You are on page 1of 3

‫املنهجية ! ‪ ..

‬ما املنهجية؟‬
‫كتبها‪ :‬الدكتور عبد الحكيم الحكماوي ‪ -‬أستاذ زائر بكلية الحقوق سال ‪ -‬باحث قانوني‬

‫يثري الكثري من املهتمني بالبحث العلمي مسألة املنهجية عندما يكون األمر متعلقا باجتياز امتحان أو إجناز عرض أو حترير رسالة أو‬
‫أطروحة أو ما إىل ذلك‪ .‬وحتتل كلمة منهجية مركزا مهما يف تفكري الباحث طالبا كان أم رجل قانون ولو كان مهنيا‪ .‬غري أن السؤال املطروح‬
‫يف هذا الصدد هو؛ هل بالفعل حنتاج يف كل مناسبة علمية أن نبحث عن املنهجية املناسبة؟ وهل املنهجية حاجة متغرية أم طريقة تكتسب‬
‫مع الزمن وترتسخ بشكل مُتَنا ٍم يُبلوِ ُر ُه املستوى املعريف للباحث؟‬
‫دعونا نبدأ بصورة كاريكاتريية إن صح التعبري؛ عندما يولد اإلنسان يكون غريبا عن الوسط الذي ولد فيه‪ ،‬فال هو يعي نفسه وال يدرك‬
‫حقيقة وسطه وال حميطه‪ ،‬كما أنه ال يعلم من أين تبتدئ عالقاته بغريه وأين تنتهي‪ ،‬وفوق هذا وذاك يكون غري قادر على القيام بشؤونه‬
‫الشخصية‪ .‬لكن هذه احلالة سرعان ما تبدأ يف التغري بدأ بعالقته بأمه اليت يعي انفصاله عنها مبجرد قطع حبله السري فيعرب عن ذلك‬
‫الوعي بالبكاء‪ ،‬فتبدأ معرفته مبحيطه تتنامي عندما يتصل بالعامل اخلارجي‪ .‬وبتوازٍ مع منوه العمري والعقلي يبدأ هذا احمليط بتلقينه‬
‫العديد من املهارات اليت تؤهله للتعامل مع خمتلف املعارف اليت يتلقاها حبواسه اخلمسة‪ ،‬فيبدأ يف استيعاب ما يتلقاه رويدا رويدا‪،‬‬
‫فتتكون عنده ملكة التمييز بناء على معايري خمتلفة كمعيار املسافة فيميز بني البعيد والقريب ومعيار االرتفاع فيميز بني األعلى واألسفل‬
‫كما يتلقى من حميطه األسري معايري متعددة من قبيل ما هو خري وما هو شر وما هو قبيح وما هو حسن ومييز بني ما هو مباح وما هو حمظور‬
‫وما إىل ذلك من املعايري اليت يستبطنها ويتخذها منطلقا للنظر فيما حوله من أشياء فيقسمها ويضعها يف خانات عقلية وسلوكية متعددة‪.‬‬
‫ومع مرور الوقت تتعاظم كل تلك امللكات وتتغري حبسب النضج العقلي أو السلوكي للفرد فتتغري تبعا لذلك نظرته لنفس األشياء اليت كانت‬
‫حتيط به‪ ،‬وتستمر مسرية النضج مادام اإلنسان حي‪.‬‬
‫إن التأمل يف الصورة أعاله‪ ،‬جيعلنا نقف عند حقيقة مفادها أن حسن تعامل الفرد أو سوأه ينبين على مدى متثله للحقائق واملعطيات‬
‫اليت يتعامل معها أو تدخل يف نطاق إدراكه‪ ،‬كما يتوقف على الطريقة اليت يتعامل بها أو يدرك بها تلك احلقائق واملعطيات‪ .‬فينتج عن‬
‫ذلك أن الفرد الواحد عندما يتعامل مع حميطه ومدركاته املختلفة يتعامل على مستويني؛ املستوى األول يقوم على متثل املعارف واملستوى‬
‫الثاني ينتج عن طريقة استثمار تلك املعارف‪ .‬وهذا هو أساس املنهجية يف عمقها‪.‬‬
‫إن مَثَل تعامل الفرد مع احلقائق احمليطة به مَثَلُ تعامل الباحث مع البيئة البحثية‪ .‬فالباحث يف األصل ما هو إال كائن موجود اجتماعيا‬
‫من الناحية الواقعية؛ غري أنه حديث الوجود يف جمال ختصصه‪ .‬لذلك فإن حدوثه هذا مياثل حدوث اإلنسان عند الوالدة‪.‬‬
‫ولتوضيح املعنى املراد من ك المنا أعاله‪ ،‬نقول أن الشخص عندما خيتار أن يتابع دراسته جملال معني كالقانون مثال أو االقتصاد أو غريهما‬
‫يكون أولَ اتصال له بالسابقني يف ذلك اجملال مبثابة والدة‪ .‬فيكون يف بادئ األمر جاهال بكل ما يتصل بذلك اجملال لتبدأ عملية تلقينه‬
‫للمعارف األولية اليت يتأسس عليها احلقل املعريف الذي أصبح ينتمي إليه‪ .‬فهذه اللحظة بالضبط تشبه حلظة الوالدة بالنسبة للفرد‬
‫اإلنسان عند أول لقاء له باحلياة‪.‬‬
‫هنا البد لنا من التساؤل حول ما إذا كان من املناسب أن نتحدث للوافد اجلديد على هذا احلقل املعريف أو ذاك عن املنهجية وكيفية ترتيب‬
‫معلوماته بشكل منظم ومنسق وهل جيب االلتزام بالتقسيم الثنائي أم الثالثي وغريه؟‬
‫طَرْحُنا هلذا السؤال جيد مشروعيته يف مدى قدرة الطالب اجلديد مثال على توظيف معلومات هو نفسه حديث العهد بها‪ ،‬كما أنها ال تزال‬
‫طرية غري واضحة املعامل يف ذهنه‪ ،‬وزيادة على هذا وذاك فإن كم املعلومات اليت يتوفر عليها هذا الطالب ال يؤهله للتصرف فيها تصرفا‬
‫جيعله قادرا على تصنيفها وتنظيمها وإجياد الروابط القائمة بينها للتعرف على ما جيمعها وما يفرقها‪.‬‬
‫لننطلق من مُسََّلمَةِ أن املنهجية اليت تتطلب خطوات من أجل تأسيس موضوع معني أو صياغته إمنا هي طريقة تفكريٍ منظمٍ يتم التعامل‬
‫من خالله مع خمتلف املواضيع املطروحة للدراسة‪ ،‬وعملية التفكري هاته هلا شروطها املوضوعية والذاتية‪.‬‬
‫إن أهم شرط موضوعي هو ضرورة توافر كَمٍّ حمرتم ووافر من املعارف املتصلة باحلقل املعريف الذي ينتمي إليه موضوع الدراسة‪ .‬وهذه‬
‫املعارف ذاتها ال جيب أن يُنظَرَ إليها على أنها معلومات جمردة هلا عالقة بذات املوضوع؛ ولكن جيب النظر إليها على أنها ترابط قائم على‬
‫حنو منسجم بني جمموعة من اآلليات الضرورية لفهم واستيعاب اخلطاب الذي يتم يتداوله يف حقل التخصص الذي يشتغل فيه الطالب‬
‫اجلديد‪ .‬ولذلك فإن أول ما جيب أن يتم العمل عليه هو تلقني الطالب تلك األوليات املعرفية من أدوات الفهم والتفكيك والتحليل وإعادة‬
‫الرتكيب بتواز من تلقينه املبادئ األولية لتخصصه‪ ،‬إذ أن األُولَى هي الكفيلة مبساعدته على التمكن من الثانية متكنا يساعده على‬
‫التعامل مع ما يتلقاه تعامال تراكميا ال كميا‪ .‬إذ يف غياب امتالك األدوات الالزمة للتعامل الذكي مع ما يتم تلقيه سيصبح الطالب جمرد‬
‫أداة حافظة لكم هائل من املعلومات اليت سرعان ما يتخلص منها مبجرد انتهاء االمتحان أو انتهاء أي عمل أكادميي حبثي يقوم به؛ فيبدأ‬
‫َرةَ من جديد مبناسبة تعامله مع مادة جديدة من مواد ختصصه بنفس النَّفَسِ املرهق واملتعب؛ وهكذا إىل أن تنهار قواه يف جهد لن يفضي‬
‫الك َّ‬
‫به إىل شيء‪.‬‬
‫فاملزاوجة بني اآلليات الالزمة للفهم وتلقي املبادئ األولية للتخصص هو ما يؤهل الطالب اجلديد ليكون بالفعل منتميا لتخصصه ال‬
‫متطفال عليه‪ .‬وهنا جيدر التنبيه إىل أن هذه املعارف مبختلف أنواعها جيب أن تُلقن للطالب ويتدرب عليها كما يلقن الطفل الصغري مبادئ‬
‫التعامل مع احمليط وما يفرزه هذا احمليط بشكل يؤهله للتأقلم مع املتغريات اليت يالقاها مع مرور الزمان بعدما يأنس يف نفسه القدرة على‬
‫االستقالل يف اختاذ القرارات مبعزل عن الرعاية الدائمة للوالدين‪ .‬وما مياثل هذه االستقاللية االجتماعية هو ما جيب البحث عنه منذ‬
‫بداية تلقني الوافد اجلديد على ختصص ما ليكون مستقال يف قراره العلمي واألكادميي منتِجا غري جمرد مكرِّرٍ ملا سبقه إليه غريه؛ إذ‬
‫االستقالل العلمي هو مناط التطور وليس جمرد مراكمة املعلومات وتكرارها من غري القدرة على توظيفها بالشكل املناسبة للوضعيات‬
‫املختلفة‪.‬‬
‫وكما أن هناك شروطا موضوعية البد من توافرها يف البحث العلمي‪ ،‬هناك شروط ذاتية ميلكها املُنْضَمُّ حلقل معريف معني‪ .‬إذ أن الطالب‬
‫ال ميكن أن يوصف بالباحث إال إذا متَكَّن من املعارف األولية متكنا حمايدا ومستجيبا للقواعد والنواظم اليت تعارف عليها أهل ذلك‬
‫االختصاص الذي ينتمي إليه باعتبار ذلك التمكن مقدمة أساسية لتمثُّل املوضوعات متثال صحيحا وموافقا للواقع ال منفصال عن هذا‬
‫األخري مُ َتخَيَّال يراه الطالب أو “الباحث” برؤيته الشخصية البعيدة عن حقيقته الواقعية‪ .‬وهنا وجب احلديث عن مفهوم العامل الذاتي‬
‫الذي يؤهل الطالب ألن يكون باحثا علميا وأكادمييا عما خيتلط بالرؤية الشخصية القائمة على جمرد االنطباعات واآلراء غري املؤسسة أو‬
‫القائمة على النظرة الشخصية اجملردة من كل مقومات البحث العلمي‪ .‬فمفهوم العامل الذاتي يف البحث العلمي ينبين على حُسن توظيف‬
‫املعارف املوضوعية توظيفا صحيحا بالشكل الذي يؤهل الطالب أو الباحث للنظر يف اآلراء واألفكار والنظريات اليت سبق له أن تلقاها‬
‫والبحث فيما إذا كانت متناسبة مع خمتلف الوضعيات اليت يريد استثمارها فيها حبيث يؤهله كل ذلك ألن يكون له موقف مستقل عن غريه‬
‫استقالال “تغايُرِيا” مبنيا على موقف جديد أو موقف معدّل أو استقالال مبنيا على “التماهي” مع املواقف السابقة ولكن يشرتط يف هذا‬
‫التماهي يف هذه احلالة أن يكون متاهيا واعيا ال جمرد متاهيا قائما على التكرار ملا سبق‪ .‬وهنا جيب التنبيه إىل أن العامل الذاتي يف‬
‫البحث العلمي عامل قائم على شروط موضوعية أصال تكون مقدمة للطالب الباحث ألن يتدرب عليها ويستثمرها استثمارا معقوال وواعيا‬
‫مبا له من قدرات عقلية وإدراكية ومؤهالت واستعدادات تؤهله ألن يكون وحدة علمية فاعلة يف حقل البحث العلمي يف املستقبل‪ .‬ولعل مما‬
‫يتضح لنا أن مفهوم الشرط الذاتي وفق هذه الرؤية مغاير متاما جملرد النظرة الذاتية القائمة على معيار آخر غري املعيار العلمي‪ ،‬كمعيار‬
‫املصلحة أو معيار النظرة املسبقة أو معيار ما تعارف عليه الغري أو ما إىل ذلك‪ .‬فمثل هذه املعايري ال تنتج موقفا علميا حقيقيا وإمنا هي‬
‫جمرد انطباعات غري مؤسسة ولو ظهرت يف مظهر “علمي” أو يف صيغة حبث ” أكادميي‪”.‬‬
‫وخالصة القول يف هذا السياق أن الشرط املوضوعي والشرط الذاتي متالزمني غري منفصلني باعتبارهما مقومني وحيدين لتكوين “الذات‬
‫األكادميية الباحثة‪”.‬‬
‫إن تكوين هذه “الذات األكادميية الباحثة” ما هو إال مسار طويل من التعليم والتوجيه والتقويم وفق أصول وقواعد تنمحي فيها الذات‬
‫املُوَجِّهة وتنضبط لقواعد علمية صارمة موسومة بطابع أخالقي يؤهل املتلقي ألن يُعَدِّل سلوكه بطريقة منتظمة وسلسلة تبدأ منذ حلظة‬
‫اتصاله بعامل ختصصه اجلديد إىل أن يصبح عَلَما من أعالم هذا التخصص‪ .‬فإذا مت التمكن من إنتاج هذه الذات إنتاجا سليما فإننا‬
‫الحمالة سنكون أمام فاعل جديد يرى األشياء وحيلل املوضوعات بطريقة علمية و”منهجية” يستطيع من خالهلا تصنيف تلك األشياء‬
‫واملوضوعات تصنيفا قائما على أسس معقولة ومضبوطة ومنضبطة للقواعد العلمية املرعية لدى أهل ذاك احلقل املعريف الذي يشتغل يف‬
‫إطاره‪.‬‬
‫إن احلصيلة اليت خنلص إليها من مسار تكوين “الذات األكادميية الباحثة” هلي الشرط الذي يؤهلنا من التعرف عما إذا كانت هذه الذات‬
‫ترى األشياء واملوضوعات رؤية منظمة ومنسقة ومنطقية وسليمة أم ال‪ ،‬ومواصفات السالمة واملنطق والتنسيق والتنظيم هاته هي ما‬
‫يشكل جوهر املنهجية األكادميية إذ أنها تتصل باملعارف ال باملعلومات من جهة‪ ،‬وباملوضوع ال بالشكل من جهة أخرى‪.‬‬
‫ولنا أن نتصور ما املنهجية اليت نطالب بها ؟‬

‫المصدر‪ :‬موقع الجامعة القانونية المغربية االفتراضية‬


‫تم اإلطالع بتاريخ‪ 61 :‬أكتوبر ‪2222‬‬
‫إعداد الطالب‪ :‬عبد الغفور موزريك‬

You might also like