Professional Documents
Culture Documents
الرد المختصر
على ضالل البوطي في "اإلنسان مسير أم مخير؟"
رشيد بلواد
1
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
(أما القضاء ،فهو علم هللا عز وجل في األزل باألشياء كلها على ما ستكون عليه في المستقبل .ومن
ذلك تصرفات اإلنسان االختيارية والقسرية.
وأما القدر فهو ظهور تلك األشياء بالفعل طبقا لعلمه األزلي المتعلق بها .وقد عكس بعضهم ،فجعل
تعريف القضاء للقدر والعكس .واألمر محتمل والخطب فيه يسير.
يقول اإلمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ،بعد أن عرف القضاء والقدر بما ذكرناه:
<<قال الخطابي :وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار هللا سبحانه وتعالى العبد
وقهره على ما قدره وقضاه .وليس األمر كما يتوهمون .وإنما معناه اإلخبار عن تقدم علم هللا سبحانه
وتعالى بما يكون من أكساب العبد وصدورها عن تقدير منه>>-النووي على صحيح
مسلم151\1:و.155
وذكر ابن حجر الهيثمي في شرحه على حديث عمر بن الخطاب رضي هللا عنه عن اإليمان تعريف
القضاء فقال <<:والقضاء علم هللا أوال باألشياء على ما هي عليه ،والقدر إيجاده إياها على ما يطابق
العلم>>-فتح المبين بشرح األربعين النووية:ص .41
وعرف اإلمام البركوي قضاء هللا المتعلق بأفعال العباد بكون هذه األفعال صادرة بعلم أزلي سابق من
هللا .وأطال في بيان أن ذلك ال يستلزم أن يكون اإلنسان مجبورا على أفعاله-.الطريقة المحمدية
للبركوي مع شرحه ألبي سعيد الخادمي.111\2 :
ومن هنا ندرك أن وجوب اإليمان بقضاء هللا عز وجل ،ليس إال من مستلزمات وجوب اإليمان بعلم هللا
األزلي المتعلق بكل ما يجري في الكون .ومن ذلك ما يصدر عن اإلنسان من تصرفات وأفعال.
ويتبين من ذلك أن القضاء ال يستوجب الجبر واإللزام ،كما هو ثابت وهما في أذهان كثير من الناس .إذ
القضاء ليس أكثر من علم هللا بما يجري أو سيجري في الكون ،والعلم تابع دائما للمعلوم ،وليس
العكس ،فإن كان الشيء المعلوم هلل مما يخلقه هللا ابتداء؛ كحوادث الكون ،واختالف األنواء ،ووقوع
الزالزل ،وظهور النبات ،ووالدة الحيوانات وموتها ،فهو مما يخضع إلرادته وحكمه ،ومن ثم لخلقه
وإبداعه ،ومن ثم فهو ثابت ومسجل في علم هللا األزلي .وإن كان مما يدخل في األفعال والتصرفات
اإلرادية لإلنسان ،فإن علم هللا تعالى تابع إلرادة اإلنسان التي بها يصدر الفعل ،والتي بموجبها يخلق
هللا ذلك الفعل له.
أي إن هللا عز وجل منح اإلنسان إرادة كلية ،أي ملكة وطاقة بها يختار األشياء ويريدها ويصطفي ما
يشاء منها ،فيمارسها باختيار ما تتجه إليه نفسه من جزئيات التصرفات واألفعال ،وعندئذ يخلق هللا
أفعاله وتصرفاته تلك مطابقة الختياراته التي اتجه إليها؛ ومما ال شك فيه أن ذلك كله ثابت ومسجل في
علم هللا األزلي .فنقول بناء على ذلك :إن هللا علم وأراد ما يصدر عن اإلنسان بإرادته واختياره من
خير وشر-المرجع المذكور -وهذا هو معنى القضاء.
2
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
وبوسعنا أن نعبر عن هذا كله بكلمة وجيزة جامعة ،وهي أن القضاء علم هللا بكل ما يقع في الكون وكل
ما يصدر عن اإلنسان .والعلم صفة كاشفة وليست صفة مؤثرة .فمن أين يأتي اإلجبار والقهر من خالل
1
صفة العلم هذه إلى اإلنسان؟ وال تنس ما قلناه من أن العلم هو التابع دائما للمعلوم وليس العكس).
في الحقيقة هذا الذي نقلناه من قول ومن كتاب محمد سعيد رمضان البوطي ليكفي للحكم بأنه هو ذاته
ليس له من األمر شيء في العلم الحق باإلشكال الذي يزعم أنه بصدد إفهام الناس والقراء ما أشكل
عليهم فيه ،وكل ما صحب ذلك من عبارات المظاهرة واالنتماء ألهل السنة والجماعة ونهج السلف،
فذلك كما هو معلوم وإن يكن منه شيء في الواقع والحقيقة والنيات ،فغالبه ليس هو المراد وإنما يوظف
مصاحبة لألقوال سحرا بيانا واستلطافا لروح القارئ ،الذي يتابع ويستمع ويقرأ وهمه األساس هو
العلم ،فذلك ال يغني عن العلم وصدقيته وعن الحق شيئا.
إنه ليكفي القصور عن هيئة التصور للكون وحدوثه وأحداثه بأن يحكم على قصور هذا العقل وهذا
التصور لصاحب الكتاب بأن يحسم في قصوره وعدم كفاءته مطلقا للخوض في هذا اإلشكال الكبير.
والعجب كل العجب أن يسقط ويتلبس وهو كثير غيره في ما يرمون به غيرهم من وصوف القدرية
والمعطلة وإشراك اإلنسان هلل في خلقه وفي كثير مما هم متلبسون به وهم ال يشعرون.
ثم إنه ليكفي وكما قال هذا الرجل نفسه أن يكون لهذا اإلشكال خطره وشأنه ما ليس للقضايا األخرى
دونه ،ال لعموم المسلمين بل لعلمائهم تحديدا ولكبار مفكريهم وعارفيهم وحكمائهم ،ثم ال تجد عندهم،
وذلك ما يبقي عليه في كتابه وحديثه وسعيه في إفهام الناس ودلهم على الحل والقول الصحيح ،ال تجد
عندهم تعريفا لما هم عنه يتحدثون ،وهذا أعظم الرزية في طريق إيجاد أي حل ممكن ،ثم من بعده
يقول" :واألمر محتمل والخطب يسير" ناهيك عن التناقضات التي يتصدع منها النص وتكاد كلماته
تنفجر ضيقا من شدتها .وإال فكيف يسكن شيء ما نص مثال ما كهذا النص ويستقر فيه عن قرب أوال
قوله:
( -فإن كان الشيء المعلوم هلل مما يخلقه ابتداء . . .فهو ثابت ومسجل في علم هللا األزلي .وإن كان مما
يدخل في األفعال والتصرفات اإلرادية لإلنسان . . .ذلك الفعل له)
وثانيا قوله( -:وعندئذ يخلق هللا أفعاله وتصرفاته تلك مطابقة الختياراته التي اتجه إليها؛ ومما ال شك
فيه أن ذلك كله ثابت ومسجل في علم هللا األزلي)
والغريب أيضا أن البوطي وغيره لم يجدوا لهم شيئا يعيبون به المعتزلة وقد وجدوها مظنة لتشويه
صورتهم عند الناس ،خاصة وأنهم أصحاب المنبر وإمكان الحديث إلى الناس وتوجيه أحكامهم
وتلقينهم ،وقد حذر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من ذلك ومن أن يكون أحد المتخاصمين ألحن
بحجته من اآلخر ،بله أن ال يسمع إال ألحدهما من غير أن يسمع لآلخر؛ لقد ركز وجمع هؤالء أمرهم
في قولهم وافترائهم البين كون المعتزلة جعلوا اإلنسان شريكا هلل في الخلق ،وما كان دعواهم ذلك إال
أنهم أغرضوا في قول المعتزلة بأن اإلنسان يخلق أفعاله.
محمد سعيد رمضان البوطي :اإلنسان مسيّر أم مخيّر؟ -دار الفكر المعاصر .بيروت .لبنان -دار الفكر .دمشق سورية-
1ص73..73
3
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
تبنون قوال أنتم تعدونه عقيدة للمسلمين على تعريف غير منضبط للقضاء والقدر ،وتقولون األمر
محتمل والخطب فيه يسير ،ويقول أناس مسلمون يصلون ويحافظون على الصلوات والصالة الوسطى
ويصومون ويزكون ويحجون ويؤمنون باهلل واليوم اآلخر أن اإلنسان يخلق أفعاله ،فترمونهم بما هو
عند هللا تعالى ال يحق وال هو في الشريعة وأحكام الفقه بجائز .يقول الحق جلت قدرته وهو العزيز
الحكيم:
{وال يجرمنكم شنآن قوم على أال تعدلوا' اعدلوا هو أقرب للتقوى' واتقوا هللا' إن هللا خبير بما
تعملون'}(المائدة)1
ال شك أن مسافة البعد عن الحق ،إن حق القول بها بالنسبة لتعبير المعتزلة هذا ،ونسب لفظ الخلق
وجعلها بدل مراد أبي الحسن األشعري رحمه هللا بلفظ (الكسب) ،إن يكن لهذا التعبير للمعتزلة بعد
ومسافة عن الحق ،فإنه ال يمتري أحد وال يماري اثنان وال يختلفان كون فساد الشرط البياني في أساس
القول كله عندهم وفي بنائهم كله الذي هو تعريف القضاء والقدر ،وهو إخالل وتخلف شرطي بياني
لغوي ،وكذلك تعريفهم لعلم هللا تعالى أنه صفة كاشفة غير مؤثرة ،وبهذا اللفظ والتعبير عندهم .ال شك
أن هذا قد ذهب في البعد عن الحق أبعد ما يكون .وإنما المعتزلة أرادوا بها نفس معنى االكتساب الوارد
في القرآن المبين ،وهم ال يجعلون علم هللا الواحد القهار رب السماوات واألرض والذي ال يكون شيء
في األرض حتى يقضى في السماء ،المعتزلة يجعلون علم هللا تعالى هو المؤثر ال مؤثر سواه{ ،قل كل
من عند هللا' فما لهؤالء القوم ال يكادون يفقهون حديثا'}(النساء)77
وما يدلك على قصور تصور البوطي للقضية والموضوع في هيئته قوله وهو يرد على المعتزلة كما
يتوهم ويزعم:
<وقد علمت أن التلبس بالفعل يتوقف على أمرين :وجود عناصر الفعل ،والقصد المتجه إلى استعمال
هذه العناصر وتوظيفها .أما العناصر فموجودة بخلق هللا ،فهو إذن خالق للفعل أي موجد لعناصره.
وأما القصد المتجه إلى استعمالها فبملكة كلية وهبها هللا لإلنسان .ومن ثم فهو المتلبس بالفعل بحيث
2
يقال عنه :إنه الفاعل>
إن بيان التقسيم الدال عليه أ ّما وأ ّما ،وقوله( :فهو إذن خالق للفعل أي موجد لعناصره) يكفي ويجلي
بصورة أكثر الخبط الذي فيه البوطي ومن يقول بقوله أخذا بعزة التشيع -بالمعنى اللغوي طبعا-
والمناوءة ليس إال ،ولو أنهم أقبلوا بقلوب سليمة لها صدق سماع القول ونقده بالصدق كما كان شأن
أسيد بن خضير مع مصعب عمير رضي هللا عنهما ،لو فعلوا ذلك النجلت الغشاوة وهدوا إلى
الصواب ،وكان ذلك خلقا علميا ولكان خيرا لهم.
إن هذا المعنى الذي عبر به البوطي بالقصد هو ما أراده المعتزلة بالخلق ،ولهم من ذلك مسوغ من
البيان ليس لمن يقدح ويغرض فيه لهم كيدا ،ليس له من سبيل إال التحامل المذموم والتربص المفرط
الذي يذهب بعقل صاحبه فيجعله ينظر وال يبصر شيئا؛ يقول هللا تعالى فيما نتلوه من القرآن العظيم:
4
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
{وانطلق المأل منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة اآلخرة
إن هذا إال اختالق}(ص)4
وهم في ذلك كله ،أي المعتزلة ،لم يخرجوا اإلنسان وقلبه وقصده عن قهر هللا تعالى ،فإن هذا ال يقوله
إال الذين قصرت بهم عقولهم وزادها أن شغلهم التربص بغيرهم ،فأصابهم عمه البصائر ،فأنى
يصرفون؟
وهذا الخلط وعسر التصور الذي أشكل على البوطي لم يستطع عنه خروجا .ولما كان هو من أهم
مكامن اإلشكال وااللتباس الحاصل ليس عند البوطي وحده ،بل عند عموم العقل اإلنساني وما اعتاد
عليه من أبعاد مدركاته ،فإنه لم ينفك محاوال أن يجد له مخرجا بالرجوع إليه طوعا وكرها على طول
فصول كتابه الذي أراده كتابا لحل هذا اإلشكال في عقيدة المسلمين ،وإزاحة ما يعتريه من سوء الفهم
واالستعصاء ،وفي كل ذلك نلحظ ويشهد الرجل على المفارقة الكبرى ،هي أن ما يعزى للمعتزلة من
قول في هذا أصح قيال وأهدى سبيال ،ألن التركيب البياني الذي كرره البوطي وقوله أو تعبيره:
(االختيارات الجزئية) ينم عن تصور ساذج بينة سذاجته ،لو خرج قيد أنملة عن ضيقه المرجعي اآلسر
لفكره ألبصر مناقضة هذا القول لكل حال وواقع الناس والعالمين ،وإن أدنى ذلك أن كسب العباد
واكتسابهم إنما يحصل ويكون وبعضهم يموج ويحتك ببعض .واللسان والزعم والقول شيء ،فالبوطي
يكرر في ذلك ما هو متلبس به ويرمي به المعتزلة ،ويصرح في كل آن أنه من مشايعي أهل السنة
والجماعة وجماعة المسلمين؛ وأينا ،وأي مسلم ال يحب المسلمين وال يناصرهم؟ لكن الحق هو ما شهد
به الحق ،وليس األماني واالفتراء على أناس مؤمنين يصلون ويصومون ،بل وإن عرض على الحق
قولهم كان هو القول هنا ،وهو في الصفات خاصة أصح األقوال وأعالها تأصيال ،3وليس العصمة إال
للوحي الكريم.
< إذن فالقرار العلمي والمنطقي في هذه المسألة ،هو القول بأن ملكة القصد في اإلنسان بمعناها الكلي
مجردا عن التعلقات الجزئية مخلوقة من هللا منحة وهبة لإلنسان ،أما ما تعلق القصد بالمقصودات
الجزئية فهو حال اعتبارية لتلك الملكة ال يصح أن يقال :إن هللا قد خلقها خلقا مستقال عن الملكة الكلية،
وهذه الحال المتمثلة في التعلقات الجزئية ليست إال ترسيخا وتأكيدا لالختيار الذي يتمتع به اإلنسان،
4
ويتجه به إلى مقصوداته التي يتخيرها>.
هذا خطأ فادح شنيع في الحقيقة وفي العقيدة ،صاحبه أو أصحابه ليس لهم من دعوى وورقة يركنون
إليها إال دعوى حب جماعة المسلمين ،لكن هللا تعالى ورسوله صلى هللا عليه وسلم والراسخون في
العلم يحبون من كان للحق نصيرا ولو على أنفسهم أو الوالدين واألقربين ،وفي وصية عمر بن
الخطاب رضي هللا عنه لمعاذ بن جبل رضي هللا عنه أن العود للحق واألوبة إليه أحمد ،وهذا من
صفات الرسوخ في العلم؛ فهو نهج السلف الصالح وهدي الحق في جماعة المسلمين .إذا نحن أمام خطإ
5
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
في جناب الحق عظيم ،والقول المعزى للمعتزلة أسلم من ذلك ،وللتعبير عنه وترجمته أن جنحوا
لتوظيف لفظ الخلق للفعل بمعنى اكتسابه واجتراحه .وهب أنهم أخطؤوا في هذا التعبير ،فالفرق بين
خطئهم هذا في البيان وخطإ أدعياء إرث العصمة وإن أولى الناس بالحق للذين اتبعوه ،خطئهم في
تعجيز علم هللا تعالى وقدرته سبحانه ،فرق بين حيزين ،حيز موقعه الحق وحيز موقعه الباطل .وإن
تعجب فعجب استثناؤهم لما عبروا عنه بالجزئيات وهم الذين زعموا فيما سطروه للناس بهتانا وكذبا
بينا على الحسين بن سينا رحمه هللا بأنه يقول إن هللا ال يعلم الجزئيات ،وإنك لو عدت إلى كالم ابن
سينا في كليته وفيما أراده تجده نقيض وعكس ما يقولونه وينسبونه إليه كيدا وبهتانا مبينا ،ولقد بينا هذا
ونبهنا إليه في كتابنا(:تفصيل الخلق واألمر).
وليعلم أن البوطي ليس على صحيح قول األشعري رحمه هللا ،ألن األشعري ال يستثني من وعاء
وموضوع الفعل اإلنساني أمرا من علم هللا تعالى وإرادته ،ولعل اختالفه مع قول المعتزلة بتجاوز ما
أشرنا إليه في الجانب البياني ،هو في الحق يخص الصفات وعلم هللا تعالى خاصة ،والمعتزلة قولهم
في ذلك هو الصحيح ال مرية فيه ،كما بيناه على الذي أحسن في الكتاب المشار إليه آنفا ،كتاب (تفصيل
الخلق واألمر).
إن الحسن والقبح وشكر المنعم هي بالحق والميزان ،فالحسن والقبح حكمان ذاتيان وإسناد حكم الحسن
لشكر المنعم على ذات الميزان ،والدليل الذي ساقه البوطي في رده لهذا الحكم والقول ،وهو حكم وقول
المعتزلة كذلك ،دليله نقال عن أبي حامد الغزالي رحمه هللا:
<أن من تصدق عليه السلطان بكسرة خبز في مخمصة (أي مجاعة) فأخذ يدور في البالد ،وينادي
على رؤوس األشهاد بشكره ،كان ذلك بالنسبة إلى الملك قبيحا وافتضاحا ،وجملة نعم هللا على عباده
بالنسبة إلى مقدوراته ،دون ذلك بالنسبة إلى خزائن الملك ،ألن خزانة الملك تفنى بأمثال تلك الكسرة
5
لتناهيها ،ومقدورات هللا ال تتناهى بأضعاف ما أفاضه على عباده>-المستصفى للغزالي-42\1:
هذا نقد واستدالل ليس بالسديد ،ألن شكر المنعم متوافق والحق ،وكل شيء في الحق إنما هو مقدر
وموزون ،وهذا بالطبع ال يناسبه وال ينبغي له االستشهاد بآيات القرآن العظيم الدالة على غنى هللا
تعالى الغني الحميد ،فإن ال وجه لهذا االستشهاد والمثال من قبله بحقيقة المستشهد والمستدل له ،ألن
كل صفات هللا تعالى وأسمائه الحسنى هي ضمن حقيقة الحق ،واإلنسان ال يتصور من معنى الميزان
إال وجها وجهة واحدة ،ولم يدرج عندهم التصور الذي يجب كون الشكر والرحمة مثال هي من
خاصات العدل والحق .ولهذا نجد البوطي يقول:
<فأين هو الدليل على حسن شكر العبد ربه ،عقال ،دون االعتماد على أمر صادر من هللا بذلك؟ وما هو
6
مصدر هذا الحسن وسببه؟>..
فهذا يدل بوضوح على قصور البوطي في إدراكه للتواجد العقلي لدرجة وإدراك المعتزلة ،وكلهم ،ال
هو وال المعتزلة بمعصوم عن الخطإ ،وخاصة في التعبير واإلبانة عن الحقائق المراد التعبير عنها.
6
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
ومما يدلك على هذا العسر في اإلدراك ،ويعرب عنه أبلغ ما يكون ،هو بدؤه في موضوع وسؤال
المشيئة بوضع عنوان معبر هو( :هل المشيئة اإلنسانية متوقفة على مشيئة هللا؟) هكذا ،وبهذا اللفظ
وبهذا السؤال. .
وعلى غرار أقواله التي كلما تلفظ بقول منها نقض الذي من قبله ،يستهل كالمه قائال:
اعلم أن أساس هذه المسألة ومصدر طرحها ،قول هللا عز وجل{:إن هذه تذكره فمن شاء اتخذ إلى ربه
سبيال' وما تشاؤون إال أن يشاء هللا' إن هللا كان عليما حكيما}((الدهر)03-21\74:
وقرار اآلية واضح ،ال يضع مجاال الستفهام ،فال مشيئة لإلنسان إال بمشيئة هللا عز وجل ،أي فمشيئة
اإلنسان متوقفة فعال على مشيئة هللا تعالى.
هل معنى اآلية :وما تشاؤون فعل شيء إال أن يشاء هللا تعالى توجيه مشيئتكم إليه؟ وتكون حصيلة
المعنى عندئذ -كما قال األلوسي في تفسيره -ال توجد مشيئتكم إال بعد أن ينفيها هللا بإجباركم على ما
يشاؤه هللا لكم ..وهذا تفسير باطل بالبداهة ،إذ لن تجد تهافتا أو تناقضا أجلى من قول القائل :لن تكون
لك مشيئة إال إن انتفت مشيئتك.
وإنما المعنى السليم لها هو :وما كنتم لتتمتعوا بالمشيئة في اختيار ما ترغبون ،لو لم أشأ أن أمتعكم بهذه
المشيئة .فهي تأكيد لنعمة االختيار التي متع هللا بها اإلنسان وأقدره بها على التوجه إلى كسب مراداته،
7
وتذكير له بفضل هللا في ذلك عليه>.
إذا كان البوطي قد جار جورا عظيما في تحميله المعتزلة بلفظ خلق اإلنسان لفعله على معنى االجتراح
واالكتساب والمسؤولية عليه في الحق ،ولهم من ذلك مخرج عند الراسخين في العلم الذين يخشون ظلم
أنفسهم بظلم العباد ،ألن لفظ الخلق لإلنسان ولفظ االختالق ورد في الكتاب ونزل به القرآن المبين
أصدق وأحسن الحديث ،إن يكن األمر على هذه الحقيقة فإنه –البوطي -لم يستقم له في هذه الكلمة لفظ
وال معنى ،فالعنوان يعبر في البيان والبالغة على غير ما يريد وما يعني ،هذا إن وافق لسانه فؤاده ،ثم
إن لفظه وتعبيره (القرار الرباني) هاهنا ال يصح وال يستقيم ،فإن هذا األمر ليس من عوارض األمور
وإنما الحق الذي يقوم عليه الخلق واألمر كله .ذلك وإن أخطأ األلوسي بعدم اإلمعان واألناة في تدبر
الحق المفسر للحكم الحق الذي عبر عنه تبعا لعدم كمال وإسباغ النظر والتحليل في عالقة الهيمنة
واالستيعابية من غير فطور وال تضاد للمشيئتين ،عبر عنه بمادتين معجميتين دالين على ذلك أي عدم
حصول اإلبصار بهذه العالقة ،فإن البوطي قد أبعد النعجة وضل القضية وذهل عن الموضوع برمته،
ففسر اآلية منواال وفق عمه الحقائق واألبعاد اإلدراكية والمفكر فيه على مثل عمى األلوان ،فسرها
7
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
بحمل مرتكزها على نعمة المشيئة خلقا وملكة ،ولكن المرتكز والموضوع فيها يدل عليه قوله جل
ذكره{:أن يتخذ إلى ربه سبيال} ويدل عليه قوله سبحانه المفسر{:إن هللا كان عليما حكيما}.
إذا كان هذا الحكم لم ينزل به وحي ،وإنما هو بميزان العقل والمنطق بداهة وفطرة وفاق الناموس
والميزان الذي تقوم عليه السماء واألرض ،فهذا هو ما يريد به المعتزلة والقائلون باالحسن والقبح
العقليين ،وإنما اإلنسان حمل األمانة واستخلف وكرم بالعقل مناط التكليف وتلقي الشرعة من لدن
الحكيم العليم سبحانه وتعالى اعتبارا لمحدوديته ومحدودية سريان حكمه بالخطإ والصواب على
األشياء ومتعلقات األحكام أحكام الحق الذي يمأل السماوات واألرض وبه قوامهما ،والتي الشريعة
والوحي مهيمنة عليه.
كذلك ولنبين ما مدى مصداقية وحظ السداد في كالم البوطي وبناء قوله وإن شئنا تفكيره ،وباإلضافة
إلى إصراره دون التفات إلى ضابط وال وجل من هللا تعالى في قصره وجعله داللة الكسب في القرآن
العظيم وبتمحل وتكلف في القول ،ثم هو يزعم ويبين سحرا للمخاطب بأنه على أساس من علم اللغة
وأصل ألقوال أهل العلم مبني كالمه ،وما ذلك بحق يقينا ،لقد جعل وقصر لفظ الكسب على القصد دون
العمل والفعل وتكلف في ذلك تكلفا ظاهرا؛ لقد أضاف إلى هذا التجرؤ الذي ما كان السلف من العلماء
وغير العلماء أن يجسروا عليه ،أضاف إلى ذلك أن قال في قوله جل وجالله من سورة المائدة{:قد
جاءكم من هللا نور وكتاب مبين يهدي به هللا من اتبع رضوانه سبل السالم ويخرجهم من الظلمات إلى
النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم'}(المائدة:)14\5:
<وليس معنى قوله :من اتبع رضوانه ،سلك مسلك الهداية وااللتزام بأوامر هللا ،إذ إن هذا المعنى لو
كان هو المراد ،لكان من قبيل الدور الذي هو توقف الشيء على ذاته ،ولكان مؤدى اآلية عندئذ :يهدي
به هللا من اهتدوا به سبل السالم .وإنما المعنى :يهدي به هللا من علم هللا أنه يريد اتباع رضا هللا ،أي من
8
علم هللا منهم سالمة القصد والطوية>.
إن االتباع إنما يعني السلوك والعمل كقوله تعالى{:قل إن كنتم تحبون هللا فاتبعوني يحببكم هللا ويغفر
لكم ذنوبكم' وهللا غفور رحيم' قل أطيعوا هللا والرسول' فإن تولوا فإن هللا ال يحب الكافرين'}(آل
عمران)02-01
كما ال يحق لنا أن نهمل التذكير بأنه ال إيجاب على هللا تعالى وليس قول البوطي:
<ولكن لكل من اإلضالل والهداية دستورا ألزم هللا ذاته العلية به .وقد رأيت أنه يتفق تمام االتفاق مع
9
حرية اإلنسان واختياره>.
8
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
ذلك أن ما جاء في الخبر والحديث من تعبير "حق على هللا "..فإنه يؤخذ على فقه صدق الوعد
والوعيد ،ومن أصدق من هللا قيال؟ ثم إن لفظة ومادة البيان (الدستور) ال يصح إلزاما لرب العالمين،
ألن الدستور شريعة وهللا تعالى هو المشرع ،وله الحكم ال معقب لحكمه وهو تعالى العلي الحكيم،
فسبحان هللا عن هذه التعابير التي ال يلقي لها كثير من الناس من أمرها باال.
وفي فصل عنوان( :وأحاديث من كالم رسول هللا قد توهم الجبر) يكتب البوطي ويقول:
<في الصحيح من أحاديث المصطفى صلى هللا عليه وعلى آله وسلم ،أحاديث كان وال يزال بعض
الناس يتوهمون فيها على أن اإلنسان مجبور ،بل يفهمون منها أن القيد الذي يقيد اإلنسان للسير فيما قد
خلق من أجله ،فإن كان قضاء هللا أنه من أهل الشقوة والنار فال بد أن يسلك مسالك أهل الشقوة
والعذاب ،وإن كان قضاء هللا أنه من أهل السعادة والنعيم ،فال بد أن يسلك مسالك أهل السعادة والنعيم،
أي بدافع من ذلك القضاء.
فهم يفهمون من هذه األحاديث التي سنوردها ،أن سلوك اإلنسان تابع لقضاء هللا في حقه ،وليس قضاء
10
هللا في حقه تابعا لما علمه هللا من واقع سلوكه واختياراته>.
وبعد أن ساق حديث "إن أحدكم يجمع خلقه ..الحديث" وحديث "ما منكم من نفس إال وقد علم منزلها
من الجنة والنار ..الحديث" وحديث محاجة آدم موسى عليهما السالم ،واألحاديث الثالثة رواها
البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأبو ماجة ،أو بعد سوقه الحديثين األولين ومراوحة لم يكد يخرج
منها أبدا ،وما كان له أن يخرج منها إلى يوم الدين وهو يتصور علم هللا تعالى وبالتالي قضاءه عز
وجل على غير ما هو في الحق ،بعدها نجده ولم يدر أنه إنما يحكي ويتكلم المعتزلية واللسان المعتزلي
وهو اللسان الحق وهو ال يشعر ،إذ يقول بالحرف:
علم هللا في سابق غيبه المكنون أن فالنا من الناس سيتجه بعد خلقه وبلوغه الرشد إلى اختيار الهداية
والخضوع لسلطان هللا ،فأعد له في قراره الغيبي أيضا المصير الذي يعده ألمثاله من الذين يختارون
سبيل الرشد ،وهو مصير اإلكرام الذي ال حد وال انقضاء له .ثم لما تم خلق هللا لهذا اإلنسان الذي علم
سلفا من واقع أمره ما علم ،فأعد له بموجب ذلك ما يناسب واقعه الذي علمه هللا عز وجل ،كان منطقيا
ودقيقا جدا أن يقال :إن هللا خلقه – بناء على ما قد علم منه -مهيئا لإلكرام والسعادة .وال شك أن هذا
اإلعداد اإللهي سيكون عامال كبيرا في توفيقه لسلوك مسالك الخير واالبتعاد عن سبيل الغواية والردى.
فهذا هو معنى قول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم":أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ،وأما
11
أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة">.
بالطبع نعني قول المعتزلة وما تكلم به البوطي على لسانهم ،وهو القول الذي قال به ابن سينا رحمه هللا
وحكماء اليونان الذين أخذوا العلم عن أنبياء بني إسرائيل داوود وسليمان عليه السالم ،واختلفوا إلى
لقمان الحكيم لينهلوا ويأخذوا منه مما آتاه هللا من الحكمة ،هذا القول هو أن الخلق والقدرة كل ذلك في
9
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
العلم ،وليس كما هو في قرارة البوطي وقول من قال بقوله ،فالحق الذي أبى هللا تعالى إال أن ينطق به
لسان البوطي ،فأصاب الصواب لسانه وضل عقله ،ذاك هو قوله( :ثم لما تم خلق هللا لهذا اإلنسان . .
مهيئا لإلكرام والسعادة)
وإن إصرار البوطي ومن نحى نحوه في االعتزاز بما انتهى إليه تصورهم لهذه القضايا ذات الشأن
والخطر الجلل ،وإن يكن تصورا قاصرا عن الحق ليس بالتصور الصحيح والسليم ،وخصوصا في
خطئهم البين الذي ال يبغون عنه حوال ،خطئهم باعتبار العلم كما سموه بالصفة الكاشفة غير المؤثرة،
بل تابعا للمعلوم الحادث ،وهذا ما استمات في بيانه أرسطو وابن سينا ولكن أكثر الناس ال يعلمون ،لقد
أدى هذا العناد الذي ال يليق بأهل العلم وما كان له أن يكون خلقا علميا أبدا ،أدى بهم وخاصة البوطي
في كتابه هذا بشاهد نصه وكلماته ،إلى سعي وإصرار في تبديل ألفاظ محورية عما نزلت به من الداللة
في الوحي والقرآن العظيم ،من هذه األلفاظ مادة (الكسب) كما سبقت اإلشارة إليه ،بل وإنه تجشم
وتحمل عنتا كان في غنى عنه لو أصاخ و ألقى سمعه إلى كالم الحق وهوشهيد .يقول البوطي:
<ومن المعلوم أن كلمة (الكسب) التي تأتي في القرآن تعبيرا عن مناط الثواب والعقاب ليست مرادفة
لكلمة (الفعل) مثال ،كما قد يخيل للبعض .بل بينهما فارق كبير ودقيق .ولعل من أبرز ما يظهر الفرق
بين هاتين الكلمتين قول هللا تعالى. . . {:ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} فقد نسب الكسب إلى
12
القلوب ،وإنما تقف وظيفة القلب عند القصد والعزم>
<فإن قلت ولكن هللا عز وجل قال{:ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي
الناس}(الروم )11\03:وقال{:وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}(الشورى ،)03\12فقد
نسب الكسب في هاتين اآليتين إلى األيدي ال إلى القلوب ،والذي يتأتى من األيدي إنما هو الفعل ،فكأنه
قال :فبما عملت أيديكم.
قلت :لما ظهر أن الكسب هو التحري والقصد كما استبان من نسبة الكسب إلى القلوب ،وكما نص عليه
أئمة اللغة ،فال بد من صرف نسبة الكسب إلى األيدي في هاتين اآليتين إلى المجاز العقلي ،وهو نسبة
الفعل إلى غير الفاعل لعالقة ،كقولهم :أنبت الربيع البقل ،وقد عرفنا جميعا أن الربيع بحد ذاته ال يفعل
13
شيئا وليس من شأنه أن يفعل ،وكقولهم سال الوادي وطاف النهر>.
هاهنا كل ما يعرف من وجوه اختالل القول في االستدالل حاصل ،فإنه استدل لصحة دعواه بها نفسها،
وجعلها كذلك مقدمة لبلوغ إثبات مقولها مما يسميه المناطقة بالدور .ثم إن زعمه وقوله (كما نص عليه
أئمة اللغة) زعم ال يصح ودعوى كاذبة ،فإن ما ساقه من تفسير لرجال وعلماء في اآلية ليس له ذرة
من كفل الصدق بدءا ،وقد رأينا كيف كان ضالل النووي والخطابي وغيرهم من كبار العلماء األجالء
في تعريف القضاء والقدر ،والذي نراه والحق أنه من جراء عمى التقليد في األقوال على غير بصيرة
واالنتصار لقول على آخر انتماء كما يظنون ومظاهرة وانتصارا للقول الممثل لسواد جماعة المسلمين
كما هو المثال الصارخ في حق الحسين بن سينا رحمه هللا بخصوص علم هللا تعالى ،وهذا معيار في
هذا المقام ال يرضاه الحق ،إنما المعيار والضابط قوله تعالى{:قل هاتوا برهانكم إن كنتم
صادقين}(البقرة ،)113فهذا هو المعيار الذي أراده سبحانه وتعالى برهان حق ودليله لينتشر نور
10
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
الحق يحمله أولو األلباب والعقالء ،وما كان الحق ليعضد فحسب باألماني ودعوى المظاهرة
واالنتصار ،فإن الحق ينهى عن العدول عن العدل والرغبة عنه شنآنا لقوم مؤمنين يصلون
ويصومون ،وظلم المؤمن فسوق.
ودعوى وزعمه هذا يدل على بطالنه ودحوض زعمه أن القرآن العظيم وحديث رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم يستشهد به ال العكس ،وهذا ركن صدق أساس في كتاب سيبويه رحمه هللا ،ثم إن السوي في
الحق والميزان أن يكون استعمال اللفظ على الحقيقة هو الشائع واألصل ال العكس ،واألشد غرابة أن
يكون ذلك في آيات هللا تعالى الحكيم الحميد ،وعلته إنما هو السعي الذي ال يلوي على شيء في حفظ
التوافق مع تعريفات يعلم هللا تعالى والراسخون في العلم أنها خاطئة ،ثم هم يزعمون أنهم على نهج
السلف وخلقهم في العلم والعمل .وماذا يقول هؤالء في قوله تعالى:
{اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد عليهم أرجلهم بما كانوا يكسبون'}(يس)41
والمعلوم من ثابت خبر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن من ه ّم بسيئة فلم يعملها فله حسنة .وال يسعنا
أن نقول هنا إال ما قاله الرسول عليه الصالة والسالم" :إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
هذا وإن االضطراب واختالل الفكر والعقل عند هؤالء ليجليه ظهور التضارب في األقوال ،وإن الحق
أبى إال أن يكون له في كل أمر رائز وقوة تصحح وتومئ إلى ما حصل في حقه من الخلط والعوج
واالختالل ،فإن البوطي وقد رأينا كيف حصر معنى الكسب في القصد حصرا ال وجود له إال في
تصوره المأسور بعمه التشيع الفكري ،التشيع والتعصب الذي يعمي ويصم ،ويؤدي بصاحبه على أال
يعدل كما نزل التحذير من ذلك في كتاب هللا تعالى العزيز الحكيم ،وله يوم القيامة الحجة البالغة
سبحانه ،نجد البوطي يقول ويكتب:
<الكسب أخص من القصد والعزم ،إذ الكسب قصد إلى الشيء مع اإلنجاز ،أما القصد فقد يكون مع
اإلنجاز وقد يكون بدونه ..فلو قيل إن مناط الثواب والعقاب هو قصد فعل الشيء ،لكان من معنى هذا
الكالم أن اإلنسان إن قصد فعل المعصية ثم لم يفعلها تعرض للعقاب من هللا ،ألن القصد إليها قد وجد،
وهو مخالف لنص الحديث النبوي الصحيح":من هم بمعصية فلم يفعلها كتبت له حسنة"-متفق عليه،-
والحديث اآلخر":إن هللا تجاوز ألمتي عما حدثت به نفسها ،ما لم تقل أو تفعل"-رواه مسلم من حديث
14
أبي هريرة>-
ونجده كذلك على غير هدى ،على األقل في حفظ الميزان ألقواله وتعريفاته التي لألسف تهم أخطر
المعرفات والتصورات في إيمان العبد ومعرفته بالحق ،يقول:
11
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
< ..إن القدر الذي ساق آدم إلى األكل من الشجرة ليس بمعنى العلم المتفرع عن اختيار اإلنسان
وكسبه على نحو ما تم بيانه من قبل ،وإنما القدر هنا بمعنى علم هللا وإرادته وخلقه ،إذ ليس آلدم في
15
ذلك األمر المقدر عليه أي خيار>
هذا الخروج المباغث ولكن المفسر ،خروجهم عن تعريفهم وتصورهم الخاطئ والقول بالقول الصحيح
لمعنى القضاء والقدر ولمعنى حقيقة علم هللا تعالى ،وهو قول ابن سينا رحمه هللا تعالى الذي ذهبوا في
الكيد له ورميه بالزندقة وما إلى ذلك مما هو محفوظ في كتاب إلى يوم الدين ،هذا االضطراب الواضح
والبئيس وال يحق المكر والسوء إال بأهله ،لم يلبث أن تفاقم وعاد إلى سيرته األولى وضالله حين مثل
أمامهم مرة أخرى ما أشكل عليهم واستعصى من هيئة وتصور يوفق هذه القضايا الحقائقية بالبعد
الزمني ،وهذا هو المفسر المشار إليه ،فإن البوطي لم يلبث إال يسيرا حتى تجاسر فيما ال يحق له من
القول في أمر عظيم ما ليس ال ينبغي له وما هو من مواضع اإلحجام والورع .لقد ابتدع البوطي ما ال
يستقيم في أي وجه من وجوه الحق وال ظل من ظالله قيال ،لقد ولد وابتدع حقيقة عبر عنها
ب(المعصية اللغوية) مقابل (المعصية الشرعية) ،وقال قوال عظيما عندما لم يمنعه رصيد من الورع
وال بقية من الوجل في أن يتلفظ ويقول:
<والنتيجة هي أننا لما علمنا أن حياة آدم وذريته على األرض ،هي قرار هللا النافذ ،وحكمه المرضي،
فقد علمنا بالضرورة أن ما كان سبيال إلى ذلك أو شرطا له – وهو أيضا في الواقع الحقيقي قرار هللا
16
النافذ وحكمه المرضي>
يقول البوطي:
<وقد علمنا أن أمر هللا آدم بعدم األكل من الشجرة ،أمر إرشادي وليس تكليفيا إذ ال تكليف في الجنة،
فمخالفة آدم لذلك األمر إنما هي مخالفة ألمر إرشادي ال تكليفي ،ومن ثم فهي معصية ولكنها معصية
17
لغوية .إذ العصيان في اللغة مخالفة اآلمر في الشيء المأمور به>.
إن هذا الكالم والتجرؤ ليخرج من سبيل الغي والزيغ مما خرج منه قول من صرف واستبدل مغالطة
فاحشة معنى التصديق لإليمان ،المعنى اللغوي بالمعنى الشرعي ،بل إنه وهللا لقول أضل سبيال
وصاحبه ال يعقل مما يقول شيئا.
وإن أكثر ما يبرز اختالل نظام القول عند البوطي والذين تحيزوا لقول متعصبين له ال للحق وبرهانه
المبين ،أكثر ما يجلي هذا الفساد لنظام القول هو ما اصطلح عليه في أدبيات وقاموس هذا الحيز الذي
أرادوا له أن يكون جدال ال علما يعتمد على براهين العلم وحجة الحق ،ولو أرادوا له صبغة العلمية
ألصغوا وسلموا بالحق مطمئنين ،هو سؤال الحسن والقبح العقليين .وتحرير موطن العجب بل المفارقة
العظيمة في ما يلفظون به وهم ال يشعرون ،إال إصرارا على قول أجمعوا وتقاسموا عليه نبذا ألمر
اتباع الحق وإقامة العدل والقول به ولو على أنفسهم أو الوالدين واألقربين .ومغبة هذا اإلصرار المنافي
لدعواهم وزعمهم أنهم على نهج السلف الصالح ،قد تلبسوا بما يرمون به المعتزلة خاصة في هذا
12
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
المسألة كونهم يجعلون أمر هللا وحكمه تابعة للعقل ،وما قال ذلك المعتزلة يقينا وما أرادوه ولكن التشيع
يحمل األنفس سوءا من القول انتصارا .تسفر هذه الحقيقة بجوار قريب للفصل محل السؤال وحله كما
يقدمه البوطي لقراء األمة تحت عنوان(:هل األحكام اإللهية خاضعة لقيم سابقة؟) مع ما يدل عليه من
مصادرة هي هنا تخل بالخلق العلمي والنصح والصدق في سؤال كهذا السؤال ،ولكنه المنبر والشنآن
الذي حذرنا هللا تعالى مما قد ينتج عنه من إخالل بالحق وسلوك مسلكه السوي المحمود؛ لقد قال في
الفصل ما بعد الموالي( :القضاء ورد القضاء) ما يلي:
<إذن ،فالمتواكل الذي يحلم بالنتائج ويعرض عن األسباب ،بحجة أن النتائج إن كانت مقدرة فسوف
تتحقق وإن كانت غير مقدرة فلن تخلق ،مخاصم لقضاء هللا وإن خيل إليك من خالل كالمه أنه مستسلم
له ،ألنه متعام عما يجب أن يجزم به من أن النتائج التي يحلم بها مقدرة في علم هللا عز وجل ،ولكن
عن طريق أسبابها .وتلك هي سنة رب العالمين وعادته 18في إدراة الكون ورعاية أحداثه ،يخلق
األمور ويخضعها ألسبابها فالنتائج مقدرة وأسبابها مقدرة ،ثم ما كان منها عائدا إلى األحداث الكونية
التي ال دور الختيار اإلنسان فيها ،فقضاء هللا فيها يعني علمه بما سيحدثه ويخلقه من تلك األمور
والشؤون ...وما كان منها عائدا إلى اختيارات اإلنسان ،فمعنى قضاء هللا فيه علمه بما سيختاره
19
اإلنسان ويعزم عليه ،وبما سيخلقه استجابة الختياره وانسجاما مع عزمه>.
وإن تعجب فعجب أن يقول قائل هذا الكالم والمخلوق الذي يقوله هو الذي يقول:
<فإذا قلنا :إن الماتريدية يتفقون مع المعتزلة في سمة الحسن والقبح في األفعال ذاتية ،فمعنى ذلك أننا
نسبنا إليهم النتيجة المنطقية التي ال مفر منها ،وهي القول بأن أحكام هللا ال بد أن تكون متفرعة عن هذه
الصفة الذاتية ،ودائرة على محورها ،وتابعة لها ،إذ ال يعقل أن ينفك الشيء عن جوهره أو عن جزء
20
من جوهره>.
هذا االستنباط إنما هو شاهد ثابت دليل على قصور العقل المستنبط وقصور شرطه العلمي ،الذي هو
دليل هللا تعالى في رد دعوى وزعم أهلية اآلباء في إصدار األحكام:
إن أبا منصور الماتريدي رحمه هللا تعالى والمعتزلة لم يقولوا بهذا المنكر والخطإ الفاحش العظيم ،ألنه
قول يؤول إلى فصل األمر عن الخلق أوال ،وأخرى وهي أشد إنكارا وأعظم سفها وجهال ،وهي إخراج
خلق مما في السماوات واألرض عن خلق هللا تعالى ،ومن قال هذا فقد كفر باهلل تعالى وبكونه جل
وعال خالق كل شيء رب العالمين .فكيف نق ّول هذا القول عبادا مؤمنين يشهدون أنه ال إله إال هللا رب
18لفظ وتعبير ال يليق بجالل هللا تعالى ،ويكفي معيارا مناهجيا في التأطير اإلدراكي والعقلي
19البوطي :اإلنسان مسير أم مخير -ص259
20نفس المصدر -ص519
13
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
العالمين ،ويعبدونه ،ويصلون ويصومون ،إن هذا وهللا لخلق ليس بخلق وال من مكارم األخالق التي
بعث بها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ليتمها.
إنه نزل في القرآن العظيم قوله تعالى{ :أال له الخلق واألمر' تبارك هللا رب العالمين'}(األعراف)50
إن السمع والبصر والفؤاد كل ذلك خلقه هللا تعالى بحكمة بالغة وهو الخالق العليم ،وهذه من النشأة
األولى ،وإن هلل ما في السماوات وما في األرض ال فطور في خلقه سبحانه وال تفاوت ،وإن السمع
والبصر ملكتان تناسقيتان مع الكون فكذلك العقل .وخلقة اإلنسان على نشأته فطرة هللا التي فطر الناس
عليها ،هي نظمة خلق هللا تعالى اإلنس والكون عليها جميعا قائمة ما دامت السماوات واألرض ،ال
ترى في ذلك عوجا وال اختالال ،وكذلك وتبعا ألقرب األبحاث العلمية وبرهان الصدق 21والحق لشهود
اآليات والدراسة تبين أن السمع والبصر تابعان أبدا ارتباطا خلقيا بما يصطلح عليه عند علماء الدماغ
واألعصاب بالمساحة التجميعة المعالجاتية ومصدر الحكم اإلدراكي الذي هو العقل ،وهذا بالضبط ما
يرجح قول أبي منصور الماتريدي بحصره حكم الحسن والقبح على العقل.
بناء على هذا يصبح استشهاد الغزالي في رده لقيمة الحسن الذاتي في مثل إنقاذ الغريق ،بتبعه لنظمة
العادة في كسب الحمد وحسن الذكر وبما يسمى في علم النفس والسلوك برد الفعل الشرطي على عالت
هذا الوصل ،وكذلك استشهاد البوطي بمثل القيمة العالية والغالية بتعبيره للقطعة الصغيرة بأدائها
لوظيفتها ضمن عمل تكاملي لقطع عديدة لجهاز معين ،وإذا ما عزلت عنه فقدت كل قيمتها ،وذلك أن
البوطي يجعل حقيقة العدل متفرعة عن وجود مجموع وجنس متساو من العناصر شرطا لسريانه؛ هذه
االستشهادات كلها يتبين من خالل الخاصة القائمة للخلق واألمر مما تجلى أنها استشهادات فاسدة
باطلة.
هذا يحسم حسما في دعوى تبعية ذلك لألنظمة االجتماعية والعرفية وغيرها على مستوى القيمة
المطلقة الصادقة ،وإال فقد قال كما يحكيه الوحي الكريم على لسان المإل من فرعون{:أتذر موسى
وقومه ليفسدوا في األرض}(األعراف.)124
ومن يقول بهذا الذي يقوله المعتزلة ويقوله أبو منصور الماتريدي رحمه هللا ،وهو الحق ،ال يفيد ما
استنبطه البوطي وغيره إما جهال أو تقوال ،بل هو الموافق على منوال الحق والميزان وباعتبار
مخلوقية اإلنسان ومحدودية عقله وإدراكه وعلمه بالنسبة للمستخلف فيه أن ال يكون التشريع واألمر إال
من لمن له العلم الحكيم الخبير .فليتق هللا هؤالء وليقولوا قوال سديدا.
هذه أقوالهم وهذا فصل خطابها وفحواها ،فأي الفريقين إذا يتبع بلسانه خلق هللا تعالى وأمره الختيار
اإلنسان وسلوكه؟؟
وليعلم إن كان لهؤالء أبصار وأفئدة ،أن شرط هذا االستقرار والقيام الثابت لبنية الخلق وقوانينه
وناموسه ،هو كفل صدقية وقيام هذا البناء العمراني واالستخالفي لإلنسانية ،ولو لم يكن ذلك لنقض كل
طور الطور الذي يسبقه ولما صدقه قانونا ومعايير ،ولهذا كانت أهم وأعظم آية للوحي الكريم
وتشريعاته على مدى أطوار التاريخ التصديق لما بين يديه من الكتاب ،ومناط التكليف العقل؛ يقول هللا
14
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
تعالى{:وما كان لنفس أن تؤمن إال بإذن هللا' ويجعل الرجس على الذين ال يعقلون'}(يونس .)133يقول
ابن قيم الجوزية رحمه هللا في تفسيره لآلية من سورة النحل{:ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة
الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن'}(النحل:)125
<جعل هللا سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق :فالمستجيب القابل الذكي الذي ال يعاند الحق
وال يأباه ،يدعى بطريق الحكمة.
والقابل الذي عنده غفلة وتأخر :يدعى بالموعظة الحسنة ،وهي األمر والنهي المقرون بالترغيب
والترهيب.
22
والمعاند الجاحد :يجادل بالتي هي أحسن>.
وهنا نذكر بقوله سبحانه وتعالى ابتغاء تدبره واالهتداء بنوره وحصول اليقين بالحق الذي تطمئن
القلوب به:
{ولقد ك ّرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا
تفضيال'}(النحل)45
{إنا عرضنا األمانة على السماوات واألرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها' وحملها اإلنسان
إنه كان ظلوما جهوال ليعذب هللا المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب هللا على المؤمنين
والمؤمنات' وكان هللا غفورا رحيما'}(األحزاب)70
{وإذ أخذ ربك من بني آدم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى' شهدنا أن تقولوا يوم
القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم' أفتهلكنا بما فعل
صل اآليا ت ولعلهم يرجعون'}(األعراف)170-172 المبطلون' وكذلك نف ّ
{إن هللا ال يستحيي أن يضرب مثال ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم'
وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد هللا بهذا مثال' كذلك يضل هللا به من يشاء ويهدي من يشاء' وما
يضل به إال الفاسقين الذين ينقضون عهد هللا من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر هللا به أن يوصل ويفسدون
في األرض' أولئك هم الخاسرون'}(البقرة)24-25
{وإلهكم إله واحد' ال إله إال هو' الرحمان الرحيم' إن في خلق السماوات واألرض واختالف الليل
والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل هللا من السماء من ماء فأحيا به األرض
بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء واألرض آليات لقوم
يعقلون' ومن الناس من يتخذ من دون هللا أندادا يحبونهم كحب هللا' والذين آمنوا أشد حبّا
هلل'}(البقرة)140..141
فارتباط العقل باألساس المعاييري للخلق واألمر والسماوات واألرض هو ارتباط بالفطرة والبناء،
ولكنه يبقى دوما مفتقرا للوحي وتلقي الذكر والهدى ألنه محدود.
22التفسير القيم لإلمام ابن القيم -حققه محمد حامد الفقي -دار الكتب العلمية -بيروت -لبنان5331 -
15
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
وهذه اآليات البينات والنور المبين مما سقناه وذكرناه هنا من اآلية من سورة األحزاب إلى هاته اآليات
الدالة والمبرهنة على أحادية اإلله لتناسق األمر والخلق كله؛ يجعل أو هو مما يرجح مناط األمانة
االستخالف امتدادا للحق بمكرمة العقل ،فهو شاهد بالحق في قرارة النفس ،ولما كان الحق كما بيناه في
اإلشكاالت القانونية لشبهة الداروينية (تفصيل األمر والخلق) ،وأيضا هنا يكمن به حل استعصاء هيئة
وتصور القضاء والقدر ،لما كان الحق يختزل الزمن والخلق كله ،ويرد كل أمر وخلق إلى جوهر
العلم ،فيمحي الزمن والمادة ،يصبح كل اإلنسان وفي كل آن من آنات يقظة العقل بوصل وجودي
بالميثاق والعهد األول .ومن ثمة إذا أنارت شعلة اإليمان هذا العقل كان أشد حبا هلل سبحانه وتعالى.
ها هنا يأتي موضع طرح سؤال وإشكال فعل القبيح ونبدأ فيه بالعودة مرة أخرى إلى فصل بعنوان:
(وأفعال اإلنسان من الذي يخلقها؟) ،وأمكن لنا أن نشخص ونعين تصور الكاتب وما يعقله هو ومن
يقولون بقوله ويصرون عليه إصرارا ،يقول البوطي باللفظ والحرف:
<<إذا أدركت هذه الحقيقة التي بسطت لك التعبير عنها إلى أقصى ما أستطيع ،فاعلم أنها هي المعنية
بقول المحقق الكلبنوي في حاشيته على شرح جالل الدين الدواني للعقائد العضدية التالي نصه:
< ..إن اإلرادة الجزئية التي هي عبارة عن تعلق اإلرادة الكلية بجانب معين من الفعل والترك،
صادرة من العبد اختيارا .وليست مخلوقة هلل تعالى ،ألنها ليست من الموجودات الخارجية بل من
األمور االعتبارية ،ككون الفعل طاعة أو معصية ،أو من قبيل الحال المتوسطة بين الوجود
23
والعدم>>>.
إن ها هنا جاء القول وتقريره ظاهرين صريحين(:ليست مخلوقة هلل) هكذا لفظا وإقرارا ،.
وهو المأزق التصوري الذي ظل يراوحه البوطي من بدء كتابه إلى آخره ولم يجد عنه مصرفا ،فهو
قائم ماثل أبدا ألنه صلب اإلشكال .لكن ليس لوحده وإن كان هو األشد استعصاء وعضال ،ألنه يرتبط
أساسا بعلو القلوب بمعنى العقول في مستويات إدراكها وسعة تصوراتها من حيث الهيئة .أما األمر
الثاني الذي يليه في األهمية وإليه يرد ويفسر هذا الخضم من المجادلة التي ليس لها منتهى وال قرار،
هو الجانب اللغوي والبياني ،فإن اللغة فيها قانون التفصيل للحق ،بمعنى أنها لغة فضاؤها ومجالها
البشري بالتخصيص واألصل ،فيجوز لنا أن نقول إن هللا تعالى خلق القبح والقبيح وال يجوز أن نقول
فعل هللا القبح والقبيح ،ألن الفعل هنا في إطار التكليف ومجاله وعالمه ،وهللا تعالى رب العالمين خالق
كل شيء ،العباد وما يعملون .ودليل القطع هو أن الخلق كله بالحق ،والحق كله خير بل هو الخير ذاته،
فهذا يتصل تناسقا حكيما وبليغا ألولي البصائر واأللباب إلى حقيقة وأمر التصور وهيئته ،وإن بشكل
ثبوتي ،لكنه لن يتم من حيث الحل التام والخروج من مأزق وانسداد األفق إال بالصعود في تمثل الحق
وصلته التكافئية بالعلم ،وذلك من خالل اإلبصار بكون العلم والحكمة بتحققها في الفضاء الوجود
المتصل نقطه بعضها ببعض يجعل العامل الزمني ي ّمحي ليصبح في الحق ،وفي هذا المستوى من
الصعود ليس وعاء للخلق بل هو منه ومن مادته ،ومن تم يرتفع اإلشكال باعتبار المجال الكوني
للسماوات واألرض مجاال قانونه أو بتعبير رباني معادلته الحق ،ولذلك كان هللا تعالى بكل شيء عليم؛
فاآلن الوجودي لكل نسمة من بني آدم ولكل واحد منا يتصل في مجال الحق وقد ا ّمحى الزمن باألمر
16
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
النسق األول لخلق آدم وأمر السجود وطاعة المالئكة أجمعين ،إال إبليس الذي أبى أن يكون مع
الساجدين؛ وبهذا يتلى الذكر والقرآن الحكيم أمرا من عند هللا تعالى العلي الحكيم ،مرتفعا عن الزمن؛
وبه ير ّد الدعاء القضاء وينسئ في العمر ويزيد في الرزق ،ويفهم حق الفهم؛ ويتجلى الحق األبلج
ويحصل االستيعاب بإدراك عالم مطمئن قوله صلى هللا عليه وسلم" :اعملوا فكل مي ّسر لما خلق له".
وإن أحسن البيان وأبلغ التصوير لمجال الحق من حيث المسافات الالمتناهية ،والخلق الواسع مهما
كبرت أقطاره وأجرامه وأكوانه ،كل ذلك يكافئه وأمكن حوالته على المنحيين علما ،فال يبقى قبل وال
بعد وال يمين وال شمال في المجال الكينوناتي والخلقي ،أحسن البيان لذلك وأبلغه تصويرا هو قوله
تعالى في سورة النور:
{هللا نور السماوات واألرض' مثله نوره كمشكاة فيها مصباح' المصباح في زجاجة' الزجاجة كأنها
كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة ال شرقية وال غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار'
نور على نور' يهدي هللا لنوره من يشاء' ويضرب هللا األمثال للناس' وهللا بكل شيء عليم'}(النور)05
إذن فأمكن القول :إن قانون التفصيل الذي كان المحور الحق لكتابنا( :تفصيل الخلق واألمر) هو
المعراج إلى الحل في إشكال وإعضال القضاء والقدر وما مت في صلة من األسئلة والقضايا ،أو بدقيق
القول :إنه معراج الصعود بالتصور اإلنساني وبإدراكه في هذا السؤال اإلدراكي البحث ،وكونه
إدراكيا نعني به تحديدا ارتباطه الجوهري بالخلقة ،فيبقى في جوهره مخلوقا مأسورا .فالمسافة هنا على
بعد مسافة سؤل الرؤية لموسى عليه السالم ،ويقول هللا تعالى:
وهنا نسوق على سبيل المراجعة والتمثل لهذا المنظار الحل ،نسوق قول ابن القيم رحمه هللا تعالى:
<ونحن ال ننكر أن الشر يكون في مفعوالته المنفصلة فإنه خالق الخير والشر.
أحدهما :أن ما هو شر أو متضمن للشر ،فإنه ال يكون إال مفعوال منفصال ال يكون وصفا له ،و ال فعال
من أفعاله.
الثاني :أن كونه شرا هو أمر نسبي إضافي ،فهو خير من جهة تعلق فعل الرب وتكوينه به ،وشر من
جهة نسبته إلى من هو شر في حقه .فله وجهان ،هو من أحدهما خير ،وهو الوجه الذي نسب منه إلى
الخالق سبحانه وتعالى خلقا وتكوينا ومشيئة ،لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها ،وأطلع من
شاء من خلقه على ما شاء منها ،وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مبادئ معرفتها ،فضال عن حقيقتها،
فيكفيهم اإليمان المجمل بأن هللا سبحانه هو الغني الحميد ،وفاعل الشر ال بفعله إال لحاجته المنافية
17
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
لغناه ،أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده .فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعال ،وإن كان هو
24
الخالق للخير والشر>.
18
منتهى النظر في سؤال "القضاء والقدر "
المصادر والمراجع
-القرآن الكريم
-محمد سعيد رمضان البوطي :اإلنسان مسيّر أم مخيّر؟ -دار الفكر المعاصر .بيروت .لبنان -دار الفكر .دمشق
سورية
-التفسير القيم لإلمام ابن القيم -حققه محمد حامد الفقي -دار الكتب العلمية -بيروت -لبنان5331 -
-تفصيل الخلق واألمر في سؤال حوار األديان وتفرق المذاهب الفقهية ،الجزء األول :رشيد بلواد
19