You are on page 1of 15

‫العالقة بني (وحدة الوجود) وحقيقة العامل وقدمه واالحتاد واحللول‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على سيدنا حممد أفضل األنبياء واملرسلني‪ ،‬وعلى آله وصحبه ومن‬

‫تبعهم بإحسان إىل يوم الدين‪ .‬وبعد‪...‬‬

‫فلما اطلعت على بعض الكتب ‪ ،‬خطر ببايل أن أكتب مالحظات تدور على بعض ما أثري فيها ‪ ،‬وأحببت‬

‫أن أطلع اإلخوة القراء املهتمني على ذلك ألمهية املوضوع وخطورته‪.‬‬

‫وقد جردت الكالم من األمساء لدفع أسباب احلساسية املفرطة اليت يتصف هبا بعض اخلائضني يف هذه‬

‫املعاني‪ ،‬ومبادرهتم إىل االهتام بالقدح والطعن يف األكابر واألولياء ‪ ،‬مع أن مقتضى احلال يوجب عليهم التأني‬

‫لدقته وما يزعمونه من االختصاص‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫أوال ً‪ :‬قدم العامل ‪:‬‬

‫كيف ميكن أن يقول بقدم العامل من يقول‪ :‬ال وجود إال للحق املعبود‪ ،‬فإن من ينفي وجود غري اهلل تعاىل ال‬

‫ميكن أن يثبت قدم العامل باملعنى الذي نفهمه من القدم‪ ،‬فإن قدم العامل يف عرفنا معناه‪ ( :‬أن يكون العامل‬

‫موجوداً بوجود غري وجود اهلل تعاىل‪ ،‬وأن يكون ال بداية له ) ‪.‬‬

‫وهذا حمال عند القائل بال وجود إال هلل تعاىل‪.‬‬

‫فالعامل الذي نراه –إذن‪ -‬ما هو إال مظاهر –هي يف حقيقتها نسبٌ‪ -‬تتجلى هبا الذات الذي ثبت له الوجود‬

‫األزيل‪ ،‬بل هي حمض الوجود املطلق غري املقيد‪ .‬فإذا كان العامل كذلك‪ ،‬فال أكثر من أن يقال‪ :‬إن واجب‬

‫الوجود مل يزل يتجلى مبظاهر العامل وصوره‪ ،‬أو بأحكامه‪ ،‬إما بعلمه أو بذاته‪ ،‬حبيث تكون هذه املظاهر عني‬

‫النسبة‪ ،‬ال بأن تكون شيئاً منسوباً إىل الذات‪ ،‬إذ ال ذات إال ذات احلق‪ ،‬وال ذات للعامل‪ ،‬بل ميكن أن يقال‪ :‬إنّ‬

‫ذاته هي نسبة وجتلٍّ ومظهر‪.‬‬

‫وعليه يقال أيضاً‪ :‬أعيان املمكنات ثابتة يف علم الواجب‪ ،‬أزال‪ ،‬وال تزال أبداً‪ ،‬وال يعطيها الواجب إال نسبة‬

‫إىل الوجود‪ ،‬أي ال يعطيها إال الصفة ال حقيقة الوجود‪ ،‬إذ الوجود غري جمعول الحنصاره فيه ‪ ،‬والنسبة ال تقوم‬

‫إال مبنسوب إليه‪ ،‬وال بد أن يكون قائما بذاته وإال بطل الكلّ‪ ،‬وال قائم بذاته إال الذات الواجب الوجود‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫واهلل تعاىل عامل باملوجودات احلادثة بعلمه األزيل عند أهل احلقّ‪ ،‬فلها متيز حبسب علم اهلل تعاىل هبا‪ ،‬وعندما‬

‫نقول إن اهلل تعاىل عامل هبا‪ ،‬أي مييزها حبسب ما ستكون عليه‪ ،‬وختصيص هذه املكوَّنات بإرادته جل وعزَّ ال‬

‫بسبق إجياب وال ثبوت‪ ،‬ويدركها كذلك‪ ،‬وإجياد هذه املخلوقات عند أهل احلقِّ ال يكون بإجيادها يف العلم‪،‬‬

‫فالعلم أزيل ليس حمل ختصيص وجعل‪ ،‬بل بأن يوجدها يف نفس األمر‪ ،‬وهو املعرب عنه باخلارج‪ ،‬ال بأن تكون‬

‫ثابتة يف علم العالم فقط‪ ،‬والقائل بذلك يُكَثِّرُ الوجود‪ ،‬ويقسِّمُه إىل واجب وممكن‪ ،‬وذات الواجب وحقيقته‬

‫غري ذات املمكن وحقيقته‪ ،‬ال يشرتكان إال يف بعض األحكام االعتبارية اليت ال تستلزم التشريك بني احلقائق وال‬

‫تغريها عند ذوي التحقيق‪ ،‬فال تنسب لشيء منها ما ليس له ‪ ،‬فشتان ما بينهما شتان‪.‬‬

‫وهل يصح أن يقال ‪ :‬إن للموجودات قدماً حبسب علم اهلل تعاىل؟‬

‫إن الذي أراه أصحَّ يف التعبري والنظر أن يقال‪ :‬إنّ اهلل تعاىل عامل هبا أزالً‪ ،‬أما هي يف نفسها فال قيام هلا يف‬

‫علم اهلل تعاىل حتى ينسب إليها القدم حبسب هذا االعتبار‪ ،‬بل الثابت علم اهلل تعاىل هبا‪ ،‬فالقديم هو العلم‬

‫ال املوجود الذي يقال عليه معلوم‪ .‬ولو كان كما يفرض؛ لكان للمُحال أيضا قد ٌم يف علم اهلل تعاىل‪ ،‬ولكان كل‬

‫شيء مستوياً مع غريه هبذا االعتبار‪ ،‬فال فرق بني شيء وآخر حبسبه‪.‬‬

‫وفرقٌ بني املعلومية الثابتة للموجودات وبينها نفسها‪ ،‬فال يقال‪ :‬إذا كانت املعلوميةُ ثابتةً أزالً‪ ،‬أنَّ املوجودية ثابتة‬

‫أزالً‪ ،‬فالعلم يتعلق باملوجود واملعدوم‪ ،‬واملمكن واحملال فضالً عن الواجب الذي ال يزال‪ ،‬وال يشرتط لعلم اهلل‬
‫‪3‬‬
‫تعاىل وجود املعلوم‪ ،‬فال يلزم حدوث علمه ؛ حلدوث وجود معلومه أو موجوديته‪ ،‬كما يزعم!‬

‫ومن ظنّ أن علم اخللق ال يكون إال تابعاً للمعلوم مبعنى أنه ال يكون إال تابعاً لوجود املعلوم يف رتبة ما‪ ،‬أما علم‬

‫اهلل تعاىل فال يكون إال مساوياً للمعلوم‪ ،‬فقد أبعد‪ ،‬ووقع يف اإلشكال! فإن بعض معلومات املخلوقات تكون‬

‫حمالة‪ ،‬وبعضها غري ثابتة يف الوجود أصال‪ ،‬فاملخلوق قد يعلم بعض ما مل حيصل بعد باالستدالل عليه ببعض‬

‫مقدماته اليت حصلت‪ ،‬فالفارق بني علم اهلل تعاىل وبني علم املخلوق ليس يف التبعية إذن‪ ،‬وال يف املساواة‪ ،‬كما‬

‫يزعم‪ ،‬بل إن علم اهلل تعاىل أزيل قديم ال أول له كما قرره أهل احلق‪ ،‬وعلم املخلوقات حادث يكون بالضرورة‬

‫أو بأسباب ووسائل ‪ ،‬خبالف علم احلق تعاىل‪ ،‬فإهنما خيتلفان يف احلقيقة كاختالف واجب الوجود عن ممكنه‬

‫مع اشرتاكهما يف وصف املوجودية وثبوت الوجود‪ ،‬أما التبعية واملساواة ففيها نظر وأي نظر‪.‬‬

‫ومن أين يلزم كفر من يقول ‪ :‬إن علم اهلل تعاىل تابع للمعلوم ‪ ،‬مبعنى أنه تابع حلقيقة املعلوم املنكشفة هلل تعاىل‬

‫أزالً‪ ،‬ال تابع لوجوده‪ ،‬حتى يلزم احلدث والتغري احملاالن على الواجب‪ ،‬أي يكشف عنها حبسب ما هي يف‬

‫نفسها‪ ،‬ألنه لو كان غري ذلك لكان جهال‪ .‬فمن توهم كفر القائل بذلك فقد جهل مقصده أو حرَّفه عن‬

‫موضعه‪.‬‬

‫ثم كيف يُتوهم أنَّ القائل بأن اهلل تعاىل عامل جبميع املعلومات‪ ،‬وأنَّ علمه تعاىل قبل املعلومات‪ ،‬يلزمه تقدم ذاته‬

‫على املعلومات! حتى يشنَّع عليه بأن يقال‪ :‬بأنه قليل األدب! وهال تأنى من اندفع وراء ومهه فشنع على‬
‫‪4‬‬
‫غريه إىل أن يفهم قوهلم على حقيقته‪ ،‬ويعلم أن املراد باملعلومات أي‪ :‬ما تعلق علم اهلل تعاىل هبا وكشف‬

‫عنها‪ ،‬وليس هي عندهم عني العلوم القائمة بعلم اهلل تعاىل‪ ،‬أو اليت يسميها باألعيان الثابتة من الصور‬

‫والتجليات العلمية‪ ،‬فهي عندهم‪ :‬كون اهلل تعاىل عاملا أزالً‪ ،‬أو عني التعلق واالنكشاف هلل تعاىل‪ ،‬فهي التعلق‬

‫التنجيزي للعلم اإلهليّ القديم‪.‬‬

‫وكيف يقال ‪ ( :‬إنَّ من أطلق القبلَ والبعد على اهلل تعاىل فهو قليل أدب مع اهلل تعاىل) ! وقد ورد يف‬

‫أحاديث النيب عليه أفضل الصالة والسالم‪ ( :‬كان اهلل قبل كل شيء ) (‪ ، )1‬وورد يف الصحاح ( كان اهلل ومل‬

‫يكن شيء غريه ) (‪ ، )2‬مع أنه يكفي {هُو الْأَوَّلُ والْآخرُ} [احلديد‪ ،]3:‬وقد وردتْ نصوص كثرية تفيد‬

‫هذا املعنى اجلليل‪ ،‬فهل يصحُّ عند صاحب ذوق إطالق قلة األدب على العموم هكذا حبيث تشمل ما ورد‬

‫عن صاحب الشريعة! وإن زعم أن ذلك يُدخل احلق تعاىل حتت حكم الزمان فيكون ظرفاً له تعاىل‪ ،‬فهو‬

‫واهم منساق وراء غفلته‪ ،‬وهيهات أن يكون ذلك نتيجة الكشف املبني‪.‬‬

‫ولو عدنا إىل من قال إن الوجود واحد‪ ،‬لعرفنا أنه يفسر العامل املشاهد بأنه جتليات ونسب إىل ذلك الوجود‪،‬‬

‫قد يعرب عنها باألحكام أو بغري ذلك مما ال يدل على ذوات قائمة يف أنفسها بإقامة اهلل تعاىل هلا‪ ،‬إذ إنه قد‬

‫‪ - 1‬أحمد بن حنبل – المسند ‪ :‬مسند البصريين ‪ ،‬حديث عمران بن حصين ‪ ،‬ص‪ . 108/33‬نشر مؤسسة الرسالة ‪ ،‬ط‪ 2001 ، 1‬بتحقيق شعيب اآلرنؤوط ‪ .‬وقد صحح المحقق‬
‫الحديث ‪.‬‬
‫‪ - 2‬البخاري – الصحيح ‪ :‬كتاب بدء الخلق ‪ ،‬باب ما جاء في قول هللا تعالى‪{ :‬وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} ‪ ،‬رقم ‪.3191 :‬‬
‫‪5‬‬
‫يعدُّ ذلك كفراً وشركاً‪ ،‬ألن التوحيد احلق عنده ‪ :‬توحيد الوجود احلق الثابت يف نفس األمر‪ ،‬ال توحيد‬

‫الشهود مع اعتقاد التغاير بني الوجود احلادث والقديم كما يقرره أهل احلق‪ .‬فخَلْقُ اهلل تعاىل عندهم معناه أنه‬

‫يوجد أمراً مل يكن موجوداً‪ ،‬وذلك حبسب علمه األزيل الذي ال يتغري‪ ،‬وليس معناه أنه يوجد املعدوم بأن مينحه‬

‫وصف املوجودية جملرد انتسابه إىل الوجود الواحد‪.‬‬

‫ثم إن هذه التجليات املنسوبة للوجود األحد املطلق إما أن تكون أزلية الشخص‪ ،‬أو النوع‪ ،‬فال قائل من أهل‬

‫اإلسالم بأزلية شخص بعض التجليات وسواء مسوها جتليات أو خملوقات أو موجودات خارجية ‪ ،‬فقد اتفق‬

‫أهل اإلسالم على عدم أزلية شخص املخلوق‪ ،‬فلزم إذن القول إما بتجرد الذات أزال‪ ،‬وعدم جتليها بأحكام‬

‫املمكنات أبداً‪ ،‬أو أهنا مل تزل متجلية بأحكامها ظاهرة هبذه املظاهر ألجل الكرم واللطف والرمحة ! وهو‬

‫عني القدم النوعي اخلارجي إال أنَّه قدمٌ نوعيٌّ صُوريٌّ!‬

‫ومنْ مل يفرق بني قول الفالسفة بأزلية العامل أو مادته لكون الواجب عندهم علة له‪ ،‬وبني قول األشاعرة إن علم‬

‫اهلل تعاىل أزيل‪ ،‬وما علمه اهلل تعاىل ال بد أنه يوجد كما يعلم‪ ،‬فقد أغفل الفارق األهمّ بني الفريقني أو تغافل‬

‫عنه‪ ،‬وهو أن اإلجياب يف الثانية باالختيار وباألوىل ال بعلم وال اختيار بل بالعلة‪.‬‬

‫ولذلك فإن األشاعرة يصرحون بأن اهلل تعاىل لو مل يُرِد إجياد العامل من األصل لكان ذلك مقدوراً‪ ،‬وأما‬

‫املتفلسفة ومن تبعهم فيقولون –لنفيهم االختيار‪ : -‬إن وجود العامل ال بدَّ حاصل ‪ ،‬وإنه ال تعلق بقدرة اإلله‬
‫‪6‬‬
‫واختياره –على فرض إثباهتم إياها‪ -‬به‪ ،‬فسبحان اهلل تعاىل! كيف مل يفرق من مل يفرق بني القولني فجمع بني‬

‫الفريقني‪ ،‬ومل يكشف له عن هذا الفرق اجللي الواضح وكان ينبغي أن ينكشف له بال كسب ونظرٍ أصال ً!‬

‫ثم إنّ العلم ليس هو عند أهل احلق علةَ اإلجياب وال علة اإلجياد‪ ،‬بل العلم شرط اإلجياد ‪ ،‬والعلة ‪-‬إن أطلقوا‬

‫العلية عليها‪ -‬إمنا هو التعلق التنجيزي للقدرة ال جمرد العلم األزيل حتى يقال ال فرق بني املتفلسفة واألشاعرة‬

‫إذ يلزمهما كليهما القولُ بقدم العامل حبجة أنَّ العلة ال تتقدم على معلوهلا إال بالرتبة!‬

‫وال يُسْتَغْربُ أن يبين بعضُهم على موجودية املمكنات يف العلم القديم باملعنى الذي أشرنا إىل رده حقيقةَ توجه‬

‫خطاب (كن) إليه‪ ،‬فلذلك خيْرُجُ ‪-‬عند القائل بذلك‪ -‬بأن يظهر ال بأن يوجد‪ ،‬وذلك بعد أن كان ثابتاً يف العلم‬

‫ولذلك توجه اخلطاب إليه‪ ،‬ولو مل يكن ثابتا يف العلم ملا صح توجيه ذلك اخلطاب حقيقة! وال خيفى أن هذا‬

‫من الكالم الضعيف الركيك‪ ،‬فإنَّ أهل السنة صرحوا بأن املراد من اآلية التمثيل والكناية عن عدم ختلف‬

‫املقدور عند إرادة خلقه وإجياده‪ ،‬وأن اإلجياد يكون بالقدرة ال بنفس الكالم األزيل‪ .‬وضعَّفوا قول من مال إىل‬

‫حنو ذلك وإن كان منقوالً عن األعالم فضال عن املشايخ العظام‪ ،‬وال عربة بالكشف املخالف للدليل الظاهر‪.‬‬

‫فإنْ توهَّم متوهِّمٌ حجيَّتَه – إن سُلِّم ‪ -‬فإمنا للقائل به املنكشف له‪ ،‬ثم ال جيوز تقليده لغريه‪ ،‬وال جيوز‬

‫لصاحبه خمالفة ظاهر الشريعة به ؛ ألن االعتماد إمنا هو على األدلة الشرعية وعلى أدلة أهل احلق وعقائدهم‬

‫‪7‬‬
‫الراسخة املوضحة يف كتب التوحيد‪ .‬وغاية ما يقال يف حنو هذا الكشف أن صاحبه سكران والسكران –‬

‫املضطرّ إىل سكره‪ -‬يُرفع عنه إثمُ ما يفعله يف سكره أو لسكره‪ ،‬وال يرفع عنه األحكام الوضعية تعويضاً عما‬

‫كسره أو أتلفه وحنو ذلك‪ ،‬ويطالب أصحابه بأن ال يشجعوه على ما يفعل‪ ،‬ويؤمرون بأنْ ال يوافقوه فيما فعله يف‬

‫سكره وهم غري سكارى مثله‪ ،‬ومل يضطروا إىل ما اضطر إليه‪ ،‬ويُمْنعون من أن يوافقوه على ما يصدر عنه مما‬

‫خيالف أحكام الشريعة الظاهرة‪ ،‬فإن االجتهاد الذي يسوغ التقليد ويرفع إمثه عن املقلد‪ ،‬هو االجتهاد الظاهر‬

‫من اجملتهد املعترب بالنظر املرسوم قواعده يف الشريعة‪ ،‬ال بالكشف الباطن فهو ليس حبجة عند أهل احلقّ‪.‬‬

‫ولو كان نزاعهم مع غريهم يف معذريته لوفَّوا ووصلوا إىل القصد املباح‪ ،‬ولكن أنْ يُلزموا الناس باتباعه أو عدم‬

‫التحذير من أقواله فضالً عن مدحها واحلضّ عليها فال يقول به متشرع‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫ثانياً ‪:‬احللول واالحتاد ‪:‬‬

‫كيف ميكن أن يقول صاحب القول بأن ( ال وجود إال للواجب‪ ،‬وما سواه مظاهر وجتليات له ) باالحتاد‬

‫واحللول ومها فرعا الكثرة يف الوجود‪ ،‬وهو ينفيها من أصلها؟!‬

‫فال فائدة بعد ذلك يف تنزيه من قال بالوحدة عن القول باالحتاد واحللول الستحالة قوله هبما‪ ،‬فاألمر ليس يف‬

‫هذين ‪ ،‬بل فيما يصرح به مما يعزوه بعضهم إىل السكر والوجد أو الدسّ أو عدم الفهم والوهم حبجة الوالية‬

‫والعبادة اليت وصل يف مراتب العبودية فيها إىل درجة مل يتفوق عليه أحد من أهل عصره وإن كان وصل إليها‬

‫أو شاركه فيها‪.‬‬

‫والنزاع ليس يف عبوديته وال يف عبادته وال يف صدقه وال مهته وال غري ذلك مما يقال يف هذا الباب ويدرج‬

‫إدراجاً ال فائدة منه يف فصل اخلطاب‪ ،‬فإن العاقل ال ينازع الناس مراتبهم عند اهلل تعاىل‪ ،‬إال أنه قد تقرر أنَّ‬

‫الوالية ال تستلزم عدم اخلطأ وال العصمةَ ألن ذلك كله مضمون لألنبياء فقط‪ ،‬وأما احلفظ فهو مع حفظ اهلل‬

‫تعاىل‪ ،‬وهو يف حفظ ظاهر الشريعة وما قرره أهل احلق من علماء األمة‪ ،‬الذين يسمهم الوامسون بالظاهرية‬

‫واجلمود أو احلجب‪ ،‬ويف هذا يكون النزال!‬

‫‪9‬‬
‫وقد نصَّ أكابر الصوفية وخصوصاً السادة النقشبندية منهم على أن ‪ :‬الكشف ميكن أن خيالطه الوهم أو‬

‫غريه فيكون مثار اخلطأ وخباصة إذا كان غري موافق يف ظاهره ملا قرره أكابر أهل السنة من عقائد باألدلة‬

‫الظاهرة والشريعة الطاهرة‪.‬‬

‫واهلل املوفق وعليه التكالن واحلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم على خري من أرسله رمحة للخلق أمجعني‪.‬‬

‫كتبه الفقري إىل اهلل تعاىل يف كل حال‬

‫سعيد فودة‬

‫وليس لنا إىل غري اهلل تعاىل حاجة وال مذهب‬

‫‪10‬‬
‫وعلّق الشيخ جالل اجلهاني – حفظه اهلل ‪: -‬‬

‫زادكم اهلل علماً‪..‬‬

‫سيدي هل لكم أن تعلقوا على قبول بعض العلماء لتقسيم الوجود إىل وجود خارجي‪ ،‬ووجود ذهين‪ ،‬ووجود‬

‫لفظي‪ ،‬ووجود علمي ‪ ..‬هل تقبلون استخدام لفظ الوجود هنا ؟‬

‫فأجب فضيلة الشيخ سعيد – حفظه اهلل ‪: -‬‬

‫األخ الفاضل الشيخ املفيد جالل وفقه اهلل تعاىل ونفعنا به‪،‬‬

‫قال اإلمام التفتازاني رمحه اهلل تعاىل‪ ( :‬ثم الوجود ينقسم إىل العيين والذهينّ حقيقة‪ ،‬وإىل اللفظي واخلطي‬

‫جمازاً‪ ،‬إذ ليس يف اللفظ واخلط من اإلنسان الشخص واملاهية كما يف اخلارج والذهن بل املوجود االسم‬

‫وصورته ) (‪.)3‬‬

‫فمعنى كون الوجود اخلارجي أنه حقيقي واضح ‪ ،‬ومعنى كون الوجود الذهين حقيقيّ إما حبسب الدعوى‬

‫عند من يثبته ‪ ،‬أو على أساس أن الوجود الذهين عني العلم‪ ،‬والعلم ثابت حقيقة‪.‬‬

‫‪ - 3‬التفتازاني – تهذيب المنطق والكالم ‪ . 19-18 :‬مطبعة السعادة ‪ ،‬ط‪1930 ، 1‬م‬


‫‪11‬‬
‫وأما الوجود اللفظي واخلطيّ فمن الظاهر كيف أهنما وجودان غري حقيقيني‪ ،‬كما وضحه السعد بأن املاهية‬

‫املدلول عليها هبما ليس واقعاً يف اخلارج ‪ ،‬فلو تلفظنا بلفظ "القلم" ملا قامت ماهية القلم بعني اللفظ‪ ،‬بل القائم‬

‫هو عني اللفظ املركب من احلروف‪ .‬وكذلك إذا كتبنا صورة كلمة "قلم" على ورقة‪ ،‬فاملوجود على الورقة‬

‫ليس هو عني القلم‪ ،‬بل هو فيهما أمر دال على معنى القلم الثابت يف الذهن أو يف علم العالم‪.‬‬

‫والثابت يف الذهن ‪ :‬هو معنى دالٌّ على املاهية اخلارجية أو املتومهة ‪ ،‬ال عني املاهية كما يزعم بعضهم‪.‬‬

‫وثبوت هذا املعنى حقيقي من حيث إن العلم حقيقيٌّ‪ .‬واهلل أعلم‬

‫وعلّق الشيخ عبد السالم أبو خلف ‪:‬‬

‫السالم عليكم سيدي الشيخ سعيد فودة‬

‫أما بعد؛ قلتم‪:‬‬

‫" ومن ظنّ أن علم اخللق ال يكون إال تابعاً للمعلوم مبعنى أنه ال يكون إال تابعاً لوجود املعلوم يف رتبة ما‪ ،‬أما‬

‫علم اهلل تعاىل فال يكون إال مساوياً للمعلوم‪ ،‬فقد أبعد‪ ،‬ووقع يف اإلشكال "‬

‫كون علم اهلل مساوياً لوجود املعلوم مبعنى أن التعلق التنجيزي للعلم حادث ظاهر البطالن على مذهب أهل‬

‫السنة وأكثر اإلسالميني‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫والظاهر أيضا من مذهب القائلني بوحدة الوجود‪-‬وخصوصا الشيخ ابن عربي‪ -‬أهنم ال يقولون بأن علم‬

‫الباري مساوٍ لوجود املعلوم يف اخلارج‪ ،‬خالفا ملا فهمته من العبارة السابقة؛ إذ حاصلها أن الفرق بني علم‬

‫اخللق واخلالق هو كون األول تابع لوجود املعلوم يف اخلارج وكون الثاني مساوٍ لوجود املعلوم يف اخلارج‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬إن املراد من وجود املعلوم ليس وجوده يف اخلارج‪ ،‬وإمنا وجوده يف مرتبة من الوجود‪-‬وهي الوجود‬

‫الذهين عند من يثبته حقيقة‪ -‬سابقة على مرتبة الوجود اخلارجي ‪.‬‬

‫فيقال حينها‪ :‬وهل علم اخللق تابع لوجود املعلوم يف هذه املرتبة أيضا‪ ،‬هذا حمال عقال‪ ،‬وال أحد يقول به‪.‬‬

‫فيكون املراد من العبارة هو أن الشيخ ابن عربي ومن معه يفرقون بني علم اخللق واخلالق بأن األول تابع لوجود‬

‫املعلوم يف اخلارج‪ ،‬وأن الثاني مساوٍ لوجود املعلوم يف مرتبة الوجود الذهين األزلية‪.‬‬

‫والسؤال هنا ‪ :‬هل ما قلتُه يف الفقرة األخرية هو مذهب الشيخ ابن عربي ومن تابعه ؟‬

‫وملاذا يا سيدي مل تقولوا أن علم اخللق عنده "تابع لوجود املعلوم يف اخلارج"‪ ،‬وقلتم إن علم اخللق عنده "تابع‬

‫لوجود املعلوم يف مرتبة ما"‪ ،‬فهل هي عني املرتبة أم غريها‪ ،‬إن غريها فما هي؟‬

‫وبعد ذلك هل تفريق الشيخ ابن عربي كان لعلم اخلالق واملخلوق يف نفس املرتبة‪ ،‬أم يف مرتبتني؟‬

‫‪13‬‬
‫إن كان يف مرتبتني خمتلفتني فهذا فارق كافٍ بني العلْمني‪ ،‬فيقال حينها‪ :‬إن الفرق بني علم اخلالق واملخلوق هو‬

‫أن علم اخلالق يكون للمعلوم كعني ثابتة أزال يف ما يسمى بالوجود الذهين‪ ،‬وأما علم اخللق فيكون للمعلوم بعد‬

‫وجوده يف اخلارج‪ ،‬وينبين على هذا كون العلم األول أزيل مساوٍ والعلم الثاني حادث تابع‪ ،‬فيجب أن يكون‬

‫الفارق احلقيقي عنده هو اختالف مرتبيت املعلوم عند اخللق واخلالق ال ما َذكَر‪ ،‬فما ذكره يكون حينها مثرة‬

‫للفرق احلقيقي عنده‪ ،‬ال عني الفرق‪.‬‬

‫فلو تفضلتم علينا يا سيدي باإلجابة‪ ،‬فهي ستحل عندي‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬بعض اإلشكاالت يف مذهب الشيخ‬

‫ابن عربي‪ ،‬والسالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫فأجاب الشيخ سعيد ‪-‬حفظه اهلل ‪: -‬‬

‫أخانا الفاضل عبد السالم‪،‬‬

‫العلم اإلهلي تابع لثبوت األعيان الثابتة يف نفس األمر‪ ،‬فهو كاشف عنها أزال‪ ،‬وتتعلق بعد ذلك قدرته بكل عني‬

‫من األعيان فتظهرها على حسب أحواله بعني الوجود اإلهلي‪ ،‬ليكون الوجود اإلهلي مظهرا هلا‪ ،‬فتكون من‬

‫جتلياته الوجود اإلهلي‪ ،‬فهو الظاهر يف املظاهر‪ ،‬واملظاهر هي أحكام األعيان وأحواهلا الثابتة أزال‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫واملشهور من مذهب ابن عربي أن األعيان الثابتة غري متوقفة يف ثبوهتا على قدرة اهلل تعاىل وال إرادته‪،‬‬

‫ولكين رأيت يف كالم بعض املشايخ خالف ذلك حيث يفهم منه دعواه أن نفس األعيان الثابتة عند الشيخ ابن‬

‫عربي ثابتة بإرادة اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪15‬‬

You might also like