You are on page 1of 14

‫المجلد‪ :‬الرابع (‪ / )40‬الع ــدد‪ :‬األول (‪( )40‬جانفي ‪،)2222‬‬

‫ص‪69 - 38‬‬
‫مجلـة الدراسات التاريخية العسكرية‬
‫تاريخ القبول‪1410/01/12 :‬‬ ‫تاريخ االستالم‪1410/01/01 :‬‬

‫ملخص‪:‬‬
‫يبحث هذا المقال في سوسيولوجية الفعل المقاوم‬
‫الجزائري لالحتالل الفرنس ي‪ ،‬من خالل دراسة نموذجين‬
‫للمقاومة الشعبية‪ :‬مقاومة األمير عبد القادر والمقاومة‬ ‫العـنـوان‬
‫السلمية التي تمثلت في العرائض وحركات اإلصالح الديني‬
‫وصوال للحركة الوطنية‪ ،‬في محاولة لتحليل الفعل الجمعي‬ ‫سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر‬
‫للجزائريين وتفاعلهم لطرد المحتل اعتمادا على ما رسبته‬ ‫المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع‬
‫الذاكرة الجمعية من تقاليد المقاومة ضد الغزاة‪ ،‬اشتقت‬
‫عشر(‪" )91‬نموذجا"‬
‫كأساليب للمواجهة ضد الفرنسيين‪.‬‬
‫كلمات مفتاحية‪:‬‬
‫المقاومة‪ ،‬الفعل الجمعي‪ ،‬التفاعل‪ ،‬تفكيك المجتمع‬ ‫‪The Sociology of Resistance in‬‬
‫‪Algeria‬‬
‫‪Popular Resistance during the‬‬
‫‪Abstract:‬‬ ‫‪Nineteenth Century As‬‬
‫‪This paper examines the sociology of‬‬ ‫‪A Model‬‬
‫‪Algerian act of resistance to the French‬‬
‫‪occupation, by studying two models : the‬‬
‫‪popular resistance of Emir Abd-el-Kader‬‬ ‫المؤلف‪:‬‬
‫‪and the peace full resistance that was‬‬ ‫المقدم‪ :‬بشينية عبد الغني‪/‬‬
‫‪represented in the petitions and the‬‬
‫‪religious reform movements to reach the‬‬ ‫المركز الوطني للدراسات والبحث‪-‬ت ع ج‬
‫‪national movement, in an attempt to‬‬
‫‪analyses the collective action of the‬‬
‫‪Algerians and their interaction to expel the‬‬ ‫البلد‪:‬‬
‫‪occupier, depending on what he sent‬‬ ‫الجزائر‬
‫‪collective memory of resistance against‬‬
‫‪invaders,‬‬ ‫‪derived‬‬ ‫‪as‬‬ ‫‪methods‬‬ ‫‪of‬‬ ‫البريد االلكتروني‪:‬‬
‫‪confrontation against the French.‬‬
‫‪abdelghanibechinia@gmail.com‬‬
‫‪Keywords :‬‬
‫‪Resistance, collective action, interaction,‬‬
‫‪disintegration of society.‬‬

‫المرس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل‪ :‬المقدم‪ :‬بشينية عبد الغني‬


‫البريد االلكتروني‪abdelghanibechinia@gmail.com:‬‬

‫‪83‬‬
‫سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫من الممكن النظر إلى مقاومة الشعب الجزائري لالحتالل الفرنس ي لبالده‪ ،‬من زوايا علمية متعددة‪ ،‬وعلم‬
‫االجتماع كأحدها‪ ،‬يهتم بتحليل الفعل الجمعي للمقاومة‪ ،‬من حيث الرفض وردة الفعل تجاه المحتل المؤدلج‬
‫بالعقيدة الكنسية والطامح لالمتداد والتوسع في األراض ي المستعمرة الجديدة‪ ،‬لذلك كانت طبيعة المقاومة‬
‫الوطنية تختلف شكال ومضمونا عن بقية المقاومات في العالم المستعمر من طرف الغرب‪ ،‬وقدرة تكيفها مع‬
‫أشكال الفعل االجتماعي وسيكولوجية الشعب الجزائري‪.‬‬
‫سوسيولوجية الفعل المقاوم‬
‫تولي نظريات الفعل االجتماعي "قدرا أكبر من األهمية لدور الفعل والتفاعل بين أعضاء المجتمع‪ ،...‬ويبرز‬
‫دور علم االجتماع هنا في استيعاب المعاني التي ينطوي عليها الفعل االجتماعي والتفاعل‪ ،‬لتفسير طبيعة القوى‬
‫الخارجية التي تدفع الناس إلى نمط معين من األفعال"(‪.)1‬‬
‫ينطبق هذا المبدأ على الفاعلين الجزائريين غداة سقوط الجزائر العاصمة في براثن االستعمار يوم ‪41‬‬
‫جويلية ‪ 0384‬كمركز للقرار والسلطة السياسية في البالد‪ ،‬وهو ما أدى فيما بعد إلى تتابع سقوط العماالت‬
‫األخرى(وهران ‪ ،0380‬عنابة ‪ ،0381‬قسنطينة ‪ )0382‬وإلى ضياع الدولة بمؤسساتها وجيشها‪ ،‬وما تبع ذلك من‬
‫أعمال عنف فظيعة ارتكبها جنود االحتالل في حق المدنيين وممتلكاتهم ومقدساتهم‪ ،‬فعمت الفوض ى وسادت حالة‬
‫من االرتباك في المجتمع أعقبها تسليط اإلدارة االستعمارية لجملة من القوانين قصد ترتيب أوضاع حكمها لألهالي‪،‬‬
‫وتسيير "المستعمرة الجديدة" وفق مصالح الدولة الفرنسية‪ ،‬وهو احتالل "كان في واقع األمر نتيجة لتوسع‬
‫االستعمار األوربي الذي كان يهدف إلى السيطرة على األسواق العالمية وتسهيل عملية االستيراد والتصدير‪ ،‬وفي‬
‫الوقت نفسه استغالل المستعمرات الجديدة‪ ،‬والمهمة األساسية لهذا التوسع كانت تحطيم البنى الثقافية‬
‫واالجتماعية للسكان األصليين وتحويل اقتصادهم من اقتصاد استهالكي إلى اقتصاد موجه إلى التصدير‪ ،‬وأثناء تلك‬
‫العملية التدميرية كان األهالي عرضة ألعمال وحشية"(‪)2‬‬

‫أمام هذا الوضع المأساوي‪ ،‬انتظم الجزائريون في مجموعات مسلحة ببنادق بسيطة وأسلحة بيضاء‬
‫لمقاومة العدوان الفرنس ي الغاشم على بالدهم‪ ،‬وقد كان "عنصر المقاومة حاضرا في كل أشكال المواقف‪ ،‬في كل‬
‫أنماط التموقع‪ ،‬غ ير أن هذه المقاومة تختلف شكال كما تختلف مضمونا‪ ...‬وهكذا سوف نميز بين ثالثة أشكال من‬
‫المقاومات من االستعمار الفرنس ي‪ :‬أ‪ -‬المقاومة النشطة‪ ،....‬ب‪ -‬المقاومة الهادئة‪ ،....‬ج‪ -‬المقاومة الرمزية‪3"...‬‬

‫إن انبثاق فعل المقاومة قد جسدته الرغبة في الحرية وعدم الخضوع لالستعمار‪ ،‬وهو فعل ذو رواسب‬
‫ممتدة في الكيان الجزائري منذ قرون‪ ،‬اشتقت كفعل جماعي ضد الفرنسيين إلحساسهم بتهديد وجودهم‪ ،‬السيما‬
‫وأن المحتل قد باشر غداة االحتالل التفكيك المبرمج ألنساق المجتمع‪ ،‬وباستعمال درجات كبيرة من العنف‬
‫التدميري‪ ،‬قصد تهجير أهالي المستعمرة الجديدة أو إبادتهم إلدماجها بفرنسا وهو ما سنعرضه كاآلتي‪:‬‬

‫‪84‬‬
‫سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا‬

‫التفكيك االستعماري الممنهج‬


‫‪ -1‬سياسيا‬
‫"كانت الجزائر في العهد العثماني جمهورية‪ ،‬وعلى هذا األساس وبهذه الصفة كانت الدول تتعامل معها‪،‬‬
‫فلويس الرابع عشر ملك فرنسا في جميع مراسالته مع الدايات‪ ،‬ك ــان ال يكتب إال "جمهــورية الجزائر" أو‬
‫"جمهوريتكم" » ‪ ،)4(« La République Alger » « votre République‬أي أن الجزائر كانت تتمتع بشخصيتها الدولية‬
‫وهيبتها العالمية كدولة مستقلة في قراراتها وأحالفها‪ ،‬و"لم يكن لها من تبعية للخالفة العثمانية وال من جزئية منها‪،‬‬
‫إال كأغلب البلدان والدول اإلسالمية األخرى‪ :‬طاعة روحية وتضامن عسكري‪ ،‬والجزائر تمتاز عن أغلب تلك البلدان‬
‫اإلسالمية األخرى‪ ،‬بأنها كانت تعلن الحرب وتمض ي السلم‪ ،‬وتعقد المعاهدات وتقيم التحالفات بمطلق سيادتها‪،‬‬
‫وحرية تصرفها"(‪ ،)5‬حيث عمدت أغلب البلدان األوربية القوية كفرنسا وبريطانيا وهولندا والبندقية والواليات‬
‫المتحدة األمريكية‪ ،...‬إلى عقد اتفاقيات دبلوماسية وتجارية معها‪ ،‬غير أن األطماع الفرنسية الحتالل الجزائر قد‬
‫بدأت منذ قرون‪ ،‬ولم تتجسد إال في سنة ‪.0384‬‬
‫تجسد المشروع االستعماري الفرنس ي في الجزائر منذ تسلم قائد الجملة العسكرية دوبورمون ‪DE‬‬
‫‪ BOURMONT‬وثيقة استسالم الداي حسين يوم ‪ 41‬جويلية ‪ ،0384‬وهي واقعة حاسمة في تاريخ العالقات‬
‫السياسية والعسكرية بين البلدين‪ ،‬والتي بموجبها بدأ مشروع تفكيك الدولة الجزائرية بإلغاء بنود وثيقة االستسالم‬
‫وحل مؤسسات الدولة وإلغاء عمل البايات على عماالتهم‪ ،‬وتسليم إدارة وهران مثال إلى باي تونس‪ ،‬واستمر ذلك‬
‫التفكيك السياس ي بقطع عالقات المجتمع الجزائري السياسية والروحية مع الخالفة العثمانية وبقية الدول‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وعزله عن محيطه العربي اإلسالمي‪ ،‬إضافة إلى استصدار فرنسا بعض الفتاوى الدينية من مرجعيات في‬
‫الحجاز واألزهر تشرع إدارتها لشؤون المسلمين في الجزائر تحت ظل قوانين الدولة الفرنسية‪.‬‬
‫لقد حطم االستعمار «النخب القائمة وأزاح الزعامات التقليدية الوسيطة‪ ،‬وأنهى جميع الرموز التي يمكن‬
‫أن تذكر بالسيادة الجزائرية"(‪ ،)6‬السيما عند قضائه على دولة األمير عبد القادر‪ -‬كأول دولة جزائرية حديثة‪-‬‬
‫وتفكيكها وأسر مؤسسها بسجن المبواز بفرنسا‪ ،‬وهي آخر محاولة لبعث الدولة الوطنية قبل ‪ ،0691‬وخلق تمييزا‬
‫عنصريا بين األهالي والمعمرين على مستوى القوانين‪ ،‬إذ يمنع على الجزائريين نيل حقوقهم السياسية واالجتماعية‪،‬‬
‫إضافة إلى تجريدهم من جنسيتهم الوطنية‪ ،‬وهو ما نتج عنها أفعال احتجاج مقاومة– نستعرضها الحقا‪ -‬قابلتها‬
‫اإلدارة االستعمارية بالتنكر واإلجحاف لحقوقهم المشروعة وممارسة التمييز بينهم وبين الكولون واليهود (مرسوم‬
‫كريميو ‪ 10‬أكتوبر ‪.)0324‬‬
‫‪– 2‬اجتماعــيا‪:‬‬
‫اعتمدت السياسية االستعمارية في تدمير بنية المجتمع الجزائري وتفتيته‪ ،‬من خالل إبادة القبائل المكونة‬
‫لنسيجه االجتماعي‪ ،‬وتفكيكها إلى عائالت نووية (األب واألم واالوالد) ومنحها لقب عائلي جديد‪ ،‬وتشريدها من‬
‫مناطق تمركزها‪ ،‬وانتزاعها من جغرافيتها وترحيلها إلى أماكن أكثر جدبا‪ ،‬خاصة بعد سن القوانين العقارية المنظمة‬
‫لألمالك واألحباس التي تصادر بموجبها وتعطى للمعمرين وكذا إدخال اقتصاد السوق بأدواته البراغماتية‪ ،‬رغم أن‬
‫القبائل كانت في مرحلة ما قبل الرأسمالية‪ ،‬لذلك لم تستطع أن تساير تلك النظم االقتصادية‪ ،‬وهو ما أدى إلى‬

‫‪85‬‬
‫سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا‬

‫انتزاع األراض ي منها كمصدر رزق أساس ي في حياتها االجتماعية‪ ،‬األمر الذي أدى إلى تدني مستوى المعيشة‪ ،‬مما أثر‬
‫على عمليات المقاومة لتفكك أواصر التضامن‪ ،‬والسعي في البحث عن أسباب الحياة بالهجرة إلى أماكن أخرى‪.‬‬
‫عمد االحتالل بذلك جراء الفوض ى التي أتبعت الحرب‪ ،‬وانشغال السكان لترتيب أوضاعهم االجتماعية في‬
‫بيئات جديدة‪ ،‬إلى سن قوانين مجحفة والتي نزعت بمقتضاها حق المواطنة‪ ،‬فصدر قانون األحوال المدنية سنة‬
‫‪ 0391‬والذي ينص على أن "الجزائريين يعتبرون رعايا فرنسيين‪ ،‬وليس لهم الحق في الجنسية الفرنسية إال إذا‬
‫تخلوا عن حالتهم الشخصية كمسلمين"(‪.)7‬‬
‫أحدث هذا التفكيك الممنهج صدمة كبيرة في الوسط االجتماعي‪" ،‬وكانت أزمة ‪ ،0393 -0392‬وهي أكثر‬
‫حدة‪ ،‬التجلي العام األول للقطيعة في توازن ما قبل الغزو‪ ،‬وكانت فضال عن ذلك سبب انتفاضة ‪ 0320‬العامة‪ ،‬وهي‬
‫آخر تمرد عنيف بهذا االتساع عرفه المجتمع األصلي‪ ،‬خالل هذه األزمة‪ ،‬شجع الجوع والبؤس االنتشار السريع‬
‫لألوبئة‪ ،‬السيما الكوليرا‪ ،‬التي قضت على قبائل بكاملها‪ ،‬لم تكن أزمة ‪ 0393 -0392‬أزمة عابرة‪ ،‬بل ظهرت بعد‬
‫توسع أراض ي المستعمرين وبداية تكوين الملكية الفردية‪ ،‬إنها التعبير العنيف عن انتقال المجتمع الجزائري من‬
‫مرحلة كان يشبع فيها الحاجات األساسية ألبنائه إلى مرحلة بات معها عاجزا عن تأمين ذلك"(‪.)8‬‬
‫أدى إلغاء االحتالل الفرنس ي للملكية الجماعية (أراض ي العرش)‪ ،‬إلى تشتت القبائل وتفكيك وحدتها‬
‫االجتماعية وتفتيت اللحمة العضوية الموجودة بين أفرادها‪ ،‬وانفصال الفرد عن القبيلة بحثا عن المأوى والمرعى‬
‫الجديد‪" ،‬واستلزم األمر إعادة تجميع العدد الكبير من األفراد المتحررين من الروابط االجتماعية في إطار ما‪ -‬أرض ي‬
‫وإداري‪ ،‬هذا اإلطار هو "الدوار"‪ ،‬وهو دائرة لحد ما إدارية‪ ،‬شكلها قرار مجلس األعيان الذي استهدفت عملياته‬
‫تفتيت القبائل"(‪ ،)9‬حيث تشكلت البلدية والدائرة من مجموع هذه الدوارات‪ ،‬وهي خليط مع المعمرين إلدارة الحالة‬
‫المدنية لهم ولألهالي‪ ،‬وهي طريقة احتيالية من االستعمار النتزاع األراض ي ومصادرتها للمعمرين‪ ،‬وبذلك قلب نظام‬
‫الحياة االجتماعية لهذه القبائل المفتتة‪ ،‬والقضاء على العالقات التي تربط أفرادها وكذا آلية التضامن العضوي‬
‫بينهم‪ ،‬ومنه القضاء على األفعال الجماعية المنظمة للمقاومة‪.‬‬
‫‪– 3‬اقتص ــاديا‪:‬‬
‫بلغ العنف االستعماري ذروة متقدمة في البطش واإلبادة بعد تفكيك الدولة والمجتمع‪ ،‬ومطاردة القبائل‬
‫وقتلها في الكهوف والمغارات والسهول‪ ،‬وإحراق مزارعهم وقطع أشجارهم وإتالفها لتدمير البنية االقتصادية‬
‫التقليدية وتعويضها بسياسة اقتصادية رأسمالية ترتبط مع األسواق الخارجية األوربية‪ ،‬حيث شهدت الفترة التي‬
‫أعقبت نهاية الثورات الشعبية من ‪ 0330‬إلى ‪ ،0680‬محاوالت فرنسة البالد والقضاء على العنصر األصلي وتعويضه‬
‫بالمعمرين‪ ،‬كما شهدت أيضا بدء التوسع الرأسمالي وتعاظم أجهزة تجديد إنتاجه وهو ما يالحظ في تركز الرأسمال‬
‫والملكية العقارية ونمو المنتجات والصادرات‪ ،‬واستخدام األجر" الزهيد لألجراء الجزائريين وذلك لربط اإلنتاج‬
‫بحاجات المتروبول"(‪.)10‬‬
‫اعتمدت تلك السياسة االقتصادية االستيطانية على إلغاء حق القبائل الجزائرية في أراضيها يوم‬
‫‪ ،0304/41/00‬حيث أعلن الماريشال بيجو في مجلس النواب‪" :‬أينما وجدت مياه صالحة وأراض ي خصبة‪ ،‬هناك‬
‫ينبغي وضع المستوطنين دون السؤال عمن يملكون األراض ي"(‪ ،)11‬هذا اإلجراء أدى إلى استعمال كل الوسائل‬

‫‪86‬‬
‫سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا‬

‫والحيل الكولونيالية لوضع اليد على األراض ي الجزائرية‪ :‬تصنيف أراض ي خالية افتراضا‪" ،‬بوصفها أمالكا مشاعة‪،‬‬
‫امتالك طرق‪ ،‬حجز‪ ،‬طريقة االستمالك بدعوى المنفعة العامة‪ ،‬فرنسة أراض ي تسمح بشرائها بسعر منخفض جدا‪،‬‬
‫رهونات‪ ،‬إباحات قضائية‪ ،‬بيع بالمزاد‪ ،‬بفضل هذه األساليب‪ ،‬انتقل المجال العقاري األوربي من ‪ 001444‬هكتار‬
‫سنة ‪ 0314‬إلى ‪ 291444‬سنة ‪ ،0324‬وإلى ‪ 1248444‬هكتار سنة ‪.)12("0614‬‬
‫عمدت سلطات االحتالل إلى اتخاذ إجراءات اقتصادية أخرى بعد انتزاع األراض ي‪ ،‬لفصل الفالح الجزائري‬
‫عن أرضه حيث "حرم البدو قانونيا من حق االنتفاع بأراض ي التجوال"(‪ ،)13‬بسبب عدم وجود أي مالك أصلي لها‬
‫ومن ثم رجوعها إلى ملكية السلطة العامة لالحتالل‪ ،‬وهو إجراء قلص من عدد سكان البدو كما أدى إلى نقصان‬
‫قطعان الماشية‪ ،‬التي فرضت عليها "الضريبة" واستمر تطبيق هذا القانون حتى الثورة التحريرية الكبرى‪.‬‬
‫لقد أدت هذه اإلجراءات التفكيكية والممارسات القمعية ضد الفالح والبدوي والحضري في الجزائر إلى‬
‫تدمير البنية االجتماعية االقتصادية التقليدية‪ ،‬وانتقال الفرد الجزائري إلى عالم تقسيم العمل الرأسمالي‪ :‬التجاري‬
‫جراء النهب والسلب‬‫أو الصناعي أو الزراعي لدى المعمرين األوروبيين بأجر زهيد‪ ،‬رغم تراكم الرأسمال الكولونيالي ّ‬
‫للثروات الوطنية‪ ،‬هذا اإلجراء لم يسمح باالنتقال إلى تأسيس نظام رأسمالي شبيه باألوروبي يستفيد منه العامل‬
‫الجزائري رغم قلة معارفه وتجربته‪ ،‬وهو ما يبين بوضوح عدم وجود بنية تحتية لالقتصاد الرأسمالي في المستعمرة‬
‫الجديدة إال ما يخدم االقتصاد الموجه للحاجيات الضرورية للمعمرين واألسواق األوروبية كصناعات النبيذ‬
‫(الخمور)‪ ،‬الفحم والمواد االستخراجية األولية‪ ،‬وهي صناعات لم تكن موجهة لخدمة السكان األصليين‪ ،‬بل إن شق‬
‫الطرق وسكة الحديد وبناء الجسور إنما كان لربط المدن األوروبية في الجزائر ببعضها البعض وتسيير نقل المواد‬
‫والمزروعات إلى الموانئ لتصديرها نحو أوروبا‪ ،‬كما دفعت تلك اإلجراءات االقتصادية المتعسفة إلى هجرة آالف‬
‫الجزائريين كعمال بسطاء للعمل بفرنسا في مناجم الفحم وصناعات التعدين وبناء المدن والجسور‪...‬إلخ مقابل‬
‫أجور زهيدة‪.‬‬
‫قابلت هذه اإلجراءات االقتصادية االستعمارية‪ ،‬ردود أفعال جزائرية مقاومة لصد التوسع والزحف‬
‫الكولونيالي على أراضيهم وسلبهم إياها‪ ،‬وأبرز مثال مقاومة المقراني ‪.0320‬‬
‫‪ -4‬ثقافـيا‪:‬‬
‫"شهدت الجزائر قبل الغزو الفرنس ي حياة ثقافية مزدهرة بالعلم وتأليف الكتب وبروز جهابذة من العلماء‪،‬‬
‫الذين أدوا دورا مشرفا في ازدهار الحضارة‪ ،‬وتذكر تقارير قادة االستعمار الفرنس ي أن نسبة األمية تكاد تكون‬
‫منعدمة في أوساط الجزائريين سنة ‪ ،0384‬حيث اندهشوا من كثرة المدارس وحرية التعليم وكثرة المتعلمين ووفرة‬
‫الوسائل من أجل التعلم‪ ،‬كالمداخيل الوقفية‪ ،‬ومحالت األوقاف واألجور العالية‪ ،‬وفي المدن كما في األرياف كان‬
‫التعليم جزءا أساسيا من حياة الناس‪ ،‬وكان المعلم والمتعلم موضع تقدير الجميع‪ ،‬كما اندهش أولئك من وفرة‬
‫المدارس التي كانت ربما تزيد عن نسبة السكان"(‪ ،)14‬هكذا كان المشهد الثقافي للجزائر غداة االحتالل‪ ،‬فقد‬
‫"وجدت فرنسا نفسها وجها لوجه أمام مجتمع حسن التنظيم‪ ،‬له حضارته الخاصة الشبيهة إلى حد ما بحضارات‬
‫البحر األبيض المتوسط "(‪ ، )15‬كما كانت مؤسساته الثقافية والدينية فاعلة في ذلك المشهد‪ ،‬الش يء الذي جعلها‬
‫هدفا للتفكيك االستعماري كباقي مؤسسات المجتمع والدولة في الجزائر‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا‬

‫مارست فرنسا منذ الغزو أعماال تهديمية كبرى للشخصية والهوية الوطنية‪ ،‬وتفتيت مقوماتها‪ ،‬كمحاربة‬
‫الدين اإلسالمي‪ ،‬حيث استولوا "على األوقاف اإلسالمية كما وضعوا أيديهم على المساجد وأغلقوا المدارس‬
‫والزوايا‪ ،‬وشردوا علماء الدين‪ ،‬واضطهدوهم وعزلوهم عن العامة"(‪ )16‬في محاولة لطمس معالم الشخصية الوطنية‪،‬‬
‫واستالب الذهنية ببث فكر وتعليم استعماري غربي جديد‪ ،‬وتمسيخ الهوية عن معالمها األصلية‪ ،‬حيث كثرت أعمال‬
‫التبشير المسيحي التي قادها شارل ال فيجري ‪ Charles Lavigerie‬وشارل دو فوكو ‪ Charles de Foucauld‬في أوساط‬
‫السكان‪ ،‬مع استغالل ظروفهم اإلنسانية الصعبة كالمجاعة والفقر واألمراض المستعصية وحاالت اليتم والتشرد‪،‬‬
‫لذلك فقد نشطت أعمال التفكيك الثقافي بمنع استعمال اللغة العربية وممارسة العبادات الدينية‪ ،‬ذلك ما أدى‬
‫إلى مواجهات ثقافية عنيفة في المدن واألرياف بين المشروع االستعماري الذي يلغي البنى الثقافية والدينية القائمة‬
‫في الجزائر‪ ،‬وبين أصالة ثقافية وطنية تجد سندها في الرموز واألماكن التاريخية المقدسة‪ ،‬والدالالت التعبيرية‬
‫للتراث في األغاني والحرف‪ ،‬والعالقات البينية في المجتمع‪.‬‬
‫كانت تلك المواجهات تدميرية للشكل الثقافي الجزائري‪ ،‬الذي لم يستوعب لحظة "الصدام مع اآلخر"‬
‫المحمل بالعنف في ممارساته إللغاء كل ما هو وطني‪ ،‬وإحالل ثقافته وتراثه وقيمه في المجتمع األهلي ولو بالقوة‪،‬‬
‫بحجة نشر الحضارة الغربية المتفوقة على مثيالتها في العالم‪ ،‬وإن كانت تلك اللحظة لحظة "مكاشفة" بالتعبير‬
‫الصوفي للثقافة الوطنية والتي هي في ظل السيطرة االستعمارية عبارة عن "ثقافة مجمدة تابع االستعمار تحطيمها‬
‫متابعة منظمة‪ ،‬وسرعان ما تصبح مضطرة إلى التخفي والسرية"(‪.)17‬‬
‫ْ‬
‫لقد ادى نشر الثقافة الفرنسية وتفكيك الثقافة الوطنية إلى صراعات كبيرة على مستوى نفسية الفرد‬
‫الجزائري‪ ،‬لتعارض ثقافته المعلمة بالبعد الديني والتاريخي مع ثقافة المحتل التي تدعمت بالمنظور السوسيولوجي‬
‫في البحوث منها االثنوجرافي األنثروبولوجي‪" ،‬كتبرير للسيطرة االستعمارية‪ ،‬عن طريق تقديمه التكوين االجتماعي‬
‫ْ‬
‫الجزائري وكانه من دون تاريخ‪ ،‬وبالتالي جامد‪ ،‬كي ال يكون لالستعمار أية مسؤولية عن جموده‪ ،‬باعتباره حالة‬
‫سابقة عليه‪ ،‬والمالحظ أن هذا المنظور قد ركز في األساس‪ ،‬على دراسة البنى القبلية والدين واللسانيات والثقافة‬
‫الشعبية كمجموعة من الوحدات العمودية المنفصلة والمستقلة ذاتيا‪ ،‬ووظفت االستنتاجات حولها ضمن سياسة‬
‫تعمل على دمجها في بنى تسهل عملية االحتراق وتضمن الوالء لالستيطان"(‪.)18‬‬
‫شجع صدور "المجلة اإلفريقية ‪ "Revue Africaine‬بين ‪ 0691-0319‬الباحثين الفرنسين على طرح‬
‫أفكارهم االستئصالية لعناصر الثقافة الوطنية ورسم صورة مقيتة عن واقع الحياة االجتماعية والثقافية التي‬
‫يعيشها المجتمع الجزائري الواجب تمدينه ونشر الحضارة الغربية المسيحية فيه‪ ،‬كعمل إنساني وحضاري‪ ،‬وواقع‬
‫تلك اإلجراءات هو إيجاد طبقة من المثقفين الجزائريين لخدمة االستعمار وإدارة شؤون األهالي‪ ،‬عن طريق التعليم‬
‫المزدوج في المدارس الفرنسية ألبناء أعوان االحتالل من الجزائريين‪ ،‬كما تم إحداث ثالث مدارس شرعية‪ -‬فرنسية‬
‫في قسنطينة والمدية وتلمسان‪ ،‬تحت إدارة السلطات العسكرية الفرنسية في ‪ 84‬سبتمبر ‪ ،0314‬حيث كانت "تعد‬
‫وسيلة أخرى لتجنيد الجزائريين إلى جانب اإلدارة الفرنسية‪ ،‬فبعد الفراغ الذي خلفه الذين حملوا السالح وقاوموا‬
‫االحتالل أرادت السلطات الفرنسية أن تعلم جيال من أبناء هؤالء ليكونوا لها مطية في تولي الوظائف القضائية‬
‫والدينية"(‪.)19‬‬

‫‪88‬‬
‫سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا‬

‫ارتبط تفكيك االحتالل للمجتمع والدولة في الجزائر باستعمال العنف المفض ي لإلبادة وارتكاب المجازر‬
‫والحرق وتدمير الهوية الثقافية وتشريد السكان وتهجير العلماء‪ ،‬ومحو اآلثار اإلسالمية للتاريخ الوطني‪ ،‬بتدمير‬
‫المساجد والزوايا والسطو على أخرى وتحويلها لمستشفيات وإصطبالت ومراكز جند‪ ،‬مع انتزاع األوقاف لفائدة‬
‫ملكية الدولة الفرنسية وكذا أراض ي الفالحين‪ ،‬حيث لم يبق للجزائريين أمام هذا العنف االستعماري إال التجند في‬
‫حركات مقاومة كتعبير عن فعل جماعي رافض للممارسات االستعمار الفرنس ي‪.‬‬
‫سوسيولوجيا مقاومة االستعمار الفرنس ي‬
‫تأسست مجموعات المقاومة المسلحة في المدن واألرياف في األيام األولى التي أعقبت احتالل الجزائر‪،‬‬
‫وانخرط الجزائريون جماعات وأفرادا فيها‪ ،‬سعيا لتوقيف امتداد االحتالل إلى مناطق أخرى‪ ،‬وأمام تباين القوة بين‬
‫الطرفين‪ ،‬زحفت جحافل الجيوش الفرنسية وترسخ النظام االستعماري ومؤسساته السياسية االجتماعية‬
‫االقتصادية الثقافية والعسكرية‪ ،‬التي تعمل على خدمة االستيطان وتفكيك المجتمع والدولة في الجزائر‪ ،‬لذلك‬
‫كانت الحركات المقاومة كشكل من أشكال التضامن الجمعي الذي دأب السكان على إظهاره في وجه الغزاة وكتعبير‬
‫عن التضامن اآللي الموجود بينهم لدحر المستعمرين‪ ،‬واستمرت تلك الحركات في المقاومة "يحركها السعي الواعي‬
‫والهادف إلى تحقيق المصالح"(‪ )20‬المشروعة لألمة الجزائرية‪ ،‬وهي بهذا تندرج في الحركات الثورية على وجه‬
‫الخصوص‪ ،‬إذ "تتضمن في الغالب ضربا من التنظيم القوي والفعال لألنشطة اإلنسانية لخدمة األهداف‬
‫والمصالح الجمعية"(‪.)21‬‬
‫من هذا المنظور‪ ،‬كان نشوء الحركات المقاومة أمرا طبيعيا وضروريا إلنهاء االحتالل وإعادة وحدة‬
‫المجتمع وتحقيق الدولة‪ ،‬حيث كان االنتماء لحركات المقاومة الشعبية الدافع الوطني‪ ،‬ذلك أن "الجزائريين كانوا‬
‫يشعرون شعورا واضحا‪ ،‬وبحكم الفطرة أنهم يؤلفون كيانا قوميا‪ ،‬وأنه البد من اليقظة الدائمة من أجل الدفاع‬
‫عن وطنهم‪ ،‬وكيف ال يشعرون بذلك‪ ،‬وقد ربطت بينهم أواصر كثيرة وآالم وأمال مشتركة‪ ،‬وأرض ذات حدود‬
‫واضحة"(‪.)22‬‬
‫لم يكن فعل المقاومة الجزائرية منعزال عن العالم الذي عاش فيه الجزائريون‪ ،‬فقد تعددت أنماط‬
‫الثورات في العالم‪ ،‬وظهرت بشكل حديث في القرنين التاسع عشر والعشرين‪ ،‬كالثورة األمريكية ‪ 0229‬والثورة‬
‫الفرنسية ‪ ،0236‬حيث هدفت تلك الحركات الثورية إلى "تحقيق نوع من التحول االجتماعي العلماني والثوري‪ ،‬وقد‬
‫ظهرت هذه الحركات مع ظهور فكرة حقوق المواطنة العامة‪ ،‬جنبا إلى جنب مع مفاهيم المساواة‬
‫والديمقراطية"(‪ ،)23‬ولم يكن ظهور تلك الحركات الثورية بمنأى عن الجزائريين‪ ،‬السيما وأن العالقات التجارية كانت‬
‫نشطة في تلك الفترة مع الدول األوروبية‪ ،‬حيث ألف المفتي محمد بن محمود العنابي كتاب بعنوان "السعي‬
‫المحمود في نظام الجنود"‪ ،‬قبل االحتالل الفرنس ي للجزائر ببضع سنوات‪" ،‬طرح فيه قضية التجديد واألخذ من‬
‫األوروبيين‪ ،‬وكان في ذلك متأثرا بدون شك بأحداث الثورة الفرنسية‪ ،‬وبتطور مصر في عهد محمد علي(‪،)24‬‬
‫لذلك‪ ،‬فقد تعددت الحركات المقاومة لالحتالل الفرنس ي في الجزائر خالل القرنين ‪ 06‬و‪ ،14‬حسب‬
‫خصائصها سواء مسلحة أو سلمية‪ ،‬وإن كان يجمعها هدف واحد هو تحقيق االستقالل الوطني وطرد االستعمار‪،‬‬
‫وإعادة بناء الدولة والمجتمع‪ ،‬وقد انبثقت من تعبئة قادة القبائل والزعماء الدينيين للجماهير‪ ،‬للنضال ضد الغزاة‬

‫‪89‬‬
‫سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا‬

‫الفرنسيين‪ ،‬وقد عبرت المقاومة الشعبية عن حسن تنظيم الفعل المقاوم الجزائري في أرجاء الوطن تحت قيادة‬
‫زعماء ملهمين‪ ،‬ألهبوا الجماهير المناضلة بخطبهم وبشرح أهداف برنامجهم في إطار مقاومتهم لالحتالل‪ ،‬وبحيويتهم في‬
‫الكفاح على األرض رغم التضاريس الوعرة التي تتحرك فوقها القوات‪ ،‬وهي في تحركاتها إنما تندفع بعقيدة وهوية‬
‫وطنية أكسبتها القدرة على الثبات ومواجهة خصمها‪ ،‬لذا فإن التحليل السوسيو‪ -‬تاريخي لهذه الحركات المقاومة‪،‬‬
‫سيعتمد على عينتين هما‪ :‬المقاومة المسلحة لألمير عبد القادر والمقاومة السلمية‪.‬‬
‫‪-29‬المقاومة المسلحة لألمير عبد القادر ‪9341- 9332‬‬
‫أدى سقوط الدولة الجزائرية سنة ‪ 0384‬وتفكك مؤسساتها‪ ،‬إلى مبايعة عبد القادر بن محي الدين يوم‬
‫‪ 0381/00/12‬كقائد وزعيما وطنيا وأميرا على البالد‪ ،‬حيث "كان يتمتع بصفات الزعامة ويمتلئ حماسا وإيمانا‬
‫وشجاعة‪ ،‬فابتدأ عمله ببسط نفوذه على مختلف القبائل وإخضاعها له حتى يواجه الفرنسيين بجبهة قوية‬
‫موحدة"(‪ ،)25‬كانت الجهة الشعبية التي قادها األمير تخزن في شعور األفراد ذكريات الدولة الجزائرية عبر حقب‬
‫التاريخ‪ ،‬لذلك اعتمدت استراتيجيته لتعبئة الجماهير وحثهم على المقاومة‪ ،‬على الحس الديني والوطني‪ ،‬وإقامة‬
‫عالقات اجتماعية وطيدة مع زعماء القبائل والعشائر‪ ،‬حتى يرسخ السلطة السياسية للدولة‪.‬‬
‫اعتمد برنامج األمير عبد القادر ‪ ،‬على وضع أسس وبناء دولة جزائرية حديثة بمؤسساتها القضائية‬
‫والعسكرية واالقتصادية‪ ،‬ناهيك عن التشريعية التي يرأسها األمير‪ ،‬وقد جسدت المقاومة الشرسة التي خاضها‬
‫ضد القوات الفرنسية اعتراف المحتل بدولته‪ ،‬كما نصت معاهدة وادي تافنة (‪ 84‬ماي‪ )0382‬والتي جاء في بنودها‪:‬‬
‫"تعترف فرنسا بإمارة األمير على إقليم وهران‪ ،‬وإقليم تيطري والقسم الذي لم يدخل تحت نفوذ فرنسا في إقليم‬
‫الجزائر من الناحية الشرقية"(‪ ،)26‬وقد تفرغ األمير لبناء الدولة بعد عقد معاهدة السالم‪ ،‬وهو ما سعى إليه بحركة‬
‫المقاومة المسلحة الهادفة لطرد االستعمار‪ ،‬وإن كان هو قائد تلك الحركة التي أثمرت ببناء الدولة‪ ،‬فقد تولى فيها‬
‫"القيادة السياسية والعسكرية‪ ،‬ولم يضع السلطة المطلقة بيده‪ ،‬وإنما جعلها معززة بمجالس شورى وفتوى‬
‫لضبط الخطط والقوانين"(‪ ،)27‬وهو ما يدل على تمسكه بالديمقراطية‪ ،‬كما دعم أسس دولته الفتية ولم يقلد‬
‫األوروبيين في نظام الحكم‪ ،‬وإنما وضع الفكر واألسلوب الجزائري في إرساء قواعد الدولة الحديثة‪" ،‬فنظم جيشه‬
‫ودربه وسلحه‪ ،‬وأنشأ عدة مصانع إلنتاج السالح والمدافع واعتنى بتحصين البالد‪ ،‬وقسم البالد الخاضعة‬
‫"لسلطته" إلى ثماني عماالت عين على كل منها نائب عنه‪ ،‬وبقدر ما اهتم األمير بالجيش وشؤون الحرب أولى عنايته‬
‫كذلك بالشؤون األخرى‪ ،‬فشجع الفالحين على الزراعة ودعا الناس إلى تربية المواش ي وألح على األهالي في أن يهتموا‬
‫بالتعليم"(‪ ،)28‬وراسل ملوك الدول وسالطينها لمساعدته على تحديث دولته وطرد االحتالل الفرنس ي وهو ما يؤكد‬
‫اهتمامه بالدبلوماسية في المجال السياس ي لربط العالقات بين الدول‪ ،‬وجلب المساعدات التي تعين على نهضة‬
‫البالد وتقدمها‪.‬‬
‫كان تأسيس األمير للدولة الجزائرية الحديثة –رغم قصر عمرها‪ ،-‬بالغ األثر في تأسيس الدولة الوطنية‪،‬‬
‫وهو بهذا التفاعل الذي أحدثه بين الفاعلين الجزائريين طوال سنوات نضاله‪ ،‬والذي أسهم في تأجيج روح المقاومة‬
‫المسلحة‪ ،‬إنما عطل المشاريع االستعمارية السيما الرأسمالية الغربية لبضع سنين‪ ،‬كما قدم نموذجا فريدا في‬
‫االجتماع السياس ي بعاصمته المتنقلة من الخيام "الزمالة" التي ضمت ‪ 14444‬ساكن‪ ،‬تفاعلت فيها القوى‬

‫‪90‬‬
‫سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا‬

‫االجتماعية المختلفة والمؤسسة للدولة والمدافعة عنها‪ ،‬من خالل إعادة بناء النظام االجتماعي للقبائل المفككة‬
‫والمهددة استعماريا‪ ،‬وضمان أمنها‪ ،‬وصك العملة للتعامالت االقتصادية وفرض الضرائب وجباية الزكاة وتنظيم‬
‫المعامالت التجارية مع فرنسا وحماية اإلرث الثقافي بتشجيع التعليم‪ ،...‬وهو ما أدى إلى نسج عالقات اجتماعية‬
‫قوية بين أفراد القبائل كأعضاء في حركة األمير الثورية‪ ،‬كما وطد عالقة األفراد بالدولة وقض ى على الفرقة‬
‫والتمذهب وعزز االنتماء لها‪.‬‬
‫لقد كان لعالم األفكار أثر كبير في تجنيد الفاعلين وصياغة عالم األشياء والجغرافية لفائدة المقاومة‬
‫المسلحة‪ ،‬وتجسيد سلطة الدولة وهيبتها‪ ،‬إن عالم األفكار الذي أحاط باألمير ‪ ،‬قد جعل تغيير الذوات وعالم‬
‫األشياء هدفا حيويا لمواجهة قوة فرنسا االستعمارية المتعددة (العسكرية‪ ،‬االقتصادية والحضارية)‪ ،‬والتغيير إنما‬
‫يقع بالفاعلية والتفاعل بين الفاعلين لتحطيم الخوف من اآلخر ومواجهته‪ ،‬وهو ما ثبت في الحالة الجزائرية بعد‬
‫فقد الدولة ووحدة المجتمع وانكفائه إلى أطياف متعددة‪ ،‬حتى لما توحدت جهود التعبئة وبعث مقاومة األمير‬
‫المسلحة‪ ،‬توحدت معها القوى الفاعلة‪ ،‬وفي الواقع السوسيولوجي‪ ،‬تعد تلك المرحلة مرحلة إثبات الذات‬
‫والشخصية الوطنية‪ ،‬في مواجهة شراسة االستعمار وبداية االستيطان األوروبي وانتزاعه ألراض ي وممتلكات األهالي‪.‬‬
‫‪-22‬المقاومة السلمية‬
‫تتعدد أنماط حركات المقاومة السلمية ضد االحتالل الفرنس ي‪ ،‬من حركة اإلصالح الديني‪ ،‬إلى حركة‬
‫العرائض واالحتجاج وصوال إلى الحركة الوطنية السياسية في القرن العشرين‪ ،‬وهو ما يبين حجم التفاعل بين‬
‫مكونات المجتمع الجزائري بهدف طرد المحتل ومقاومة مشاريعه التخريبية للهوية والشخصية الوطنية‪ ،‬لذلك لجأ‬
‫الفاعلون الجزائريون إلى عدة أنماط من الفعل المقاوم األكثر تناسبا في نضالهم ضد االستعمار الغاشم‪.‬‬
‫أ‪-‬حركة اإلصالح الديني‪:‬‬
‫نشأت حركات اإلصالح الديني في بيئة اجتماعية فرضت فيها سلطات االحتالل غزوا معنويا بعد غزوها‬
‫المادي للتراب الجزائري‪ ،‬حيث شنت السيما بعد ثورة المقراني ‪" 0320‬حملة شعواء ضد اللغة العربية وضد‬
‫الشخصية الوطنية التي صقلتها ثورة األمير عبد القادر‪ ،‬فأخذت تضيق على الممارسة ّ‬
‫الحرة للشعائر الدينية‪،‬‬
‫ووضعت األئمة ورجال الدين تحت السلطة المباشرة للسلطات االستعمارية وتصاعدت تدريجيا عملية تفكيك‬
‫المجتمع الجزائري"(‪ )29‬بحمالت التبشير وخطف األطفال وتمسيحهم وتدمير المساجد واالستيالء على األوقاف‬
‫وصياغة معنى جديد للدين اإلسالمي بما يتناسب مع أهداف االحتالل‪ ،‬وذلك بتكوين أئمة في المدارس الشرعية‬
‫الفرنسية‪ ،‬تلك اإلجراءات والعوامل خلخلت البناء االجتماعي‪ ،‬وأثرت على الهوية والثقافة الوطنية‪ ،‬وهو ما دفع‬
‫بالنخب الدينية والمثقفة التجند ضمن حركات إصالحية‪ ،‬بتبني برنامج المقاومة السلمية‪.‬‬
‫نظمت النخبة الدينية الممثلة في القضاة وخريجي المدارس الدينية والزوايا حركات احتجاجية سلمية‬
‫بتعبئة السكان وتجنيدهم لرفض االنخراط في التعليم الفرنس ي والمحاكم اإلدارية للمحتل‪ ،‬حيث اعتبر عدة باحثين‬
‫"هذا الرفض وجها من وجوه المقاومة التي فتح الشعب الجزائري سجله الرافض لسياسة االحتالل االستعماري"(‪)30‬‬

‫ورغم أن تلك المقاومة كانت سلمية في مواجهتها المستمرة مع االحتالل‪ ،‬إال أن رد المستعمر كان قمعيا وعنيفا‪،‬‬
‫حيث تعرضت المساجد إلى الغلق والتهديم‪ ،‬كما خربت الزوايا وتفككت بعض الطرق الدينية كالرحمانية إلى‬

‫‪91‬‬
‫سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا‬

‫مذاهب‪ ،‬والواقع أن عقد الثمانينات من القرن التاسع عشر‪ ،‬شهد حركات مقاومة مستميتة‪ ،‬كرد فعل طبيعي من‬
‫السكان من خالل تجندهم للدفاع عن ذاتيتهم االجتماعية‪ ،‬وأحوالهم الشخصية‪ ،‬وتترجم تلك المقاومة مدى‬
‫ارتباط الجزائري فكريا وشعوريا بواقعه االجتماعي الماض ي والحاضر‪ ،‬الذي يحمل دالالت قيمية عن تاريخه الحافل‬
‫بالمعاني الدالة على حضارته‪ ،‬كما تترجم تلك أفعال المقاومة ضد الغزو المعنوي ومحاولة االجتثاث من كيانه‪،‬‬
‫وهي مقاومة ضمن حركات واسعة بأطياف متعددة ضد خصم إمبراطوري ذو برنامج تدميري للمجتمع والدولة في‬
‫الجزائر‪.‬‬
‫تمعلمت الحركة اإلصالحية كحركة مقاومة إحيائية للذات والهوية الوطنية‪ ،‬من خالل تجنيد زعماء‬
‫الزوايا ألتباعهم وإرسالهم لمختلف أرجاء القطر الجزائري‪ ،‬بأفكار التجديد والمقاومة ضد الممارسات االستعمارية‬
‫الهادفة إلى مسخ الشخصية الجزائرية‪ ،‬وتغيير الواقع االجتماعي لألهالي بنمط حياتي أوروبي‪ ،‬باجتثاثهم من بيئتهم‬
‫االجتماعية الثقافية إلى بيئة غير متصلة في وقائعها بالسابقة‪ ،‬وفي محاولة لتجريد اإلنسان الجزائري من أرضه‬
‫وكينونته وفصله عن شروط بقائه متحدا ومتفاعال مع أمثاله‪ ،‬ودفعه إلى االغتراب وانفصال شخصيته‪ ،‬لذلك ّنمت‬
‫الحركة اإلصالحية‪ ،‬ثقافة المقاومة لمغريات الحياة األوروبية ومظاهرها‪ ،‬وقد دل على ذلك ضعف اإلقبال على‬
‫التعليم الفرنس ي واللجوء للمحاكم االستعمارية‪ ،‬ورفض التجنيد في الجيش الفرنس ي خاصة مع اندالع الحرب‬
‫العالمية األولى‪ ،‬واضطر آالف الجزائريين إلى الهجرة القسرية للبلدان العربية خوفا من تجنيدهم والدفاع عن دولة‬
‫تحتل بالدهم‪ ،‬وقد تجسدت الحركة اإلصالحية في قدرتها على تشخيص الحالة االجتماعية الثقافية الجزائرية‬
‫وتعبئة الرأي العام الوطني ضد اإليحاءات الفرنسية‪ ،‬ذلك أنها تماهت في الشكل الديني حتى العقود األولى للقرن‬
‫العشرين كمنظم ودافع للمقاومة السلمية ضد االستعمار بعد فشل المقاومة المسلحة عموما‪ ،‬و"رغم أن الحركة‬
‫اإلصالحية قد ظهرت في بعض المناسبات كحزب سياس ي معارض‪ ،‬فإنها لم تكتس داللتها التامة إال بوصفها حركة‬
‫مقاومة ثقافية‪ ،‬فمن وراء مطالبها اآلنية ذات الطابع السياس ي أو االجتماعي‪ ،‬مثلت هذه الحركة شيئا أعمق وأبقى‪،‬‬
‫لقد جسدت إرادة الشعب الجزائري المسلم في الحفاظ على الخصائص األساسية لشخصيته الوطنية‪ ،‬بعد أن‬
‫وعت مصير شعبها االستثنائي‪ ،‬ولما كانت ترفض احتمال قيام جزائر فرنسية الروح والثقافة‪ ،‬أعطت الحركة دفعا‬
‫قويا لالنتفاضة الوطنية ضد المسخ الثقافي الذي كانوا يستشرفون دالئله األولى والذين كانوا يخشون عواقبه‬
‫الوخيمة"(‪.)31‬‬
‫ب‪-‬حركة العرائض‪:‬‬
‫يقصد بـ "العريضة" "نص مطلبي من المستهدف أن يتبناه عدد من األشخاص منهم شخص واحد على‬
‫األقل لم تتح له إمكانية تعديله")‪ ،(32‬وهي نمط من الفعل المقاوم لالحتالل ووسيلة احتجاجية سلمية استعملها‬
‫الجزائريون‪ ،‬لتحصيل مطالبهم الوطنية‪ ،‬حيث قدمت عديد العرائض وااللتباسات‪ ،‬إلى رئيس الجمهورية الفرنسية‪،‬‬
‫الحاكم العام بالجزائر‪ ،‬والجمعية العمومية الفرنسية‪ ،‬عن طريق الرسائل‪ ،‬كتيبات‪ ،‬المقاالت الصحافية‪ ،...‬وأمثلة‬
‫ذلك ما قام به حمدان بن عثمان خوجة حينما قدم عريضة احتجاج إلى الجمعية العمومية الفرنسية سنة ‪0388‬‬
‫يدافع فيها عن بلده‪ ،‬ويصف فيها الجرائم التي ارتكبتها القوات الفرنسية مطالبا بلجنة تحقيق‪ ،‬وهو الطلب الذي‬
‫استجابت إليه الجمعية‪ ،‬إضافة للمكي بن باديس وعريضة األمير خالد للرئيس األمريكي ولسون نهاية الحرب‬

‫‪92‬‬
‫سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا‬

‫العالمية األولى(المطالبة بالحقوق والمساواة واالندماج مع المعمرين‪ ،‬وباإلصالح الديني واالجتماعي ورد االعتبار‬
‫للشخصية الوطنية والمطالبة كذلك باالستقالل الوطني عن طريق الجمعيات والنوادي واألحزاب الوطنية)‪.‬‬
‫اعتمدت النخبة المثقفة الوطنية في برنامج مقاومتها السلمية على الكتابات األدبية والصحفية ورسائل‬
‫االحتجاج والعرائض وتقديمها للسلطات االستعمارية‪ ،‬وقد برز حمدان بن عثمان خوجة والمفتي ابن العنابي في‬
‫بداية االحتالل بنشاطهما التعبوي واحتجاجهما ضد اإلجراءات االستعمارية‪ ،‬مما كلفهما النفي خارج البالد‪ ،‬كما‬
‫اعتمد المكي بن باديس الذي تولى القضاء في قسنطينة ما بين سنوات ‪ 0329 -0319‬في مواجهة االستعمار ‪ ،‬على‬
‫العرائض ورسائل االحتجاج‪ ،‬وبرز خطيبا "سياسيا وداعيا صحفيا‪ ،‬وكان من القالئل الذين تفطنوا ألهمية‬
‫الصحافة واإلشهار في خدمة القضية"(‪ ،)33‬وقد استغل عمله كقاض ي حتى يعارض إجراءات اإلحتالل ويؤلب السكان‬
‫على الفرنسيين من خالل خطبه فيهم وكتاباته‪ ،‬والتي تعد تعبئة للرأي العام وإثارة لمشاعر الرفض للقوانين‬
‫المجحفة‪.‬‬
‫ومن الكتيبات التي نشرها المكي بن باديس سنة ‪ 0321‬ذلك العمل الذي سماه (بيان القوانين الردعية‬
‫المطبقة على اللصوص في األرياف الجزائرية)‪ ،‬وكان يريد به الدفاع عن الشريعة اإلسالمية والمطالبة بتطبيقها على‬
‫األهالي الذين يرتكبون المخالفات بدل تطبيق قانون األهالي االستثنائي الذي كان من وضع المستوطنين الفرنسيين‪،‬‬
‫كما طالب ابن باديس بإحالل الشريعة محل قانون األهالي بعد أن رأى فشل نابليون في تطبيق مرسوم ‪0399‬‬
‫الخاص بالقضاء")‪(34‬‬

‫شجعت التعبئة المعنوية للفاعلين االجتماعيين على بروز حركة مقاومة سلمية في قسنطينة‪ ،‬السيما وأن‬
‫الفرنسيين أصدروا في ‪ 04‬سبتمبر ‪" 0339‬مرسوما جديدا حول القضاء اإلسالمي‪ ،‬أبطلوا فيه بالخصوص دور‬
‫القضاة المسلمين في المسائل العقارية‪ .‬وقد اتهم القضاة المسلمون بأنهم عطلوا قصدا تطبيق قانون األرض سنة‬
‫‪ ،0328‬وهو القانون الذي اعتبره القضاة المسلمون بالفعل معطال لهم‪...‬ونتج عنه ضرر كبير ألبناء جنسهم‪ ،‬ونتيجة‬
‫لذلك قدم أهل قسنطينة إلى السلطات الفرنسية عريضة في سنة ‪ 0332‬تطالب بإلغاء المرسوم المذكور والرجوع‬
‫إلى مرسوم ديسمبر ‪(.35"0399‬من ما بين ما جاء به هذا المرسوم هو إحالل قاض ي الصلح محل القاض ي المسلم في‬
‫الحكم بالشريعة اإلسالمية إذا رض ي الخصمان بذلك‪ ،‬أي عدم ضرورة المحاكم اإلسالمية)‪.‬‬
‫لقد شجع أسلوب العرائض نخب المجتمع الجزائري على مقاومة إجراءات االستعمار الفرنس ي‪ ،‬وأسهم في‬
‫فعالية المقاومة السلمية‪ ،‬من خالل رفض الممارسات التمييزية والعنصرية ضد الجزائريين‪ ،‬كما وحدت الفعل‬
‫الجماعي المقاوم لمخططات اإلدارة االستعمارية في فرض القوانين التعسفية عليهم‪ ،‬وهو ما أنتج أسلوبا جديدا‬
‫للمقاومة تمثل في نشوء الحركة الوطنية بجمعياتها وأحزابها ونواديها‪.‬‬
‫ج‪ -‬نشوء الحركة الوطنية‪:‬‬
‫إن التحليل السوسيولوجي للحركة الوطنية هو تحليل لمقاومة المجتمع الجزائري عبر نخبه المثقفة‬
‫خصوصا‪ ،‬والتي قاومت سلميا مع مختلف فئات الجزائريين االحتالل الفرنس ي‪ ،‬وهو تشريح كذلك للوضع االجتماعي‬
‫االقتصادي للطبقة الكادحة المهاجرة في فرنسا من الجزائريين الذي فقدوا أمالكهم بوطنهم‪ ،‬واضطرتهم الحاجة‬
‫المادية إلى العمل في مصانع الفحم وبناء المدن األوروبية وغيرها‪ ،‬فالحركة الوطنية‪ ،‬هي تلك التيارات السياسية‬

‫‪93‬‬
‫سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا‬

‫والنقابية والجمعيات الدينية اإلصالحية‪ ،‬التي استبدل بها المجتمع الجزائري مقاومة االستعمار الفرنس ي بعد فشل‬
‫المقاومات المسلحة خالل القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين‪.‬‬
‫لقد كان نشوء الحركة الوطنية كامتداد للمقاومة الشعبية لالحتالل‪ ،‬منذ العقد الثامن من القرن التاسع‬
‫عشر‪-‬كما سبق‪ -‬مع النشاط السياس ي للمكي بن باديس الذي استفاد "من وسائل جديدة للدفاع عن المصالح‬
‫الجزائرية وخصوصا النشرات المطبوعة"(‪ ،)36‬التي نشرها في الوسط الجزائري وأمام رجال السياسة الفرنسيين‪ ،‬إذ‬
‫أن ممارسة االحتجاج بالعرائض والرسائل السياسية‪ ،‬قد بلور الفكر التحرري في برنامج الحركة الوطنية رغم قمع‬
‫االحتالل الذي عبر عنه "النضال السياس ي في األحزاب السياسية‪ ،‬الجمعيات النقابية‪ ،‬الصحافة والمظاهرات‬
‫والفضل في ذلك أوال للمهاجرين الجزائريين في فرنسا الذين استطاعوا أن يتعرفوا من خالل اختالطهم بالمجتمع‬
‫الفرنس ي على التحوالت الكبرى السياسية االقتصادية واالجتماعية عبر العالم"(‪ ،)37‬خاصة بعد انتشار األفكار‬
‫الماركسية التحررية عقب نجاح الثورية البلشفية سنة ‪ 0602‬وتكون األحزاب الشيوعية واستقطاب الحركات‬
‫العمالية‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬من الممكن القول "بأن السياسة االستعمارية في الجزائر قد خلقت شروط نشأة الحركة الوطنية‬
‫وتطورها وحولت مطالبها من إصالحات اجتماعية إلى المطالبة باالستقالل الكامل"(‪ ،)38‬وقد تكرست تلك‬
‫اإليديولوجية رغم عدم تجانس أعضاء الحركة الوطنية واختالف برامجهم‪ ،‬كاالندماجيون واإلصالحيون ودعاة‬
‫االستقالل الوطني‪.‬‬
‫لقد استمرت الحركة الوطنية في المقاومة السلمية‪ ،‬بتكون عديد األحزاب والجمعيات والنوادي‪ ،‬وهي‬
‫كامتداد للمقاومة الشعبية قد كرست فعل المقاومة والنضال لتحقيق االستقالل الوطني وإعادة بناء الدولة‬
‫الجزائرية‪.‬‬

‫الخاتمة‪:‬‬
‫إن عملية إنتاج فعل المقاومة من طرف الفاعلين الجزائريين على الرغم من عدم اهتمامهم بنتائج الفعل‪،‬‬
‫قد كشفت عن عبقرية فذة تجلت في رواسب المقاومة المتجذرة في نفسية المجتمع‪ ،‬والتي انبثقت عنها مشتقات‬
‫الفعل المقاوم ضد االحتالل الفرنس ي‪ ،‬بتفاعل جمع أطياف المجتمع بنخبه المثقفة وطبقاته الكادحة وفئاته‬
‫الشابة‪ ،‬تفا عل اتسم بالحكمة والقوة ضد مستعمر غاشم‪ ،‬سلب الهوية الوطنية ومسخ الشخصية الجزائرية‪ ،‬وأباد‬
‫الماليين من الجزائريين‪ ،‬لتثبيت وجوده‪ ،‬فكان السؤال المهم‪ :‬من أين أتى الجزائريون بتلك الدافعية للمقاومة؟‪.‬‬

‫إن اإلجابة على التساؤل الذي طرحناه توا‪ ،‬يجعلنا نركز على السيكولوجيا‪ ،‬أي على سلوك الفاعلين‬
‫االجتماعيين الذي توحد بعد اإلدراك الكبير لمعنى الحرية والوطن‪ ،‬لذلك لم تكن التضحيات التي قدموها كنتيجة‬
‫غير متوقعة للفعل المقاوم مهمة‪ ،‬بالنظر لما سيتم تحقيقه من نصر على العدو واسترجاع لما سلب منهم‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫‪ - 1‬غدنز‪ ،‬أنتوني‪ ،‬ترجمة د‪.‬فايز الصياغ‪ ،‬علم اإلجتماع (بيروت‪ :‬المنظمة العربية للترجمة‪،‬ط ‪)0،1441‬ص ‪.29‬‬
‫‪ - 2‬فياللي‪ ،‬صالح‪ ،‬إيديولوجيات الحركة الوطنية في ‪ :‬سليمان رياش ي و آخرون‪ ،‬األزمة الجزائرية‪ :‬الخلفيات السياسية واالجتماعية واالقتصادية والثقافية‬
‫( بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية ‪،‬ط ‪ )0666 ،1‬ص ص ‪.03 -02‬‬
‫‪ -3‬د‪ .‬يزلي ‪،‬عمار ‪ ،‬سوسيوجيا المقاومة الثقافية لالحتالل مدخل تاريخي لفهم البنية الذهني‪ ،‬مجلة الحضارة اإلسالمية‪ ،‬عدد ‪ 6‬رقم ‪ .01‬ص ص ‪-082‬‬
‫‪.083‬‬
‫‪ -4‬نايت بلقاسم‪ ،‬مولود قاسم‪ ،‬مفاهيم وصيغ خاطئة عن تاريخنا‪ ،‬في‪ :‬الثقافة‪-‬مجلة السنة ‪ 09‬العدد ‪( 60‬الجزائر‪ :‬المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية‪،‬‬
‫‪ )0639‬ص ‪.16‬‬
‫‪ -5‬نايت بلقاسم‪ ،‬مولود قاسم‪ ،‬شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل سنة ‪0384‬جزء ‪ ( 1‬الجزائر‪ :‬دار األمة ط ‪ )1442 ،1‬ص ‪.160‬‬
‫‪ - 6‬الهرماس ي‪ ،‬محمد عبد الباقي‪ ،‬المجتمع والدولة في المغرب العربي (بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬ط ‪ )8،0666‬ص‪.01‬‬
‫‪ - 7‬سعد الله‪ ،‬أبو القاسم‪ ،‬أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر (الجزائر‪ :‬الشركة الوطنية للنشر والتوزيع‪ )0623 ،‬ص ‪.21‬‬
‫‪ - 8‬عدي‪ ،‬الهواري‪ ،‬ترجمة جوزيف عبد الله‪ ،‬االستعمار الفرنس ي في الجزائر‪ :‬سياسة التفكيك االقتصادي‪-‬االجتماعي ‪ ( 0694-0384‬بيروت‪ :‬دار الحداثة‪،‬‬
‫ط ‪ )0638 ،0‬ص ‪.23‬‬
‫‪ - 9‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪.26‬‬
‫‪ -10‬ذياب‪ ،‬محمد حافظ‪ ،‬علم االجتماع في الجزائر‪ :‬الهوية والسؤال‪ ،‬في سليمان الرياش ي وآخرون‪ ،‬األزمة الجزائرية‪ :‬الخلفيات السياسية واالجتماعية‬
‫واالقتصادية والثقافية (بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬ط‪ )0666 ،1‬ص ‪.841‬‬
‫‪ -11‬بوكراع‪ ،‬لياس‪ ،‬ترجمة‪.‬أ‪.‬د‪.‬خليل أحمد خليل‪،‬الجزائر‪ ،‬الرعب المقدس (الجزائر‪ :‬المؤسسة الوطنية لالتصال والنشر واإلشهار‪،‬ط ‪)00،1448‬ص ‪.16‬‬
‫‪ -12‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪ -13‬الهواري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.042‬‬
‫‪ -14‬سعد الله‪ ،‬أبو القاسم‪ ،‬تاريخ الجزائر الثقافي الجزء الثالث ‪( 0610 -0384‬الجزائر‪ :‬دار البصائر‪ )1442 ،‬ص‪.06‬‬
‫‪ -15‬األشرف‪ ،‬مصطفى‪ ،‬ترجمة د‪.‬حنفي بن عيس ى‪ ،‬الجزائر‪ :‬األمة والمجتمع (الجزائر‪ :‬دار القصبة للنشر‪ )1442،‬ص‪.10‬‬
‫‪ -16‬دبوز‪ ،‬محمد علي‪ ،‬نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة الجزء األول (الجزائر‪ :‬وزارة الثقافة‪ )1442،‬ص ‪.11‬‬
‫‪ -17‬فانون‪ ،‬فرانتز‪ ،‬ترجمة د‪.‬سامي الدروبي ود‪ .‬جمال األتاس ي‪ ،‬معذبو األرض (الجزائر‪ :‬طبعة خاصة وزارة المجاهدين‪ )1440،‬ص ‪.190‬‬
‫‪ -18‬ذياب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.840‬‬
‫‪ -19‬سعد الله‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪820‬‬
‫‪ -20‬غدنز‪ ،‬أنتوني‪ ،‬ترجمة د‪.‬فايز الصياغ‪ ،‬علم اإلجتماع (بيروت‪ :‬المنظمة العربية للترجمة‪،‬ط ‪)0،1441‬ص ‪.211‬‬
‫‪ -21‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪.219‬‬
‫‪ - 22‬األشرف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.43‬‬
‫‪ -23‬غدنز‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.218‬‬
‫‪ -24‬سعد الله‪ ،‬أبو القاسم‪ ،‬تاريخ الجزائر الثقافي‪ ،‬الجزء األول ‪( 0384-0144‬الجزائر‪ :‬دار البصائر‪ )1442،‬ص ‪.011‬‬
‫‪ -25‬يحي بوعزيز‪ ،‬ثورات الجزائر في القرنين التاسع عشر والعشرين الجزء األول‪ :‬ثورات القرن التاسع عشر (الجزائر‪ :‬منشورات المتحف الوطني للمجاهد‪،‬‬
‫ط‪ )0669 ،1‬ص‪.89‬‬
‫‪ -26‬نفس المرجع‪ ،‬ص‪.00‬‬
‫‪ -27‬األميرة بديعة الحسني الجزائري‪ ،‬األمير عبد القادر‪ :‬حقائق ووثائق بين الحقيقة والتحريف (الجزائر‪ :‬دار المعرفة‪ )1443 ،‬ص ‪.81‬‬
‫‪ -28‬بوعزيز‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.00‬‬

‫‪95‬‬
‫سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا‬

‫‪ -29‬الراس ي‪ ،‬جورج‪ ،‬الدين والدولة في الجزائر من األمير عبد القادر إلى عبد القادر (الجزائر‪:‬دار القصبة للنشر‪ )1443 ،‬ص‪.36‬‬
‫‪ -30‬حمادي‪ ،‬عبد الله‪ ،‬الحركة الطالبي ـة الجزائري ـ ـ ـ ـ ـة ‪ 0691-0320‬مشارب ثقافية وإيديولوجية (الجزائر‪ :‬المؤسسة الوطنية للنشر واإلشهار ‪ )0661 ،1‬ص‬
‫‪.01‬‬
‫‪ -31‬مراد‪ ،‬علي‪ ،‬ترجمة‪ :‬يحياتن‪ ،‬محمد‪ ،‬الحركة اإلصالحية اإلسالمية في الجزائر من ‪ 0604-0611‬بحث في التاريخ الديني واإلجتماعي (الجزائر‪ ،‬دار‬
‫الحكمة‪ )1442 ،‬ص ‪.182‬‬
‫‪ -32‬سيسيل بيشو ‪ ،‬أوليفيه فيليول وليليان ماتيو‪ ،‬ترجمة عمر الشافعي‪ ،‬قاموس الحركات االجتماعية‪ ،‬دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ )1402 ،‬ص ‪.022‬‬
‫‪ -33‬سعد الله‪ ،‬أبو القاسم‪ ،‬تاريخ الجزائر الثقافي‪ ،‬الجزء الرابع ‪( 0610-0384‬الجزائر‪ :‬دار البصائر‪ )1442 ،‬ص ‪.091‬‬
‫‪ -34‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪.090‬‬
‫‪ -35‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪.091‬‬
‫‪ -36‬كريستلو‪ ،‬آالن‪ ،‬المكي بن باديس وبعض نواحي الحركة الوطنية الجزائرية في القرن التاسع عشر‪ ،‬في مجلة الثقافة‪ ،‬السنة ‪00‬عدد‪( 90‬الجزائر‪:‬‬
‫الشركة الوطنية للنشر والتوزيع‪ )0630 ،‬ص ‪.02‬‬
‫‪37‬‬
‫‪- Amour, Amar, Résumé de l’histoire de l’Algérie (Algérie : Edition RAIHANA, 2007) p, 235.‬‬

‫‪ -38‬فياللي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.06‬‬

‫‪96‬‬

You might also like