Professional Documents
Culture Documents
-الرسالة الثالثة –
37
تنزيه االعتقاد عن الحلول الرسالة الثالثة
وأما املتومسون بس مة اإلس الم فلم يب دع أحد منهم ه ذه البدعة ،
وحاشاهم من ذلك ،ألهنم أذكى فطرة وأصح لبا من أن ميشى عليهم هذا
احملال ،وإمنا مشى ذلك على النص ارى ألهنم أبلد اخللق أذهانا وأعم اهم
قلوبا ،غري أن طائفة من غالة املتص وفة نقل عنهم أهنم ق الوا مبثل ه ذه
املقالة وزادوا على النصارى ىف تعدية ذلك .والنصارى قصروه على واحد
،فإن صح ذلك عنهم فقد زادوا ىف الكفر على النصارى .
وأحسن ما اعتذر عمن صدرت منه هذه الكلمة الدالة على ذلك ،
وهى قوله " :أنا احلق " ،بأنه ق ال ذلك ىف ح ال س كر واس تغراق غيبوبة
اب عقله وألغى أقواله ،فال تعد عقل .وقد رفع اهلل التكليف عمن غ
مقالته هذه شيئا وال يلتفت إليها فضال عن أن تعد مذهبا ينقل .
وما زالت العلم اء وحمقق وا الص وفية ي بينون بطالن الق ول ب احللول
واالحتاد ،وينبه ون على فس اده ،وحيذرونه من ض الله .وه ذه نب ذة من
كالم األئمة ىف ذلك :
قال حجة اإلسالم الغزاىل ىف اإلحياء ىف باب السماع :
احلالة الرابعة مساع من ج اوز األح وال واملقام ات ،فع زب عن فهم
ما س وى اهلل تع اىل حىت ع زب عن نفسه وأحواهلا ومعامالهتا ،وك ان
كاملدهوش الغ ائص ىف حبر عني الش هود ال ذى يض اهى حاله ح ال النس وة
الالتى قطعن أيديهن ىف مشاهدة مجال يوسف حىت هبنت وسقط إحساسهن
،وعن مثل هذه احلالة يعرب الصوفية بأنه قد فىن عن نفسه ،ومهما فىن عن
نفسه فهو عن غ ريه أفىن ،فكأنه فىن عن كل ش يء إال عن الواحد
املش هود ،وفىن أيضا عن الش هود .ف إن القلب أيضا إذا التفت إىل الش هود
38
تنزيه االعتقاد عن الحلول الرسالة الثالثة
وإىل نفسه بأنه مش اهد فقد غفل عن املش هود ،فاملس ترت ب املرئى ال التف ات
له ىف حال استغرقه إىل رؤيته ،وال إىل عينه الىت هبا رؤيته ،وإىل قلبه الذى
به لذته ،فالسكران ال خربة له من سكره ،واملتلذذ ال خربة له من التذاذه
،إمنا خربته من املتل ذذ به فقط ،ومثاله :العلم بالش يء فإنه مغ اير للعلم
بالعلم بذلك الشيء ،فالعامل بالشيء مهما ورد عليه العلم بالعلم بالشيء
ك ان معرضا عن الش يء ،ومثل ه ذه احلالة قد تط رأ ىف حق املخل وقني
وتط رأ أيضا ىف حق خالقية اخلالق ،ولكنها ىف الغ الب تك ون ك الربق
اخلاطف الذى ال يثبت وال يدوم .فإن دام مل تطقه القوى البشرية ،فرمبا
يض طرب حتت أعبائه اض طرابا هتلك فيه نفسه ،فه ذه درجة الص ديقني ىف
الفهم والوجد وهى أعلى ال درجات ،ألن الس ماع على األح وال وهى
ممتزجة بص فات البش رية وهو ن وع قص ور .وإمنا الكم ال أن يفىن بالكلية
عن نفسه وأحواله ،أعىن أنه ينس اها فال يبقى له إلتف ات إليها كما مل يكن
للنسوة التفات إىل األيدى والسكاكني ،فيسمع باهلل وهلل وىف اهلل ومن اهلل
.وهذه رتبة من خاض جلة احلقائق وعرب بأهل األحوال واألعمال ،واحتد
لص فاء التوحيد ،وحتقق مبحض اإلخالص ،فلم يبق فيه منه ش يء أصال ،
بل مخدت بالكلية بش ريته ،وفىن إلتفاته إىل ص فات البش رية رأسا إىل أن
ق ال :ومن هنا نشأ خي ال من ادعى احلل ول واالحتاد ،وق ال " :أنا احلق
" ،وحوله يدن دن كالم النص ارى ىف دع وى احتاد الاله وت بالناس وت أو
ت درعها هبا أو حلوهلا فيها على ما اختلفت فيه عب اراهتم وهو غلط حمض ،
هذا كله لفظ الغزاىل .
39
تنزيه االعتقاد عن الحلول الرسالة الثالثة
وق ال أيضا ىف ب اب احملبة :من قويت بص ريته ومل تضعف منته فإنه
ىف حال اعتدال أمره ال يرى إال اهلل ،وال يعرف غريه ،ويعلم أنه ليس ىف
الوج ود إال اهلل وأفعاله أثر من آث ار قدرته ،فهى تابعة له ،فال وج ود هلا
باحلقيقة دونه ،وإمنا الوج ود للواحد احلق ال ذى به وج ود األفع ال كلها .
ومن ه ذا حاله فال ينظر ىف ش يء من األفع ال إال وي رى فيه الفاعل ،
وي ذهل عن الفعل من حيث أنه مساء ،وأرض ،وحي وان ،وش جر ،بل
ينظر فيه من حيث أنه أث ره ال من حيث أنه ص نع ،فال يك ون نظ ره جماوزا
له إىل غريه ،كمن نظر ىف شعر إنسان ،أو خطه ،أو تصنيفه ،ورأى فيه
الش اعر واملص نف ورأى آث اره من حيث أنه أث ره ،ال من حيث أنه حرب
وعفص وزاج مرق وم على بي اض ،فال يك ون قد نظر إىل غري املص نف ،
وكذا العامل صنع اهلل تعاىل ،فمن نظر إليه من حيث أنه فعل اهلل وعرفه من
حيث أنه فعل اهلل وأحبه من حيث أنه فعل اهلل ،مل يكن ن اظرا إال ىف اهلل ،
وال عارفا إال باهلل ،وال حمبا إال هلل ،وهو املوحد احلق ال ذى ال ي رى إال
اهلل ،بل ال ينظر إىل نفسه من حيث نفسه ،بل من حيث أنه عبد اهلل ،
فه ذا هو ال ذى يق ال فيه أنه فىن ىف التوحيد ،وأنه فىن عن نفسه ،وإليه
اإلش ارة بق ول من ق ال " :كنا بنا ففنينا ( عنا فبقينا ) بال حنن " ،فه ذه
أم ور معلومة عند ذوى األبص ار ،أش كلت لض عف األفه ام عن دركها ،
وقص ور ق درة العلم اء هبا عن إيض احها ،وبياهنا بعب ارة مفهمة موص لة
للغرض إىل األفهام أو الشتغاهلم بأنفسهم واعتقادهم أن بيان ذلك لغريهم
مما ال يع نيهم مث ق ال :وقد حتزب الن اس إىل قاص رين م الوا إىل التش بيه
الظ اهر ،وإىل غ الني مس رفني جتاوزوا إىل االحتاد وق الوا ب احللول حىت ق ال
40
تنزيه االعتقاد عن الحلول الرسالة الثالثة
بعض هم " :أنا احلق " ،وضل النص ارى ىف عيسى وق الوا :هو اآلله ،
وقال آخرون :تدرع الناسوت بالالهوت ،وقال آخرون :احتد به ،وأما
ال ذين انكشف هلم اس تحالة التش بيه والتمثيل واس تحالة االحتاد واحلل ول ،
واتضح هلم وجه الص واب فهم األقل ون انتهى كالم الغ زاىل ،وب دأنا بالنقل
عنه ألنه فقيه أص وىل متكلم ص وىف ،وهو أجل من يعتمد عليه ىف ه ذا
املقام الجتماع هذه الفنون فيه .
وق ال إم ام احلرمني ىف اإلرش اد :أصل م ذهب النص ارى أن االحتاد
مل يقع إال باملس يح دون غ ريه من األنبي اء ،واختلفت م ذاهبهم فيه ،
فزعم بعضهم أن املعىن به حلول الكلمة جسد املسيح ال حيل العرض حمله ،
وذهبت ال روم إىل أن الكلمة م اجزت جسد املس يح وخالطه خمالطة اخلمر
اللنب – وهذا كله خبط –
وق ال األس تاذ أبو بكر بن ف ورك ىف كتابه املس مى بـ " النظ امى ىف
أصول الدين " :قالت النصارى إن عيسى الهوتى ناسىت ،وتكلموا ىف
حل ول الكلمة ملرمي عليها الس الم ،فمنهم من ق ال :الكلمة حلت ىف م رمي
حل ول املمازجة كما حيل املاء ىف اللنب حل ول املمازجة واملخالطة ،ومنهم
من قال :إهنا حلت فيها من غري ممازجة كما أن شخص اإلنسان يتبني ىف
املرآة الص قيلة من غري ممازجة بينهما ،ومنهم من ق ال :إن مثل الاله وت
مع الناس وت مثل اخلامت مع الش مع ىف أنه ي ؤثر فيه حىت يت بني فيه النقش مث
ال يبقى فيه ش يء من األثر ،واألول طريق اليعقوبية ،والث اين طريق امللكية
،والثالث طريق النسطورية ،مث قال :
41
تنزيه االعتقاد عن الحلول الرسالة الثالثة
واعلم أهنم ق الوا باالحتاد ،فق الت طائفة منهم ىف معىن االحتاد
الكلمة الىت هى " كن " حلت جسد املس يح ،وق الت اليعقوبية :إن
االحتاد اختالط وام تزاج ،وزعمت أن كلمة اهلل انقلبت حلما ودما باالحتاد
،وقالت طائفة منهم :إن االحتاد هو أنه أودعها بإظهار روح القدس عليه
،وقد حكينا عمن ق ال :جيرى ه ذا االحتاد جمرى وق وع اهليئة ىف املرآة ،
والنقش من اخلامت ىف الش مع ،وما ج رى جمراه ،ويق ال هلذه الطائفة منهم
أن ظهور هذه الصورة ىف املرآة والشيء الصقيل ليس اختالط شيء بشيء
وال انتق ال ش يء إىل ش يء ،بل أج رى اهلل الع ادة ب أن الواحد إذا قابل
الشيء الصقيل خلق اهلل له رؤية يرى هبا نفسه ،وأما أن يكون ىف الصقيل
على ش يء فال ،أما ت رى أنه أن ملس وجهه فوجه نفسه ملس ال وجه ظهر
فيه فعلم أنه ليس ىف املرآة ش يء ،وه ذا الق ول ي وجب عليهم اإلق رار بأنه
ليس من القدمي سبحانه وتعاىل ىف مرمي وال ىف عيسى شيء ،ويبطل عليهم
الق ول بأنه اله وتى وناس وتى ،وك ذلك الق ول ىف اخلامت ونقشه مع الش مع
فليس حيصل من الفص ىف الش مع ش يء ،وإمنا ي رتكب الش مع تركيبا من
بعضه ىف بعض ،مث إن ه ذا ال ذى ذك روه كله إمنا جيوز بني املتماسني
املتجاورين املتالصقني اجلسمني احملدودين الذين جيوز فيهما حلول احلوادث
وتغري األوص اف ،واهلل تع اىل يت نزه عن ذلك كله ،وأما ق وهلم أن الكلمة
انقلبت حلما ودما فال جيوز ألنه لو جاز ذلك جلاز أن ينقلب القدمي حمدثا ،
ولو جاز ذلك جلاز انقالب احملدث قدميا فيبطل الفصل بينهما ،وهذا حمال
فبطل ما قالوه انتهى .
42
تنزيه االعتقاد عن الحلول الرسالة الثالثة
وقال اإلمام فخر الرازى ىف كتاب احملصل ىف أصول الدين :مسألة
البارى تعاىل ال يتحد بغريه ،ألنه حال االحتاد إن بقيا موجودين فهما اثنان
ال واحد ،وإن ص ارا مع دومني فلم يتح دا بل ح دث ث الث ،وإن ع دم
أحدمها وبقى اآلخر فلم يتحد ألن املعدوم ال يتحد باملوجود .
وق ال اإلم ام أقضى القض اة أبو احلسن املاوردى ص احب احلاوى
الكبري ىف من اظرة ناظرها لبعض النص ارى ىف ذلك ( القائل ) ب احللول
واالحتاد :ليس من املس لمني بالش ريعة بل ىف الظ اهر والتس مية وال ينفع
التنزيه مع الق ول باالحتاد واحلل ول ،ف إن دع وى التنزيه مع ذلك إحلاد ،
وكيف يصح توحيد مع اعتق اد أنه س بحانه حل ىف البشر املأخوذ من م رمي
،وهنالك حلوله إما حلول عرض ىف جوهر فيقولون بأنه عرض أو حلول
ت داخل األجس ام فهو جسم ،وهنالك أن حل كله فقد احنصر ىف الق الب
البش رى وص ار ذا هناية وبداية أو بعضه فقد انقسم وتبعض ،وكل ه ذه
األمور أباطيل وتضاليل .
وقال القاضى عياض ىف الشفاء ما معناه :أمجع املسلمون على كفر
أص حاب احلل ول ،ومن ادعى حل ول الب ارى س بحانه ىف أحد األش خاص
كق ول بعض املتص وفة ،والباطنية ،والنص ارى ،والقرامطة ،وق ال ىف
موضع آخر :ما ع رف اهلل من ش بهه وجس مه من اليه ود أو أج از عليه
احلل ول واالنتق ال واالم تزاج من النص ارى ،ونقله عنه الن ووى ىف ش رح
مسلم .
وق ال القاضى ناصر ال دين البيض اوى ىف تفس ريه ىف قوله تع اىل :
لقد كفر ال ذين ق الوا إن اهلل هو املس يح ابن م رمي ، ه ذا ق ول اليعقوبية
43
تنزيه االعتقاد عن الحلول الرسالة الثالثة
القائلني باالحتاد ،وقال ىف قوله تعاىل :أفال يتوبون إىل اهلل ويستغفرونه
أى أال يتوب ون باالنته اء عن تلك العقائد واألق وال الزائغة ،ويس تغفرونه
بالتوحيد والتنزيه عن االحتاد واحللول بعد هذا التقرير والتهديد .
وق ال الش يخ عز ال دين بن عبد الس الم ىف قواع ده الك ربى :ومن
زعم أن اإلله حيل ىف ش يء من أجس اد الن اس أو غ ريهم فهو ك افر ألن
الش رع إمنا عفا عن اجملس مة لغلبة التجس يم على الن اس ،ف إهنم ال يفهم ون
موج ودا ىف غري جهة خبالف احلل ول فإنه ال يعم االبتالء به وال خيطر على
قلب عاقل فال يعفى عنه انتهى .
( قلت ) مقص ود الش يخ أنه ال جيرى ىف تكف ريهم اخلالف ال ذى
ج رى ىف اجملس مة بل يقطع بتكفري الق ائلني ب احللول إمجاعا وإن ج رى ىف
اجملسمة خالف .
وق ال احلافظ أبو نعيم األص بهاىن ىف أول احللية :أما بعد فقد
اس تعنت باهلل وأجبتك إلىما ابتغيت من مجع كت اب يتض من أس امى مجاعة
من أعالم احملققني من املتص وفة وأئمتهم وت رتيب طبق اهتم من النس اك
وحمجتهم من قرن الصحابة والتابعني وتابعيهم ومن بعدهم ممن عرف األدلة
احلق ائق ،وباشر األح وال والطرائق ،وس اكن الري اض واحلدائق ،وف ارق
الع وارض والعالئق ،وت ربأ من املتنطعني واملتعمقني ،ومن أهل ال دعاوى
من املتس وفني ،ومن الكس اىل واملتثبطني املش بهني هبم ىف اللب اس واملق ال ،
واملخالفني ىف العقيدة والفعال ،ذلك ملا بلغك من بسط لساننا وألسنة أهل
الفقه واآلثار ىف كل القطر واألمصار ىف املنتسبني إليهم من الفسقة الفجار
44
تنزيه االعتقاد عن الحلول الرسالة الثالثة
،واملباحية واحللولية الكف ار ،وليس ماحل بالكذبة من الوقيعة واإلنك ار ،
بقادح ىف منقبة الربرة األخيار وواضع من درجة الصفوة األبرار .
وق ال ص احب ( كت اب ) معي ار املري دين :اعلم أن منشأ أغالط
الفرق الىت غلطت ىف االحتاد واحللول جهلهم بأصول الدين وفروعه وعدم
مع رفتهم ب العلم ،وقد وردت األح اديث واآلث ار بالتح ذير من عابد جاهل
،فمن ال يكون سابقة علم مل ينتج ومل يصح له سلوك .وقد قال سهل بن
عبد اهلل التس رتى :اجتنب ص حبة ثالثة أص ناف من الن اس ؛ اجلب ابرة
الغ افلني ،والق راء املداهنني ،واملتص وفة اجلاهلني ،ف افهم وال تغلط ،ف إن
ال دين واضح ق ال :واعلم أنه وقع ىف عب ارة بعض احملققني لفظ االحتاد
إشارة منهم إىل حقيقة التوحيد ،فإن االحتاد عندهم هو املبالغة ىف التوحيد
،والتوحيد معرفة الواحد واألحد ،فاشتبه ذلك على من ال يفهم إشاراهتم
فحملوه على غري حممله فغلطوا وهلكوا بذلك ،قال :والدليل على بطالن
احتاد العبد مع اهلل تع اىل أن االحتاد بني مرب وبني حمال ،ف إن رجلني مثال ال
يصري أح دمها عني اآلخر لتباينهما ىف ذاتيهما كما هو معل وم ،فالتب اين بني
العبد وال رب س بحانه وتع اىل أعظم ،ف إذن أصل االحتاد باطل حمال م ردود
ش رعا وعقال وعرفا بإمجاع األنبي اء واألولي اء ومش ايخ الص وفية وس ائر
العلماء واملسلمني ،وليس هذا مذهب الصوفية ،وإمنا قاله طائفة غالة لقلة
علمهم وسوء حظهم من اهلل تعاىل فشاهبوا هبذا القول النصارى الذين قالوا
ىف عيسى احتد ناسوته بالهوته .
وأما من حفظه اهلل تع اىل بالعناية ف إهنم مل يعتق دوا احتادا وال حل وال
،وإن وقع منهم لفظ االحتاد ،فإمنا يري دون به حمو أنفس هم وإثب ات احلق
45
تنزيه االعتقاد عن الحلول الرسالة الثالثة
سبحانه ،قال :وقد يذكر االحتاد مبعىن فناء املخالفات وبقاء املوافقات ،
وفن اء حظ وظ النفس من ال دنيا وبق اء الرغبة ىف اآلخ رة ،وفن اء األوص اف
الذميمة وبقاء األوصاف احلميدة ،وفناء الشك وبقاء اليقني ،وفناء الغفلة
وبق اء ال ذكر ،ق ال :وأما ق ول أىب يزيد البس طامى :س بحاىن ،ما أعظم
شاىن ،فهو ىف معرض احلكاية عن اهلل تعاىل ،وكذلك قول من قال :أنا
احلق ،حمم ول على احلكاية ،وال يظن هبؤالء الع ارفني احلل ول واالحتاد ،
ألن ذلك غري مظن ون بعاقل فضال عن املتم يزين خبص وص املكاش فات
واليقني واملش اهدات ،وال يظن ب العقالء املتم يزين على أهل زم اهنم ب العلم
ال راجح والعمل الص احل واجملاه دة وحفظ ح دود الش رع الغلط ب احللول
واالحتاد كما غلط النص ارى ىف ظنهم ذلك ىف حق عيسى ، وإمنا ح دث
ذلك ىف اإلس الم من واقع ات جهلة املتص وفة ،وأما العلم اء الع ارفون
احملققون فحاشاهم من ذلك ،هذا كله كالم معيار املريدين بلفظه .
( واحلاصل ) أن لفظ االحتاد مش رتك فيطلق على املعىن املذموم
ال ذى هو أخو احلل ول وهو كفر ،ويطلق على مق ام الفن اء اص طالحا –
اص طلح عليه الص وفية – وال مش احة ىف االص طالح إذ ال مينع أحد من
اس تعمال لفظ ىف معىن صحيح ال حمذور فيه شرعا ،ولو كان ذلك ممنوعا
مل جيز ألحد أن يتف وه بلفظ االحتاد وأنت تق ول :بيىن وبني ص احىب زيد
احتاد ،وكم استعمل احملدثون ،والفقهاء ،والنحاة ،وغريهم لفظ االحتاد
ىف مع ان حديثية وفقهية وحنوية ،كق ول احملدثني :احتاد خمرج احلديث ،
وق ول الفقه اء :احتد ن وع املاش ية ،وق ول النح اة :احتد العامل لفظا أو
مع ىن ،وحيث وقع لفظ االحتاد من حمققى الص وفية فإمنا يري دون به معىن
46
تنزيه االعتقاد عن الحلول الرسالة الثالثة
الفن اء ال ذى هو حمو النفس وإثب ات األمر كله هلل س بحانه ،ال ذلك املعىن
املذموم ال ذى يقش عر له اجللد ،وقد أش ار إىل ذلك س يدى علي بن وفا ،
فقال من قصيدة له :
وقلىب من سوى التوحيد خاىل يظنوا ىب حلوال واحتادا
فتربأ من االحتاد مبعىن احللول وقال من أبيات أخر :
هو املعىن املسمى باحتاد وعلمك أن كل األمر أمرى
ف ذكر أن املعىن ال ذى يريدونه باالحتاد إذا أطلق وه هو تس ليم األمر
كله هلل وت رك اإلرادة معه واالختي ار واجلرى على مواقع أق داره من غري
اعرتاض وترك نسبة شيء ما إىل غريه .
وقال صاحب كتاب هنج الرشاد ىف الرد على أهل الوحدة واحللول
واالحتاد :ح دثىن الش يخ كم ال ال دين املراغى عن الش يخ تقى ال دين بن
دقيق العيد أنه قال له مرة :الكفار إمنا انتشروا ىف بالدكم النتشار الفلسفة
هن اك وقلة اعتن ائهم بالش ريعة والكت اب والس نة ،ق ال ،فقلت له :ىف
بالدكم ما هو شر من هذا وهو قول االحتادية فقال :هذا ال يقوله عاقل ،
ف إن ق ول ه ؤالء كل أحد يع رف فس اده ،ق ال :وح دثىن الش يخ كم ال
ال دين املذكور ق ال :اجتمعت بالش يخ أىب العب اس املرسى تلميذ الش يخ
الكبري أىب احلسن الش اذيل ،وفاوض ته ىف ه ؤالء االحتادية فوجدته ش ديد
اإلنكار عليهم والنهى عن طريقهم وقال :أتكون الصنعة هى الصانع ؟ .
( قلت ) وهلذا ك انت طريقة الش اذيل هى أحسن ط رق التصوف ،
وهى ىف املت أخرين نظري طريقة اجلنيد ىف املتق دمني ،وقد ق ال الش يخ ت اج
ال دين بن الس بكى ىف كت اب مجع اجلوامع :وإن طريق ( الش يخ ) اجلنيد
47
تنزيه االعتقاد عن الحلول الرسالة الثالثة
وصحبه طريق مقوم ،وكان والده شيخ اإلسالم تقى الدين السبكى يالزم
جملس الش يخ ت اج ال دين بن عط اء اهلل يس مع كالمه ووعظه ونقل عنه ىف
كتابه املسمى غرية اإلميان اجللى فائدة حسنة ىف حديث ال تسبوا أصحاىب
فق ال :إنه ذكر أن النيب ك انت له جتلي ات ف رأى ىف بعض ها س ائر أمته
اآلتني من بعده فقال خماطبا هلم :ال تسبوا أصحاىب فلو أنفق أحدكم مثل
أحد ذهبا ما أدرك مد أح دهم وال نص يفه ،وارتضى الس بكى منه ه ذا
التأويل وق ال :إن الش يخ ت اج ال دين ك ان متكلم الص وفية ىف عص ره على
طريق الشاذلية انتهى .
( قلت ) وهو تلميذ الشيخ أىب العباس املرسى ،والشيخ أبو العباس
تلميذ الش اذيل ،وقد ط العت كالم ه ؤالء الس ادة الثالثة فلم أر فيه حرفا
حيت اج إىل تأويل فضال عن أن يك ون منك را ص رحيا ،وما أحسن ق ول
سيدى علي بن وفا :
تروم وحقق ذا الرجاء متسك حبب الشاذلية تلق ما
وحصل
مشوس هدى ىف أعني املتأمل وال تعدون عيناك عنهم فإهنم
مث قال صاحب هنج الرشاد :وما زال عباد اهلل الصاحلون من أهل
العلم واإلميان ينك رون ح ال ه ؤالء االحتادية وإن ك ان بعض الن اس قد
يك ون أعلم وأق در وأحكم من بعض ىف ذلك ،وق ال الش يخ س عد ال دين
التفت ازاىن ىف ش رح املقاصد :وأما املنتم ون إىل اإلس الم فمنهم بعض غالة
الش يعة الق ائلون بأنه ال ميتنع ظه ور الروح اىن ىف اجلس ماىن كجربيل ىف
صورة دحية الكلىب ،وكبعض اجلن أو الشياطني ىف صورة األناسى قالوا :
48
تنزيه االعتقاد عن الحلول الرسالة الثالثة
فال يبعد أن يظهر اهلل تعاىل ىف صورة بعض الكاملني ،وأوىل الناس بذلك
علي وأوالده ،تعاىل اهلل عن ذلك علوا كبريا ،قال :ومنهم بعض املتصوفة
القائلون بأن السالك إذا أمعن ىف السلوك وخاض معظم جلة الوصول فرمبا
حيل اهلل فيه ( ،تعاىل اهلل عما يقول الظاملون علوا كبريا ) كالنار ىف اجلمر
حبيث ال متايز وال يتحد به حبيث ال اثنينية وال تغ اير ،وصح أن يق ول هو
أنا وأنا هو ،ق ال :وفس اد ال رأيني غىن عن البي ان ،ق ال :وههنا م ذهبان
آخ ران يومهان احلل ول أواالحتاد وليسا منه ش يء ،األول أن الس الك إذا
انتهى س لوكه إىل اهلل وىف اهلل يس تغرق ىف حبر التوحيد والعرف ان حبيث
تضمحل ذاته تعاىل ىف ذاته وصفاته ىف صفاته وتغيب عن كل ما سواه وال
يرى ىف الوجود إال اهلل تعاىل ،وهذا هو الذى يسمونه الفناء ىف التوحيد ،
وحينئذ رمبا تصدر عنه عبارات تشعر باحللول أو االحتاد لقصور العبارة عن
بي ان تلك احلال وبعد الكشف عنها باملق ال ،وحنن على س احل التمىن
نغ رتف من حبر التوحيد بق در اإلمك ان ،ونع رتف ب أن طريق الفن اء فيه
العي ان دون الربه ان ،واهلل املوفق ،مث ذكر ىف املذهب الث اىن وهو الق ول
بالوح دة املطلقة وق ال :إنه غري احلل ول واالحتاد ،وأنه أيضا خ ارج عن
طريق العقل والش رع وأنه باطل وض الل ،وقد س قت بقية كالمه فيه ىف
الكت اب ال ذى ألفته ىف ذم الق ول بالوح دة املطلقة فإنه به أج در ،وذكر
الس يد اجلرج اىن ىف ش رح املواقف حنو ذلك ،وقد س قت أيضا عبارته ىف
الكتاب املشار إليه .
وقال العالمة مشس الدين بن القيم ىف كتابه شرح منازل السائرين :
49
تنزيه االعتقاد عن الحلول الرسالة الثالثة
الدرجة الثالثة من درج ات الفن اء فن اء خ واص األولي اء وأئمة املق ربني وهو
الفناء عن إرادة السوى شائما برق الفناء عن إرادة ما سواه سالكا سبيل
اجلمع على ما حيبه ويرض اه فانيا مبراد حمبوبه منه عن م راده هو من حمبوبه
فضال عن إرادة غريه ،قد احتد مراده مبراد حمبوبه أعىن املراد الديىن األمرى
ال املراد الك وىن الق درى فص ار املرادان واحد ق ال :وليس ىف العقل احتاد
ص حيح إال ه ذا واالحتاد ىف العلم واخلرب فيك ون املرادان واملعلوم ان
واملذكوران واحد مع تب اين اإلرادتني والعلمني واخلربين ،فغاية احملبة احتاد
م راد احملب مبراد احملبوب وفن اء إرادة احملب ىف م راد احملب وب ،فه ذا االحتاد
والفن اء هو احتاد خ واص احملبني وفن اؤهم ،قد فن وا بعبادته عن عب ادة ما
س واه ،وحببه وخوفه ورجائه والتوكل عليه واالس تعانة به والطلب منه عن
حب ما س واه ،ومن حتقق هبذا الفن اء ال حيب إال ىف اهلل ،وال يبغض إال
فيه ،وال ي واىل إال فيه ،وال يع ادى إال فيه ،وال يعطى إال هلل ،وال مينع
إال هلل ،وال يرجو إال إياه ،وال يستعني إال به ،فيكون دينه كله ظاهرا هلل
،ويك ون اهلل ورس وله أحب إليه مما س وامها فال ي واد من ح اد اهلل ورس وله
ولو كان أقرب اخللق إليه بل –
يعادى الذى عادى من الناس كلهم مجيعا ولو كان احلبيب املصافيا
وحقيقة ذلك فن اؤه عن ه وى نفسه وحظوظها مبراضى ربه تع اىل
وحقوقه ،واجلامع هلذا كله حتقيق ش هادة أن آل إله إال اهلل علما ومعرفة
وعمال وح اال وقص دا ،وحقيقة ه ذا النفى واإلثب ات ال ذى تض منته ه ذه
الش هادة هو الفن اء والبق اء ،ففىن عن تأله ما س واه علما وإف رادا وتعم دا ،
وبقى تأهله وحده ،فهذا الفناء وهذا البقاء هو حقيقة التوحيد الذى اتفقت
50
تنزيه االعتقاد عن الحلول الرسالة الثالثة
عليه املرس لون ص لوات اهلل عليهم ،وأن زلت به الكتب ،وخلقت ألجله
اخلليقة ،وش رعت له الش رائع ،وق امت عليه س وق اجلنة ،وأسس عليه
اخللق واألمر ،إىل أن ق ال :وه ذا املوضع مما غلط فيه كثري من أص حاب
اإلرادة ،واملعصوم من عصمه اهلل ،واهلل املستعان .
وق ال ىف موضع آخر :وإن ك ان مش مرا للفن اء الع اىل وهو الفن اء
عن إرادة السوى ،مل يبق ىف قلبه مراد يزاحم مراده الديىن الشرعى النبوى
القرآىن ،بل يتحد املرادان فيصري عني مراد الرب تعاىل هو عني مراد العبد،
وه ذا حقيقة احملبة اخلالصة ،وفيها يك ون االحتاد الص حيح وهو االحتاد ىف
املراد ال ىف املريد وال ىف اإلرادة ،قال :فتدبر هذا الفرقان ىف هذا املوضع
الذى طاملا زلت فيه أقدام السالكني ،وضلت فيه أفهام الواحدين انتهى .
وقد تك رر كالم ابن القيم ىف ه ذا الكت اب ىف تض ليل االحتادية
والق ائلني بالوح دة املطلقة ،وقد س قت منه أش ياء ىف كت اىب ال ذى أش رت
إليه ،فلينظر منه ،واهلل أعلم .
51