه الصالة والسالم« :واهلل ال آكل طعامك
الجمحي القرشي ،وكان صديقاً له فقال :ما شيء بلغني
ُأبيبن خلف ُ
حتى تؤمن باهلل» ،فتشهَّد فبلغ ذلك ّ
عنك؟ قال :ال شيء ،دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له ،فاستحييت أن
ُأبي :وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً فلم تطأ يخرج من بيتي ولم َيطعم فشهدت له .قال ّ
عنقه ،وتبزق في وجهه ،وتلطم عينه ،فلما رأى عقبة رسول اهلل فعل به ذلك فأنزل اهلل فيه في سورة
ياوْيلَتَا لَْيتَنِى لَ ْم ت مع َّ ِ ِ ِ َّ ِ الفرقان :ويوم يع ُّ َّ ِ
الر ُسول َسبيالً(َ )27 ض الظال ُم َعلَى َي َد ْيه َيقُو ُل يالَْيتَنى ات َخ ْذ ُ َ َ َ َْ َ َ َ
ان َخ ُذوالً()29 ان ِلِإل ْن َس ِ
ط ُ ان َّ
الش ْي َ ِ َأتَّ ِخ ْذ فُالَناً َخِليالً( )28لَّقَ ْد َّ ِ
َأضلنى َع ِن ال ّذ ْك ِر َب ْع َد ِإ ْذ َجآءنى َو َك َ
َ
ات ِمن َّرّب ُك ْم} (غافر.)28 : ول رّبى اللَّه وقَ ْد جآء ُكم بِاْلبّيَن ِ
ون َر ُجالً َأن َيقُ َ َ َ ُ َ َ ْ َ َأتَ ْقتُلُ َ
ومن جماعة المستهزئين :العاصبن وائل السهمي القرشي والد عمروبن العاص ،كان شديد العداوة
غر محمد أصحابه أن يحيوا بعد الموت ،واهلل ما يهلكنا إال الدهر ،فقال اهلل لرسول اهلل ،وكان يقولَّ :
الد ْنيا نموت ونحيا وما يهِل ُكنآ ِإالَّ َّ
{وقَالُوْا َما ِه َى ِإال َحَياتَُنا ُّ َ َ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ رداً عليه في دعواه في سورة الجاثيةَ : ّ
ت الَِّذى َكفََر بَِئ َاياتَِنا َوقَ َ َّ ِ ِ ٍِ
ال الَوتََي َّن َماالً َو َولَداً( الد ْه ُر َو َما لَهُ ْم بِ َذل َك م ْن عْلم ِإ ْن ُه ْم ِإال َيظُُّن َ
ون(َ )24أفََر َْأي َ َّ
اب َم ّداً()79 ب ما َيقُو ُل وَنم ُّد لَهُ ِم َن اْل َع َذ ِ َّ الر ْح َم ِ ب َِأم اتَّ َخ َذ ِع َ َّ
َ ُ ان َع ْهداً(َ )78كال َسَن ْكتُ ُ َ ند َّ َ )77أطلَ َع اْل َغ ْي َ
َوَن ِرثُهُ َما َيقُو ُل َوَيْأتِ َينا فَ ْرداً()80
ومن جماعة المستهزئين :األسودبن عبد يغوث ،الزهري ،القرشي ،من بني زهرة ،أخوال رسول
استهزاء بهم ألنهم كانوا
ً اهلل ،كان إذا رأى أصحاب النبي مقبلين يقول:ـ قد جاءكم ملوك األرض،
ت اليوم من السماء؟ متقشفين ،ثيابهم رثّة ،وعيشهم خشن ،وكان يقول لرسول اهلل سخرية :أما ُكلِّ ْم َ
مر عليهم المسلمون ابن عم خديجة ،كان هو وشيعته إذا ّ ومنهم :األسودبن عبد المطلب األسديُ ،
ِ َِّ َِّ ِ
ون()29ض َح ُك َ
ءامُنوْا َي ْ
ين َ َأج َر ُموْا َك ُانوْا م َن الذ َ
ين ْيتغامزون وفيهم نزل في سورة المطفِّف ْينِ :إ َّن الذ َ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ين(َ )31وِإ َذا َر َْأو ُه ْم قَالُوْا ِإ َّن َهُؤ الَء ِ َأهِل ِه ْم َ
انقلَُبوْا فَك ِه َ انقلَُبوْا ِإلَى ْ
ون(َ )30وِإ َذا َ
ام ُز َ ِِ
َوِإ َذا َم ُّروْا به ْم َيتَ َغ َ
ون()32 لَ ُّ
ضآل َ َ
ومنهم :الوليدبن المغيرة ،عم أبي جهل ،كان من عظماء قريش وفي سعة من العيش ،سمع القرآن
مرة من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقال لقومه بني مخزوم :واهلل لقد سمعت من محمد آنفاً
كالماً ما هو من كالم اإلنس وال من كالم الجن ،وإ َّن له لحالوة ،وإ ن عليه لطالوة ،وإ ن أعاله ُ
لمثمر،
َّ
لتصبأن قريش كلها ،فقال أبو لمغدق ،وإ نه يعلو وما ُيعلى ،فقالت قريش :صبأ واهلل الوليد،
وإ ن أسفله ُ
جهل :أنا أكفيكموه .فتوجه وقعد إليه حزيناً وكلّمه بما أحماه ،فقام فأتاهم فقال :تزعمون أن محمداً
هوس؟ وتقولون:ـ إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟ وتزعمون أنه شاعر فهل مجنون فهل رأيتموه ُي ِّ
جربتم عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا في كل َّ
ط؟ وتزعمون أنه كذاب ،فهل ّ رأيتموه يتعاطى شعراً ق ّ
ذلك :اللهم ال ،ثم قالوا :فما هو؟ َّ
ففكر قليالً ثم قال :ما هو إال ساحر ،أما رأيتموه يفرق بين الرجل ّ
المدثر مخاطباً لرسوله: فارتج النادي فرحاً فأنزل اهلل في شأن الوليد في سورة ّ ّ وأهله وولده ومواليه؟
دت لَهُ تَ ْم ِهيداً(ين ُشهُوداً(َ )13و َمهَّ ُّ ِ ت َو ِحيداً(َ )11و َج َعْل ُ َذ ْرنِى َو َم ْن َخلَ ْق ُ
ت لَهُ َماالً َّم ْم ُدوداً(َ )12وَبن َ
ص ُعوداً(ِ )17إَّنهُ فَ َّك َر َوقَ َّد َر()18 يد(َ )15كالَّ ِإَّنه كان ْ ِ ِ
الَياتَنا َعنيداً(َ )16س ُْأر ِهقُهُ َ ُ َأن َِأز َ
ط َمعُ ْ )14ثَُّم َي ْ
استَ ْكَب َر()23 ف قَ َّد َر( )20ثَُّم َن َ
ظ َر( )21ثَُّم َعَب َس َوَب َس َر( )22ثَُّم َْأدَب َر َو ْ ف قَ َّد َر( )19ثَُّم قُتِ َل َك ْي َ فَقُتِ َل َك ْي َ
ال ِإن ها َذآ ِإالَّ ِس ْحر ي ثَر(ِ )24إن ها َذآ ِإالَّ قَو ُل اْلب َش ِر( )25سُأصِل ِ
يه َسقََر()26 َ ْ ْ َ ْ َ ٌ ُْؤ ُ فَقَ َ ْ َ
وأنزل فيه أيضاً في سورة ن :وال تطع كل حالف} كثير الحلف وكفىـ بهذا زاجراً لمن اعتاد الحلف
اء َبن ِم ْيٍم} بنقل األحاديث
عياب طعان م َّش ٍ
َ َم ِه ْي ٍن} حقير وأراد به الكذاب ألنه حقير في نفسه َه َّم ٍاز} ّ
نين، كان َذا م ٍ
ال َوَب َ َأن َ َ عد َذلك َزنِْيٍم} دخيل ْ لخ ْي ِر ُم ْعتٍَد ْ
َأثيٍم ُعتُ َل} غليظ جاف َب َ اع ِل َ
لإلفساد بين الناس َمَّن ٍ
وم} كناية عن اإلذالل والتحقير ألن اَألو ْلي َنَ ،سَن ِس ُمهُ على ُ
الخرطُ ِ ال ِ
َأساط ْي ُر َّ ِإذا تُْتلى َعلَْي ِه َآياتُنا قَ َ
الوجه أكرم عضو واألنف أشرف ما فيه ،ولذلك اشتقوا منه َّ
كل ما يدل على العظمة ،كاألنفة وهي:
الحمية .فالوسم على أشرف عضو دليل اإلذالل واإلهانة.
ومن المستهزئين :النضربن الحارث العبدري من بني عبد الداربن قصي .كان إذا جلس رسول اهلل
َأح َس ُن هلموا يا معشر قريش فإني ْ يحدثهم ويذكرهم ما أصاب َم ْن قبلهم ،قال النضرّ : مجلساً للناس ّ
يحدث عن ملوك فارس ،وكان يعلم أحاديثهم ،ويقول:ـ ما أحاديث محمد إال أساطير منه حديثاً ثم ِّ
يل اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر
ض َّل َعن سبِ ِ
َ
يث ِلي ِِ ِ
اس َمن َي ْشتَ ِرى لَ ْه َو اْل َحد ُ األولين وفيه نزل في سورة لقمانَ :و ِم َن َّ
الن ِ ّ
َّ َّ
ءاياتَُنا َولى ُم ْستَ ْكبِراً َكَأن ل ْم َي ْس َم ْعهَا َك َّ
َأن ِ ِعْلٍم َوَيتَّخ َذ َها ُه ُزواً ُْأولَ َك لَهُ ْم َع َذ ٌ
اب ُّم ِه ٌ ِئ ِ
ين(َ )6وِإ َذا تُْتلَى َعلَْيه َ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
إسالم حمزة
عيرته
الحمية عندما ّ
ّ عمه حمزةبن عبد المطلب ،فقد أدركته
وكان بعض إيذائهم هذا سبباً إلسالم ّ
تسب
وسبه ،وقال :كيف ّ بعض الجواري بإيذاء أبي جهل البن أخيه ،فتوجه إلى ذلك الشقي وغاضبه ّ
وأشدهم
ّ محمداً وأنا على دينه؟ ثَُّم أنار اهلل بصيرته بنور اليقين حتى صار من أحسن الناس إسالماً،
أسد اهلل.
غيرة على المسلمين ،وأقواهم شكيمة على أعداء الدين حتى سمي َ
وكما ُأوذي الرسول عليه الصالة والسالمُ ،أوذي أصحابه التّباعهم له ،خصوصاً من ليس له عشيرة
وترد كيد عدوه عنه ،وكل هذا األذى كان حلواً في أعينهم ما دام فيه رضاء اهلل ،فلم يفتنوا
ّ تحميه،
أتم أمره على أيديهم ،وصاروا ملوك األرض بعد أن كانوا مستضعفين عن دينهم بل ثبتهم اهلل حتى ّ
ض ض ِعفُوْا ِفى ا ْ
ال ْر ِ استُ ْ
ين ْ
َِّ
يد َأن َّن ُم َّن َعلَى الذ َ
فيها ،كما قال ج ّل ذكره في سورة القصصَ :وُن ِر ُ
ِئ
ين()5َوَن ْج َعلَهُ ْم َأ َّمةً َوَن ْج َعلَهُ ُم اْل َو ِارثِ َ
امةُ ُأم بالل ،وعامربن فُهَيرة كان يعذب حتى ال يدري ما يقول ،وأبو فُ َكيهة ،كان عبداً
ومنهمَ :ح َم َ
لصفوانبن أميةبن خلف.
ومنهم امرأة تسمى زنيرة ع ّذبت في اهلل حتى عميت فلم يزدها ذلك إال إيماناً ،وكان أبو جهل يقول:
أال تعجبون لهؤالء وأتباعهم؟ لو كان ما أتى به محمد خيراً ما سبقونا إليه أفتسبقنا زنيرة إلى رشد؟
ونآ ِإلَْي ِه َوِإ ْذ لَ ْم
ان َخْيراً َّما َسَبقُ َ
ءامُنوْا لَ ْو َك َ
ين َ
َِِّ
ين َكفَ ُروْا للذ َ
فأنزل اهلل في سورة األحقاف :وقَ َ َِّ
ال الذ َ َ
يم()11 يهتَ ُدوْا بِ ِه فَسيقُولُون ها َذآ ِإ ْف ٌ ِ
ك قَد ٌ َ َ ََ َْ
فمر بهم رسول اهلل وممن ُعذب في اهلل :عماربن ياسر ،وأخوه ،وأبوه ،وأمه ،كانوا يعذبون بالنار ّ ّ
اللهم اغفر آلل ياسر وقد فعلت» .أما
صلى اهلل عليه وسلم فقال« :صبراً آل ياسر فموعدكم الجنةّ ،
أبو عمار وأمه فماتا تحت العذاب رحمهما اهلل ،وأما هو فثقل عليه العذاب فقال بلسانه كلمة الكفر،
فإن أبا جهل كان يجعل له دروعاً من الحديد في اليوم الصائف ويلبسه ّإياها ،فقال المسلمون :كفر
«عمار ملىء إيماناً من فرقه إلى قدمه» وأنزل اهلل في شأنه ٌ عمار ،فقال عليه الصالة والسالم:
استثناء في حكم المرتد ،فقال ج ّل ذكره في سورة النحل :من َكفَر بِاللَّ ِه ِمن بع ِد ِ ِ َّ
إيمانه ِإال َم ْن ُأ ْك ِرهَ
َْ َ َ َ ً
ب من اللَّ ِه ولَهم ع َذ ٌ ِ ِ و َقْلُبهُ م ْ ِئ ِ ِإل
يم()106 اب َعظ ٌ َ ُْ َ ض ٌ َّ ص ْد ًرا فَ َعلَْي ِه ْم َغ َ
ان َواَل كن َّمن َشَر َح بِاْل ُك ْف ِر َ
يم ِ
ط َم ٌّن با َ ُ َ
األر ِّ
تُ ،سبي في الجاهلية فاشترته ُأم أنمار ،وكان حداداً وكان النبي وممن أوذي في اهلل :خبَّاببن َ
ّ
المحماة
ّ شرفه اهلل بها أسلم خباب ،فكانت موالته تعذبه بالنار فتأتي بالحديدة
النبوة ،فلما ّ
يألفه قبل ّ
فتجعلها على ظهره ليكفر فال يزيده ذلك إال إيماناً .وجاء خباب مرة إلى رسول اهلل وهو متوسد ُب ْر َدة
محمراً وجهه فقال:
ّ في ظل الكعبة ،فقال :يا رسول اهلل أال تدعو اهلل لنا؟ فقعد عليه الصالة والسالم
«إنه كان َم ْن قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ،ويوضع المنشار
فيشق ،ما يصرفه ذلك عن دينه ،وليظهرن اهلل تعالى هذا األمر حتى يسير
ّ على فرق رأس أحدهم
والذئب على غنمه» .قال ذلك عليه الصالة
َ الراكب من صنعاء إلى حضرموت ال يخاف إال اهلل،
والسالم وهو في هذه الحال الشديدة التي ال يتصور فيها أعقل العقالء ،وأنبل النبالء ،قوة منتظرة أو
اللهم إال أن ذلك وحي يوحى إليه ،ثم أنزل اهلل تعالى تثبيتاً للمؤمنين أول سورة سعادة مستقبلةّ ،
ين ِمن قَْبِل ِه ْم َِّ
ون(َ )2ولَقَ ْد فَتََّنا الذ َ
ءامَّنا َو ُه ْم الَ ُي ْفتَُن َ
اس َأن ُيتَْر ُكوْا َأن َيقُولُوْا َ ب َّ
الن ُ
العنكبوت :الم(ِ )1
َأحس َ
َ
َفلََي ْعلَ َم َّن اللَّهُ ( } 3:العنكبوت:ـ 1ـ ـ .)3
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وممن ُأوذي في اهلل :أبو بكر الصديق ،ولما اشتد عليه األذى أجمع أمره على الهجرة من مكة إلى ّ
جهة الحبشة ،فخرج حتى أتى بر َك ِ
الغماد فلقيه ابن ُّ
الد ُغَّنة (وهو سيد قبيلة عظيمة اسمها القَ َارةُ) ْ
فقال :إلى أين يا أبا بكر؟ فقال :أخرجني قومي فأريد أن أسيح في األرض وأعبد ربي ،فقال ابن َ
الرحم وتحمل ال َك َّل ،وتقري الضيف، ِ ِ
الدغنة :مثْلُك يا أبا بكر ال يخرج ،إنك تكسب المعدوم ،وتَصل َ
وتُعين على نوائب الحق ،فأنا لك جار ،فارجع واعبد ربك ببلدك ،فرجع وارتحل ابن الدغنة معه،
وطاف في أشراف قريش ،فقال لهم :أبو بكر ال ُي ْخ َر ُج مثله .أتخرجون رجالً يكسب المعدوم ،ويصل
ويعين على نوائب الحق؟ فلم تُ ِّ
كذب قريش بجوار ابن الدغنة، الرحم ،ويحمل الكل ،ويقري الضيفُ ،
ِّ
فليصل فيها ما شاء ،وليقرأ ما شاء وال يؤذينا بذلك وال وقالوا لهُ :م ْر أبا بكر فليعبد ربه في داره،
يستعلن ،فِإ ّنا نخشى أن يفتِن نساءنا وأبناءنا ،فقال ذلك ابن الدغنة ألبي بكر ،فلبث بذلك يعبد ربه في
داره وال يستعلن بصالته وال يقرأ في غير داره ،ثم بدا ألبي بكر فابتنى مسجداً بِفناء داره ،وكان
يصلي فيه ويقرأ القرآن ،فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه.
اء ال يملك عينيه إذا قرأ القرآن ،فأفزع ذلك أشراف قريش ،فأرسلوا إلى ابن الدغنة َّ
وكان رجالً بك ً
أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك ،فابتنى
كنا قد َ
فقدم عليهم فقالواّ :إنا ّ
أحب أن
مسجداً بفناء داره فأعلن بالصالة والقراءة فيه ،وِإ ّنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا ،فإن ّ
يرد إليك ذمتك ،فإنا قد
يقتصر على أن يعبد ربه بفناء داره فعل ،وإ ن أبي إالّ أن يعلن ذلك فَ َسْله أن ّ
علمت الذي مقرين ألبي بكر االستعالن .فأتى ابن الدغنة أبا بكر ،فقال :لقد ِ
َ كرهنا أن ُن ْخف َر َك ولسنا ّ
إلي ذمتي ،فإني ال ُأحب أن تسمع العرب عاقدت لك عليه .فإما أن تقتصر على ذلك ،وإ ما أن تُْرجع ّ ُ
فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها ،فقال عليه الصالة والسالم« :قل
يا أبا الوليد أسمع».
َأكَّن ٍة ِم َّما تَ ْد ُع َ
ونا َأعرض َأ ْكثَرهم فَهم الَ يسمعون( )4وقَالُوْا ُقلُوبَنا ِفى ِ
ُ َ ون(َ )3بشيراً َوَنذيراً فَ ْ َ َ ُ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ َ
ِ ِ
لّقَ ْوٍم َي ْعلَ ُم َ
وحى ِإلَ َّى ِ ِإلَْي ِه َو ِفى ءاذانَِنا َو ْقٌر َو ِمن َب ْينَِنا َوَب ْينِ َك ِح َج ٌ
ون(ُ )5ق ْل ِإَّن َمآ ََأن ْا َب َشٌر ّم ْثلُ ُك ْم ُي َاع َم ْل ِإَّنَنا َعاملُ َ
اب فَ ْ
ال ِخ َر ِة ون الزكاةَ َو ُه ْم بِا ْ ين الَ يُْؤ تُ َ
َِّ
ين( )6الذ َ
ِ واح ٌد فَاستَِقيموْا ِإلَْي ِه و ِ
استَ ْغف ُروهُ َو َوْي ٌل لّْل ُم ْش ِرك َ
َ ْ ْ ُ
ََّأنمآ اله ُكم اله ِ
ْ َ
ون بِالَِّذى ون(ُ )8ق ْل َّ
َأءن ُك ْم لَتَ ْكفُُر َ َأجٌر َغ ْي ُر َم ْمُن ٍ ات لَهُ ْم ْ َّالح ِِ ِ
ءامُنوْا َو َعملُوْا الص َ ين َ
َِّ
ون(ِ )7إ َّن الذ َ
ِ
ُه ْم َكاف ُر َ
اس َى ِمن فَ ْو ِقهَا ب اْلعالَ ِمين( )9وجع َل ِفيها رو ِ
َ ََ َ ََ َأنداداً َذل َك َر ُّ َ َ
الرض ِفى يوم ْي ِن وتَ ْجعلُون لَه َ ِ
َْ َ َ َ َ ُ ق ا ْْ َ َخلَ َ
َّمآء َو ِه َى ُد َخ ٌ ِإ ِئِ ِ ٍ ِ ِ ِ
ان استََوى لَى الس َ ين( )10ثَُّم ْ َوَب َار َك فيهَا َوقَ َّد َر فيهَآ َأ ْقواتَهَا فى َْأرَب َعة َأيَّام َس َوآء لّلسَّآ ل َ
اوات ِفى َي ْو َم ْي ِن
طآِئ ِعين( )11فَقَضاه َّن س ْبع سم ٍ
َ ُ َ َ ََ ط ْوعاً َْأو َك ْرهاً قَالَتَآ َأتَْيَنا َ َ ض اْئ تَِيا َ ال لَهَا َوِل ْ
ال ْر ِ فَقَ َ
يز اْل َعِل ِيم( )12فَِإ ْن يح َو ِح ْفظاً َذِل َك تَ ْق ِد ُير اْل َع ِز ِ
صابِ َ الد ْنَيا بِ َم َ
َّمآء ُّ
َأم َر َها َو َزيََّّنا الس َ
ِ
َو َْأو َحى فى ُك ّل َس َمآء ْ
الر ُس ُل ِمن َب ْي ِن َْأي ِدي ِه ْم َو ِم ْن ود(ِ )13إ ْذ َجآءتْهُ ُم ُّ اعقَ ِة َع ٍاد َوثَ ُم َ
اعقَةً م ْث َل ص ِ
َ ّ
َأعرضوْا فَ ُق ْل َأن َذرتُ ُكم ص ِ
ْ ْ َ َْ ُ
ِ ِ ِ ِئ َّ َّ َّ ِ
ون()14 َخْلف ِه ْم َأال تَ ْعُب ُدوْا ِإال اللهَ قَالُوْا لَ ْو َشآء َربَُّنا الَ َنز َل َماَل َكةً فَِإ َّنا بِ َمآ ُْأرسْلتُ ْم بِه َكاف ُر َ
َأعُب ُد(َ )3وال ََأنآ َعابِ ٌد َّما َعَبدتُّ ْم(َ )4والَ ِ
ون(َ )2والَ َأنتُ ْم َعابِ ُد َ
ون َمآ ْ َأعُب ُد َما تَ ْعُب ُد َ ون( )1الَ ْ يَأيُّهَا اْل َكاف ُر َ
َأن َُأب ّدلَهُ ِمن تِْلقَآء َن ْف ِسى ِإ ْن َأتَّبِعُ ِإالَّ َما ين(ُ )6ق ْل ما ي ُك ِ
ون لى ْ َ َ ُ َأعُب ُد( )5لَ ُك ْم ِد ُين ُك ْم َوِلى ِد ِ
َ َأنتُ ْم َعابِ ُد َ
ون َمآ ْ
وحى ِإلَ َّى} (يونس.)15 : ُي َ
وقد حصل له مع كفار قريش نادرة تكون لمن استهان بالضعيف كمصباح يستضيء به ،وهو أنه
بينما الرسول عليه الصالة والسالم مع ُكبراء قريش وأشرافهم يتألفهم ويعرض عليهم القرآن وما
ممن أسلموا قديماً ـ ـ والنبي مشتغل
جاء به من الدين إذ أقبل عليه عبد اهلل ابن أم مكتوم األعمى ـ ـ وهو ّ
بالقول ،وقد لقي منهم مؤانسة حتى طمع في إسالمهم ،فقال له عبد اهلل :يا رسول اهلل علِّمني مما
فشق ذلك على الرسول ،وكره قطعه لكالمه ،وخاف عليه الصالة
علّمك اهلل وأكثر عليه القولّ ،
والسالم أن يكون التفاته لذلك المسكين ينفر عنه قلب أولئك األشراف ،فأعرض عنه فعاتبه اهلل على
يك لَ َعلَّهُ َي َّز َّكى(َْ )3أو ذلك بقوله َّأو َل سورة عبسَ :عَب َس َوتََولَّى(َ )1أن َجآءهُ ا ْ
ال ْع َمى(َ )2و َما ُي ْد ِر َ
ص َّدى(َ )6و َما َعلَْي َك َأالَّ َي َّز َّكى(َ )7و َّ
َأما َمن َأنت لَهُ تَ َ
استَ ْغَنى( )5فَ َ َي َّذ َّك ُر فَتَنفَ َعهُ ال ّذ ْك َرى(َّ )4
َأما َم ِن ْ
َأنت َع ْنهُ تَلَهَّى()10
آءك َي ْس َعى(َ )8و ُه َو َي ْخ َشى( )9فَ َ
َج َ
ولما رأى المشركون أن هذه المطالب التي يعرضونها ال تُقبل منهم أرادوا أن يدخلوا في باب آخر،
ّ
وهو تعجيز الرسول بطلب اآليات ،فاجتمعوا ،وقالوا :يا محمد إن كنت صادقاً ِ
فأرنا آيةً نطلبها منك
َّ
وانشق القمر فرقتين فقال رسول اهلل: تشق لنا القمر فرقتين ،فأعطاه اهلل هذه المعجزة،
وهي أن ّ
األولين ُرويت عنه من طرق
«اشهدوا» وهذه القصة رواها عبد اللهبن مسعود وهو من السابقين ّ
كثيرة ،ورواها عبد اللهبن عباس وغيره ،ورواها عنهم جمع غزير حتى صار الحديث كالمتواتر وقد
ق اْلقَ َم ُر(َ )1وِإ ن َي َر ْوْا َّاعةُ وان َش َّ ِ
ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى في أول سورة القمر :ا ْقتََرَبت الس َ َ
ون لَ َك وعا َْأو تَ ُك َ ض َي ْنُب ً ال ْر ِضوْا َوَيقُولُوْـا ِس ْحٌر ُّم ْستَ ِمٌّر( )2لَن ُّنْؤ ِم َن لَ َك َحتَّى تَ ْف ُج َر لََنا ِم َن ا ْءايةً ُي ْع ِر ُ
َ
ت َعلَْيَنا ِك َسفًا َْأو َّمآء َك َما َز َع ْم َ
ط الس َ ال ْنهَ َار ِخاَل لَهَا تَ ْف ِج ًيرا(َْ )91أو تُ ْسِق َ َجَّنةٌ من َّن ِخ ٍ
يل َو ِعَن ٍب فَتُفَ ّج َر ا ْ ّ
ِ
َّمآء َولَن ُّنْؤ ِم َن ل ُر ِقّي َك ِ ٍ ِ ِئ ِ َّ ِ
ت ّمن ُز ْخ ُرف َْأو تَْرقَى فى الس َ تَْأت َى بِالله َواْل َملَ َكة قَبِيالً(َْ )92أو َي ُك َ
ون لَ َك َب ْي ٌ
ِ
ان َرّبى َه ْل َحتَّى تَُن ّز َل َعلَْيَنا كتَ ًابا َّن ْق َرءهُ} (اإلسراء 90 :ـ ـ )93ولم يجبهم اهلل إال بقولهُ { :ق ْل ُس ْب َح َ
نت َإالَّ َب َش ًرا َّر ُسوالً} (اإلسراء )93 :ألن اهلل علم ما تُ ِكُّنه جوانحهم من التعصب والعناد ،فال ُك ُ
{و َما ُي ْش ِع ُر ُك ْم ََّأنهَآ ِإ َذا َج ْ
آءت الَ يؤمنون مهما جاءهم من البينات كما قال ج ّل ذكره في سورة األنعامَ :
َّ
ممن قالوا كما في سورة األنفال :اللهُ َّم ِإن َك َ
ان َها َذا ُه َو يُْؤ ِمُن َ
ون} (األنعام )109 :وكيف يرجى الخير ّ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
من ُسنن األنبياء إذا رأوا من طالب اآليات عناداً ،وأنهم يطلبونها تعجيزاً ال يسألون اهلل إنفاذ هذه
اآليات كيال يح ّل بقومهم الهالك كما حصل لعاد وثمود وغيرهم .وهذا هو المراد من قوله تعالى في
ب بِهَا ا ْ َّ سورة اإلسراء{ :وما منعنآ َأن ُّنر ِس َل بِا ْ ِ َّ
ون} (اإلسراء.)59 : ال َّولُ َ الَيات ِإال َأن َكذ َ ْ َ َ َ َ ََ
وقف أمام هيرودس طلب منه آية فلم ُي ِج ْبهُ إلى طلبه ،فلما رأى لما َ وقد حصل للمسيح عليه السالم أنه ّ
ورده إلى عدوه بيالطس بعد أن كان يأسف عليه ويتمنى لقاءه ،وذلك مذكور في ذلك سخر منه ّ
اإلصحاح الثالث والعشرين من إنجيل لوقا.
هذا ولما رأى المشركون ضعفهم عن مقاومة المسلمين بالبرهان ،تحولوا إلى سياسة القوة التي
اختارها قوم إبراهيم عندما عجزوا عنه حيث قالوا{ :حرقُوه وانصروْا ِ
ءالهَتَ ُك ْم} (األنبياء )68 :كما َّ ُ َ ُُ
صدهم عن اتّباع الرسول عليه في سورة األنبياء أما هؤالء فازدادوا باألذى على كل َمن أسلم رجاء ّ
الصالة والسالم ،ولم يتركوا باباً إال ولجوه ،فقال عليه الصالة والسالم ألصحابه« :تفرقوا في
األرض ،فإن اهلل سيجمعكم» ،فسألوه عن الوجه فأشار إلى الحبشة.
تجهز ناس للخروج من ديارهم وأموالهم فراراً بدينهم كما أشار عليه الصالة والسالم ،وهذه
فعند ذلك َ
وعدة أصحابها عشرة رجال وخمس نسوة ،وهم :عثمانبن عفان وزوجه
هي أول هجرة من مكةّ ،
رقية بنت رسول اهلل ،وأبو سلمة وزوجه ُأم سلمة ،وأخوه ألمه أبو َسْبرةبن أبي ُر ْهم ،وزوجه أم
ّ
كلثوم ،وعامربن ربيعة وزوجه ليلى ،وأبو حذيفةبن عتبةبن ربيعة وزوجه سهلة بنت ُسهَيل ،وعبد
وجلّهم
العوامُ ،
وسهَْيلبن البيضاء ،والزبيربن ّ
الرحمانبن عوف ،وعثمانبن مظعون ،ومصعببن عميرُ ،
من قريش ،وكان عليهم ـ ـ فيما روى ابن هشام ـ ـ عثمانبن مظعون ،فساروا على بركة اهلل ،ولما انتهوا
إلى البحر ،استأجروا سفينة أوصلتهم إلى مقصدهم ،فأقاموا آمنين من أ ًذى يلحق بهم من المشركين،
ولم يبق مع النبي عليه الصالة والسالم إال القليل.
إسالم عمر
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وفي ذلك الوقت أسلم الشهم الهمام عمربن الخطاب العدوي القرشي بعد ما كان عليه من كراهية
المسلمين وشدة أذاهم .قالت ليلى ـ ـ إحدى المهاجرات ألرض الحبشة مع زوجها ـ ــ :كان عمربن
ركبت بعيري ُأريد أن أتوجه إلى أرض الحبشة إذا أنا
ُ الخطاب من أشد الناس علينا في إسالمنا ،فلما
نذهب في أرض اهلل حيث ال نؤذى،ُ به ،فقال لي :إلى أين يا ُأم عبد اهلل؟ فقلت :قد آذيتمونا في ديننا،
فقال :صحبكم اهلل ،فلما جاء زوجي عامر أخبرته بما رأيت من ِرقَّ ِة عمر ،فقال :ترجين أن ُي ْسلم؟
واهلل ال يسلم حتى يسلم حمار الخطاب وذلك لما كان يراه من قسوته وشدته على المسلمين ،ولكن
حصلت له بركة دعوة المصطفى صلى اهلل عليه وسلم ،فإنه قال قبيل إسالمه« :اللهم ِ
أع ّز اإلسالم
بعمر» .وكان إسالمه في دار األرقمبن أبي األرقم التي كان المسلمون يجتمعون فيها وقد حقق اهلل
أعزة
بإسالمه ما رجاه عليه الصالة والسالم ،فقد قال عبد اللهبن مسعود من رواية البخاري :ما زلنا ّ
الكفار كآبةٌ
َ منذ أسلم عمر .فإنه طلب من رسول اهلل أن يعلن صالته في المسجد ففعل وقد أدرك
شديدة حينما رأوا عمر أسلم ،وكانوا قد أرادوا قتله حتى اجتمع جمع حول داره ينتظرونه ،فجاء
َّهمي وهو من بني سهم حلفاء بني عدي قوم عمر وعليه ُحلَّة ِحَب َرة ،وقميص العاصبن وائل الس ْ
أسلمت .قال :ال سبيل
ُ إن
مكفوف بحرير ،فقال لعمر :ما بالُ َك؟ فقال :زعم قومك أنهم سيقتلونني ْ
فأم َن عمر ،وخرج العاص فوجد الناس قد سال بهم الوادي ،فقال :أين تريدون؟ إليك فأنا لك جارِ ،
قالوا :نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ .قال :ال سبيل إليه .فرجع الناس من حيث أتوا.
وبعد ثالثة أشهر من خروج مهاجري الحبشة رجعوا إلى مكة حيث ال تتيسر لهم اإلقامة فيها ألنهم
وَأضف إلى ذلك أنهم أشراف قريش ومعهم نساؤهم ،وهؤالء قليلو العدد ـ ـ وفي الكثرة بعض اُألنس ـ ـ ِ
ال يطيب لهم عيش في دار غربة بهذه الحالة.
وقد ُأولع بعض المؤرخين بحكاية يجعلونها سبباً في رجوع مهاجري الحبشة ،وهي أنه بلغهم إسالم
قومهم حينما قرأ عليهم الرسول سورة النجم ،وتكلم فيها كالماً حسناً عن آلهتهم حيث قال بعد:
ت َواْل ُع َّزى(َ )19و َمَنواةَ الثَّ ِالثَةَ ا ْ
ال ْخ َرى()20 ءيتُ ُم الاَّل َ
َأفََر ْ
وهذا مما ال تجوز روايته إال من قليلي اإلدراك الذين ينقلون كل ما وجدوه غير متثبتين من صحته،
وها نحن ُأوالء نسوق لك أدلة النقل والعقل على بطالن ما ذكر ،أما الحديث فسنده ومتنه قلقان،
يخرجه أحد من أهل الصحة وال رواه ثقة بسند سليم»،
فالسند قال فيه القاضي عياض في الشفا« :لم ّ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وأما المتن فليس أصحاب رسول اهلل وال المشركون مجانين حتى يسمعوا مدحاً أثناء ذم ويجوز ذلك
َأنز َل اللَّهُ بِهَا ِمن ِ َّ
ءابآُؤ ُكم َّمآ َ
وهآ َأنتُ ْم َو َ عليهم ،فبعد ذكر األصنام قالِ :إ ْن ه َى ِإال ْ
َأس َمآء َس َّم ْيتُ ُم َ
ان} (النجم .)23 :فالكالم غير ُم ْنتَظم ،ولو كان ذلك قد حصل التَّخذه الكفار عليه حجة ّ
يحاجونه طٍُسْل َ
بها وقت الخصام ،وهم من نعرفهم من العناد فيما ليس فيه أدنى حجة ،فكيف بهذه؟ وليس ذلك القيل
سماهم اهلل سفهاء وأنزل فيهم في سورة أقل من تحويل القبلة إلى الكعبة ،وهذا قالوا فيه ما قالوا حتى َّ
اس َما َواَّل ُه ْم َعن ِقْبلَتِ ِه ُم الَّتِى َك ُانوْا َعلَْيهَا} (البقرة .)142 :ولكن لم {سَيقُو ُـل السُّفَهَآء ِم َن َّ
الن ِ البقرةَ :
ممت آلهتنا بعد أن
ُيسمع عن أي واحد من رجاالتهم والمتصدرين للعناد منهم أن قال :ما لك َذ َ
مدحتها؟ وكان ذلك أولى لهم من تجريد السيوف وبذل ُمهج الرجال.
على أن المؤرخين الذين ينقلون هذه العبارة ويجعلونها سبباً لرجوع مهاجري الحبشة يقولون أثناء
كالمهم :إن الهجرة كانت في رجب ،والرجوع كان في شوال ،ونزول سورة النجم كان في رمضان،
والمتأمل أدنى تأمل يرى أن الشهر كان ال
ّ فالمدة بين نزول السورة ورجوع المهاجرين شهر واحد،
يكفي في ذاك الزمن للذهاب من مكة إلى الحبشة واإلياب منها ألنه لم يكن إذ ذاك مراكب بخارية
تسهّل السير في البحر ،وال تلغراف يوصل خبر إسالم قريش لمن بالحبشة ،فال غرابةَ بعد ذلك إن
قلنا إن هذه الخرافة من موضوعاتـ أهل األهواء الذين ابتلى اهلل بهم هذا الدين ،ولكن الحمد هلل فقد َّ
من
ق َع ِن فتر كذاب ففي السورة نفسها{ :وما ي ِ
نط ُ علينا بحفظ كتابنا المجيد الذي يحكم بيننا وبين كل ُم ٍ
ََ َ
اْلهَ َوى()3
والذي ورد في الصحيح في موضوعـ هذا السجود ما رواه عبد اللهبن مسعود :أن النبي عليه الصالة
والسالم قرأ والنجم فسجد ،وسجد َم ْن كان معه إال رجالً أخذ كفاً من حصى وضعه على جبهته وقال:
يكفيني هذا ،فرأيته قُتِ َل بعد كافراً .وليس في هذا الحديث أدنى داللة على أن الذين سجدوا معه هم
مشركون ،بل الذي يفيده قوله :فرأيته قُتِل بعد كافراً أنه كان مسلماً ثم رأيته ّ
ارتد ،وهذا ما حصل من
بعض ضعاف القلوب الذين لم يتحملوا األذى فكفروا ،منهم :عليبن أميةبن خلف.
هذا ،ولما رجع مهاجرو الحبشة إلى مكة لم يتمكن من الدخول إليها إال َم ْن وجد له ُمجيراً ،فدخل أبو
رد عليه
سلمة في جوار خاله أبي طالب ،ودخل عثمانبن مظعون في جوار الوليدبن المغيرة ،وقد ّ
جواره حينما رأى ما صنعه بالمسلمين ،فلم َي َر أن يكون مرتاحاً وإ خوانه معذبون.
كتابة الصحيفة
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ولما ضاقت الحي ُل بكفار قريش ،عرضوا على بني عبد مناف ،الذين منهم الرسول عليه الصالة
والسالم ،دية مضاعفة ،ويسلمونه ،فأبوا عليهم ذلك ،ثم عرضوا على أبي طالب أن ُيعطوه سيداً من
شبانهم يتبناه ،ويسلم إليهم ابن أخيه ،فقال :عجباً لكم تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟
دي عبد مناف وإ خراجهم من
فلما رأوا ذلك أجمعوا أمرهم على منابذة بني هاشم وبني المطلب َولَ ْ
مكة ،والتضييق عليهم فال يبيعونهم شيئاً ،وال يبتاعون منهم حتى يسلموا محمداً للقتل ،وكتبوا بذلك
صحيفة وضعوها في جوف الكعبة ،فانحاز بنو هاشم ـ ـ بسبب ذلك ـ ـ في ِش ْعب أبي طالب ،ودخل
وانخذل عنهم
َ معهم بنو المطلب سواء في ذلك مسلمهم وكافرهم ما عدا أبا لهب فإنه كان مع قريش،
بنو َع َّم ْيهم عبد شمس ونوفل ابني عبد مناف ،فجهد القوم حتى كانوا يأكلون ورق الشجر ،وكان
أعداؤهم يمنعون التجار من مبايعتهم وفي مقدمة المانعين أبو لهب.
نقض الصحيفة
وقد قام خمسة من أشراف قريش يطالبون بنقض هذه الصحيفة الظالمة ،وهم :هشامبن عمروبن
بالء ،وزهيربن أبي أمية المخزومي ابن عمة ربيعةبن الحارث العامري ،وهو أعظمهم في ذلك ً
وزم َعةبن األسود األسدي، الرسول عاتكة ،والم ْ ِ
ريبن هشام األسديْ ، الب ْختَ ّ
عدي النوفلي ،وأبو َ
طعمبن ّ ُ
واتفقوا على ذلك ليالً ،فلما أصبحوا غدا زهير وعليه حلّة ،فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس ،فقال :يا
ونْلَب ُس الثياب وبنو هاشم والمطلب َهْلكى ال يبيعون وال يبتاعون؟ واهلل ال أقعد
أهل مكة أنأكل الطعام َ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وفود نجران
وبعد خروجه عليه الصالة والسالم من الشعب بقليل وقبل الهجرة بثالث سنين توفيت خديجة بنت
خويلد زوجه رضي اهلل عنها ،وكان عليه الصالة والسالم كثيراً ما يذكرها ويترحم عليها ،وال
غرابة ،فهي أول نفس زكية َّ
صدقت رسول اهلل فيما جاء به عن ربه ،وقد جاء منها بأوالده كلهم ما
عدا إبراهيم .فمنها زينب وهي أكبر بناته تزوجها في الجاهلية أبو العاصبن الربيع ،وأعقب منها
رقية وُأم كلثوم تزوجهما عثمان؛ األولى
أمامة التي تزوجها عليبن أبي طالب بعد وفاة فاطمة ،ومنها ّ
َأن ماتت أختها ،ومنها فاطمة وهي
بمكة قبل الهجرة وهاجر بها إلى الحبشة ،والثانية بالمدينة بعد ْ
أصغر بناته تزوجها عليبن أبي طالب ،وقد جاءت خديجة بأوالد توفّوا صغاراً ،ولم يعش بعد رسول
اهلل من أوالده إالّ فاطمة عاشت بعده قليالً .ولما توفيت خديجة حزن عليها رسول اهلل حزناً شديداً لما
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
كانت عليه من الرقة لرسول اهلل ،ومحاجزة الكفار عنه لما لها من الجاه في عشيرتها بني أسد ،ومنها
القاسم وكان به يكنى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وعبد اهلل الملقب بالطيب والطاهر.
زواج سودة
وعقد عليه الصالة والسالم في الشهر الذي ماتت فيه خديجة على َس ْودة بنت َز ْم َعة العامرية القرشية
بعد أن توفي عنها زوجها وابن عمها السكرانبن عمرو ،وقد كانت آمنت باهلل وبرسوله وخالفت
أقاربها وبني عمها ،وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة في المرة الثانية خوف الفتنة ،وعقب رجوعه
من هجرته توفي عنها ،فلم يكن ثم أجمل مما صنعه الرسول بزوج رجل آمن به ،ولو تركت لقومها
التزوج برجل
وكرم نسبها في قومها يمنعها من ّ
ُ مع ما هم عليه من الغلظة وكراهة اإلسالم لفتنوها،
أقل منها نسباً وشرفاً.
وبعد ذلك بشهر عقد على عائشة بنت صديقه أبي بكر وهي ال تتجاوز السابعة من عمرها ،ولم
يتزوج عليه الصالة والسالم بكراً غيرها ،ودخل عليها بالمدينة ،أما َسودةُ فدخل عليها بمكة.
وبعد وفاة خديجة بنحو شهر ،توفي عمه أبو طالب ،الذي كان يمنعه من أذى أعدائه ،ومع أنه كان ال
ُي َك ِّذب رسول اهلل فيما جاء به بل يعتقد صدقه لم ينطق بالشهادتين حتى آخر لحظة من حياته ،وفيه
ِ ت َواَل ِك َّن اللَّهَ َي ْه ِدى َمن َي َشآء َو ُه َو ْ نزل في سورة القصصِ{ :إَّن َك الَ تَ ْه ِدى َم ْن ْ
َأعلَ ُم بِاْل ُم ْهتَد َ
ين( َأحَب ْب َ
)56
وقد سمى رسول اهلل هذا العام الذي فقد فيه زوجه وعمه عام الحزن .ولما مات أبو طالب نالت
قريش من رسول اهلل ما لم يمكنها نيله في حياة أبي طالب ،واشتد األمر عليه حتى كانوا ينثرون
التراب على رأسه وهو سائر ،ويضعون أوساخ الشاة عليه في صالته ،وتعلقت به كفار قريش مرة
يتجاذبونه ويقولون له :أنت الذي تريد أن تجعل اآللهة إلهاً واحداً؟ فما تقدم أحد من المسلمين حتى
ول َرّب َى اللَّهُ}
ون َر ُجالً َأن َيقُ َ
يخلصه منهم لما هم عليه من الضعف إال أبو بكر فإنه تقدم ،وقالَ :أتَ ْقتُلُ َ
(غافر.)28 :
هجرة الطائف
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
فلما رأى عليه الصالة والسالم استهانة قريش به أراد أن يتوجه إلى ثقيف بالطائف يرجو منهم
يتمم أمر ربه ،ألنهم أقرب الناس إلى مكة وله فيهم خؤولة ،فإن أم
نصرته على قومه ومساعدته حتى ّ
هاشمبن عبد مناف عاتكة السلمية من بني ُسلَيمبن منصور وهم حلفاء ثقيف ،فلما توجه إليهم ومعه
وحبيب أوالد عمروبن عمير ِ
مواله زيدبن حارثة قابل رؤساءهم وكانوا ثالثةً :عبد يالْيل ومسعود َ
فردوا عليه رداً قبيحاً ،ولم َير منهم خيراً ،وحينذاك
الثقفي ،فعرض عليهم نصرته حتى يؤدي دعوتهّ ،
فيشتد أذاهم ألنه استعان عليهم بأعدائهم ،فلم تفعل
ّ طلب منهم أن ال ُيشيعوا ذلك عنه كيال تعلم قريش
ثقيف ما رجاه منهم عليه الصالة والسالم ،بل أرسلوا سفهاءهم وغلمانهم يقفون في وجهه في الطريق
كرم
ويرمونه بالحجارة ،حتى أدموا عقبه ،وكان زيدبن حارثة يدرأ عنه إلى أن انتهى إلى شجرة ْ
لعتبة و َشيبة ابني ربيعة وهما من أعدائه وكانا في البستان ،فكره
واستظ ّل بها ،وكانت بجوار بستان ُ
َّ
وهواني على ضعف قَُّوتي و ِقلةَ حيلتي َ
َ إليك
«اللهم إني أشكو َ
ّ رسول اهلل مكانهما فدعا اهلل قائالً:
رب المستضعفين ،وأنت ربي ،إلى من تكلني ،إلى بعيد يتجهَّمني ،أم الناس ،يا أرحم الراحمين أنت ُّ
علي فال أبالي» فلما رآه ابنا ربيعة َرقَّا له وأرسال إليه
عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب ّ إلى َ
ف من العنب مع مولى لهما نصراني اسمه َع َّداس .فلما ابتدأ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يأكل ط ٍ
بِِق ْ
قال« :بسم اهلل الرحمان الرحيم» فقال َع َّداس :هذا الكالم ما يقوله أهل هذه البالد ،فقال له عليه
أي البالد أنت وما دينك؟» فقال :نصراني من نِْيَنوى ،فقال له عليه الصالة الصالة والسالم« :من ّ
ونسبن متَّى؟» قال :وما علمك بيونس؟ فقرأ له من القرآن ما فيه والسالم« :من قرية الرجل الصالح ُي ُ
قصة يونس ،فلما سمع ذلك عداس أسلم ،وأتى جبريل برسالة من اهلل ج ّل ذكره ،وقال :إن اهلل أمرني
أن أطيعك في قومك لما صنعوه
سماك ِ
«اللهم اهد قومي فإنهم ال يعلمون» فقال جبريل :صدق من ّ
ّ معك ،فقال عليه الصالة والسالم:
الرؤوف الرحيم.
ممن ينتمون إلى موسى صلوات اهلل
ولما كان َبن ْخلَة وفد عليه نفر من الجن يستمعون القرآن وهم ّ
عليه ،فلما سمعوه أنصتوا له ورجعوا إلى قومهم منذرين وأبلغوهم خبر رسول اهلل صلى اهلل عليه
ِ
ض ُروهُ
ءان َفلَ َّما َح َ ون اْلقُْر َ ص َر ْفَنآ ِإلَْي َك َنفَراً ّم َن اْل ِج ّن َي ْستَم ُع َ
{وِإ ْذ َوسلم وفيهم نزل في سورة األحقافَ :
ُأنز َل ِمن َب ْع ِد
ين( )29قَالُوْا ياقَ ْو َمَنآ ِإَّنا َس ِم ْعَنا ِكتَاباً ِ ِ ِ َّ ِ
قَالُوْا َأنصتُوْا َفلَ َّما قُض َى َول ْوْا ِإلَى قَ ْو ِم ِهم ُّمنذ ِر َ
اع َى اللَّ ِه
َأجيبوْا َد ِ ِ
ق ُّم ْستَق ٍيم( )30ياقَ ْو َمَنآ ِ ُ ط ِري ٍ
ق َوِإ لَى َ ص ّدقاً لّ َما َب ْي َن َي َد ْي ِه َي ْه ِدى ِإلَى اْل َح ّ
وسى ُم َ ُم َ
اع َى اللَّ ِه َفلَْي َس بِ ُم ْع ِج ٍز
ب َد ِ َّ
اب َِأل ٍيم(َ )31و َمن ال ُي ِج ْ ءامُنوْا بِ ِه َي ْغِف ْر لَ ُكم من ُذُنوبِ ُكم وُي ِج ْر ُكم م ْن َع َذ ٍ
ْ ّ َْ ْ ّ
و ِ
َ
ِ ضاَل ٍل ُّمبِ ٍ ِ ِئ ِ ِ ِفى ا ْ
استَ َم َع َنفٌَر ّم َنين(ُ )32ق ْل ُأوح َى ِإلَ َّى ََّأنهُ ْ ض َولَْي َس لَهُ من ُدونِه َْأوِلَيآء ُْأولَ َك فى َ ال ْر َ
َأحداً()2شر َك بَِرّبَنآ َ امَّنا بِ ِه َولَن ُّن ِ ءاناً عجباً( )1يه ِدى ِإلَى ُّ ِ
الر ْشد فََئ َ َْ
ِ
اْل ِج ّن فَقَالُوْا ِإَّنا َسم ْعَنا قُْر َ َ َ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ط ِع ِمبن َع ِدي
بالم ْ
االحتماء ُ
ولما رجع عليه الصالة والسالم من الطائف هكذا لم يتمكن من دخوله مكة ،لما علمه كفار قريش من
ط ِعمبن عديبن
الم ْ
يستنصر بأهليها عليهم ،فأرسل عليه الصالة والسالم إلى ُ
ُ أنه توجه إلى الطائف
نوفلبن عبد مناف يخبره أنه سيدخل مكة في جواره فأجاب إلى ذلك ،وتسلح هو وبنوه وتوجهوا مع
َأم ِج ٌير أنت أم تابع؟ فقال بل مجير ،قالوا :إذاً ال
رسول اهلل إلى المطاف ،فقال له بعض المشركينُ :
تُ ْخفَ ُر ِذ َّمتُ َك.
وفد َد ْوس
وقدم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو بمكة الطُّفَْيلبن عمرو َّ
الدوسي ،من قبيلة دوس ،عشيرة
أبي هريرة الصحابي الشهير ،وكان الطفيل شريفاً في قومه شاعراً نبيالً ،فلما قرأ عليه القرآن أسلم،
فقال له رسول اهلل« :اذهب إلى قومك فادعهم إلى اإلسالم» ودعا لهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
فقال« :اللهم ِ
اهد َد ْوساً» ،فتوجه إليهم الطفيل ودعاهم فآمن بدعوته كثير منهم .وستأتي ِوفَ َ
ادتُهُ على ّ
الرسول مرة ثانية بقومه في المدينة.
اإلسراء والمعراج
وقبل الهجرة أكرمه اهلل باإلسراء والمعراج ،أما اإلسراء فهو توجهه ليالً إلى بيت المقدس بِإ ْيلياء
السنة :إن ذلك
ورجوعه من ليلته ،وأما المعراج فهو صعوده إلى العالم العلوي ،وقد قال جمهور أهل ّ
كان بجسمه الشريف ،وكانت عائشة رضي اهلل عنها تمنع رؤية رسول اهلل ربه ،وتقول:ـ من قال إن
محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على اهلل ،واإلسراء مذكور في القرآن الكريم ،قال تعالى في أول
َأس َرى بِ َع ْب ِد ِه لَْيالً ّم َن اْل َم ْس ِج ِد اْل َح َر ِام ِإلَى ( ) ( }1: ،اإلسراء.)1 : سورة اإلسراء :س ْبح َِّ
ان الذى ْ
ُ َ َ
بنا إلى السماء ،فاستفتح جبريل فقيل :من أنت؟ قال جبريل ،قيل :ومن معك؟ قال :محمد ،قيل :وقد
ُبعث إليه؟ قال :قد بعث إليه ،ففتح لنا فإذا بآدم ،فرحب بي ،ودعا لي بخير .ثم عرج بنا إلى السماء
الثانية ،فاستفتح جبريل ،فقيل :من أنت؟ قال :جبريل ،قيل :ومن معك؟ قال :محمد ،قيل :وقد بعث
ود َعوا لي بخير.
إليه؟ قال :قد بعث إليه ،ففتح لنا ،فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى ابن مريم فرحبا َ
ثم ُع َرج بنا إلى السماء الثالثة فذكر مثل األول ،ففتح لنا وإ ذا أنا بيوسف ،وإ ذا هو قد ُأعطي شطر
الحسن ،فرحب ودعا لي بخير .ثم ُع ِر َج بنا إلى السماء الرابعة فذكر مثله ،فإذا أنا بإدريس فرحب بي
ودعا لي بخير .قال تعالى في سورة مريمَ :و َرفَ ْعَناهُ َم َكاناً َعِلّياً()57
وفي صبيحة ليلة اإلسراء جاء جبريل وعلَّم رسول اهلل كيفية الصالة وأوقاتها ،فيصلي ركعتين إذا
ظهر الفجر ،وأربع ركعات إذا زالت الشمس ومثلها إذا ضوعف ظل الشيء ،وثالثاً إذا غربت،
وأربعاً إذا غاب الشفق األحمر .وكان عليه الصالة والسالم قبل مشروعية الصالة يصلي ركعتين
مساء كما كان يفعل إبراهيم عليه السالم.
ً صباحاً ،ومثلهما
ولما رأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه يجد من قريش َمَن َعهً من تأدية الرسالة وتَ َسلُّط الكبر
والعظمة على قلوبهم ،أراد اهلل أن يظهر أمر الدين على أيدي غيرهم من العرب ،فكان عليه الصالة
والسالم يخرج في المواسم العربية ـ ـ وهي أسواق كانت العرب تعقدها للتجارة والمفاخرة ـ ـ ويعرض
رداً قبيحاً.
رداً جميالً ،وآخرون ّ نفسه على القبائل ليحموه حتى يؤدي رسالة ربه ،فكان بعضهم ُّ
يرد ّ
إن هم آمنوا به أن
لمة الكذاب ،وطلب منه بنو عامر ْ
رداً بنو حنيفة رهط ُم َسْي َ
وكان من أقبح القبائل ّ
يحجون
يجعل لهم أمر الرياسة من بعده ،فقال لهم« :األمر هلل يضعه حيث يشاء» .وكان من الذين ّ
البيت عرب يثرب وهي مدينة بين مكة والشام يقطنها قبيلتان :إحداهما من ولد األوس ،والثانية من
ولد الخزرج وهما أخوان وكان بين أوالدهما من العداوة ما يجعل الحرب ال تضع أوزارها بين
الفريقين ،فكانوا دائماً في شقاق ونزاع ،وكان يجاورهم في المدينة أقوام من اليهود وهم :بنو قَ ُينقاع،
الن ِ
ضير وكان لهم الغلبة على يثرب أوالً ،فحاربهم العرب حتى صاروا ذوي النفوذ وبنو قَُريظة وبنو َّ
فيها والقوة ،وكان اليهود إذا خذلوا يستفتحون على أعدائهم باسم نبي ُيبعث قد قرب زمانه .ولما
اختلفت كلمة العرب فيما بينهم و ُشقَّت عصا األلفة ،حالفوا اليهود على أنفسهم ،فحالف األوس بني
قريظة ،وحالف الخزرج بني النضير وبني قينقاع ،وآخر األيام بينهم يوم ُبعاث قتل فيه أكثر
رؤسائهم ولم يبق إال عبد اللهبن َُأب ّي ابن سلول من الخزرج ،وأبو عامر الراهب من األوس ،ولذلك
كانت عائشة تقول :كان يوم ُبعاث يوماً َّ
قدمه اهلل لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وقد خطر ببال
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
به شيئاً ،وقد أرسلني اهلل إلى الناس كافة» ثم تال عليهم القرآن ،فقال إياسبن معاذ :يا قوم هذا واهلل
خير مما جئنا له ،فحصبه أبو الحيسر وقال له :دعنا منك لقد جئنا لغير هذا ،فسكت.
العقبة األولى
فلما كان العام المقبل قدم اثنا عشر رجالً ،منهم َع َشرة من الخزرج ،واثنان من األوس ،وهم :أسعدبن
وعبادةبن الصامت ،ويزيدبن
زرارة ،وعوف ومعاذ ابنا الحارث ،ورافعبن مالك ،وذكوانبن قيسُ ،
ثعلبة ،والعباسبن عبادة ،وعقبةبن عامر وقطبةبن عامر ،وهؤالء من الخزرج ،وأبو الهيثمبن
التَّيِّهانُ ،
وع َويمبن ساعدة وهما من األوس ،فاجتمعوا به عند العقبة ،وأسلموا وبايعوا رسول اهلل على
بيعة النساء ،وذلك قبل أن تفترض الحرب ،على أال يشركوا باهلل شيئاً ،وال يسرقوا وال يزنوا ،وال
يقتلوا أوالدهم ،وال يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم ،وال يعصونه في معروف ،فإن َوفَوا
فلهم الجنة ،وإ ن َغشوا من ذلك شيئاً فأمرهم إلى اهلل عز وجل ،إن شاء غفر وإ ن شاء عذب ،وهذه
هي العقبة األولى.
فأرسل لهم عليه الصالة والسالم مصعببن عمير العبدري وعبد اهلل ابن ُأم مكتوم ـ ـ وهو ابن خالة
خديجة ـ ـ ُيقرآنهم القرآن ،ويفقهانهم في الدين ،ونزل مصعب على أحد المبايعين أبي ُأمامة أسعدبن
زرارة ،وصار يدعو بقية األوس والخزرج لإلسالم .وبينما هو في بستان مع أسعدبن زرارة إذ قال
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ُألس ْيدبن ُحضير ابن عم سعد :أال تقوم إلى هذين الرجلين اللذين
سعدبن معاذ ـ ـ رئيس قبيلة األوس ـ ـ َ
أتيا ُي َسفِّهان ضعفاءنا لتزجرهما؟ فقام لهما أسيد بحربته ،فلما رآه أسعد قال لمصعب :هذا سيد قومه،
وقد جاءك فاصدق اهلل فيه ،فلما وقف عليهما قال :ما جاء بكما تُ َسفِّهان ضعفاءنا؟ اعتزال إن كان لكما
بأنفسكما حاجة .فقال مصعبَ :أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمراً قبلته ،وإ ن كرهته كففنا عنك ما
دين اإلسالم ،وهداه اهلل له فتشهد ورجع إلى سعد ،فسأله
تكره ،فقرأ عليه مصعب القرآن فاستحسن َ
رأيت بالرجلين بأساً ،فغضب سعد وقام لهما مغيظاً ،ففعل معه مصعب
ُ عما فعل ،فقال :واهلل ما
ّ
كسابقه فهداه اهلل لإلسالم ،ورجع لرجال بني عبد األشهل ،وهم بطن من األوس ،فقال لهم :ما
علي حرام حتى تُسلموا ،فلم يبق ُّ
تعدونني فيكم؟ قالوا :سيدنا وابن سيدنا .قال :كالم رجالكم ونسائكم ّ
بيت من بيوت بني عبد األشهل إال أجابه ،وقد انتشر اإلسالم في دور يثرب حتى لم يكن بينهم حديث
إال أمر اإلسالم.
العقبة الثانية
ولما كان وقت الحج في العام الذي يلي البيعة األولى ،قدم مكة كثيرون منهم يريدون الحج ،وبينهم
كثير من ُمشركيهم ،ولما قابل وفدهم رسول اهلل ،واعدوه المقابلة ليالً عند العقبة ،فأمرهم أن ال ُينبِّهوا
في ذلك الوقت نائماً ،وال ينتظروا غائباً ،ألن كل هذه األعمال كانت خفية من قريش كيال يطّلعوا
فيسعوا في نقض ما أبرم ،شأنهم مع رسول اهلل في أول أمره .ولما فرغ األنصار من
على األمرَ ،
عمن معهم من المشركين ،وكان ذلك بعد مضي ثلث الليل
حجهم توجهوا إلى موعدهم كاتمين أمرهم ّ
األول ،فكانوا يتسللون الرجل والرجلين حتى تم عددهم ثالثة وسبعين رجالً ،منهم اثنان وستون من
الخزرج ،وأحد عشر من األوس ،ومعهم امرأتان وهماُ :ن َسيبة بنت كعب من بني النجار ،وأسماء
بنت عمرو من بني َسلمة ،ووافقهم رسول اهلل هناك وليس معه إال عمه العباسبن عبد المطلب وهو
عرفهم العباس بأن
ليكون متوثقاً له ،فلما اجتمعوا َّ
َ على دين قومه ،ولكن أراد أن يحضر أمر ابن أخيه
ممن أظهر له العداوة والبغضاء، ِّ
ابن أخيه لم يزل في َمَنعة من قومه حيث لم يمكنوا منه أحداً ّ
وتحملوا من ذلك أعظم الشدة ،ثم قال لهم :إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه
ممن خالفه ،فأنتم وما تحملتم من ذلك ،وإ ال فدعوه بين عشيرته فإنه لبمكان عظيم .فقال كبيرهم
ّ
البراءبن معرور :واهلل لو كان لنا في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه ،ولكنا نريد الوفاء
المتكلم عنهم َ
والصدق وبذل ُمهَجنا دون رسول اهلل ،وعند ذلك قالوا لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :خذ لنفسك
ولربك ما أحببت .فقال« :أشترط لربي أن تعبدوه وحده وال تشركوا به شيئاً ،ولنفسي أن تمنعوني
قدمت عليكم» .فقال له أبو الهيثمبن التَّي ِ
ِّهان :يا رسول اهلل إن ُ مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم متى
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
بيننا وبين الرجال عهوداً وإ ّنا قاطعوها ،فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اهلل أن ترجع إلى
قومك وتدعنا؟ فتبسم عليه الصالة والسالم ،وقال:
الدم َّ
الد َم والهَ ْد َم الهَ ْد َم» ،أي :إن طالبتم بدم طالبت به وإ ن أهدرتموه أهدرته .وحينذاك ابتدأت َّ
«بل َ
المبايعة وهي العقبة الثانية ،فبايعه الرجال على ما طلب ،وأول من بايع أسعدبن زرارة ،وقيل
البراءبن معرور ،ثم تخير منهم اثني عشر نقيباً ،لكل عشيرة منهم واحد ،تسعة من الخزرج ،وثالثة
من األوس ،وهم :أبو الهيثمبن التَّيِّهان ،وأسعدبن زرارة ،وأسيدبن حضير ،والبراءبن معرور،
ورافعبن مالك ،وسعدبن خيثمة ،وسعدبن الربيع ،وسعدبن عبادة ،وعبد اللهبن رواحة ،وعبداللهبن
عمرو ،وعبادةبن الصامت ،والمنذربن عمرو ،ثم قال لهم« :أنتم كفالء على قومكم ككفالة الحواريِّين
خبر هذه البيعة مشركي قريش،لعيسى ابن مريم ،وأنا كفيل على قومي» وألمر ما أراده اهلل َبلَ َغ ُ
ب األنصار ،وقالوا :يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم لصاحبنا تخرجونه من ِ
فجاؤوا ودخلوا ش ْع َ
أرضنا وتبايعونه على حربنا؟ فأنكروا ذلك ،وصار بعض المشركين الذين لم يحضروا المبايعة
صل منهم شيء في ليلتهم وعبد اللهبن َُأب ّي كبير الخزرج يقول :ما كان قومي
يحلفون لهم أنهم لم َي ْح ُ
علي بشيء من ذلك.
ليفتاتوا َّ
ولما رجع األنصار إلى المدينة ظهر بينهم اإلسالم أكثر من المرة األولى .أما رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم وأصحابه فازداد عليهم أذى المشركين لما سمعوا أنه حالف قوماً عليهم ،فأمر عليه
الصالة والسالم جميع المسلمين بالهجرة إلى المدينة ،فصاروا يتسلَّلون خيفة قريش أن تمنعهم .وأول
زوج أم سلمة ومعه زوجه ،وكان قومها منعوها منه ولكنهم أطلقوها
من خرج أبو سلمة المخزومي ُ
حبه بلحمهم
بعد َفلحقت به .وتتابع المهاجرون فراراً بدينهم ليتمكنوا من عبادة اهلل الذي امتزج ّ
ودمهم ،حتى صاروا ال يعبؤون بمفارقة أوطانهم واالبتعاد عن آبائهم ما دام في ذلك رضا اهلل
ورسوله .ولم يبق بمكة منهم إال أبو بكر وعلي وصهيب وزيدبن حارثة ،وقليلون من المستضعفين
الذين لم ِّ
تمكنهم حالُهم من الهجرة ،وقد أراد أبو بكر الهجرة فقال له عليه الصالة والسالم« :على
ِر ْسلك فإني أرجو أن يؤذن لي» ،فقال أبو بكر :وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال« :نعم» .فحبس أبو
َّمر استعداداً لذلك.
بكر نفسه على رسول اهلل ليصحبه ،وعلف راحلتين كانتا عنده ورق الس ُ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
دار الندوة
أما قريش فكانوا كأنهم أصيبوا بم ِّس الشيطان حينما طرق مسامعهم مبايعة األنصار له على َّ
الذود َ
قصيبن كالب التي كانت قريش
عنه حتى الموت ،فاجتمع رؤساؤهم وقادتهم في دار الندوة وهي دار ّ
ال تقضي أمراً إال فيها يتشاورون ما يصنعون في أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حين خافوه،
فر ِفض هذا الرأي ألنهم قالوا :إذا خرج
فقال قائل منهم :نخرجه من أرضنا كي نستريح منهُ ،
اجتمعت حوله الجموع لما يرونه من حالوة منطقه وعذوبة لفظه .وقال آخرُ :ن ْوثقه ونحبسه حتى
فر ِفض هذا الرأي كسابقه ،ألنهم قالوا :إن الخبر ال يلبث أن
يدركه ما أدرك الشعراء قبله من الموتُ ،
يبلغ أنصاره ،ونحن أدرى الناس بمن دخل في دينه حيث ُيفَ ِّ
ضلونه على اآلباء واألبناء ،فإذا سمعوا
جر هذا من الحرب علينا ما نحن في ِغنى عنه .وقال لهم طاغيتهم :بل ذلك جاؤوا لتخليصه وربما ّ
نقتله ،ولنمنع بني أبيه من األخذ بثأره ،نأخذ من كل قبيلة شاباً جلداً يجتمعون أمام داره ،فإذا خرج
ضربوه ضربة رجل واحد ،فيفترق دمه في القبائل فال يقدر بنو عبد مناف على حرب قريش كلهم بل
َّ
ون َوَي ْم ُك ُر اللهُ
فأقروا هذا الرأي .هذا مكرهم ،ولكن إرادة اهلل فوق كل إرادة َوَي ْم ُك ُر َ
يرضون بالديةّ ،
ِ َّ
سرهم ،وأمره باللحاق بدار َواللهُ َخ ْي ُر اْل َماك ِر َ
ين} (األنفال:ـ )30فأعلم نبيه بما دبره األعداء في ّ
هجرته ،بدار فيها ينشر اإلسالم ،ويكون فيها لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم العزة والمنعة .وهذا
من الحكمة بمكان عظيم فإنه لو انتشر اإلسالم بمكة لقال المبغضون :إن قريشاً أرادوا ُمْل َك العرب،
أن َّ
يدعي هذه الدعوى حتى تكون وسيلة لنيل مآربهم ،ولكنهم فعمدوا إلى شخص منهم ،وأوعزوا إليه ْ
َ
كانوا له أعداء َّ
ألداء ،آذوه شديد األذى حتى اختار اهلل له مفارقة بالدهم والبعد عنهم.
فتوجه من ساعته إلى صديقه أبي بكر ،وأعلمه أن اهلل قد ِأذ َن له في الهجرة فسأله أبو بكر الصحبةَ،
وصنعتأحث الجهازُ ،
معدتين لذلك ،فجهزهما ّ فقال :نعم ،ثم عرض عليه إحدى راحلتيه اللتين كانتا َّ
لهما ُس ْف َرة في ِج َراب ،فقطعت أسماء بنت أبي بكر نِطاقها ،وربطت به على فم الجراب ،واستأجرا
الديلبن بكر ،وكان هادياً ماهراً ،وهو على دين كفار قريش ِ
فأمَناه ودفعا عبد اللهبن َُأريقط من بني ِّ
إليه راحلتيهما ،وواعداه غار ثور بعد ثالث ٍ
ليال .ثم فارق الرسول عليه الصالة والسالم أبا بكر
أقروا عليه،
وواعده المقابلة ليالً خارج مكة ،وكانت هذه الليلة هي ليلة استعداد قريش لتنفيذ ما ّ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
علياً بالمبيت
فاجتمعوا حول باب الدار ،ورسول اهلل داخله ،فلما جاء ميعاد الخروج ،أمر ابن عمه ّ
مكانه كيال يقع الشك في وجوده أثناء الليل ،فإنهم كانوا يرددون النظر من شقوق الباب ليعلموا
{و َج َعْلَنا ِمن َب ْي ِن َْأيِدي ِه ْم َس ّداً و ِم ْن َخْلِف ِه ْم
علياً ببرده ،وخرج على القوم وهو يقرأَ : وجوده ،ثم سجَّى َّ
ون()9 ِ
اه ْم فَهُ ْم الَ ُي ْبص ُر َ
أغ َش ْيَن ُ
َس ّداً فَ ْ
أما المشركون فلما علموا بفساد مكرهم وأنهم إنما باتوا يحرسون عليبن أبي طالب ال محمدبن عبد
اهلل ،هاجت عواطفهم ،فأرسلوا الطلب من كل جهة ،وجعلوا الجوائز لمن يأتي بمحمد أو يدل عليه،
وقد وصلوا في طلبهم إلى ذلك الغار الذي فيه ِطْلَبتُهم بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه لنظرهما،
حتى أبكى ذلك أبا بكر ،فقال له عليه الصالة والسالم :الَ تَ ْح َز ْن ِإ َّن اللَّهَ َم َعَنا} (التوبة )40 :فأعمى
اهلل أبصار المشركين حتى لم َي ِح ْن ألحد منهم التفاتة إلى ذلك الغار بل صار أعدى األعداء أميةبن
خلف يبعد لهم اختفاء المطلوبين في مثل هذا الغار .فأقاما فيه ثالث ليال حتى ينقطع الطلب .وكان
بس َحر ،فيصبح مع قريش ِ يبيت عندهم عبد اللهبن أبي بكر وهو شاب ٌ ِ
ثقف ولَق ٌن فَُي ْدلج من عندهما َ ُ
بمكة كبائت بها ،فال يسمع أمراً يكتادون به إال وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظالم ،وكان
عامربن فُهَيرة يروح عليهما بقطعة من غنم يرعاها حين تذهب ساعة من العشاء ،ويغدو بها عليهما،
فإذا خرج من عندهما عبد اهلل تَبع أثره عامر بالغنم كيال يظهر لقدميه أثر .ولما انقطع الطلب خرجا
بعد أن جاءهما الدليل بالراحلتين صبح ثالث ،وسارا متبعين طريق الساحل.
عنا ،فسأله بما يريد بهما الناس ،وعرض عليهما الزاد والمتاع فلم يأخذا منه شيئاً بل قاال لهِ :
أخف ّ
كتاب ٍ
أمن ،فأمر أبا بكر فكتب .وبذلك انقضت هذه المشكلة التي أظهر اهلل فيها سراقة أن يكتب له َ
عنايته برسوله.
يردهم
الح َّرة حتى ّ
وكان أهل المدينة حينما سمعوا بخروج رسول اهلل وقدومه عليهم يخرجون إلى َ
حر الظهيرة ،فانقلبوا يوماً بعد أن طال انتظارهم ،فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على ُأطُم
ُّ
من آطامهم ألمر ينظر إليه ،فبصر برسول اهلل وأصحابه يزول بهم السراب يظهرهم تارة ويخفيهم
أخرى ،فقال اليهودي بأعلى صوته :يا معشر العرب هذا َج ُّد ُكم ـ ـ أي حظكم ـ ـ الذي تنتظرون ،فثاروا
إلى السالح فتلقَّوا رسول اهلل بظهر َ
الح َّرة.
النزول بقُباء
فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمروبن عوف بقباء .والذي حققه المرحوم محمود باشا
الفلكي أن ذلك كان في اليوم الثاني من ربيع األول الذي يوافق 20سبتمبر سنة ،622وهذا أول
تاريخ جديد لظهور اإلسالم بعد أن مضى عليه ثالث عشرة سنة ،وهو مضيق عليه من مشركي
قريش ،ورسول اهلل ممنوع من الجهر بعبادة ربه ،أما اآلن فقد آواه اهلل هو وصحابته رضوان اهلل
عليهم بعد أن كانوا قليالً يتخطفهم الناس.
هجرة األنبياء
تمت لرسولنا صلى اهلل عليه وسلم ُسَّنةُ إخوانه من األنبياء من قبله ،فما من نبي منهم
وبهذه الهجرة ّ
ت به بالد نشأته ،فهاجر عنها ،من إبراهيم أبي األنبياء ،وخليل اهلل ،إلى عيسى كلمة اهلل
إال َنَب ْ
وروحه ،كلهم على عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم أهينوا من عشائرهم ،فصبروا ليكونوا مثاالً لمن
يأتي بعدهم من متّبعيهم في الثبات والصبر على المكاره ما دام ذلك في طاعة اهلل .فَ َس ْل مصر
وتاريخها تُنبئك عن إسرائيل (يعقوب) وبنيه أنهم هاجروا إليها حينما رأوا من َبنِيها ترحيباً بهم،
وتركهم وما يعبدون إكراماً ليوسف وحكمته .ولما مضت سنون ،نسي فيها المصريون تدبير يوسف
وفضله عليهم ،فاضطهدوا بني إسرائيل وآذوهم ،خرج بهم موسى وهارون ليتمكنوا من إعطاء اهلل
حقه في عبادته ،وهرب المسيح عليه السالم من اليهود حينما َّ
كذبوه ،فأرادوا الفتك به حتى كان من
ضمن تعاليمه لتالميذه :طوبى للمطرودين من أجل البر ألن لهم ملكوت السموات ثم قال بعد:
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أعمال مكة
ولنبين لك مجمل ما دعا إليه الرسول عليه الصالة والسالم بمكة من أصول الدين وذلك أمران:
هذاّ ،
األول :االعتقاد بوحدانية اهلل وأن ال ُيشرك معه في العبادة غيره ،سواء كان ذلك الغير صنماً كما
شركو مكة ،أو أباً أو زوجةً أو بنتاً كما عليه بعض الطوائف األخرى كالنصارى ،ولوال يفعل ُم ِ
االعتقاد بوحدانية اهلل ما َكلَّف أحد نفسه تكاليف الحياة من آداب األخالق بل كان يسير فيما تأمره به
نفسه من شهواتها وملذاتها ما دام ذلك خافياً عن الناس.
الثاني :االعتقاد بالبعث والنشور وأن هناك يوماً ثانياً لإلنسان ُيجازى فيه على ما صنعه في الدنيا إن
المكية ،فقلّما نرى سورة من سور
شراً فشر ،وعلى هذين األمرين جاء غالب اآلي ّ
خيراً فخير وإ ن ّ
مكة إال مشحونة باالستدالل عليهما وتوبيخ من تركهما ،وكل ذلك بأساليب تأخذ بالعقل ،وبراهين ال
سدى .ونزل على رسول اهلل
مما يضيع الوقت ً تحتاج لفلسفة الذين يشغلون أنفسهم بما ال طائل تحته ّ
صلى اهلل عليه وسلم بمكة من القرآن معظمه ،وهو ما عدا ثالثاً وعشرين سورة منه ،وهي :البقرة،
آل عمران ،النساء ،المائدة ،األنفال،ـ التوبة ،الحج ،النور ،األحزاب ،القتال ،الفتح ،الحجرات،
الحديد ،المجادلة ،الحشر ،الممتحنة ،الصف ،الجمعة ،المنافقون ،التغابن ،الطالق ،التحريم ،النصر،
هذه كلها مدنية وباقي القرآن م ّكي.
ولما نزل عليه الصالة والسالم بقُباء ،نزل على شيخ بني عمرو ُكلثومبن الهدم ،وكان يجلس للناس
َألنه كان عزباً .ونزل أبو بكر بالس ُّْنح (محلة بالمدينة) على
ويتحدث لهم في بيت سعدبن َخيثمة َ
خارجةبن زيد من بني حارث من الخزرج.
مسجد قُباء
أسس فيها مسجد قباء الذي وصفه اهلل بأنه مسجد ُأسس على التقوى من
وأقام رسول اهلل بقباء ليالي ّ
أول يوم ،وصلَّى فيه عليه الصالة والسالم بمن معه من األنصار والمهاجرين ،وهم آمنون مطمئنون،
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وكانت المساجد على عهد رسول اهلل في غاية من البساطة ليس فيها شيء مما اعتاده ُبناة المساجد في
همهم إال منصرفاً لتزيين القلوب ،وتنظيفها من ُّ
القرون األخيرة ،ألن الرسول وأصحابه لم يكن ُجل ّ
حر الشمس.حظ الشيطان ،فكان سور المسجد ال يتجاوز القامة وفوقه مظلة ُيتَّقى بها ّ
أول جمعة
وأدركته عليه الصالة والسالم صالة الجمعة في بني سالمبن عوف ،فنزل وصالّها وهذه أول جمعة
له عليه الصالة والسالم ،وأول خطبة خطبها عليه الصالة والسالم حمد اهلل ،وأثنى عليه ،ثم قال:
أحدكم ،ثم َلي َد َع َّن َغنمه ليس لها ٍ
راع ،ثم ص َعقَ َّن ُ «أما بعد ،أيها الناس فقدموا ألنفسكم ،تَ ْعلُ َّ
من واهلل ُلي ْ
ليقولَ َّن له ربه ـ ـ ليس له تَرجمان وال حاجب يحجبه دونه ـ ــ :ألم يأتك رسولي فبلَّغك ،وآتيتك ماالً،
نظرن قُ َّدامه فال يرى رن يميناً ِ
وشماالً فال يرى شيئاً ،ثم َلي َّ ت لنفسك؟ َفلَينظُ َّ لت عليك؟ فما َّ
قد ْم َ وأفض ُ
َ
فإن ِ
غير جهنم ،فمن استطاع أن َيق َي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ،ومن لم يجد فبكلمة طيبة؛ ّ
بها تُ ْج َزى الحسنةُ عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ،والسالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته».
ووضعه في منزله ،وجاء أسعدبن زرارة فأخذ بزمام ناقته فكانت عنده ،وخرجت والئد بني النجار
يقلن:
ٌِ
محمد م ْن َج ِار فخرج ّ
إليهن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال: حبذا النج ِ
َّاريا ّ وار من بني َّ
َن ْح ُن َج ٍ
«أتحببنني؟» فقلن :نعم ،فقال« :اهلل يعلم أن قلبي يحبكن» واختار عليه الصالة والسالم النزول في
يرض رضي اهلل عنه ذلك كرامة َ َّ
الد ْو ِر األسفل من دار أبي أيوب ليكون أريح لزائريه ،ولكن لم
حدثه وطء األقدام أو الماء الذي يهراق ،فقد اتفق أنلرسول اهلل لما يمكن أن يصيبه من التراب الذي ي ِ
ُ
غيرها ،يمسحان الماءجرة ماء بالليل ،فقام هو وهي بقطيفتهما التي ليس لهما ُ
ُكسرت من زوجته ّ
ان كل خوفاً على رسول اهلل ،ولذلك لم ي َز ْل أبو أيوب يستعطفه حتى كان في ِ
العْلو ،وكانت تأتيه ِ
الجفَ ُ َ
سراة األنصار كسعدبن عبادة وأسعدبن زرارة وُأم زيدبن ثَابت ،فما من ليلة إال وعلى بابهليلة من َ
الثالث أو األربع من جفان الثريد.
نزول المهاجرين
ولما تحول مع رسول اهلل أغلب المهاجرين تنافس فيهم األنصارَّ ،
فحكموا القرعة بينهم ،فما نزل
مهاجري على أنصاري إال بقُرعة.
ين وكان األنصار يؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ،قال تعالى في سورة الحشرَِّ :
{والذ َ َ
الدار واإليمان ِمن قَْبِل ِهم ي ِحبُّون من هاجر ِإلَْي ِهم والَ ي ِج ُد ِ
ور ِه ْم َح َ
اجةً ّم َّمآ ُأوتُوْا ص ُد ِ ون فى ُ َْ َ َ ْ ُ َ َ ْ َ ََ تََب َّوءوا َّ َ َ َ َ
ِ ِ ِ ِئ ِ
ون} (الحشر.)9 : وق ُش َّح َن ْفسه فَ ُْأولَ َك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ
اصةٌ َو َمن ُي َ
ص َان بِ ِه ْم َخ َ
ون َعلَى َأنفُس ِه ْم َولَ ْو َك َ
َويُْؤ ثِ ُر َ
وهذا أعلى درجات األخوة ،وكل ذلك كانوا يرونه قليالً بالنسبة لما وجب عليهم إلخوانهم ،فإن رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ُلي َم ِّك َن بينهم اإلخاء ،آخى بين المهاجرين واألنصار ،فكان كل أنصاري
يوضح للقارىء أن هذه األخوة كانت أرقى بكثير
ونزيلُه أخوين في اهلل .ومن العبث أن نكلف القلم أن ّ
من األخوة العصبية ،بل َن ِك ُل ذلك لإلحساس اإلسالمي فإنه أفصح منطقاً من القلم .وعلى اإلجمال
فتلك قلوب َألَّ َ
ف اهلل بينها حتى صارت شيئاً واحداً في أجسام متفرقة ،وعسى اهلل أن يوفّق مسلمي
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
عصرنا إلى هذا اإلخاء حتى يسودوا كما ساد المتحدون ،وكان هذا اإلخاء على المواساة والحق ،وأن
يتوارثوا بعد الموت دون ذوي األرحام ،وكان عليه الصالة والسالم يقول لكل اثنين« :تآخيا في اهلل
ال ْر َح ِام
{و ُْأولُو ا ْ
أخوين أخوين» ودام هذا الميراث إلى أن أنزل اهلل سبحانه قوله في سورة األحزابَ : َ
اب اللَّ ِه} (األحزاب.)6 :
ض ِفى ِكتَ ِ
ضهُ ْم َْأولَى بَِب ْع ٍ
َب ْع ُ
هجرة أهل البيت
ولما استقر عليه الصالة والسالم بالمدينة أرسل زيدبن حارثة وأبا رافع إلى مكة ليأتيا بمن تخلّف من
أهله ،وأرسل معهما عبد اللهبن َُأريقط يدلهما على الطريق ،فقَِدما بفاطمة وُأم كلثوم ابنتيه عليه
وسودة زوجه ،وُأم أيمن زوج زيد وابنهما أسامة ،وأما زينب فمنعها زوجها أبو الصالة والسالمَ ،
بُأم رومان ،زوج أبيه ،وعائشة أخته،
العاصبن الربيع ،وخرج من الجميع عبد اللهبن أبي بكر ّ
العوام ،وكانت حامالً بابنها عبد اهلل ،وهو أول مولود للمهاجرين بالمدينة.
وأسماء زوج الزبيربن ّ
ثم شرع عليه الصالة والسالم في بناء مسجده في َم ْبرك ناقته أمام محلّة بني مالكبن النجار ،وكان
محله ِمربداً للتمر يملكه غالمان يتيمان في ِحجر أسعدبن زرارة ،فدعا الغالمين ،وساومهما ِ
بالمربد َْ
ليتخذه مسجداً ،فقاال :بل َنهَُبهُ لك يا رسول اهلل ،فأبى عليه الصالة والسالم أن يقبله منهما هبة بل
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
بدء األذان
الصالة والسالم يأمر في فجر رمضان بأذانين :أولهما يوقظ به الغافلون حتى َي ْنتَبِهوا للسحور،
والثاني للصالة .وأما األذان للجمعة ،فكان أوله إذا جلس اإلمام على المنبر على عهد رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد نداء آخر على الزوراء .رواه
البخاري.
ولما تولى هشامبن عبد الملك أخذ األذان الذي زاده عثمان بالزوراء وجعله على المنار ،ثم نقل
األذان الذي كان على المنار حين صعود اإلمام على المنبر في العهد األول بين يديه.
فعلم بذلك أن األذان في المسجد بين يدي الخطيب بدعة أحدثها هشامبن عبد الملك ،وال معنى لهذا
األذان ،ألنه هو نداء إلى الصالة ،ومن هو في المسجد ال معنى لندائه ومن هو خارج المسجد ال
يسمع النداء إذا كان النداء في المسجد .ذكر ذلك الشيخ محمد ابن الحاج في «المدخل».
قال الحافظ في فتح الباري« :وأما ما أحدث الناس قبل الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصالة على
النبي صلى اهلل عليه وسلم فهو في بعض البالد دون بعض واتباع السلف الصالح أولى» .ا هـ.
سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في أذان الجمعة أنه كان إذا جلس على
فعلم من ذلك كله أن ّ
المنبر أ ّذن مؤذنه على المنار فإذا انتهت الخطبة ُأقيمت الصالة وما عدا ذلك فكله ابتداع.
أما اإلقامة وهي الدعوة للصالة في المسجد ،فقد اختلفت الروايات في نصها فرواها محمدبن إدريس
فمثَْنى ،ورواها مالكبن أنس مفردة كلها ،ورواها أبو
الشافعي مفردة إالّ لفظ «قد قامت الصالة» َ
حنيفة النعمان َمثَْنى كلها.
يهود المدينة
َّ ِ َّ ِ عدم إجابتهم بقوله{ :ولَن يتَمَّنوه َأب ًدا بِما قَ َّدم ْ ِ
يم بِالظال َ
مين} (البقرة .)95 :فلو كانوا ت َْأيدي ِه ْم َواللهُ َعل ٌ َ ََُْ َ َ َ
عما طُلب منهم مع سهولته ،وحرصهم على تكذيب يعلمون من أنفسهم أنهم على الحق لما تأخروا ّ
طقاً باللسان .وقد ّتبين الهدى ألحد
الصادق األمين ،ولم ينقل لنا عن أحد منهم أنه تمنى ذلك ولو ُن ْ
رؤساء بني قينقاع وهو عبد اللهبن َسالم ،فترك هواه وأسلم بعد أن سمع القرآن ،وبعد أن كان اليهود
عدوه من سفهائهم حينما بلغهم إسالمه ،فـ{بِْئ َس َما ا ْشتََر ْوْا بِ ِه َأنفُ َسهُ ْم َأن َي ْكفُُروْا يعدونه من رؤسائهمّ ، ّ
ضِل ِه َعلَى َمن َي َشآء ِم ْن ِعَب ِاد ِه} (البقرة ،)90 :ولما استحكمت في أنز َل اللَّهُ َب ْغًيا َأن ُيَن ّز ُل اللَّهُ ِمن فَ ْ
بِ َمآ َ
ِ َّ ِإ َّ
ورهُ َولَ ْو َك ِرهَ
{وَي َْأبى اللهُ ال َأن ُيت َّم ُن َ قلوبهم عداوة اإلسالم صاروا يجهدون أنفسهم في إطفاء نورهَ :
ون} (التوبة.)32 : ِ
اْل َكاف ُر َ
المنافقون
وكان ي ِ
ساع ُد ُهم على مقاصدهم جماعة من عرب المدينة أعمى اهلل بصائرهم ،فأخفوا كفرهم خوفاً ُ
أبي ابن َسلول الخزرجي ،الذي كان مرشحاً
على حياتهم ،وكان يرأس هذه الجماعة عبد اللهبن ّ
ضرر المنافقين ُّ
أشد على لرياسة أهل المدينة قبل هجرة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وال َّ
شك أن
َ
المسلمين من ضرر الكفار ،ألن أولئك يدخلون بين المسلمين فيعلمون أسرارهم ،ويشيعونها بين
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
األعداء من اليهود وغيرهم كما حصل ذلك مراراً ،واألساس الذي كان عليه رسول اهلل أن يقبل ما
ظهر ويترك هلل ما بطن ،ولكنه عليه الصالة والسالم مع ذلك كان ال يأمنهم في عمل ما .فكثيراً ما
ممن ُع ِه َد عليه َّ
كان يتغيب عن المدينة ،ويولي عليها بعض األنصار ،ولكن لم ُي ْعهَد أنه َولى رجالً ّ
النفاق ،ألنه عليه الصالة والسالم يعلم ما يكون منهم لو ُولُّوا عمالً ،فإنهم بال شك يتخذون ذلك فرصة
إلضرار المسلمين ،وهذا درس مهم لرؤساء اإلسالم ،يعلِّمهم َأالّ يثقوا في األعمال المهمة إال بمن لم
تظهر عليهم شبهة النفاق أو إظهار ما يخالف ما في الفؤاد.
معاهدة اليهود
علمت أنه كان يضاد المسلمين في المدينة فئتان :اليهود ،والمنافقون،ـ ولكن الرسول قَبِ َل من
َ هذا ،وقد
هؤالء ظواهرهم ،وعقد مع أولئك عهداً مقتضاه ترك الحرب واألذى ،فال ُي َح ِاربهم وال يؤذيهم ،وال
وأقرهم على دينهم.
يعينون عليه أحداً ،وإ ن دهمه بالمدينة عدو ينصرونهّ ،
مشروعية القتال
قد ُعلم مما تقدم أن رسول اهلل عليه الصالة والسالم لم يقاتل أحداً على الدخول في الدين ،بل كان
يقويه على الصبر أمام األمر قاصراً على التبشير واإلنذار ،وكان اهلل سبحانه ينزل عليه من اآلي ما ّ
صَب َر ُْأولُوْا اْل َع ْزِم ِم َن
اصبِ ْر َك َما َ
ما كان يالقيه من أذى قريش ،ومن ذلك قوله في سورة األحقاف{ :فَ ْ
َّ
يقص اهلل عليه أنباء إخوانه من المرسلين الر ُس ِل َوالَ تَ ْستَ ْع ِجل لهُ ْم} (األحقاف .)35 :وكان كثيراً ما ّ
ُّ
قبله ليثبت به فؤاده ،ولما ازداد طغيان أهل مكة ألجؤوه إلى الخروج من داره بعد أن ائتمروا على
بالعداء على المسلمين حيث أخرجوهم من ديارهم بغير حق ،فبعد الهجرة ِأذن
قتله ،فكانوا هم البادئين ِ
َّ ِ ِ َِِّ
ون بِ ََّأنهُ ْم ظُل ُموْا َوِإ َّن اللهَ
ين ُيقَاتَلُ َ
اهلل للمهاجرين بقتال مشركي قريش بقوله في سورة الحجُ{ :أذ َن للذ َ
ص ِر ِه ْم لَقَِد ٌير( : 9 8 7 6 5 4 3 2 )39؛ } (الحج .)40 ،39 :ثم أمرهم بذلك في قوله في َعلَى َن ْ
ين()190 ِ ون ُك ْم َوالَ تَ ْعتَ ُدوْا ِإ َّن اللَّهَ الَ ُي ِح ُّ
ين ُيقَاتِلُ َ سورة البقرة :وقَاتِلُوْا ِفي سبِ ِ َّ ِ َِّ
ب اْل ُم ْعتَد َ يل الله الذ َ َ َ
وه ْم ِع َ
ند ِ ِ ِ
َأخ َر ُجو ُك ْم َواْلفتَْنةُ َأ َش ُّد م َن اْلقَ ْت ِل َوالَ تُقَاتلُ ُ
ث ْ وه ْم ّم ْن َحْي ُ َأخ ِر ُج ُ
وه ْم َو ْ وا ْقتُلُوهم حْي ُ ِ
ث ثَق ْفتُ ُم ُ ُْ َ َ
ِ ِ ِِ ِ ِ
ين( )191فَِإ ِن انتَهَ ْوْا فَِإ َّن وه ْم َكذال َك َج َزآء اْل َكاف ِر َ اْل َم ْس ِجد اْل َح َر ِام َحتَّى ُيقَاتلُو ُك ْم فيه فَِإن قَاتَلُو ُك ْم فَا ْقتُلُ ُ
وان ِإالَّ َعلَى الد َّ ِ
ين لله فَِإ ِن انتَهَوْا فَالَ ُع ْد َ ون ّ ُ
اللَّه َغفُور َّر ِحيم( )192وقَاتِلُوهم حتَّى الَ تَ ُك ِ
ون فتَْنةٌ َوَي ُك َ َ ُْ َ َ ٌ َ ٌ
ين()193 َّ ِ ِ
الظالم َ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
1ـ ـ اعتبار ُم ِ
شركي قريش محاربين ألنهم بدؤوا بالعدوان فصار للمسلمين قتالهم ومصادرة تجارتهم
حتى يأذن اهلل بفتح مكة أو تعقد هدنة وقتية بين الطرفين.
2ـ ـ متى ُرِئ َي من اليهود خيانة ّ
وتحيز للمشركين قوتلوا حتى يؤمن جانبهم بالنفي أو القتل.
تعدت قبيلة من العرب على المسلمين أو ساعدت قريشاً قوتلت حتى تدين باإلسالم.
3ـ ـ متى ّ
4ـ ـ كل من بادأ بعداوة من أهل الكتاب كالنصارى قوتل حتى يذعن باإلسالم أو يعطي الجزية عن ٍيد
وهو صاغر.
5ـ ـ كل من أسلم فقد عصم دمه وماله إال بحقه ،واإلسالم يقطع ما قبله.
وقد أنزل اهلل في القرآن الكريم كثيراً من اآلي تحريضاً على اإلقدام في قتال األعداء وتبعيداً عن
ون الفرار من الزحف ،فقال في الموضوع األول في سورة النساءَ { :فْليقَاتِ ْل ِفى سبِ ِ َّ ِ َِّ
ين َي ْش ُر َيل الله الذ َ َ ُ
َأجراً َع ِظيماً} (النساء: يه ْف ُن تِ ِ
ب فَ َس ْو َ ْؤ يل اللَّ ِه فَُي ْقتَ ْل َأو َي ْغِل ْ
ال ِخر ِة ومن ُيقَاتِ ْل ِفى سبِ ِ
َ اْلحياةَ ُّ ِ
الد ْنَيا با ْ َ َ َ
ِ َِّ َِّ
ءامُنوْا ِإ َذا لَقيتُ ُم الذ َ
ين َكفَ ُروْا َز ْحفاً فَالَ ين َ {يَأيُّهَا الذ َ .)74وقال في الموضوعـ الثاني في سورة األنفالَ :
ض ٍب ّم َن ٍِ االدَبار( )15ومن ُيولّ ِهم َيومِئٍذ ُدُبرهُ ِإالَّ متَ َحرفاً لِّقتَ ٍ
ال َْأو ُمتَ َحّيزاً ِإلَى فَئة فَقَ ْد َبآء بِ َغ َ
ُّ
ُ ّ َ ََ َ ْ َْ وه ُم ْ َ
تَُول ُ
ص ُير()16 اللَّ ِه ومْأواه جهَّنم وبِْئ س اْلم ِ
َََ ُ َََُ َ َ
بدء القتال
الركب السائر بهذه التجارة
ُ ويسمىتذهب بتجارتها إلى الشام لتبيع وتبتاعُ ،
كانت عادة قريش أن َ
وس َراتِهم ،وال بد لوصولهم إلى الشام من ِ
ع ْيراً ،وكان يسير معها لحراستها كثير من أشراف القوم َ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
المرور على دار الهجرة ،فرأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن ي ِ
صاد َر تجارتهم ذاهبةً وآيبة، ُ
ليكون في ذلك عقاب لمشركي مكة ،حتى تضعف قوتهم المالية ،فيكون ذلك أدعى لخذالنهم في ميدان
عمن سفَّه أحالمهم وعاب عبادتهم خصوصاً
بد أن يكون ،ألن قريشاً لم تكن لتسكت ّ
القتال الذي ال ّ
وهم قدوة العرب في الدين.
سرية
عمه حمزةبن عبد المطلب في ثالثين رجالً من المهاجرين ،وعقد لهم لواءففي شهر رمضان أرسل َّ
أبيض حمله أبو َم ْرثَد حليف حمزة ،ليعترض ِعيراً لقريش آيبة من الشام ،فيها أبو جهل وثالثمائة من
العيص فصادف العير هناك ،فلما أصحابه المشركين ،فسار حمزة حتى وصل ساحل البحر من ناحية ِ
الجهني فأطاعوه وانصرفوا ،وشكر عليه الصالة ِ
تصافّوا للقتال حجز بين الفريقين َمجديُّبن عمرو ُ
والسالم مجدياً على عمله لما كان من قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم.
وفي شوال أرسل ُعبيدةبن الحارث ابن عم حمزة في ثمانين راكباً من المهاجرين ،وعقد له لواء
طحبن ُأثَاثة ليعترض عيراً لقريش ،فيها ِمَئتا رجل ،فوافوا العير ببطن رابغ فكان
أبيض حمله ِم ْس َ
بينهما الرمي بالنبل ،ثم خاف المشركون أن يكون للمسلمين كمين فانهزموا ،ولم يتبعهم المسلمون،
وفر من المشركين إلى المسلمين المقدادبن األسود وعتبةبن َغ ْزوان وكانا قد أسلما وخرجا ليلحقا
ّ
بالمسلمين.
وفيات
وفي هذه السنة توفي من المهاجرين عثمانبن مظعون أخو رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من
الرضاع أسلم قديماً ،وهاجر الهجرتين ،ولما دفن أمر عليه الصالة والسالم بأن ُي َر َّ
ش قبره بالماء،
ووضع على قبره حجراً ،وقالَ« :أتَ َعلَّ ُم به قبر أخي ،وأدفن إليه من مات من أهلي» ،وهذا كان القصد
َ
من وضع األحجار على المقابر ،ال ما يقصده أهل العصور األخيرة من تشييد الهياكل على القبور،
وتصويرها بصور تَُرى في عين الناظر كاألصنام ،ليأتي أقارب الميت ويصنعوا عندها احتفاالت
كثيرة ،تشبه ما كان يفعله مشركو مكة عند معابدهم ،ومن العبث فعل شيء لم يفعله رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم مما يتعلق بأمور اآلخرة.
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أسعدبن ُزرارة أحد النقباء االثني عشر ،كان رضي اهلل عنه نقيب بني النجار،
ومات من األنصار ُ
ولما مات اختار رسول اهلل نفسه للنقابة عليهم ألن «ابن أخت القوم منهم» ومات أيضاً البراءبن
معرور أحد النقباء ،وهو الذي كان يتكلم عن القوم في العقبة الثانية .ومات من مشركي مكة في هذه
السنة الوليدبن المغيرة ،ولما احتُضر جزع فقال له أبو جهل :ما جزعك يا عم؟ فقال :واهلل ما بي من
تخف إني
جزع من الموت ،ولكن أخاف أن يظهر دين ابن أبي كبشة بمكة ،فقال أبو سفيان :ال ْ
الشقيين.
ضامن أالّ يظهر .وفيها أيضاً مات العاصبن وائل السهمي .وقد كفى اهلل المسلمين شر هذين ّ
َّ
السنة الثانية
غزوة َو َّدان
والثنتي عشرة ليلة َخلَت من السنة الثانية خرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من المدينة بعد أن
عمه
استخلف عليها سعدبن عبادة ،ليعترض عيراً لقريش ،فسار حتى بلغ َو ّدان ،وكان يحمل لواءه ّ
حمزة ،ولم يلق هناك حرباً ألن العير كانت قد سبقته ،وفي هذه الغزوة صالح بني ضمرة على أنهم
ص َرةَ المسلمين إذا ُدعوا ،ثم رجع إلى
رامهم ،وأن عليهم ُن ْ
آمنون على أنفسهم ولهم النصر على من َ
المدينة بعد مضي خمس عشرة ليلة.
غزوة ُبواط
ِ
رجوعه غير قليل حتى بلغه أن عيراً لقريش آيبة من الشام فيها أميةبن خلف ومائة ولم يمض على
من قريش ،وألفان وخمسمائة بعير ،فسار إليها في مائتين من المهاجرين ،وذلك في ربيع األول،
يلق كيداً،
سعدبن أبي وقاص ،فسار حتى بلغ ُبواط ،فوجد العير قد فاتته فرجع ولم َ
وكان يحمل لواءه ُ
وذلك كله لما كان يأخذه المشركون من الحذر على أنفسهم واالجتهاد في تعمية أخبارهم عن أهل
المدينة.
الع َشيرة
غزوة ُ
وحلفاءهم ،ثم رجع عليه الصالة والسالم إلى المدينة ينتظر هذه العير حينما ترجع.
سرية
فأسلم وحسن إسالمه وبقيـ مع المسلمين ،وأما عثمان فلحق بمكة كافراً.
تحويل القبلة
يحب أن
مكث عليه الصالة والسالم بالمدينة ستة عشر شهراً يستقبل بيت المقدس في صالته ،وكان ّ
تكون قبلته الكعبة ويقلِّ ُ
ب وجهه في السماء داعياً اهلل بذلك .فبينما هو في صالته إذ أوحى اهلل إليه
وتحو َل َم ْن وراءه .وكانت هذه الحادثة سبباً الفتتان بعض المسلمين
َّ فتحول،
بتحويل القبلة إلى الكعبة ّ
الذين ضعفتـ قلوبهم فارتدوا على أعقابهم .وقد أكثر اليهود من التنديد على اإلسالم بهذا التحويل.
يشاء إلى صراط مستقيم.
وما َد َروا أن هلل المشرق والمغرب يهدي َم ْن ُ
صوم رمضان
وفي شعبان من هذه السنة أوجب اهلل صوم شهر رمضان على األمة اإلسالمية ،وكان عليه الصالة
يتم
والسالم قبل ذلك يصوم ثالثة أيام من كل شهر .والصيام من دعائم هذا الدين ،والفرائض التي بها ّ
حب نفسه ،والسعي فيما يعود عليها بالنفع الخاص ،تاركاً ما وراء
النظام ،فإن اإلنسان مجبول على ّ
بد من ِ
وازع يزعه لحاجات قوم أقعدتهم قواهم عن إدراك ذلك من حاجات الضعفاء والمساكين ،فال ّ
حاجاتهم ،وال أقوى من ذوق قوارص الجوع والعطش ،إذ بهما تلين نفسه ويتهذب خلقه ،فيسهل عليه
بذل الصدقات.
صدقة الفطر
ولذلك أوجب ال ّش ِارع الحكيم عقب الصوم زكاة الفطر فترى اإلنسان يبذلها بسخاء نفس ومحبة
خالصة.
زكاة المال
وفي هذا العام فُرضت زكاة األموال ،وهذه هي النظام الوحيد الذي به يأكل الفقراء والمساكين من
إخوانهم األغنياء بال ضرر على هؤالء ،فإذا بلغت الدنانير عشرين أو الدراهم مائتين ،وحال عليها
الحول ،وجب عليك أن تؤدي ربع عشرها ،أي اثنين ونصفاً في كل مائة ،وما زاد فبحسابه ،وإ ذا
بلغت الشياه أربعين ،والبقر ثالثين ،واإلبل خمساً ،وحال عليها الحول وجب عليك كذلك أن تؤدي
منها جرءاً مخصوصاً حدده ال ّش ِارع ،ومثلها عروض التجارة ،ومحصوالت الزراعة كل هذا يقبضه
اإلمام ،ويوزعه على مستحقيه من الفقراء والمساكين وبقية المذكورين في آية الصدقةِ{ :إَّن َما
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أما رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فلم يكن يعرف شيئاً مما فعله المشركون ،ولم يكن خروجه إال
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ُبرآء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا ،فإذا وصلت إليها فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا
ونساءنا .فقال سعدبن معاذ ،سيد األوس :كأنك تريدنا يا رسول اهلل؟ فقال« :أجل» فقال سعد :قد آمنا
ِ
فامض لما أمرك اهلل ،فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت وصدقناك ،وأعطيناك على ذلك عهودنا،
ّ بك
لصُبر عند الحرب،
بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك ،وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غداًّ ،إنا ُ
تقر به َع ْيُنك ،فسر على بركة اهلل .فأشرق وجهه عليه
منا ما ّ
ص ُدق عند اللقاء ،ولع ّل اهلل ُيريك ّ
ُ
وس ّر بذلك ،وقال كما في رواية البخاري« :أبشروا واهلل كأني أنظر إلى مصارع القوم» فَعلم
السالمُ ،
بد حاصلة ،وحقيقةً حصلت ،فإن أبا سفيان لما علم بخروج القوم من هذه الجملة أن الحرب ال ّ
ُ
ِ
المسلمين له ترك الطريق المسلوكة ،وسار متّبعاً ساحل البحر فنجا ،وأرسل إلى قريش ُيعلمهم بذلك،
الجزور،
ويشير عليهم بالرجوع ،فقال أبو جهل :ال نرجع حتى نحضر بدراً فنقيم فيه ثالثاً :ننحر َ
ونسقي الخمر ،وتسمع بنا العرب فال يزالون يهابوننا أبداً .فقال األخنسبن شريق
ونطعم الطعامُ ،
الثقفي لبني زهرة ـ ـ وكان حليفاً لهم ـ ــ :ارجعوا يا قوم فقد نجَّى اهلل أموالكم فرجعوا ،ولم يشهد بدراً
زهري وال عدوي ،ثم سار الجيش حتى وصلوا وادي بدر فنزلوا عدوته القصوى عن المدينة في
أرض سهلة لينة.
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
العوام ليعرفا
عليبن أبي طالب والزبيربن ّ
لما قارب بدراً أرسل عليه السالم ّ
أما جيش المسلمين ،فإنه ّ
األخبار ،فصادفا ُسقاةً لقريش فيهم غالم لبني الحجاج وغالم لبني العاص السهميين ،فأتيا بهما،
والرسول عليه السالم قائم يصلي ،ثم سأالهما عن أنفسهما ،فقاال :نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم
الماء ،فضرباهما ألنهما ظنا أن الغالمين ألبي سفيان .فقال الغالمان :نحن ألبي سفيان فتركاهما.
أتم الرسول عليه السالم صالته ،قال« :إذا صدقاكم ضربتموهما ،وإ ذا كذباكم تركتموهما؟
ولما َّ
صدقا واهلل إنهما لقريش» .ثم قال لهما« :أخبراني عن قريش؟» قاال :هم وراء هذا ال َكثيب ،فقال
لهما« :كم هم؟» فقاال :ال ندري .قال« :كم ينحرون كل يوم؟» .قاال :يوماً تسعاً ويوماً عشراً .قال:
عمن في النفير من أشراف قريش فذكرا له عدداً
«القوم ما بين التسعمائة واأللف» ،ثم سألهما ّ
عظيماً ،فقال عليه السالم ألصحابه« :هذه مكة قد ألقت إليكم أفالذ كبدها» ،ثم ساروا حتى نزلوا
بع ْد َو ِة الوادي الدنيا من المدينة بعيداً عن الماء في أرض سبخة ،فأصبح المسلمون عطاشاً بعضهم
ُ
ُجنب وبعضهم ُم ْح ِدثَّ ،
فحدثهم الشيطان بوسوسته ،ولوال فضل اهلل عليهم ورحمته لثنيت عزائمهم،
فإنه قال لهم :ما ينتظر المشركون منكم إال أن يقطع العطش رقابكم ،وي ِ
ذهب قواكم فيتحكموا فيكم ُ
كيف شاؤوا.
سواد» ،فاعتنقه سواد وقبَّل بطنه .فقال عليه الصالة والسالم« :ما حملك على ذلك؟» فقال يا رسول
جلدك ،فدعا له بخير ،ثم ابتدأ عليهيمس جلدي َ فأردت أن يكون آخر العهد أن ّ
ُ اهلل قد حضر ما ترى
السالم يوصي الجيش فقال« :ال تحملوا حتى آمركم ،وإ ن اكتََنفكم القوم فانضحوهم بالنبل وال تَ ُسلُّوا
حضهم على الصبر والثبات ،ثم رجع إلى عريشه ومعه رفيقه أبو بكر، السيوف حتى َي ْغ َشوكم» ثم ّ
وحارسه سعدبن معاذ واقف على باب العريش متوشح سيفه ،وكان من دعاء الرسول عليه الصالة
اللهم إن شئت لم
«اللهم أنشدك عهدك ووعدكّ ،
ّ والسالم ذاك الوقت كما جاء في صحيح البخاري:
تُعبد» فقال أبو بكرَ :ح ْسُبك فإن اهلل سينجز لك وعده .فخرج عليه الصالة والسالم من العريش وهو
ون ُّ
الدُب َر()45 ُّ
يقولَ :سُي ْه َز ُم اْل َج ْمعُ َوُي َول َ
واشتد القتال ،وحمي الوطيس ،وأيد اهلل المسلمين بالمالئكة ُبشرى لهم ولتطمئن به قلوبهم .فلم تكن
نحو ُّ
إال ساعة حتى ُهزم الجمع ،وولّوا الدُب َر ،وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ،فقتل من المشركين ُ
السبعين ،منهم من قريش :عتبة وشيبة ابنا ربيعة ،والوليدبن عتبة ،قُتلوا مبارزة أول القتال ،وأبو
الب ْختريبن هشام ،والجراح والد أبي عبيدة قتله ابنه بعد أن ابتعد عنه فلم يزدجر ،وقُتل ُأميةبن خلف
َ
وعماربن ياسر ،وقد سعيا في ذلك
وابنه علي ،اشترك في قتلهما جماعة من األنصار مع باللبن رباح ّ
ُأمّيةُ في مكة .ومن القتلى حنظلةبن أبي سفيان ،وأبو جهلبن هشام ،أثخنه فَتيان
لما كان يفعله بهما َ
شديد اإليذاء لرسول اهلل ،وأجهز عليه عبد
صغيران من األنصار ،لما كانا يسمعانه من أنه كان َ
اللهبن مسعود ،وقُتل نوفلبن خويلد قتله عليبن أبي طالب ،وقتل عبيدة والعاصي ولدا أبي ُأح ْيحةَ ِ
سعيد َ َ
بن أمية ،وقُتِل كثيرون غيرهم .أما األسرى فكانوا سبعين أيضاًَ ،
قتل منهم عليه السالم ِ
العاص ِ ِ
بن
والنضربن الحارث اللذين كانا بمكة من أشد المستهزئين .وكانت هذه
َ وهو راجع عقبةَبن أبي ُمعيط،
الواقعة في ( )17رمضان ،وهو اليوم الذي ابتدأ فيه نزول القرآن وبين التاريخين ( )14سنة قمرية
كاملة.
عليها حتى قام على َشفَ ِة القليب الذي رمي فيه المشركون ،فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم« :يا
فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً،
أيسركم أنكم كنتم أطعتم اهلل ورسوله؟ ّ فالنبن فالن ويا فالنبن فالن ّ
فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟» فقال عمر :يا رسول اهلل ما تُ َكلِّ ُم من أجساد ال أرواح فيها؟ فقال:
بأسم َع لما أقو ُل منهم» .وتقولـ عائشة رضي اهلل عنها إنما قال« :إنهم نفس محمد بيده ما أنتم َ «والذي ُ
ِ ِإ
َأنت كنت أقول لهم حق» ،ثم قرأتَّ :ن َك الَ تُ ْسمعُ اْل َم ْوتَى} (النملَ )80 :
{و َمآ َ َأن ما ُ اآلن ليعلمون َّ
تبوؤوا مقاعدهم من النار» .رواه ور} (فاطر ،)22 :يقول« :يعلمون ذلك حينما ّ بِ ُم ْس ِم ٍع َّمن ِفى اْلقُُب ِ
البخاري .ثم أرسل عليه السالم المبشرين ،فأرسل عبد اللهبن رواحة ألهل العالية ،وأرسل زيدبن
حارثة ألهل السافلة راكباً على ناقة رسول اهلل ،وكان المنافقون والكفار من اليهود قد أرجفوا
الضراء ،يقصدون بذلك فتنة
ّ بالرسول صلى اهلل عليه وسلم والمسلمين ،عادة األعداء في إذاعة
سر أهل المدينة ،وكان ذلك وقت انصرافهم من دفن رقية بنت
المسلمين ،فجاء أولئك المبشرون بما ّ
رسول اهلل وزوج عثمان .ثم قفل رسول اهلل راجعاً ،وهنا وقع ُخلف بين بعض المسلمين في قسمة
الغنائم ،فالشبان يقولون :باشرنا القتال ،فهي لنا خالصة ،والشيوخ يقولون :كنا ردءاً لكم فنشارككم.
ولما كان هذا االختالف مما يدعو إلى الضعف ،ويزرع في القلوب العداوة والبغضاء المؤديين إلى
ال ُق ِل االنفَا ُل ِللَّ ِه
ون َك َع ِن االنفَ ِ
{ي ْسَألُ َ
تشتت الشمل أنزل اهلل حسماً لهذا الخالف أول سورة األنفال:ـ َ
ول فَاتَّقُوْا ( ) ( }1:األنفال )1 :فسطع على أفئدتهم نور القرآن ،فتألّفت بعد أن كادت تفترق، الرس ِ
َو َّ ُ
وتركوا أمر الغنائم لرسول اهلل يضعها كيف شاء ـ ـ كما حكم القرآن ـ ـ فقسمها عليه الصالة والسالم
على السواء الراجل مع الراجل ،والفارس مع الفارس ،وأدخل في األسهام بعض َم ْن لم يحضر ألمر
ُكلف به وهم :أبو لُبابة األنصاري ألنه كان مخلَّفاً على أهل المدينة ،والحارثبن حاطب ألن الرسول
وخ َّواتبن
الصمة َ
َّ عليه الصالة والسالم خلفه على بني عمروبن عوف ليحقّق أمراً بلغه ،والحارثبن
اء فلم يتمكنا من السير ،وطلحةبن عبيد اهلل ،وسعيدبن زيد ألنهما ِ
ُأرسال بالروح ِ ِ
جبير ألنهما ُكسرا َّ ْ َ
يتجسسان األخبار ،فلم يرجعا إال بعد انتهاء الحرب ،وعثمانبن عفان ألن الرسول عليه السالم خلَّفه
رقية يمرضها ،وعاصمبن عدي ألنه خلفه على أهل قُباء والعالية ،وكذلك أسهم لمن قتل
على ابنته ّ
ببدر وهم أربعة عشر منهم ُعبيدةبن الحارثبن عبد المطلببن هاشم الذي ُجرح في المبارزة األولى،
فإنه رضي اهلل عنه مات عند رجوع المسلمين من بدر ودفن بالصَّفراء .ولما قارب عليه السالم
المدينة تلقته الوالئد بالدفوف يقلن:
المطاع
داعأيها المبعوث فيناجئت باألمر ُ
ّ ثنيات الوداعوجب الشكر عليناما دعا هلل
طلع البدر علينامن ّ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أسرى بدر
ولما دخلوا المدينة استشار عليه الصالة والسالم أصحابه فيما يفعل باألسرى ،فقال عمربن الخطاب:
يا رسول اهلل قد ك ّذبوك وقاتلوك وأخرجوك فأرى أن ِّ
تمكنني من فالن ـ ـ لقريب له ـ ـ فأضرب عنقه،
مودة
وعلياً من أخيه عقيل .وهكذا حتى يعلم الناس أنه ليس في قلوبنا ّ
وتمكن حمزة من أخيه العباسّ ،
للمشركين ،ما أرى أن تكون لك أسرى ،فاضرب أعناقهم ،هؤالء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم .ووافقه
على ذلك سعدبن معاذ وعبد اللهبن رواحة ،وقال أبو بكر :يا رسول اهلل هؤالء أهلك وقومك قد
أعطاك اهلل الظفر والنصر عليهم ،أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا
على الكفار ،وعسى اهلل أن يهديهم بك فيكونوا لك عضداً .فقال عليه الصالة والسالم« :إن اهلل ُليلِّين
أشد من الحجارة ،وإ ن
قلوب أقوام حتى تكون ألين من اللبن ،وإ ن اهلل ليشدد قلوب أقوام حتى تكون ّ
ِ مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال :فَمن تَبِعنِى فَِإ َّنه ِمّنى ومن ع ِ
يم} (إبراهيم: صانى فَِإ َّن َك َغفُ ٌ
ور َّرح ٌ ََْ َ َ ُ َ َ
ِ ِ ال ْر ِ
ض م َن اْل َكاف ِر َ
ين َديَّاراً} (نوح»)26 : ب الَ تَ َذ ْر َعلَى ا ْ
{ر ّ
)36وإ ن مثلك يا عمر مثل نوح قالَّ :
ورأى عليه الصالة والسالم رأي أبي بكر بعد أن مدح كالًّ من الصاحبين ألن الوجهة واحدة وهي
إعزاز الدين ،وخذالن المشركين ،ثم قال ألصحابه« :أنتم اليوم عالة فال يفلتن أحد من أسراكم إال
بفداء» وقد بلغ قريشاً ما عزم عليه رسول اهلل في أمر األسرى ،فناحت على القتلى شهراً ،ثم أشير
وصمموا على
ّ عليهم من كبارهم أالّ يفعلوا كيال يبلغ محمداً وأصحابه جزعهم فيشمتوا بهم ،فسكتوا
أال يبكوا قتالهم حتى يأخذوا بثأرهم ،وتواصوا فيما بينهم أالّ يعجلوا في طلب الفداء لئال يتغالى
المسلمون فيه.
الفداء
فلم يلتفت إلى ذلك المطَّلببن أبي َو َداعة السهمي ،وكان أبوه من األسرى ،فخرج خفية حتى أتى
المدينة وفدى أباه بأربعة آالف درهم ،وعند ذلك بعثت قريش في فداء أسراها ،وكان أربعة آالف إلى
ألف درهم ،ومن لم يكن معه فداء وهو يحسن القراءة والكتابة أعطوه عشرة من غلمان المدينة
فداءه. ِّ
ُيعلمهم ،وكان ذلك َ
ومن األسرى عمروبن أبي سفيان ،ولما طُلب من أبيه فداؤه أبى ،وقال :واهلل ال يجمع محمد بين ابني
ومالي ،دعوه يمسكوه في أيديهم ما بدا لهم .فبينما أبو سفيان بمكة إذ وجد سعدبن النعمان األنصاري
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
معتمراً ،فعدا عليه فحبسه بابنه عمرو ،فمضى قوم سعد إلى رسول اهلل وأخبروه فأعطاهم َع ْمراً
فف ّكوا به سعداً.
ومن األسرى أبو العاصبن الربيع زوج زينب بنت الرسول ،وكان عليه الصالة والسالم قد أثنى عليه
خيراً في مصاهرته ،فإنه لما استحكمت العداوة بين قريش ورسول اهلل بمكة ،طلبوا من أبي العاص
أن يطلِّق زينب كما فعل ابنا أبي لهب بابنتي الرسول ،فامتنع وقال :واهلل ال أفارق صاحبتي ،وما
أحب أن لي بها امرأة من قريش ،ولما ُأسر أرسلت زينب في فدائه ِقالدة لها كانت حلَّتها بها أمها
خديجة ليلة عرسها .فلما رأى عليه الصالة والسالم تلك القالدة َر َّ
ق لها رقّة شديدة ،وقال ألصحابه:
األصحاب بذلك ،فأطلقه عليه
ُ وتردوا لها قالدتها فافعلوا» فرضي
ّ «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها
ْ
الصالة والسالم بشرط أن يترك زينب تهاجر إلى المدينة .فلما وصل إلى مكة أمرها باللحاق بأبيها،
رد
وكان الرسول أرسل لها من يأتي بها فاحتملوها .هذا ،ولما أسلم أبو العاصبن الربيع قبيل الفتح ّ
عليه امرأته بالنكاح األول.
ومن األسرىُ :سهيلبن عمرو ،وكان من خطباء قريش وفصحائها وطالما آذى المسلمين بلسانه ،فقال
لسانهُ ،فال يقوم عليك خطيباً في موطن
عمربن الخطابَ :د ْعني يا رسول اهلل أنزع ثنيتي سهيلَ ،ي ْدلع ُ
تذمه» في َمثِّل اهلل بي وإ ن كنت ّ
نبياً ،وعسى أن يقوم مقاماً ال ّ أبداً ،فقال عليه الصالة والسالم« :ال ُأمثِّل ُ
ٍ
مقدار حبس نفسه بدله حتى جاء بالفداء .هذا، وقدم بفدائه مكرزبن حفص ،ولما ارتضى معهم على
وقد حقّق اهلل خبر الرسول في سهيل ،فإنه لما مات عليه الصالة والسالم أراد أهل مكة االرتداد كما
فعل غيرهم من األعراب ،فقام سهيل هذا خطيباً وقال بعد أن حمد اهلل وأثنى عليه وصلى على
حي ال يموت رسوله :أيها الناس َم ْن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد اهلل فإن اهلل ٌّ
الر ُس ُل ون(َ )30و َما ُم َح َّم ٌد ِإالَّ َر ُسو ٌل قَ ْد َخلَ ْ
ت ِمن قَْبِل ِه ُّ ألم تعلموا أن اهلل قالِ{ :إَّن َك َمّي ٌ
ت َوِإ َّنهُ ْم َّمّيتُ َ
َأعقَابِ ُك ْم} (آل عمران )144 :ثم قال :واهلل إني أعلم أن هذا الدين سيمتد ات َْأو قُتِ َل َ
انقلَْبتُ ْم َعلَى ْ َأفِإ ْين َّم َ
يغرنكم هذا ـ ـ يريد أبا سفيان ـ ـ من أنفسكم ،فإنه يعلم من هذا األمر ما امتداد الشمس في طلوعها فال ّ
تامة،
ربكم ،فإن دين اهلل قائم ،وكلمته ّ أعلم لكنه قد ختم على صدره حسد بني هاشم ،وتوكلوا على ّ
ومقو دينه ،وقد جمعكم اهلل على خيركم ـ ـ يريد أبا بكر ـ ـ وإ ن ذلك لم يزد
ناصر من نصره َـوإ ن اهلل ِ
عما كانوا عزموا عليه ،وكان هذا اإلسالم إال قوة ،فمن رأيناه ارتد ضربنا عنقه .فتراجع الناس ّ
الخبر من معجزات نبينا صلى اهلل عليه وسلم.
ومن األسرى :السائببن يزيد ،وكان صاحب الراية في تلك الحرب ،فدى نفسه .وهو الجد الخامس
لإلمام محمدبن إدريس الشافعي.
الج َم ِح ّي كان أبوه عمير شيطاناً من شياطين قريش كثير اإليذاء لرسول اهلل،
ومنهم :وهببن ُع َم ْي ٍر ُ
جلس يوماً بعد انتهاء هذه الحرب مع صفوانبن أمية يتذاكران ُمصاب بدر ،فقال عمير :واهلل لوال َد ْي ٌن
وعيال أخشى عليهم الفقر بعدي ،كنت آتي محمداً فأقتله ،فإن ابني أسير في علي ليس عندي قضاؤه ِ َّ
وسمه ،وانطلق حتى
علي وعيالك مع عيالي ،فأخذ ُعمير سيفه وشحذه ّ أيديهم ،فقال صفوانَ :دينك ّ
قَِدم المدينة ،فبينا عمر مع نفر من المسلمين إذ نظر إلى عمير متوشحاً سيفه ،فقال :هذا الكلب عدو
بشر ،ثم قال للنبي عليه الصالة والسالم :هذا عدو اهلل عمير قد جاء متوشحاً سيفه،
هلل ما جاء إال َ
علي» .فأخذ عمر بحمائل سيفه وأدخله .فلما رآه عليه الصالة والسالم قال« :أطلقه يا فقال« :أدخله ّ
عمر ادن يا عمير» فدنا ،وقالِ :
أنعموا صباحاً ،فقال عليه الصالة والسالم« :قد أبدلنا اهلل تحية خيراً
من تحيتك وهي :السالم» ،ثم قال« :ما جاء بك يا عمير؟» قال :جئت لهذا األسير الذي في أيديكم
فأحسنوا فيه ،فقال« :فما با ُل السيف؟» قال :قبَّحها اهلل من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال عليه
جئت له؟» قال :ما جئت إال لذلك .قال عليه الصالة والسالم:«اصدقني ما الذي َُ الصالة والسالم:
كنا نك ّذبك بما تأتي قعدت أنت وصفوانـ في ِ
الح ْج ِر وقلتما كيت وكيت»،ـ فأسلم ُعمير وقالّ : َ «كال بل
به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي ،وهذا أمر لم يحضره إال أنا وصفوان فقال عليه
الصالة والسالم« :فقّهوا أخاكم في دينه ،وأقرئوه القرآن ،وأطلقوا أسيره» ،فعاد عمير إلى مكة
وأظهر إسالمه.
مت فقد تركتك غنية» فقال العباس :واهلل ما اطلّع على ذلك أحد .وهذا العمل وقلت لها :إن ُّ َ أمواالً؟
عمه مع علمه بأنه إنما خرج عف َّ غاية ما يفعل من العدل والمساواة فإنه عليه الصالة والسالم لم ي ِ
ُ
ُمكرهاً ،وقد أعفى غيره جماعة تحقق له فقرهم فهكذا العدل ،وال غرابة ،فذلك أدب قوله تعالى:
امين بِاْلِقس ِط ُشه َدآء للَّ ِه ولَو علَى َأنفُ ِس ُكم َِأو اْل ِ
ِ َِّ
ال ْق َربِ َ
ين} (النساء: وال َد ْي ِن َوا ْ ْ َ ْ َ َ ْ ونوْا قَ َّو َ
ءامُنوْا ُك ُ
ين َ {يَأيُّهَا الذ َ
َ
.)135
العتاب في الفداء
ون ض تُِر ُ
يد َ َأس َرى َحتَّى ُيثْ ِخ َن ِفي ا ْ
ال ْر ِ ون لَهُ ْ
ولما تَ َّم الفداء أنزل اهلل في شأنه{ :ما َك ِ
ان لَنبِ ٍّى َأن َي ُك َ
َ َ ُ
ِ اب ّم َن اللَّ ِه َسَب َ
يم لَّ ْوالَ ِكتَ ٌ ِ َّ يد ا ْ ِ
الد ْنَيا َواللَّهُ ُي ِر ُ
ض ُّ
اب
َأخ ْذتُ ْم َع َذ ٌ
يمآ َ
ق لَ َم َّس ُك ْم ف َ الخ َرةَ َواللهُ َع ِز ٌيز َحك ٌ َع َر َ
يم()68 ِ
َعظ ٌ
العلي األعلى على هذه العناية ،واتخذنا يوم النصر في بدر وهو السابع عشر من شهر
َّ أن شكرنا
رمضان عيداً نتذكر فيه نعمة اهلل على رسوله وعلى المسلمين.
وعندما تظاهر يهود قينقاع بالعداوة وتحصنوا بحصونهم ،سار إليهم عليه الصالة والسالم في نصف
شوال من هذه السنة ،يحمل لواءه عمه حمزة ،وخلَّف على المدينة أبا لبابة األنصاري ،فحاصرهم
خمس عشرة ليلة.
ولبني المطلب دون بني أخويهما عبد شمس ونوفل ،ولما ُسِئل عن ذلك قال« :إنما بنو هاشم وبنو
المطلب شيء واحد في الجاهلية واإلسالم هكذا» ،وشبك بين أصابعه.
غزوة السَّويق
يمس رأسه الماء
كان أبو سفيان متهيجاً ،ألنه لم يشهد بدراً التي قتل فيها ابنه وذوو قرباه فحلف أالّ ّ
قاربها ،أراد أن يقابل
وليبر بقسمه خرج بمائتين من أصحابه يريد المدينة ،ولما َ
حتى يغزو محمداًّ ،
طب فلم َأخ َ
اليهود من بني النضير ليهيجهم ،ويستعين بهم على حرب المسلمين ،فأتى سيدهم ُحَييَّبن ْ
يرض مقابلته ،فأتى َسالّمبن ِم ْشكم فأذن له واجتمع به ،ثم خرج من عنده ،وأرسل رجاالً من قريش
َ
فحرقوا في بعض نخلها ،ووجدوا أنصارياً فقتلوه ،ولما علم بذلك رسول اهلل ،خرج في إلى المدينةَّ ،
أثرهم في مائتين من أصحابه ،لخمس َخلَون من ذي الحجة ،بعد أن ولّى على المدينة َب ِشيربن عبد
المنذر ،ولكن لم يلحقهم ،ألنهم هربوا وجعلوا يخفّفون ما يحملونه ليكونوا أقدر على اإلسراع ،فألقوا
َّويق ،فأخذه المسلمون ،ولذلك سميت هذه الغزوة بغزوة الس ِ
َّويق. ِ
جرب الس ِ ما معهم من
صالة العيد
خلع ُبرقُع الحياء ،وصار يحرض قريشاً على حرب رسول اهلل ،ويهجوه بالشعر،
المسلمين حتى َ
الشقي بما
ُّ ويجتهد في إثارة الشحناء بين المسلمين ،فكلما جبر عليه الصالة والسالم كسراً هاضه هذا
ينفثه من سموم لسانه.
والسالم إذا رأى من رئيس غدراً ،ومقاصد سوء ،ومحبة إلثارة الحرب ،أرسل له من ُيريحه من
شره .وقد فعل كذلك مع أبي َعفَك اليهودي وكان مثل كعب في الشر.
ّ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
طفَان
غزوة َغ َ
بلغ رسول اهلل أن بني ثعلبة ومحارب من غطفان تجمعوا برياسة رئيس منهم اسمه ُد ْعثُور ،يريدون
الغارة على المدينة ،فأراد عليه الصالة والسالم أن َي ُغ َّل أيديهم كيال يتمكنوا من هذا االعتداء ،فخرج
إليهم من المدينة في أربعمائة وخمسين رجالً الثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع األول ،وخلف على
المدينة عثمانبن عفان .ولما سمعوا بسير رسول اهلل هربوا إلى رؤوس الجبال ،ولم َي َزل المسلمون
َأم َّر ،فعسكروا به ،وحدث أنه عليه الصالة والسالم نزع ثوبه
سائرين حتى وصلوا ماء ُيسمى ذا َ
يجفِّفه من مطر بلَّله وارتاح تحت شجرة والمسلمون متفرقون ،فأبصره ُدعثور فأقبل إليه بسيفه حتى
ورعب أسقطا
ٌ وقف على رأسه ،وقالَ :م ْن يمنعك مني يا محمد؟ فقال« :اهلل» ،فأدركت الرجل هيبةٌ
«م ْن يمنعك مني»؟ قال :ال أحد .فعفا
السيف من يده ،فتناوله عليه الصالة والسالم ،وقال لدعثورَ :
جمع الناس لحربه إلى وحول اهلل قلبه من عداوة رسول اهللَ ،و ْ عنه فأسلم الرجل ،ودعا قومه لإلسالمّ ،
يه َمن َي َشآء} (المائدة )54 :وهذا ما ينتجه حسن ض ُل اللَّ ِه ي تِ ِ محبته وجمع الناس لهِ ،
{ذال َك فَ ْ
ُْؤ
ظاً َغِلي َ
ظ اْل َقْل ِب ت فَ ّ المعاملة ،والبعد عن الفظاظة وغلظ القلب{ ،فَبِ َما َر ْح َم ٍة ّم َن اللَّ ِه ِل َ
نت لَهُ ْم َولَ ْو ُك ْن َ
ال ْم ِر} (آل عمران.)159 : استَ ْغِف ْر لَهُ ْم َو َش ِاو ْر ُه ْم ِفى ا ْ
ف َع ْنهُ ْم َو ْ الَْنفَضُّوْا ِم ْن َح ْوِل َك فَ ْ
اع ُ
غزوة ُب ْحران
بلغه عليه الصالة والسالم أن جمعاً من بني ُسليم يريدون الغارة على المدينة ،فسار إليهم في ثالثمائة
ت َخلَون من جمادى األولى ،وخلَّف على المدينة ابن أم مكتوم ،ولما وصل ُبحران من أصحابه ِل ِس َ
تفرقوا ،ولم يلق كيداً فرجع.
سرية
لما تيقنت قريش أن طريق الشام من جهة المدينة ُأغلق في وجه تجارتهم ،وال يمكنهم الصبر عنها
ألن بها حياتهم ،أرسلوا ِعيراً إلى الشام من طريق العراق ،وكان فيها جمع من قريش منهم أبو
سفيانبن حرب ،وصفوانبن أمية ،وحويطببن عبد العزى ،فجاءت أخبارهم لرسول اهلل ،فأرسل لهم
زيدبن حارثة في مائة راكب يترقبونهم ،وكان ذلك في جمادى اآلخرة ،فسارت السرية حتى لقيت
خمس الرسول العير على ماء اسمه القَر َدة بناحية نجد فأخذت ِ
العير وما فيها ،وهرب الرجال ،وقد َّ ِ
ْ
عليه الصالة والسالم هذه حينما وصلت له.
ُأحد
غزوة ُ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أما رسول اهلل عليه الصالة والسالم ،فكان قد بلغه الخبر من كتاب بعث به إليه عمه العباسبن عبد
محتجاً بما أصابه يوم بدر .ولما وصلت
ّ المطلب ،الذي لم يخرج مع المشركين في هذه الحرب،
األخبار باقتراب المشركين ،جمع عليه الصالة والسالم أصحابه وأخبرهم الخبر ،وقال« :إن رأيتم
أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن هم أقاموا أقاموا بشر مقام ،وإ ن هم دخلوا علينا قاتلناهم»
ُأبي ،أما األحداث وخصوصاً
فكان مع رأيه شيوخ المهاجرين واألنصار ورأى ذلك أيضاً عبد اللهبن ّ
َم ْن لم يشهد بدراً منهم فأشاروا عليه بالخروج ،وكان مع رأيهم حمزةبن عبد المطلب ،وما زال
هؤالء بالرسول حتى تبع رأيهم ،ألنهم األكثرون عدداً واألقوونـ جلداً ،فصلى الجمعة بالناس في
وحضهم في خطبتها على الثبات والصبر وقال لهم« :لكم النصر ما
ّ يومها لعشر َخلَون من شوال،
عدته ،فظاهر بين درعين ،وتقلد السيف ،وألقى الترس وراء ظهره.
صبرتم» ثم دخل حجرته ،ولبس ّ
ولما رأى ذوو الرأي من األنصار أن األحداث استكرهوا الرسول على الخروج الموهم ،وقالوا:
َّ
ردوا األمر لرسول اهلل ،فما أمر ائتمرنا ،فلما خرج عليه الصالة والسالم ،قالوا :يا رسول اهلل َنتبعُ
ّ
رأيك ،فقال« :ما كان لنبي لَبِ َس سالحه أن يضعه حتى يحكم اهلل بينه وبين أعدائه» ثم عقد األلوية
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أني أصرعه ،فبلغ رسول اهلل الخبر ،فأمرهما بالمصارعة ،فكان الغالب سمرة ،فأجازه .ثم بات عليه
الصالة والسالم محله ليلة السبت ،واستعمل على حرس الجيش محمدبن مسلمة ،وعلى حرسه
ُأحد الخاص ذكوانبن عبد قيس .وفي السَّحر سار الجيش حتى إذا كان َّ ِ
بالش ْوط ـ ـ وهو بستان بين ُ َ
والمدينة ـ ـ رجع عبد اللهبن َُأبي بثالثمائة من أصحابه وقال :عصاني وأطاع ِ
الوْلدان فعالم نقتل َ
أنفسنا؟ فتبعهم عبد اللهبن عمرو والد جابر ،وقال :يا قوم ُأ َذ ِّكر ُك ُم اهلل أال تخذلوا قومكم ّ
ونبيكم{ ،قَالُوْا
َّ
نبيه .ولما فعل لَ ْو َن ْعلَ ُم ِقتَاالً التََّب ْعَنا ُك ْم} (آل عمران )167 :فقال لهمَْ :أب َع َد ُكم اهلل ،فسيغني اهلل عنكم ّ
همت طائفتان من المؤمنين أن تفشال :بنو حارثة من األوس ،وبنو َسِلمة من ذلك عبد اللهبن َُأب ّيَّ ،
الخزرج ،فعصمهما اهلل .وقد افترق المسلمون فرقتين فيما يفعلون بالمنخذلين ،فقوم يقولون :نقاتلهم،
ين ِفَئتَْي ِن َواللَّهُ َْأر َك َسهُ ْم بِ َما ِِ ِ
وقوم يقولون :نتركهم ،فأنزل اهلل في سورة النساء{ :فَ َما لَ ُك ْم فى اْل ُمَنافق َ
ضِل ِل اللَّهُ َفلَن تَ ِج َد لَهُ َسبِيالً()88 َأض َّل اللَّهُ َو َمن ُي ْ
ون َأن تَ ْه ُدوْا َم ْن َ َك َسُبوْا َأتُِر ُ
يد َ
فقاتلوا عن دينكم .وكان من نتيجة هذا الفشل أن انهزم جماعةٌ من المسلمين ،من بينهم :الوليدبن
عقبة ،وخارجةبن زيدِ ،
ورفاعةبن المعلى ،وعثمانبن عفان ،وتوجهوا إلى المدينة ،ولكنهم استحيوا أن
يدخلوها ،فرجعوا بعد ثالث ،وثبت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ومعه جماعة ،منهم أبو طلحة
بح َجفَتِ ِه ،وكان رامياً شديد الرمي .فنثر ِكنانته بين يدي رسول
األنصاري استمر بين يديه يمنع عنه َ
اهلل ،وصار يقول:ـ نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقَاء .وكل من كان يمر ومعه كنانة يقول له
عليه الصالة والسالم« :انثرها ألبي طلحة» ،وكان ينظر إلى القوم ليرى مواضع النبل ،فيقولـ له أبو
طلحة :يا نبي اهلل بأبي أنت وأمي ،ال تنظر يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك.
ثبت سعدبن أبي وقاص ،فكان عليه الصالة والسالم يقول لهِ :
«ارم سعد فداك أبي وأمي».ـ وممن َ
ّ
نضح عن رسول اهلل بالنبل حتى انفرج عنه الناس.
َ ومنهم سهلبن ُحَنيف وكان من مشاهير الرماة
ومنهم أبو ُدجانة ِس َما ُكبن َخَر َشة األنصاري تترس على رسول اهلل ،فصار النب ُل يقع على ظهره وهو
الجراح مقاتله ،فأمر به
ُ منحن حتى كثر فيه .وكان يقاتل عن الرسول زيادةبن الحارث حتى أصابت ٍ
تحملها بما أعطاه
فُأدني منه ووسده قدمه حتى مات .وقد أصابه عليه الصالة والسالم شدائد عظيمة َّ
ممن كانوا معه،
اهلل من الثبات ،فقد أقبل ُأبيُّبن خلف يريد قتله فأخذ عليه الصالة والسالم الحربة ّ
سبب هالكه وهو راجع ،ولم يقتل رسول
فلما قَ ُرب منه ضربه ضربةً كانت َ
وقال« :خلّوا طريقه»ّ ،
اهلل غيره ال في هذه الغزوة وال في غيرها.
وقد أصاب المسلمين الذين كانوا يحوطون رسول اهلل كثير من الجراحات ،ألن الشخص منهم كان
نيف وسبعون جراحة ،وشلَّت يده ،وأصاب كعببن
يتلقى السهم ،خوفاً أن يصل للرسول ،فوجد بطلحة ٌ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
مالك سبع عشرة جراحة .أما القتلى فكانوا نيفاً وسبعين منهم ستة من المهاجرين ،والباقون من
األنصار .ومن المهاجرين :حمزةبن عبد المطلب ،ومصعببن عمير ،ومن األنصار حنظلةبن أبي
عامر ،وعمروبن الجموح ،وابنه خالَّدبن عمرو ،وأخو زوجه ُ
والد جابربن عبد اهلل ،فأتت زوج
هند بنت عمروبن حرام وحملتهم :زوجها وابنها وأخاها على بعير لتدفنهم بالمدينة ،فنهى
عمرو ُ
عليه الصالة والسالم عن الدفن خارج أحد ،فرجعوا .وقتل سعدبن الربيع ،وأرسل عليه الصالة
لمبِلغه:
والسالم َمن يأتيه بخبره فوجده بين القتلى ،وبه رمق ،فقيل له :إن رسول اهلل يسأل عنك ،فقال ُ
سعدبن الربيع :اهلل اهلل وما عاهدتم عليه رسوله ليلة العقبة ،فواهلل ما لكم عند اهلل
ُقل لقومي:ـ يقو ُل لكم ُ
عم أنسبن مالك ،فإنه لما سمع بقتل رسول اهلل قال :يا قوم ما تصنعون
عذر .وقتل أنسبن النضر ّ
بالبقاء بعده؟ موتوا على ما مات عليه إخوانكم ،فلم يزل يقاتل حتى قُتل رضي اهلل عنه.
ُأحد حتى إن هنداً زوج أبي سفيان بقرت بطن حمزة ،وأخذت كبده لتأكلها، ومثَّ ْ
لت قريش بقتلى ُ َ
فالكتها ثم أرسلتها ،وفعلوا قريباً من ذلك بإخوانه الشهداء .ثم إن أبا سفيان صعد الجبل ونادى بأعلى
يوم بيوم بدر ،وموعدكم بدر العام المقبل ،ثم قال :إنكم ِ ت ِ صوته :نِ ْع َم ْ
الحرب سجا ٌلٌ ،
َ فعال ،إن
ستجدون في قتالكم ُمثْلَةً لم آمر بها ولم تَسُْؤ ني .ثم إن المشركين رجعوا إلى مكة ولم يعرجوا على
ذلك اليوم ،وإ ال لم يكن ٌّ
بد من تعقب المدينة ،وهذا مما يدل على أن المسلمين لم ينهزموا في َ
المشركين لهم حتى ُي ِغيروا على مدينتهم .ثم تفقَّد عليه الصالة والسالم القتلى وحزن على عمه حمزة
بُأحد ،كل شهيد بثوبه الذي قتل فيه .وكانوا يدفنون الرجلين والثالثة
حزناً شديداً ،ودفن الشهداء كلهم ُ
يشق عليهم أن يحفروا لكل شهيد حفرة .ولما
في لحد واحد لما كان عليه المسلمون من تعب ،فكان ّ
رجع المسلمون إلى المدينة سخر منهم اليهود والمنافقون،ـ وأظهروا ما في قلوبهم من البغضاء،
وقالوا إلخوانهم :لَّ ْو َك ُانوْا ِع ْن َدَنا َما َماتُوْا َو َما قُتِلُوْا} (آل عمران.)156 :
لما رجع عليه الصالة والسالم إلى المدينة أصبح َحِذراً من رجوع المشركين إلى المدينة ليتمموا
انتصارهم ،فنادى في أصحابه بالخروج خلف العدو ،وأالّ يخرج إال من كان معه باألمس ،فاستجابوا
فضمدوا جراحاتهم وخرجوا واللواء معقود لم ُي َح َّل ،فأعطاه
هلل والرسول من بعد ما أصابهم القَرحَّ ،
عليبن أبي طالب ،وولى على المدينة ابن أم مكتوم ،ثم سار الجيش حتى وصلوا حمراء األسد وقد
كان ما ظنه الرسول حقاً ،فإن المشركين تالوموا على ترك المسلمين من غير شن الغارة على
فأصروا على الرجوع ،ولكن لما بلغهم خروج الرسول في أثرهم ظنوا
ّ المدينة حتى يتم لهم النصر،
أنه قد حضر معه َم ْن لم يحضر باألمس ،وألقى اهلل الرعب في قلوبهم ،فتمادوا في سيرهم إلى مكة،
وظفر عليه الصالة والسالم وهم في حمراء األسد بأبي عزة الشاعر ،الذي َم َّن عليه ببدر بعد أن تعهد
علي ،ودعني لبناتي ،وأعطيك
وامنن ّ
أالّ يكون على المسلمين ،فأمر بقتله ،فقال :يا محمد أقْلنيُ ،
عهداً أالّ أعود لمثل ما فعلت ،فقال عليه الصالة والسالم« :ال واهلل ال تمسح عارضيك بمكة تقول:
المؤمن من ُج ْح ٍر مرتين ،اضرب عنقه يا زبير» فضرب عنقه ،وفي
ُ خدعت محمداً مرتين ،ال ُيْل َدغُ
ُ
هذا تأديب عظيم من صاحب الشرع الشريف ،فإن الرجل الذي ال يحترز مما ُأصيب منه ليس بعاقل،
المْلك.
بد من الحزم إلقامة دعائم ُ
فال ّ
حوادث
زوج عليه الصالة والسالم بنته ُأم كلثوم لعثمانبن عفان بعد أن ماتت رقية عنده،
وفي هذه السنة َّ
وُأمها
تزوج عليه الصالة والسالم حفصة بنت عمربن الخطابُّ ،
ولذلك كان ُي َس َّمى ذا النورين .وفيها َّ
أخت عثمانبن مظعون ،وكانت قبله تحت ُخنيسبن حذافة السهمي رضي اهلل عنه ،فتوفي عنها
زينب بنت خزيمة الهاللية من بني هاللبن
َ بجراحة أصابته ببدر ،وفيها تزوج عليه الصالة والسالم
عامر ،كانت تدعى في الجاهلية ُأم المساكين لرأفتها وإ حسانها إليهم ،وكانت قبله تحت عبد اللهبن
بُأحد وهي أخت ميمونة بنت الحارث ألمها ،وفيها ولد الحسنبن علي رضي اهلل
جحش ،فقُتل عنها ُ
عنهما .وفيها ُحرمت الخمر ،وكان تحريمها بالتدريج ،لما كان عليه العرب من المحبة الشديدة لها،
فيصعب إذاً تحريمها دفعة واحدة ،وكان ذلك التحريم تابعاً لحوادث تَُنفِّر عنها ،ألن المنكر إذا ُأسند
أشد تأثيراً في النفس .فأو ُل ما ُبيِّن فيها قوله تعالى أقر الجميع على تقبيحها كان ذلك ّ تحريمه لحادثة ّ
اس} (البقرة.)219 : ون َك َع ِن اْل َخ ْم ِر واْل َم ْي ِس ِر ُق ْل ِفي ِه َمآ ِإثْ ٌم َكبِ ٌير و َمَن ِافعُ ِل َّلن ِ
في سورة البقرةَ :ي ْسَئ لُ َ
َ َ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
فمنفعة الميسر التصدق بربحه على الفقراء كما كانت عادة العرب ،ومنفعة الخمر تقوية الجسم ،ولما
شربها بعض المسلمين وخلَّط في القراءة ُح ِّرمت الصَّالة على السكران ،فقال تعالى في سورة النساء:
َِّ
حدث
ون} (النساء )43 :ولما َ ءامُنوْا الَ تَ ْق َرُبوْا الصالةَ َوَأنتُ ْم ُس َك َارى َحتَّى تَ ْعلَ ُموْا َما تَقُولُ َ
ين َ{يَأيُّهَا الذ َ
َ
{يَأيُّهَا
من شربها اعتداء بعض المسلمين على إخوانهم ُح ِّرمت قطعياً بقوله تعالى في سورة المائدةَ :
ون َّ ِ ان فَ ْ ِ
طِ ال ْزالَم ِر ْج ٌس م ْن َعم ِل َّ آمُنوْا ِإَّن َما اْل َخ ْم ُر َواْل َم ْي ِس ُر َوا ْ َِّ
اجتَنُبوهُ لَ َعل ُك ْم تُْفل ُح َ الش ْي َ ّ َ اب َوا ْ ُ نص ُ ال َ ين َ الذ َ
ضآءان َأن ُيو ِق َع َب ْيَن ُك ُم اْل َع َد َاوةَ َواْلَب ْغ َ
ط ُ يد َّ
الش ْي َ ِإَّن َما ُي ِر ُ
الرابعة
السَّنة َّ
سرية
في بدء السنة الرابعة بلغ رسول اهلل أن طُليحة وسلمة ابني خويلد األسديين يدعوان قومهما بني أسد
لحربه عليه الصالة والسالم ،فدعا أبا سلمةبن عبد األسد المخزومي ،وعقد له لواء وقال لهِ :
«س ْر ً
َأغ ْر عليهم» ،وأرسل معه رجاالً ،فسار في هالل المحرم حتىحتى تنزل أرض بني أسدبن خزيمة فَ ِ
وشاء فأخذها ،ولم يلق حرباً ،ورجع
ً طناً فأغار عليهم ،فهربوا من منازلهم ،ووجد أبو سلمة إبالً
بلغ قَ َ
بعد عشرة أيام من خروجه.
سرية
الجموع
َ بع َرَنة يجمع
وفي بدئها أيضاً بلغه عليه الصالة والسالم أن سفيانبن خالدبن ُنَب ْيح الهُذلي المقيم ُ
لحربه ،فأرسل له عبد اللهبن َُأن ْيس الجهني وحده ليقتله ،فاستأذن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن
َيتَقَ َّو َل حتى يتمكن ،فأذن له ،وقال« :انتسب لخزاعة» ،فخرج لخمس َخلَون من المحرم ،ولما وصل
سمعت بجمعك لمحمد فجئت ألكون معك ،فقال ُ ممن الرجل؟ قال :من ُخزاعة،
إليه قال له سفيانّ :
وحدثه وسفيان يستحلي حديثه ،فلما انتهى إلى ِخبائه
له :أجل ،إني لفي الجمع له ،فمشى عبد اهلل معه َّ
تفرق الناس عنه فجلس معه عبد اهلل حتى نام ،فقام وقتله ،ثم ارتحل حتى أتى المدينة ،ولم يلحقه
الطلب وكفىـ اهلل المؤمنين القتال.
سرية
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
سرية
الرجيع في يوم واحد ،فحزن عليهم صلى اهلل عليه وسلم حزناً شديداً ،وأقام يدعو على الغادرين بهم
شهراً في الصالة.
الن ِ
ضير غزوة بني َّ
يا هلل ،ما أسوأ عاقبة الطيش فقد تكون األمة مرتاحة البال ،هادئة الخواطر ،حتى تقوم جماعة من
رؤسائها بعمل غدر ،يظنون من ورائه النجاح ،فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم ،وهذا ما
حصل ليهود بني النضير حلفاء الخزرج ،الذين كانوا يجاورون المدينة ،فقد كان بينهم وبين المسلمين
عهود يأمن بها ٌّ
كل منهم اآلخر ،ولكن بنو النضير لم يوفوا بهذه العهود حسداًمنهم وبغياً .فبينما
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبعض من أصحابه في ديار بني النضير إذ ائتمر جماعة منهم على
واحد منهم صخرةً ويلقيها عليه من علو ،فُأطلع عليه الصالة والسالم على قصدهم،
قتله بأن يأخذ ٌ
فرجع وتبعه أصحابه ،ثم أرسل لهم محمدبن مسلمة يقول لهم« :اخرجوا من بالدي فقد هممتم بما
هممتم من الغدر» .إذ الحزم كل الحزم أال يتهاون اإلنسان مع َم ْن ُعرف منه الغدر ،فتهيأ القوم
للرحيل ،فأرسل لهم إخوانهم المنافقون يقولون :ال تخرجوا من دياركم ونحن معكم لَِئ ْن ْ
ُأخ ِر ْجتُ ْم
ون( )11لَِئ ْن ِ َّ
نص َرَّن ُك ْم َواللهُ َي ْشهَ ُد ِإَّنهُ ْم لَ َكاذُب َ
َأحداً ََأبداً َوِإ ن قُوتِْلتُ ْم لََن ُ
ِ
لََن ْخ ُر َج َّن َم َع ُك ْم َوالَ ُنطيعُ في ُك ْم َ
ون(
نص ُر َ وه ْم لَُي َولُّ َّن ا ْ
ال ْدَب َار ثَُّم الَ ُي َ ص ُر ُ
ِئ
ونهُ ْم َولَ ن َّن َنص ُر َ ِئ
ون َم َعهُ ْم َولَ ن قُوتِلُوْا الَ َي ُ
ُأخ ِر ُجوْا الَ َي ْخ ُر ُج َ ْ
َّ َ )12أ َش ُّد اْل ِكتَ ِ ِ
ُأخ ِر ْجتُ ْم َواللهُ
اصةٌ َو َمن ْ ص َ اصةٌ َعلَى َخ َ ص َاصةٌ َخ َ ص َ اب فى ََأبداً ِإَّن َك َنافَقُوْا تََر َجآءوا َخ َ
نص َرَّن ُك ْم َألَ ْم ِفى ِفى َّ ِ ِ
ين َوِإ ن م ْن َواللهُ فى ُقلُوبَِنا لََن ُ
َأبداً َأحداً قُوتِْلتُم ِفى َأبداً ِإَّنهم لََننصرَّن ُكم واللَّه َّر ِح َِّ
يم الذ ٌَ َُ ْ َ ُ َ ُْ ْ َ َ
ءوف تََر َواللَّهُ ِفى ِم ْن قُوتِْلتُ ْم ِفى ََأبداً َربََّنآ َوِإل ْخوانَِنا
ونا َر ٌ ين َسَبقُ َ َّ َِّ
يم َعلَى َواللهُ لّلذ َ
ِ َّ ِ
ََأبداً َواللهُ م ْن َّرح ٌ
ونا َوِإ ن تََر ِم ْن ََأبداً
َعلَى ُن ِطيعُ َسَبقُ َ
نص َرَّن ُك ْم ِإَّنهُ ْم َِّ ِ َِّ ِإَّنهم لََننصرَّن ُكم ِفى َأبداً يقُولُ ِ ًّ َّ ِ
ين َوِإ ن ُقلُوبَِنا فى ََأبداً لّلذ َ
ين لََن ُ ون غال َواللهُ فى ََأبداً الذ َ َ َ َ َُ ْ ُْ
ِ ِ ِ َّ ِ ِ ِ ِ ِ َّ ِ
ين َوِإ ن م ْن فى ََأبداً نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َعلَى ُنطيعُ ََأبداً َوِإ ن فى فى َربََّنآ لّلذ َين فى ََأبداً لََن ُ يم ِ
ان ََأبداً في ُك ْم لّلذ َ باَإل َ
ءوف تََر َربََّنآ ُقلُوبَِنا ِ َِّ
ين َعلَى َر ٌ قُوتِْلتُ ْم فى الذ َ
يم ِإَّنهُ ْم قُوتِْلتُ ْم ِ ِ ِ لََننصرَّن ُكم وِإ ن علَى واللَّه ِفى الَِّذين لّلَِّذ ِ
ين م ْن َوِإ ن ََأبداً م ْن ََأبداً َي ْشهَ ُد فى ََأبداً َوِإ ن َّرح ٌ
َ َ َُ ْ َ َ َ ُ
ين َي ْشهَ ُد ونا ي ْخرجون وِإ ن وِإ ن َأحداً لّلَِّذين واللَّه وِإ ن علَى واللَّه سبقُ َ ِ َِّ ِ ِ ِ ًّ ِ
ونا م ْن الذ َ َ َ ُ َ َ َ ُ ََ َ غال فى ُقلُوبَنا قُوتْلتُ ْم َسَبقُ َ َ ُ ُ َ َ َ
ونا َوِإ ن ِفى ُقلُوبَِنا قُوتِْلتُ ْم َواللَّهُ ِفىون َولَ ْو َسَبقُ َ ِ ِئ ِ ِ
نص َرَّن ُك ْم م ْن ََأبداً ِإَّنهُ ْم َولَ ن فى لَ َكاذُب َ
َِّ ِ
تََر فى ِإَّنهُ ْم لّلذ َ
ين لََن ُ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ونا َّر ِحيم ِمن ي ْشه ُد والَ َأبداً ي ْشه ُد لّلَِّذ َِّ َأحداً َواللَّهُ قُوتِْلتُ ْم َسَبقُ َ
ين ََأبداً ين الذ َ َ ٌ ْ َ َ َ َ َ َ نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن ََأبداً ِإَّنهُ ْم َ
ََأبداً لََن ُ
َّ ِئ ِ ِ ِ ِ
نص َرَّن ُك ْم نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َعلَى ُنطيعُ في ُك ْم َألَ ْم ُنطيعُ فى َولَ ن ُنطيعُ ِإَّنهُ ْم في ُك ْم ََأبداً َواللهُ ُقلُوبَِنا لََن ُ ِإَّنهُ ْم َوِإ ن لََن ُ
يم ِفى َولَِئن ُقلُوبَِنا ِ ِ َّ ِ َّ ِ
َوِإ ن فى ََأبداً تََر م ْن ُقلُوبَِنا َواللهُ ََأبداً َوِإ ن ِإَّنهُ ْم تََر َواللهُ فى َوِإ ن قُوتِْلتُ ْم م ْن ُقلُوبَِنا َّرح ٌ
ِ
يم ِغالًّ َعلَى ُقلُوبَِنا ََأبداً ِ ُأخ ِرجوْا وِإ ن الَِّذ ِ ِ
ين فى م ْن َّرح ٌ َ
ِئ
ون ُقلُوبَنا الَ َّنهُ ْم َولَ ن ْ ُ َ
ِإ ونا َي ْخر ُج َ ِ
قُوتْلتُ ْم َسَبقُ َ ُ
ِ
َأحداً َوِإ ن ِفى َر ٌ
ءوف َألَ ْم ََأبداً ُقلُوبَِنا قُوتِْلتُ ْم ِإَّنهُ ْم في ُك ْم ِإَّنهُ ْم قُوتِْلتُ ْم نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َعلَى َ ءوف َألَ ْم ََأبداً لََن ُ
َر ٌ
َِّ َّ ِ ِ َِّ ِ ِ
ين
ونا ََأبداً َواللهُ فى تََر الذ َ ين َسَبقُ َ نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َعلَى ُنطيعُ الذ َ في ُك ْم فى م ْن َوِإ ن قُوتِْلتُ ْم في ُك ْم ُقلُوبَِنا ََأبداً لََن ُ
َأحداً ُن ِطيعُ َولَِئن َّ
نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َعلَى َواللهُ ِإَّنهُ ْم َ َواللَّهُ ََأبداً ِفى َولَِئن َسَبقُ َ
ونا قُوتِْلتُ ْم ِإَّنهُ ْم َربََّنآ ََأبداً ِإَّنهُ ْم لََن ُ
نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َوِإ ن ِفى ونا قُوتِْلتُ ْم ََأبداً لََن ُ نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َعلَى َواللَّهُ َسَبقُ َ ِ
يم َوِإ ن فى تَ ْج َع ْل لََن ُ
ِ
م ْن قُوتِْلتُ ْم َّرح ٌ
ِ
َِّ َّ ِ ين ِفى ُقلُوبَِنا ََأبداً َوِإ ن قُوتِْلتُ ْم َسَبقُ َ َِّ
نص َرَّن ُك ْم َوِإ ن َعلَى َوالَ الذ َ
ين ونا َوِإ ن َواللهُ فى ََأبداً لََن ُ ِإَّن َك َوِإ ن ََأبداً لّلذ َ
ِ َأبداً ِغالًّ ِفى َأبداً ِإَّن َك تَر ُقلُوبَِنا ُن ِطيع ُن ِطيع ِمن َأبداً علَى واللَّه يقُولُ ِ
ون فى تََر فى ََأبداً ِإَّنهُ ْم لََن ُ
نص َرَّن ُك ْم َ ُ ْ َ َ َ َُ ُ َ َ َ
يم ِإَّنهُ ْم َر ٌ
ءوف تََر َّ ِ
َواللهُ َّرح ٌ
وفي ربيع اآلخر بلغه عليه الصالة والسالم أن قبائل من نجد يتهيؤون لحربه ،وهم :بنو محارب وبنو
ثعلبة ،فتجهَّز لهم ،وخرج في سبعمائة مقاتل ،وولّى على المدينة عثمانبن عفان ،ولم يزالوا سائرين
فأخذهن ،فبلغ الخبر رجالهم ،فخافوا وتفرقوا
ّ حتى وصلوا ديار القوم ،فلم يجدوا فيها أحداً غير نسوة
وأخاف بعضهم بعضاً .ولما
َ الناس،
في رؤوس الجبال ،ثم اجتمع جمع منهم وجاؤوا للحرب ،فتقارب ُ
حانت صالة العصر وخاف عليه الصالة والسالم أن يغدر بهم األعداء وهم يصلّون ،صلى بالمسلمين
صالة الخوف ،فألقى اهلل الرعب في قلوب األعداء ،وتفرقت جموعهم خائفين منه صلى اهلل عليه
وسلم.
وأجمع أه ُل السَِّي ِر على خالفه.
َ ومال اإلمام البخاري إلى أن هذه الغزوة كانت في السنة السابعة
حوادث
وفي هذا العام ولد الحسينبن علي ،وفيه توفيت زينب بنت خزيمة ُأم المؤمنين ،وفيه توفي أبو َسلَمة
رضي اهلل عنه ابن عمة رسول اهلل ،وأخوه من الرضاعة ،وأو ُل من هاجر إلى الحبشة ،وفيه تزوج
عليه الصالة والسالم َُّأم َسلَ َمةَ هنداً زوج أبي سلمة بعد وفاته.
ِ
الخام َسة السَّنة
بدومة الجندل
وفي ربيع األول من هذا العام بلغ النبي صلى اهلل عليه وسلم أن جمعاً من األعراب ُ
يظلمون من َم َّر بهم ،وأنهم يريدون الدنو من المدينة فتجهز لغزوهم ،وخرج في ألف من أصحابه،
ويكمن النهار حتى قرب ِ ِ َّ
بعد أن َولى على المدينة سَباعبن ُع ْرفُطة الغفاري ،ولم يزل يسير الليل ُ
ُأصيب ،وهرب
َ منهم ،فلما بلغهم الخبر تفرقوا ،فهجم المسلمون على ماشيتهم ورعائهم ،فُأصيب َم ْن
وبث السرايا فلم يجد منهم أحداً ،فرجع عليه الصالة
يلق أحداًّ ،
من هرب ،ثم نزل بساحتهم فلم َ
ِ
ص ٍن الفَزاري ،وهو الذي كان ّ
يسميه عليه الصالة والسالم غانماً ،وصالح وهو عائد عيينةَبن ح ْ
والسالم األحمق المطاع ،ألنه كان يتبعه ألف قََناة ،وأقطعه عليه الصالة والسالم أرضاً يرعى فيها
بهمه على بعد ستة وثالثين ميالً من المدينة ألن أرضه كانت قد أجدبت.
طِلق
صَالم ْ
غزوةبن ُ
عليهم اإلسالم فلم يقبلوا ،فتراموا بالنبل ساعة ،ثم حمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد ،فلم يتركوا
لرجل من عدوهم مجاالً للهرب ،بل قتلوا عشرة منهم وأسروا باقيهم مع النساء والذرية ،واستاقوا
اإلبل والشياه ،وكانت اإلبل ألفي بعير ،والشياه خمسة آالف ،واستعمل الرسول على ضبطها مواله
ُشقران ،وعلى األسرى ُب َريدة .وكان في نساء المشركين َب َّرة بنت الحارث سيد القوم ،وقد أخذ من
ت على المسلمين ،وهنا يظهر ُح ْسن السياسة ومنتهى الكرم ،فإن بني قومها مئتا ٍ
بيت أسرى ُو ِّز َع ْ
فأس ُر نسائهم بهذه الحال صعب جداً ،فأراد عليه الصالة والسالم أن المصطلق من ِّ
أعز العرب داراً ْ
سماها يجعل المسلمين َي ُمُّن َ
ون على النساء بالحرية من تلقاء أنفسهم ،فتزوج ّبرة بنت الحارث التي ّ
ُج َو ْي ِرَيةَ ،فقال المسلمون :أصهار رسول اهلل ال ينبغي أسرهم في أيدينا ّ
فمنوا عليهم بالعتق ،فكانت
ٍ
امرأة على قومها كما قالت عائشة رضي اهلل عنها ،وتسبَّب عن هذا الكرم العظيم وهذه أيمن
جويريةُ َ
المعاملة الجليلة أن أسلم بنو المصطلق عن بكرة أبيهم ،وكانوا للمسلمين بعد أن كانوا عليهم.
والسالم َش ْغ َل الناس عن التكلم في هذا الموضوع،ـ فجاءه أسيدبن ُحضير وسأله عن سبب االرتحال
رجع إلى
َ في هذا الوقت ،فقال« :أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن
حديث اإلفك
الصديقة ،زوج
ّ رمي عائشة
وأجلب منها للمصائب ،وهي ُ ُ النادرة الثانية :وهي أفظعُ من األولى
المعطَّل السلمي ،وذلك أنهم لما دنوا من المدينة أذن عليه رسول اهلل باإلفك ،فاتَّهموها بصفوانبن َ
الصالة والسالم ليلة بالرحيل ،وكانت السيدة عائشة قد مضت لقضاء حاجتها حتى جاوزت الجيش،
ظفَ ِار قد انقطع فرجعتجزع َفلما قضت شأنها أقبلت إلى َر ْحلها ،فلمست صدرها فإذا ِع ْق ٌد لها من ْ
ونها ،فاحتملوا هودجها ِّ
ظانين أنها فيه، تلتمس عقدها ،فحبسها ابتغاؤه ،فأقبل الرهط الذين كانوا َي ْرحلُ َ
كن إذ ذاك خفافاً لم َي ْغ َشهُ َّن اللحم ،فلم يستنكر القوم ِخفَّةَ الهودج ،وكانت عائشة جارية
ألن النساء َّ
داع وال ُمجيب ،فغلبتها
حديثة السن ،فجاءت منزل الجيش بعد أن وجدت عقدها ،وليس بالمنزل ٍ
الم َعطَّل ،فأصبح عند منزلها
يسير وراء الجيش يفتقد ضائعه صفوانبن ُ فنامت ،وكان الذي ُ ْ عيناها
فعرفها ألنه كان رآها قبل الحجاب ،فاسترجع ،فاستيقظت باسترجاعه وسترت وجهها بجلبابها ،فأناخ
راحلته وأركبها من غير أن يتكلما بكلمة ،ثم انطلق يقود بها الراحلة حتى وصل الجيش وهو نازل
للراحة ،فقامت قيامة أهل اإلفك ،وقالوا ما قالوا في عائشة وصفوان،ـ والذي تََولى كبر اإلفك عبد
ُأبي.
اللهبن ّ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ولما قدموا المدينة مرضت عائشة شهراً ،والناس يفيضون في قول اإلفك ،وهي ال تشعر بشيء،
وكانت تعرف في رسول اهلل رقة إذا مرضت ،فلم يعطها نصيباً منها في هذا المرض ،بل كان يمر
ت خرجت على باب الحجرة ال يزيد على قوله« :كيف حالكم؟» مما جعلها في ريب عظيم .فلما َنِقهَ ْ
للتبرز خارج البيوت ،فعثرت ُأم مسطح في ِم ْرطها فقالت: ِ
هي وُأم مسطحبن أثاثة ـ ـ أحد أهل اإلفك ـ ـ ّ
تعس ِمسطح فقالت عائشة :بئس ما ِ
قلت أتسبين رجالً شهد بدراً؟ فقالت يا َه ْنتاهُ أو لم تسمعي ما
قالوا؟ فسألتها عائشة عن ذلك فأخبرتها الخبر ،فازدادت مرضاً على مرضها .ولما جاءها عليه
عما يقول الناس،
فسألت أمها ّ
ْ تمرض في بيت أبيها ،فأذن لها،
الصالة والسالم كعادته ،استأذنته أن ّ
هوني عليك ،فواهلل لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئه عند رجل يحبها ولها ضرائر إال
بنية ِّ
فقالت :يا ّ
أكثرن عليها ،فقالت عائشة :سبحان اهلل َأو قد تحدث الناس بهذا؟ وبكت تلك الليلة حتى أصبحت ال
كبار أهل بيته فيما
يرقأ لها دمع ،وال تكتحل بنوم .وفي خالل ذلك كان عليه الصالة والسالم يستشير َ
يفعل ،فقال له أسامة لما يعلمه من براءة عائشة :أهلك أهلك وال نعلم عليهم إال خيراً .وقال عليبن أبي
ص ُد ْق َك .فدعا عليه الصالة والسالم ق اهلل عليك ،والنساء سواها كثيرِ ،
وسل الجاريةَ تَ ْ ضِّي ِ
طالب :لم ُي َ
َبريرة جارية عائشة ،وقال لها :هل رأيت من شيء َي ِر ْيُب ِك؟ فقالت :والذي بعثك بالحق ما رأيت
ِّن ،تنام عن عجينها ،فتأتي الداجن فتأكله. عليها أمراً قطّ ِ
أغمصه غير أنها جارية حديثة الس ِّ
ذرني من
«م ْن َي ْع ُ
فقام عليه الصالة والسالم من يومه وصعد المنبر والمسلمون مجتمعون وقالَ :
رجل قد بلغني أذاه في أهلي؟ واهلل ما علمت على أهلي إال خيراً ،ولقد ذكروا رجالً ما علمت عليه إال
خيراً وما يدخل على أهلي إال معي» .فقال سعدبن معاذ :أنا يا رسول اهلل ِ
َأعذ ُرك منه ،فإن كان من
سعدبن عبادة
األوس ضربت عنقه ،وإ ن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ،فقام ُ
أحببت أنه
َ لع ْم ُر اهلل ،ال تقتله وال تقدر على قتله ،ولو كان من رهطك ما
كذبت َ
َ الخزرجي وقال:
كذبت لعمر اهلل لنقتلنه فإنك منافق تجاد ُل عن
َ ُيقتل ،فقام ُأسيدبن ُحضير ،وقال لسعدبن عبادة:
وخفَّ َ
ضهم المنافقين .وكادت تكون فتنة بين األوس والخزرج لوال أن رسول اهلل نزل من فوق المنبر َ
حتى سكتوا .أما عائشة فبقيت ليلتين ال يرقأ لها دمع ،وال تكتحل بنوم .وبينما هي مع أبويها إذ دخل
النبي عليه الصالة والسالم فسلّم ثم جلس فقال« :أما بعد ،يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا ،فإن
كنت بريئة فسيبرئك اهلل ،وإ ن كنت ألممت بذنب فاستغفري اهلل وتوبي إليه ،فإن العبد إذا اعترف
وتاب ،تاب اهلل عليه» ،فتقلص دمعُ عائشة ،وقالت ألبويها :أجيبا رسول اهلل ،فقاال :واهلل ما ندري ما
علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ،فلئن
ُ نقول ،فقالت :إني واهلل لقد
ص ِّدقُِّني فواهلل
قلت لكم إني بريئة ال تصدقوني ،ولئن اعترفت لكم بأمر ـ ـ واهلل يعلم أني منه بريئة ـ ـ لتُ َ
ُ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
يزاول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مجلسه حتى نزلت ْ تحولت واضطجعت على فراشها ،ولم ْ ثم
ِ َِّ
صَبةٌين َجآءوا بِاإل ْفك ُع ْ الصديقةِ{ :إ َّن الذ َ ّ عليه اآليات من سورة النور ببراءة السيدة المطهرة عائشة
ب ِم َن اإلثِْم َوالَِّذى تََولَّى ِك ْب َرهُ ِم ْنهُ ْم ام ِرىء ّم ْنهُ ْم َّما ا ْكتَ َس َ
َّ ِ َّ
ّم ْن ُك ْم الَ تَ ْح َسُبوهُ َشّراً ل ُك ْم َب ْل ُه َو َخ ْيٌر ل ُك ْم ل ُك ّل ْ
ين( ك ُّمبِ ٌ ات بَِأنفُ ِس ِه ْم َخْيراً َوقَالُوْا َها َذآ ِإ ْف ٌون َواْل ُمْؤ ِمَن ُ يم( )11لَّ ْوآل ِإ ْذ َس ِم ْعتُ ُموهُ َ
ظ َّن اْل ُمْؤ ِمُن َ
لَه ع َذ ٌ ِ
اب َعظ ٌ ُ َ
ون(َ )13ولَ ْوالَ ِ الشه َدآء فَُأولَِئ َك ِع َ َّ ِ ِ ُّ ِإ ِِ ِ َّ
ند الله ُه ُم اْل َكاذُب َ ْ )12ل ْوالَ َجآءو َعلَْيه ب َْأرَب َعة ُشهَ َدآء فَ ْذ لَ ْم َيْأتُوْا ب َ
يه ع َذ ٌ ِ ال ِخر ِة لَم َّس ُكم ِفى مآ َأفَ ْ ِ ِ ض ُل اللَّ ِه َعلَْي ُك ْم و َر ْح َمتُهُ ِفى ُّ
يم(ِ )14إ ْذ تَلَقَّ ْوَنهُ اب َعظ ٌ ضتُ ْم ف َ َ الد ْنَيا َوا ْ َ َ ْ َ فَ ْ
يم(َ )15ولَ ْوآل ِإ ْذ ونه هّيناً وهو ِع َ َّ ِ ِ ِِ ِ َّ بَِأْل ِسَنتِ ُكم وتَقُولُ ـ ِ ِ
ند الله َعظ ٌ ون بَأ ْفواه ُك ْم َّما ل ْي َس لَ ُك ْم به عْل ٌم َوتَ ْح َسُب َ ُ َ َ ُ َ َ ْ َ
ودوْا ِل ِمثِْلهِ َّ ِ
يم(َ )16يعظُ ُك ُم اللهُ َأن تَ ُع ُ ِ ِ َّ
ون لََنآ َأن َّنتَ َكل َم بهَا َذا ُسْب َح َان َك َها َذا ُب ْهتَ ٌ ِ
ان َعظ ٌ َسم ْعتُ ُموهُ ُقْلتُ ْم َّما َي ُك ُ
ِ ِ َِّ ِ َأبداً ِإن ُكنتُم ُّم ِمنِين( )17ويبّين اللَّه لَ ُكم ا ْ ِ َّ ِ
يع
ُّون َأن تَش َ
ين ُيحب َ يم(ِ )18إ َّن الذ َ يم َحك ٌالَيات َواللهُ َعل ٌ َ َُ ُ ُ ُ ْ ْؤ َ َ
َّ الد ْنيا وا ْ ِ
اب َِأل ٌ ِ ُّ ِ ِ َِّ
الخ َر ِة َواللهُ َي ْعلَ ُم َو َْأنتُ ْم الَ تَ ْعلَ ُم َ
ون(َ )19ولَ ْوالَ يم فى َ َ ءامُنوْا لَهُ ْم َع َذ ٌ ين َ اْلفَاح َشةُ فى الذ َ
طِ
ان وات َّ
الش ْي َ ءوف َّر ِحيم( )20يَأيُّها الَِّذين ءامُنوْا الَ تَتَّبِعوْا ُخطُ ِ َأن اللَّهَ َر ٌ ض ُل اللَّ ِه َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ َو َّ
فَ ْ
ُ َ َ َ ٌ
ْأم ُر بِاْلفَ ْح َشآء ط ِ ِإ وات َّ ومن يتَّبِع ُخطُ ِ
ان فَ َّنهُ َي ُ الش ْي َ ََ َ ْ
َّ ِ َّ ض ُل اللَّ ِه علَْي ُكم ور ْحمتُه ما َز َكى ِمن ُكم من ٍ َواْل ُم ْن َك ِر َولَ ْوالَ فَ ْ
َأحد ََأبداً َواَل ك َّن اللهَ ُي َز ّكى َمن َي َشآء َواللهُ
ّْ َ َ ْ ََ َ ُ َ
ين واْلمه ِ ِ ِ ض ِل ِمن ُكم والس ِ يم(َ )21والَ َيْأتَ ِل ُْأولُوْا اْلفَ ْ ِ ِ
اج ِر َ
ين َّعة َأن يُْؤ تُوْا ُْأولى اْلقُْرَبى َواْل َم َساك َ َ ُ َ َْ َ َسميعٌ َعل ٌ
يم} (النور )22 :فقال ِ َّ ِ َّ ِ ِفى سبِ ِ َّ ِ
ور َّرح ٌ ُّون َأن َي ْغف َر اللهُ لَ ُك ْم َواللهُ َغفُ ٌ
صفَ ُحوْا َأالَ تُحب َ
يل الله َوْلَي ْعفُوْا َوْلَي ْ َ
أبو بكر :بل نحب ذلك يا رسول اهلل ،وأعاد النفقة على ِمسطح .فهذه مضار المنافقين الذين يدخلون
بين األمم مظهرين لهم المحبة وقلوبهم مملوءة حقداً يتربصون الفتن ،فمتى رأوا باباً لها َولَجوه فنعوذ
باهلل منهم.
غزوة الخندق
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
يقر لعظماء بني النضير قرار بعد جالئهم عن ديارهم وإ رث المسلمين لها ،بل كان في نفوسهم
لم ّ
ويستردوا بالدهم ،فذهب جمع منهم إلى مكة ،وقابلوا رؤساء قريش،
ّ دائماً أن يأخذوا ثأرهم
ومنوهم المساعدة ،فوجدوا منهم قبوالً لما طلبوه ،ثم جاؤوا إلى
وحرضوهم على حرب رسول اهلل ّ
ّ
وحرضوا رجالها كذلك ،وأخبروهم بمبايعة قريش لهم على الحرب ،فوجدوا منهم
قبيلة غطفان ّ
ارتياحاً ،فتجهزت قريش وأتباعها يرأسهم أبو سفيان ،ويحمل لواءهم عثمانبن طلحةبن أبي طلحة
العبدري ،وعددهم أربعة آالف ،معهم ثالثمائة فرس ،وألف وخمسمائة بعير .وتجهزت غطفان
يرأسهم ُعَي ْيَنةُبن ِحصن الذي جازى إحسان رسول اهلل كفراً ،فإنه كما ّ
قدمنا أقطعه أرضاً يرعى فيها
سوائمه ،حتى إذا سمن خفُّه وحافره ،قام يقود الجيوش لحرب من أنعم عليه ،وكان معه ألف فارس.
مرة يرأسهم الحارثبن عوف المري وهم أربعمائة ،وتجهزت بنو أشجع يرأسهم أبو
وتجهزت بنو ّ
مسعودبن ُر َخيلَةَ ،وتجهزت بنو سليم يرأسهم سفيانبن عبد شمس ،وهم سبعمائة ،وتجهزت بنو أسد
يرأسهم طليحةبن خويلد األسدي ،وعدة الجميع عشرة آالف محارب قائدهم العام أبو سفيان .ولما
بلغه عليه الصالة والسالم أخبار هاتِه التجهيزات ،استشار أصحابه فيما يصنع أيمكث بالمدينة أم
الجرار؟ فأشار عليه سلمان الفارسي بعمل الخندق وهو عمل لم تكن العرب
يخرج للقاء هذا الجيش ّ
الحره
تعرفه ،فأمر عليه الصالة والسالم المسلمين بعمله ،وشرعوا في حفره شمالي المدينة من ّ
الحرة الغربية وهذه هي الجهة التي كانت عورة تُؤتى المدينة من قبلها .أما بقية حدودها
الشرقية إلى ّ
فمشتبكة بالبيوت والنخيل ،ال يتمكن العدو من الحرب جهتها ،وقد قاسى المسلمون صعوبات جسيمة
في حفر الخندق ،ألنهم لم يكونوا في سعة من العيش حتى يتيسر لهم العمل ،وعمل معهم عليه الصالة
والسالم ،فكان ينقل التراب متمثالً بشعر ابن رواحة:
األقدام إن القيناوالمشركون قد تصد ْقنا وال صلّينافَ َْأن ِزلَن سكينةً عليناوثب ِ
ِّت اللهم لوال أنت ما اهتديناوال َّ
َّ
َ ْ
َب َغوا عليناوإ ن أرادوا فتنةً أبينا وأقام الجيش في الجهة الشرقية مسنداً ظهره إلى َسْلع وهو جبل مطل
وعدتهم ثالثة آالف ،وكان لواء المهاجرين مع زيدبن حارثة ،ولواء األنصار مع سعدبن
على المدينة ّ
ُأحد .وكان المشركون معجبين بم ْجمع األسيال ،وأما غطفان فنزلت جهة ُ
عبادة .أما قريش فنزلت َ
بمكيدة الخندق التي لم تكن العرب تعرفها ،فصاروا يترامون مع المسلمين بالنبل .ولما طال المطال
عليهم أكره جماعة منهم أفراسهم على اقتحام الخندق ،منهم :عكرمةبن أبي جهل ،وعمروبن َع ْبِد َو َد
وآخرون ،وقد برز عليبن أبي طالب رضي اهلل تعالى عنه لعمروبن عبد ود فقتله وهرب إخوانه،
ورمي سعدبن معاذ رضي اهلل عنه بسهم قطع
وهوى في الخندق نوفلبن عبد اهلل ،فاندقت عنقهُ ،
َأ ْكحله ،وهو شريان الذراع ،واستمرت المناوشة والمراماة بالنبل يوماً كامالً حتى فاتت المسلمين
صالة ذاك اليوم وقضوها بعد ،وجعل عليه الصالة والسالم على الخندق ُحَّراساً حتى ال يقتحمه
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
المشركون بالليل ،وكان يحرس بنفسه ثُلمة فيه مع شدة البرد ،وكان عليه الصالة والسالم يب ّشر
وي ِعدهم الخير.
أصحابه بالنصر والظفر َ
{ما وع َدنا اللَّه ورسولُه ِإالَّ أما المنافقون فقد أظهروا في هذه الشدة ما ُّ
تكنه ضمائرهم حتى قالواُ ُ َ َ ُ َ َ َ َّ :
{و َما ِه َىُغ ُروراً} (األحزاب )12 :وانسحبوا قائلين :إن بيوتنا عورة نخاف أن ُيغير عليها العدو َ
صاحَبه
َ ون ِإالَّ ِف َراراً} (األحزاب )13 :واشتدت الحال بالمسلمين ،فإن هذا الحصار بِ َع ْو َر ٍة ِإن ُي ِر ُ
يد َ
ضيق على فقراء المدينة ،والذي زاد الشدة عليهم ما بلغهم من أن يهود بني قريظة الذين ُيساكنونهم
طب سيد بني النضير
َأخ َ
في المدينة قد انتهزوا هذه الفرصة لنقض العهود ،وسبب ذلك أن ُحَييَّبن ْ
المجلين توجه إلى كعببن أسد القرظي سيد بني قريظة ،وكان له كالشيطان إذ قال لإلنسان اكفر،
فحسَّن له نقض العهد ،ولم يزل به حتى أجابه لقتال المسلمين.
ولما بلغت هذه األخبار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أرسل مسلمةبن أسلم في مائتين ،وزيدبن
العوام يستجلي له ٍ
حارثة في ثالثمائة لحراسة المدينة ،خوفاً على النساء والذراري ،وأرسل الزبيربن ّ
الخبر ،فلما وصلهم وجدهم حانقين ،يظهر على وجوههم الشر ،ونالوا من رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم والمسلمين أمامه ،فرجع وأخبر الرسول بذلك .وهناك اشتد َو َج ُل المسلمين وزلزلوا زلزاالً
شديداً ،ألن العدو جاءهم من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت األبصار وبلغت القلوب الحناجر وظنوا
ص ٍن، ِ
لعَي ْيَنةَبن ح ْ
باهلل الظنون ،وتكلم المنافقون بما َبدا لهم ،فأراد عليه الصالة والسالم أن يرسل ُ
ويصالحه على ثلث ثمار المدينة لينسحب بغطفان ،فأبى األنصار ذلك قائلين :إنهم لم يكونوا ينالون
منا قليالً من ثمارنا ونحن كفار ،أفبعد اإلسالم يشاركوننا فيها؟ وإ ذا أراد اهلل العناية بقوم هيأ لهم
ّ
أسباب الظفر من حيث ال يعلمون .فانظر إلى هذه العناية من اهلل للمتمسكين بدينه القويم .جاء ُنعيمبن
مسعود األشجعي وهو صديق قريش واليهود ومن غطفان ،فقال :يا رسول اهلل إني قد أسلمت وقوميـ
فمرني بأمرك حتى ُأساعدك .فقال« :أنت رجل واحد وماذا عسى أن تفعل؟
ال يعلمون بإسالمي ُ
خدعه». ولكن َخ ِّذل ّ
عنا ما استطعت فإن الحرب ْ
الخدعة في الحرب
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
فخرج من عنده وتوجه إلى بني قريظة الذين نقضوا عهود المسلمين ،فلما رأوه أكرموه لصداقته
عني ،قالوا: ودي لكم وخوفي عليكم ،وإ ني ِّ
محدثكم حديثاً فاكتموه ّ معهم ،فقال :يا بني قريظة تعرفون ّ
نعم ،فقال :لقد رأيتم ما وقع لبني قينقاع والنضير من إجالئهم وأخذ أموالهم وديارهم ،وإ ن قريشاً
وغطفان ليسوا مثلكم فهم إذا رأوا فرصة انتهزوها وإ ال انصرفوا لبالدهم .وأما أنتم فتساكنون الرجل
ـ ـ يريد الرسول ـ ـ وال طاقة لكم بحربه وحدكم ،فأرى أالّ تدخلوا في هذه الحرب حتى تستيقنوا من
قريش وغطفان أنهم لن يتركوكم ويذهبوا إلى بالدهم بأن تأخذوا منهم رهائن سبعين شريفاً منهم،
فاستحسنوا رأيه وأجابوه إلى ذلك.
ودي لكم ،ومحبتي ّإياكم،
ثم قام من عندهم وتوجه إلى قريش فاجتمع برؤسائهم ،وقال :أنتم تعرفون ّ
محدثكم حديثاً فاكتموه عني ،قالوا :نفعل ،فقال لهم :إن بني قريظة قد ندموا على ما فعلوه مع
وإ ني ّ
محمد وخافوا منكم أن ترجعوا وتتركوهم معه فقالوا لهُ :أيرضيك أن نأخذ جمعاً من أشرافهم
وترد جناحنا الذي كسرت ـ ـ يريد بني النضير ـ ـ فرضي بذلك منهم .وها هم مرسلون
ّ ونعطيهم لك،
إليكم فاحذروهم وال تذكروا مما قلت لكم حرفاً.
ثم أتى غطفان فأخبرهم بمثل ما أخبر به قريشاً ،فأرسل أبو سفيان وفداً لقريظة يدعوهم للقتال غداً
صبنا ما أصابنا إال منفأجابواّ :إنا ال يمكننا أن نقاتل في السبت ـ ـ وكان إرساله لهم ليلة السبت ـ ـ ولم ي ِ
ُ
التعدي فيه ،ومع ذلك فال نقاتل حتى تعطونا رهائن منكم حتى ال تتركونا وتذهبوا إلى بالدكم، ّ
فتحققتـ قريش وغطفان كالم ُنعيمبن مسعود ،وتفرقت القلوب فخاف بعضهم بعضاً ،وكان عليه
سريع
َ «اللهم ُم ْن ِز َل الكتاب،
ّ الصالة والسالم قد ابتهل إلى اهلل الذي ال ملجأ إال إليه ودعاه بقوله:
أجاب اهلل دعاءه عليه الصالة والسالم، َ اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم» وقد الحساب اهزم األحزابّ ،
فأرسل على األعداء ريحاً باردة في ليلة مظلمة ،فخاف العرب أن تتفق اليهود مع المسلمين ويهجموا
المدلهمة فأجمعوا أمرهم على الرحيل قبل أن يصبح الصباح .ولما سمع عليه الصالة
َّ عليهم في الليلة
فمن منكم ينظر لنا خبر
بد من حادثَ ،
والسالم الضوضاء في جيش العدو ،قال ألصحابه« :ال ّ
القوم؟» فسكتوا حتى كرر ذلك ثالثاً .وكان فيهم ُحذيفةبن اليمان ،فقال عليه الصالة والسالم« :تسمع
صوتي منذ الليلة وال تجيب» فقال :يا رسول اهلل البرد شديد ،فقال« :اذهب في حاجة رسول اهلل
جلية الخبر،
طلع على ّ
واكشف لنا خبر القوم» فخاطر رضي اهلل عنه بنفسه في خدمة نبيِّه ،حتى ا ّ
وأن األعداء عازمون على الرحلة.
هزيمة األحزاب
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ليتعرف ٌّ
كل منكم أخاه ،وليمسك بيده حذراً وقد بلغ من خوفهم ،أن كان رئيسهم أبو سفيان يقول لهمَّ :
ال بعيره يريد أن يبدأ بالرحيل ،فقال له صفوانبن أميةَّ :إنك
من أن يدخل بينكم عدو ،وقد ح ّل عقَ َ
رئيس القوم فال تتركهم وتمضي،ـ فنزل أبو سفيان وأذن بالرحيل ،وترك خالدبن الوليد في جماعة
تحزب
الغمة التي ّ
ليحموا ظهور المرتحلين حتى ال يدهموا من ورائهم ،وأزاح اهلل عن المسلمين هذه ّ
فيها األحزاب من عرب ويهود على المسلمين ،ولوال لطف اهلل وعنايته بهذا الدين ِمَّنةً منه وفضالً
لساءت الحال.
يسميه نعمة بقوله في سورة األحزاب: وكان جالء األحزاب في ذي القعدة ،وكان حقّاً على اهلل أن ّ
ود فَ َْأر َسْلَنا َعلَْي ِه ْم ِريحاً َو ُجُنوداً لَّ ْم تََر ْو َها
ءامُنوْا ا ْذ ُك ُروْا نِ ْع َمةَ اللَّ ِه َعلَْي ُك ْم ِإ ْذ َجآءتْ ُك ْم ُجُن ٌ
ين َ
َِّ
{ياَأيُّهَا الذ َ
ص ُار َوَبلَ َغ ِت اغ ِت ا ْ
ال ْب َ َأس َف َل ِمن ُك ْم َوِإ ْذ َز َ
ون َبصيراً(ِ )9إ ْذ َجآءو ُك ْم ّمن فَ ْو ِق ُك ْم َو ِم ْن ْ
ِ و َك َّ
ان اللهُ بِ َما تَ ْع َملُ ََ َ
ون َو ُزْل ِزلُوْا ِزْل َزاالً َش ِديداً(َ )11وِإ ْذ ِ ِ ُّ
ون ْا(ُ )10هَنال َك ْابتُل َى اْل ُمْؤ ِمُن َ ون بِاللَّ ِه الظُن َ اج َر َوتَظُُّن َ وب اْل َحَن ِاْل ُقلُ ُ
ض َّما َو َع َدَنا اللَّهُ َو َر ُسولُهُ ِإالَّ ُغ ُروراً(َ )12وِإ ْذ قَالَت طَّآِئفَةٌ ّم ْنهُ ْم ين ِفى ُقلُوبِ ِهم َّم َر ٌ َِّ
ون َوالذ َ
ِ
َيقُو ُل اْل ُمَنافقُ َ
ون ِإ َّن ُبُيوتََنا َع ْو َرةٌ َو َما ِه َى بِ َع ْو َر ٍة
النبِ َّى َيقُولُ َ
يق ّم ْنهُ ُم َّام لَ ُك ْم فَ ْار ِج ُعوْا َوَي ْستَ ِْأذ ُن فَ ِر ٌب الَ ُمقَ َ .يثْ ِر َياَأه َل َ
ْ
ون ِإالَّ ِف َراراً()13 يد َ ِإن ُي ِر ُ
ولما رجع عليه الصالة والسالم بأصحابه ،وأراد أن يخلع لباس الحرب ،أمره اهلل باللحوق ببني
قريظة ،حتى يطهِّر أرضه من قوم لم تعد تنفع معهم العهود ،وال تربطهم المواثيق ،وال يأمن
صلَِّي َّن أحد منكم العصر إال في بني قريظة» فساروا
المسلمون جانبهم في شدة ،فقال ألصحابه« :ال ُي َ
مسرعين ،وتبعهم عليه الصالة والسالم راكباً على حماره ،ولواؤه بيد عليبن أبي طالب ،وخليفته
على المدينة عبد اهلل ابن أم مكتوم ،وكان عدد المسلمين ثالثة آالف ،وقد أدرك جماعة من األصحاب
صالة العصر في الطريق فصالّها بعضهم حاملين أمر الرسول بعدم صالتها على قصد السرعة،
ولم يصلِّها اآلخرون إال في بني قريظة بعد مضي وقتها حاملين األمر على حقيقته فلم ُي ِّ
عنف فريقاً
منهم.
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
سيدكم
ولما أقبل على الرسول وأصحابه وهم جلوس ،قال عليه الصالة والسالم« :قوموا إلى ّ
فأنزلوه» ،ففعلوا ،وقالوا له :إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد والّك أمر مواليك لتحكم فيهم.
وقال له الرسول« :احكم فيهم يا سعد» .فالتفت سعد للناحية التي ليس فيها رسول اهلل وقال :عليكم
عهد اهلل وميثاقه أن الحكم كما حكمت؟ فقالوا :نعم ،فالتفت إلى الجهة التي فيها الرسول وقال :وعلى
ُ
ٌّ
غاض طرفه إجالالً ،فقالوا :نعم ،فقال :فإني أحكم أن تقتلوا الرجال ،وتسبوا َم ْن هنا كذلك؟ وهو
حكمت فيهم بحكم اهلل يا سعد» ألن هذا جزاء الخائن
َ النساء والذرية ،فقال عليه الصالة والسالم« :لقد
الغادر .ثم أمر بتنفيذ الحكم فنفذ عليهم ،وجمعت غنائمهم ،فكانت ألفاً وخمسمائة سيف ،وثالثمائة
ِ
نواض َح ،وشياهاً، وح َجفَ ٍة ،ووجد أثاثاً كثيراً ،وآنية ،وَأجماالً
درع ،وألفي رمح ،وخمسمائة ترس َ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
فخمس ذلك كله مع النخل والسبي للراجل ثلث الفارس ،وأعطى النساء الالتي ُيمرضن الجرحى،
َّ
ووجد في الغنيمة ِجرار خمر فُأريقت .وبعد تمام هذا األمر انفجر جرح سعدبن معاذ فمات رضي اهلل
عنه وأرضاه .كان في األنصار كأبي بكر في المهاجرين .وقد كان له العزم الثابت في جميع المشاهد
التي تقدمت الخندق ،وكان عليه الصالة والسالم يحبه كثيراً وب ّشره بالجنة على عظيم أعماله.
اعتََرفُوْا بِ ُذُنوبِ ِه ْم َخلَطُوْا
ون ْ
ءاخ ُر َ
وعقب رجوع المسلمين إلى المدينة تاب اهلل على أبي لُبابة بقولهَ :و َ
ِ َّ َّ ص ِالحاً َو َ
يم()102 وب َعلَْي ِه ْم ِإ َّن اللهَ َغفُ ٌ
ور َّرح ٌ ءاخ َر َسّيئاً َع َسى اللهُ َأن َيتُ َ َع َمالً َ
يبق
وبتمام هذه الغزوة أراح اهلل المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة ،ولم َ
إال بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها وهم الذين كانوا السبب في إثارة األحزاب .وسيأتي للقارىء
قريباً اليوم الذي يعاقبون فيه.
الواجب عليه فراقها ،فتوجه وأخبر الرسول بعزمه فنهاه عن ذلك ...إلخ .وهذا مما يكذبه أن نساء
العرب لم تكن قبل ذلك تعرف ستر الوجوه ،وزينب بنت عمته أسلمت قديماً ورسول اهلل بمكة ،فكيف
لم يرها ،وقد مضى على إسالمها نحو عشر سنوات وهي بنت عمته ،إال حينما رفعت الريح الستر
مصادفة ،ورسول اهلل هو الذي زوجها زيداً؟ فلو كان له فيها رغبة حب أو عشق لتزوجها هو وال
منا يتصور السيد األكرم يقول لقومه إنه مرسل من ربه ،ويتلو عليهم مانع يمنعه من ذلك .ومن ّ
ِ ِ
صباح مساء أمر اهلل له بقوله في سورة الح ْج ِر المكية :الَ تَ ُم َّد َّن َع ْيَن ْي َك ِإلَى َما َمتَّ ْعَنا بِه َْأز َو ً
اجا ّم ْنهُ ْم}
{والَ تَ ُم َّد َّن َع ْيَن ْي َك ِإلَى َما َمتَّ ْعَنا بِ ِه َْأزواجاً ّم ْنهُ ْم َز ْه َرةَ
(الحجر .)88 :وفي سورة طه المكية أيضاًَ :
الد ْنَيا} (طه .)131 :ثم هو بعد ذلك يدخل بيت رجل من متَّبعيه ،وينظر إلى زوجه مصادفة ثم اْل ِ
حياة ُّ
يشتهي زواجها؟ إن هذا ألمر عظيم تشعر بذلك صدورنا .ولو حدث أمر مثل ذلك من أقل الناس
لعيب عليه ،فكيف بمن اجتمعت كلمة المؤرخين على أنه أحسن الناس ُخلُقاً ،وأبعدهم عن الدنايا،
ق َع ِظ ٍيم(َ )4وِإ ْذ تَقُو ُل ِللَِّذى وأشدهم ذكاء وفراسة حتى مدحه اهلل بقوله في سورة ن{ :وِإ َّن َك لَ َعلَى ُخلُ ٍ
َ ّ
يه َوتَ ْخ َشى ق اللَّه وتُ ْخِفى ِفى نِ ْف ِس َك ما اللَّه م ْب ِد ِ َأم ِس ْك َعلَْي َك َز ْو َج َك واتَّ ِ َأنعم اللَّه علَْي ِه و َْأنعم َ ِ
َ ُُ ََ َ ت َعلَْيه ْ ََ ُ َ َ َ ْ
ون َعلَى ِ َأح ُّ َّ َّ
طراً َز َّو ْجَنا َكهَا ل َك ْى الَ َي ُك َ ضى َز ْي ٌد ّم ْنهَا َو َق َأن تَ ْخ َشاهُ َفلَ َّما قَ َ اس َواللهُ َ
الن َ
الحجاب
وفيه نزلت آية الحجاب وهو خاص بنساء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وكان عمربن الخطاب
َّ
رأتكن طاع فيكن ما ويود أن ينزل فيه قرآن ،وكان يقول :لو ُأ َ يحبه ويذكره كثيراًّ ، قبل نزول آيته ّ
اب ِ وه َّن ِمن ورآء ِح َج ٍ
طهَ ُر
ذال ُك ْم َأ ْ ََ وه َّن َمتَاعاً فَ ْ
اسَئ لُ ُ {وِإ َذا َسَأْلتُ ُم ُ
عين ،فنزل في سورة األحزابَ :
ِ
عمنا إال من وراء حجاب؟ لئن ل ُقلُوبِ ُك ْم َو ُقلُوبِ ِه َّن} (األحزاب .)53 :فقال بعضهمَُ :أن ْنهى أن نكلم بنات ّ
ول اللَّ ِه َوالَ َأن
ان لَ ُك ْم َأن تْؤ ُذوْا َر ُس َ
{و َما َك َ
مات محمد ألتزوجن عائشة فنزل بعد اآلية المتقدمةَ :
ند اللَّ ِه َع ِظيماً} (األحزاب .)53 :أما غير أزواجه عليه ان ِع َ ِ ِِ نكحوْا َْأزو ِ
اجهُ من َب ْعده ََأبداً ِإ َّن ذال ُك ْم َك َ
َ َ
ِ
تَ ُ
بغض األبصار ،وحفظ الفروج ،كما أمر بذلك الرجال ،وُأمرن الصالة والسالم من المؤمنات ،فأمرن ّ
زينتهن لألجانب إال ما ظهر منها كالخاتم في اإلصبع ،والخضاب في اليد ،والكحل في ّ أالّ يبدين
والدملُج للعضد ،والخلخال للرجلِ ،
والقالدة العين ،أما ما َخفي منها فال يح ّل إبداؤه كالسوار للذراعْ ُّ ،
للعنق ،واإلكليل للرأس ،والوشاح للصدر ،والقرط لألذن .والمراد بالزينة الظاهرة والخفية
َّ
صدورهن مكشوفة ،فإن النساء بخمرهن على الجيوب كيال تبقى
ّ موضعها ،وُأمرن أيضاً بأن يضربن
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
عمن يريد خطبتها فهو أمر لم يكن ُيفعل في عهد الرسول صلى اهلل عليه وسلم وال ب المرأة ّ
أما َح ْج ُ
سن ذلك ليكون الرجل على علم مما ُي ِقدم عليه ،حتى يتمفي عهد السلف الصالح ،فإن ال ّشارع الحكيم ّ
الوفاق والوئام بين الزوجين في أمر أجمع عليه أئمة الدين.
استحب
ّ قال حجة اإلسالم الغزالي في «اإلحياء» :وقد ندب الشرع إلى مراعاة أسباب األلفة ولذلك
النظر ،فقال« :إذا أوقع اهلل في نفس أحدكم من امرأة ،فلينظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما» ـ ـ أي:
اَألدمة ،وهي الجلدة الباطنة ،والبشرة :الجلدة الظاهرة ،وإ نما
اَألد َمة على َ
يؤلف بينهما ـ ـ من وقوع َ
ذكر ذلك للمبالغة في االئتالف ،وقال عليه الصالة والسالم« :إن في أعين األنصار شيئاً فِإذا أراد
َّ
أعينهن عمش .وقيل :صغر .وكان بعض إليهن» قيل :كان في
منهن فلينظر ّأحدكم أن يتزوج ّ
الصالحين ال ينكحون كرائمهم إال بعد النظر احترازاً من الغرور ،وقال األعمش :كل تزويج يقع
على غير نظر فآخره هم وغم.
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وال يبعد أن يكون فساد الزمن واالبتعاد عن التربية الدينية التي تسوق إلى مكارم األخالق قد َحسَّنا
ود ْرءاً للفتنة.
عند عامة المسلمين في العصور األولى حجب المرأة مطلقاً حسماً للمفاسد َ
فرض الحج
وفي هذا العام ـ ـ على ما عليه األكثرون ـ ـ فرض اهلل على األمة اإلسالمية حج البيت من استطاع إليه
ويعينهم
سبيالً ،ليجتمع المسلمون من جميع األقطار ،فيتجهوا إلى اهلل ويبتهلوا إليه أن يؤيدهم بنصره ُ
على اتباع دينه القويم .وفي ذلك من تقوية الرابطة واتحاد القلوب ما فيه للمسلمين الفائدة العظمى.
َّادسة
السَّنة الس َ
سرية
ولعشر خلون من محرم السنة السادسة ،أرسل عليه الصالة والسالم محمدبن َمسلمة في ثالثين راكباً
ض ِريَّة ،فسار إليهم يكمن النهار ويسير
لشن الغارة على بني بكربن كالب الذين كانوا نازلين بناحية َ
الليل حتى دهمهم فقتل منهم عشرة ،وهرب باقيهم ،فاستاقت السرية َّ
الن َع َم والشياه ،وعادوا راجعين
إلى المدينة ،وقد التقوا وهو عائدون بثُمامةبن ُأثال الحنفي ،من عظماء بني حنيفة ،فأسروه وهم ال
يعرفونه ،فلما أتَوا به رسول اهلل عرفه وعامله بمنتهى مكارم األخالق ،فإنه أطلق إساره بعد ثالث
أبي فيها االنقياد لإلسالم بعد أن عرض عليه .ولما رأى ثمامة هذه المعاملة ،وهذه المكارم ،رأى من
العبث أن يتبع هواه ويترك ديناً عماده المحامد ،فرجع إلى رسول اهلل وأسلم غير مكره وخاطب
إلي من وجهك ،فقد أصبح وجهك
الرسول بقوله :يا محمد واهلل ما كان على األرض من وجه أبغض ّ
فسر
إليّ %. أحب البالد ّ
إلي من بلدك ،فقد أصبح ّ إلي .واهلل ما كان من بلد أبغض ّأحب الدين كله ّ
ّ
عليه الصالة والسالم كثيراً بإسالمه ألن من ورائه قوماً يطيعونه .ولما رجع ثُمامة إلى بالده َم َّر
بمكة معتمراً وأظهر فيها إسالمه ،فأرادت قريش إيذاءه ،فذكروا احتياجهم لحبوب اليمامة التي منها
ثُمامة فتركوه ،ومع ذلك فقد حلف هو أال يرسل إليهم من اليمامة حبوباً حتى يؤمنوا ،فجهدوا جداً،
بداً من االستغاثة برسول اهلل ،فعاملهم عليه الصالة والسالم بما ُجبِل عليه من الشفقة
ولم َيروا ّ
والمرحمة ،وأرسل لثمامة أن ُيعيد عليهم ما كان يأتيهم من أقوات اليمامة ففعل .وقد كان لهذا الرجل
الكريم األصل قدم راسخة في اِإل سالم عقب وفاة الرسول حينما ّ
ارتد أكثر أهل بالده ،فكان ينهى
قومه عن اتباع ُمسيلمة ،ويقولـ لهم :إياكم وأمراً مظلماً ال نور فيه ،وإ نه لشقاء كتبه اهلل على من
اتبعه ،فثبت معه كثير من قومه رضي اهلل عنه.
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
بنو لحيان هم الذين قتلوا عاصمبن ثابت وإ خوانه ،ولم يزل رسول اهلل حزيناً عليهم متشوقاً للقصاص
من عدوهم حتى ربيع األول من هذه السنة ،فأمر أصحابه بالتجهّز ،ولم ُيظهر مقصده كما هي عادته
عليه الصالة والسالم في غالب الغزوات ،لتعمى األخبار عن األعداء ،وولى على المدينة ابن ُأم
مكتوم ،وسار في مائتي راكب معهم عشرون فرساً ،ولم يزل سائراً حتى مقتل أصحاب الرجيع،
فترحم عليهم ودعا لهم ،ولما سمع به بنو لحيان تفرقوا في الجبال ،فأقام عليه الصالة والسالم
بديارهم يومين يبعث السرايا فال يجدون أحداً ،ثم أرسل بعضاً من أصحابه ليأتوا ُع ْسفَان حتى يعلم
بهم أهل مكة فُيداخلهم الرعب ،فذهبوا إلى ُك َراع الغميم ،ثم رجع عليه الصالة والسالم إلى المدينة،
وهو يقول:ـ «آيبون ،تائبون ،لربنا حامدون ،أعوذ باهلل من وعثاء السفر ،وكآبة المنقلب ،وسوء
المنظر في األهل والمال».
غزوة الغابة
كان للنبي عليه الصالة والسالم عشرون ِل ْق َحة ترعى بالغابة ،فأغار عليها ُعيينةبن حصن في أربعين
فارساً واستلبها من راعيها ،فجاءت األخبار رسول اهلل عليه الصالة والسالم ،والذي بلَّغه هو َسلَ َمةُبن
اء فأمره الرسول بأن يخرج في أثر القوم ليشغلهم بالنبل حتى األكوع ،أحد رماة األنصار ،وكان َع ّد ً
وجهت الخيل نحوه
يدركهم المسلمون ،فخرج يشتد في أثرهم حتى لحقهم ،وجعل يرميهم بالنبل ،فإذا ّ
رجع هارباً ،فال ُيلحق ،فإذا دخلت الخيل بعض المضايق عال الجبل ،فرمى عليها الحجارة حتى ألقوا
كثيراً مما بأيديهم من الرماح واألبراد ليخفّفوا عن أنفسهم ،حتى ال يلحقهم الجيش ،ولم يزل سلمة
على ذلك حتى تالحق به الجيش ،فإن الرسول دعا أصحابه فأجابوه ،وأول من انتهى إليه المقدادبن
عمرو ،فقال له« :اخرج في طلب القوم حتى ألحقك» وأعطاه اللواء فخرج ،وتبعته الفرسان حتى
غالب
َ أدركوا أواخر العدو ،فحصلت بينهم مناوشات قتل فيها مسلم ومشركان ،واستنقذ المسلمون
اللقاح ،وهرب أوائل القوم بالبقية ،وطلب سلمةبن األكوعـ من رسول اهلل أن يرسله مع جماعة في أثر
ت
«ملَ ْك َ
غرة ،وهم نازلون على أحد مياههم ،فقال له عليه الصالة والسالمَ :
القوم ،ليأخذهم على ّ
َأس ِج ْح» ثم رجع بعد خمس ليال.
فَ ْ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
سرية
يمر بهم من المسلمين ،فأرسل لهم عليه الصالةكان بنو أسد الذين َم ّر ذكرهم كثيراً ما يؤذون َم ْن ّ
صن في أربعين راكباً ُليغير عليهم ،ولما قارب بالدهم علموا به فهربوا ،وهناك ِ َّ
والسالم ُعكاشةبن م ْح َ
فأمنوه ليدلّهم على َن َعم القوم ،فدلّهم عليها فاستاقوها ،وكانت مائة بعير ثم قدموا
وجدوا رجالً نائماً ّ
المدينة ولم يلقوا كيداً.
سرية
زيدبن حارثة في خمسة عشر رجالً ،لإلغارة على وفي جمادى اآلخرة أرسل عليه الصالة والسالم َ
ف .فتوجهت السرية لذلك ،ولمابني ثعلبة ،الذين قتلوا أصحاب محمدبن مسلمة وهم مقيمون بالطَّر ِ
َ
رآهم األعداء ظنوهم طليعة لجيش رسول اهلل ،فهربوا وتركوا َن َعمهم وشاءهم ،فاستاقها المسلمون
ورجعوا إلى المدينة بعد أربع ٍ
ليال.
سرية
غير على بني فََزارة ألنهم تعرضوا لزيد
زيدبن حارثةُ ،لي َ
وفي رجب أرسل عليه الصالة والسالم َ
وهو راجع بتجارة من الشام ،فسلبوا ما معه ،وكادوا يقتلونه ،فلما جاء المدينة ،وأخبر الرسول الخبر،
أرسله مع رجاله للقصاص من فَزارة المقيمين في وادي القُرى .فساروا حتى دهموا العدو وأحاطوا
ممن
بهم ،وقتلوا منهم جمعاً كثيراً ،وأخذوا امرأة من كبارهم أسيرة ،فاستوهبها عليه الصالة والسالم ّ
أسرها وفدى بها أسيراً كان بمكة.
سرية
وفي شعبان أرسل عليه الصالة والسالم عبد الرحمانبن عوف مع سبعمائة من الصحابة لغزو بني
وصاهم عليه الصالة والسالم قبل السفر بقوله« :اغزوا جميعاً في سبيل الج ْندل ،وقد ّ كلب في ُدومة َ
اهلل ،فقاتلوا من كفر باهلل ،وال تَ ُغلُّوا وال تغدروا وال تمثِّلوا ،وال تقتلوا وليداً ،فهذا عهد اهلل وسيرة ّ
نبيه
فيكم» ثم أعطاه اللواء فساروا على بركة اهلل حتى حلّوا بديار العدو ،فدعوهم إلى اإلسالم ثالثة أيام،
اَألصَبغبن عمرو النصراني ،وأسلم معه جمع من قومه ،وبقيـ
ْ وفي اليوم الرابع أسلم رئيس القوم
آخرون راضين بإعطاء الجزية ،فتزوج عبد الرحمان بنت رئيسهم ،كما أمره بذلك عليه الصالة
يهم اآلخر ،فنِعما هي ًّ
يهم كال ما ّ
الود بين األمراء بحيث ّ
والسالم ،وهذه أقرب واسطة لتمكين صالت ّ
سياسة السلم والمحبة.
سرية
وفي شعبان أرسل عليه الصالة والسالم عليبن أبي طالب في مائة لغزو بني سعدبن بكر بفَ َدك ألنه
طونه من تمر
بلغه أنهم يجمعون الجيوش لمساعدة يهود خيبر على حرب المسلمين مقابل تمر ُيع َ
للعدو ،وكانوا قد أرسلوه إلى خيبر ليعقد
خيبر ،فسارت السرية ،وبينما هم سائرون التقوا بجاسوس ّ
آمن ،فدلهم على موضعهم ،فاستاق منه
المعاهدة مع يهودها ،فطلبوا منه أن يدلّهم على القوم وهو ٌ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
الحقيق الملقب
المحرك ألهل خيبر على حرب المسلمين ،وهو سيدهم ،أبو رافع َسالّمبن أبي ُ ّ وكان
قلوب اليهود
َ بتاجر أهل الحجاز ،لما كان له من المهارة في التجارة ،وكان ذا ثروة طائلة ُي َقلِّ ُ
ب بها
كما يريد ،فانتدب له عليه الصالة والسالم َم ْن يقتله ،فأجاب لذلك خمسة رجال من الخزرج رئيسهم
كعببن األشرف ،فإن من نِعم ِ
عبد اللهبن َعت ْيك ،ليكون لهم مثل أجر إخوانهم من األوس الذين قتلوا َ
اهلل على رسوله أن كان األوس والخزرج يتفاخرون بما يفعلونه من تنفيذ رغبات رسول اهلل ،فال
الخزرج في مثله ،فأمرهم الرسول بذلك بعد أن وصَّاهم أالّ يقتلوا وليداً
ُ األوس عمالً إال اجتهد
ُ تعمل
للبواب ومتلطِّف له منطلق ّ
ٌ مكانكم ،فإني
وال امرأة ،فساروا حتى أتوا خيبر ،فقال عبد اهلل ألصحابهَ :
تقنع بثوب كأنه يقضي حاجته ،وقد دخل الناس ،فهتف به لعلّي أدخل ،فأقبل حتى دنا من الباب ،ثم َّ
البواب :ادخل يا عبد اهلل إن كنت تريد الدخول ،فإني ُأريد أن ُأغلق الباب ،فدخل و َك َمن حتى نام
ّ
البواب ،فأخذ المفاتيح ،وفتح ليسهُل له الهرب ،ثم توجه إلى بيت أبي رافع ،وصار يفتح األبواب التي َّ
تُوصل إليه ،وكلما فتح باباً أغلقه من الداخل حتى انتهى إليه ،فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله ،فلم
يمكنه تمييزه ،فنادى يا أبا رافع قال :من؟ فأهوى بالسيف نحو الصوت فلم يغن شيئاً ،وعند ذلك قالت
ُأم ِك وأين ابن عتيك اآلن؟ فعاد عبد اهلل للنداء ُمغيِّراً
امرأته :هذا صوت ابن عتيك ،فقال لها :ثكلتك ُّ
صوته ،قائالً :ما هذا الصوت الذي نسمعه يا أبا رافع؟ قال :ألمك الويل ،إن رجالً في البيت ضربني
وغيَّر صوته ،فوجده
كالمغيث َ بالسيف ،فعمد إليه فضربه أخرى لم تُ ِ
غن شيئاً ،فتوارى ثم جاءه ُ
مستلقياً على ظهره ،فوضع السيف في بطنه ،وتحامل عليه حتى سمع صوت العظم ،ثم خرج من
فعصبها بعمامته ،ثم انطلق إلى البيت ،وكان نظره ضعيفاً فوقع من فوق َّ
السلم فكسرت رجلهَ ،
ُ
أصحابه ،وقال :النجاة ،قتِل
فحدثوه ثم قال لعبد اهلل« :ابسط رجلك» فمسحها عْليه الصالة واهلل أبو رافع ،فانتهوا إلى الرسولَّ ،
والسالم فكأنه لم يشتَ ِكها ق ّ
ط ،وعادت أحسن ما كانت فانظر ـ ـ رعاك اهلل ـ ـ إلى ما كان عليه المسلمون
من استسهال المصاعب ما دامت في إرضاء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فرضي اهلل عنهم
وأرضاهم.
سرية
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وع َر ْيَنة
قصة ُع ْكل ُ
سرية
جلس أبو سفيانبن حرب يوماً في نادي قومه ،فقال :أال رجل يذهب لمحمد فيقتله غدراً فإنه يمشي
لنستريح منه؟ فتقدم له رجل وتعهد له بما أراد ،فأعطاه راحلةً ونفقةً وجهّزه لذلك .فخرج
َ باألسواق
ٍ
سادسة من خروجه ،فسأل عن رسول اهلل فَ ُد َّل عليه وهو بمسجد ص ْب َح
الرجل حتى وصل إلى المدينة ُ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
بني عبد األشهل ،فلما رآه عليه الصالة والسالم قال« :إن هذا الرجل ليريد غدراً ،وإ ن اهلل مانعي
منه» فذهب لينحني على الرسول ،فجذبه ُأسيدبن حضير من إزاره ،وهنالك سقط الخنجر ،فندم
الرج ُل على فعلته ،ثم سأله عليه الصالة والسالم عن سبب عمله فصدقه بعد أن توثّق من حفظ دمه،
َأن
أخاف الرجال ،فما هو إال ْ
ُ فخلّى عليه الصالة والسالم سبيله .فقال الرجل :واهلل يا محمد ما كنت
فعرفت أنك
ُ ممت به مما لم يعلمه أحد،
طلعت على ما َه ُ رأيتك فذهب عقلي وضعفت نفسي ،ثم إنك ا ّ
حزب الشيطان ،ثم أسلم .وعند ذلك أرسل عليه
ُ ممنوع ،وأنك على حق ،وأن حزب أبي سفيان
َّم ِري ،وكان رجالً جريئاً فاتكاً في الجاهلية ،وأصحبه برفيق،
الصالة والسالم عمروبن أمية الض ْ
ليقتال أبا سفيان غيلة جزاء اعتدائه ،فلما قدما مكة توجها ليطوفا بالبيت قبل أن يؤديا ما أرسال له،
ُأمية ما جاء إال بشر ،فلما رآهم علموا به لم يجد
أحد رجال مكة ،فقال :هذا عمروبن ّ
فعرف َع ْمراً ُ
مناصاً من الهرب ،فاصطحب معه رفيقه ،ورجعا إلى المدينةَّ ،
وكَأن اهلل سبحانه أراد أن يعيش أبو
مفاتيح الكعبة للمسلمين ،ويعتنق الدين الحنيفي القويم.
َ سفيان حتى ُي َسلِّ َم بيده
الح َد ْي َبية
غزوة ُ
رؤوسهم
َ رأى عليه الصالة والسالم في نومه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلِّقين
ومقصرين ،فأخبر المسلمين أنه يريد العمرة ،واستنفر األعراب الذين حول المدينة ليكونوا معه،
ِّ
تردهم قريش عن عمرتهم ،ولكن هؤالء األعراب أبطؤوا عليه ألنهم ظنوا أالّ ينقلب حذراً من أن ّ
الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً ،وتخلَّصوا بأن قالوا :شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا ،فخرج
عدتهم ألفاً وخمسمائة ،وولى على
عليه الصالة والسالم بمن معه من المهاجرين واألنصار تبلغ ّ
ي ليعلم الناس أنه لم يأت محارباً ،ولم
المدينة ابن ُأم مكتوم ،وأخرج معه زوجه أم سلمة ،وأخرج الهَ ْد َ
يرض أن يحملوا السيوف
َ يكن مع أصحابه شيء من السالح إال السيوف في القُُرب ،ألن الرسول لم
مجردة وهم معتمرون ،ثم سار الجيش حتى وصل ُع ْسفان فجاءه عينه يخبره أن قريشاً أجمعت رأيها
وأعدوا خالدبن الوليد
ّ يصدوا المسلمين عن مكة وأالّ يدخلوها عليهم َع ْنوةً أبداً .وتجهزوا للحرب،
أن ّ
ليصدوا المسلمين عن التقدم ،فقال عليه الصالة والسالم« :هل من رجل
ّ في مائتي فارس طليعة لهم
يأخذ بنا على غير طريقهم؟» فقال رجل من أسلم :أنا يا رسول اهلل .فسار بهم في طريق وعرة ،ثم
خرج بهم إلى ٍ
مستو سهل يملك مكة من أسفلها ،فلما رأى خالد ما فعل المسلمون رجع إلى قريش
الم َرار بركت ناقته .فزجروها فلم تقم ،فقالوا:
بثنية ُ
وأخبرهم الخبر .ولما كان عليه الصالة والسالم ّ
حابس بخلق ،ولكن حبسهاص َواء ،فقال عليه الصالة والسالم« :ما خألت وما ذلك لها ُ ِ
ُ خَألت القَ ْ
تعظيم حرمات اهلل إال أجبتهم إليها» مع صلَة فيها ِ
ُ نفس محمد بيده ال تدعوني قريش ل َخ ْ
الفيل .والذي ُ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أن المسلمين لو قاتلوا أعداءهم في مثل هذا الوقت لظفروا بهم ،ولكن َك َّ
ف اهلل أيدي المسلمين عن
قريش ،و َك َّ
ف أيدي قريش عن المسلمين كيال تُنتهك ُحرمات البيت الذي أراد اهلل أن يكون حرماً آمناً،
دعائم أخوتهم
َ ويوطد المسلمون من جميع األقطار
الخزاعي
فيه .ثم أمرهم عليه الصالة والسالم بالنزول أقصى الحديبية وهناك جاء ُب َديلبن َو ْرقَاء ُ
رسوالً من قريش ،يسأل عن سبب مجيء المسلمين ،فأخبره عليه الصالة والسالم بمقصده ،فلما رجع
ُبديل إلى قريش وأخبرهم بذلك ،لم يثقوا به ألنه من خزاعة الموالية لرسول اهلل كما كانت كذلك
محمد أن يدخل علينا في جنوده معتمراً تسمع العرب أنه قد دخل علينا عنوة،
ٌ ألجداده ،وقالوا :أيريد
طرف .ثم أرسلوا ُحلَْي َسبن علقمة وبيننا وبينهم من الحرب ما بيننا؟ واهلل ال كان هذا أبداً ومنا َع ْين تَ ْ
الهدي،
ظمون ْ َسيِّد األحابيش وهم حلفاء قريش ،فلما رآه عليه الصالة والسالم قال« :هذا ِم ْن قوم يع ّ
ابعثوه في وجهه حتى يراه» ،ففعلوا ،واستقبله الناس ُيلَبُّون ،فلما رأى ذلك ُحلَْيس رجع ،وقال:
ويمنع عن البيت ابن عبد المطلب؟ ُّ
أتحج لخم وجذام وحميرُ ، ص ُّدوا.
سبحان اهلل ما ينبغي لهؤالء أن ُي َ
ِّ
ورب البيت إن القوم َأتَوا معتمرين. هل ْكت قريش،
يمس لحية رسول اهلل ،فكان المغيرةبن شعبة يقرع يده إذا أراد ذلك ،ثم رجع
وكان عروة يتكلم وهو ّ
وضوءاً إال كادوا يقتتلون عليه يتمسحون به،
عروة وقد رأى ما يصنع بالرسول أصحابه ،ال يتوضأ ُ
جئت كسرى وإ ذا تكلموا َخفَضوا أصواتهم عنده ،وال ُي ِح ُّدون النظر إليه .فقال :واهلل يا معشر قريش ُ
رأيت َمِلكاً في قومه مثل محمد في أصحابه ،ولقد رأيت قوماً ال
ُ وقيصر في عظمته ،فما
َ في ملكه
ُيسلمونه لشيء أبداً ،فانظروا رأيكم ،فإنه عرض عليكم رشداً فاقبلوا ما عرض عليكم ،فإني لكم
نرده عامنا ويرجع إلى ناصح ،مع أني أخاف أال تنصروا عليه .فقالت قريش :ال تتكلم بهذا ،ولكن ّ
قابل .ثم إن الرسول اختار عثمانبن عفان رسوالً من عنده إلى قريش حتى يعلمهم م ْق ِ
صده ،فتوجَّه َ
وتوجَّه معه عشرة استأذنوا الرسول في زيارة أقاربهم ،وأمر عليه الصالة والسالم عثمان أن يأتي
وأن اللّه ُم ِظهر دينه ،فدخل عثمان مكة في
المستضعفين من المؤمنين بمكة فيبشرهم بقرب الفتح َّ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
جوار َأبانبن سعيد األموي فََبلَّغ ما حمل ،فقالوا :إن محمداً ال يدخلها علينا َع ْنوة أبداً .ثم طلبوا منه أن
فشاع عند المسلمين أن عثمان
َ يطوف بالبيت ،فقال :ال أطوف ورسول اهلل ممنوع ،ثم إنهم حبسوه،
قُتِ َل ،فقال عليه الصالة والسالم حينما سمع ذلك« :ال نبرح حتى ُنناجزهم الحرب».
بيعة الرضوان
الناس للبيعة على القتال فبايعوه تحت شجرة هناك ـ ـ سميت بعد بشجرة الرضوان ـ ـ على
ودعا َ
فشاع أمر هذه البيعة في قريش فداخلهم منها رعب عظيم ،وكانوا قد أرسلوا خمسين رجالً
َ الموت،
مكرزبن حفص ليطوفوا بعسكر المسلمين لعلهم يصيبون منهم ِغ َّرة ،فأسرهم حارس الجيش
ُ عليهم
محمدبن مسلمة وهرب رئيسهم ،ولما علمت بذلك قريش جاء جمع منهم وابتدؤوا يناوشون المسلمين
حتى أسر منهم اثنا عشر رجالً وقُتل من المسلمين واحد.
الح َديبية
صلح ُ
بن َع ْمرو للمكالمة في الصلح ،فلما جاء قال :يا محمد إن
وعند ذلك خافت قريش وأرسلت سهيل َ
منا فابعث بمن أسرت ،فقال :حتى ترسلوا
الذي حصل ليس من رأي عقالئنا بل شيء قام به السفهاء ّ
ٍ
وعندئذ أرسلوا عثمان والعشرة الذين معه ،ثم عرض سهيل الشروط التي تريدها قريش َم ْن عندكم.
وهي:
1ـ ـ وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنوات.
برده.
يردونه ،ومن جاء قريشاً من المسلمين ال يلزمون ّ
2ـ ـ من جاء المسلمين من قريش ّ
3ـ ـ أن يرجع النبي من غير عمرة هذا العام ،ثم يأتي العام المقبل فيدخلها بأصحابه بعد أن تخرج
منها قريش ،فيقيم بها ثالثة أيام ليس مع أصحابه من السالح إال السيف في القراب والقوس.
4ـ ـ من أراد أن يدخل في عهد محمد من غير قريش دخل فيه ،ومن أراد أن يدخل في عهد قريش
دخل فيه.
فقبل عليه الصالة والسالم كل هذه الشروط .أما المسلمون فداخلهم منها أمر عظيم وقالوا :سبحان
اهلل كيف َن ُر ُّد إليهم من جاءنا مسلماً ،وال ّ
يردون َم ْن جاءهم ُم ْرتداً؟ فقال عليه الصالة والسالم« :إنه
منا إليهم فأبعده اهلل ،ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم فسيجعل اهلل له فرجاً ومخرجاً»Y.
من ذهب ّ
أما األمر الثالث :وهو ُّ
صد المسلمين عن الطواف بالبيت فكان أشد تأثيراً في قلوبهم ،ألن الرسول
أخبرهم أنه رأى في منامه أنهم دخلوا البيت آمنين ،وقد سأل عمر أبا بكر في ذلك فقال رضي اهلل
عنه :وهل ذكر أنه في هذا العام؟ ثم كتبت شروط الصلح بين الطرفين ،وكان الكاتب عليبن أبي
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
اللهم،
طالب ،فأماله عليه الصالة والسالم« :بسم اهلل الرحمان الرحيم» .فقال ُسهيل :اكتب باسمك ّ
فأمره الرسول بذلك ،ثم قال« :هذا ما صالح عليه محمد رسول اهلل» فقال سهيل :لو نعلم أنك رسول
علياً بمحو ذلك وكتابة محمدبن
اهلل ما خالفناك ،اكتب محمدبن عبد اهلل .فأمر عليه الصالة والسالم ّ
عبد اهلل ،فامتنع ،فمحاها النبي بيده ،وكتبت نسختان نسخة لقريش ونسخة للمسلمين.
وبعد كتابة الشروط جاءهم أبو َج ْندلبن ُسهيل َي ْح ِج ُل في قيوده ،وكان من المسلمين الممنوعين من
الهجرة ،فهرب للمسلمين هذه المرة ليحموه ،فقال عليه الصالة والسالم« :اصبر واحتسب ،فإن اهلل
الهدي ليتحلَّلوا
ولما انتهى األمر ،أمر عليه الصالة والسالم أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم ،وينحروا ْ
هماً عظيماً ،حتى إنهم لم يبادروا باالمتثال ،فدخل عليه
من عمرتهم ،فاحتمل المسلمون من ذلك َّ
الصالة والسالم على ُأم المؤمنينُ ،أم سلمة ،وقال لها« :هلك المسلمون أمرتهم فلم يمتثلوا» ،فقالت:
حملت نفسك أمراً عظيماً في الصلح ،ورجع المسلمون من غير فتح فهم
يا رسول اهلل اعذرهم ،فقد َّ
رأو َك فعلت تبعوك ،فتقدم عليه
اخرج يا رسول اهلل وابدأهم بما تريد فإذا ْ
ْ لذلك مكروبون ،ولكن
الصالة والسالم إلى َه ْديِ ِه فنحره ودعا بالحالّق فحلق رأسه ،فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي
قر قرارهم جاءتهمفنحروه وحلقوا ،ثم رجع المسلمون إلى المدينة ،وقد أمن ك ّل فريق اآلخر .ولما َّ
مهاجرة ُأم كلثوم بنت عقبةبن أبي معيط ،أخت عثمان ألمه ،فطلبها المشركون فقالت :يا رسول اهلل
ءامُنوْا ِإ َذا َِّ
ين َ إني امرأة ،وإ ن رجعت إليهم فتنوني في ديني ،فأنزل اهلل في سورة الممتحنة :ياَأيُّهَا الذ َ
ٍ ِ َأعلَم بِِإ ِ َّ رات فَ ِ اج ٍ
وه َّن ِإلَىوه َّن ُمْؤ ِمَنات فَالَ تَْر ِج ُع ُ يمان ِه َّن فَِإ ْن َعل ْمتُ ُم ُ وه َّن اللهُ ْ ُ َ امتَحُن ُ ْ
ات مه ِ ِ
َجآء ُك ُم اْل ُمْؤ مَن ُ ُ َ
ِ ِ ُّ ِ َّ
وه َّن ِإ َذآ
اح َعلَْي ُك ْم َأن تَنك ُح ُ وهم َّمآ َأنفَقُوْا َوالَ ُجَن َ ون لَهُ َّن َوءاتُ ُاْل ُكفَّ ِار الَ ُه َّن ح ٌّل لهُ ْم َوالَ ُه ْم َيحل َ
اسَئ لُوْا َمآ َأنفَ ْقتُ ْم َوْلَي ْسَئ لُوْا َمآ َأنفَقُوْا َذِل ُك ْم ُح ْك ُم اللَّ ِه ِ ُأجور ُه َّن والَ تُم ِس ُكوْا بِ ِع ِ
صم اْل َك َواف ِر َو ْ
َ َ ْ وه َّن ُ َءاتَْيتُ ُم ُ
يم()10 ِ َّ ِ
يم َحك ٌَي ْح ُك ُم َب ْيَن ُك ْم َواللهُ َعل ٌ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وقد تمكن أبو بصير عتبةبن أسيد الثقفي ـ ـ رضي اهلل عنه ـ ـ من الفرار إلى رسول اهلل ،فأرسلت قريش
في أثره رجلين يطلبان تسليمه ،فأمره عليه الصالة والسالم بالرجوع معهما ،فقال :يا رسول اهلل
أتردني إلى الكفار يفتنوني في ديني بعد أن خلّصني اهلل منهم؟ فقال« :إن اهلل جاعل لك وإلخوانك
ّ
الحلَيفة عدا على أحدهما فقتله،
فرجاً» ،فلم يجد بداً من اتّباعه ،فرجع مع صاحبيه ،ولما كان بذي ُ
ت ذمتك ،أما أنا فنجوت ،فقال له:
وهرب منه اآلخر ،فرجع إلى المدينة وقال :يا رسول اهلل وفَ ْ
تمر به تجارة قريش ،فأقام به ِ
«اذهب حيث شئت وال تُق ْم بالمدينة» فذهب إلى محل بطريق الشام ّ
ونجوا ،وسار إليه أبو جندلبن سهيل ،واجتمع إليه جمع ممن كانوا مسلمين بمكة َواجتمع معه جمع ّ
من األعراب ،وقطعوا الطريق على تجارة قريش حتى قطعوا عنهم األمداد ،فأرسل رجال قريش
إمساك من جاءه مسلماً ،فقبل منهم
لرسول اهلل يستغيثون به في إبطال هذا الشرط ويعطونه الحق في َ
تحملها في الحديبية حينما أمرهم عليه
الغمة التي لم يتمكنوا من ّ
ذلك ،وأزاح اهلل عن المسلمين هذه ّ
برد أبي جندل ،وعلموا أن رأي رسول اهلل أفضل وأحسن من رأيهم حيث كان فيه
الصالة والسالم ّ
أمن تسبب عنه اختالط الكفار بالمسلمين ،فخالطت بشاشة اإلسالم قلوبهم حتى قال أبو بكر رضي اهلل
عما كان بين محمد
أعظم من فتح الحديبية ولكن الناس قصر رأيهم ّ
َ عنه :ما كان فتح في اإلسالم
والعباد َي ْع َجلُون ،واهلل ال َي ْع َج ُل لعجلة العباد حتى تبلغ األمور ما أراد.
ُ وربِّه،
وفي رجوعه عليه الصالة والسالم من الحديبية نزلت عليه سورة الفتح ،وقال سبحانه في أولهاِ :إَّنا
فَتَ ْحَنا لَ َك فَتْحاً ُّمبِيناً} (الفتح )1:وفي تسمية هذه الغزوة بالفتح المبين تصديق لما ّ
قدمنا لك عن
الصديق.ِّ
مكاتبة الملوك
بعد رجوع المسلمين من الحديبية في أواخر سنة ست وأمن الطريق من قريش ،كاتب عليه الصالة
والسالم ملوك األرض يدعوهم إلى اإلسالم ،واتخذ إذ ذاك خاتماً من فضة يختم به خطاباته ،وكان
نقشه :محمد رسول اهلل ،فوجَّه ِد ْحَية الكلبي بكتاب إلى قيصر ملك الروم ،وأمره أن يدفعه إلى عظيم
ُبصرى ليوصله إلى الملك.
كتاب قيصر
وكان في الكتاب« :بسم اهلل الرحمان الرحيم من محمد عبد اهلل ورسوله إلى ِه َر ْقل عظيم الروم ،سالم
على من اتّبع الهُدى ،أما بعد :فإني أدعوك بدعاية اإلسالم ،أسلم تسلَم يؤتك اهلل أجرك مرتين ،فإن
َّ َّ َّ ِ ٍ ياَأه َل اْل ِكتَ ِ
اب تَ َعالَ ْوْا ِإلَى َكل َمة َس َوآء َب ْيَنَنا َوَب ْيَن ُك ْم َأال َن ْعُب َد ِإال اللهَ توليت فإنما عليك إثم األريسيين :و ُق ْل ْ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ولما وصل هذا الكتاب قيصر ،قال :انظروا لنا من قومه أحداً نسأله عنه ،وكان أبو سفيانبن حرب
ود َعوه لمقابلة الملك فأجاب،
بالشام مع رجال من قريش في تجارة ،فجاءت ُر ُسل قيصر ألبي سفيان َ
لتر ُجمانهَ :سْلهُ ْم ّأيهم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال
ولما قدموا عليه في القدس قال ْ
ادن مني ،ثم أمر
أبو سفيان :أنا ،ألنه لم يكن في الركب من بني عبد مناف غيره ،فقال قيصرُ :
قدمت هذا أمامكم ألسأله عن هذا
أصحابه فجعلوا خلف ظهره ،ثم قال لترجمانه :قل ألصحابه إنما ّ
رد كذبه عليه إذا كذب ،ثم سأله كيف
الرجل الذي يزعم أنه نبي ،وقد جعلتكم خلفه كيال تخجلوا من ّ
نسب هذا الرجل فيكم؟ قال :هو فينا ذو نسب .قال :هل تكلَّم بهذا القول ٌ
أحد منكم قبله؟ قال :ال .قال:
هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال :ال .قال :فهل كان من آبائه من ملك؟ قال :ال.
قال :فأشراف الناس َيتَّبِ ُعونه أم ضعفاؤهم؟ قال :بل ضعفاؤهم .قال :فهل يزيدون أم ينقصون؟ قال:
يرتد أحد منهم َس ْخطة لدينه؟ قال :ال .قال :هل يغدر إذا عاهد؟ قال :ال ،ونحن
بل يزيدون .قال :هل ّ
اآلن منه في ذمة ال ندري ما هو فاعل فيها .قال :فهل قاتلتموه؟ قال :نعم .قال :فكيف حربكم
يأمركم؟ قال :يقول« :اعبدوا ِ ِ
وحربه؟ قال :الحرب بيننا وبينه س َجال مرة لنا ومرة علينا .قال :فَب َم ُ
عما كان يعبد آباؤنا ويأمر بالصالة والصدق والعفافـ والوفاءاهلل وحده وال تشركوا به شيئاً ،وينهى ّ
بالعهد وأداء األمانة».
فلما خرج أبو سفيان مع أصحابه قال :لقد بلغ أمر ابن أبي كبشة أن يخافه ملك بني األصفر
ولما سار قيصر إلى حمص َِأذن لعظماء الروم في َد ْس َكرة له ،ثم أمر بأبوابها فُأغلقت ثم قال :يا
معشر الروم هل لكم في الفالح والرشد وأن يثبت ُملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة ُح ُمر
علي ،فقال لهم :إني قلت
ردوهم َّ
الوحش إلى األبواب فوجدوها مغلقة ،فلما رأى قيصر نفرتهم ،قالّ :
شدتكم على دينكم ،فسكتوا له ،ورضوا عنه .فغلبه ُح ُّ
ب ُملكه على اإلسالم ،فذهب مقالتي أختبر بها ّ
رد دحيةَ َّ
رداً جميالً. بإثمه وإ ثم رعيته كما قال عليه الصالة والسالم ولكنه ّ
المقَ ْو ِقس
كتاب ُ
حاطببن أبي َبْلتعة بكتاب إلى المقوقس أمير مصر من جهة قيصر ،وكان
َ ووجه عليه الصالة والسالم
ّ
فيه« :بسم اهلل الرحمان الرحيم ،من محمد رسول اهلل إلى المقوقس عظيم القبط ،سالم على َمن اتبع
توليت فإنما
َ أسلم تَ ْسلَم ُيؤتك اهلل أجرك مرتين ،وإ ن الهدى ،أما بعد :فإني أدعوك بدعاية اإلسالم ْ
ِ ٍ وياَأه َل اْل ِكتَ ِ
ين} اآلية (آل عمران:ين اْل ُم ْمتَ ِر َ اب تَ َعالَ ْوْا ِإلَى َكل َمة اْل ُم ْمتَ ِر َ
ين اْل ُم ْمتَ ِر َ ْ عليك إثم القبط»،
نبياً أن يدعو على َمن خالفه )64فأوصله له حاطب بإسكندرية ،فلما قرأه قال :ما منعه إن كان ّ
تشهد أن عيسى ابن مريم رسو ُل اهلل ،فما له حيث أخذه قومه
ُ ألست
َ وأخرجه من بلده؟ فقال حاطب:
فأرادوا أن يقتلوه أالّ يكون دعا عليهم أن يهلكهم اهلل حتى رفعه اهلل إليه؟ قال :أحسنت أنت حكيم جاء
فوجدت أنه ال يأمر بمزهود فيه ،وال ينهى
ُ نظرت في أمر هذا النبي
ُ من عند حكيم .ثم قال :إني قد
النبوة :إخراج
ووجدت معه آلة ّ
ُ الضا ّل ،وال الكاهن الكذاب،
عن مرغوب فيه ،ولم أجده بالساحر ّ
الغائب المستور ،واإلخبار بالنجوى ،وسأنظر.
ِ
عظيم القبط، رد الجواب يقول فيه :بسم اهلل الرحمان الرحيم :لمحمدبن عبد اهلل من المقوقس
ثم كتب ّ
علمت أن نبياً قد بقي
ُ وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه ،وقد
ُ سالم عليك ،أما بعد :فقد قرأت كتابك
أكرمت رسولك ،وبعثت لك بجاريتين لهما مكان عظيم في القبط،
ُ يخرج بالشام ،وقد
ُ وكنت أظن أنه
ُ
تسرى بها عليه الصالة
وبثياب ،وأهديت إليك بغلة تركبها والسالم .وإ حدى الجاريتين مارية التي ّ
والسالم ،وجاء منها بولده إبراهيم ،واألخرى أعطاها لحسانبن ثابت .ولم يسلم المقوقس.
النجاشي
كتاب ّ
الض ْم ِري بكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة وفيه« :بسم اهلل
ووجه عليه الصالة والسالم عمروبن أمية ّ
الرحمان الرحيم من محمد رسول اهلل ،إلى النجاشي عظيم الحبشة سالم .أما بعد :فإني أحمد إليك اهلل
الذي ال إله إالّ هو ،الملك القدوس السالم المؤمن المهيمن ،وأشهد أن عيسى ابن مريم روح اهلل،
وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة ،فحملت بعيسى من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده،
وإ ني أدعوك إلى اهلل وحده ال شريك له ،والمواالة على طاعته ،وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني،
ونصحت ،فاقبلوا نصيحتي،
ُ غت
عز وج ّل ،وقد بلّ ُ
فإني رسول اهلل ،وإ ني أدعوك وجنودك إلى اهلل ّ
والسالم على من اتبع الهدى» ولما وصله الكتاب احترمه غاية االحترام ،وقال لعمرو :إني أعلم واهلل
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
كتاب كسرى
ووجه عليه الصالة والسالم عبد اللهبن حذافة السهمي بكتاب إلى كسرى ،ملك الفرس ،وفيه« :بسم
ّ
اهلل الرحمان الرحيم ،من محمد رسول اهلل إلى كسرى عظيم فارس ،سالم على من اتََّب َع الهدى ،وآمن
باهلل ورسوله ،وشهد أن ال إله إالّ اهلل وحده ال شريك له ،وأن محمداً عبده ورسوله ،أدعوك بدعاية
ويحق القول على الكافرين ،أسلم تسلم
ّ حياً،
اهلل ،فإني أنا رسول اهلل إلى الناس كافة ،ألنذر من كان ّ
فإن أبيت فإنما عليك إثم المجوس» فلما وصله الكتاب َم َّزقَهُ استكباراً ،ولما بلغه عليه الصالة والسالم
ممزق» وقد فعل ،فكانت مملكته أقرب الممالك سقوطاً وقد بدأ هذا «مزق اهلل ُملكه كل ّ ذلك ،قالَّ :
يوجه إلى الرسول َمن يأتي به إليه فعاجله اهلل بقيام ابنه الشقي بالعدوان ،فأرسل ِ
لعامله باليمن أن ّ
عما أمره به أبوه. ِِ
شيرويه عليه وقَ ْتله له ،ثم أرسل لعامله في اليمن ينهاه ّ
كتاب المنذربن ساوى
العالءبن الحضرمي بكتاب إلى المنذربن ساوى ملك البحرين يدعوه إلى
َ ووجه عليه الصالة والسالم
ّ
اإلسالم وفيه« :بسم اهلل الرحمان الرحيم ،سالم أنت ،فإني أحمد إليك اهلل الذي ال إله إالّ هو .أما بعد:
أحب
وذمة الرسولَ ،م ْن ّ ِ
من صلى صالتنا ،واستقبل قبلتنا ،وأكل ذبيحتنا ،فذلك المسلم له ذمة اهلل ّ فإن ْ
ّ
ذلك من المجوس فإنه آمن ،ومن أبى فإن عليه الجزية» فأسلم وكتب في رد الجواب :أما بعد ،يا
رسول اهلل فإني قرأت كتابك على أهل البحرين فمنهم من َّ
أحب اإلسالم وأعجبه ودخل فيه ،ومنهم َم ْن
إلي في ذلك أمرك .فكتب إليه عليه الصالة والسالم« :بسم
كرهه ،وبأرضي مجوس ويهود فأحدث ّ
اهلل الرحمان الرحيم ،من محمد رسول اهلل إلى المنذربن ساوى ،سالم عليك ،فإني أحمد اهلل إليك الذي
عز وج ّل
ال إله إالّ هو ،وأشهد أن ال إله إال اهلل وأن محمداً عبده ورسوله ،أما بعد :فإني أذكرك اهلل ّ
طع ُر ُسلي ،ويتّبع أمرهم فقد أطاعني ،ومن نصح لهم
فإنه َم ْن ينصح فإنما ينصح لنفسه ،وإ نه من ُي ْ
فقد نصح لي ،وإ ن ُرسلي قد أثنوا عليك خيراً ،وإ ني قد شفَّعتك في قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
عليه ،وعفوتـ عن أهل الذنوب فاقبل منهم ،وإ نك مهما تصلح فلن َن ْع ِزلَ َك عن عملك ،ومن أقام على
يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية».
ان وفيه:
لندى ملكي ُع َم َ
الج َ
ووجه عليه الصالة والسالم عمروبن العاص بكتاب إلى َج ْيفَر وعبد ابني ُ
ّ
الجلَْن َدى ،سالم على من اتبع
«بسم اهلل الرحمان الرحيم ،من محمد رسول اهلل إلى َج ْيفَر وعبد ابني ُ
الهدى ،أما بعد :فإني أدعوكما بدعاية اإلسالم ،أسلما تسلماً ،فإني رسول اهلل إلى الناس كافة ألنذر
تقرا
ويحق القول على الكافرين ،وإ نكما إن أقررتما باإلسالم ولّيتكما ،وإ ن أبيتما َأن ّ
ّ حياً
من كان ّ
باإلسالم فإن ملككما زائل ،وخيلي تح ّل بساحتكما ،وتظهر نبوتي على ملككما» فلما دخل بناديهما
عز وج ّل،
عما يأمر به الرسول وينهى عنه ،فقال :يأمر بطاعة اهلل ّ
الجلَْندى ّ
عمرو سأله عبدبن ُ
بالبر ،وصلة الرحم ،وينهى عن الظلم والعدوان والزنا وشرب الخمر،
وينهى عن معصيته ،ويأمر ّ
وعن عبادة الحجر والوثن والصليب ،فقال :ما أحسن هذا الذي يدعو إليه ولو كان أخي يتابعني
بمْلكه من أن يدعه ويصير تابعاً .قال عمرو:أضن ُ
ونصدق به ،ولكن أخي ّّ لركبنا حتى نؤمن بمحمد
فردها على فقيرهم ،فقال عبد :إنإن أسلم أخوك َملَّ ُكه رسول اهلل على قومه ،فأخذ الصدقة من غنيهم ّ
لق حسن .وما الصدقة؟ فأخبره بما فرض اهلل من الصدقات في األموال ،ولما ذكر المواشي، لخ ٌ
هذا ُ
قال :يا عمرو يؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى في الشجر وترد المياه؟ قال :نعم ،فقال عبد :واهلل
ما أرى قومي على بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا .ثم إن عبداً أوصل َع ْمراً ألخيه جيفر
وم َّكناهُ من الصدقات.
أالن قلبه حتى أسلم هو وأخوهَ ،
فتكلم معه عمرو بما َ
ووجه عليه الصالة والسالم َسِل ْيطبن عمرو العامري بكتاب إلى َه ْوذةبن علي ملك اليمامة ،وفيه:
ّ
«بسم اهلل الرحمان الرحيم ،من محمد رسول اهلل إلى َه ْوذةبن علي ،سالم على من اتبع الهدى ،وأعلم
ِ
والحافر ،فأسلم تسلم ،وأجعل لك ما تحت يديك» فلما جاءه الكتاب الخ ِّ
ف أن ديني سيظهر إلى منتهى ُ
رده :ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني،
كتب في ّ
فاجعل لي بعض األمر أتبعك.
باد وباد ما في يديه» .فلم يلبث
فعلتَ ،
ولما بلغ ذلك رسول اهلل قال« :لو سألني قطعة من األرض ما ُ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
نص َرف الرسول صلى اهلل عليه وسلم من فتح مكة .وكان عليه الصالة والسالم يولّي على
أن مات ُم َ
كل قوم قبلوا اإلسالم كبيرهم.
السََّنة السَّابعة
غزوة َخيبر
وفي محرم السنة السابعة أمر عليه الصالة والسالم بالتجهّز لغزو يهود خيبر ،الذين كانوا أعظم
ِّج لألحزاب ضد رسول اهلل في غزوة الخندق ،والذين ال يزالون مجتهدين في محالفة األعراب
ُمهَي ٍ
قدمنا ذلك في قصة كعببن األشرف .وقد استنفر رسو ُل اهلل لذلك َم ْن حوله من ضد رسول اهلل كما ّ
األعراب الذين كانوا معه بالحديبية ،وجاء المخلَّفون عنها ليؤ َذن لهم ،فقال عليه الصالة والسالم« :ال
تخرجوا معي إال رغبة في الجهاد ،أما الغنيمة فال أعطيكم منها شيئاً» ،وأمر منادياً ينادي بذلك ،ثم
طةَ الغفاري .وكان معه من أزواجه اعبن ُع ْرفُ َ ِ َّ
خرج عليه الصالة والسالم بعد أن ولى على المدينة سَب َ
ُّأم سلمة ،ولما وصل جيش المسلمين إلى خيبر التي تبعد عن المدينة نحو مائة ميل من الشمال
الغربي ،رفعوا أصواتهم بالتكبير والدعاء ،فقال عليه الصالة والسالم« :ارفقوا بأنفسكم ،فإنكم ال
أصم وال غائباً ،إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم».
تدعون َّ
طاة ،وحصون ال َكتيبة، وكانت حصون خيبر ثالثة ،منفصالً بعضها عن بعض ،وهي :حصون َّ
الن َ
َّعب ،وحصن ُقلَّ ٍة ،والثانية حصنان: وحصون َّ
الشق ،واألولىـ ثالثة :حصن ناعم ،وحصن الص ْ
الو ِط ْيح ،وحصن
ُأبي ،وحسن البريء ،والثالثة ثالثة حصون :حصن القَ ُموص ،وحصن َ حصن ّ
الس ِ
ُّاللم ،فبدأ عليه الصالة والسالم بحصون َّ
النطاة ،وعسكر المسلمون شرقيها بعيداً عن مدى النبل،
وأمر عليه الصالة والسالم أن يقطع نخلهم ليرهبهم حتى يسلموا ،فقطع المسلمون نحو أربعمائة
نخلة .ولما رأى عليه الصالة والسالم تصميم اليهود على الحرب نهى عن القطع ،ثم ابتدأ القتال مع
حصن ناعم بالمراماة ،وكان لواء المسلمين بيد أحد المهاجرين فلم يصنع في ذلك اليوم شيئاً ،وفيه
مات محمودبن مسلمة أخو محمدبن مسلمة ،وصار عليه الصالة والسالم يغدو كل يوم مع بعض
الجيش للمناوشة ،ويخلّف على العسكر أحد المسلمين ،حتى إذا كانوا في الليلة السادسة ،ظفر حارس
الجيش ،وهو عمربن الخطاب ،بيهودي خارج في جوف الليل ،فأتى به رسول اهلل عليه الصالة
أدلكم على أمر فيه نجاحكم d.فقالواُ :دلََّنا فقد
أم ْنتُموني ّ
والسالم ،ولما أدرك الرجل الرعب قال :إن َّ
َأمَّناك ،فقال :إن أهل هذا الحصن أدركهم المالل والتعب ،وقد تركتهم يبعثون بأوالدهم إلى حصن
َّ
َّ
الشق ،وسيخرجون لقتالكم غداً ،فإذا فتح عليكم هذا الحصن غداً فإني أدلكم على بيت فيه منجنيق
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ودبابات ودروع وسيوف ،يسهل عليكم بها فتح بقية الحصون ،فإنكم تنصبون المنجنيق ،ويدخل
الرجال تحت الدبابات ،فينقبون الحصن فتفتحه من يومك ،فقال عليه الصالة والسالم لمحمدبن
ويحبانه» فبات المهاجرون واألنصار كلهم
يحب اهلل ورسوله ّ مسلمة« :سُأعطي الراية غداً رجالً ّ
يتمنونها ،حتى قال عمربن الخطاب :ما تمنيت اإلمارة إال ليلتئذ.
ّ
فلما كان الغد سأل عليه الصالة والسالم عن عليبن أبي طالب فقيل له :إنه أرمد ،فأرسل َم ْن يأتيه به،
ولما جاء تََف َل في عينيه فشفاهما اهلل كأن لم يكن بهما شيء ،ثم أعطاه الراية ،فتوجه مع المسلمين
ب، للقتال ،وهناك وجدوا اليهود متجهزين ،فخرج يهودي يطلب البَِراز فقتله ٌّ
علي ،ثم خرج َم ْر َح ٌ
حمل المسلمون على
العوام ،ثم َ
وهو أشجع القوم ،فألحقه برفيقه ،فخرج أخوه ياسر ،فقتله الزبيربن ّ
اليهود حتى كشفوهم عن مواقفهم ،وتبعوهم حتى دخلوا الحصن بالقوة وانهزم األعداء إلى الحصن
َّع ِب ،وغنم المسلمون من حصن ناعم كثيراً من الخبز والتمر ،ثم تتبعوا
الذي يليه وهو حصن الص ْ
َّعب ،فقاتل عنه اليهود قتاالً شديداً حتى رد عنه المسلمون ،ولكن ثبت الحباببن
اليهود إلى حصن الص ْ
المنذر ومن معه وقاتلوا قتاالً شديداً حتى هزموا اليهود ،فتبعوهم حتى افتتحوا عليهم الحصن،
فوجدوا فيه غنائم كثيرة من الطعام فأمر عليه الصالة والسالم منادياً يقول:ـ «كلوا واعلفوا دوابكم وال
تأخذوا شيئاً».
ثم إن الذين انهزموا من هذا الحصن ساروا إلى حسن ُقلَّ ٍة ،فتبعهم المسلمون ،وحاصروهم ثالثة أيام
حتى استصعب عليهم فتحه ،وفي اليوم الرابع دلَّهم يهودي على جداول الماء التي يستقي منها اليهود،
فمنعوها عنهم ،فخرجوا ،وقاتلوا قتاالً شديداً انتهى بهزيمتهم إلى حصون َّ
الش ِّ
ق ،فتبعهم المسلمون
بالء حسناً حتى
وبدؤوا بحصن َُأب ّي ،فخرج أهله ،وقاتلوا قتاالً شديداً أبلى فيه أبو دجانة األنصاري ً
تمكن من دخول الحصن َع ْنوةً ،ووجد المسلمون فيه أثاثاً كثيراً ومتاعاً وغنماً وطعاماً ،وهرب
أشد اليهود رمياً بالنبل
التمنع ،وكان أهله ّ
المنهزمون منه إلى حصن البريء ،فتمنعوا به أشد ّ
والحجارة حتى أصاب رسول اهلل بعض منه ،فنصب المسلمون عليه المنجنيق فوقع في قلب أهله
الرعب ،وهربوا منه من غير عناء شديد ،فوجد فيه المسلمون أواني لليهود من نحاس وفخار ،فقال
عليه الصالة والسالم« :اغسلوها واطبخوا فيها».
تتبع المسلمون بقايا العدو إلى حصون الكتيبة ،وبدأوا بحصن القَموص ،فحاصروه عشرين ليلة ثم
ثم ّ
فتحه اهلل على يد عليبن أبي طالب ،ومنه ُسبيت صفية بنت ُح ّييبن أخطب ،ثم سار المسلمون لحصار
حصني الوطيح والس ِ
ُّاللم ،فلم يقاوم أهلهما بل سلّموا طالبين حقن دمائهم ،وأن يخرجوا من أرض
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
خيبر بذراريهم ال يصطحب الواحد منهم إال ثوباً واحداً على ظهره ،فأجابهم رسول اهلل إلى ذلك،
وغنم المسلمون من هذين الحصنين مائة درع ،وأربعمائة سيف ،وألف رمح ،وخمسمائة قوس
عربية ،ووجدوا صحفاً من التوراة فسلّموها ِ
لطالبيها.
هذا ،والذين استشهدوا من المسلمين بخيبر خمسة عشر رجالً ،وقتل من اليهود ثالثة وتسعون رجالً،
وفي هذه الغزوة أهدت إحدى نساء اليهود ُك َراع شاة مسمومة لرسول اهلل ،فأخذ منها مضغة ،ثم
ظها حيث ُأعلم أنها مسمومة ،وأكل منها بِ ْشربن البراء فمات لوقته ،واحتجم رسول اهلل صلى اهلل
لَفَ َ
نبياً
عليه وسلم ،وجيء له بالمرأة التي فعلت هذه الفعلة ،فسألها عن سبب ذلك فأجابت :قلت إن كان ّ
يضره ،وإ ن كان كاذباً أراحنا اهلل منه ،فعفا عنها عليه الصالة والسالم.
لن ّ
زواج صفية
حيي ،سيد بني النضير ،وأصدقها
وبعد تمام الظفر والنصر تزوج عليه الصالة والسالم صفية بنت ّ
ِعتْقَهَا ،وقد أسلمت رضي اهلل عنها ،فشرفت بُأمومة المؤمنين.
فتح فَ َدك
وبعد تمام الفتح ،أرسل عليه الصالة والسالم َم ْن يطلب من يهود فَ َدك االنقياد والطاعة ،فصالحوا
خاصة ُينفق
ّ رسول اهلل على أن يحقن دماءهم ،ويتركوا األموال .وكانت أرض فدك هذه لرسول اهلل
ِّمهُ ْم.
منها على نفسه ،ويعول منها صغيربن هاشم ويزوج منها َأي َ
صلح تيماء
ولما بلغ يهود تيماء ما فعله المسلمون بيهود خيبر صالحوا على دفع الجزية ،ومكثوا في بالدهم
آمنين مطمئنين.
سرية
إلى المدينة.
عمرة القضاء
وتزوج صلى اهلل عليه وسلم وهو بمكة ميمونة بنت الحارث الهاللية زوج عمه حمزةبن عبد المطلب
ُأحد ،وخالة عبد اللهبن العباس ـ ـ وهي آخر نسائه زواجاً ـ ـ ولم يدخل بها إال بعد الخروج من
شهيد ُ
مكة حيث كان بِ َس ِرف .ولما خرج عليه الصالة والسالم أمر الذين كان تركهم لحراسة َ
الخيل بالذهاب
ليطوفوا ففعلوا ،ثم رجع عليه الصالة والسالم إلى المدينة فرحاً مسروراً بما َحَباه اهلل من تصديق
رؤياه.
السََّنة ِ
الثامَنة
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
سرية
الملَ ِّوح ،وهم قوم من العرب
صفَر أرسل عليه الصالة والسالم غالببن عبد اهلل الليثي إلى بني ُ وفي َ
يسكنون بال َكِديد ،فسار القوم حتى إذا كانوا بقُ َد ٍيد التقوا بالحارثبن مالك الليثي المعروف بابن
البرصاء ،وكان خصماً لدوداً فأسروه ،فقال لهم :ما جئت إال لإلسالم ،فقالوا له :إن تكن مسلماً لن
الملوح فاستاقوا َّ
الن َعم والشاء، يضرك رباط ليلة وإ ال استوثقنا منك ،ثم ساروا حتى وصلوا محلة بني ّ
من اهلل على المسلمين ،فأرسل سيالً شديداً
وخرج الصريخ إلى القوم فجاءهم ما ال قبل لهم به ،ولكن ّ
ردها.
حال بينهم وبين عدوهم حتى صار المشركون يرون َن َع َمهم تُساق وهم ال يقدرون على ّ
َ
سرية
مرة
ليقتص من بني ّ
ّ ولما رجع غالب إلى المدينة ظافراً أرسله عليه الصالة والسالم في مائتي رجل
بفدك ـ ـ وهم الذين أصابوا سرية بشيربن سعد ـ ـ فساروا حتى إذا كانوا قريباً من القوم خطب غالب
فيمن معه ،فقال بعد أن حمد اهلل وأثنى عليه :أما بعد فإني ُأوصيكم بتقوى اهلل وحده ال شريك له ،وأن
تطيعوني وال تخالفوا لي أمراً فإنه ال رأي لمن ال ُيطاع .ثم آخى بين الجند ،فقال :يا فالن أنت
فأقول له :أين
َ وفالن ،ويا فالن أنت وفالن ،ال يفارق أحد منكم زميله ،وإ ّياكم أن يرجع الرجل منكم
وجردوا السيوف
كبرواّ ، وكبر ّ
فكبروا ،فلما أحاطوا بالعدوّ ،
صاحبك؟ فيقول :ال أدري ،فإذا كبَّرت ّ
فلم يفلت من عدوهم أحد ،واستاقوا َنعمهم ،فكان لكل واحد من الغزاة عشرة ِ
أبعرة. َ َ ُْ
سرية
وفي ربيع األول أرسل عليه الصالة والسالم كعببن ُعمير الغفاري إلى ذات أطالح ـ ـ من أرض الشام
ـ ـ في خمسة عشر رجالً ،فوجدوا جمعاً كثيراً ،فدعوهم إلى اإلسالم فلم يجيبوا وقاتلوا ،وكانوا أكثر
عدداً ،فاستشهد المسلمون عن آخرهم إال رئيسهم كعببن عمير فإنه نجا ،وأتى بالخبر إلى رسول اهلل،
تحولوا من منزلهم فعدل عن ذلك. فَ َش َّ
ق عليه ،وأراد أن يبعث إليهم من يقتص منهم ،فبلغه أنهم َّ
رجاالً في الصوامع معتزلين فال تتعرضوا لهم ،وال تقتلوا امرأة وال صغيراً وال بصيراً فانياً ،وال
بناء».
تقطعوا شجراً وال تهدموا ً
ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا ُمْؤ تة مقتل الحارثبن عمير ،وهناك وجدوا الروم قد جمعوا لهم جمعاً
المتنصرة .فتفاوض رجال الجيش فيما يفعلونه :أيرسلون لرسول اهلل
ِّ عظيماً ،منهم ومن العرب
يطلبون منه َمدداً أم يقدمون على الحرب؟ فقال عبد اللهبن رواحة :يا قوم واهلل إن الذي تكرهون هو
ما خرجتم له ،خرجتم تطلبون الشهادة ونحن ما نقاتل بعدد وال بقوة وال بكثرة ،ما نقاتل إال بهذا الدين
الذي أكرمنا اهلل تعالى به ،فإنما هي إحدى الحسنيين :إما الظهور وإ ما الشهادة ،فقال الناس :صدق
واهلل ابن رواحة .ومضوا للقتال ،فلقوا هذه الجموع المتكاثرة ،فقاتل زيدبن حارثة رضي اهلل عنه
جعفربن أبي طالب وهو يقول:ـ
حتى استشهد ،فأخذ الراية ُ
هاعلي إذ القيتُها
َّ أنساب
عذابهاكافرةٌ بعيدةٌ ُ
هاوالروم روم قد َدنا ُ
ُ راب
وبارد َش ُ
ٌ الجَّنةُ وا ْقتَِر ُابهاطيَِّبةٌ
يا حبَّذا َ
ضرابها ولم يزل يقاتل حتى استشهد رضي اهلل عنه ،فأخذ الراية عبد اللهبن رواحة فتقدم ثم تردد ُ
التردد ،فقال يخاطب نفسه:
بعض ّ
الجن ْه؟قد الرَّنهما لي ِ
أراك تكرهين َّ وشدوا َّ
الناس ّ لتنز َّلنهطائعةً أو لَت ْك َر ِهَّن ْهإن
نفس ِ
أجلب ُ
َ أقسمت يا ُ
ُ
أنت إال ُنطفة في َشَّنه؟ ثم اقتحم بفرسه المعمعة ،ولم يزل يقاتل ـ ـ رضي طمئنههل ِكنت ُم َّ طال ما قد ِ
فهم بعض المسلمين بالرجوع إلى الوراء ،فقال لهم عقبةبن عامر :يا قوم اهلل عنه ـ ـ حتى استشهدَّ ،
ُيقتل اإلنسان مقبالً خير من أن يقتل مدبراً ،فتراجعوا واتفقوا على تأمير الشهم الباسل خالدبن الوليد،
ومهارته الحربية حمى هذا الجيش من الضياع ،إذ ما تفعل ثالثة آالف بمائة وخمسين ألفاً؟
وبهمته َ
َّ
فإنه لما أخذ الراية قاتل يومه قتاالً شديداً ،وفي غده خالف ترتيب العسكر ،فجعل الساقة مقدمة،
الم َدد جاء للمسلمين فرعبوا. والمقدمة ساقة ،والميمنة ميسرة ،والميسرة ميمنةَّ ،
فظن الروم أن َ
ثم أخذ خالد الجيش وصار يرجع إلى الوراء حتى انحاز إلى ُمؤتة ،ثم مكث يناوش األعداء سبعة أيام
يجروهم إلى وسط
ثم تحاجز الفريقان ألن الكفار ظنوا أن األمداد تتوالى للمسلمين ،وخافوا أن ّ
الصحارى حيث ال يمكنهم التخلّص وبذلك انقطع القتال ،وقد نعى النبي صلى اهلل عليه وسلم زيداً
وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم ،فقال« :أخذ الراية زيد فُأصيب ،ثم أخذها جعفر
فُأصيب ،ثم أخذها ابن رواحة فأصيب ـ ـ وكانت عينا رسول اهلل تذرفان ـ ـ ثم قال :حتى أخذ الراية
سيف من سيوف اهلل حتى فتح اهلل عليهم» وجاءه رجل فقال :يا رسول اهلل إن نساء جعفر يبكين،
نهيتهن فلم ُي ِط ْع َن ،فأمره فذهب ثانياً ،ثم جاء فقال:
ّ ينهاهن ،فذهب الرجل ثم أتى فقالت :قد
ّ فأمره أن
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أفواههن التراب».
ّ ث في
«اح ُ
واهلل لقد غلبننا ،فقال له عليه الصالة والسالمْ :
ولما أقبل الجيش إلى المدينة قابلهم المسلمون يقولون لهم :يا فُّرار ،فقال عليه الصالة والسالم« :بل
هم ال ُك َّرار» .ظن المقيمون بالمدينة أن انحياز خالد بالجيش هزيمة ،ولكن رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم أراهم أن ذلك من مكايد الحرب ،وأثنى على خالد في مهارته.
سرية
وفي جمادى اآلخرة بلغه عليه الصالة والسالم أن جمعاً من قضاعة يتجمعون في ديارهم وراء وادي
القُرى ُليغيروا على المدينة ،فأرسل لهم عمروبن العاص في ثالثمائة رجل من َسراة المهاجرين
أمده بأبي عبيدةبن الجراح في مائتين من المهاجرين واألنصار فيهم أبو بكر وعمر،
واألنصار ،ثم ّ
فلحقوا َع ْمراً قبل أن يصل إلى القوم ،وقد أراد رجال من الجيش إيقاد نار فمنعهم عمرو ،فأنكر عليه
منا فال
عمربن الخطاب ،فقال أبو بكر :إنما بعثه رسول اهلل علينا رئيساً لمعرفته بالحرب أكثر ّ
تعصه ،فامتثل.
ولما حلُّوا بساحة القوم حملوا عليهم فلم يكن أكثر من ساعة حتى تفرق األعداء منهزمين ،فجمعوا
غنائمهم وأرادوا اتباع أثرهم فمنعهم قائدهم ،ثم رجعوا إلى المدينة ظافرين ،وبينما هم في الطريق
أدركت عمروبن العاص جنابة في ليلة باردة ،فلما أصبح قال :إن أنا اغتسلت هلكت واهلل يقولَ :والَ
تُْلقُوْا بِ َْأي ِدي ُك ْم ِإلَى التَّ ْهلُ َك ِة} (البقرة )195 :ثم تيمم وصلى ،ثم أمر بالسير حتى إذا وصلوا إلى المدينة
قام رسول اهلل عليه الصالة والسالم يسأل عن أنباء سفرهم كما هي عادته ،فأخبروه بما نقموه من
عمروبن العاص من نهيهم عن إيقاد النار ،ونهيهم عن اتباع العدو ،وصالته جنباً ،فسأله عليه الصالة
والسالم عن ذلك ،فقال :منعتهم من إيقاد النار لئال يرى العدو قلّتهم فيطمع فيهم ،ونهيتهم عن اتباع
{والَ تُْلقُوْا بِ َْأي ِدي ُك ْم ِإلَى التَّ ْهلُ َك ِة} (البقرة)195 :
العدو لئال يكون له كمين ،وصلّيت جنباً ألن اهلل يقولَ :
وإ ن أنا اغتسلت هلكت ،فتبسم عليه الصالة والسالم وأثنى على عمرو خيراً.
سرية
وفي رجب أرسل عليه الصالة والسالم أبا عبيدة عامربن الجراح في ثالثمائة فارس لغزو قبيلة
وزود عليه الصالة والسالم هذا الجيش جراباً من التمر ،فساروا
ُجهَينة التي تسكن ساحل البحرّ ،
حتى إذا وصلوا الساحل أقاموا فيه نحو نصف شهر ينتظرون العدو ،وقد فني زادهم حتى أكلوا
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
هيأ أسبابه وأزال موانعه ،فقد كان عليه الصالة والسالم يعلم أنه ال تذ ّل العرب حتى
إذا أراد اهلل أمراً ّ
تذل قريش ،وال تَنقاد البالد حتى تنقاد مكة ،فكان يتشوف لفتحها ،ولكن كان يمنعه من ذلك العهود
علمت أن
َ التي أعطاها قريشاً في الحديبية وهو سيد من َوفَّى .ولكن إذا أراد اهلل أمراً هيأ أسبابه ،فقد
قبيلة ُخزاعة دخلت في عهد رسول اهلل ،وقبيلة بني بكر دخلت في عهد قريش ،وكان بين خزاعة
وبني بكر دماء في الجاهلية كمنت نارها بظهور اإلسالم ،فلما حصلت الهدنة وقف رجل من بني بكر
فحرك
يتغنى بهجاء الرسول صلى اهلل عليه وسلم على مسمع من رجل خزاعي ،فقام هذا وضربهّ ،
فشدوا العزيمة لحرب خصومهم ،واستعانوا بأوليائهم من
ذلك كامن األحقاد ،وتذكر بنو بكر ثأرهم ّ
بالعدة والرجال ،ثم توجهوا إلى خزاعة وهم آمنون فقتلوا منهم ما يربو على
سراً ّقريش ،فأعانوهم ّ
العشرين ،ولما رأى ذلك حلفاء السيد األمين أرسلوا منهم وفداً برياسة عمروبن سالم الخزاعي ليخبر
رسول اهلل بما فعل بهم بنو بكر وقريش ،فلما َحلُّوا بين يديه ،وأخبروه ،قال« :واهلل ألمنعنكم مما أمنع
نفسي منه».
أما قريش فإنهم لما رأوا أن ما عملوه نقض للعهود التي أخذت عليهم ندموا على ما فعلوا ،وأرادوا
ليشد العقد ،ويزيد في المدة ،فركب
مداواة هذا الجرح ،فأرسلوا قائدهم أبا سفيانبن حرب إلى المدينة ّ
راحلته ،وهو يظن أنه لم يسبقه أحد ،حتى إذا جاء المدينة نزل على أم المؤمنين أم حبيبة بنته وقد
أرغبت به عني أم رغبت بي عنه؟ِ بنية
أراد أن يجلس على فراش رسول اهلل فطوته عنه فقال :يا ّ
فقالت :ما كان لك أن تجلس على فراش رسول اهلل وأنت مشرك نجس ،فقال :لقد أصابك بعدي شر.
ثم خرج من عندها ،وأتى النبي في المسجد ،وعرض عليه ما جاء له ،فقال له عليه الصالة والسالم:
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
«هل كان من َح َدث؟» قال :ال ،فقال عليه الصالة والسالم« :فنحن على مدتنا وصلحنا» .ولم يزد
عن ذلك .فقام أبو سفيان ،ومشى إلى أكابر المهاجرين من قريش لعلّهم يساعدونه على مقصده ،فلم
يجد منهم ُمعيناً ،وكلهم قالواِ :جوارنا في ِجوار رسول اهلل ،فرجع إلى قومه ولم يصنع شيئاً ،فاتهموه
بأنه خانهم واتَّبع اإلسالمّ ،
فتنسك عند األوثان لينفي عن نفسه هذه التهمة.
ابن ُأم
ثم سار عليه الصالة والسالم بهذا الجيش العظيم في منتصف رمضان بعد أن ولّى على المدينة َ
أشد أعدائه
عدة الجيش عشرة آالف مجاهد ،ولما وصل األبواء لقيه اثنان كانا من ّ
مكتوم ،وكانت ّ
وهما :ابن عمه أبو سفيانبن الحارثبن عبد المطلب شقيق عبيدةبن الحارث شهيد بدر ،وصهره عبد
اللهبن أبي أميةبن المغيرة شقيق زوجه ُأم سلمة ،وكانا يريدان اإلسالم ،فقبلهما عليه الصالة والسالم،
ين} (يوسف: ِِ ِ َّ
يب َعلَْي ُك ُم اْلَي ْو َم َي ْغف ُر اللهُ لَ ُك ْم َو ُه َو َْأر َح ُم الرحم َ
وفرح بهما شديد الفرح ،وقال :الَ تَثَْر َ
.)92ولما وصل عليه الصالة والسالم ال َكِديد رأى أن الصوم شق على المسلمين ،فأمرهم بالفطر،
وأفطر هو أيضاً ،وقد قابل عليه الصالة والسالم في الطريق عمه العباسبن عبد المطلب مهاجراً
بأهله وعياله ،فأمره أن يعود معه إلى مكة ويرسل عياله إلى المدينة.
مر الظهران أمر بإيقاد عشرة آالف نار ،وكانت قريش قد بلغهم أن
ولما وصل عليه الصالة والسالم ّ
وب َديلبن
محمداً زاحف بجيش عظيم ال تدرى وجهته ،فأرسلوا أبا سفيانبن حرب وحكيمبن حزام ُ
ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول اهلل ،فأقبلوا يسيرون حتى أتوا َم َّر الظهران فإذا هم بنيران كأنها
نيران َع َرفة ،فقال أبو سفيان :ما هذه؟ لكأنها نيران َع َرفة فقال بديلبن ورقاء :نيران بني عمرو ،فقال
أبو سفيان :عمرو أقل من ذلك ،فرآهم ناس من حرس رسول اهلل فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم
طم الجبل حتى ينظر إلى
رسول اهلل ،فأسلم أبو سفيان ،فلما سار قال للعباس« :احبس أبا سفيان عند َخ ْ
تمر كتيبةً كتيبة على أبي سفيان وهو يسأل عنها ويقول:ـ ماالمسلمين» ،فحبسه العباس فجعلت القبائل ّ
ِ
وحامل رايتها سعدبن عبادة فقال سعد :يا أبا سفيان اليوم مرت به قبيلة األنصار لي ولها ،حتى إذا ّ
الذمار .ثم جاءت كتيبة وهي حل الكعبة .فقال أبو سفيان :يا عباس حبذا يوم ِّ
يوم الملحمة ،اليوم تُستَ ُّ
ُ َ
أقل الكتائب فيها رسول اهلل وأصحابه ،وحامل الراية الزبيربن العوام ،فأخبر أبو سفيان رسول اهلل
«كذب سعد ،ولكن هذا يوم ُيعظِّم اهلل فيه الكعبة ويوم تُكسى
َ بمقالة سعد .فقال عليه الصالة والسالم:
بالح ُجون ،وأمر خالدبن الوليد أن يدخل من فيه الكعبة» .ثم أمر عليه الصالة والسالم أن تركز رايته َ
«من دخل داره وأغلق بابه فهو
أسفل مكة من ُك ًدى ،ودخل هو من أعالها من َك َداء ونادى مناديهَ :
منة له ،واستثنى
آمن ،ومن دخل المسجد فهو آمن ،ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» .وهذه أعظم ّ
من ذلك جماعة عظمت ذنوبهم ،وآذوا اإلسالم وأهله عظيم األذى ،فأهدر دمهم ـ ـ وإ ن تعلقوا بأستار
ارتد ،وافترى
الكعبة ـ ـ منهم :عبد اللهبن سعدبن أبي َس ْرح الذي أسلم ،وكتب لرسول اهلل الوحي ،ثم ّ
الكذب على األمين المأمون ،فكان يقول :إن محمداً كان يأمرني أن أكتب عليم حكيم فأكتب غفور
رحيم ،فيقول كل جيد ومنهم ِعكرمةبن
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أبي جهل وصفوانبنـ أمية ،وهبَّاربن األسود ،والحارثبن هشام ،وزهيربن أبي أمية ،وكعببن زهير،
ووحشي قاتل حمزة ،وهند بنت عتبة زوج أبي سفيان ،وقليل غيرهم ،ونهى عن قتل أحد سوى
صده ،فقاتلهم وقتل منهم
عر من قريش يريدون ّ ُّ
هؤالء إال من قاتل ،فأما جيش خالدبن الوليد فقابله الذ ُ
أربعة وعشرين ،وقُتل من جيشه اثنان ،ودخلها َع ْنوة من هذه الجهة ،وأما جيش رسول اهلل صلى اهلل
ٍ
منحن على الرحل تواضعاً هلل عليه وسلم فلم يصادف مانعاً وهو عليه الصالة والسالم راكب راحلته
الر ْحل ،وأسامةبن زيد رديفه ،وكان ذلك صبح يوم
وشكراً له على هذه النعمة حتى تكاد جبهته تَ َم ُّس َّ
نصبت له هناك قبة فيها ُّأم
ْ الح ُجون موضع رايته ،وقد
الجمعة لعشرين خلت من رمضان حتى وصل َ
سلمة وميمونة ،فاستراح قليالً ثم سار وبجانبه أبو بكر يحادثه ،وهو يقرأ سورة الفتح ،حتى بلغ
البيت ،وطاف سبعاً على راحلته ،واستلم الحجر بمحجنه ،وكان حول الكعبة إذا ذاك ثالثمائة وستون
ق ِ
الباط ُل وما وز َه َ ُّ
الحق َ صنماً ،فجعل عليه الصالة والسالم يطعنها بعود في يده ،ويقول:ـ «جاء
عيد» ثم أمر باآللهة فأخرجت من البيت وفيها صورة إسماعيل وإ براهيم في ي ْبِدىء ِ
الباط ُل وما ُي ُ ُ ُ
أيديهما األزالم ،فقال عليه الصالة والسالم« :قاتلهم اهلل ،لقد علموا ما استقسما بها قطّ» .وهذا أول
يوم طهّرت فيه الكعبة من هذه المعبودات الباطلة .وبطهارة الكعبة المقدسة عند جميع العرب باديها
وحاضرها من هذه األدناس سقطت عبادة األوثان من جميع بالد العرب إال قليالً .ويوشك أن نذكر
للقارىء اختفاء آثارها ومحو عبادتها بالكلية.
ثم إن النبي صلى اهلل عليه وسلم دخل الكعبة وكبَّر في نواحيها ،ثم خرج إلى مقام إبراهيم ،وصلّى فيه
ركعتين ،ثم شرب من زمزم ،وجلس في المسجد ،والناس حوله ،والعيون شاخصة إليه ،ينتظرون ما
هو فاعل بمشركي قريش الذين آذوه ،وأخرجوه من بالده وقاتلوه ،ولكن هنا تظهر مكارم األخالق
التي يلزم أن يتعلم منها المسلم ،أن يكون رضاه وغضبه هلل ال لهوى النفس ،فقال عليه الصالة
والسالم« :يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟» قالوا :خيراً ،أخ كريم وابن أخ كريم ،فقال
عليه الصالة والسالم« :اذهبوا فأنتم الطُّلقاء» .ويرحم اهلل اإلمام البوصيري حيث قال:
لدامت قطيعةٌ
ْ ِ
النفس أن انتقامه لهوى طعُ والوص ُل للهتساوى التَّ ُ
قريب واإلقصاءولوـ َّ وإ ذا كان القَ ْ
اإلناء؟
ُ ينضح إال بما حواهُ
ُ فعله كله جميل وهل
ووفاء ُ
ُ تباين
وجفاءقام هلل في األمور فأرضى اللهمنه ٌ
ُ
ثم خطب عليه الصالة والسالم خطبةً أبان فيها كثيراً من األحكام اإلسالمية ،منها :أالّ ُيقتَل مسلم
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
بكافر ،وال يتوارث أهل ملَّتين مختلفتين ،وال تنكح المرأة على عمتها أو خالتها ،والبينة على من
ّادعى ،واليمين على من أنكر ،وال تسافر المرأة مسيرة ثالثة أيام إال مع ذي محرم ،وال صالة بعد
الصبح والعصر ،وال يصام يوم األضحى ويوم الفطر ،ثم قال« :يا معشر قريش إن اهلل قد أذهب
اس عنكم َن ْخوة الجاهلية وتَ َعظُّ َمهَا باآلباء ،والناس من آدم ،وآدم من تراب ،ثم تال هذه اآلية{ :يَأيُّهَا َّ
الن ُ
َّ ِ ِإَّنا َخلَ ْقَنا ُكم من َذ َك ٍر و ُْأنثَى وجعْلَنا ُكم ُشعوباً وقَبآِئ َل ِلتَعارفُوْا ِإ َّن َأ ْكرم ُكم ع َ َّ ِ
ند الله َأتْقَا ُك ْم ِإ َّن اللهَ َعل ٌ
يم ََ ْ َ ََ َ ََ ْ ُ َ َ َ ّ
َخبِ ٌير()13
أما الذين أهدر رسول اهلل دمهم فقد ضاقت عليهم األرض بما رحبت ،فمنهم من حقّت عليه كلمة
العذاب فقتل ،ومنهم من أدركته عناية اهلل فأسلم ،فعبد اللهبن سعدبن أبي سرح لجأ إلى أخيه من
الرضاع عثمانبن عفان ،وطلب منه أن يستأمن له رسول اهلل ،فغيبه عثمان حتى هدأ الناس ،ثم أتى به
وقال :يا رسول اهلل قد أمنته فبايعه ،فأعرض عنه عليه الصالة والسالم مراراً ثم بايعه ،فلما خرج
ليقوم إليه أحدكم فيضرب عنقه» ،فقالوا:
«أعرضت عنه َ
ُ عثمان وعبد اهلل قال عليه الصالة والسالم:
أشرت إلينا؟ فقال« :ال ينبغي لنبي أن تكون له خائنة األعين».
َ هالّ
وبنت عمه ُّأم حكيم بنت الحارثبن هشام،
ُ فخرجت وراءه زوجته
ْ فهرب،
َ وأما عكرمةبن أبي جهل
وكانت قد أسلمت يوم الفتح ،وقد أخذت له أماناً من رسول اهلل فلحقته ،وقد أراد أن يركب البحر،
أبر الناس ،وخيرهم ،ال تهلك نفسك ،وإ ني قد استأمنته لك فرجع ،ولما رآه عليه
فقالت :جئتك من عند ّ
الصالة والسالم وثب قائماً فرحاً به ،وقال« :مرحباً بمن جاءنا مهاجراً مسلماً» ثم أسلم رضي اهلل
عنه ،وطلب من رسول اهلل أن يستغفر له كل عداوة عاداه ّإياها فاستغفر له ،وكان رضي اهلل عنه بعد
ذلك من خيرة المسلمين وأغيرهم على اإلسالم.
وأما صفوانبن أمية فاختفى وأراد أن يذهب ويلقي نفسه في البحر ،فجاء ابن عمه ُعميربن وهب
أمنت
َأم ْنهُ فإنك قد ّ
صفوان سيد قومه ،هرب ليقذف نفسه في البحر فَ ِّ
َ الجمحي وقال :با نبي اهلل إن
ُ
األحمر واألسود ،فقال عليه الصالة والسالم« :أدرك ابن عمك فهو آمن» فقال :أعطني عالمة،
فأعطاه ِعمامته ،فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان ،قال له :فداك أبي وأمي ،جئتك من عند أفضل
وعزه ُّ
عزك ،وشرفه شرفك ،وملكه وأبر الناس ،وَأحلم الناس ،وخير الناس ،وهو ابن عمكُّ ،
الناسّ ،
ملكك ،قال صفوان :إني أخاف على نفسي ،قال :هو أحلم من ذلك وأكرم ،وأراه العمامة عالمة
أمنتني؟ قال« :صدق» قال :أمهلني
األمان ،فرجع إلى رسول اهلل ،وقال له :إن هذا يزعم أنك َّ
بالخيار فيه شهرين ،قال« :أنت بالخيار فيه أربعة أشهر» ثم أسلم رضي اهلل عنه وحسن إسالمه.
فرحب بها وقالت له :واهلل يا رسول
َ وأما هند بنت عتبة فاختفت ثم َأسلمت ،وجاءت إلى رسول اهلل
إلي أن يذلوا من أهل خبائك ،ثم ما َأصبح اليوم أهل
أحب ّ
اهلل ما كان على ظهر األرض أهل خباء ّ
إلي أن يعزوا من أهل خبائك.
أحب ّ
خباء ّ
وأما وحشي قاتل حمزة فكذلك أسلم ،وحسن إسالمه ،وقبله عليه الصالة والسالم ،وقد جاءه ابنا أبي
لهب عتبة ومعتب فأسلما وفرح بهما عليه الصالة والسالم.
وكان من الذين اختفوا سهيلبن عمرو ،فاستأمن له ابنه عبد اهلل فأمنه عليه الصالة والسالم ،وقال:
«إن سهيالً له عقل وشرف ،وما مثل سهيل يجه ُل اإلسالم» .فلما بلغت هذه المقالة ُسهيالً قال :كان
واهلل َب ّراً صغيراًّ ،براً كبيراً ،ثم أسلم بعد ذلك.
بيعة النساء
وكن يبايعن على أالّ يشركن باهلل شيئاً ،وال يسرقن ،وال
هذا ،ولما تمت بيعة الرجال بايعه النساءّ ،
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
الع َّزى
هدم ُ
وفي الخامس من ُمقامه عليه الصالة والسالم بمكة أرسل خالدبن الوليد في ثالثين فارساً لهدم هيكل
الع ّزى ـ ـ وهي أكبر صنم لقريش ،وكان هيكلها ببطن َن ْخلة ـ ـ فتوجه إليها خالد وهدمها.
ُ
هدم ُس َواع
وأرسل عليه الصالة والسالم عمروبن العاص لهدم سواع ـ ـ وهو أعظم صنم لهذيل ـ ـ وهيكله على
ثالثة أميال من مكة ،فذهب إليه وهدمه.
هدم مناة
سعدبن زيد األشهلي في عشرين فارساً لهدم مناة ،وهي صنم لكلب وخزاعة .وهيكلها وبعث َ
بالم َشلَّ ِل ،وهو جبل على ساحل البحر يهبط منه إلى قُ َد ْيد .فتوجهوا إليها وهدموها.
ُ
غزوة ُحنين
بهذا الفتح العظيم وسقوط دولة األوثان ،دانت لإلسالم جموعُ العرب ودخلوا فيه أفواجاً .أما قبيلتا
غ محمد من األشراف منهم للشورى ،وقالوا :قد فر َ
ُ هوازن وثقيف فأدركتهما َح ِمَّيةُ الجاهلية ،واجتمع
عناَ ،فْلَن ْغ ُزه قبل أن يغزونا .فأجمعوا أمرهم على ذلك ،وولّوا رياستهم مال َكبن
قتال قومه وال ناهية له ّ
النصري ،فاجتمع له من القبائل جموعٌ كثيرة ،فيهم بنو ِ
سعدبن بكر ،الذي كان رسول اهلل عوف َّ ْ
الص َّمة المشهور بأصالة الرأي ،وشدة البأس في الحرب،مسترضعاً فيهم ،وكان في القوم ُد َر ْيدبن ِّ
ولتقدم ِّ
سنه لم يكن له في هذه الحرب إال الرأي ،ثم إن مالكبن عوف أمر الناس أن يأخذوا معهم
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ُأعجب المسلمون بكثرتهم فلم تُ ْغ ِن عنهم شيئاً ،فإن مقدمة المسلمين توجهت جهة العدو،
هذا ،وقد ْ
فخرج لهم كمين كان مستتراً في ِشعاب الوادي ومضايقه ،وقابلهم بنبل كأنه الجراد المنتشر ،فلووا
أعنة خيلهم متقهقرين،ـ ولما وصلوا إلى من قبلهم تبعوهم في الهزيمة لما لحقهم من الدهشة ،أما
ّ
فثبت على بغلته في ميدان القتال ،وثبت معه قليل من المهاجرين
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم َ
واألنصار ،منهم :أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل وأبو سفيانبن الحارث وأخوه ربيعةبن
ومعتببن أبي لهب ،وكان العباس آخذاً بلجام البغلة ،وأبو سفيان آخذاً بالركاب ،وكان عليه
ُ الحارث
«إلي ّأيها الناس» وال يلوي عليه أحد ،وضاقت بالمنهزمين األرض بما الصالة والسالم يناديَّ :
رحبت .أما رجال مكة الذين هم حديثو عهد باإلسالم والذين لم ينزعوا عنهم ِر ْبقَةَ الشرك فمنهم من
فرح ،ومنهم من ساءه هذا اإلدبار ،فقال أبو سفيانبن حرب :ال تنتهي هزيمتهم دون البحر .وقال أخ
لصفوانبن أمية :اآلن بطل السحر .فقال له صفوان ـ ـ وهو على شركه ـ ــ :اسكت فَ َّ
ض اهلل فاك ،واهلل
ومر عليه رجل من قريش وهو َألن َي ُربَّني رجل من قريش خير من أن َي ُربَّني رجل من هوازنّ .
ْ
صفوان وقال :ويلك أتبشرني ٍ
محمد وأصحابه فواهلل ال يجبرونها أبداً ،فغضب يقول :أبشر بهزيمة
ُ
بظهور األعراب؟ وقال عكرمةبن أبي جهل لذاك الرجل :كونهم ال يجبرونها أبداً ليس بيدك ،األمر
بيد اهلل ليس إلى محمد منه شيء ،إن ُأديل عليه اليوم فإن العاقبة له غداً ،فقال سهيلبن عمرو :واهلل إن
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
عهدك بخالفه لحديث ،فقال له :يا أبا يزيد ّإنا كنا على غير شيء ،وعقولنا ذاهبة ،نعبد حجراً ال
الفارين مكة ،كل هذا ورسول واقف مكانه يقول:
يضر وال ينفع H.وبلغت هزيمة بعض ّ
ّ
هذا ،والذي حصل في هذه الغزوة درس مهم من دروس الحرب ،فإن هذا الجيش دخله أخالط
نصر اإلسالم وخذالنه، ِ
كثيرون من مشركين وأعراب وحديثي عهد باإلسالم ،هؤالء سيَّان عندهم ُ
ولذلك بادروا ألول صدمة إلى الهزيمة ،وكادت تتم الكلمة على المسلمين لوال فضل اهلل ،فال ينبغي
أن يكون في الجيش إال من يقاتل خالصاً مخلصاً من قلبه ليكون مدافعاً حقاً عن دينه ،فال تميل نفسه
للفارين من أليم العقاب.
أعده اهلل ّ
إلى الفرار خشية مما ّ
ثم أمر عليه الصالة والسالم بجمع السبي والغنائم ،وكانت نحو أربعة وعشرين ألف بعير ،وأكثر من
عرانة .أما المشركون فتفرقوا أربعين ألف شاة ،وأربعة آالف أوقية من الفضة ،فجمع ذلك كله ِ
بالج َّ
ثالث فرق :فرقة لحقت بالطائف ،وفرقة لحقت بنخلة ،وفرقة عسكرت بأوطاس.
سرية
فأرسل عليه الصالة والسالم لهذه الفرقة أبا عامر األشعري في جماعة منهم أبو موسى األشعري،
وبددهم وظفر بما بقي معهم من الغنائم .وقد استشهد أبو عامر في هذه الغزوة وخلَّف على
فسار إليهم َّ
الغزاة ابن أخيه أبا موسى ،فرجع ظافراً منصوراً.
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
غزوة الطائف
وسار عليه الصالة والسالم بمن معه إلى الطائف ليجهز على بقية حياة ثقيف ومن تجمع معهم من
ومر عليه الصالة والسالم بحصن لمالكبن عوف
هوازن ،وجعل على مقدمته خالدبن الوليدّ ،
ومر ببستان لرجل من ثقيف قد تمنع فيه ،فأرسل إليه أن اخرج وإ ال َح َّرقنا َّ
النصري فأمر بهدمهَّ .
عليك بستانك ،فامتنع الرجل فأمر عليه الصالة والسالم بحرقه .ولما وصل المسلمون إلى الطائف
قوت سنتهم ،فعسكر المسلمون قريب الحصن .فرماهم
وجدوا األعداء قد تحصَّنوا به وأدخلوا معهم َ
المشركون َّ
بالنبل رمياً شديداً حتى ُأصيب منهم كثيرون بجراحات منهم عبد اللهبن أبي بكر ،وقد
طاوله جرحه حتى أماته في خالفة أبيه ،ومنهم أبو سفيانبن حرب فُقئت عينه .وقد مات بالجراحات
اثنا عشر رجالً من المسلمين .ولما رأى رسول اهلل أن العدو متم ّكن من رميهم ارتفع إلى محل مسجد
الحصار ثمانية عشر يوماً ،كان فيها
ُ ُألم سلمة وزينب قبتين هناك ،واستمر
وضرب ّ
َ الطائف اآلن،
ُينادي خالدبن الوليد بالبِراز فلم يجبه أحد ،وناداه عبد ياليل ـ ـ عظيم ثقيف ـ ـ ال ينزل إليك ّ
منا أحد،
ولكن نقيم في حصننا ،فإن فيه من الطعام ما يكفينا سنين ،فإن أقمت حتى يفنى هذا الطعام خرجنا
صب عليهم المنجنيق إليك بأسيافنا جميعاً حتى نموت عن آخرنا ،فأمر عليه الصالة والسالم بأن ُي ْن َ
ب .ودخل جمع من األصحاب تحت دبابتين لينقبوا الحصن ،فأرسلت عليهم ثقيف ِس َك َك الحديد ِ
فَُنص َ
ُمحماة بالنار حتى أرجعوهم .فأمر عليه الصالة والسالم أن تقطع أعنابهم ونخيلهم ،فقطع المسلمون
فيها قطعاً ذريعاً ،فناداه أهل الحصن ،أن دعها هلل وللرحم ،فقال« :أدعها هلل
كل من ترك الحصن ونزل فهو آمن ،فخرج إليه بضعة عشر رجالً. وللرحم» ثم أمر م ْن ينادي بأن َّ
َ
ولما رأى عليه الصالة والسالم أن ُّ
تمنع ثقيف شديد ،وأن الفتح لم يؤذن فيه استشار نوفلبن معاوية
الديلي في الذهاب أو المقام ،فقال :يا رسول اهلل ثعلب في جحر إن أقمت أخذته ،وإ ن تركته لم
يضرك .فأمر عليه الصالة والسالم بالرحيل ،وطلب منه بعض الصحابة أن يدعو على ثقيف ،فقال:ّ
ِ
«اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم مسلمين».
ّ
تقسيم السبي
وخمسه ،وأعطى منه شيئاًالج ِع َّرانة حيث ترك السبي فأحصاهَّ ، ثم رجع عليه الصالة والسالم إلى ِ
ِّب إليهم اإلسالم ،ومن َّ
كثيراً ُألناس ضعف إسالمهم يتألفُهم بذلك .وأعطى ُأناساً لم يسلموا ُلي َحب َ
األولين :أبو سفيان أعطاه أربعين ُأوقية من الذهب ومائة من اإلبل ،وكذلك ابناه معاوية ويزيد ،فقال
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
له :بأبي أنت وأمي ألنت كريم في السلم والحرب .ومنهم حكيمبن حزام أعطاه كأبي سفيان فاستزاده
ضرة حلوة ،فمن أخذه بسخاوة فأعطاه ،ثم استزاده فأعطاه مثلها ،وقال« :يا حكيم إن هذا المال َخ ِ
ّ
العليا
واليد ُ
يشبعُ ، نفس ُبورك له فيه ،ومن أخذه بإشراف نفس لم ُيبارك له فيه ،وكان كالذي يأ ُك ُل وال َ
وترك ما عداها ،ثم قال :والذي بعثك بالحق ال َْأر َزُأ
َ خير من ِ
اليد السُّفلى» فأخ َذ حكيم المائة األولى
أحداً بعدك شيئاً حتى ُأفارق الدنيا ،فكان الخلفاء بعد رسول اهلل يعرضون عليه العطاء الذي يستحقه
من بيت المال فال يأخذه .وأعطى عليه الصالة والسالم ُعَي ْيَنةَبن حصن مائة من اإلبل ،وكذلك
وشاء كان رآه يرمقه،
ً صفوانبن أمية ِش ْعباً مملوءاً َن َعماً
َ األقرعبن حابس ،والعباسبن ِمرداس ،وأعطى
َ
نفس أحد،
«ه َو لك» فقال صفوان :ما طابت بمثل هذا ُ فقال له« :هل يعجبك هذا؟» قال :نعم ،قالُ :
وكان سبب إسالمه .وكان عليه الصالة والسالم يقصد من هذه العطايا تأليف القلوب وجمعها على
الدين القويم ،وهذا ضرب من ضروب السياسة الدينية حتى َجعل من الصدقات قسماً للمؤلفة قلوبهم،
ممن أعطوا في هذا اليوم ولم يكونوا ُأشربوا في قلوبهم ُح َّ
ب وقد عاد ذلك بفائدة عظمى ،فإن كثيرين ّ
بعد من أجالّء المسلمين ،وأعظمهم نفعاً ،كصفوانبن أمية ،ومعاويةبن أبي سفيان،
اإلسالم صاروا ُ
والحارثبن هشام وغيرهم.
وفود هوازن
وبعد بضع عشرة ليلة جاءه صلى اهلل عليه وسلم وفد هوازن يرأسهم زهيربن صرد وقالوا :يا رسول
وهن َمخازي األقوام ،ونرغب إلى اهلل
والعمات والخاالتّ ،
ّ اهلل إن فيمن أصبتم األمهات واألخوات
كن يكفلنك ،ثم
وإ ليك يا رسول اهلل وقال زهير :إن في الحظائر عماتك وخاالتك وحواضنك الالتي ّ
قال أبياتاً يستعطفه بها:
الرسو ُل منهم قرضاً ،وأمر صلى اهلل عليه وسلم بأن تُ ْحَبس عائلةُ مالكبن عوف النصري رئيس تلك
الحرب بمكة عند عمتهم ُّأم عبد اللهبن أمية .فقال له الوفد :أولئك ساداتنا ،فقال صلى اهلل عليه وسلم:
«إنما ُأريد بهم الخير» ثم سأل عن مالك فقالوا :هرب مع ثقيف ،فقال« :أخبروه أنه إن جاءني مسلماً
رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من اإلبل» فلما بلغ ذلك مالكاً نزل من الحصن ُخ ْفية حتى أتى
بالج ِع َّرانة ،فأسلم وأحرز ماله ،واستعمله عليه الصالة والسالم على َم ْن أسلم من
رسول اهلل ِ
هوازن.
عمرة ِ
الجع َّرانة
ثم إن الرسول صلى اهلل عليه وسلم اعتمر فأحرم من الجعرانة ،ودخل مكة بليل ،فطاف ،واستلم
ثالث عشرة ليلة ،ثم أمر عليه الصالة والسالم
الحجر ،ثم رجع من ليلته ،وكانت إقامته بالجعرانة َ
ٍ
لثالث بقين من ذي القعدة. بالرحيل ،فسار الجيش آمناً مطمئناً حتى دخل المدينة
وأدال دولته ،وأفقد َسراةَ أهله ،فإن هوازن لم
َ جموع الشرك،
َ فرق اهلل بها
وغزوة حنين هي التي ّ
تترك وراءها رجالً ِّ
تمكنه الحرب إال ساقته ،ولم تترك لها بعيراً وال شاة إال جاءت به معها ،فأراد
اهلل إعزاز اإلسالم بخذالن أعدائه وأخذ أموالهم ،فانكسرت ِح ّدة المشركين ،ولم يبق فيهم َم ْن يمانع أو
يبق فيهم إال فئاتيدافع ،ولذلك يمكننا أن نقول :إن انكسار هوازن كان خاتمة لحروب العرب ،فلم َ
قليلة يسوقهم الطيش إلى شهر السالح ،ثم ال يلبثون أن يغمدوا السيوف حينما تظهر لهم قوة الحق
الساطعة.
سرية
صداء ـ ـ قبيلة تسكن
ولما رجع عليه الصالة والسالم إلى المدينة أرسل قيسبن سعد في أربعمائة ليدعو ُ
عمن
اليمن ـ ـ إلى اإلسالم ،فجاء إلى رسول اهلل رجل منهم ،فقال :يا رسول اهلل إني جئتك وافداً ّ
برد الجيش.
الجيش وأنا لك بقومي ،فأمر عليه الصالة والسالم ّ
َ ورائي ،فاردد
ص َداء
وفود ُ
وخرج الرجل إلى قومه فقدم بخمسة عشر رجالً منهم ،فنزلوا ضيوفاً على سعدبن عبادة ،ثم بايعوا
رسول اهلل على اإلسالم ،وقالوا :نحن لك على من وراءنا من قومنا ،ولما رجعوا فشا فيهم اإلسالم،
وقدم على رسول اهلل منهم مائة في حجة الوداع.
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
سرية
ثم أرسل عليه الصالة والسالم بشربن سفيان العدوي إلى بني كعب من خزاعة ألخذ صدقات
أموالهم ،فمنعهم بنو تميم المجاورون لهم من أداء ما فُ ِر َ
ض عليهم ،فلما علم بذلك رسول اهلل أرسل
إليهم عيينةبن حصن في خمسين فارساً من األعراب ،فجاءهم وحاربهم ،وأخذ منهم أحد عشر رجالً،
وإ حدى وعشرين امرأة ،وثالثين صبياً ،وتوجه بالكل إلى المدينة ،فأمر عليه الصالة والسالم بجعلهم
في دار َر ْملَة بنت الحارث.
وفود تميم
والزبرقانبن بدر ،وعمروبن األهتم ،فجلسوا فجاء في أثرهم وفد تميم ،وفيه ُعطاردبن حاجبّ ،
اف :يا محمد اخرج إلينا نادوا من وراء الحجرات بصوت ج ٍ ينتظرون الرسول ،فلما أبطأ عليهم َ
َ
ذمنا َش ْين ،فخرج إليهم عليه الصالة والسالم ،وقد تأذى من صياحهم، نفاخرك ،فإن مدحنا َز ْين ،وإ ن َّ
ِ ِ اد َ ِ َِّ
ون()4ون َك من َو َرآء اْل ُح ُجرات َأ ْكثَُر ُه ْم الَ َي ْعقلُ َ وفيهم نزل في أوائل سورة الحجراتَ :إ َّن الذ َ
ين ُيَن ُ
ِ َّ َّ
يم()5 ور َّرح ٌ صَب ُروْا َحتَّى تَ ْخ ُر َج ِإلَْي ِه ْم لَ َك َ
ان َخ ْيراً لهُ ْم َواللهُ َغفُ ٌ َولَ ْو ََّأنهُ ْم َ
سرية
ثم بعث عليه الصالة والسالم الوليدبن عقبةبن أبي ُم َعيط ألخذ صدقات بني المصطلق ،فلما علموا
بقدومه خرج منهم عشرون رجالً متقلدين سالحهم احتفاالً بقدومه ومعهم إبل الصدقة ،فلما نظرهم
ظنهم يريدون حربه لما كان بينه وبينهم من العداوة في الجاهلية ،فرجع مسرعاً إلى المدينة ،وأخبر
ارتدوا ومنعوا الزكاة ،فأرسل لهم خالدبن الوليد الستكشاف الخبر ،فسار إليهم في
الرسول أن القوم ّ
عسكره خفية حتى إذا كان بناديهم سمع مؤ ّذنهم يؤ ّذن بالصبح ،فأتاهم خالد فلم َير منهم إال طاعة،
فرجع وأخبر الرسول ،فأرسل عليه الصالة والسالم لهم غير الوليد ألخذ الصدقات ،وفي الوليد نزل
يببوْا قَ ْو َما بِ َجهَالَ ٍة ِ
ق بَِنَبٍإ فَتََبيَُّنوْا َأن تُص ُ
في أوائل الحجرات :ياَأيُّها الَِّذين ءامُنوْا ِإن جآء ُكم فَ ِ
اس ُ َ ْ َ َ َ
ِ ِ
صبِ ُحوْا َعلَى َما فَ َعْلتُ ْم َنادم َ
ين()6 فَتُ ْ
سرية
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ثم بلغ رسول اهلل أن جمعاً من الحبشة رآهم أهل ُج َّدةَ في مراكبهم يريدون اإلغارة عليها ،فأرسل لهم
علقمةبن ُم َج ِّزز في ثالثمائة ،فذهب حتى وصل ُج َّدةَ ،ونزل في المراكب ليدركهم ،وكان األحباش
يلق المسلمون كيداً ،فرجع
متحصنين في جزيرة هناك ،فلما رأوا المسلمين يريدونهم هربوا ،ولم َ
علقمة بمن معه .ولما كان بالطريق أذن ِل َسرعان القوم أن يتعجلوا ،وأمر عليهم عبد اللهبن ُحذافة
َّهمي ،وكان فيه دعابة ،فأوقد لهم في الطريق ناراً ،وقال لهم :ألستم مأمورين بطاعتي؟ قالوا:
الس ْ
وهم
نعم ،قال :عزمت عليكم إال ما تواثبتم في هذه النار ،فقال بعضهم :ما أسلمنا إال فراراً من النارَّ ،
بذلك بعضهم ،فمنعهم عبد اهلل ،وقال :كنت مازحاً .فلما ذكروا ذلك لرسول اهلل ،قال« :ال طاعة
لمخلوق في معصية الخالق».
السََّنة التّ ِ
اس َعة
سرية
في ربيع األول أرسل عليه الصالة والسالم عليبن أبي طالب في مائة راكب وخمسين فارساً لهدم
الفلُس ـ ـ ٍ
صنم لطيىء ـ ـ فسار إليه وهدمه وأحرقه ،ولما حارب ُعبَّاده هزمهم واستاق َن َعمهم وشاءهم ُ
طيىء .ولما رجع علي إلى المدينة طلبت سفَّانة من رسول اهلل أن
وسبيهم ،وكان فيه َسفَّانةُ بنت حاتم ّ
َي ُم َّن عليها ،فأجابها ألنه كان من سنته صلى اهلل عليه وسلم أن يكرم الكرام ،فدعت له ،وكان من
ملكتك يد استغنت بعد فقر ،وأصاب اهلل بمعروفك
َ دعائها :شكرتْ َك يد افتقرت بعد غنى ،وال
لردها عليه .وكانت هذه
مواضعه ،وال جعل لك إلى لئيم حاجة ،وال سلب نعمة كريم إال وجعلك سبباً ّ
فر إلى الشام عندما رأى
المعاملة من رسول اهلل سبباً في إسالم أخيها عديبن حاتم الطائي الذي كان ّ
الرايات اإلسالمية قاصدة بالده ،وكان من حديث مجيئه أن أخته توجهت إليه بالشام ،وأخبرته بما
ُعوملت به من الكرم ،فقال لها :ما ترين في أمر هذا الرجل؟ فقالت :أرى أن تلحق به سريعاً ،فإن
يكن نبياً فللسابق إليه فضل ،وإ ن يكن ملكاً فأنت أنت .قال :واهلل هذا هو الرأي.
فخرج حتى جاء المدينة ،ولقي رسول اهلل ،فقال عليه الصالة والسالم« :من الرجل؟» قال :عديبن
حاتم ،فأخذه إلى بيته ،وبينما هما يمشيان إذ لقيت رسول اهلل امرأة عجوز ،فاستوقفته ،فوقف لها
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
طويالً تُ َكلمه في حاجتها ،فقال عدي :واهلل ما هو بملك .ثم مضى رسول اهلل حتى إذا دخل بيته تناول
«اجلس على هذه» .فقال :بل أنت تجلس عليها،
ْ فقدمها إلى عدي ،وقال:
محشوة ليفاً ّ
ّ ِوسادة من جلد
تسلم»
فامتنع عليه الصالة والسالم وأعطاها له ،وجلس هو على األرض ،ثم قال« :يا عدي أسلمْ ،
قالها ثالثاً ،فقال عدي :إني على دين ،وكان نصرانياً .فقال له عليه الصالة والسالم« :أنا أعلم بدينك
عدد له أشياء كان يفعلها اتباعاً لقواعد
مني؟ قال« :نعم» .ثم ّ
منك» فقال عدي :أأنت أعلم بديني ّ
العرب وليست من دين المسيح في شيء ،كأخذه الرباع وهو ربع الغنائم .ثم قال« :يا عدي إنما
يمنعك من الدخول في الدين ما ترى ،تقول:ـ إنما اتَّبعه َ
ض َعفةُ الناس ومن ال قدرة لهم ،وقد رمتهم
العرب مع حاجتهم ،فواهلل ُليوش َك َّن الما ُل أن يفيض فيهم حتى ال ُيوجد َم ْن يأخذه ،ولعلّك إنما يمنعك
الح ْيرة؟» قال :لم أرها وقد سمعت من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم ،أتعرف ِ
ليتم َّن هذا األمر حتى تخرج المرأة من الحيرة تطوف بالبيت من غير جوار أحد،
بها ،قال« :فواهلل َّ
َّ
ليوشكن أن تسمع ولعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم ،وايم اهلل
بالقصور البيض من أرض بابل قد فُتحت عليهم» .فأسلم عدي رضي اهلل عنه وعاش حتى رأى كل
ذلك.
غزوة تَُبوك
بلغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن الروم جمعت الجموع تريد غزوه في بالده ،وكان ذلك في
يحبون المقام في ثمارهم
الحر حين طابت الثمار ،والناس ّ
زمن ُع ْسرة الناس ،وجدب البالد ،وشدة ّ
ورى بغيرهاُ ،لي َع ِّمي
وظاللهم ،فأمر عليه الصالة والسالم بالتجهز ،وكان قلّما يخرج في غزوة إال ّ
عدتهم
العدو ،ليأخذ الناس ّقة ولشدة ِّاألخبار على العدو إال في هذه الغزوة ،فإنه أخبر بمقصده لبعد ال ّش ِ
ُ
وحث الموسرين على تجهيز المعسرين، َّ لذلك ،وبعث إلى مكة وقبائل األعراب يستنفرهم لذلك،
فأنفق عثمانبن عفان َع َشرةَ آالف دينار ،وأعطى ثالثمائة بعير بعير بأحالسها وأقتابها ،وخمسين
ٍ
راض عنه» .وجاء أبو بكر بكل ارض عن عثمان فإني
َ «اللهم
ّ فرساً ،فقال صلى اهلل عليه وسلم:
ماله وهو أربعة آالف درهم ،فقال صلى اهلل عليه وسلم« :هل أبقيت ألهلك شيئاً؟» فقال :أبقيت لهم
اهلل ورسوله ،وجاء عمربن الخطاب بنصف ماله ،وجاء عبد الرحمانبن عوف بمائة أوقية ،وجاء
وسقاً من تمر ،وأرسلت النساء بكل ما
وتصدق عاصمبن عدي بسبعين ْ
ّ العباس وطلحة بمال كثير.
يقدرن عليه من حيلهن ،وجاءه صلى اهلل عليه وسلم سبعةُ أنفس من فقراء الصحابة يطلبون إليه أن
يحملهم .فقال« :ال أجد ما أحملكم عليه» .فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع َح َزناً أالّ يجدوا ما ُينفقون.
العباس اثنين ،وجهز يامينبن عمرو اثنين.
ُ فجهز عثمان ثالثة منهم ،وجهز
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ولما اجتمع الرجال خرج بهم رسول اهلل وهم ثالثون ألفاً ،وولّى على المدينة محمدبن مسلمة ،وعلى
ف كثير من المنافقين يرأسهم عبد اللهبن َُأب ّي ،وقال :يغزو محمد بني أهله عليبن أبي طالب ،وتخلَّ َ
أيحسب محمد أن قتال بني األصفر معه اللعب؟ واهلل لكأني
ُ األصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد
مقرنين في الحبال .واجتمع جماعة منهم ،فقالوا في حق رسول اهلل وأصحابه ما
أنظر إلى أصحابه ّ
كنا
عما قالوا ،فقالوا :إنما ّ
عماربن ياسر يسألهم ّ
يريدون من اإلرجاف ،فبلغه ذلك ،فأرسل إليهم ّ
نخوض ونلعب.
ألنا
تفتنا ّ
وجاء إليه جماعة منهم الجدبن قيس يعتذرون عن الخروج ،فقالوا :يا رسول اهلل ائذن لنا وال ّ
المعذرون من األعراب ـ ـ وهم أصحاب األعذار من ضعف ِّ ال نأمن من نساء بني األصفر ،وجاء إليه
أو قلّة ـ ـ ليؤذن لهم فأذن لهم ،وكذلك استأذن كثير من المنافقين فأذن لهم ،وقد عتب اهلل عليه في ذلك
ِ َِّ نك ِل َم َِأذ َاإلذن بقوله في سورة براءةَ :عفَا اللَّهُ َع َ
ص َدقُوْا َوتَ ْعلَ َم اْل َكاذبِ َ
ين( ين َ َّن لَ َك الذ َ نت لَهُ ْم َحتَّى َيتََبي َ
ِ ال ِخ ِر َو ْارتَ َاب ْون بِاللَّ ِه َواْلَي ْوِم ا ْ ِ َِّ
ون()45 وبهُ ْم فَهُ ْم فى َر ْيبِ ِه ْم َيتََر َّد ُد َ ت ُقلُ ُ ين الَ يُْؤ ِمُن َِ )43إَّن َما َي ْستَْأذُن َك الذ َ
ين( )46لَ ْو ِِ طهُ ْم َو ِق َ الع ُّدوْا لَهُ ُع َّدةً َواَل ِكن َك ِرهَ اللَّهُ انبِ َعاثَهُ ْم فَثََّب َ
يل ا ْق ُع ُدوْا َم َع اْلقَاعد َ وج َ ادوْا اْل ُخ ُر َ َولَ ْو ََأر ُ
َّ ِ ادو ُكم ِإالَّ َخباالً والَوضعوْا ِخاَل لَ ُكم ي ْب ُغ َ ِ ِ
يم
ون لَهُ ْم َواللهُ َعل ٌ اع َ ون ُك ُم اْلفتَْنةَ َو ِفي ُك ْم َس َّم ُ َْ ْ َُ َ َخَر ُجوْا في ُكم َّما َز ُ ْ
َّ ِ ِ
ين()47 بِالظالم َ
gولما استراح الجيش لحقه أبو خيثمة ،وكان من خبر مجيئه أن دخل على أهله في يوم حار ،فوجد
وهيأت
ْ وبردت فيها ماء، امرأتين له في عريشين لهما في بستان ،قد رشت ٌّ
كل منهما عريشهاَّ ،
طعاماً ،وكان يوماً شديد الحر ،فلما نظر ذلك قال :يكون رسول اهلل في الحر وأبو خيثمة في ظل بارد
عريش واحدة منكما حتى ألحق
َ صف .ثم قال :واهلل ال أدخل وماء مهيأ وامرأة حسناء ما هذا َّ
بالن َ
فهيئا لي زاداً ففعلتا ،ثم ركب بعيره ،وأخذ سيفه ورمحه ،وخرج يريد رسول اهلل فصادفه
برسول اهلل ّ
حين نزل بتبوك.
وج ْرَباء
كتاب أهل َأ ْذ ُرح َ
وكتب ألهل أذرح وجرباء كتاباً صورته« :بسم اهلل الرحمان الرحيم ،هذا كتاب من محمد النبي ألهل
أذرح وجرباء ،إنهم آمنون بأمان اهلل وأمان محمد ،وإ ن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة،
واهلل كفيل بالنصح واإلحسان للمسلمين».
وصالَح أهل َم ْقنا على ربع ثمارها.
ثم إن الرسول استشار أصحابه في مجاوزة تبوك إلى ما هو أبعد منها من ديار الشام ،فقال له عمر:
َأستَ ِش ْر» .فقال :يا ِ
إن كنت ُأمرت بالسير فس ْر .فقال عليه الصالة والسالم« :لو كنت ُأمرت بالسير لم ْ
دنوك،
رسول اهلل إن للروم جموعاً كثيرة ،وليس بالشام أحد من أهل اإلسالم ،وقد دنونا ،وقد أفزعهم ُّ
فلو رجعنا في هذه السنة حتى نرى أو يحدث اهلل أمراً ،فتبع عليه الصالة والسالم مشورته ،وأمر
بالقفول فرجع الجيش إلى المدينة.
مسجد ِّ
الضرار
الضرار وهو مسجد أسَّسه جماعةٌ من المنافقين معارضة ولما كان على مقربة منها ،بلغه خبر مسجد ِّ
لمسجد قُباء ،ليفرقوا جماعة المسلمين .وجاء جماعة منهم إلى الرسول طالبين منه أن يصلِّي لهم فيه،
فسألهم عن سبب بنائه ،فحلفوا باهلل إن أردنا إال الحسنى ،واهلل يشهد إنهم لكاذبون ،فأمر عليه الصالة
والسالم جماعة من أصحابه لينطلقوا إليه ،ويهدموه ،ففعلوا .هذا ،ولما استقر عليه الصالة والسالم
بالمدينة جاءه جماعات من الذين تخلفوا يعتذرون كذباً ،فقبل منهم عليه الصالة والسالم عالنيتهم،
ووكل ضمائرهم إلى اهلل ،واستغفر لهم.
وفود ثقيف
وعقب مقدمه عليه الصالة والسالم من تبوك وفد عليه وفد ثقيف ،وكان من خبرهم ،أنه لما انصرف
رسول اهلل من محاصرتهم ،تبع أثره عروةبن مسعود الثقفي حتى أدركه قبل أن يصل المدينة ،فأسلم،
وسأله أن يرجع إلى قومه ويدعوهم إلى اإلسالم ،فقال له« :إنهم قاتلوك» .فقال :يا رسول اهلل أنا
أحب إليهم من أبكارهم ،فخرج إلى قومه يرجو منهم طاعته لمرتبته فيهم ،ألنه كان فيهم محبباً
مطاعاً ،فلما جاء الطائف وأظهر لهم ما جاء به رموه بالنبل فقتلوه ،وبعد شهر من مقتله ائتمروا فيما
بينهم ورأوا أنه ال طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب ،فأجمعوا أمرهم على أن يرسلوا لرسول
اهلل رجالً منهم يكلِّمه ،وطلبوا من عبد ياليلبن عمرو أن يكون ذلك الرجل فأبى ،وقال :لست فاعالً
حتى ترسلوا معي رجاالً ،فبعثوا معه خمسة من أشرافهم ،فخرجوا متوجهين إلى المدينة ،ولما قابلوا
رسول اهلل ضرب لهم قبة في ناحية المسجد ليسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلّوا .وكانوا َي ْغدون
سناً عثمانبن أبي العاص .فكان إذا رجعوا إلى رسول اهلل كل يوم ويخلِّفون في رحالهم أصغرهم ّ
ذهب للنبي واستقرأه القرآن ،وإ ذا رآه نائماً استقرأ أبا بكر حتى حفظ شيئاً كثيراً من القرآن ،وهو
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ثم كتب لهم كتاباً من جملته« :بسم اهلل الرحمان الرحيم ،من محمد النبي رسول اهلل إلى المؤمنين ،إن
ض ُد شجره ،ومن ُوجد يفعل شيئاً من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه» .ثم ِ
ص ْي َدهُ َح َر ٌام ،ال ُي ْع َ
ضاهَ َو َج َو َ
ع َ
سألوا رسول اهلل أن يَؤ ِّجل هدم صنمهم شهراً حتى يدخل اإلسالم في قلوب القوم ،وال يرتاع السفهاء
من النساء من هدمه ،فرضي بذلك عليه الصالة والسالم ،ولما خرجوا من عنده قال لهم رئيسهم :أنا
وخوفوهم الحرب والقتال ،وأخبروهم أن محمداً طلب أموراً
أعلمكم بثقيف ،اكتموا عنهم إسالمكم ِّ
عظيمة أبيناها عليه .سألنا أن نهدم الطاغية ،وأن نترك الزنا ،وشرب الخمر والربا ،فلما حلّوا بالدهم
ظاً غليظاً قد ظهر بالسيف ،ودان الناس له ،فعرض علينا
جاءتهم ثقيف ،فقال الوفد :جئنا رجالً ف ّ
ورموا
أموراً شديدة ،وذكروا ما تقدم .فقالوا :واهلل ال نطيعه أبداً ،فقالوا لهم :أصلحوا سالحكمُّ ،
حصونكم ،واستعدوا للقتال ،فأجابوا ،واستمروا على ذلك يومين أو ثالثة ،ثم ألقى اهلل الرعب في
قلوبهم ،فقالوا :واهلل ما لنا بحربه من طاقة ،ارجعوا إليه وأعطوه ما سأل ،فقال الوفد :قد قاضيناه
وأسلمنا ،فقالوا ِل َم كتمتم علينا ذلك؟ قالوا :حتى تذهب عنكم نخوة الشيطان فأسلموا.
هدم الالت
رسول اهلل إسالم ثقيف أرسل أبا سفيان ،والمغيرةبن شعبة الثقفي،ـ لهدم الالت :صنم ثقيف
َ ولما بلغ
سو ْوهُ باألرض.
بالطائف ،فتوجهوا وهدموه حتى َّ
علي ثالث عشرة آية من أول سورة براءة ،تتضمن نبذ العهود لجميع المشركين الذين لم يوفّوا
عليهم ٌّ
عهودهم ،وإ مهالهم أربعة أشهر يسيحون فيها في األرض كيف شاؤوا ،وإ تمام عهد المشركين الذين
لم ُيظاهروا على المسلمين ،ولم يغدروا بهم إلى مدتهم ،ثم نادى :ال ُّ
يحج بعد العام مشرك ،وال
يطوف بالبيت عريان ،وكان علي يصلي في هذا السفر وراء أبي بكر رضي اهلل عنهما.
أبي
وفاة ابن ّ
َّع جنازته َّ
وفي ذي القعدة مات عبد اللهبن َُأب َي ،وقد صلى عليه رسول اهلل صالة لم يطل مثلها ،و َشي َ
حتى وقف على قبره ،وإ نما فعل ذلك تطييباً لقلب ولده عبد اللهبن عبد اهلل ،وتأليفاً لقلوب الخزرج
أبي فيهم ،وقد نزع ربقة النفاق كثير من المنافقين بعد هذا اليوم ،لما رأوه من
لمكانة عبد اللهبن ّ
أعمال السيد الكريم صلى اهلل عليه وسلم ،وقد نهى اهلل رسوله عن الصالة على المنافقين ،فقال ج ّل
َأح ٍد ّم ْنهُم َّم َ
ات ََأبداً َوالَ تَقُ ْم َعلَى قَْب ِر ِه} (التوبة.)84 : ص ّل َعلَى َ
شأنه في سورة براءةَ :والَ تُ َ
وفاة ُّأم كلثوم
وفي هذه السنة توفيت ُّأم كلثوم بنت رسول اهلل وزوج عثمان رضي اهلل عنهما.
السََّنة العاشرة
سرية
سرية
وع َّممه بيده، ِ
وفي رمضان أرسل عليه الصالة والسالم علياً في جمع إلى بني م ْذحج ـ ـ قبيلة يمانية ـ ـ َ
وقال« :سر حتى تنزل بساحتهم ،فادعهم إلى قول :ال إله إالّ اهلل ،فإن قالوا :نعم ،فَ ُم ْر ُه ْم بالصالة وال
َألن يهدي اهلل بك رجالً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس ،وال تقاتلهم
تبغ منهم غير ذلكَ ،و ْ
ِ
حتى يقاتلوك» فلما انتهى إليهم لقي جموعهم فدعاهم إلى اإلسالم فأبوا ،ورموا المسلمين بالنبل
علي أصحابه وأمرهم بالقتال ،فقاتلوا حتى هزموا عدوهم َّ
فكف عن طلبهم ،ثم لحقهم ودعاهم َّ
فصف ٌّ
إلى اإلسالم فأجابوا ،وبايعه رؤساؤهم ،وقالوا :نحن على َم ْن وراءنا من قومنا ،وهذه صدقاتنا فخذ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
منها حق اهلل ،ففعل .ثم رجع إلى رسول اهلل فوافاه بمكة في حجة الوداع.
ثم بعث عليه الصالة والسالم إلى اليمن عماالً من قبله ،فبعث معاذبن جبل على الكورة العليا من جهة
ووصاهما صلى اهلل عليه وسلم بقوله« :يسِّرا
ّ عدن ،وبعث أبا موسى األشعري على الكورة السفلى،
وال تعسِّراِّ ،
وبشرا وال تنفِّرا» وقال لمعاذ« :إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ،فإذا جئتهم فادعهم إلى أن
يشهدوا أن ال إله إال اهلل َّ
وَأن محمداً رسول اهلل ،فإن أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن اهلل فرض عليهم
خمس صلوات في اليوم والليلة ،فإن أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن اهلل فرض عليهم صدقة تؤخذ من
وكرائم أموالهم ،واتق دعوة المظلوم فإنه
َ فترد على فقرائهم ،فإن هم أطاعوا لك بذلك ،فإياك
أغنيائهم ّ
ليس بينها وبين اهلل حجاب» وقد مكث معاذ باليمن حتى توفي رسول اهلل ،أما أبو موسى فقدم على
الرسول صلى اهلل عليه وسلم في حجة الوداع.
خطبة الوداع
ودع فيها المسلمين ،ولم يحج غيرها.
وفي السنة العاشرة حج صلى اهلل عليه وسلم بالناس حجة ّ
وخرج لها يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة ،وولّى على المدينة أبا دجانة األنصاري ،وكان مع
«لبيك اللهم
الرسول جمع عظيم يبلغ تسعين ألفاً ،وأحرم للحج حيث انبعثت به راحلته ثم ّلبى ،فقالّ :
والمْلك ال شريك لك» .ولم َي َزل صلى اهلل عليه
ّلبيكّ ،لبيك ال شرك لك ّلبيك ،إن الحمد والنعمة لك ُ
زده
«اللهم ْ
ّ وسلم سائراً حتى دخل مكة ضحى من الثنية العليا وهي ثنية َك َداء .ولما رأى البيت قال:
تشريفاً وتعظيماً ومهابةً وبراً» .ثم طاف بالبيت سبعاً ،واستلم الحجر األسود ،وصلّى ركعتين عند
مقام إبراهيم ،ثم شرب من ماء زمزم ،ثم سعى بين الصفا والمروة سبعاً راكباً على راحلته ،وكان إذا
صعد الصفا يقول:ـ «ال إله إال اهلل ،اهلل أكبر ،ال إله إالّ اهلل وحده ،أنجز وعده ،ونصر عبده ،وهزم
األحزاب وحده» .وفي الثامن من ذي الحجة توجه إلى منى فبات بها.
حجة الوداع
وفي التاسع منه توجه إلى َع َرفة ،وهناك خطب خطبته الشريفة التي بيَّن فيها الدين كله ُأسَّهُ وفرعه،
وهاك نصها:
َ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
«الحمد هلل نحمده ،ونستعينه ونستغفره ،ونتوب إليه ،ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،وأشهد
ُ ضلل فال هادي له، ضل له ،ومن ُي ْ من ِ
يهد اهلل فال م َّ
ُ َْ
وَأحثُّ ُكم على طاعته ،وأستفتح بالذي هو خير،
أن محمداً عبده ورسولهُ :أوصيكم عباد اهلل بتقوى اهلل ُ
مني َُأبيِّن لكم فإني ال أدري لعلّي ال ألقاكم بعد عامي هذا في موقفيـ هذا.
أما بعد :أيها الناس اسمعوا ّ
كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في
حرام عليكم إلى أن تلقَوا ربَّكمُ ،
ٌ ّأيها الناس إن دماءكم وأموالكم
فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.
اللهم فاشهد ،فمن كانت عنده أمانة ّ
بلدكم هذا ،أال هل بلغت؟ ّ
إن ربا الجاهلية موضوع،ـ وإ َّن أول رباً أبدأ به ربا عمي العباسبن عبد المطلب ،وإ ن َ
دماء الجاهلية
وأو ُل دم أبدأ به دم عامربن ربيعةبن الحارث ،وإ ن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة موضوعة َّ
الع ْمد ما قُتِل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير ،فمن زاد فهو من أهل ِ
والع ْمد قَ َو ٌدَ ،وش ْبهُ َ
والسقايةَ ،
الجاهلية.
أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن ُيعبد في أرضكم هذه ،ولكنه قد رضي أن ُيطاع فيما سوى ذلك مما
ِ
تحقرون من أعمالكم.
ض ُّل به الذين كفروا يحلّونه عاماً ،ويحرمونه عاماً ،ليواطئوا
أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر ُي َ
حرم اهلل ،وإ ن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اهلل السموات واألرض ،وإ ن ِع َّدةَ الشهور
عدة ما ّ
عند اهلل اثنا عشر شهراً في كتاب اهلل يوم خلق اهلل السموات واألرض ،منها أربعة ُح ُر ٌم ،ثالث
متواليات وواحد فرد :ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ،ورجب الذي بين ُجمادى وشعبان ،أال هل
اللهم اشهد.
بلغت؟ ّ
ّأيها الناس إنما المؤمنون إخوة ،وال َي ِح ُّل المرىء مال أخيه إال عن طيب نفس منه ،أال هل بلّغت؟
ٍ
بعض ،فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به رقاب
َ اللهم اشهد ،فال تَْر ِج ُع َّن بعدي ُكفَّاراً يضرب بعضكم
ّ
اللهم اشهد. ِ
لم تضلوا بعده :كتاب اهلل ،أال هل بلغت؟ ّ
أيها الناس إن ربكم واحد ،وإ َّن أباكم واحد ،كلكم آلدم وآدم من تراب ،أكرمكم عند اهلل أتقاكم ،ليس
الشاهد منكم الغائب.
ُ اللهم اشهد ،فليبلغ
لعربي فض ٌل على عجمي إال بالتقوى .أال هل بلغت؟ ّ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ٍ
لوارث وصية ،وال تجوز وصية أيُّها الناس إن اهلل قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ،وال تجوز
ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه
الح َج ُر ،من ّ
في أكثر من الثلث ،والولد للفراش ،وللعاهر َ
فعليه لعنة اهلل والمالئكة والناس أجمعين ،ال يقبل منه صرف وال عدل ،والسالم عليكم ورحمة اهلل»
ت َعلَْي ُك ْمت لَ ُك ْم ِد َين ُك ْم َوَأتْ َم ْم ُ وفي هذا اليوم َّ
امتن اهلل على المؤمنين بقوله في سورة المائدة{ :اْلَي ْو َم َأ ْك َمْل ُ
األسالَ َم ِديناً} (المائدة )3 :فال غرابة أن اتخذه المسلمون عيداً ،ويوماً سعيداً، يت لَ ُك ُم ْ
ض ُنِعمتِى ور ِ
َْ ََ
أدى مناسك الحج من ُيظهرون فيه شكر اهلل على هذه النعمة الكبرى .ثم إنه عليه الصالة والسالم َّ
رمي الجمار ،والنحر ،والحلق ،والطواف .وبعد أن أقام بمكة عشرة أيام قََف َل إلى المدينة ولما رآها
المْلك وله الحمد وهو على كل شيء قدير،
كبَّر ثالثاً وقال« :ال إله إالّ اهلل وحده ال شريك له ،له ُ
آيبون ،تائبون ،عابدون ،ساجدون ،لربنا حامدون ،صدق اهلل وعده ،ونصر عبده ،وهزم األحزاب
وحده».
الوفود
في هذه السنة والتي قبلها كان ُوفود العرب إلى رسول اهلل ليبايعوه على اإلسالم ،وكانوا َي ْق ُدمون
أفواجاً ،ولما في أخبار هذه الوفود من التعاليم الحميدة التي يحتاج ذو األدب أن يعرفها ،رأينا أن نذكر
وينير بصيرتك فنقول:ـ
لك منها ما يزيدك يقيناً ُ
وفود َن ْجران
ومن الوفود وفد نصارى نجران ،وكانوا ستين راكباً ،دخلوا المسجد وعليهم ثياب ِ
الحَب َر ِة وأردية
وح جاؤوا بها هدية للنبي صلى اهلل عليه
وم ُس ٌ
الحرير ،مختمين بالذهب ،ومعهم بسط فيها تماثيلُ ،
الم ُسوح .ولما جاء وقت صالتهم صلّوا في المسجد مستقبلين بيت
وسلم ،فلم يقبل البسط وقبل ُ
المقدس.
وفود ِ
ض َمامبن ثعلبة
ومن الوفود ضمامبن ثعلبة ،بينما رسول اهلل بين أصحابه متكئاً جاء رجل من أهل البادية ،ثائر
ابن عبد المطلب؟
الرأسُ ،يسمع دوي صوته ،وال ُي ْفقَه ما يقول ،فأناخ جمله في المسجد ،ثم قالّ :أيكم ُ
«س ْل
علي في نفسك .فقالَ : ِ
فمشد ٌد عليك في المسألة ،فال تَج ْد ّ
ّ فدلّوه عليه ،فدنا منه وقال :إني سائلُ َك
أرسلك إلى الناس كلِّهم؟ فقال« :نعم» ،فقالَْ :أن ُش ُد َك باهلل ،آهلل
ما بدا لك» ،فقالَْ :أن ُش ُدك باهلل ،آهلل َ
«اللهم نعم» ،فقالَْ :أن ُش ُد َك باهلل ،آهلل أمرك أن
ّ خمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: أمرك أن نصلّي َ
«اللهم نعم» ،فقالَْ :أن ُش ُد َك باهلل ،آهلل أمرك أن َّ
نحج ّ تأخذ من أموال أغنيائنا َّ
فترده على فقرائنا؟ قال:
امبن ِ
وصدقت وأنا ض َم ُ
ُ آمنت
ُ «اللهم نعم» ،قال :فإني قد
ّ هذا البيت من استطاع إليه سبيالً؟ قال:
ثعلبة.
ولما ولَّى ،قال عليه الصالة والسالم« :فَقُهَ الرجل» ،ثم ذهب ضمام إلى قومه ،ودعاهم إلى اإلسالم،
ِ
وترك عبادة األوثان فأسلموا كلهم.
ومن الوفود عبد القيس ،وكان من خبرهم أن الرسول كان جالساً بين أصحابه يوماً ،فقال لهم:
أنضوا الركائب،
ركب هم خير أهل المشرق ،لم ُيكرهوا على اإلسالم ،قد َ
«سيطلع عليكم من هنا ٌ
اللهم اغفر لعبد القيس» .فلما أتوا ورأوا النبي صلى اهلل عليه وسلم َر َموا بأنفسهم عن
وأفنوا الزادّ ،
الركائب بباب المسجد ،وتبادروا إلى رسول اهلل ،يسلمون عليه ،وكان فيهم عبد اللهبن عوف اَأل َش ّج،
ف عند الركائب حتى أناخها وجمع المتاع ،وأخرج ثوبين أبيضين فلبسهما، سناً ،فتخلَّ َ
وكان أصغرهم َّ
ثم جاء يمشي َه ْوناً حتى سلَّم على رسول اهلل ،وكان رجالً دميماً ،فَفَ ِطن لنظر الرسول إلى َد َمامته،
فقال :يا رسول اهلل إنه ال ُيستقى في مسوك ـ ـ أي :جلود ـ ـ الرجال ،وإ نما الرجل بأصغريه :قلبه
ولسانه ،فقال صلى اهلل عليه وسلم« :إن فيك خلتين يحبُّهما اهلل ورسولهِ :
الحلم واألناة» v.وقد قال
صلى اهلل عليه وسلم لهذا الوفد« :مرحباً بالقوم غير خزايا وال ندامى» ،فقالوا :يا رسول اهلل ّإنا نأتيك
الحي من كفار ُمضر ،وإ ّنا ال نص ُل إالّ في شهر حرام، َّ ٍ
من ُشقة بعيدة ،وإ نه يحول بيننا وبينك هذا ّ
فمرنا ٍ
بأمر فصل ،فقال« :آمركم باإليمان باهلل .أتدرون ما اإليمان باهلل؟ شهادة أن ال إله إال اهلل ،وأن ُ
محمداً رسول اهلل ،وإ قام الصالة ،وإ يتاء الزكاة ،وصوم رمضان ،وأن تُعطوا من المغنم الخمس،
والنِقير ،والمزفَّت» والمراد بذلك :ما ينبذ في هذه األواني .فقال األشج:
والحنتَِمَّ ، وأنهاكم عن ُّ
الدبَّاءَ ،
يا رسول اهلل إن أرضنا ثقيلة وخمة ،وإ نا إذا لم نشرب هذه األشربة عظمت بطوننا ،فََر ِّخص لنا في
رخصت لك في مثل
ُ مثل هذه ،وأشار إلى يده ،فأومأ عليه الصالة والسالم بكفّيه ،وقال« :يا أشج إن
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
هذه شربته في مثل هذه ـ ـ وفرج بين يديه وبسطه ـ ـ حتى إذا ثَ ِم َل أحدكم من شرابه قام إلى ابن عمه
ص عليه الصالة والسالم نهيهم بما ذكر لكثرة األشربة
فضرب ساقه بالسيف» .وإ نما َخ َّ
َ
بينهم.
وفود بني َحنيفة
ومن الوفود بنو حنيفة وكان معهم ُم َسيلمة الكذاب ،وكان مسيلمة يقول:ـ إن جعل لي األمر من بعده
اتبعته ،فأقبل عليه الصالة والسالم ومعه ثابتبن قَْيسبن َش َّماس ،وفي يد رسول اهلل قطعة من جريد
«إن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ،وإ ني ُألراك الذي
حتى وقف على مسيلمة في أصحابه ،فقالْ :
فأهمه
منه رأيت» .وكان عليه الصالة والسالم قد رأى في منامه أن في يده سوارين من ذهبَّ ،
كذاب ْين يخرجان من
فأولهما صلى اهلل عليه وسلم َ
شأنهما ،فأوحى اهلل إليه أن انفخهما فنفخهما فطاراّ ،
بعده ،فكان مسيلمة أحدهما ،والثاني :األسود العنسي صاحب صنعاء .وقد أسلم بنو حنيفة.
طيِّىء
وفود َ
كر
ومن الوفود وفد طيِّىء ،وفيهم زيد الخيل رئيسهم ،وقد قال صلى اهلل عليه وسلم في حقه« :ما ُذ َ
وسماه صلى اهلل عليه وسلم زيد الخير.
لي رجل من العرب إال رأيته دون ما قيل فيه إال زيد الخيل» ّ
وفود ِك ْندة
وكان وجيهاً مطاعاً في قومه .ولما دخلوا على رسول اهلل
ومنهم وفد كندة وفيهم األشعثبن قيسَ ،
عما َخبأناه لك؟ فقال« :سبحان اهلل إنما يفعل ذلك بالكاهن ،وإ َّن الكاهن
خبأوا له شيئاً ،وقالوا :أخبرنا ّ
علي كتاباً ال يأتيه الباطل من بين يديه وال والمتكهن في النار» .ثم قال« :إن اهلل بعثني بالحق ،وأنزل ّ
الزج ِ
رات َز ْجراً()2 صفَّا( )1فَ ِ َّ ِ
من خلفه» ،فقالوا :أسمعنا منه ،فتال عليه الصالة والسالمَ :والصَّافات َ
ق(َ )5ولَِئنب اْل َم َش ِار ِ ال ْر ِ
ض َو َما َب ْيَنهُ َما َو َر ُّ ب السَّم ِ
اوات َوا ْ ِ ِإ
فَالتالَيات ذ ْكراً(َّ )3ن اله ُك ْم لَ َواح ٌد(َّ )4ر ُّ َ
َّ ِ ِ ِ
َّ
ان ِشْئ َنا لََن ْذ َهَب َّن بِالَِّذى َْأو َح ْيَنا ِإلَْي َك ثَُّم الَ تَ ِج ُد لَ َك بِ ِه َعلَْيَنا َو ِكيالً(ِ )86إال َر ْح َمةً ّمن َّرّب َك ِإ َّن فَ ْ
ضلَهُ َك َ
َعلَْي َك َكبِ ًيرا()87
شنوءة
َ وفود َْأز ِد
بسم اهلل الرحمان الرحيم ،من محمد رسول اهلل ،إلى الحارثبن عبد ُكالل وإ لى ُنعيمبن عبد ُكالل ،وإ لى
وه ْمدان .أما بعد :فإني أحمد اهلل إليكم الذي ال إله إال هو ،أما بعد:
ومعافرَ ، ِ
النعمان قَيل ذي ُر َع ْينَ ،
فإنه قد وقع بنا رسولكم مقفلنا من أرض الروم ،فلقيناه بالمدينة فبلَّغ ما أرسلتم به ،وخبَّر ما قبلكم،
وأنبأنا بإسالمكم ،وقتلكم المشركين ،وأن اهلل قد هداكم بهداه ،إن أصلحتم وأطعتم اهلل ورسوله ،وأقمتم
وصِفيَّهُ ،وما ُكتب على المؤمنين
وسهم النبي َ
َ الصالة ،وآتيتم الزكاة ،وأعطيتم من الغنائم ُخ ُمس اهلل،
من الصَّدقة .أما بعد :فإن محمداً النبي أرسل إلى ُز ْر َعةَبن ذي يزن إذا أتاكم ُر ُسلي فأوصيكم بهم
وعقبةبن نمر ،ومالكبن ُم ّرة وأصحابهم ،وأن
خيراًُ :معاذبن جبل ،وعبد اللهبن زيد ،ومالكبن ُعبادةُ ،
رسلي ،وإ ن أميرهم معا ُذبن جبل فال اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخاليفكم ،وأبلغوها ُ
ِ
َي َنقلَب َّن إال راضياً ،أما بعد :فإن محمداً يشهد أن ال إله إالّ اهلل وأنه عبده ورسوله ،ثم إن مالكبن ّ
مرة
حدثني أنك قد أسلمت من أول ِحمير ،وقتلت المشركين ،فأبشر بخير وآمرك ِ
بح ْمَير الرهاوي قد ّ َّ
َْ ّ
خيراً ،وال تخونوا وال تخاذلوا ،فإن رسول اهلل هو مولى غنيكم وفقيركم ،وإ ن الصدقة ال تَ ِح ُّل لمحمد
وال أهل بيته ،إنما هي زكاة ُي َزكى بها على فُقراء المسلمين وابن السبيل ،وإ ن مالكاً قد بلَّغ الخبر،
الغيب ،وآمركم به خيراً ،والسالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته. ِ
وحفظ َ
وفود َه ْمدان
ومنها وفد َه ْمدان ،وفيهم مالكبن َن َمط ،وكان شاعراً مجيداً ،فلقوا رسول اهلل َم ْر ِج َعهُ من تبوك ،عليهم
الحَبرات اليمنية ،والعمائم العدنية ،وقد أنشد مالك لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: مقَطَّعات من ِ
ُ َ
الذين ُّ
ردوا الرد القبيح حينما كان رسول اهلل بعكاظ يدعو القبائل ومنها وفد بني محارب ،وكانوا من َ
ألد األعداء ـ ـ مسلمين ُمنقادين
منة اهلل الذي أتى بهؤالء ـ ـ وكانوا ّ
إلى اهلل ،فما أعظم ّ
وفود َغسَّان
ومنها وفد غسان ،ووفد بني َع ْبس ،ووفد النخع.
ويجيزهم
وكان عليه الصالة والسالم يقابل هذه الوفود بما َجَبلَهُ اهلل عليه من البشاشة ،وكرم األخالقُ ،
بما يرضيهم ،ويعلمهم اإليمان والشرائع ،ليعلِّ ُموا من وراءهم ،وكانت هذه الوفود أعظم وصلة
إلظهار الدين بين األعراب في البوادي.
وفاة إبراهيم ابن النبي عليه الصالة والسالم
وفي هذه السنة توفي إبراهيم ابن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
السََّنة الحادية عشرة
سرية
بقين من صفر ،جهز عليه الصالة والسالم جيشاً برياسة ُأسامةبن زيد إلى ُْأبنى حيث قتل
ألربع َ
زيدبن حارثة ،والد ُأسامة ،وقال له« :سر إلى موضع قتل أبيك ،فأوطئهم الخيل ،فقد ولّيتك هذا
وحرق عليهم ،وأسرع السير لتسبق األخبار ،فإن أظفرك اهلل الجيشِ ،
فَأغ ْر صباحاً على أهل ُْأبنىِّ ،
وقدم العيون والطالئع معك» .وكان مع ُأسامة في هذا الجيش كبارفأقل اللبث فيهم ،وخذ األدالَّءِّ ،
َّ
المهاجرين واألنصار منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد.
«اغز باسم اهلل ،في سبيل اهلل ،وقاتل من كفر
ُ ثم عقد عليه الصالة والسالم ُألسامة اللواء ،وقال له:
باهلل».
وقد انتقد جماعة على تأمير ُأسامة وهو شاب لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره على جيش فيه كبار
المهاجرين ،فُأبلغ الرسول هذه المقالة فغضب غضباً شديداً ،وخرج ،فقال« :أما بعدّ ،أيها الناس فما
مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري ُأسامة؟ ولئن طعنتم في تأميري ُأسامة لقد طعنتم في تأميري أباه
أحب الناس
لخليق بها ،وإ ن كان لمن ّ
ٌ وايم اهلل إنه كان لخليقاً باِإل مارة ،وان ابنه من بعده
من قبلهُ ،
لمظنة لكل خير ،فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم».
إلي ،وإ نهما ّ
َّ
ولم يتم لهذا الجيش الخروج في عهد المصطفى صلى اهلل عليه وسلم ألن المرض بدأة فاختاره اهلل
متمماً في كتابنا «إتمام الوفاء بسيرة
للرفيق األعلى .وسيرى القارىء إن شاء اهلل خروج هذا الجيش ّ
الخلفاء».
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ِّ
فليصل بالناس» فرضيه عليه الصالة «مروا أبا بكر َّ
ولما تعذر عليه الخروج إلى الصالة قالُ :
فدخل العباس،
َ اشتداد وجع الرسول طافوا بالمسجد،
َ األنصار
ُ والسالم خليفةً له في حياته .ولما رأت
علي والفضل ،وتقدم العباسوأعلمه بمكانهم وإ شفاقهم ،فخرج صلى اهلل عليه وسلم متوكئاً على ّ
معصوب الرأس َي ُخطُّ برجليه ،حتى جلس في أسفل ِمرقاة المنبر ،وثار الناس إليه
ُـ أمامهم والنبي
نبيكم ،هل خلد نبي قبلي
فحمد اهلل ،وأثنى عليه ،ثم قال« :أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت ّ
فيمن بعث اهلل فَُأخلَّد فيكم؟ أال إني الحق بربي ،وإ نكم الحقون بي ،فأوصيكم بالمهاجرين األولين
خيراً ،وأوصيـ المهاجرين فيما بينهم ،فإن اهلل تعالى يقول:ـ واْلعص ِر(ِ )1إ َّن اِإل نسان لَِفى ُخس ٍر(ِ )2إالَّ
ْ َ َ َ َ ْ
َّب ِر( )3فَهَ ْل َع َس ْيتُ ْم ِإن تََولَّْيتُ ْم َأن
اص ْوْا بِالص ْ اص ْوْا بِاْل َح ّ
ق َوتََو َ
ِ ِ ِ
ءامُنوْا َو َعملُوْا الصَّال َحات َوتََو َ
ين َ الذ َ
َِّ
ام ُك ْم()22
ض َوتُقَطّ ُعوْا َْأر َح َ تُ ْف ِس ُدوْا ِفى ا ْ
ال ْر ِ
وبينما المسلمون في صالة الفجر ،من يوم االثنين ثالث عشر ربيع األول ،وأبو بكر يصلي بهم ،إذا
ف حجرة عائشة ،فنظر إليهم وهم في صفوف الصالة، برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد كشف ِس ْج َ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ولم تأت ضحوة هذا اليوم حتى فارق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم دنياه ،ولحق بمواله ،وكان ذلك
في يوم االثنين 13ربيع أول سنة 8( 11يونيو سنة )633فيكون عمره عليه الصالة والسالم 63
سنة قمرية كاملة ،وثالثة أيام ،وإ حدى وستين شمسية ،وأربعة وثمانين يوماً ،وكان أبو بكر غائباً
بالس ُّْنح ـ ـ وهي منازل بني الحارثبن الخزرج ـ ـ عند زوجه حبيبة بنت خارجةبن زيدَّ ،
فسل عمر سيفه،
فلبث عن قومه وتوعَّد َم ْن يقول:ـ مات رسول اهلل ،وقال :إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسىَ ،
ٍ
رجال وأرجلَهم. أربعين ليلة ،واهلل إني ألرجو أن يقَ ِّ
طع أيدي ُ
فلما أقبل أبو بكر وُأخبر الخبر دخل بيت عائشة ،وكشف عن وجه رسول اهلل ،فجثا ُيقَِّبلُه ،ويبكي،
حياً وميتاً ،بأبي أنت وأمي
ويقول :توفي والذي نفسي بيده صلوات اهلل عليك يا رسول اهلل ما أطيبك ّ
فإن محمداً يعبد محمداًّ ، ال يجمع اهلل عليك موتتين .ثم خرج فحمد اهلل وأثنى عليه ثم قال :أال من كان ُ
ت َوِإ َّنهُ ْم َّمّيتُ َ
ون(َ )30و َما حي ال يموت ،وتال قوله تعالىِ :إَّن َك َمّي ٌ قد مات ومن كان يعبد اهلل فإن اهلل ٌّ
ب َعلَى َعِقَب ْي ِه
َأعقَابِ ُك ْم َو َمن َي َنقِل ْ ات َْأو قُتِ َل َ
انقلَْبتُ ْم َعلَى ْ ُم َح َّم ٌد ِإالَّ َر ُسو ٌل قَ ْد َخلَ ْ
ت ِمن قَْبِل ِه ُّ
الر ُس ُل َأفِإ ْين َّم َ
َفلَن يض َّر اللَّه َش ْيئاً وسي ْج ِزى اللَّه َّ ِ
ين()144 الشاك ِر َ ُ َ ََ َ َ ُ
ثم مكث عليه الصالة والسالم في بيته بقية يوم االثنين ،وليلة الثالثاء ويومه وليلة األربعاء ،حتى
ود ِف َن ،وكان الذي يغسله عليُّبن أبي طالب ،ويساعده
ِّل ُ انتهى المسلمون من إقامة خليفة عليهم ،فَ ُغس َ
العباس ،وابناه الفضل َوقُثَم ،وُأسامةبن زيد ،و ُش ْقران مولى رسول اهلل ،و ُكفِّ َن في ثالثة أثواب بيض،
ُ
ليس فيها قميص وال عمامة .ولما فرغوا من تجهيزه ُوضع على سريره في بيته ،ودخل الناس عليه
يؤمهم أحد ،ثم ُحِف َر له لحد في حجرة عائشة حيث توفي ،وأنزله صلون عليه ،ولم ّ
أرساالً متتابعين ي ُّ
ُ َ
ورفع قبره عن األرض قدر شبر. ش قبره بالل بالماءُ ، القبر علي والعباس وولداه الفضل َوقُثَمَ ،و َر َّ
َ
ّ
كتاب اهلل الذي
َ يضرهم شيء:
توفي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وترك للمسلمين ما إن اتبعوه لم ّ
ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه ،تنزيل من حكيم حميد ،وترك أصحابه البررة ِ
الكرام،
يتمم
ويظهرون في الدنيا شمس الدين اإلسالمي القويم ،حتى ّ
ويتممون فتح البالدُ ، ِّ
يوضحون الدينّ ،
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
المنة العظمى،
يقدرنا على أداء شكره على هذه ّ
ويحق وعده ،وقد فعل ،فنسأل اهلل أن ّ
ّ اهلل كلمته،
والنعمة الكبرى.
فأما الضروري :فما ليس للمرء فيه اختيار وال اكتساب مثل ما كان في جبلَّته عليه الصالة والسالم
الخْلقة ،وجمال الصورة ،وقوة العقل ،وصحة الفهم ،وفصاحة اللسان ،وقوة الحواس، من كمال ِ
وعزة القوم ،وكرم األرض ،ويلحق به ما تدعو
واألعضاء ،واعتدال الحركات ،وشرف النسبّ ،
ضرورة الحياة إليه من الغذاء والنوم والملبس والمسكن والمال والجاه.
العلية واآلداب الشرعية من الدين ،والعلمِ ،
والحلم ،والصبر، أما المكتسبة األخروية :فسائر األخالق ّ
والشكر ،والعدل ،والزهد ،والتواضع ،والعفو،ـ والعفّة ،والجود ،والشجاعة ،والحياء ،والمروءة،
وحسن األدب ،والمعاشرة ،وأخواتها وهي التي يجمعها ُحسن
والصمت ،والتؤدة ،والوقار ،والرحمةُ ،
الخلق.
ُ
فإذا نظرت ـ ـ رعاك اهلل ـ ـ إلى خصال الكمال التي هي غير مكتسبة ،وفي جبلَّة ِ
الخلقة ،وجدته عليه
الصالة والسالم حائزاً لجميعها ،محيطاً بشتات محاسنها .فأما الصورة وجمالها وتناسب أعضائه في
ُحسنها ،فقد جاءت اآلثار الصحيحة والمشهورة الكثيرة بذلك من أنه صلى اهلل عليه وسلم كان :أزهر
اللون ،أدعج ،أنجل ،أش َكل ،أهدب األشفار ،أبلج أزج أقنى أفلج مدور الوجه واسع الجبين كث اللحية
العظامَ ،عْبل العضدين والذراعينتمأل صدره ،سواء البطن عظيم الصدر ،عظيم المنكبين ،ضخم ِ
َ
المسربةَ ،ر ْبعة ِّ
القد ،ليس المتَ َج َّرد ،دقيق َّ
ُ أنور ُ
واألسافلَ ،ر ْحب الكفين والقدمين ،سائل األطرافَ ،
ِّ
المتردد ،ومع ذلك فلم يكن ُيماشيه أحد ينسب إلى الطول إال طالَه صلى بالطويل الباِئن ،وال القصير
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ِّ
بالمحل األفضل، وأما فصاحةُ اللسان ،وبالغة القول ،فقد كان صلى اهلل عليه وسلم من ذلك
والموضع الذي ال ُيجهل ،سالسة طبع ،وبراعة منزع ،وإ يجاز مقطع ،ونصاعة لفظ ،وجزالة قول،
وعلِّم ألسنةَ العرب ،فكان
ببدائع الحكمُ ،
ِ ص جوامع ال َكِلمُ ،
وخ َّ ِ وصحة ٍ
معان ،وقلة تكلفُ ،أوتي
ويباريها في منزع بالغتها ،حتى كان كثير من ٍ ِ
ُيخاطب كل أمة منها بلسانها ،ويحاورها بلغتهاُ ،
وسيره علم ذلك
أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كالمه ،وتفسير قوله .من تأمل حديثه َ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وتحقَّقه .وليس كالمه مع قريش ككالمه مع أقيال حضرموت ،وملوك اليمن ،وعظماء نجد .بل
يستعمل لكل قبيلة ما استحسنته من األلفاظ ،وما انتهجته من طرق البالغة ُليَبيِّن للناس ما ُن ِّزل إليهم،
ِّ
وليحدث الناس بما يعلمون.
اس فيها
الن ُ وأما كالمه المعتاد ،وفصاحته المعلومة ،وجوامع كلمه ،وحكمه المأثورة ،فقد ألَّ َ
ف َّ
وجمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب ،ومنها ما ال ُيوازى فصاحة ،وال يبارى بالغة،
الدواوينُ ،
كقوله« :المسلمون تتكافأ دماؤهم ،ويسعى بذمتهم أدناهم ،وهم يد على من سواهم» .وقوله« :الناس
صحبة َم ْن ال يرى لك ما ترى له»،
ب» ،و«ال خير في ُ
أح ّ
كأسنان المشط» ،و«المرء مع من َ
و«الناس معادن» ،و«ما هلك امرؤ عرف قدره» ،و«المستَ َشار مؤتمن» ،و«رحم اهلل عبداً قال خيراً
إلي وأقربكم «أسلم تَسلم ،وأسلم ُيؤتِك اهلل أجرك مرتين» ،و«إن ّ ِ
أحبكم ّ فغنم ،أو سكت فسلم» .وقوله:
ويؤلفون» .وقوله« :لعلّه كان ِ
مني مجالس يوم القيامة أحاسُن ُكم أخالقاً الموطؤون أكنافاً الذين َيألفون ُ
يتكلم بما ال يعنيه ،أو يبخل بما ال يغنيه» ،وقوله« :ذو الوجهين ال يكون عند اهلل وجيهاً» .ونهيه عن
وهات ،وعقوق األمهات ،ووأد البنات» ،وقوله: ِ وم ْن ٍع
«قيل وقال ،وكثرة السُّؤال ،وإ ضاعة المالَ ،
«اتق اهلل حيثما كنت ،وأتبع السيئة الحسنة تمحها ،وخالق الناس بِ ُخلق حسن» ،و«خير األمور
أوساطها» .وقوله« :أحبب حبيبك هوناً ما ،عسى أن يكون بغيضك يوماً ما» ،وقوله« :الظلم ظلمات
«اللهم إني أسألك رحمة تهدي بها قلبي ،وتجمع بها أمري،
ّ يوم القيامة» .وقوله في بعض دعائه:
وترد بها ُأْلفَتي،
ّ وتلم بها َش ْعثي ،وتُصلح بها غائبي ،وتُزكي بها عملي ،وتُلهمني بها ُرشدي،
ّ
وعيش السعداء، َ ون ُزل الشهداء،
اللهم إني أسألك الفوز في القضاءُ ،
وتعصمني بها من كل سوءّ ،
والنصر على األعداء» .إلى غير ذلك مما َر َوتهُ الكافّة عن الكافّة عن مقاماته ،ومحاضراته،
وخطبه ،وأدعيته ،ومخاطباته ،وعهوده ،مما ال خالف أنه نزل من ذلك مرتبة ال ُيقاس بها غيره،
وحاز فيها َس ْبقاً ال ُي ْق َد ُر قَ ْد ُرهُ .وقد قال أصحابه :ما رأينا الذي هو أفصح منك ،فقال« :وما يمنعني؟
وإ نما ُْأنزل القرآن بلسانيٍ ،
لسان عربي ُمبين» .وقال
أما ما تدعو إليه ضرورة الحياة ،فمنه ما الفضل في قلته ،ومنه ما الفضل في كثرته ،ومنه ما تختلف
األحوال فيه ،فاألول:ـ كالغذاء والنوم ،ولم تََزل العرب والحكماء قديماً تتمادح بقلتهما ،وتذم بكثرتهما،
مسبب لمضار الدنيا
ٌ ِ
وغلبة الشهو ِة، والحرصَّ ،
والش َر ِه ِ ألن كثرة األكل والشرب دلي ٌل على َّ
النهَم
وخثارة النفس ،وامتالء الدماغ .وقلته دلي ٌل على القناعة ،وملكجالب ألدواء الجسدُ ،
ٌ واآلخرة،
وحدة الذهن ،كما أن النوم دليل على الفسولة
ِّب للصحة ،وصفاء الخاطرّ ،
النفس .وقمع الشهوةُ ،م َسب ٌ
ب للكسل ،وعادة العجز ،وتضييع العمر في غير نفع ،وقساوة
مسب ٌ
والضعف ،وعدم الذكاء والفطنةّ ،
وحض عليه قال َّ القلب وغفلته وموته .وكان عليه الصالة والسالم قد أخذ من األكل والنوم باألقل،
صْلَبهُ ،فَِإ ْن بطنه ،حسب ابن آدم لُقَْيم ٌ ِ
صلى اهلل عليه وسلم« :ما مَأل ابن آدم وعاء َشراً من ِ
ات ُيق ْم َن ُ َ َ ُ ً ّ ُ َ
وثلث ِلَنفَ ِس ِه» .وألن كثرة النوم من كثرة األكل والشرب. ِ
لشرابهٌ ، وثلث ِ
لطعامهٌ ، ثكان ال محالةَ ،فَثُلُ ٌ
وقالت عائشة رضي اهلل عنها :لم يمتلىء جوف النبي صلى اهلل عليه وسلم شبعاً قطّ ،وإ نه كان في
بل ،وما سقوه شرب .وفي صحيح
أهله ال يسألهم طعاماً وال يتشهَّاه ،إن أطعموه أكل ،وما أطعموه قَ َ
كالمتربع
ّ والتقعد ُد في الجلوس له،
ُ الحديث« :أما أنا فال آكل متكئاً» واالتِّ َكاء :هو التَّ ُ
مكن لألكل،
تمكن الجلسات التي يعتمد فيها الجالس على ما تحته ،والجالس على هذه الهيئة يستدعي وشبهه ،من ُّ
األكل ويستكثر منه ،والنبي عليه الصالة والسالم إنما كان جلوسه لألكل جلوس المستو ِف ِز ُم ْق ِعياً،
العبد» ،وكذلك نومه كان قليالً ،ومع
ويقول« :إنما أنا عبد ،آكل كما يأكل العبد ،وأجلس كما يجلس ُ
ينام قلبي». ِ
تنامان وال ُ ذلك فقد قالِ« :إ َّن َع ْيَن َّي
محمود عند العقالء عادة ،وبقَ ْد ِر جاهه ِع َ
ظ ُمهُ في القلوب، ٌ وأما ما الفضل في كثرته ،فكالجاه ،وهو
ال ِخ َر ِة} (آل عمران.)45 : وقد قال تعالى في صفة عيسى عليه السالم :و ِجيهًا ِفي ُّ
الد ْنَيا َوا ْ َ
وكان النبي صلى اهلل عليه وسلم قد ُر ِزق من الحشمة ،والمكانة في القلوب ،والعظمة قبل ّ
النبوة عند
الجاهلية وبعدها ،وهم يكذبونه ويؤذون أصحابه ،ويقصدون أذاه في نفسه خفية ،حتى إذا واجههم
يبهت ويفرق لرؤيته َم ْن لم يره ،كما
ُ أعظموا أمره وقضوا حاجته ،كما ذكرنا ذلك ِمراراً ،وقد كان
عليك السكينة» .وفي حديث أبي ت من الفَرق فقال« :يا مسكينة ِ روي عن قَْيلَةَ أنها لما رأته ُْأر ِع َد ْ
َ
«هون عليك فإني لست بملك». فُأر ِع َد ،فقال له عليه الصالة والسالمِّ :
مسعود ،أن رجالً قام بين يديه ْ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
بالنبوة ،وشريف منزلته بالرسالة ،وإ نافة رتبته باالصطفاء والكرامة في الدنيا ،فأمر
وأما عظيم قدره ّ
هو مبلغ النهاية ،ثم هو في اآلخرة سيد ولد آدم.
وأما ما تختلف فيه الحاالت في التمدح به ،والتفاخر بسببه والتفضيل ألجله ،ككثرة المال ،فصاحبه
صلَهُ به إلى حاجته ،وتم ّكنه في أغراضه ،وإ ال فليس
العامة العتقادها تََو ُّ َّ
على الجملة معظم عند ّ
وَأملَهُ،
فضيلة في نفسه ،فمتى كان بهذه الصورة ،وصاحبه ُمنفقاً له في مهماته ،ومهمات من قصده َّ
يصرفه في مواضعه ،مشترياً به المعالي والثناء الحسن ،والمنزلة في القلوب .كان فضيلة في
البر ،وأنفقه في سبل الخير ،وقَصد بذلك اهلل تعالى
صاحبه عند أهل الدنيا .وإ ذا صرفه في وجوه ّ
والدار اآلخرة ،كان فضيلة عند الكل بكل حال ،ومتى كان صاحبه ُم ْمسكاً له ،غير موجهه وجوهه،
يقف به على َج َدِد السالمة،صة في صاحبه ،ولم ْ حريصاً على جمعه ،عادت كثرته كالعدمَ ،وكان َم ْنقَ َ
للتوصل به إلى غيره،
ّ ومذمة النذالة ،فالتمدح بالمال ليس لذاته بلّ بل أوقعه في َو ْهدة رذيلة البخل،
وُأحلَّت له
ونبينا صلى اهلل عليه وسلم ُأوتي خزائن األرض ،ومفاتيح البالدِ ، ص َّرفاتهّ ،
وتصريفه في ُمتَ َ
الغنائم ،وفتح عليه في حياته بالد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب ،وما دانى ذلك من الشام
وجلب إليه كثير من أخماسها َو ِج ْزَيتِها وصدقاتها ،وهاداه جماعة من ملوك األقاليم ،فما والعراقُ ،
وقوى به المسلمين، استأثر بشيء منه ،وال أمسك منه درهماً بل صرفه مصارفه ،وأغنى به غيرهّ ،
ُأحداً ذهباً يبيت عندي منه دينار إال ديناراً أرصده ِل َد ْيني».وقال« :ما يسرني أن لي ُ
وأتته دنانير مرة فقسَّمها ،وبقيت منها بقية فدفعها لبعض نسائه ،فلم يأخذه نوم حتى قام فقسمها ،وقال:
«اآلن استرحت».
ومات ودرعه مرهونة في نفقة عياله ،واقتصر في نفقته وملبسه ومسكنه على ما تدعو ضرورته
والب ْرد إليه ،وزهد فيما سواه ،فكان يلبس ما وجده ،فيلبس في الغالب َّ
الش ْملَة ،والكساء الخشنُ ،
الغليظ ،ويقسم على من حضره أقبية الديباج المخوصة بالذهب ،ويرفعُ لمن لم يحضر ،فأنت ترى
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حاز فضيلة المال بالزهد فيه ،وإ نفاقه على مستحقيه.
الخلق فجميعها قد
وأما الخصال المكتسبة من األخالق الحميدة واآلداب الشريفة وهي المسماة بحسن ُ
كانت خلق نبيِّنا صلى اهلل عليه وسلم على االنتهاء في كمالها ،واالعتدال إلى غايتها حتى أثنى اهلل
ق َع ِظ ٍيم()4
تعالى عليه بذلك فقال{ :وِإ َّن َك لَ َعلَى ُخلُ ٍ
َ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ويتفرعـ
وعنصر ينابيعها ،ونقطة دائرتها :العقل الذي منه ينبعث العلم والمعرفةّ ،
ُ فأصل فروعها،
عن هذا ثقوب الرأي ،وجودة الفطنة ،واإلصابة ،وصدق الظن ،والنظر للعواقب ،ومصالح النفس،
وحسن السياسة والتدبير ،واقتناء الفضائلُّ ،
وتجنب الرذائل ،وقد بلغ عليه الصالة ومجاهدة الشهوةُ ،
َّع مجاري أحواله،
يعلم ذلك من تَتَب َ
والسالم منه ومن العلم الغاية القصوى التي لم يبلغها بشر سواهُ ،
وحسن شمائله ،وبدائع ِسَيره ،وحكم حديثه ،وعلمه بما في ِ
وطالع جوامع َكلمهُ ،
َ طراد سيره،
وا ّ
التوراة واإلنجيل والكتب المنزلة ،وحكم الحكماءِ ،
وسَير األمم الخالية وأيامها ،وضرب األمثال،
وسياسات األنام ،وتقرير الشرائع ،وتأصيل اآلداب النفيسة ،والشيم الحميدة ،إلى فنون العلوم التي
اتَّخذ أهلها كالمه فيها قدوة وإ شاراته حجة ،كالطب والحساب والفرائض والنسب وغير ذلك دون
أمي ال يعرف شيئاً تعليم وال مدارسة ،وال مطالعة كتب من تقدم ،وال الجلوس إلى علمائهم ،بل نبي ّ
وبح َسب عقله كانت معارفه عليه الصالة َّ
من ذلك ،حتى شرح اهلل صدره ،وأبان أمره وعلمهَ .
والسالم إلى سائر ما علَّمه اهلل ،وأطلعه عليه من علم ما يكون وما كان ،وعجائب قدرته ،وعظيم
ض ُل اللَّ ِه َعلَْي َك َع ِظيماً} (النساء.)113 : ان فَ ْ َّ
ملكوته قال تعالىَ :و َعل َم َك َما لَ ْم تَ ُك ْن تَ ْعلَ ُم َو َك َ
نبيه صلى اهلل عليه وأما الحلم واالحتمال والعفو مع القدرة ،والصبر على ما يكرهه ،فمما ّأدب اهلل به ّ
َأص َاب َك ِإ َّن َذِل َك
اصبِ ْر َعلَى َمآ َ ين(َ )199و ْ
ِِ
َأع ِرض َع ِن اْل َجاهل َ ف َو ْ {خِذ اْلع ْفو وْأمر بِاْلعر ِ
وسلم فقالْ ُ ْ ُ َ َ َ ُ :
ور َّ ِ َّ ِ ِم ْن َع ْزِم ا ْ
ال ُم ِ
ُّون َأن َي ْغف َر اللهُ لَ ُك ْم َواللهُ َغفُ ٌ
صفَ ُحوْا َأالَ تُحب َ {وْلَي ْعفُوْا َوْلَي ْور} (لقمان .)17 :وقالَ :
ور()43 صَب َر َو َغفََر ِإ َّن َذِل َك لَ ِم ْن َع ْزِم ا ْ
ال ُم ِ {ولَ َمن َ يم} (النور .)22 :وقالَ :
ِ
َّرح ٌ
قالت عائشة رضي اهلل عنها« :ما ُخيِّر عليه الصالة والسالم في أمرين قطّ إال اختار أيسرهما ،ما لم
يكن إثماً ،فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه ،وما انتقم لنفسه إال أن تُْنتَهك حرمة اهلل ،فينتقم هلل».
«اللهم اغفر لقوميـ فإنهم ال
ّ ُأحد ،وطُلب منه أن يدعو عليهم قال:
ولما فعل به المشركون ما فعلوا في ُ
يعلمون».
وحسبك في هذا الباب ما فعله مع مشركي قريش الذين آذوه ،واستهزؤوا به ،وأخرجوه من دياره هو
وحرضوا عليه غيرهم من مشركي العرب ،حتى تماَأل عليه جمعهم ،ثم لما فتح
وأصحابه ،ثم قاتلوهّ ،
أخ كريم،
اهلل عليه مكة ما زاد على أن عفا وصفح ،وقال« :ما تقولون أني فاعل بكم؟» قالوا :خيراً ٌ
أخ كريم ،فقال« :اذهبوا فأنتم الطُّلقاء» .وعن أنس :كنت مع النبي عليه الصالة والسالم وعليه
وابن ٍ
ُ
ُبرد غليظ الحاشية فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه ،ثم
بعيري هذين من مال اهلل الذي عندك ،فإنك ال تحمل لي من مالك وال
َّ قال :يا محمد احمل لي على
«ويقاد منك يا أعرابي ما
من مال أبيك ،فسكت النبي ثم قال« :المال مال اهلل وأنا عبده» .ثم قالُ :
ِ
بالسيئة السيئةَ ،فضحك عليه الصالة والسالم، فعلت بي» قال :ال ،قالِ :
«ل َم؟» قال :ألنك ال تكافىء
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
تمر.
شعير ،وعلى اآلخر ٌ
ثم أمر أن ُيحمل له على بعير ٌ
وأما الجود والكرم والسخاء والسماحة ،فكان عليه الصالة والسالم ال ُيوازى في هذه األخالق
وصفَهُ بهذا كل من عرفه ،قال جابر رضي اهلل عنه :ما ُسئل عليه الصالة
الكريمة ،وال ُيبارىَ .
وأجود
َ أجود الناس بالخير،
والسالم عن شيء فقال :ال .وقال ابن عباس :كان عليه الصالة والسالم َ
أجود بالخير من الريح المرسلة .وقالت خديجة في َ ما كان في شهر رمضان ،وكان إذا لقيه جبريل
ِ
ب المعدوم.صفته عليه الصالة والسالم مخاطبة له :إنك تحمل ال َك َّل ،وت ْكس ُ
وح ْسُبك شاهداً في هذا الباب ما فعله مع هوازن من ِّ
رد السبي إليها ،وما فعله يوم تقسيم السبي من َ
إعطاء المؤلفة قلوبهم عظيم األعطية .وقد استوفينا ذلك في موضعه.
وحمل إليه عليه الصالة والسالم تسعون ألفاً ،فوضعها على حصير وأخذ يقسمها فما قام حتى فرغ
ُ
منها.
علي ،فإذا جاءنا شيء قضيناه» فقال له عمر:
ابتع ّ
وجاءه رجل فسأله فقال« :ما عندي شيء ،ولكن ْ
تقدر عليه ،فكره ذلك عليه الصالة والسالم ،فقال له رجل من األنصار :يا رسول َّ
ما كلفَ َك اهلل ما ال ُ
البشر في وجهه وقال:
ف ُ وع ِر َ
تخف من ذي العرش إقالالً ،فتبسم عليه الصالة والسالم ُ
اهلل أنفق وال ْ
رت».
ُأم ُ «بهذا ِ
واألخبار بجوده وكرمه عليه الصالة والسالم كثيرة يكفي منها لتعليمك ما ذكرناه.
ومنها الشجاعة والنجدة ،فكان عليه الصالة والسالم منهما بالمكان الذي ال ُيجهل ،قد حضر المواقف
وم ْقبلـ ال ُيدبر ،وال يتزحزح ،وما
وفر ال ُك َماةُ واألبطال عنه غير مرة ،وهو ثابت ال َي ْب َرحُ ،
الصعبةّ ،
فرة ،وحفظت عنه جولة ،سواه .وحسبك ما فعله في ُحَن ْي ٍن ُ
وُأحد مما ذكرناه من شجاع إال ُأحصيت له ّ
مستوفى.
أنجد وال أجود وال أرضى من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم،
أشجع وال َ
َ رأيت
ُ وقال ابن عمر :ما
أقرب إلى العدو
َ أحد
ق اتقينا برسول اهلل ،فما يكون ٌ
الح َد ُ
مرت َ
واح َّ
البأسْ ،
كنا إذا اشتد ُ
عليّ :إنا ّ
وقال ٌّ
منه ،ولقد رأيتُني يوم بدر ،ونحن نلوذ بالنبي صلى اهلل عليه وسلم ،وهو أقربنا إلى العدو ،وكان من
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وأجود
َ وأحسن الناس، أشجع الناس، ٍ
يومئذ بأساً .وقال أنس :كان عليه الصالة والسالم أشد الناس
َ َ
ناس ِقَبل الصوت ،فتلقاهم عليه الصالة والسالم راجعاً ،قد
الناس ،لقد فزع أهل المدينة ليلةً ،فانطلق ٌ
سبقهم إلى الصوت ،واستبرأ الخبر على فرس ألبي طلحة ُع ْر ٍي ،والسيف في عنقه ،وهو يقول:ـ «لن
تُراعوا».
حياء ،وأكثرهم عن العورات إغضاء، أشد الناس ً وأما الحياء واإلغضاء ،فكان عليه الصالة والسالم َّ
حياء من العذراء في ِخ ْدرها .وكان إذا كره
أشد ً قال أبو سعيد الخدري :كان عليه الصالة والسالم َّ
شيئاً عرفناه في وجهه.
وكرم نفس. حياء ِ
َ رقيق الظاهر ،ال ُي َشافهُ أحداً بما يكرههً ،
َ الب َشرة،
لطيف َ
َ وكان عليه الصالة والسالم
يقل :ما بال فالن يقول كذا
أحد ما يكرهه لم ْقالت عائشة :كان عليه الصالة والسالم إذا بلغه عن ٍ
فاعله ،وقالت رضيوكذا؟ بل يقول:ـ «ما بال أقوام يصنعون أو يقولون كذا؟» .ينهى عنه وال يس ِّمي ِ
َُ
اهلل عنها :لم يكن عليه الصالة والسالم فاحشاً ،وال متفحشاً ،وال صخاباً باألسواق ،وال يجزي بالسيئة
السيئة ،ولكن يعفو ويصفح.
وأما حسن عشرته وأدبه ،وبسط خلقه مع أصناف الخلق ،فمما انتشرت به األخبار الصحيحة ،قال
وأصدق الناس لهجة ،وألينهم
َ أوسع الناس صدراً،َ علي رضي اهلل عنه :كان عليه الصالة والسالم
عريكة ،وأكرمهم عشرة .وكان عليه الصالة والسالم يؤلِّفهم ،وال ينفِّرهم ،ويكرم كريم ِ
كل قوم
ويولِّيه عليهمْ ،
ويح َذر الناس ،ويحترس منهم ،من غير أن يطوي على أحد منهم بشره ،وال خلقه،
ويتفقد أصحابه ،ويعطي كل جلسائه نصيبه ،ال يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه .من جالسه أو
يرده إال بها ،أو بميسور من
يكون هو المنصرف عنه ،ومن سأله حاجة لم ّ
َ قاربه لحاجة صابره حتى
وخلُقه ،فصار لهم أباً ،وصاروا عنده في الحق سواء ،بهذا وصفه ابن
القول ،قد وسع الناس بسطه ُ
صخاب ،وال فحَّاش، ظ وال غليظ ،وال َّ أبي هالة .وكان دائم البشر ،سهل الخلقّ ،لين الجانب ،ليس بف َ
عما ال يشتهي ،وال يؤيس منه ،قال تعالى :فَبِ َما َر ْح َم ٍة ّم َن اللَّ ِه ِل َ
نت لَهُ ْم مداح ،يتغافل ّ وال عيَّاب ،وال َّ
ال ْم ِر} (آل استَ ْغِف ْر لَهُ ْم َو َش ِاو ْر ُه ْم ِفى ا ْ ف َع ْنهُ ْم َو ْ
اع ُظ اْل َقْل ِب الَْنفَضُّوْـا ِم ْن َح ْوِل َك فَ ْ
ت فَظّاً َغِلي َ
َولَ ْو ُك ْن َ
ِ َِّ {ادفَ ْع بِالَّتِى ِه َى ْ
َأح َس ُن فَِإ َذا الذى َب ْيَن َك َوَب ْيَنهُ َع َد َاوةٌ َك ََّأنهُ َوِل ٌّى َحم ٌ
يم} عمران .)159 :وقال تعالىْ :
(فصلت.)34 :
وكان عليه الصالة والسالم يجيب من دعاه ،ويقبل الهدية ،ولو كانت ُكراعاً ،ويكافىء عليها ،وكان
يمازح أصحابه ،ويخالطهم ،ويحادثهم ،ويالعب صبيانهم ،ويجلسهم في ِحجره ،ويجيب دعوة الحر
ويعود المرضى في أقصى المدينة ،ويقبل عذر المعتذر .وقال أنس :ما
والعبد ،واألمة والمسكينُ ،
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أحد بيده التقم أحد ُأذن النبي يحادثه فنحَّى رأسه ،حتى يكون الرجل هو الذي ِّ
ينحي رأسه ،وما أخذ ٌ
فيرسل يده حتى يرسلها اآلخر.
ِّق
ضي َماداً رجليه بين أصحابه حتى ُي َ
وكان يبدأ من لقيه بالسالم ،ويبدأ أصحابه بالمصافحة ،لم ُي َر قطّ ّ
بهما على أحدُ ،يكرم من يدخل عليه ،وربما بسط له ثوبه ،ويؤثره بالوسادة التي تحته ،ويعزم عليه
ِّ
بأحب أسمائهم تكرمةً لهم ،وال يقطعُ على أحد وي َكِّني أصحابه ،ويدعوهم
في الجلوس عليها إن أبىُ ،
أكثر الناس تبسماً ،وأطيبهم نفساً ،ما لم ُينزل عليه
يتجو َز فيقطعه بنهي أو قيام ،وكان َ
حديثه ،حتى َّ
قرآن ،أو يعظ ،أو يخطب.
{ع ِز ٌيز َعلَْي ِه َما َعنِتُّ ْم
وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق فقد وصفه اهلل بها في قوله تعالىَ :
ِ ءوف َّر ِحيم} (التوبة .)128 :وقال{ :ومآ َأرسْلن َ َّ ِ
ين(اك ِإال َر ْح َمةً لّْل َعالَم َ ََ ْ ََ ٌ يص َعلَْي ُك ْم بِاْل ُمْؤ ِمن َ
ين َر ٌ َح ِر ٌ
)107
روي أن أعرابياً جاءه يطلب منه شيئاً فأعطاه ،ثم قال« :أأحسنت إليك؟» قال األعرابي :ال ،وال
أجملت .فغضب المسلمون وقاموا إليه ،فأشار إليهم أن ُكفُّوا ،ثم قام ودخل منزله ،وأرسل إليه ،وزاده
َ
شيئاً ،ثم قال« :أأحسنت إليك؟» فقال :نعم ،فجزاك اهلل من أهل وعشيرة خيراً ،فقال عليه الصالة
أحببت فقل بين أيديهم ما قلت
َ لت ،وفي أنفس أصحابي من ذلك شيء ،فإن
قلت ما ُق َ
والسالم« :إنك َ
يذهب ما في صدورهم عليك» قال :نعم ،فلما كان الغد ـ ـ أو العشي ـ ـ جاء فقال عليه
َ يدي ،حتى
بين ّ
فزعم أنه رضي أكذلك؟» قال :نعم ،فجزاك
َ الصالة والسالم« :إن هذا األعرابي قال ما قال ،فزدناه
شردت
ْ اهلل من أهل وعشيرة خيراً ،فقال عليه الصالة والسالم« :مثلي ومث ُل هذا مثل رجل له ناقة
عليه ،فاتَّبعها الناس فلم يزيدوها إال نفوراً ،فناداهم صاحبها :خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها
واستناختَّ ،
وشد ْ جاءت
ْ فردها ،حتى
منكم وأعلم ،فتوجه لها بين يديها ،فأخذ لها من قمام األرضّ ،
حيث قال الرج ُل ما قال فقتلتموه دخل النار» .وقال
عليها رحلها واستوى عليها ،وإ ني لو تركتكم ُ
سليم ِّ
عليه الصالة والسالم« :ال ُيَبلغني أحد منكم عن أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا ُ
فيتجو ُز في صالته .وعن ابن مسعود كان عليه الصالة والسالم
َّ الصدر» .وكان يسمعُ بكاء الصبي
يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا.
ّ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وأما خلقه عليه الصالة والسالم في الوفاء ،وحسن العهد ،وصلة الرحم ،فروي عن عبد اللهبن أبي
ِ
وبقيت له بقية ،فوعدته أن آتَيهُ
ْ الحمساء قال :بايعت النبي عليه الصالة والسالم ببيع قبل أن ُيبعث،
علي
ذكرت بعد ثالث ،فجئت ،فإذا هو في مكانه ،فقال« :يا فتى ،لقد شققت ّ ُ بها في مكانه فنسيت ،ثم
ُأتي بهدية ،قال« :اذهبوا بها إلى بيت فالنة ،فإنها كانت صديقة
أنا هنا منذ ثالث أنتظرك» .وكان إذا َ
صل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم تحب خديجة» .وكان عليه الصالة والسالم ي ِ
لخديجة ،إنها كانت ّ
َ
فقام يخدمهم بنفسه ،فقال له أصحابه :نكفيك ،فقال« :إنهم
ووفد عليه وفدَ ،
َ على من هو أفضل منهم.
كانوا ألصحابنا مكرمين ،وإ ني أحب أن أكافئهم» .وفي حديث خديجة :أبشر ،فواهلل ال يخزيك اهلل
ِ
أبداً ،إنك لتص ُل الرحم ،وتحمل ال َك َّل ،وتكس ُ
ب المعدوم ،وت ْق ِري الضيف ،وتعين على نوائب الحق.
وأما تواضعه عليه الصالة والسالم ،على علو منصبه ورفعة رتبته ،فكان َّ
أشد الناس تواضعاً ،وأقلّهم
ِكبراً ،وحسبك أنه خيِّر بين أن يكون ّ
نبياً ملكاً ،أو نبياً عبداً ،فاختار أن يكون نبياً عبداً ،وخرج عليه
الصالة والسالم مرة على أصحابه متوكئاً على عصا ،فقاموا ،فقال« :ال تقومواـ كما تقوم األعاجم
ُي َعظِّم بعضهم بعضاً» .وقال« :إنما أنا ٌ
عبد ،آكل كما يأكل العبد ،وأجلس كما يجلس العبد» .وكان
ويجيب دعوة العبد ،ويجلس بين ويجالس الفقراءُ ، وي ْر ِد ُ
ف خلفه ،ويعود المساكينُ ، يركب الحمار ُ
طروني كما
أصحابه مختلطاً بهم ،حيثما انتهى به المجلس جلس .وقال عليه الصالة والسالم« :ال تُ ْ
أطرت النصارى ابن مريم .إنما أنا عبد ،فقولوا :عبد اهلل ورسوله» وحج عليه الصالة والسالم على
«اللهم اجعله حجاً ال رياء فيه وال سمعة» هذا ر ْح ٍل ِّ
رث ،وعليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم فقال:
ّ َ
وقد فتحت عليه األرض ،وأهدى في حجه ذلك مائة َب َدنة .ولما فُتحت عليه مكة ،ودخلها بجيوش
كاد َي َم ُّس قادمته تواضعاً هلل تعالى .وعن أبي هريرة رضي
المسلمين طأطأ على رحله رأسه حتى َ
دخلت السوق مع النبي صلى اهلل عليه وسلم ،فاشترى سراويل ،وقال للوازن« :زن
ُ اهلل عنه:
يقبلها ،فجذب يده ،وقال« :هذا تفعله
وأرجح» ،ثم قال :فوثب إلى يد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ّ
«صاحب
ُ فذهبت ألحمله قال:
ُ السراويل
َ األعاجم بملوكها ولست بملك إنما أنا رجل منكم» ،ثم أخذ
الشيء ُّ
أحق بشيئه أن يحمله».
وأما وقاره عليه الصالة والسالم وصمته ،وتؤدته ،ومروءته ،وحسن هديه .فكان عليه الصالة
يكاد ُي ِ
خرج شيئاً من أطرافه ،وكان إذا جلس احتبى بيديه ،وكذلك أوقر الناس في مجلسه ،ال ُ
والسالم َ
عمن تكلم بغير
كان أكثر جلوسه محتبياً .وكان كثير السكوت ،ال يتكلم في غير حاجةُ .يعرض ّ
ك أصحابه عنده التبسمض ِح ُ
صالً ،ال فضول وال تقصير ،وكان َ جميل ،وكان ضحكه تبسماً ،وكالمه فَ ْ
بن فيه
مجلس حلم وحياء وخير وأمانة ،ال تُرفع فيه األصوات ،وال تُْؤ ُ
ُ توقيراً له ،واقتداء به .مجلسه
الح َر ُم ،إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير .وقال ابن أبي هالة :كان سكوته صلى اهلل
ُ
عليه وسلم على أربع :على الحلم ،والحذر ،والتقدير ،والتف ّكر .وقالت عائشة رضي اهلل عنها :كان
ب الطِّيب ،والرائحة الحسنة،
عده العاد ألحصاه ،وكان ُي ِح ّ
ث حديثاً لو ّ
صلى اهلل عليه وسلم ُي َح ّد ُ
ويحض عليهما .ومن مروءته صلى اهلل عليه وسلم نهيه عن النفخ في الطعام ّ ويستعملهما كثيراً،
والشراب واألمر باألكل مما يلي ،واألمر بالسِّواك وإ نقاء البراجم والرواجب (مفاصل األصابع من
ظاهر الكف وباطنها).
وفي حديث حفصة :كان فراش رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في بيته ِم ْسحاً نثنيه ثنيتين ،فينام
«ردوه بحاله فإن
عليه ،فثنيناه ليلة بأربع ،فلما أصبح ،قال« :ما فرشتم لي؟» فذكرنا له ذلك فقالّ :
اءتَهُ منعتني الليلة صالتي».
ط ََو َ
وكان عليه الصالة والسالم يصلي حتى تَ ِر َم قدماه ،فقيل لهَ :أتَ َكلَّ ُ
ف هذا وقد غفر اهلل لك ما تقدم من
ذنبك وما تأخر؟ قال« :أفال أكون عبداً شكوراً» .وقالت عائشة رضي اهلل عنها :كان عمل رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ِديمةًُّ ،
وأي ُكم يطيق ما كان يطيق؟ وقالت :كان يصوم حتى نقول ال يفطر،
ويفطر حتى نقول ال يصوم .وقال عوفبن مالك :كنت مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ليلة،
يمر بآية رحمة إال وقف فسأل ،وال
فاستاك ،ثم توضأ ،ثم قام يصلي ،فقمت معه فاستفتح البقرة ،فال ّ
َ
يمر بآية عذاب إال وقف فتعوذ ،ثم ركع فمكث بقدر قيامه ،يقول« :سبحان ذي الجبروت والملكوت
ّ
والكبرياء والعظمة» ،ثم سجد ،وقال مثل ذلك .ثم قرأ (آل عمران) ثم سورة سورة يفعل مثل ذلك.
أتيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل ،وفي
وقال بعضهمُ :
متواصل األحزان دائم الفكرة ليست له راحة.
َ وصف ابن أبي هالة :كان
سنته فقال« :المعرفةُ رأس
وعن علي رضي اهلل عنه قال :سألت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن ّ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
والحزن
ُ والشوق مركبي ،وذكر اهلل أنيسي ،والثقة كنزي،
ُ ُّ
والحب أساسي، مالي ،والعق ُل أصل ديني،
واليقين
ُ والزهد ِحرفتي،
ُ والعجز فخري،
ُ والصبر ردائي ،والرضا غنيمتي،
ُ والعلم سالحي،
ُ رفيقي،
وقرة عيني في الصالة ،وثمرة فؤادي في
قوتي ،والصدق شفيعي ،والطاعة حسبي ،والجهاد خلقيّ ،
وغمي ألجل أمتي ،وشوقي إلى ربي» فجزاه اهلل من نبي عن أمته خيراً ،ورحم اهلل عبداً تأمل
ذكرهِّ ،
في هذه الشمائل الكريمة والخصال الجميلة فتمسك بها ،واتبع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ليحوز
اللهم التوفيق لما فيه الخير ِّ
بمنك وكرمك يا شفاعته يوم الفزع األكبر ،ويرضى اهلل عنه ،فنسألك ّ
أرحم الراحمين.
قدمناه من جميل أثر هذا السيد الكريم ،وحميد سيره ،وبراعة علمه ،ورجاحة
إذا تأمل المتأمل ما ّ
نبوته،
عقله وحلمه ،وجملة كماله ،وجميع خصاله ،و َشاهد حاله ،وصواب مقاله .لم يمتر في صحة ّ
وصدق دعوته ،وقد كفى هذا غير واحد في إسالمه واإليمان به كعبد اللهبن سالم .فإنه قال :لما قدم
ت وجهه عرفت َّ
َأن وجهه ليس بوجه النبي صلى اهلل عليه وسلم المدينة جئته ألنظر إليه فلما استََب ْن ُ
كذاب.
أن ِ
ضماداً لما وفد عليه قال له صلى اهلل عليه وسلم« :إن الحمد هلل نحمده ونستعينه ،من وروى مسلم َّ
ض َّل له ،ومن يضلل اهلل فال هادي له .وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له وأنيهد اهلل فال م ِ
ُ
ِ ِ
علي كلماتك هؤالء ،فلقد بلغن قاموس البحر ،هات يدك ِ ِ
محمداً عبده ورسوله» فقال له ضماد :أع ْد ّ
ُأبايعك.
ملك ُعمان أن رسول اهلل عليه الصالة والسالم يدعوه إلى اِإل سالم ،قال :واهلل لقد دلّني على
ولما بلغ َ
هذا النبي األمي أنه ال يأمر بخير إال كان أول آخذ به ،وال ينهى عن شيء إال كان أول تارك له ،وأنه
ض َجر ،ويفي بالعهد ،وينجز الموعود ،وأشهد أنه نبي .وقال ابن
ويغلب فال َي ْ
لب فال يبطرُ ،
َي ْغ ُ
رواحة:
بالخَبر كيف وقد أظهر اهلل على يده تصديقاً لدعوته من
نبيك َ
منظرهُ ُي َ
ُ ِّنةلكان
َ تكن فيه آيات مبي
لو لم ْ
العد ،فهو أكثر األنبياء آيةً ،وأظهرهم برهاناً ،وسنذكر لك في هذا الفصل من
المعجزات ما ال يفي به ّ
الجم الغفير من الصحابة رضوان اهلل عليهم،
عينك ،ويزداد به يقينك ،مما رواه ّ
َ تقر به
اآليات ما ُّ
المحدثون في صحاحهم ،ونبدأ منها بأظهرها شأناً ،وأوضحها بياناً ،وهو القرآن الشريف
ّ وأثبته
وإ عجازه.
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أولها :حسن تأليفه ،والتئام كلمه ،وفصاحته ،ووجوه إيجازه ،وبالغته الخارقة عادة العرب ،وذلك
ص به غيرهم
أرباب هذا الشأن ،وفرسان الكالم ،قد ُخصُّوا من البالغة والحكم بما لم ُي َخ َّ
َ أنهم كانوا
ؤت إنسان ،ومن فصل الخطاب ما ُيقَيِّد األلباب ،جعل اهللمن األمم ،وُأوتوا من َذرابة اللسان ما لم ُي َ
وي ْدلُون به إلى كل سبب، ِ
لهم ذلك طبعاً وخْلقة ،وفيهم غريزة وقوة ،يأتون منه على البديهة بالعجبُ ،
طب ،ويرتجزون به بين الطعن والضرب ،ويقدحون الخ ْ
يخطبون بديهاً في المقامات ،وشديد َ
ط ِّوقون
وي َ
ويمدحون ،ويتوسلون ويتوصلون،ـ ويرفعون ويضعون ،فيأتون من ذلك بالسِّحر الحاللُ ،
وي ْذهبون اِإل حن، ِ
َأج َم َل من س ْمط الآلل ،فيخدعون األلباب ،ويذللون الصعابُ ،
من أوصافهم ْ
ويجرئون الجبان ،ويصيرون الناقص كامالً ،ويتركون النبيه خامالً ،منهم البدويالد َمنِّ ، ويهيجون ِّ
ُ
صل ،والكالم الفخم ،والطبع الجوهري ،والمنزع القوي ،ومنهم
ذو اللفظ الجزل ،والقول الفَ ْ
والتصرف في
ّ الحضري ،ذو البالغة البارعة ،واأللفاظ الناصعة ،والكلمات الجامعة ،والطبع السهل،
القول القليل الكلفة ،الكثير الرونق ،الرقيق الحاشية ،وكالهما له في البالغة الحجة البالغة ،والقوة
والم ْهيعُ الناهج ،ال يشكون أن الكالم طوع مرادهم ،والبالغة ملك قيادهم ،قد ِ
دح الفالجَ ، الدامغة ،والق ُ
وعلَوا صرحاً لبلوغ أسبابها ،فقالوا
َحووا فنونها ،واستنبطوا عيونها ،ودخلوا من كل باب من أبوابهاَ ،
القل وال ُكثْر ،وتساجلوا في النظم الغث والسمين ،وتقاولوا في ُّ في الخطير والمهين ،وتفننوا في ّ
اط ُل ِمن َب ْي ِن َي َد ْي ِه َوالَ ِم ْن َخْلِف ِه تَ ِ
نزي ٌل َّ ِ ِ
يه اْلب ِ
راعهم إال رسول كريم ،بكتاب عزيز :ال َيْأت َ والنثر ،فما َ
ور ٍة ّمن ِّمثِْل ِه َو ْاد ُعوْا ِ ِ ٍ ِ ٍِ ٍِ
ّم ْن َحكيم َحميد(َ )38( )42وِإ ن ُكنتُ ْم فى َر ْيب ّم َّما َن َّزْلَنا َعلَى َع ْبدَنا فَْأتُوْا ب ُس َ
ون اللَّ ِه ِإن ُكنتُ ْم
ُشهَ َدآء ُكم ِّمن ُد ِ
نس َواْل ِج ُّن َعلَى َأن ص ِاد ِقين( )23فَِإن لَّم تَ ْفعلُوْا ولَن تَ ْفعلُوْا} (البقرة 23 :ـ ـ ُ { ،)24قل لَِّئ ِن ْ ِ
اجتَ َم َعت اِإل ُ َ ْ َ َ َ َ
ظ ِه ًيرا()88 ِ ِ ِ ِ َيْأتُوْا بِ ِم ْث ِل َها َذا اْلقُْر ِ
ضهُ ْم لَب ْع ٍ
ض َ ون بِم ْثله َولَ ْو َك َ
ان َب ْع ُ ءان الَ َيْأتُ َ
أعالمهم ،ويشتِّ ُ
ت َ ويحط
أشد التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ ،ويسفّه أحالمهمُ ،
فلم يزل يقرعهم ّ
نظامهم ،ويذم آلهتهم وآباءهم ،ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم ،وهم في كل هذا ناكصون عن
معارضته ،محجمون عن مماثلته ،يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب ،واالغترار باالفتراء،
وقولهمِ :إ ْن َها َذآ ِإالَّ ِس ْحٌر يُْؤ ثَُر(ِ )24س ْحٌر ُّم ْستَ ِمٌّر} (القمر .)2 :و{ِإ ْف ٌ
ك ا ْفتََراهُ} (الفرقان.)4 :
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
و{َأس ِ
ف} (البقرة: وبَنا ُغْل ٌ ين} (األنعام .)25 :والمباهتة ،والرضا بالدنية .كقولهمُ { :قلُ ُ ال َّوِل َ
اط ُير ا ْ َ
اب} (فصلت ،)5 :و{الَ ونا ِإلَْي ِه َو ِفى ءاذانَِنا َو ْقٌر َو ِمن َب ْينَِنا َوَب ْينِ َك ِح َج ٌ
َأكَّن ٍة ِم َّما تَ ْد ُع َ
و{فى ِِ ،)88
يه} (فصلت ،)26 :واالدعاء مع العجز ،كقولهم{ :لَ ْو َن َشآء لَ ُقْلَنا ِم ْث َل ءان واْل َغوْا ِف ِ ِ
تَ ْس َم ُعوْا لهَا َذا اْلقُْر ِ َ ْ
{ولَن تَ ْف َعلُوْا} (البقرة )24 :فما فعلوا وال قدروا ،ومن تعاطى ذلك َها َذآ} (األنفال )31 :وقد قال لهمَ :
فف عواره لجميعهم .وسلبهم اهلل ما ألفوه من فصيح كالمهم ،وإ ال لم َي ْخ َ كمسيلمةُ ،ك ِش َِ من سخفائهم
على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم ،وال جنس بالغتهم ،بل ولّوا عنه مدبرين ،وأتوا إليه
{ولَ ْو تََرى ِإ ْذ مذعنين ،وأنت إذا تأملت قوله تعالى{ :ولَ ُك ْم ِفي اْلِق َ ِ
صاص حياةٌ} (البقرة )179 :وقولهَ : َ
ِ َّ ِ ِ َّ ُأخ ُذوْا ِمن َّم َك ٍ
ان قَ ِر ٍ تو ِ
َأح َس ُن فَِإ َذا الذى َب ْيَن َك َوَب ْيَنهُ َع َد َاوةٌ َك ََّأنهُيب(ْ )51ادفَ ْع بِالتى ه َى ْ فَ ِز ُعوْا فَالَ فَ ْو َ َ
ض ْابلَ ِعى
ياَأر ُ
يل ْ {و ِق َ
يم} (فصلت )34 :وقولهَ :
ِ
َوِل ٌّى َحم ٌ
َّ ِ ِ ى َو ِق َ ت َعلَى اْل ُج ِ آءك وياسمآء َأ ْقِل ِعى و ِغيض اْلمآء وقُ ِ م ِ
ين(يل ُب ْع ًدا لّْلقَ ْوِم الظالم َ ود ّ استََو ْ ال ْم ُر َو ْ
ض َى ا ْ َ َ َ َ َ ََ َ
َّي َحةُ َو ِم ْنهُ ْم َّم ْن َخ َس ْفَنا بِ ِه اصباً َو ِم ْنهُ ْم َّم ْن َ
َأخ َذتْهُ الص ْ ْ َ َ َ ُ )44فَ ُكالًّ َ
َأخ ْذَنا بِ َذنبِ ِه فَ ِم ْنهم َّمن َأرسْلَنا علَْي ِه ح ِ
ظِلمهم واَل ِكن َك ُانوْا َأنفُسهم ي ِْ َأغر ْقَنا وما َك َّ ِ
ون()40 ظل ُم َ َ ُْ َ ض َو ِم ْنهُ ْم َّم ْن ْ َ َ َ َ
ان اللهُ لَي ْ َ ُ ْ َ ال ْر َ
اْ
الوجه الثاني من إعجاز القرآن :صورة نظمه العجيب ،واألسلوب الغريب المخالف ألساليب كالم
وانتهت فواصل كلماته إليه،
ْ ووقفت عليه مقاطع آيِه
ْ العرب ،ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه
وتدلَّ ْ
هت حارت فيه عقولهمَ ،
أحد مماثلة شيء منه ،بل َولم يوجد قبله وال بعده نظير له ،وال استطاع ٌ
دونه أحالمهم ،ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كالمهم من نثر ،أو نظم ،أو سجع ،أو رجز ،أو شعر.
واِإل عجاز بكل واحد من النوعين ،واِإل يجاز والبالغة بذاتها ،أو األسلوب الغريب بذاته ،كل واحد
منهما نوع إعجاز ،لم تقدر العرب على اِإل تيان بواحد منهما ،إذ كل واحد منهما خارج عن قدرتها
مباين لفصاحتها وكالمها.
ٌ
يبات ،وما لم يكن ولم يقع فوقع ،فوجد الوجه الثالث من اإلعجاز :ما انطوى عليه من اإلخبار بالم َغ ِ
ُ
َّ ِ ِ
كما ورد وعلى الوجه الذي أخبر كقوله تعالى :لَتَ ْد ُخلُ َّن اْل َم ْس ِج َد اْل َح َر َام ِإن َشآء اللهُ ءامن َ
ين} (الفتح:
ين} (الروم 3 :ـ ـ ،)4وقوله: ،)27وقوله عن الروم{ :وهم من بع ِد َغلَبِ ِهم سي ْغِلبون ِفى بِ ْ ِ ِ
ض ِع سن َ ْ ََ ُ َ َ ُ ّ َْ
َّالح ِ
ات ِ ِ ِ َّ َِّ الد ِ ِ ِ{لُي ْ
ظ ِه َرهُ َعلَى ّ
ءامُنوْا م ْن ُك ْم َو َعملُوْا الص َ
ين َ {و َع َد اللهُ الذ َ ين ُكلّه} (الصف )9 :وقولهَ :
َِّ ِ ف الَِّذ ِ ِ لََي ْستَ ْخِلفََّنهُ ْم ِفى ا ْ
ضى لَهُ ْم َولَُيَب ّدلََّنهُ ْم ين من قَْبل ِه ْم َولَُي َم ّكَن َّن لَهُ ْم د َينهُ ُم الذى ْارتَ َ
َ استَ ْخلَ َ ال ْر ِ
ض َك َما ْ
ون ِفى اس َي ْد ُخلُ َ ت َّ
الن َ ص ُر اللَّ ِه َواْلفَتْ ُح(َ )1و َر َْأي ََأمناً} (النور )55 :وقولهِ{ :إ َذا َجآء َن ْ
ِ
ّمن َب ْعد َخ ْو ِف ِه ْم ْ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
الوجه الرابع :ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة ،واألمم البائدة ،والشرائع الداثرة ،مما كان ال يعلم
منه القصة الواحدة إال الف ّذ من أحبار أهل الكتاب ،الذي قطع عمره في تعلّم ذلك ،فيورده عليه الصالة
فيقر العالم بذلك بصحته وصدقه ،وأن مثله لم ينله بتعليم،
والسالم على وجهه ،ويأتي به على نصهُّ ،
ُأمي ،ال يقرأ وال يكتب ،وال اشتغل بمدارسة وال مجالسة ،لم يغب
وقد علموا أنه صلى اهلل عليه وسلم ّ
عنهم ،وال َج ِه َل حالَه أحد منهم ،وكثيراً ما كان يسأله كثير من أهل الكتاب عن هذا ،فينزل عليه من
القرآن ما يتلو عليهم منه ذكراً ،كقصص األنبياء ،وبدء الخلق ،وما في الكتب السابقة مما صدقه فيه
العلماء بها ،ولم يقدروا على تكذيب ما ُذكر منها ،ولم يؤثر أن واحداً منهم أظهر خالف قوله من
قرعهم ووبَّخهم بقولهُ { :ق ْل فَْأتُوْا بِالتَّْو َر ِاة
كتبه ،وال أبدى صحيحاً ،وال سقيماً من صحفه ،بعد أن ّ
ين} (آل عمران.)93 : فَ ْاتلُوها ِإن ُكنتُم ِ ِ
صادق َ
ْ َ َ
وأما المؤمن فال تزال روعته به وهيبته إياه مع تالوته توليه إقباالً ،وتَ ْك ِسُبهُ هشاشة لميل قلبه إليه
وبهُ ْم ِإلَى ِذ ْك ِر اللَّ ِه}
ود ُه ْم َو ُقلُ ُ
ين ُجلُ ُ ِ
ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم ثَُّم تَل ُ
وتصديقه به .قال تعالى :تَ ْق َش ِع ُّر ِم ْنه جلُ ُ َِّ
ود الذ َ ُ ُ
ص ّدعاً ّم ْن َخ ْشَي ِة اللَّ ِه} ِ ٍ َّ
ءان َعلَى َجَبل ل َر َْأيتَهُ َخاشعاً ُّمتَ َ َأنزْلَنا َها َذا اْلقُْر َ
(الزمر .)23 :وقال تعالى{ :لَ ْو َ
(الحشرf.)21 :
ومن وجوه إعجاز القرآن :كونه آية باقية ال تعدم ما بقيت الدنيا ،مع تكفل اهلل بحفظه ،فقالِ{ :إَّنا َن ْح ُن
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ولنختم لك هذا الباب بحديثه عليه الصالة والسالم في القرآن قال« :إن اهلل أنزل هذا القرآن آمراً
وح ْكم ما بينكم،
وسنة خالية ،ومثالً مضروباً ،فيه نبؤكم وخبر من كان قبلكم ونبأ ما بعدكم ُ
وزاجراًّ ،
الر ِّد ،وال تنقضي عجائبه ،هو الحق ليس بالهزل ،من قال به صدق ،ومن حكم به
ال يخلقه طول َّ
دي إلى صراط عدل ،ومن خاصم به َفلَ َج ،ومن حكم به أقسط ،ومن عمل به ِ
ُأج َر ،ومن تمسك به ُه َ
والنور
ُ الذكر الحكيم،
صمه اهلل ،هو ُمستقيم ،ومن طلب الهدى من غيره أضلّه اهلل ،ومن َح َك َم بغيره قَ َ
والشفاء النافع ،عصمة لمن تمسك به ،ونجاةٌ لمن
ُ المبين ،والصراطُ المستقيم ،وحبل اهلل المتين،
ب». اتّبعه ،ال يعوج فيقَ َّوم ،وال يزيغ فَُي ْستَ ْعتَ َ
وروى هذه القصة جمع عظيم من الصحابة ،ومثل هذا في هذه المواطن الحفيلة ،والجموع الكثيرة ،ال
نفوسهم من ذلك،
المحدث به ،ألنهم كانوا أسرع شيء إلى تكذيبه ،لما ُجبلت عليه ُ
ّ تتطرق التهمة إلى
يسكت على باطل ،فهؤالء قد رووا هذا ،وأشاعوه ونسبوا حضور الجم الغفير
ُ ممن ال
وألنهم كانوا ّ
له ،ولم ينكر عليهم أحد من الناس ما َّ
حدثوا به عنهم أنهم فعلوه وشاهدوه ،فصار كتصديق جميعهم
لهم.
بمسه ودعوته ،كما ورد عن معاذبن جبل في قصة
ومما يشبه هذا تفجير الماء ببركته ،وانبعاثه ّ
غزوة تبوك ،وأنهم وردوا العين وهي تلمع بشيء من ماء مثل ِّ
الشراك ،فغرفُوا من العين بأيديهم ُ
حتى اجتمع فيه شيء ،ثم غسل عليه الصالة والسالم فيه وجهه ويديه ،وأعاده فيها فجرت بماء كثير،
كحس الصواعق ـ ـ ثم قال:
فاستقى الناس ـ ـ وفي رواية ابن إسحاق فانخرق من الماء ما له حس ِّ
قدمنا ذلك في غزوة تبوك.
«يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة ،أن ترى ما هنا قد ملىء جناناً» .وقد ّ
الحديبية بدعوته عليه الصالة والسالم .وروى أبوالبراء وسلمةبن األكوعـ تكثير عين َ وروي عن َ
بالم ْيض َِأة فجعلها في ِ
ض ْبنه (ما قتادة أن الناس َش َكوا إلى رسول اهلل العطش في بعض أسفاره فدعا ِ
َ
بين الكشح إلى اإلبط) ثم التقم فمها ،فاهلل أعلم ،أنفث فيها أم ال؛ فشرب الناس حتى رووا وملؤوا كل
فخيل لي أنها كما أخذها مني .وكانوا اثنين وسبعين رجالً.
إناء معهمّ ،
َّ
محال مختلفة ،بحيث ال ورويت قصص مشابهة لهذه عن كثير من الصحابة رضوان اهلل عليهم في
يشك أحد في صدقها بعد تضافر الثقات على روايتها.
ومن ذلك تكثير الطعام ببركته ودعائه صلى اهلل عليه وسلم ،روى أبو طلحة أنه عليه الصالة والسالم
أطعم ثمانين أو سبعين رجالً من أقراص من شعير جاء بها أنس تحت إبطه ،فأمر بها عليها الصالة
والسالم ففُتِّتت ،وقال فيها ما شاء اهلل أن يقول.ـ
وعَناق ،وقال
وروى جابر أنه عليه الصالة والسالم أطعم يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير َ
جابر :فُأقسم باهلل ألكلوا حتى تركوه وانحرفوا ،وإ ن ُب ْر َمتنا لَتَ ِغطُّ كما هي ،وإ ن عجيننا ليخبز .وكان
عليه الصالة والسالم قد بصق في العجين والبرمة وبارك .وروى أبو أيوب أنه صنع لرسول اهلل
وأبي بكر طعاماً يكفيهما ،فأطعم منه عليه الصالة والسالم مائة وثمانين رجالً .وروى مثل ذلك كثير
من الصحابة كعبد الرحمانبن أبي بكر ،وسلمةبن األكوع ،وأبي هريرة ،وعمربن الخطاب ،وأنسبن
مالك ،رضوان اهلل عليهم أجمعين.
ومن معجزاته عليه الصالة والسالم قصة حنين الجذع ،قال جابربن عبد اهلل :كان المسجد مسقوفاً
صنع له المنبر
على جذوع نخل ،فكان عليه الصالة والسالم إذا خطب يقوم إلى جذع منها ،فلما ُ
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
عين
ُأحد ُ
ومن معجزاته عليه الصالة والسالم إبراء المرضى ،وذوي العاهات ،فقد ُأصيبت يوم ُ
وأحدهما،
فردها عليه الصالة والسالم ،فكانت أحسن عينيه ّ
قتادةبن النعمان حتى وقعت على وجنتيهّ ،
اح ،وأصاب ابنوبصق على أثر سهم في وجه أبي قتادة في يوم ذي قَرد ،فما ضرب عليه وال قَ َ
اَألسَّن ِة استسقاء ،فبعث إلى النبي عليه الصالة والسالم ،فأخذ بيده َحثَْوةً من األرض ،فتفل
مالعب ِ
زىء به ،فأتاه بها وهو على َشفًى ،فشربها فشفاه اهلل.
عليها ،ثم أعطاها رسوله ،فأخذها يرى أنه قد ُه َ
عده ،ورواه ثقات
وتقدم حديث علي ورمده في غزوة خيبر ،وغير ذلك كثير مما يعجز قلمنا عن ّ
المسلمين األعالم.
أما ما منحه اهلل إياه من إجابة دعواته ،فروي عن أنسبن مالك ،قال :قالت أمي ُُّأم ُسلَْيٍم :يا رسول اهلل
«اللهم أكثر ماله وولده ،وبارك له فيما آتيته» .قال أنس :فواهلل َّ
إن ّ خادمك أنس ادعُ اهلل له ،فقال:
مالي لكثير ،وإ َّن ولدي وولد ولدي ُلي ّ
عادون اليوم نحو المائة.
ودعا لعبد الرحمانبن عوف بالبركة ،فكان نصيب كل زوجة من زوجاته األربع من تركته ثمانين
فتصدق بها ،وبما عليها،
ّ ألفاً ،وتصدق مرة ِ
بعير فيها سبعمائة بعير وردت عليه تحمل من كل شيء، ّ
وبأقتابها ،وأحالسها.
ودعا لمعاوية بالتمكين في األرض فنال الخالفة ،ودعا لسعد بإجابة الدعوة ،فما دعا على أحد إال
اللهم
«أفلح وجهكّ ،َ يعز اإلسالم به ،وقال ألبي قتادة:
استجيب له ،وتقدم دعاؤه لعمربن الخطاب أن ّ
بارك في شعره وبشره» ،فمات وهو ابن سبعين سنة ،كأنه ابن خمس عشرة ،ودعواته عليه الصالة
والسالم المستجابة أكثر من أن تُحصى يطّلع عليها قارىء سيرتنا هذه.
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أما ما أطلعه اهلل عليه من علم ما لم يكن فمما سارت به الركبان ،فعن حذيفة رضي اهلل عنه ،قال :قام
حدثه ،حفظه من حفظه،
فينا رسو ُل اهلل مقاماً ،فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إالّ ّ
ونسيه من نسيه ،قد علمه أصحابي هؤالء ،وإ نه ليكون منه الشيء فأعرفه فأذكره ،كما يذكر الرجل
وجه الرجل إذا غاب عنه ،ثم إذا رآه عرفه ،وما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه؟ واهلل ما ترك عليه
سماه لنا
الصالة والسالم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثالثمائة فصاعداً إال قد َّ
خرج أهل الصحيح واألئمة ما أعلم به أصحابه مما وعدهم به
باسمه ،واسم أبيه ،واسم قبيلته .وقد َّ
من الظهور على أعدائه ،وفتح مكة ،وبيت المقدس ،واليمن ،والشام ،والعراق ،وظهور األمن حتى
وأن المدينة ستُغزى ،وتُفتح خيبر على يد علي في
تظعن المرأة من الحيرة إلى مكة ،ال تخاف إال اهللّ ،
أمته من الدنيا ،ويُْؤ تَون من زهرتها ،وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر ،وقد
غد يومه ،وما يفتح اهلل على ّ
وقدمنا ما في القرآن من ذلك ،وهذا ُيغنينا عن اإلطالة في هذا
قدمنا كثيراً من ذلك في هذه السيرةّ ،
المقام فحسبك ما سمعت.
ومما ينير بصيرتك ـ ـ أيها القارىء ـ ـ ما َم ّن اهلل به على رسولنا من عصمته له من الناس ،وكفايته من
َأعُينَِنا}
اصبِ ْر ِل ُح ْكِم َرّب َك فَِإ َّن َك بِ ْ
{و ْ ص ُم َك ِم َن َّ ِ
الناس} (المائدة )67 :وقالَ :
آذاه ،قال تعالى{ :واللَّه يع ِ
َ ُ َْ
(الطور ،)48 :وقالَ{ :ألَْيس اللَّه بِ َك ٍ
اف َع ْب َدهُ} (الزمر ،)36 :وقالِ{ :إَّنا َكفَْيَن َ
ءين()95 اك اْل ُم ْستَ ْه ِز َ َ ُ
وقدمنا
اس} (المائدة )67 :صرف ُحجَّابه ،وقال« :انصرفوا فقد عصمني اهلل»ّ . ص ُم َك ِم َن َّ
الن ِ واللَّه يع ِ
َ ُ َْ
لنبينا ،وذكرنا كثيراً مما حصل
حديث ُدعثور وإ رادته قتل النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وعصمة اهلل ّ
من اهلل به عليه ليلة الهجرة ،وحديث
شره ،وما ّ
من أبي جهل لما أراد بالرسول المكايد ،فكفاه اهلل ّ
ألداء
ُسراقة في الطريق ،وعلى الجملة فيكفينا من هذا الباب أنه عليه الصالة والسالم مكث بين أعداء ّ
بمكة ثالث عشرة سنة ،وبين مشابهيهم من المنافقين واليهود عشر سنين .فما تمكن أحد من إيصال
وتممه.
شر أعدائه حتى أظهر الدين ّ
أذى إليه صلى اهلل عليه وسلم ،بل كفاه مواله ّ