Professional Documents
Culture Documents
(1848-1832م)
أ /الزين محمد د /صالح بوسليم
تمهيد:
بسم هللا الرحمن الرحيم ،والصالة والسالم على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين،
السيدات والسادة الحضور الكريم؛ السالم عليكم ورحمة هللا تعالى وبركاته وبعد،
اليسعنا في بداية هذه المداخلة إال أن نتقدم بالشكر الجزيل إلى مؤسسة األمير عبد القادر -فرع سيدي
بلعباس و مخبر الجزائر :تاريخ ومجتمع في الحديث والمعاصر بجامعة سيدي بلعباس على تنظيم هذا
الملتقى الوطني الموسوم بـ" :الفكر الوطني واالستقاللي عند األمير عبد القادر" .وأملنا أن يكون هذا اللقاء
العلمي فرصة ثمينة لخلق فضاء علمي للتواصل بين الباحثين المهتمين بتاريخ األمير عبد القادر .وآثرنا
أن تكون هذه المساهمـة المتواضعة ،ضمن محور الحكم الراشد أو الحاكمية عند األمير عبد القادر.
وجدير بالذكر أن بيعة األمير عبد القادر قد اكتست طابعا ً وطنيا ً وصبغة شرعية؛ لكونها شملت
العديد من قبائل المغرب األوسط .فكانت بحق والدة جزائر جديدة أساسها نظام عادل؛ يتم فيه اختيار
الحاكم لمؤهالته ،ولرضا العامة عنه.
وقد استطاع أن يُحقق العديد من االنتصارات في مواجهته للعدو؛ فضالً عن منجزاته داخل الوطن
وخارجه ،فشَهد له بذلك األعداء قبل األصدقاء.
لقد كان ظهور األمير عبد القادر على مسرح األحداث ،وتوليه مقاليد األمور في ظروف صعبة؛ نقلة
نوعية في ممارسة السلطة في تاريخ الجزائر.
وسنحاول في هذه الورقة البحثية إبراز أهمية مبدأ الشورى في دولة األمير عبد القادر ،ولعل هذا ما
يدفعنا إلى البحث لإلجابة عن التساؤل اآلتي:
رغم الصالحيات الكثيرة التي كان يتمتع بها األمير عبد القادر؛ إال أنه فضل إقامة مؤسسات في شكل
مجالس للتشاور .فكيف يمكننا تفسير اهتمامه البالغ بمبدأ الشورى من حيث مؤسساتها وصالحياتها
المتكاملة ؟.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح ،هو لماذا اختارت القبائل عائلة محي الدين؟
لع ّل سبب اختيار القبائل لعائلة محي الدين دون سواها من أشرف القبائل األخرى ،يكمن في أسباب
عدّة ،نذكر من بينها:
ِ -ل َكون الشيخ محي الدين وابنه من فئة المرابطين ورئِي َ
سيْن للزاوية القادرية ،و ُمقدّم للطريقة القادرية 3؛
وت ّم تحرير وثيقة البيعة وجعلوا ِكتابة الصك لمحمد بن عبد القادر الشهير بابن آمنة خال األمير وكانت
كما يلي ( :بسم هللا الرحمان الرحيم وصلى هللا على سيدنا محمد الذي ال نبي بعده .والحمد هلل الذي جعل
كلمة المسلمين .والصالة والسالم على سيد المرسلين وآله وأصحابه أجمعين
سلطان َما ال يَحْ ِمي بالقرآن ".
أما بعد :فقد قال صلى هللا عليه وسلم " :إن هللا يَحْ ِمي بال ُ
هذا في الزمن الذي فاض فيه العدل ،ونضب فيه الجهل .فما بالك بزماننا الذي كثر فيه الباطل وانتشر،
وخفي فيه الحق ،ولم يظهر له أثر حتى أن أعداء هللا الكافرين ملكوا كثيرا ً من بالد اإلســالم وتشت ّت الكلمة
واختل النظام ،ولم يجد النّاس لقتالهم سبيال ،وال من يكون للجهاد دليال ،فلجأوا إلى هللا تعالى .6) ..وسألوه
أن يُسيّر لهم من يقوم بأمر دينهم .فما وجدوا من تتفق عليه كلمة أهل العقد والحل سوى السيد محي الدين
بن مصطفى بن المختارِ ،لكماله وكثرة ما عنده من األعـوان واألنصار فطلبوا منه أن يبايعوه ،على السمع
والطاعة ،ورأى أن النظر في هذا األمر قد تعيّن عليه ،ورأى أن ولده مستعد لهذا األمر فحينئذ وافقهم على
نصبه ونصرته لكونه ذا حزم وعزم وشجاعة وعقل سليم ،صالحا ً لتنفيذ األحكـام .فاجتمع أهل الحل
والعقد ،وبايعـوه من غير طلب منه لإلمارة ،وال متابعة للنفس األ ّمارة ،بل بايعوه رغما ً عليه ،وطالبوا
سلوا إليه برسول هللا صلى هللا عيه وسلم مدة ً تزيد عن سنتين؛ فوافقهم على بيعة ولده والـده باهلل ،وتو ّ
تطبيقا لخواطرهم ورعايـة لرفع الظلم عن الضعيف ،ودفعا للفساد والتعنيف فحضر البيعة جميع أهل
غريس ،وأعلنوا جميعا بطاعته ونصرته والرعاية له بحيث أنهم يحمونه بما به أنفسهم وأموالهم أن
ينصروا نصـرا ً مؤزرا ً ،وأتفق علماء اإلقليم على بيعته وطاعته ،ولم يخالف منهم أحد ،7وهم في حال
طوعهم واختيارهم ،وفرحوا به أشد الفرح؛ نظرا للسمعة التي كان يتمتع بها عبد القادر ،وفي هذا الصدد
يقول عنه صاحب كتاب (طلوع سعد السعود) ":قد بانت شجاعته ،وطار صيته وانتشر في اآلفاق بسبب
الوقائع الجهادية التي شـارك فيها تحت قيادة والده 8".ويؤكد ذلك صاحب كتاب(تحفة الزائر) حيث
يقول ":رأى أن ولده المنوه به قد بلغ أشده وترشح لإلمارة وتأهل لها،واستكملت فيه شروطها من الهدى
وعلو الهمة وقوة الحواس ،وكمال الخلق وجمال الصورة ،وشرف النسب ،وعزم القوم والقوة والفتوة
والعلم والحكمة والحماسة والسماحة والعزم والحزم والتحفظ واالتقاء ،واالرتفاع ومكارم األخالق
ومحاسنها9".
وقد ورد في آخر نص وثيقة البيعة األميرية ذكر أسماء من حضر من العلماء واألشراف ،منهم السيد
األعرج السيد محمد بن حوا بن يخلف وأخواته ،والسيد محمد بن الثعالبي ،والسيد عبد الرحمان بن حسن
وأخواته.10 الدحاوي
وعند انتهاء مراسيم البيعة صحبه والده إلى حاضرة اإلمارة بمدينة معسكر ،وهناك استقبله الناس
استقباال حارا وكانت فرحتهم ال تقدر مسرورين به بما عرف عنه من كفاءة ومقدرة ،وهناك خطب في
الناس ،ودعاهم لحضـور البيعة العامـة (الشعبية) ،وكانت في يوم 13رمضـان 1248هـ04/
فيفري1833م .11كما أمرهم بإذاعة خبر بيعته بين أنحاء قطر الجزائر.
وقد ت ّمت البيعة الثانية ،بعد انعقاد مجلسها؛ إذ حضرها جمع غفير من سائر الجهات ،فكانت بيعته
كاملة وتامة بموافقة الجميع.12
ورغم ثقل األمانة الموكلة إليه؛ إال أن األمير عبد القادر تولى األمر .وفي ذلك تستوقفنا اآلية الكريمة
الجبَا ِل فَأَبَيْنَ أ َ ْن ت َواأل َ ْر ِ
ض َو ِ ضنَا األ َ َمانةَ َ
علَى الس َم َاوا ِ التي قال فيها الحق سبحانه وتعالى :إنا َ
ع َر ْ
ظلُو ًما َج ُهوالً13
ان ِإنهُ َكانَ َ
س ُ يَحْ ِم ْلنَ َها َوح َملَ َها ِ
اإل ْن َ
لذا فإن األمير عبد القادر يُعد بحق أول من التزم برأي الجماعة في قبول المسؤولية ،والتي تأبى الجبال
حملها تلبيةً لرغبة والدهِ ،برا ً به ،ورأفة باألرض المغتصبة .وهكذا يبرز األمير عبد القادر في الميدان
ليجد نفسه ُمرغما على قبول هذا المنصب،وبالتالي فهو مسؤول على محاربة العدو وإخراجه من البالد،
وهذا لن يتم إال بعد أن يشكل دولته فيهتم بعدها بتسيير شؤونها ،وتنظيمها بانتهاجه لسياسة محكمة شملت
شتى الجوانب من تنظيمات إدارية وعسكرية.14
ب) -مفهوم الشورى في اإلسالم :
المدلول اللغوي:
شورى والمشورة بضم الشين، الشورى والمشورة واالستشارة ،واإلشارة ،مصادر الفعل :شَور ،وهي ال ُ
فالن خير شير ،أي – يصلح للمشاورة، ٌ وهي مصدر ونقول ،شَاورته في األمر ،أي طلبت رأيه ،ونقول:
واستشارته ،أي طلب منه المشورة .ونقول أشار الرجل – أي يشير إشارة ً إذا أدما بيده .15ويقال :شار
شور ،أو شيارة ً ومشارا ً أي استخرجه من الوقب ِة .ويقال :الشارة والشور والشيار والشوار ،أي
ً العس ُل
الحسن والجمال والهيئة واللباس والزينة .16وهو أقرب المدلوالت اللغوية إلى مرادنا من مفهوم الشورى،
ش ْهد استخالص الرأي الراجح من الشورى.وقد تضمن المدلول اللغوي للشورى: حيث يقابل استصفاء ال َ
إبداء الشيء(الرأي) وعرضه؛ -
وإظهاره ،وهي مرحلة أعلى من اإلبداء؛ -
واتصاف الرأي المعروض بالحسن واالستنارة. -
أما المدلول االصطالحي ،كاجتماع الناس على أمر ما لتداول الرأي ،واستخالص الصواب في
المسائل المعروضة الستصدار القرار.وقولهم :ترك عمر الخالفة شورى،أي متشاورا فيها.17
وجدير بالذكر أن المرجعية األولى في استمداد مبادئ الشورى هو القرآن الكريم ،لقوله تعالى :فَ ِب َما
ع ْن ُه ْم َوا ْست َ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم َوشَا ِو ْر ُه ْم
ْف َ ظ ْالقَ ْل ِ
ب الَنفَضُّواْ ِم ْن َح ْولِكَ فَاع ُ غ ِلي َ
ظا َاّللِ لِنتَ لَ ُه ْم َولَ ْو ُكنتَ فَ ًّ
َرحْ َم ٍة ِ ّمنَ ّ
اّللَ ي ُِحبُّ ْال ُمت ََو ِ ّك ِلين .18وهو أمر هللا تعالى لرسوله الكريم صلى علَى ّ
اّللِ إِن ّ عزَ ْمتَ فَت ََوك ْل َ فِي األ َ ْم ِر فَإِذَا َ
هللا عليه وسلم أن يشاور أصحابه ،وهو أمر للوجوب كما يدل السياق.
وقال تعالى في وصف المسلمين؛ بأن جعل الشورى من صفاتهمَ :والذِينَ ا ْست َ َجابُوا ِل َر ِبّ ِه ْم َوأَقَا ُموا الص َالة َ
ورى بَ ْينَ ُه ْم َو ِمما َرزَ ْقنَا ُه ْم يُن ِفقُون .19ولعظمة األمر بالشورى جعلها اإلسالم صفة من صفات ش ََوأ َ ْم ُر ُه ْم ُ
المسلمين ،وقرنها بالصالة الركن الثاني ،إذ قرنها باإليمان والصالة والزكاة .كما أن المشاركة في المال
شطر من المشاركة في الرأي ،وبذلك ارتبطت الشورى بالعدالة االجتماعية ،م ّما جعلها مبدأ ً اجتماعيا ً
شامالً ،وليس مجرد مبدأ سياسي ،ولذلك البدّ أن يتربى عليها اإلنسان .
واألمر بالشورى عام ،يشمل كل الشؤون العامة في حياة األفراد والجماعات والدول ،السياسية
واالقتصادية واالجتماعية والثقافية وغيرها.
أن تكون الشورى مقدّمة للبيعة ،حتى يكون اختيار الحاكم عن رضا وقبول من الخاصة والمعول عليه ،هو ْ
ّ
والكافة .وفي عقد البيعة نفسه ما يحد من استبداد الحكم الفردي ،حيث يلتزم الحاكم بطاعة هللا تعالى،
سنّة وإجماعا ً ،كما يلتزم المحكومون بطاعة ولي األمر ما دام هو
وذلك بطاعة أمره في الشرع ،قرآنا ً و ُ
طائعا ً هلل تعالى.
عب َر الخليفة األول أبو بكر الصديق عن عقد البيعة بقوله من خطبته األولى عقيب مبايعته" :
وقد َ
أطيعوني ما أطعت هللا فيكمْ ،
فإن عصيته فال طاعة لي عليكم ".20
وهو عقد من أرفع مبادئ الحكم الصالح ،حيث الحاكم والمحكوم كالهما محتكمان لمرجعية دستورية
واحدة ،هي مناط العدل واإلحسان.
والمراد بالبيعة في هذا المقام؛ أنها عقد وميثاق وعهد بالقول .وربما مع المصافحة ،أو الكتابة على التزام
الطاعة واجتناب المعصية.
والثانية :بيعة الوكالة ،ولها أمثلة كبيعة العقبة ،وبيعة ضماد عن قومه ،فقد جاء إلى النبي فقال له:
علَى قَ ْو ِمي).21
علَى قَ ْو ِمكَ ؟ قَالََ :و َ
سو ُل اّللَِ : و َ
ْالم ،قَالَ :فَبَايَعَهُ فَقَا َل َر ُ
اإلس ِ ت يَدَكَ أُبَايِعْكَ َ
علَى ِ (هَا ِ
والثالثة :بيعة الكتابة ،كبيعة عبد هللا بن عمر -رضي هللا عنهما -لعبد الملك بن مروان حيث كتب إليه
ع ْب ِد ْال َم ِل ِك أ َ ِمي ِر ْال ُمؤْ ِمنِينَ ، يعلن لـه ببيعته وبيعة أبنائه ،فقال في كتابه" :إِ ِنّي أُقِ ُّر بِالس ْمعِ َوالطا َ
ع ِة ِلعَ ْب ِد اّللِ َ
ط ْعتُ َ ،و ِإن بَ ِني قَ ْد أَقَ ُّروا ِبذَلِكَ ".22
سو ِل ِه ِفي َما ا ْست َ َ
سن ِة َر ُ علَى ُ
سن ِة اّللِ َو ُ َ
إن هذه البيعة يمكن تكرارها وتجديد العهد بها بين الناس من وقت آلخر ومكان آلخر ،على ّ
أن انعقاد ثم ّ
البيعة العامة بصيغها المعروفة واجتماع الناس عليها ال يمنع من تأكيدها وتجديدها باستخدام كل وسائل
قياس الرأي ،واالنتخاب ،واالختيار ،واالستفتاء ،وخاصة إذا كان ذلك مما التزمه الناس ،أو اعتادوه ،أو
استحسنوه.
والبيعة على تعدد صيغها ومناسباتها محكومة كلها ببيعة اإلمام ذي السلطان والشوكة والقوة ،الحارس
للثغور ،المطبق ألحكام الشريعة اإلسالمية ،المقيم لحدود هللا ،وهو الذي تجب طاعته في المنشط والمكره،
وطاعته حينئذ من طاعة هللا تعالى وطاعة رسوله .
وتُعَدُّ البيعة لجماعة إسالمية من أجل َردّ األمة إلى أصولها وتحكيم شرع هللا من باب البيعة الصغرى.
وعليه :فمتى قامت الدولة ،وبُويع إمامها ،لزم الجماعة نفسها وقيادتها ،بالغا ً ما بلغ جهدهم في قيام هذه
الدولة ،لزمهم جميعا ً الدخول في هذه البيعة الكبرى والتزام أحكامها ومقتضياتها ،لكونها حاكمة على البيعة
الصغرى وما اتصل بها من العهود والمواثيق.
أن ينقض عهده مصداقا لقوله تعالىَ :وأ َ ْوفُواْ بِ ْالعَ ْه ِد ويجب على المسلم الوفاء بالعهد ،وال يجوز لمن بايع ْ
إِن ْالعَ ْهدَ َكانَ َم ْسؤُوالً .23وقوله تعالى في محكم التنزيل:يَا أَيُّ َها الذِينَ آ َمنُواْ أ َ ْوفُواْ بِ ْالعُقُو ِد .24و قوله
سو َل َوأ ُ ْو ِلي األ َ ْم ِر ِمن ُك ْم.25
اّللَ َوأ َ ِطيعُواْ الر ُ
تعالى:يَا أَيُّ َها الذِينَ آ َمنُواْ أ َ ِطيعُواْ ّ
واقتدا ًء بسيرة المصطفى ، انطلق عبد القادر بن الشيخ محي الدين مجتهدا لتطبيق مبادئ الشريعة
قرر األمير في خطبة ألقاها على الحاضرين برنامج دولته ،القائم علىاإلسالمية .فبعد البيعة األولى ّ
اعتماد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة مصدر كل تشريع ،وتمثل ذلك فيما يلي:26
حرص األمير عبد القادر على تجسيد مبادئ الشريعة اإلسالمية ،ويأتي في مقدمتها العدل ألنه -
أساس الملك.28
العمل على تنظيم الجهاد ،وهو ما يتطلب تضافرا للجهود من كافة فئات الشعب وأطيافه. -
إقامة دولة على مبدأ الشورى ،وتقديم النظام الستتباب األمن. -
وجدير بالذكر ،أن البيعة الخاصة قد حضرها حشد كبير من علماء ومشايخ الجزائر ،فهي تعتبر كاملة
الشرعية؛ نظرا للصيغة التي تمت بها تيمنا ببيعة المصطفى .
أما البيعة الشعبية (العامة) ،فهي في األصل مناشدة لضرورة اإلسراع في لم شمل الجزائريين.وت ّمت على
غرار بيعة الرضوان في عهد المصطفى ،أو بيعة العقبة األولى ،وبيعة النساء التي تعد النواة األولى
لقيام الدولة اإلسالمية .29وقد رضي األهالي على كل ما احتوته .30وقد وقّع عليها األعيان والعلماء ،كما
أنها ت ّمت على غرار مبايعة الخلفاء الراشدين قبله.
تش ّكل بأمر من األمير عبد القادر مجلس استشاري عام ،ومجالس فرعية ،تقوم بمناقشة القضايا والتشاور
فيها ،ويأتي في مقدّمتها:
ومن مهامه النظر في معظم قضايا الدولة ومصالحها .نذكر منها على سبيل الذكر ال الحصر:
تُعتبر مجالس ،أو ديار شورى ،وفي الغالب تجاور مقر القاضي في كل مقاطعة للمفاوضة في
الدعاوى .35واليتم تعيين القضاة من طرف األمير مباشرة ،بل ينتخبون تحت إشراف
الخلفاء.36بالتصويت وأحيانا بالتعيين ،على أساس األغلبية .37ويترأس القاضي جلسات هذه المجالس
سِلم خاصة ،وتخضع له مباشرة
في حالة غياب الخلفاء .38وهي تتبع مجلس الشورى األعلى ،في حالة ال ّ
فيما تصدره مثل:
وخرج هذا المؤتمر بضرورة مواصلة الجهاد ضد الفرنسيين ،وتوحيد جميع القوى والدفاع عن الحريات
اإلنسانية ،وعلى ضرورة الحفاظ على األنفس وتدعيم الروح الشعبية.45
وبعد خرق العدو الفرنسي لمعاهدة تافنة ،وتغيير إستراتيجيته في القضاء على المقاومة الشعبية؛ كان من
لزاما على األمير عبد القادر اتخاذ خطة تكتيكية لمواجهة العدو .ولهذا الغرض عقد األمير مجلس
الشورى ،وعرض على أعضائه إنشاء مركز متنقل على شكل مدينة متكونة من الخيام،وهي ما أصبح
سهلة المضارب والتركيب ،لتفعيل الحركة والتنقل.46 يُعرف بـ :الزمالة – مدينة األمير المتنقلة -تكون َ
وقد وافق أعضاء مجلس األمير على هذا المقترح ،الذي كان يهدف إلى غايات عديدة منها:
إن إنشاء العاصمة المتنقلة " الزمالة" قد أتت أكلها ،لوال الخيانة التي قضت على هذه المدينة التاريخية.
وفي قضايا الجهاد استفسر العلماء والمشايخ الفقهاء حول جواز معاقبة المتخلفين عن الجهاد ،والهدف
من ذلك التحسيس بخطورة التخلف عن الجهاد ،وإشراك العلماء في قضايا مصيرية تهم األمة.ولتوسيع
الفضاء الحربي باسم الدين ليتمكن من العدو آجال أم عاجال.
وفي ما يخص قضايا الصلح مع العدو استفسر العلماء في ذلك ،فأجابوه" :بأنه يجوز ذلك،..ألن
الجهاد فرض كفاية ،وال يجوز إذا كان العدو طالبا ،إالّ إذا دعت الضرورة إليه.50"..
كما استفسر األمير عن معرفة حكم الدين في اإلقامة ببالد احتلها الكافر .وكان رد التسولي بأن "
الهجرة من أرض الفساد واجبة ،وال فساد أعظم من ذلك.51".
ويبدو أن األمير استفتى العلماء في قضية الهجرة بعد االستئمان ،وفي مقدمتهم شيخ الطريقة
الرحمانية ،الشيخ محمد المهدي السكالوي ،والذي هاجر إلى دمشق فعال.52وقد ذكر الباحث محمد بن
عبد الكريم حكم الهجرة من خالل ثالث رسائل جزائرية.53
مما ّ تقدم يتبيّن لنا ،أن مبدأ الشورى في الجزائر عهد األمير عبد القادر كان مجسدا ً من خالل مجلس
الشورى األعلى؛ باإلضافة إلى دُور الشورى الفرعية ،ولم يُهمل جهاز القضاء باعتباره أساس الملك كما
سبق الذكر.واعتبره أساس السلطة السياسية اإلسالمية ،ولع ّل استمرار الدولة األميرية يكمن في العناية
بالجهاز القضائي ،الذي يستمد أحكامه وقوانينه من القرآن الكريم والسنة المطهرة ،ومن اجتهادات العلماء
والمشايخ.
كما أولى عناية خاصة بمجلس الشورى األعلى ،وأسند رئاسته إلى قاضي القضاة .ولهذا يُعد األمير
سد بالفعل مبدأ الشورى في ُجلنموذجا للحاكم المثالي .استجاب للنداء ،وقام بواجبه نحو أمته ووطنه ،..وج ّ
تعامالته ومواقفه .ولهذا يعتبر األمير عبد القادر بن محي الدين مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة ،وقد
عرف تاريخ الجزائر خالل تلك الفترة نقلة نوعية في ممارسة السلطة ،ولهذا استحق أن يُطلق عليه شيخ َ
المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد هللا لقب " سيـد المجـاهـدين".
لقد أدرك األمير عبد القادر منذ الوهلة األولى ،أن األمر إذا ت ّم عن طريق المشاورة تقل فيه نسبة
الخطأ.وأن مبدأ الشورى هو في حقيقة األمر توزيع للمسؤولية ،فال تقع نتيجتها مهما كانت على كاهل
واحد بعينه.وأن المجتمع الذي تطبّق فيه الشورى على الطريقة الشرعية يشعر فيه األفراد بالمسؤولية تجاه
قضاياهم الدنيوية والدينية .
آخرا ً وليس أخيرا ؛ نأمل أن نكون قد وفقنا في معالجة هذا الموضوع من بعض جوانبه ،ويبقى بحاجة
إلى تضافر الجهود ،والى دراسات كبرى لتسليط الضوء على جوانب أُغفلت .ونعتذر عن كل تقصير.
المراجع:
-1ولد األمير عبد القادر في 15من شهر رجب1222هـ الموافق لشهر سبتمبر1807م،بمقر أسرته بالقيطنة الواقعة على سفح جبل
استانبول على الجانب األيسر لوادي الحمام وعلى بعد حوالي عشرين كيلومترا ً عن مدينة معسكر.تلقى تعليمه األول في كتاب الزاوية
عن أبيه وبعض شيوخ الزاوية ،حيث حفظ القرآن الكريم ،وتلقى مبادئ العلوم الدينية واللغوية .ينظر :ناصر الدين سعيدوني:عصر
األمير عبد القادر الجزائري ،مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين لإلبداع الشعري ،الكويت2000،م،ص 155وما يليها.
-2أوصديق فوزي :النظام الدستوري الجزائري ،ديوان المطبوعات الجامعية،ط ،5الجزائر ،1995ص.11
3 Marcel. Emerit : D’Algérie Lépoque D'Abdelkader, Collection de documents inédits sur l'histoire
de l'Algérie 2e série Documents divers VII, Paris, larose, 1951, p129.
-4أديب ،حرب " :رجال وتاريخ ،عبقرية األمير عبد القادر العسكرية" ،في :مجلة أول نوفمبر ،الجزائر ،عدد 1999 ،161م
،ص.87
-5مصطفى .نويصر :األمير عبد القادر في الذكرى المئوية (: 1883لمحة تاريخية وبيبلوغرافية) ،مديرية الدراسات التاريخية
وإحياء التراث ،المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية،1984،ص.16
-6ينظر :عبد الرحمان .الجياللي :تاريخ الجزائر العام ،دار الثقافة ،بيروت1880،م ،ص 59ومايليها.
-7ابن التهامي .مصطفى :حياة األمير عبد القادر ،مخطوط بالمكتبة الوطنية ،الجزائر ،رقم ،2592نشره محققا ً ونسبه لمصطفى
التهامي األستاذ الدكتور يحي بوعزيز ،سيرة األمير عبد القادر.و األساتذة :محمد الصغير بناني ،محفوظ سماتي ،محمد الصالح
الجون ،تحت عنوان":مذكرات األمير عبد القادر" .ط3،دار األمة ،الجزائر1999 ،م،
-8ابن عودة المزاري .اآلغا :طلوع سعد السعود في أخبار وهران والجزائر واسبانيا وفرنسا ،تحقيق ودراسة :يحي بوعزيز ،دار
الغرب اإلسالمي ،بيروت ،لبنان 1990،م ،ج،2ص.104
-9محمد بن األمير عبد القادر الجزائري :تحفة الزائر في تاريخ الجزائر واألمير عبد القادر،شرح وتعليق ممدوح حقي ،ط ،02جزآن
في مجلد واحد ،دار اليقظة العربية،دمشق1964،م،ج،02ص.154
-10األميرة بديعة الحسني الجزائري :ناصر الدين األمير عبد القـادر الجزائري حقــائق ووثائق ،ط ،1دار الفكـر للطبـاعة،
دمشق2000 ،م ،ص.27
-11محمد .بن عبد القادر الجزائري :تحفة الزائر،ج،1ص .36وقد ذهب البعض إلى القول بأن البيعة الثانية قد تمت يوم
12رمضان1248هـ03/فيفري1833م.ينظر :الراشدي.أحمد بن عبد الرحمان الشقراني :القول األوسط في أخبار بعض من حل
بالمغرب األوسط ،تحقيق وتقديم ناصر الدين سعيدوني،ط،01دار الغرب اإلسالمي،بيروت1991،م،ص.35
-12محمد العربي الزبيري :الكفاح المسلح في عهد األمير عبد القادر،المؤسسة الوطنية للطباعة ،والشركة الوطنية للنشر والتوزيع،
الجزائر 1982م،ص.26
-13سورة األحزاب ،اآلية رقم. 72
-14محمد العربي الزبيري :المرجع نفسه ،ص.29
-15ابن منظور .أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم :لسان العرب ،ج ،04ص .437-436
-17عبدهللا.شريط " :مشكلة الحكم اإلسالمي في نظام دولة األمير عبد القادر ونظرية الشيخ ابن باديس" ،في :مجلة الثقافة ،عدد،75
الجزائر ماي – جوان 1983م،ص.237
-18سورة آل عمران ،اآلية رقم . 159
-19سورةالشورى ،اآلية رقم. 38
-20عبد العزيز الثعالبي :خالفة الصديق والفاروق -رضي هللا عنهما ،-تحقيق الدكتور صالح الخرفي ،دار ابن كثير دمشق -
بيروت ،الطبعة األولى 1418هـ – 1998م ،ص. 62
-21أخرجه مسلم ،كتاب الجمعة ،باب تخفيف الصالة والخطبة ،برقم .8436
-22صحيح البخاري ،كتاب األحكام ،باب كيف يبايع اإلمام الناس ،برقم 6665
-23سورة اإلسراء ،اآلية رقم34 :
-24سورة المائدة ،اآلية رقم.01 :
-25سورة النساء ،اآلية رقم.59 :
-26فوزي أوصديق :النظام الدستوري الجزائري ،ديوان المطبوعات الجامعية،الجزائر1995م،ص.28
-27محمد بوعياد " :عبد القادر اإلنسان ، "..في :مجلة الثقافة،عدد،75الجزائر1983م،ص.229
-28فوزي أوصديق :المرجع السابق ،ص.59
-29فوزي أوصديق :المرجع نفسه ،ص.29
-30إبراهيم مياسي" :بناء دولة األميرعبد القادر ، "..في :جريدة المساء ،الجزائر1998/09/18،م ،ص.07
-31أحمد مطاطلة" :نظام اإلدارة والقضاء في عهد األمير عبد القادر ، "..في :مجلة الذاكرة ،المتحف الوطني للمجاهد ،العدد،04
الجزائر1996م ،ص.185
-32محمد بن عبد القادر الجزائري :تحفة الزائر ، ..المصدر السابق،ج،01ص.158
-33أحمد مطاطلة :المقال السابق ،ص.172
-34المرجع نفسه ،ص.172
-35المرجع نفسه ،ص.183
-36المرجع نفسه ،ص .183ينظر:األميرة بديعة :ناصر الدين،..مرجع سابق،ص.45
-37فوزي أوصديق :المرجع السابق ،ص.61
-38أحمد مطاطلة :المرجع السابق ،ص.183
-39المرجع نفسه ،ص ص.184-183
-40فوزي أوصديق :المرجع السابق ،ص.77
-41تمت في 30من ماي1837م وقد سمحت لألمير بالتفرغ لتنظيم دولته وبناء مؤسساتها وإخضاع المناوئين له والرافضين لسلطته
ينظر :ناصر الدين.سعيدوني :عصر األمير ،..المرجع السابق ،ص.159
-42عامر البغدادي :دولة األمير عبد القادر الجزائري1848-1832م ،دراسة في نظام الحكم في اإلسالم ،بحث تكميلي لنيل
الماجستير،كلية الشريعة والعلوم االجتماعية ،قسم العلوم السياسية ،جامعة أم درمان اإلسالمية ،السودان1987م،ص.48
-43فوزي أوصديق :المرجع السابق ،ص.77
-44أبو القاسم سعدهللا :الحركة الوطنية الجزائرية،ج ،1المؤسسة الوطنية للكتاب ،الجزائر1992م ،ص.53
-45أبو القاسم سعدهللا :المرجع السابق،ج ،1ص.53
-46األميرة بديعة الحسني .الجزائري :ناصر الدين ،...المرجع السابق ،ص .99لمعرفة المزيد من المعلومات حول زمالة األمير
يراجع :موالي بلحميسي" :زمالة األمير عبد القادر وملحمتها"،في :أخبار معسكر ،عدد خاص ،الذكرى 118لوفاة األمير عبد
القادر23ماي23-1883ماي.2001شارل هنري تشرشل :حياة األمير عبد القادر ،ترجمة سعد هللا أبو القاسم ،الشركة الوطنية للنشر
والتوزيع ،الجزائر1974م .ونذكر من األوروبيين الذين كتبوا عن زمالة األمير :
-Bellemare(A),Abd el-Kader sa vie politique et militaire,Hachette,Paris1863.
-Paul Azan,L’Emir Abd el-Kader du fanatisme musulman au partriotisme français,Paris1925.
-47األميرة بديعة الحسني .الجزائري :ناصر الدين ،...المرجع نفسه ،ص.99
-48ناصر الدين.سعيدوني :عصر األمير ،..المرجع السابق ،ص.156
-49المرجع نفسه ،ص .156
-50ينظر :عبد اللطيف أحمد الشيخ.محمد صالح:أجوبة التسولي عن مسائل األمير عبد القادر في الجهاد،ط،01دار الغرب
اإلسالمي،بيروت1996،م ،ص264
-51المرجع نفسه ،ص 264ومايليها.
-52سهيل .الخالدي :اإلشعاع المغربي في المشرق ،دور الجالية الجزائرية في بالد الشاد،ط،01دار األمة ،الجزائر1997م،ص. 22
-53محمد .بن عبد الكريم :حكم الهجرة من خالل ثالث رسائل جزائرية،ط،01الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ،الجزائر1981م،ص
ص ..65-33