You are on page 1of 9

‫‪ -II‬مجزوءة المعرفة‬

‫مفهوم الحقيقة‬ ‫مفهوما النظرية والتجربة‬

‫‪ - 1‬الرأي والحقيقة‬ ‫‪ -1‬التجربة والتجريب‬


‫‪ -2‬معايير الحقيقة‬ ‫‪ -2‬العقالنية العلمية‬
‫‪ -3‬الحقيقة بوصفها قيمة‬ ‫‪ -3‬معايير علمية النظرية العلمية‬

‫‪ ‬تقديم المجزوءة ‪:‬‬


‫تشكل هذه المجزوءة امتدادا لمجزوءة الوضع البشري‪ ،‬فإذا كانت المجزوءة األولى قد إنصب‬
‫اهتمامها على اإلنسان كشخص له هوية و استقالل نسبي منفتح على الغير باعتباره شرطا ضروريا‬
‫لوجوده‪ ،‬فإن مجزوءة المعرفة تفتحنا على اإلنسان كعارف بمحيطه الخارجي الطبيعي منه‬
‫و االجتماعي‪ ،‬و بتاريخه كفرد و كجماعة‪ .‬لكن هذه العالقة ال يمكن أن تستقيم وتكون لها مشروعية‬
‫يقبلها الجميع إال إذا تأسست على نظريات علمية‪ ،‬والحديث هنا عن النظرية العلمية يطرح بدوره‬
‫إشكاال على مستوى العلوم الدقيقة‪ ،‬ويزداد اإلشكال تعقيدا حين يتعلق األمر بالعلوم اإلنسانية‪.‬‬
‫إن المعرفة ليست معطى جاهز لألخذ‪ ،‬إنها بناء جدلي يتم بين الذات والموضوع‪ ،‬تحتمل الخطأ‬
‫والصواب‪ ،‬التقدم والتراجع‪ ،‬إنها تبنى منهجيا باالعتماد على قدرات ومهارات‪ .‬فكل اإلشكاالت التي‬
‫تطرحها المعرفة تنبع من هذا التوتر الدائم بين الذات والموضوع‪ ،‬وهي العالقة التي تتراوح بين‬
‫االنفصال التام‪ ،‬أي فصل الذات عن الموضوع (الموضوعية )‪ ،‬وبين عدم القدرة على تحقيق هذا‬
‫المطلب(الذاتية)‪،‬ومن تم ضرورة خروج الذات من ذاتها لبناء معرفة توجه النظر والعمل اتجاه‬
‫موضوعات المعرفة‪ .‬انطالقا من ذلك يبدو أن جدلية الفكري(الذاتي)والواقعي(ما يرتبط‬
‫بالموضوع)هي جدلية تحتل مكانا أساسيا في صيرورة بناء المعرفة العلمية‪ ،‬ومن تم يمكن طرح‬
‫التساؤالت التالية‪ :‬ما طبيعة النظرية العلمية؟ ما داللة التمييز بين التجربة والتجريب؟ ما خصائص‬
‫العقالنية العلمية ؟ ماهي المعايير التي يمكن اعتمادها للحكم على علمية نظرية ما أو عدم علميتها ؟‬
‫إن كل معرفة إنسانية سواء كانت علمية أو غير علمية‪ ،‬إنما هي سعي اإلنسان إلى امتالك‬
‫الحقيقة‪ ،‬حقيقية ذاته‪ ،‬حقيقة الكون الذي هو جزء منه‪ ،‬وحقيقة الطبيعة المحيطة به‪ ،‬إال أن هذا السعي‬
‫يفضي بالضرورة إلى حقائق متعددة ومختلفة ومتعارضة أحيانا‪ ،‬األمر الذي يجعل منها حقائق تجمع‬
‫بين الحق والباطل‪ ،‬وبين الصدق والكذب‪ ،‬وبين الحقيقة والرأي‪ ،‬وهكذا تصبح الحقيقة مشكلة فلسفية‬
‫تطرح التساؤالت التالية‪:‬‬
‫هل الحقيقة معطى أم بناء؟ ما معيار الحقيقة ؟ ومن أين تستمد الحقيقة قيمتها؟‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ -1‬المعرفة‪ :‬نشاط فكري ونظري يسعى من خالله اإلنسان إلى الوعي بذاته وبمعطيات العالم الخارجي‪( .‬بناء جدلي بين الذات‬
‫و الموضوع)‪.‬‬
‫‪ -2‬المعرفة العلمية‪ :‬بناء نظري يهدف من خالله اإلنسان إلى تفسير الوقائع المحيطة به‪ ،‬و ينظم معرفته بها وفق موضوعات ومناهج‬
‫غايتها بلوغ الحقيقة‪.‬‬
‫النظرية و التجربة‬
‫‪ ‬تقديم للمفهوم‪:‬‬
‫يطرح مفهومي النظرية والتجربة إشكاال منهجيا ونظريا يتعلق بشروط إمكان البناء النظري‬
‫أو استحالته‪ ،‬مما يطرح بصورة كبيرة حدود المعرفة النظرية خصوصا أمام التوتر والصراع بين‬
‫نظرية تحيل على العقل وتجربة تحيل على الواقع‪ ،‬إن التقابل بين النظرية والتجربة يرتد إلى التقابل‬
‫بين العقل والواقع‪ ،‬فمفهوم النظرية يدل عادة على التفكير العقلي المجرد البعيد عن الواقع‪ ،‬في حين أن‬
‫مفهوم التجربة يدل عادة على االلتصاق بالواقع وبالحياة الواقعية‪ ،‬الشيء الذي يعني حضور التفكير‬
‫المجرد في النظرية ومحدوديته أو غيابه في التجربة‪ .‬إن هذا التوتر يأخذ طابعا "ابستمولوجيا" يضفي‬
‫على المعرفة العلمية صبغة خاصة وخاصة في مجال العلوم الدقيقة‪ ،‬فإذا كانت النظرية العلمية‬
‫هي عبارة عن بناء فرضي استنباطي يعتمد على العقل والمنطق‪ ،‬فيمكنها كذلك أن تكون ذات محتوى‬
‫تجريبي اختباري‪ ،‬يهدف إلى ربط الوقائع التجريبية بالمبادئ التي تنطلق منها‪ ،‬مما يدل على أن‬
‫المعرفة العلمية ال تقوم على العقل وحده‪ ،‬وال على الواقع وحده‪ ،‬بل تقوم عليهما معا‪.‬‬
‫فما هي داللة كل من النظرية و التجربة؟ وما طبيعة العالقة بينهما ؟‬
‫يحدد معجم "الالند" مفهوم النظرية فلسفيا بأنها "إنشاء تأملي للفكر يربط النتائج بالمبادئ"‪.‬‬
‫أما في مجال العلم (ابستمولوجيا) فالنظرية هي "نسق من المبادئ والقوانين ينظم معرفتنا بمجاالت‬
‫خاصة‪ ،‬ويضمن هذا النسق بناء منطقيا له مكوناته ‪ ،‬ويخضع لنظام فرضي استنباطي يسمح للعالم‬
‫باالنتقال من عنصر إلى آخر وفق تراتب صارم"‪.‬‬
‫إن هذا الحوار بين النظرية (العقل) و التجربة (الواقع) يخفي عنا أشكال التداخل الكبير بينهما‪ ،‬ويضعنا‬
‫أمام مجموعة من التساؤالت‪:‬‬
‫‪ ‬ما عالقة التجربة بالنظرية في بناء المعرفة العلمية؟‬
‫‪ ‬ما عالقة التجربة باعتبارها خبرة وانطباعا حسيا بالتجريب العلمي؟‬
‫‪ ‬ماهي خصائص وحدود العقالنية العلمية؟‬
‫‪ ‬ما معايير صدق و صالحية النظرية العلمية؟‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫النظرية‪ :‬فلسفيا تعني (إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ)‪ .‬وفي مجال العلم هي" نسق من المبادئ و القوانين‪،‬‬
‫ينظم معرفتنا بمجاالت خاصة‪ ،‬و يت ضمن هذا النسق بناء منطقيا له مكوناته ويخضع لنظام فرضي استنباطي يسمح‬
‫للعالم باإلنتقال من عنصر إلى آخر وفق تراتب صارم"‪.‬‬
‫المحور ‪ :I‬التجربة و التجريب‬
‫‪‬الطرح اإلشكالي للمحور‪:‬‬
‫تأخذ التجربة في مجال العلم داللة خاصة‪ ،‬فهي مجموعة من اإلجراءات والخطوات النظرية والعملية‬
‫التي يقوم بها العالم بصفة مقصودة لمساءلة الطبيعة وإرغامها على الجواب‪.‬‬
‫فما الصورة التي تأخذها التجربة في العلم؟ وهل التجربة الحسية المباشرة هي مصدر النظرية العلمية‬
‫أم أن مصدرها هو التجريب العلمي الممنهج؟‬
‫هل تكفي التجربة المخبرية في اكتشاف أسباب الظاهرة أم أن للتجربة الذهنية والخيال العلمي دور‬
‫في ذلك؟‬
‫‪ ‬تحليل نص "كلود برنار" (ص ‪( :)69‬التجريب إنصات للطبيعة)‬
‫للنص‪:‬‬ ‫‪ ‬التأطير اإلشكالي‬
‫يتأطر النص داخل المجال اإلشكالي للمعرفة العلمية بوصفها بناء نظريا ومنهجيا‪ ،‬يهدف اإلنسان من‬
‫خالله إلى تفسير الوقائع المحيطة به وينظم معرفته بها‪ ،‬وذلك وفق موضوعات ومناهج غايتها بلوغ‬
‫الحقيقة‪ .‬وتطرح قضية المعرفة على هذا المستوى مفهومي النظرية والتجربة من حيث دورهما ومكانهما‬
‫في تكوين المعرفة العلمية‪ ،‬ويمكن ضبط إشكال النص ضمن إشكال التجربة والتجريب‪ ،‬وهو اإلشكال الذي‬
‫حاول صاحب النص معالجته من خالل التساؤالت المفترضة التالية‪:‬‬
‫ما األسس التي يقوم عليها العلم التجريبي‪ :‬هل يقوم على أسس نظرية أم منهجية أم هما معا؟‬
‫ما خطوات المنهج التجريبي وما خصائصه؟ هل التجريب انفتاح على الواقع وإنصات للطبيعة أم أيضا‬
‫على االفتراض والخيال؟‬
‫‪ ‬موقف "كلود برنار"‪( :‬التجريب إنصات للطبيعة)‪.‬‬
‫ينطلق كلود برنار من تصور أساسه أن المنهج التجريبي والتجريب العلمي هو السبيل الوحيد لبناء‬
‫نظرية علمية‪ ،‬فالمعرفة العلمية قائمة على التجريب باعتبارها عملية إعادة الظاهرة مخبريا وفق شروط‬
‫موجهة بأسئلة محددة‪ ،‬ومؤطرة بفرضية بغرض التحقق من صحتها بواسطة التجربة‪.‬‬
‫إن التجربة العلمية تتطلب من العالم أن يكون ملما بمجموعة من الشروط والمبادئ والممارسات‬
‫التجريبية (المالحظة‪ ،‬الفرضية‪ ،‬التجربة) إذا اشتغل العالم بمقتضاها توصل إلى معرفة وصياغة القوانين‬
‫التي تحكم الظواهر الطبيعية‪ ،‬وتبتدأ أول خطوات المنهج التجريبي كما حددها "كلود برنار" بالمالحظة‬
‫التي تعني المعاينة الدقيقة والموضوعية لظاهرة معطاة بالصدفة بعيدا عن األفكار المسبقة‪ ،‬إنها لحظة‬
‫إصغاء موضوعية ومحايدة ينتقل بعدها العالم إلى وضع فرضيات هي بمثابة أفكار مفسرة للظاهرة بشكل‬
‫محتمل ومسبق‪ ،‬ويشترط فيها أن تكون قابلة للتحقق التجريبي ونابعة من صميم الظاهرة المدروسة‪ ،‬وتشكل‬
‫التجربة لحظة منهجية أساسية‪ ،‬فهي إعادة إنشاء الظاهرة مخبريا ضمن شروط مصطنعة ووفق مخطط‬
‫وتصور ذهني يستهدف التحقق من صدق أو عدم صدق الفرضية‪ ،‬وهذا وحده ‪ -‬في نظر برنار‪ -‬ما يسمح‬
‫للعالم التجريبي من استخالص القوانين أي العالقات الثابتة والمنتظمة بين الظواهر والتي تتيح تفسيرها‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫التجربة‪ :‬تعني في الداللة العامة (مجموع المعارف و الخبرات التي يكونها اإلنسان في عالقته المباشرة بالواقع)‪.‬‬
‫التجريب ( التجربة العلمية)‪ :‬القيام بإعادة إحداث ظاهرة ما مخبريا ضمن ظروف وشروط يصطنعها العالم بهدف‬
‫معرفة القوانين المتحكمة فيها‪ ،‬إنها لحظة منهجية يتم فيها اختبار الفروض‪.‬‬
‫نخلص من هذا التصور التجريبي الذي يمثله "كلود برنار" أن القوانين التي تشكل أساس‬
‫النظرية العلمية ال يمكن أن تتم صياغتها إال بالرجوع إلى الواقع التجريبي ومعاينة ظواهره‪،‬‬
‫وإخضاع هذه الظواهر للتجريب‪ ،‬وفي هذا الصدد يقول كلود برنار ‪" :‬الحادثة توحي بالفكرة‪،‬‬
‫والفكرة تقود إلى التجربة وتوجهها‪ ،‬والتجربة تحكم بدورها على الفكرة"‪ ،‬هكذا إذن تختلف‬
‫التجربة العلمية أي التجريب عن التجربة الحسية العادية‪ ،‬فبينما ترتبط هذه األخيرة بالخبرة‬
‫العادية وبالحس المشترك‪ ،‬فإن التجريب هو تجربة علمية منظمة تقوم على بناء نظري ومنهجي‬
‫يقود عملية البحث وينظمها‪.‬‬
‫فهل يمكن القبول بهذا التصور كحل إلشكالية العالقة بين النظرية والتجربة؟ وهل فعال تعتبر‬
‫التجربة األساس األول واألخير للنظرية العلمية بحيث يصبح الفرض العقلي تابعا لها؟‬
‫‪ ‬مناقشة النص‪:‬‬
‫‪ ‬موقف "روني توم"‪( :‬الخيال والتجريب)‪.‬‬
‫رغم ما حققه المنهج التجريبي من نجاحات علمية ساهمت في تطور المعرفة العلمية‪ ،‬إذ بواسطته‬
‫تم التخلص من المعارف الالعلمية التي تحملها التجارب العامية‪ ،‬فإن التطور الذي شهده العلم في المجالين‬
‫الميكروسكوبي (الفيزياء) والماكروسكوبي (الفلك) أبرز محدودية صالحية هذا المنهج علميا‪.‬‬
‫وفي هذا اإلطار يندرج موقف "روني توم" الذي ينتقد التصور التجريبي الكالسيكي الذي يعتبر‬
‫بأن التجريب العلمي هو المقوم الوحيد في التفسير السببي للظواهر‪ ،‬ويرى بالمقابل أنه البد من اعتبار‬
‫عنصر الخيال العقلي وإدماجه في عملية التجريب‪ ،‬فالخيال هو تجربة علمية تمنح للواقع التجريبي غنا‬
‫بما تبدعه من كيانات نظرية وعالقات سببية تلعب دورا في اكتشاف أسباب الظواهر و تفسيرها‪ ،‬و يتضح‬
‫هذا جليا في الفرضية العلمية نفسها والتي ال يمكن أن تتأسس على نظرية سابقة‪ ،‬فكل نظرية تتضمن‬
‫كيانات خيالية يتم التسليم بوجودها‪ ،‬ويتعلق األمر بالعالقات السببية التي تهدف التجربة إلى إثباتها‬
‫أو تكذيبها‪ ،‬يقول روني توم‪" :‬ال وجود لفرضية بدون وجود شكل من أشكال النظرية‪ ،‬وتتضمن النظرية‬
‫دائما كيانات خيالية يتم التسليم بوجودها‪ ،‬ويتعلق األمر هنا بالعالقات السببية التي تربط السبب بالنتيجة"‪.‬‬
‫ويؤكد "روني توم" على التكامل الحاصل بين ما هو واقعي تجريبي وما هو عقلي خيالي‪ ،‬إذ ال يمكن‬
‫للتجريب العلمي االستغناء عن التفكير العقلي الذي يعد عملية معقدة يصعب ضبطها من خالل منهج محدد‪،‬‬
‫كما ال يمكن ألي جهاز أن يعوضه‪" .‬إن التجريب وحده عاجز عن اكتشاف أسباب ظاهرة ما‪ ،‬وفي جميع‬
‫األحوال ينبغي اكمال الواقع بالخيال"‪.‬‬
‫وبالفعل فإن تطور العلوم المعاصرة وخصوصا الفيزياء قد أبرز دور الخيال العلمي في إبداع مفاهيم‬
‫وعالقات مكنت من تفسير العالقات الذرية‪ ،‬وهي عناصر لم تؤكدها التجربة إال الحقا‪ ،‬وإذا كان المنهج‬
‫مجموعة من اإلجراءات الضرورية المحددة بشكل منظم‪ ،‬وكان الخيال العلمي يصعب ضبطه منهجيا‪،‬‬
‫فإن هذا األمر يدفع روني توم إلى نفي وجود منهج تجريبي صارم‪ ،‬وبدال عنه يؤكد وجود فعالية تجريبية‪.‬‬

‫‪ ‬تركيب‪:‬‬
‫نخلص مما سبق أن بناء المعرفة في مجال العلم يتوقف على الحوار الدائم بين التجريبي‬
‫المختبري الذي يتجسد فيما هو واقعي وملموس مع ما هو فكري ذهني (التجربة العقلية الخيالية)‪،‬‬
‫وهذا ما يجعل مسار العلم يعرف تحوالت منهجية عميقة خصوصا االنتقال من التجربة المختبرية‬
‫إلى التجربة الذهنية‪ ،‬وهذا االنتقال أفرز ما يسمى العقالنية العلمية‪ .‬فما هي طبيعة ومضمون هذه‬
‫العقالنية العلمية؟‬
‫المحور ‪ :II‬العقالنية العلمية‬
‫‪‬الطرح اإلشكالي للمحور‪:‬‬
‫تتضمن المعرفة العلمية مكونين أساسيين هما‪ :‬معطيات التجربة من جهة وأحكام العقل ومناهجه‬
‫من جهة ثانية‪ ،‬فالعالم في صياغته لفروضه وإنجازه لتجاربه وصياغة نظرياته البد له من استحضار‬
‫العقل‪.‬‬
‫‪ ‬فما هي خصائص العقالنية العلمية وما حدودها؟‬
‫‪ ‬ما هو األساس التي تقوم عليه‪ :‬هل هي وليدة التجربة وحدها أم هي نتاج خالص للعقل‬
‫أم هي نابعة عن حوار جدلي بين العقل والتجربة؟‬
‫‪ ‬بمعنى آخر‪ :‬ما هو دور العقل في بناء المعرفة العلمية؟ هل النظرية العلمية هي نتاج خالص‬
‫للعقل أم أن للتجربة دور في عملية اإلنتاج هاته؟‬
‫‪‬تحليل النص‪" :‬هانز راينشباخ"‬
‫‪ ‬التأطير اإلشكالي للنص‪:‬‬
‫يتأطر النص بشكل عام داخل المجال اإلشكالي للمعرفة العلمية بوصفها بناء نظريا ومنهجيا‬
‫يهدف اإلنسان من خالله إلى تفسير الوقائع المحيطة به‪ ،‬وينظم معرفته بها وفق موضوعات ومناهج‬
‫غايتها بلوغ الحقيقة‪ .‬وتحديدا ضمن مفهومي "النظرية والتجربة" ويعالج إشكالية العقالنية العلمية‪،‬‬
‫ويمكن التعبير عن هذا اإلشكال في التساؤالت المفترضة التالية‪:‬‬
‫ما هو األساس الذي تقوم عليه المعرفة العلمية‪ :‬هل تقوم على البناء العقلي الرياضي الخالص‬
‫أم على المالحظة التجريبية؟‬
‫بمعنى آخر‪ :‬هل تقوم المعرفة العلمية على العقل أم على التجربة؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار‬
‫العقالنية العلمية كأساس للنظرية العلمية عقالنية تجريبية صرفة؟‬
‫‪ ‬موقف "هانز راينشباخ"‪( :‬التصور الوضعي التجريبي)‪:‬‬
‫ينطلق هانز راينشباخ من أطروحة مفادها أن المعرفة العلمية ال يمكن أن تتأسس إال على‬
‫المالحظة والتجربة‪ ،‬فالعقالنية العلمية الحقيقية هي التي تتخذ من المالحظة التجريبية مصدرا للحقيقة‬
‫العلمية‪،‬وكل اعتقاد في قدرة العقل كمصدر مستقل لمعرفة العالم الفيزيائي (الطبيعة) يهدد بالسقوط في‬
‫مذهب عقلي قريب من النزعة الصوفية‪.‬‬
‫ويرفض هانز راينشباخ أن يكون العقل قادرا لوحده على إنتاج معرفة بالواقع الفيزيائي‪ ،‬ولذلك‬
‫فهو ينتقد النزعة العقالنية الرياضية (انشتاين) التي تعتقد أن للعقل قوة خاصة به يستطيع بواسطتها‬
‫اكتشاف قوانين العالم الفيزيائي‪ ،‬ويرى بأنها أقرب إلى النزعة الصوفية ما دام القاسم المشترك بينهما‬
‫هو انطالقهما من رؤية حدسية وفوق حسية في بنائهما للمعرفة‪ ،‬واستبعادهما لدور المالحظة التجريبية‬
‫في ذلك‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقالنية العلمية‪ :‬هي وصف للمعرفة العلمية بأنها نتاج يتأسس في بناء حقائقه على قواعد وعمليات عقلية‪ ،‬أي أن الممارسة العلمية هي‬
‫عقلنة للظواهر التي تشتغل عليها‪ ،‬إنها معرفة تنظم عالم األشياء بالعقل داخل عالقات منطقية ورياضية ينتجها العقل‪.‬‬
‫ويطرح بالمقابل تصورا وضعيا تجريبيا (النزعة االختبارية الوضعية) لمشكلة العقالنية و دورها‬
‫في بناء العلم مفاده أن المعرفة العلمية يتم التوصل إليها باستخدام مناهج علمية معقولة‪ ،‬تقتضي استخدام‬
‫العقل مطبقا على مادة المالحظة‪ ،‬وهذا معناه أن المالحظة التجريبية هي المعيار والطريقة الوحيدة‬
‫لبلوغ الحقيقة العلمية في مجال الفيزياء بحيث أن كل محاولة الكتشاف القوانين العامة للعالم الفيزيائي‬
‫باالقتصار على أفعال االستبصار واالستنباط المنطقي هو تعبير عن نزعة مثالية ال عالقة لها‬
‫بالمعقولية العلمية ‪.‬‬
‫نخلص للقول من موقف "هانز راينشباخ" من طبيعة عالقة النظرية العلمية باعتبارها نسقا‬
‫مفاهيميا بالتجربة باعتبارها إنتاجا مختبريا للعالم الخارجي أن اإلدراك الحسي والمالحظة التجريبية‬
‫هما المصدر الوحيد للمعرفة العلمية‪ ،‬لهذا تكون األنساق العقالنية الرياضية بتعاليها عن المالحظة‬
‫والتجريب‪ ،‬وتأكيدها على أولوية اإلبداع العقلي الحر في إنتاج نظرية علمية فيزيائية تكون مجرد‬
‫نزعات مثالية ال عالقة لها بالعلم‪.‬‬
‫‪ ‬مناقشة النص‪:‬‬
‫إن تأكيد هانز راينشباخ والنزعة االختبارية الوضعية على دور المالحظة والتجربة في تأسيس‬
‫العقالنية العلمية‪ ،‬قد ساهم في تخلي العقل عن البنية التقليدية في مجال العلم من خالل ربطه بتطور‬
‫عالم التجربة‪ ،‬غير أن اإلصرار على تحكم التجربة في مسارات البناء العقلي والنظري للمعرفة العلمية‬
‫قد أفضى إلى نزعة اختبارية تجعل العقل تابعا لعالم التجربة‪ ،‬مما يضيع على العلم فرصا ثمينة‬
‫للتطور‪ ،‬ويسد عليه أبواب اإلبداع التي قد يتيحها العقل الرياضي والخيال العلمي‪.‬‬

‫‪ ‬موقف "ألبير اينشتاين"‪( :‬التصور العقالني الصوري)‬


‫على النقيض من التصور التجريبي الذي يقول بأن التجربة هي منطلق ومنبع النظرية العلمية‬
‫(هانز راينشباخ)‪ ،‬يرى العالم الفيزيائي "ألبير اينشتاين" أن أساس النظرية الفيزيائية المعاصرة‬
‫ومبدأها الخالق ال يوجد في التجربة‪ ،‬بل في العقل الرياضي الذي يبدع المفاهيم و المبادئ إبداعا حرا‪،‬‬
‫فالمفاهيم والمبادئ التي تشكل قاعدة لنسق الفيزياء النظرية هي إبداعات حرة للعقل البشري‪ ،‬والقوانين‬
‫التي تربط بينهما مشتقة منها بواسطة االستنباط المنطقي‪.‬‬
‫يقول اينشتاين "إننا على يقين أن البناء الرياضي الخالص يمكننا من اكتشاف المفاهيم و القوانين التي‬
‫تصل بينهما و التي تسمح بفهم ظواهر الطبيعية"‪ ،‬من هنا فإن النظرية العلمية تبنى بناء عقليا خالصا ‪،‬‬
‫أما التجربة فيمكنها أن توجهنا باختيار المفاهيم الرياضية لبناء النظرية ‪ ،‬ويجب أن تطابق معطياتها‬
‫نتائج النظرية وتكون تابعة لها‪ ،‬إال أنها ال يمكن أن تكون المنبع الذي تصدر عنه‪ ،‬إن المبدأ الخالق‬
‫للمعرفة العلمية ال يكمن في التجربة بل في العقل الرياضي‪.‬‬
‫هكذا يمكن القول مع اينشتاين أن العقالنية العلمية تكمن في العقالنية الرياضية المبدعة‪.‬‬
‫فمن خالل البناء النظري الرياضي يمكن للعالم أن يكتشف ويفهم ويستبق ويتصور الظواهر دون حاجة‬
‫لمعاينتها وكأننا أمام تجريب نظري ما دام العقل الرياضي يستطيع استباق المعاينة المادية للظواهر‪،‬‬
‫يقول اينشتاين "إني أصادق على أن الفكر الخالص قادر على فهم الواقع "‪.‬‬
‫‪ ‬موقف "غاستون باشالر"‪ ( :‬العقل و التجربة)‬
‫إذا كان "هانز راينشباخ" اعتقد أن التجربة هي المصدر الوحيد لبناء النظرية العلمية‪ ،‬وأكد‬
‫"ألبير اينشتاين" ذو النزعة العقالنية الصورية على أولوية العقل على التجربة في بناء المعرفة العلمية‬
‫بشكل منعزل عن الواقع‪ ،‬فإن اإلبستيمولوجي الفرنسي "غاستون باشالر" ينتقد التصورين معا‬
‫(االختباري و العقالني) مؤكدا على أهمية الحوار الجدلي بين العقل و التجربة في بناء المعرفة العلمية‪،‬‬
‫فالفيزياء المعاصرة تتأسس في نظره على يقين مزدوج‪ :‬األول يتمثل في أن الواقع العلمي ليس واقعا‬
‫معطى عن طريق الحواس‪ ،‬بل هو واقع مبني بناء عقليا و رياضيا‪ ،‬وهو ما يعني أن الواقع يوجد في‬
‫قبضة العقل‪ ،‬أما اليقين الثاني فيتمثل في القول بأن بناءات العقل وبراهينه ال تتم بمعزل عن االختبارات‬
‫والتجارب العلمية ‪.‬‬
‫ليست المعرفة العلمية إذا تجريبا أعمى‪ ،‬كما أنها ليست عقالنية فارغة ‪ ،‬بل إن المعرفة العلمية‬
‫هي ثمرة الحوار بين النظرية و التجربة‪ ،‬فالعالم الذي يجرب هو في حاجة دائمة إلى أن يستدل كما أن‬
‫العالم الذي يستدل هو في حاجة دائمة إلى أن يجرب‪( ،‬فال يمكن تأسيس العلوم الفيزيائية دون الدخول‬
‫في حوار فلسفي بين العالم العقالني و العالم التجريبي)‪.‬‬
‫إن العقالنية العلمية ‪ -‬في نظر باشالر‪ -‬هي عقالنية مطبقة قوامها الحوار والتكامل بين ما هو‬
‫عقلي نظري مع ما هو تجريبي واقعي‪.‬‬

‫‪ ‬تركيب ‪:‬‬
‫إن التوتر القائم بين مفهومي النظرية و التجربة على مستوى مساهمتها في بناء العقالنية‬
‫العلمية ال يلغي التداخل و التكامل بينهما‪ ،‬فالحوار بين النظرية والتجربة هو أساس العقالنية العلمية‬
‫المعاصرة وشرط تطورها‪ ،‬إذ ال وجود للنظرية علمية عقلية خالصة‪ ،‬وال وجود لتجربة علمية‬
‫مستقلة عن العقل‪.‬‬
‫المحور ‪ :III‬معايير علمية النظريات العلمية‬
‫‪ ‬الطرح اإلشكالي للمحور‪:‬‬

‫إذا كان التحقق التجريبي في العلوم الطبيعية خالل المرحلة الكالسيكية قد شكل المعيار الوحيد‬
‫لصدق النظرية العلمية‪ ،‬فكل نظرية تكون صادقة وتتصف بالعلمية إذا أثبتها التجريب المختبري‬
‫وأكدها التطبيق التجريبي ( فالعلم هو ما تصدقه التجربة)‪ ،‬فإن الفترة المعاصرة ستعرف تطورات‬
‫علمية أدت إلى قيام المنهج الفرضي االستنباطي الذي جعل من التماسك المنطقي بين مقدمات النظرية‬
‫العلمية ونتائجها أساس صدقها وصالحيتها العلمية ‪.‬‬
‫فما هي معايير علمية النظريات العلمية ؟ وعلى أي أساس تقوم صالحية وصدق النظرية العلمية‪:‬‬
‫هل على تحققها التجريبي أم تعدد االختبارات و تماسكها المنطقي أم قابليتها للتكذيب و التفنيد؟‬

‫‪ ‬موقف بير دوهيم (القابلية للتحقق التجريبي كمعيار لصالحية النظرية العلمية)‪.‬‬
‫يعتبر "بير دوهيم" أن معيار صحة النظرية العلمية وصالحيتها هو توافق أحكامها مع القوانين‬
‫التجريبية‪ ،‬ولضمان هذا ينبغي تخليص النظرية من الفروض التفسيرية العقلية التي تبعدها عن معطيات‬
‫التجربة‪ ،‬فالنظرية الفيزيائية لن تكون نظرية علمية مستقلة بنفسها إال إذا انطلقت في بنائها من تعريف‬
‫وقياس الخصائص الفيزيائية‪ ،‬وانتهت إلى تركيب القوانين التجريبية بأكبر قدر من الثقة والشمولية‬
‫والبساطة‪ .‬صحيح أن بناء النظرية العلمية يقوم على الربط المنطقي المتماسك بين مبادئها وفرضياتها‪،‬‬
‫غير أن نتائج األحكام المترتبة عن هذا الربط تبقى صالحيتها وصحتها مشروطة بموافقتها للقوانين‬
‫التجريبية التي تروم النظرية تمثيلها‪.‬‬
‫لهذا يكون المعيار الوحيد الذي يجب أن يقاس به صواب أو خطأ النظرية العلمية هو التجربة‪،‬‬
‫فالنظرية العلمية تكون صحيحة عندما تتوافق مع القوانين التجريبية و خاطئة في الحالة المعاكسة‪.‬‬
‫يقول دوهيم‪( :‬إن االتفاق مع التجربة هو الذي يشكل بالنسبة للنظرية الفيزيائية المعيار الوحيد‬
‫للحقيقة)‪.‬‬

‫‪ ‬موقف "كارل بوبر"‪( :‬معيار القابلية للتكذيب)‪.‬‬


‫ينطلق "كارل بوبر" من أطروحة مفادها أن القابلية للتكذيب هو معيار التأكد من صالحية‬
‫وصدق النظرية العلمية وذلك استنادا على جملة من االختبارات الدقيقة‪ ،‬فالنظرية العلمية التجريبية‬
‫األصيلة التي تستطيع أن تقدم االحتماالت الممكنة التي تفيد بها ذاتها وتبرز نقط ضعفها‪ ،‬كما تخضع‬
‫بصفة قبلية فروضها لمعيار القابلية للتكذيب والتفنيد‪ ،‬وفي هذا الصدد يقول "كارل بوبر"‪( :‬إن نظرية‬
‫معينة تعد خارج مجال العلم التجريبي عندما ال نستطيع وصف كيف يمكن أن يأتي التفنيد المحتمل لها)‬
‫إن صالحية و صدق نظرية علمية ما ليس هو قابليتها للتحقق التجريبي بل هو قابليتها من حيث المبدأ‬
‫للتفنيد‪ ،‬ومعنى هذا أن النظرية العلمية ينبغي أن تتضمن إمكانية البحث عن وقائع أو إنشاء التجارب‬
‫تفندها‪ ،‬فالنظرية في مجال العلم التجريبي البد من إخضاعها الختبارات دقيقة ومنسقة تستهدف تكذيبها‬
‫واثبات خطئها‪ ،‬و إذا صمدت أمام كل اختبارات التفنيد يتم قبولها على أنها نظرية علمية صحيحة‪،‬‬
‫أما إذا تم تفنيدها فينبغي إبعادها و تجاوزها إلى نظريات أخرى أكثر خصوبة و تطورا‪ .‬لهذا فإن‬
‫النظرية التي تقدم نفسها كحقيقة مطلقة هي نظرية ال تستحق أن تدرج في نطاق العلم‪ ،‬ألن العلم نسبي‬
‫بطبيعته ومهما بلغت درجة متانة نظرية ما فإنها تظل نظرية مؤقتة ونسبية قابلة للمراجعة‪ ،‬فقدر العلم‬
‫هو التقدم والتجاوز‪.‬‬
‫‪ ‬موقف "بيير تويليي"‪( :‬معيار تعدد االختبارات)‪.‬‬
‫وفي نفس اإلطار يرى اإلبستيمولوجي المعاصر "بيير تويليي" أن القولة بالتحقق التجريبي كمعيار‬
‫لعلمية النظرية العلمية وصحتها هو سقوط في نزعة تجريبية اختزالية وتبسيطية غير مقبولة‪ ،‬فالتحقق‬
‫التجريبي ال يعطي دالئل قطعية بقدر ما يعطي تأكيدات غير مباشرة تكون جزئية ومعرضة دائما‬
‫للمراجعة‪.‬‬
‫لهذا ينبغي العمل على إغناء النظرية من خالل إخضاعها لمعيار تعدد االختبارات‪ ،‬إن ما يضفي‬
‫على نظرية علمية قوة العلمية وتماسكها المنطقي هو تلك االختبارات المتعددة التي تخرج النظرية من‬
‫عزلتها‪ ،‬وتربطها بنظريات أخرى‪ ،‬وهذا ما ألح عليه بيير تويليي بقوله‪ ( :‬ال يشكل الفحص التجريبي إال‬
‫فحصا بين فحوص أخرى‪ ،‬ذلك أن اختبارات التماسك المنطقي لنظرية واحدة أو ما بين نظريات عديدة‬
‫تبقى لها مكانة مركزية للتكوين الفعلي للعلم)‪.‬‬

‫‪ ‬تركيب‪:‬‬
‫يكشف النقاش اإلبستيمولوجي حول علمية النظريات العلمية وصالحيتها نسبية المعرفة من‬
‫جهة‪ ،‬والبحث المتواصل عن معرفة حقيقة من جهة أخرى‪ ،‬فالنظرية العلمية الصارمة اآلن يمكن أن‬
‫تكون عرضة للتغيير والتعديل مستقبال‪ ،‬وهذا ليس عيبا في النظرية بقدر ما هو صفة تعبر عن‬
‫تاريخها‪ ،‬لهذا ينبغي إخضاع النظريات العلمية بشكل مكثف الختبارات دقيقة ومتعددة‪ ،‬وهي عمليات‬
‫تستدعي الفحص الصارم للنظريات على المستويين المنطقي والتجريبي معا‪.‬‬

You might also like