Professional Documents
Culture Documents
لطالما كان هناك تفاعل كبير بين العمارة والعلوم اإلنسانية ،مثل الفلسفة وعلم النفس وعلم االجتماع ،فقد أثرت التيارات الفكرية والفلسفية
بشكل خاص على األفكار التصميمية للهندسة المعمارية -،إذ توظف الفلسفة العمارة لتمثيل أفكارها ،بينما تستغل العمارة الفلسفة لخلق
وأبعاد ا عميقة تسمح لها في النهاية بتجاوز حتمية المادة ،في هذا المقال سوف نسلط الضوء بالخصوص على التيار ً وجود يحمل آثارً ا
الفلسفي التفكيكي الذي سنه جاك دريدا في ستينيات القرن الماضي ،وعالقته بالعمارة التفكيكية التي تطورت بدأ من الثمانينات واشتهر بها
.عدد من المعماريين مثل فرانك غيري وزها حديد
قد تبدو المشاريع والمباني التفكيكية في البداية مجزأة وتفتقر إلى أي منطق مرئي؛ ومع ذلك ،فهي موحدة تحت مبادئ ومفاهيم فلسفة
التفكيك ف ما هي البيئة الفكرية المناسبة التي سمحت بهذا النقل ،المفاهيم التي تم نقلها إلى العمارة وأصبحت أساس األساليب المعمارية
ض ا كيف انعكست هذه المفاهيم في األنماط المعمارية للعديد من المهندسين المعماريين البارزين في مجال التفكيكية .يوضح البحث أي ً
.التفكيك .أخيرً ا ،يناقش هذه األفكار ،وتوافقها مع جوهر العمارة ،وقابلية التطبيق على مجاالت -مختلفة من الهندسة المعمارية
المهندس المعماري التفكيكي ليس حرً ا مثل القارئ أو الفيلسوف؛ ال يمكن تطبيق كل ما يمكن فعله أو تطبيقه في اللغة والفلسفة في الهندسة
المعمارية. ،لم يكن "نقل" مفاهيم التفكيك إلى العمارة مباشرً ا وحرفيًا؛ فقد تم تعديل بعض المفاهيم وإعادة تسميتها لتناسب الهندسة
المعمارية .عالوة على ذلك ،لم يلتزم المهندسون المعماريون التفكيكيون بكل مفاهيم هذه الفلسفة؛ كان من المعروف أنهم يركزون على
مفهوم واحد أو اثنين في التفكيك ويجعلونهم مبادئ أساسية ألساليبهم الشخصية في الهندسة المعمارية .ركز بيتر آيزنمان على مفاهيم
.الحاضر والتتبع ،وركز دانيال ليبسكيند على مفهوم الغياب ،وركز فرانك جيري على التناقضات -الثنائية واللعب الحر
واتفقت التفكيكية الفنية والمعماري--ة عموم-ا ً علي مرتك--زات ثقافي--ة موح--دة تتمث--ل في الث--ورة علي ال--تراث ،والتخلص من قيم البرجوازي--ة،
ومعاداة الكالسيكية .وبالتالي حملت طباع الجيل الجديد من الفنانين الشبان أصحاب النفوس الص-اخبة المليئ-ة ب-الثورة واألفك-ار االنقالبي-ة،
والساخطين علي األوضاع السياسية واالقتصادية في بالدهم.
التفكيك /هو مدرسة "ما بعد البنيوية" للفلسفة والنقد األدبي التي بدأت في أواخر الستينيات ،استخدم مصطلح "التفكيك" ألول مرة من قبل الفيلسوف
الفرنسي جاك دريدا في كتابه " لم يكن هذا الكتاب هو السبب وراء شهرة دريدا فحسب ،بل كان يعتبر أيضً ا النص األساسي لنقد التفكيك.من خالل
مؤسسها ،جاك دريدا ،يدعو التفكيك إلى العديد من األفكار والمبادئ غير التقليدية التي أثارت في ذلك الوقت العديد من المناقشات وأحيانًا المفاهيم
الخاطئة بين المثقفين .هذه األفكار لم تنشأ من ال شيء .على العكس من ذلك ،فإن التفكيكيين إما أعادوا اختراع أفكار الفالسفة السابقين (نيتشه ،هايدجر)
.أو دحضوها (هيجل ،هوسرل) .يحاول التفكيك تفكيك /الميتافيزيقا /الغربية ،التي تقوم على قناعات ثابتة ال يمكن تجاوزها
تسبب التفكيك في جدل بين المثقفين الغربيين الذين انقسموا إلى دعاة ونقاد التفكيك /.ومع ذلك ،فقد غيّر التفكيك مفاهيم العديد من المثقفين والمنظرين
واألكاديميين ،وأثر على العديد من المجاالت اإلبداعية ،خاصة الروايات والشعر والفنون الجميلة والموسيقى ،ثم العمارة ،تم استخدام مصطلح
التفكيكية ألول مرة في نهاية الثمانينيات لإلشارة إلى أسلوب معماري تم تجسيده في أعمال المهندسين المعماريين من جميع أنحاء العالم.
.كانت أعمالهم مبنية على أفكار التيار الفلسفي للتفكيك
لم يكن التفاعل بين التيار الفلسفي والعمارة واضحا في الكتابات األولى لديريدا ،إذ ظن أن نقل أفكاره إلى الميدان المعماري كان مستحيال،
قبل أن يصب المعماري بيتر آيزنمان اهتمامه على أعماله ،حيث طلبا مساعدته في تصميم بارك دو لوفيلت في باريس سنة ،1982دعا
أيزنمان جاك دريدا لالنضمام إليه في اقتراح أفكار لتصميم هذه الحديقة حسب مبادئ التفكيك التي سنها ديريدا ،وقد كان التعاون بين
الرجلين ،ديريدا وأيزنمان ،بمتابة انفتاح العمارة على هذا التيار الفلسفي ،وقد تم توثيق تجربتهما هذه في كتاب مشترك 'أعمال كورا'
.صدر سنة 1997
ولن يتم استخدام مصطلح التفكيكية بشكل رسمي لإلشارة إلى أسلوب معماري جديد .حتى سنة 1988حين تم تنظيم معرض في متحف الفن الحديث
بنيويورك . /،عرض المعرض أعمال بيتر /آيزنمان ودانييل ليبسكيند وفرانك جيري وزها حديد وريم كولهاس وكوب /هيملبو وبرنارد تشومي وغيرهم.
ً
مزيدا من االهتمام خالل المعرض ،قبل هذا المعرض ،لم تكن التفكيكية تعتبر حركة راسخة أو أسلوبًا مثل التكعيبية أو اكتسب األسلوب
.الحداثة .رأى جونسون وويغلي أوجه التشابه في نهج المهندسين المعماريين في التصميم ودمجهما تحت سقف واحد
.
.بالنسبة للمعرض ،اختار ويجلي ( ) 1988مشاريع أزعجت األفكار وفككت فكرة الشكل الكلي والنقي ،وصنف هذه المشاريع على أنها معمارية تفكيكية
كانت هناك وجهات نظر متعارضة حول المعايير /المستخدمة لتصنيف المشروع على أنه تفكيك /.لم تكن هناك معايير واضحة تحدد العمل على أنه
معمارية تفكيكية ،نجد أن بعض المبادئ قد تمت ترجمتها حرفيًا إلى الهندسة المعمارية ،بينما تم تعديل مبادئ أخرى وإعادة تسميتها لتالئم
الهندسة المعمارية .عالوة على ذلك ،لم تلتزم شخصيات التفكيك بجميع مفاهيم فلسفة التفكيك .ركزت بعض الشخصيات -على مفهوم أو
مفهومين وجعلتهم مبادئ أساسية ألساليبهم الشخصية في الهندسة المعمارية .على سبيل المثال ،ركز بشكل أساسي على مفهوم الحاضر
.والتتبع ،بينما ركز دانيال ليبسكيند على مفهوم الغياب .ركز فرانك جيري على التناقضات -الثنائية واللعب الحر
وف ًق ا لدريدا ،فإن الهندسة المعمارية التفكيكية تشبه األسئلة التي يطرحها المهندس المعماري ويحاول إجابات مثل ما يلي" :هل يمكن .
تحرير العمارة من انتشار مبادئ الجماليات الكالسيكية؟ هل يمكن للهندسة المعمارية التخلي عن الوظيفية؟ " وعالوة على ذلك ،يجب
على المهندس المعماري أن يشكك في جميع المبادئ واألساسيات التقليدية في التصميم المعماري مثل التوازن والخطوط األفقية والعمودية
وما إلى ذلك .في رأي دريدا ،لإلجابة على هذه األسئلة ،يجب على المرء أن يتجاهل المفاهيم القديمة من أجل أن يكون حرا في إنشاء-
أشكال ومساحات جديدة .كيف نفكك؟ هل يمكن تفكيك كل مشروع معماري؟-
تم تكييف هذا المفهوم من قبل العديد من المهندسين المعماريين التفكيكيين ،مما يجعل المشاريع تبدو غامضة وغير مفهومة ،كما لو كانت
بال معنى .في الواقع ،هذا اإلحساس باالرتباك يقصده في الغالب المهندس المعماري الذي يحاول محاكاة تجربة معينة أو توليد شعور
محدد لدى الزائر /المستخدم للمبنى .على سبيل المثال ،تم تصميم النصب التذكاري للهولوكوست في برلين إللهام مشاعر عدم الفهم ،
واالغتراب ،والالمعنى (إنه داللة حرة عائمة) قصد أيزنمان أن يحاكي للزائر تجربة اليهود الذين كانوا في معسكرات االعتقال
قد تبدو المباني التفكيكية في البداية مجزأة وتفتقر إلى أي منطق مرئي .تتكون /هذه المباني أيضً ا من أجزاء متباينة وغير متوافقة تزيد من حدة هذا
الشعور .ومع ذلك ،تتحد هذه الشظايا من خالل مبادئ ومفاهيم التفكيك .سيتم الحقًا مالحظة هذه المفاهيم ومناقشتها في أعمال المهندسين المعماريين
.التفكيكيين البارزين
حاولت الفلسفة التفكيكية تفكيك األعراف الثابتة للميتافيزيقا الغربية .بنفس الطريقة ،تتطلب العمارة التفكيكية تفكيك جميع المبادئ الهندسية
التقليدية التي تشمل التوافق والوحدة واالستقرار .تدعو العمارة التفكيكية أي ً
ضا إلى تشويه العالقة بين الداخل والخارج
وف ًقا لدريدا ( ،) 1976فإن قراءة النصوص التي تم إنشاؤها بطريقة كالسيكية أسهل في التفكيك .وبالمثل ،تتطلب العمارة التفكيكية وجود
بنية نموذجية محددة ،بحيث تكون كذلك يمكن تفكيكها .وأفضل مثال على هذا المبدأ هو "سكن سانتا مونيكا" الذي صممه فرانك جيري.
يعتبر المبنى مبنىً تفككيًا نموذج ًي ا وكان يعتمد على تفكيك أو تفكيك منزل نموذجي في الضواحي .كان ينوي تغيير كتلته ومغلفاته المكانية
وطائراته وعناصره المتبقية من خالل التفكيك
ال يمكننا ترجمة كل فكرة من فلسفة التفكيك إلى هندسة معمارية .كما قال أيزنمان " ،ال يمكن للمرء أن يفعل في العمارة ما يمكن أن يفعله
المرء في اللغة" (أيزنمان .) 2007 ،وبالتالي ،فإن تطبيق بعض المبادئ سيتعارض بالضرورة مع أساسيات -العمارة ألن الهندسة
المعمارية ليست مجرد فن من أجل الفن .ال جدوى .العمارة هي فعل اجتماعي يستجيب دائمًا لحاجة بشرية معينة .العمارة ليست غاية في
.حد ذاتها .إنها وسيلة تخدم غرضً ا محد ًد ا .عالوة على ذلك ،يجب أن تتبع العمارة مبادئ علمية معينة لضمان سالمة واستقرار المبنى
ض ا مراعاة بعض التحديات بما في ذلك ميزانية المشروع ،وبرنامج المشروع ،وأبعاد األرض ،وأنظمة البناء في بلد معين. يجب أي ً
العمارة إذن ال تتمتع بالحرية التي تميز الفلسفة والكتابة .هناك حد لمدى تطبيق األفكار .لهذه األسباب ،لم يتم تنفيذ أفكار التفكيك بالكامل
.في الهندسة المعمارية
من غير الدقيق أن نقول إن التفكيكية هي نتاج فلسفة التفكيك وحدها .صحيح أن العمارة التفكيكية تأسست على أفكار التفكيك التي أثرت
على بعض المهندسين المعماريين ،المنظرون بشكل خاص .دفعتهم العمارة التفكيكية إلى التخلي عن األشكال القديمة وتحدي الذوق
الكالسيكي الشائع من خالل بناء عمارة مميزة وغير تقليدية .ومع ذلك ،فإن التطورات األخيرة مثل التقنيات المتقدمة وبرامج البرمجيات
المعمارية ،شجعت على التفكيك وسمحت للعديد من المهندسين المعماريين بإطالق العنان إلبداعاتهم .نتيجة لذلك ،قام العديد من
المهندسين المعماريين ببناء بعض المباني المعقدة وغير التقليدية التي ُن سبت إلى التفكيك على الرغم من أن منشئيها لم يؤمنوا في الواقع
..بالتفكيك
عززت ثورة االتصاالت واإلنترنت التفكيكية في أماكن مختلفة حول العالم .نتيجة لذلك ،تبنى العديد من المهندسين المعماريين التفكيكية
وأحيا ًن ا نسخ أجزاء من أعمال المهندسين المعماريين التفكيكيين اآلخرين حتى لو لم يكونوا دائمًا على دراية بالنظرية والفلسفية
خلفية هذا االتجاه
.
الهندسة المعمارية هي خدمة مدفوعة يقدمها مهندس معماري لتلبية احتياجات -العميل الذي يمكن أن يكون فرد أو جماعة أو حكومة.
لذلك ،يجب على المهندس المعماري أن يقدم خدماته بموضوعية لتجنب اإلسقاط الالوعي لمشاعره المكبوتة ومجمعاته على المشروع
ولمراعاة رغبات موكله
المعتقدات والثقافة والميول .ال يمكن ألحد أن ينكر أن شخصية المهندس المعماري وإبداعه هما حجر الزاوية في عمله .ومع ذلك ،يجب
أن تخضع هذه الصفات لخصوصيات المكان والزمان وثقافة
المجتمع حيث سيتم تشييد المبنى
.
.بطريقة ما ،الهندسة المعمارية ،وال سيما العمارة المعاصرة ،مدينة للتفكيك ألنها ساعدت على كسر رتابة العمارة الحديثة
دفعت المهندسين المعماريين إلى إنشاء -وابتكار أنماط جديدة أغنت بعض األماكن ونجحت في توصيل رسالة المهندس المعماري ،بينما
.في أماكن أخرى ،ظهرت هذه األنماط مشابهة -للمباني الغريبة التي أربكت جمهورهم
أخيرً ا ،المهندس المعماري التفكيكي ليس حرً ا مثل القارئ .يلتزم /تلتزم ببرنامج معين ،وعقار ،وميزانية ،وأنظمة بناء .لذلك ،ال
يستطيع المهندس المعماري ببساطة أن يفعل ما يريد .عالوة على ذلك ،ال يمكن دائمًا مقارنة أي مهندس معماري أو تصميم معماري
بقارئ أو نص أدبي .نختتم بكلمات آيزنمان" :الحديث نظريًا شيء ،والعمل على هذه النظريات شيء آخر" (أيزنمان )2007 ،