You are on page 1of 3

‫يعرض أبو حامد الغزالي(‪ 505- 450‬هـ) رأي الفكر السني األشعري في السببية فيقول‪":‬فليس من شرطه(=الدين)أيضا إنكار‬

‫ذلك العلم (= الطبيعيات) إال فى مسائل معينة أربع وهى‪" :‬األولى ‪ :‬حكمهم بأن هذا اإلقتران المشاهد فى الوجود بين‬
‫‪ "1. "2‬األسباب والمسببات إقتران تالزم بالضرورة‬

‫إن التصور االشعري لإلرادة اإللهية كان يضعها في مقارنة مع إرادة اإلنسان‪ ،‬فكل ما يعجز عنه اإلنسان يقدر عليه اهلل‪ .‬وبما أن‬
‫اإلنسان ال يستطيع أن يمنع اإلحتراق عند مالقاة القطن للنار مثال‪ ،‬فإن اهلل يقدر على ذلك بأن يجعل النار ال تحرق‪ ،‬وبكيفية‬
‫عامة يقدر على أن يجعل األشياء وصفاتها على غير ما هى عليه بل ضد ما هى عليه ‪ ،‬وهو ما عرف عند المتكلمين‬
‫‪”.‬بمبدأ"الجواز‬
‫هكذا قال األشاعرة بالجواز ما يعني إنكار الطبائع – خصائص األشياء الثابتة – والقول بعدم اإلقتران الضروري بين السبب‬
‫‪.‬والمسبب‬
‫يقول الغزالي ‪ ":‬اإلقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وبين ما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا ‪....‬فليس من ضرورة‬
‫وجود أحدهما وجود األخر وال من ضرورة عدم أحدهما عدم األخر مثل الري والشرب واإلحتراق ولقاء‬
‫"النار‪.........‬فإنا نجوز اللقاء بينهما دون إحتراق‬
‫والقول بالجواز سيؤدي حتما إلى نفي العقل و إختالل الواقع وهو ما كان يدركه الغزالي ‪ ،‬يقول ‪":‬فإن قيل ‪:‬‬
‫فهذا(=الجواز) يجر إلى إرتكاب محاالت شنيعة ‪......‬ومن وضع كتابا في بيته فليجوز أن يكون قد أنقلب عند‬
‫رجوعه إلى بيته غالما ‪......‬أو ترك الرماد فليجوز إنقالبه مسكا ‪.....‬فإن اهلل تعالى خلق لنا علما بأن هذه‬
‫الممكنات لم يفعلها ولم ندع أن هذه األمور واجبة بل هي ممكنة يجوز أن تقع ويجوز أال تقع و إستمرار العادة بها ‪،‬‬
‫‪" 3‬مرة بعد أخرى‪ ،‬يرسخ في أذهاننا جريانها على وفق العادة الماضية ترسيخا ال تنفك عنه‬
‫فالجواز هو األساس و اإلطراد الذي نشاهده في الحوادث الطبيعية هو مجرد "عادة"!!!و قطعا ال مكان في هذه‬
‫المنظومة للعلوم النظرية ‪ ،‬يقول الغزالي‪":‬ولعلك تقول أن العلوم وراء هذه(=العلوم الدينية) كثيرة كعلم الطب‬
‫والنجوم وهيئة بدن األنسان وتشريح اعضائه ‪....‬وغير ذلك‪ ،‬فأعلم أنا إنما أشرنا إلى العلوم الدينية التى البد من‬
‫وجود اصلها فى العالم حتى يتيسر سلوك طريق اهلل تعالى والسفر اليه‪ ،‬اما هذه العلوم التى أشرت اليها فهى علوم‪،‬‬
‫‪".4‬ولكن ال يتوقف على معرفتها صالح المعاش والمعاد ولذلك لم نذكرهاً‬

‫كان هذا رأي "حجة اإلسالم" الغزالي في العلوم النظرية وهكذا كانت رؤية األشاعرة للعالم ‪،‬والصادم في تلك‬
‫الرؤية العبثية للعالم و ظواهر الطبيعة أنه قد تم تصديرها في قوالب فقهية وكأن العقيدة الصحيحة لإلسالم ال مكان‬
‫فيها لمعرفة سنن اهلل تعالى في كونه ‪ .‬وأن العلم ‪،‬بقوانينه و براهينه‪ ،‬ال يستقيم مع اإليمان الصادق‪ .‬ويصر الغدادي‬
‫‪1‬‬ ‫‪.‬الغزالى‪ ،‬المنقذ من الضالل والموصل إلى ذى العزة والجالل ص ‪105‬‬
‫‪2‬‬ ‫البغدادي ‪ :‬السابق ص ‪309‬‬
‫‪3‬‬ ‫الغزالي –تهافت الفالسفة‪-‬دار المعارف‪-‬ص‪239-246‬‬
‫الغزالي –جواهر القران ص ‪425‬‬
‫على تقديم ما فهمه" أهل السنة" من علوم نظرية في إطار ديني مجمع عليه ال سبيل لرده إال من أهل البدع و‬
‫"وأَ ْج ُ‬
‫معوا (=أهل السنة)على وقُوف االرض وسكونها وان حركتها انما تكون بِ َعا ِرض يعرض ل ََها‬ ‫الضالل ‪،‬يقول‪َ :‬‬
‫‪"5‬من َزلْ َزلَة‬
‫ثم يبين ابن رشد خطأ تصور األشعرية في إثبــات القــدرة واإلرادة األلهيــة عن طريــق "الجــواز" بــدال من اإلعــتراف‬
‫باألسباب الطبيعية ‪ ،‬يقول‪ " :‬كـان يظهـر فى بـادئ الــرأى أن إســم اإلرادة إنمــا يطلــق على من يقــدر أن يفعـل الشـئ‬
‫وضده‪ ،‬رأوا أنهم إن لم يضعوا أن الموجودات جائزة لم يقدروا أن يقولوا بوجود فاعل مريــد فقــالوا أن الموجــودات‬
‫كلها جائزة ليثبتوا من ذلك أن المبدأ الفاعل مريد ‪,‬كأنهم لم يروا الترتيب الذى فى األمــور الصــناعية ضــروريا‪ ،‬وهــو‬
‫‪".6‬مع ذلك صادر عن فاعل مريد وهو الصانع‬
‫كما أن من ينكر السببية فهو يجحد اهلل تعالى يقول"فكما أنه من أنكر وجود المسببات مرتبة على األســباب في األمــور‬
‫الصناعية أو لم يدركها فهمه فليس عنده علم بالصناعة وال الصانع ‪,‬كذلك من جحد ترتيب المسببات على األســباب‬
‫‪ " 7‬في هذا العالم فقد جحد الصانع الحكيم‬
‫ويؤكد ابن رشد أن ما دفع األشعرية إلى إنكــار الســببية هــو"الهــروب من القــول بفعــل القــوى الطبيعيــة"ويــرد عليهم‬
‫قـــائال"ولـــو علمـــوا أن الطبيعـــة مصـــنوعة‪,‬وأنـــه ال شـــئ أدل على الصـــانع من وجـــود موجـــود بهـــذه الصـــفة في‬
‫‪"8‬اإلحكام ‪،‬لعلموا أن القائل بنفي الطبيعة قد أسقط جزءا عظيما من موجودات األستدالل على وجود الصانع‬

‫إن أبن رشد يرى أنه بــدال من وضــع اإلرادة اإللهيــة المطلقــة كشــئ ينــاقض إرادة اإلنســان وقــوانين الطبيعــة‪،‬‬
‫الشئ الذى يثير مشكلة المسؤولية والجزاء ومشكلة أطراد قوانين الطبيعة ويدفع إلى طرحهــا طرحــا ال عقالنيــا‬
‫ال علميا‪ ،‬ويفــرغ مفهــوم الحكمــة والعنايــةاإللهيتين من مضــمونها‪ ،‬إن أبن رشــد يــرى أنــه بــدال من ذلــك ينبغى‬
‫اإلنطالق من النظام والترتيب اللذين فى العالم بوصفهما تجليات للحكمــة والعنايــة اإللهيــتين ودليال عليهمــا‪،‬‬
‫وبالتالى دليال على وجود اهلل ذاتــه‪ .‬وفى هــذه الحالــة لن يكــون هنــاك أى تعــارض بين العقيـدة الدينيـة وبين‬
‫القول بالسببية والطبائع وأطراد قوانين الطبيعة والقول بإرادة اإلنسان وقدرتـه فى ظـل الشــروط الــتى يقتضــيها‬
‫‪.‬النظام والترتيب اللذين فى العالم بما فى ذلك بدن اإلنسان نفسه‬
‫أما اإلرادة اإللهية المطلقة فلن ينال منهـا شـيئا ألنهـا هى الـتى قضـت أن يكـون ذلـك كـذلك‪ .‬فحريـة إرادة‬
‫اإلنسان وقدرته وأطراد قوانين الطبيعة ‪ ...‬ألخ‪ ،‬كل ذلك مظاهر لسنة اهلل‪( :‬سنة اهلل التى قد خلت من قبــل‬
‫ولن تجــد لســنة اهلل تبــديال)‪" ،‬الفتح‪ ."23 :‬وهكــذا نتحــرر من ذلــك التصــور الــذى يربــط بين الجــواز‪ ،‬بين‬
‫الالعقل و"المحاالت الشنيعة"‪ ،‬وبين العقيدة الدينية‪ ،‬ويصبح القول بالتالى بإرتباط المسببات بأسبابها إرتباطا ضروريا‬

‫‪5‬‬ ‫البغدادي ‪ :‬السابق ص ‪318‬‬


‫ابن رشد‪-‬السابق ص‪6 170‬‬
‫ابن رشد‪-‬السابق ص‪7 114‬‬
‫‪8‬‬ ‫ابن رشد –السابق ص‪117‬‬
‫جزءا من العقيدة الدينية نفسها‪ ،‬الشئ الذى يعنى منح العقل ما به قوام وجــوده ومــا بــه يمــارس ســلطته‪ ،‬وهــل العقــل‬
‫شئ آخر غير "إدراك الموجودات بأسبابها" ؟‬

‫كان إصرار األشاعرة على القول باإلرادة اإللهيةالمطلقة رغبة منهم في مخالفة للمعتزلة الذين قــالوا بخلــق اإلنســان‬
‫ألفعاله‪ ،‬أي بتحمله لتبعة أفعاله ‪،‬ردا للجبر األموي ‪،‬أنتج عقيدة األشعرية ‪ ،‬وفي محورها مبدأ الجــواز ‪،‬ومــا ينتج عن‬
‫‪ .‬ذلك من رفع للسببية ونقض للعلوم‪ ،‬كصورة جاهلة من صور التدين التي خذلت العقل اإلسالمي‬

‫أما القائلين بالمكاشفة والعرفان كمصادر للمعرفة باهلل وهم الصوفية والباطنيــة‪ ،‬فقــد أنكــر ابن رشــد عليهم طــريقتهم‪،‬‬

‫وإن لم ينفها ‪،‬يقول"فطرقهم في النظر ليست طرق نظرية ‪,‬أعني مركبة من مقدمات وأقيســة‪,‬ولكن يزعمــون أن المعرفــة‬

‫باهلل وبغــيره من الموجــودات شــئ يلقى في النفس عنــد تجردهــا من العــوارض الشــهوانية ‪....‬إن هــذه الطــرق وإن‬

‫سلمنا وجودها فإنها ليست عامة للناس بما هم ناس ولو كــانت هــذه الطريقــة هي المقصــودة بالنــاس لبطلت طريقــة‬

‫‪"9‬النظر ولكان وجودها في اإلنسان عبثا ‪.‬والقران كله إنما هو دعاء للنظر واإلعتبار‬

‫لنقـــرأ نصـــا يمكن أن يكـــون مـــدخال لفهم "شـــيخ اإلســـالم" في نقـــده "لعلـــوم األوائـــل" ‪،‬يقـــول " ان هـــذا‬

‫العلم(=الرياضيات) هو الذي تقوم عليه براهين صادقة لكن ال تكمل بذلك نفس وال تنجو به من عــذاب وال يحصــل‬

‫لها به سعادة ولهذا قال ابو حامد الغزالي وغيره في علوم هؤالء هي بين علوم صادقة ال منفعة فيها ‪ -‬ونعوذ باهلل من‬

‫علم ال ينفع‪ -‬وبين ظنون كاذبه ال ثقــه بهــا وان بعض الظن اثم يشــيرون بــاالول الى العلــوم الرياضــية وبالثــاني الى مــا‬

‫‪ "10‬يقولونه في االلهيات‬

‫‪9‬‬ ‫ابن رشد –الكشف عن مناهج األدلة ص‪117‬‬


‫السابق ص‪10 136-135‬‬

You might also like