Professional Documents
Culture Documents
توطئة :
خالل تاريخ هذه البالد تفاعلت عناصر عدة في تشكيل هويتها الخاصة ،بداية
من السكان األصليين من األفارقة والبربر ،ثم جاء اإلسالم إلى هذه البالد فدخل فيه
هذان العنصران بشكل شبه كامل على مراحل تاريخية مختلفة ،ثم جاءت هجرة
القبائل العربية القادمة من الشمال وانتشرت في مختلف أرجاء هذه البالد ناشرة
ثقافتها ولغتها فتعرب العنصر البربري واختفت لغته الحقا إال في مناطق محدودة
ج ًدا ،كما انتشرت الثقافة العربية اإلسالمية في أوساط القبائل اإلفريقية ،وصارت
لغة الثقافة في معاقل هذه القبائل هي اللغة العربية وكتابات أهلها إما باللغة العربية
أو بحروفها.
عناصر السكان:
رغم تعدد العناصر السكانية في هذه البالد ،فقد دأب دارسو تكوينات المجتمع
فيها على تقسيم سكانها تقسيما وظيفيا لكن هذا التقسيم ال يخدم ما نحن بصدد مناقشته
فمن هنا قسمناه تقسيما لغويا أو ثقافيا ،حيث يمكن إجمال هذه المكونات على األقل
في مرحلة من المراحل في تكوينات ثالث رئيسية هي المكون اإلفريقي والمكون
األمازيغي والمكون العربي ،وهذه المكونات وإن تعددت فإنها بطريقة أو بأخرى
()1
يجمعها نسيج ثقافي واحد.
( )2نصر السيد نصر(مشرفا) :الجمهورية اإلسالمية الموريتانية ،دراسة مسحية ،نشر المنظمة العربية
للتربية والثقافة والعلوم ، 1978ص .454
( )3على بكر سيسي :تاريخ المجتمع السوننكي في موريتانيا ،مطبعة طوب بريس ،الرباط المغرب،
الطبعة األولى ، 2012ص .116
( )4أبوبكر خالدو با :حركة الفالح للتربية والثقافة اإلسالمية ( الحاج محمود با ) نسخة مصورة لدى
حفيد الحاج محمود با ،نواكشوط ، 2016ص .2
216
هوية بالد �شنقيط (موريتانيا) قبل اال�ستقالل �سنة 1960
بلدان إفريقية مثل مالي وغينيا وساحل العاج وغيرها ،وتطلق عليهم أسماء مختلفة
في غرب إفريقية فهم يسمون ماركا في السودان الغربي (مالي) ودياكانكي في
غينيا.
ويرى بعضهم أن أصولهم تعود إلى حكام امبراطورية غانا القديمة ويستندون
في هذا إلى أمور متعددة منها أنهم يسكنون بالفعل في مناطق هذه اإلمبراطورية
()5
إضافة إلى أنهم اعتنقوا اإلسالم قبل غيرهم من القبائل.
ورغم ما يشاع في بعض األوساط من تقوقع للمجتمع السوننكي على نفسه
إال أن كثيرا من الدالئل توحي أن هذه الشريحة من أكثر مكونات البلد انفتاحا على
اآلخر ،ففي مجال المصاهرة من النادر أن تجد قرية سوننكية إال وفيها امرأة فالنية
()6
أو بيظانية أوولفية وفي نفس الوقت تكون أحيانا ضرة لسونونكيات.
ومما يفند هذا الزعم أيضا أن عددا معتبرا من أبناء هذا المكون خصوصا كتلة
كيدي ماغة منه وهي األكبر بين كتل الشريحة في البالد ،فضلوا الهجرة إلى فرنسا
وغيرها من الدول الصناعية للعمل وإن ظلوا مرتبطين بواليتهم من خالل اإلمدادات
والمعونات التي يرسلونها إلى قراهم ،ومن خالل ترددهم الدائم في اإلجازات عليها،
()7
وتمثل تحويالتهم المالية دخال مهما لهذه المنطقة إلى جانب الزراعة والتنمية.
وتنتشر اللغة السوننكية في مناطق انتشار هؤالء ،وتتفرع هذه اللغة من لغة
المانديقي ،وهي باقية رغم ما طرأ عليها من تطور ،وهي قريبة من المانديقي التي
تعتبر اللغة األم لها ،لكنها خضعت ككل اللغات الزنجية اإلفريقية إلى تأثير العربية
والفرنسية ولكنها لم تتعرض لنفس التغييرات في نحوها ،وقد قاومت أيضا كل
()8
استيعاب من طرف اللهجات الزنجية المحلية األخرى.
217
ال�شيخ حماه اهلل
الولوف:
وأخيرا هناك جماعة الولوف وهي أقل الجماعات اإلفريقية الثالث الرئيسية
()9
عددا وهي المجموعة األساسية في السنغال المجاور.
وال تختلف هذه الفئة عن الفئات اإلفريقية األخرى في كونها لها لغتها الخاصة
بها وتنتشر هذه اللغة في المناطق المحاذية لنهر السنغال وهي اللغة اإلفريقية األكثر
انتشار في السنغال وغامبيا المجاورتين ،وتشير شهادات شفوية إلى أن هذه اللغة
()10
كانت مستعملة من طرف السكان منذ تاريخ يسبق تاريخ انتشارهم في موريتانيا.
بينما يرجع بعضهم نشأة هذه اللغة إلى عهد أمير قوي من أمرائهم يدعي نداديان
انجاي ،فقد سعى إلى توحيد اللهجات اإلفريقية الكبيرة في لغة ذات جذور عربية
فكانت الولفية ولذا كان نحو نصفها ذا أصل عربي إال أن تحريفا كبيرا أدرك جلها.
()11
وال تختلف هذه المجموعة عن سابقتها السراغولي في الميل نحو الوحدة.
المكون األمازيغي (صنهاجة أو البربر) :
هؤالء من أقدم سكان البالد حيث قدمت هذه القبائل إلى اإلقليم ضمن هجرة
قبائل البربر التي غادرت إفريقيا الشمالية خالل القرن الثالث الميالدي وتوجهت
نحو الغرب وبدأت احتالل الصحراء من الشمال ،إال أن بدايات هذه الهجرة كانت
()12
موغلة في القدم أي قبل الميالد.
ولقبائل البربر الفضل األول في نشر اإلسالم بين القبائل اإلفريقية وقد حمل
لواء نشره قبائل صنهاجة التي اعتنقت اإلسالم في القرن العاشر الميالدي ،ويسكن
أفرادها ديار الصحراء الممتدة من موريتانيا إلى جبل حجار وإلى الجنوب إلى حدود
السودان الغربي ،وكانت موريتانيا هي الجسر الذي عبر عليه مسلمو شمال إفريقية
()13
ليصلوا لزنوج غربها في أثناء دعوتهم اإلسالمية األولى في هذه البالد.
وتتكلم هذه القبائل اللغة األمازيغية التي تسمى محليا «كالم أزناكة» وال تزال
تتكلمه قلة قليلة جدا من زوايا الترارزة ،وهو نوع من أنواع البربرية المغربية
وموافق للسان الشلحي ويختلف عنه اختالفا قليال كما بين لسان الترك والتتر «فإنا
()14
رأيناهم في سوسة يتفاهمون من أول وهلة.
لكن أهل هذه اللغة وتحت عوامل كثيرة اجتماعية وسياسية تخلوا عن لغتهم
تقريبا وتعربوا كما حصل في أماكن أخرى كثيرة من العالم اإلسالمي فاختفت اللغة
البربرية بشكل تدريجي من الساحة اللغوية الموريتانية ،تحت تأثير الضغط القوى
الذي سلطته عليها العربية ،وقد كان هذه االندماج قويا بحيث يكاد ال يوجد في
()15
موريتانيا اآلن متحدث بالبربرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
المكون العربي:
بعد مراحل عديدة من الهجرة استقر المقام أخيرا بقبائل حسان في بالد شنقيط
في بداية القرن الخامس عشر الميالدي فاتخذوها لهم وطنا.
وكان لحسان ثالثة أبناء هم دليم وودي وجم فاستقر دليم وأبناؤه وأتباعه
وذراريهم في منطقة وادي الذهب وعلى ساحل األطلسي ،وانتشر ودي وقومه في
بالد شنقيط إلى أطراف السودان ،وكان جم وقومه في قلب الصحراء من إكيدي
()16
إلى نهر النيجر.
وبنو حسان هؤالء من البدو المحاربين وهم وإن كانوا قليلي العدد إال أنهم
أخضعوا البربر وفرضوا عليهم سلطانهم وغيروا أحوالهم االجتماعية وهم من
العرب الساميين ،وقد اكتسبوا اسمهم من أحد أجدادهم المسمى حسان وهم من نسل
معقل إحدى القبائل العربية الكبيرة التي نزلت الشمال اإلفريقي في القرنين الحادي
()17
عشر والثاني عشرالميالديين .
وقد احتكرت قبائل حسان هذه العروبة لنفسها ولم يسمحوا منذ البداية بها
لغيرهم ،ومع مرور الزمن اندمجت المجموعات الحسانية المهاجرة مع السكان
المحليين إلى حد كبير ،فأصبحت العروبة ال تمثل عنصرا أو ساللة وإنما تمثل
معنى وقيما للبطولة والتضحية والشهامة وصارت كلمة حسان في أحيان كثيرة
تطلق على كل من يحمل السالح سواء كان من القبائل العربية الحسانية أومن قبائل
()18
صنهاجة.
رغم تعدد العناصر السكانية في بالد شنقيط أوأرض الملثمين إال أنه كانت
ثمت قواسم مشتركة منذ قرون طويلة في المجال الثقافي الناظم للهوية بين مختلف
المكونات السكانية في هذا المجال الصحراوي الشاسع الذي عرف على مدار تاريخه
بأسماء متعددة مثل صحراء الملثمين وبالد المرابطين وبالد التكرور وبالد شنقيط
()19
وتراب البيظان
تعدد هذه العناصر أدى بطبيعة الحال إلى مشاركة قوميات ومكونات عديدة
في كتابة تاريخ هذه البالد محافظة على هويته الغنية بروافدها العربية واإلفريقية
()20
والقوية بتجذرها في ثقافتها االسالمية
حالة من التنوع السكاني تجعل هذه البالد تكاد تنفرد به بين جيرانها سواء من
حيث الخواص العرقية أو الخواص الثقافية ،حيث نجد الخواص العرقية العربية
ذات البعد الثقافي العربي إلى جانب الشعوب اإلفريقية بخواصها الثقافية الخاصة
بها ،إضافة إلى البعد األمازيغي ،لكن لموريتانيا في حالة هذا األخير خصوصية
وهي أنه تقريبا اختفى تماما عكس جارتيها الشماليتين الجزائر والمغرب.
وبناء على هذا فقد درج بعض الباحثين إلى تقسيم سكان موريتانيا حسب اللون
إلى بيظان وسودان ،وحقيقة األمر أن اللون ليس هو األساس في هذا التقسيم
ألن مسمى البيظان كان يطلق حتى في المصادر العربية على الذين يتكلمون
العربية من عرب أوبربر أوزنوج اندمجوا في مجتمع البيظان بينما وصف سودان
كان يطلق على المتحدثين باللغات اإلفريقية المختلفة(.)21
ولم تكن الجيرة بين هذه المجموعات وليدة الفترة الحديثة وباألخص المجموعتين
اإلفريقية والبربرية بل إنه مستمر منذ العهد الحجري القديم ،فقد كان في المنطقة
تجاور بين مجموعتين سكانيتين مختلفتين ،إحداهما مجموعة قوم بيض قادمة من
شمال إفريقية واألخرى قوم سود أو ضاربون إلى السواد تعود أصولهم إلى المنطقة
المدارية الرطبة.
ولم يفتأ الخط الفاصل بين المجموعتين يبتعد جنوبا مع الزمن تبعا للتحوالت
المناخية المستمرة والمتسمة بتقلص الرطوبة والخصوبة في وجه الصحراء الزاحفة
من الشمال وكذلك بتأثير العوامل التاريخية المنجزة جراء االحتالل الروماني
()22
للشواطئ الشمالية من إفريقية والدافع بموجات من سكانها اتجاه الجنوب
لكن هذا الحد الفاصل بين المجموعتين أخذ في التقلص مع دخول اإلسالم إلى
هذه البالد ثم هجرة القبائل العربية إليها ليتولد عن هذا ما يشبه النسيج الثقافي الواحد
فكان تأثير اللغة العربية كبيرا على السكان األصليين للمنطقة بربرا كانوا أم زنوجا.
ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن هناك من الباحثين من فضل نعت هذا التأثير
(21) Ahmed Baba Miske :Al wasit ,Tableau de la Mauritanie au debut de XXe siecle ,
Mémoire Dakar19667 , page 27 .
( )22أحمد ولد الحسن :الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر ،مساهمة في وصف األساليب ،منشورات
جمعية الدعوة االسالمية العالمية ،الطبعة األولى ، 1995ص .38 – 37
221
ال�شيخ حماه اهلل
بكلمة التعرب ال التعريب ألن القبائل المسيطرة لم تبذل جهدا منظما لتعريب
()23
مواطنيها
وتعود بداية انتشار اللغة العربية في المنطقة إلى نهاية القرن السابع الهجري
مع بداية دخول اإلسالم في الصحراء ،وهي ما يطلق عليها مرحلة التعرب الرسمي
وتعني أن شيوع اللغة العربية الفصحى قراءة وكتابة وتخاطبا ظل محدودا بين
األوساط األرستقراطية الصنهاجية ثم امتد الحقا بين أطرافها والدائرين مباشرة
في فلكها ،وقد تميزت هذه الفترة بأن التعرب فيها حصل بإرادة صنهاجية دون أن
يكون حصل من متغلبين عربا.
وفي هذه الفترة تزحزحت الصنهاجية بقدر بسيط لحساب العربية على مستوى
الطبقة األرستقراطية وكان ذلك تمهيدا للفترة الالحقة من التعرب الكلي مع هجرة
القبائل العربية والتي ما كانت لتعطى نتائجها على نحو ما حصل لوال هذه الفترة
التمهيدية األولى (.)24
وكان لهجرة هذه القبائل العربية دور كبير في تغيير النسيج الثقافي لهذه البالد
رأسا على عقب حيث كانت السبب الرئيس في تغيير الخصائص القومية األمازيغية
وأصبح الكل مطالبا باإلندماج في وحدات اجتماعية من نوع جديد فعلى المستوى
اللغوي مثال بدأت األسماء القديمة في اإلندثار لتحل محلها تسميات عربية أمازيغية.
هذا التفاعل االجتماعي الثقافي أدى إلى تعرب القبائل األمازيغية بشكل
متفاوت ،فال الصفات البدنية وال أنماط العيش وال اللغة تؤهل اليوم لتمييز األمازيغ
عن العرب ،كما أن االستعمال اللغوي وحده ال يدل بأي حال من األحوال على
()25
االنتماء إلى إحدى المجموعتين.
لكن بعد مسار تاريخي معقد نشر بنو حسان لهجتهم العربية الملحونة
«الحسانية» على كافة بوادى ومدن المجال الشنقيطي ،حيث اختفت تقريبا اللهجات
األمازيغية بربرية خالصة مثل الصنهاجية أو بربرية سودانية مشتركة مثل اللهجة
المسماة كالم آزير ،وهي مزيج من السوننكية والصنهاجية ازدهر في مدن الساحل
الموريتاني على طريق الملح بين بالد السودان جنوبا وبالد الصحراء شماال وبالد
الحوض في الجنوب الشرقي صعودا إلى آدرار في الشمال الموريتاني حاليا إبان
ازدهار التجارة بين تجار الذهب السوننكيين والحمالين المسوفيين ،وقد كان هذا
اللسان واضحا في تيشيت وودان وشنقيط وتراجعت كذلك لغة السنغاي التي كانت
()26
رائجة في والتة في عهد الرحالة الحسن الوزان في القرن ال 16الميالدي.
ولم يكن هذا التفاعل اإليجابي مع الوافد الجديد مؤثرا فقط على النسيج الثقافي
األمازيغي بل امتد تأثيره إلى المكونات الثقافية األخرى المتواجدة على أديم هذه
البالد ،وساعده في هذا بشكل أساسي كون هذا النسيج الثقافي الجديد هو الوعاء
الثقافي للدين اإلسالمي الجامع لكل هذه المكونات حيث صارت اللغة العربية تؤدي
دورا توحيديا في مجتمع كان يعاني تعددية لهجية عميقة بعضها لهجات أمازيغية
قريبة من التاريقية وبعضها اآلخر مختلط باللهجات اإلفريقية كلهجة السوننكي
()27
والبعض اآلخر صنهاجي خالص.
هذا التعدد العرقي والتفاعل بين مختلف مكوناته وتباعد أصولها المجتمعية
والثقافية لم يكن في يوم من األيام سببا في نشوب حرب بين مكونات المجتمع
المختلفة رغم تبدل المكونات بين مرحلة وأخرى مما جعل بعض الباحثين يفترض
دخول المجتمع الشنقيطي مع العصر الحساني مرحلة حضارية جديدة برزت فيها
سمات وظهرت خصائص وتجددت أحوال جعلت التراث المكتوب يظهر بعد أن لم
()28
يكن أو ينسخ جديده القديم إن كان.
( )26حماه هللا ولد السالم :االسالم والثقافة العربية في الصحراء الكبرى ،دراسات ومراجعات .مطبعة
دار الكتب العلمية ،بيروت لبنان ،الطبعة األولى ، 2010ص .215 – 214
( )27على بكر سيسي :مرجع سابق ،ص 46
( )28أحمد ولد الحسن ، :مرجع سابق ص .73
223
ال�شيخ حماه اهلل
ورغم وضوح التحول الثقافي الذي شهدته هذه البالد في مرحلة معينة من
تاريخها إال أن تاريخ هذا التحول بالضبط غير معروف حيث ال يعرف بالضبط
التاريخ الذي أصبحت فيه اللغة العربية الدارجة المسماة الحسانية األكثر انتشارا في
البالد الموريتانية لكن الراجح أن ذلك تم بشكل تقريبي مع القرن الثامن الهجري
الرابع عشر الميالدي لكنه لم يصبح واضحا إال مع القرن الحادي عشر الهجري
()29
السابع عشر الميالدي.
لكن هذا التحول الثقافي الذي حصل في جميع الفئات بطريقة أو بأخرى لم يكن
قصريا من الفئة الحسانية صاحبة القوة األكبر آنذاك ألنها جاءت دون أن تحمل معها
()30
معارف وال دعوة ألنها قبائل محاربة شأنها شأن الحرب والغزو.
لكن ربما ال يتضح هذا التغير الثقافي أو هذا التحول الثقافي إال عن طريق فهم
الثقافة الشنقيطية واستصحاب لفهم عقلية الفئة صاحبة النصيب األكبر من المعرفة
وهي فئة الزوايا التي من أبرز مالمحها التدين العميق والولع بالمعرفة العربية
اإلسالمية إلى حد التفنن واالفتتان(.)31
ولم يقتصر االهتمام باللغة العربية على الزوايا فقط فنجد المجتمع السوننكي
بدوره يعتني بالقرآن والحديث وتعلم اللغة العربية التي انتشرت بينهم وتركت أثرها
البالغ في لغتهم(.)32
ولم يحصل هذا األمر دفعة واحدة أو بصورة سريعة مفاجئة بل جاء على
مراحل ،فكان اإلسالم فتحا ثقافيا هو العامل األبرز فيما حصل فقبل أن يصل العرب
البالد ويحكموها كان هذا الفتح الثقافي فتحا عربيا هيأ الصنهاجيين ومهدهم تمهيدا
ليكونوا عربا يحرصون على انتمائهم العربي كما يحرصون على عقيدتهم اإلسالمية.
( )29حماه هللا ولد السالم :تاريخ موريتانيا العناصر األساسية ،منشورات الزمن ،مطبعة النجاح ،الدار
البيضاء ،الطبعة الثانية ، 2011ص .112
( )30على بكر سيسي :مرجع سابق ،ص .45
( )31أحمد ولد الحسن :مرجع سابق ،ص .61
( )32على بكر سيسي :مرجع ستبق ،ص 41
224
هوية بالد �شنقيط (موريتانيا) قبل اال�ستقالل �سنة 1960
ثم جاء بنو حسان فأكملوا ما كان الصنهاجيون بدأوه من تعريب المجتمع
وانطلق في البالد تياران قويان يتبادالن التأثير يشد كل واحد منهم اآلخر تيار
العلم وله في الزوايا قوة ومدد وتيار العروبة وله في حسان عدة وعدد ،ولم تلبث
صحراء الملثمين أن تعربت تعربا شامال لم تشهد بالد المغرب العربي مثله(. )33
ومما جعل هذا التحول تحوال كليا شمل فئات السكان األصليين أن الدخول
في اإلسالم شمل الجميع بما فيهم السكان األول لهذه البالد من الشعوب اإلفريقية
المختلفة حيث دخلت جميع القبائل اإلفريقية في اإلسالم كما اتخذت قطاعات من
الزنوج الحسانية لغة وطنية لها ،ولذلك نجد أن كل المحاوالت االستعمارية لفصل
الزنوج عن موريتانيا وضمهم إلى السنغال باءت بالفشل ألن هذه الفكرة لقيت
معارضة شديدة حتى من السود أنفسهم إذ أن االختالط والتمازج بينهم ظل قائما
ويتضح ذلك مثال في كيهيدي(.)34
ولهذا نشأ تفاعل عز نظيره بين هذه الشعوب والشعوب الوافدة الجديدة ،وهذا
ما جعل بعض الباحثين يجزم بأن عالقة المجتمع السوننكي – منذ اعتناقه االسالم
– باللغة العربية عالقة تفاعل واستيعاب ولم تكن أبدا عالقة أملتها ظروف في وقت
ما ،ثم غابت تلك الظروف ،ألن اعتراف ملوك غانا بفضل العرب وتفوقهم في
المجال الثقافي هو الذي بوأهم المناصب العليا(.)35
وقد بلغ التفاعل بين الوافدين الجدد والسكان المحليين أنه مع مرور الوقت
اندمجت المجموعات الحسانية المهاجرة مع السكان المحليين إلى حد كبير فأصبحت
العروبة ال تمثل عنصرا أو ساللة وإنما تمثل معنى وقيمة للبطولة والتضحية
والشهامة وصارت كلمة حسان تطلق على كل من يحمل السالح سواء من القبائل
العربية الحسانية أومن قبائل صنهاجة(.)36
الخاتمة
على مدار تاريخ هذه البالد كانت هناك عوامل عدة أسهمت في تشكيل هويتها
بداية من السكان األصليين من العنصرين اإلفريقي واألمازيغي وماكان بينهما
من تفاعل على هذه األصقاع قبل مجيء قبائل حسان العربية إلى هذه البالد في
القرنين الثامن الهجري الرابع عشر الميالدي ،لكن رغم تعدد هذه العوامل بما فيها
اللغوي والعرقي إال أن انتشار اإلسالم جعل بعض الساكنة يتعربون ثقافة كما في
الحالة األمازيغية في البالد ،فنتج عن التفاعل اإليجابي بين الوافدين الجدد والسكان
األصليين من األمازيغ تعرب شبه كامل للقبائل األمازيغية وإن تفاوت ذلك التعرب
قليال من جهة إلى أخرى ،ولم تقتصر نتائج هذا التفاعل على المكون األمازيغي
فحسب بل انتقل إلى المكونات األفريقية فأسهم في تشكيل نسيج ثقافي تؤدي فيه اللغة
العربية دورا توحيديا بين النسيج الثقافي المختلف للسكان ،هذا النسيج الثقافي الذي
نجم عن هذا التفاعل ساعد بشكل كبير في عدم نشوب حرب بين مكونات السكان
المختلفة رغم تعدد أعراقهم وتباعد أصولهم الثقافية ،فانتشرت اللغة العربية بين
مختلف السكان وكان اإلسالم فتحا ثقافيا هو العامل األبرز فيما حصل من تحول
ثقافي في هذه البالد.
226
هوية بالد �شنقيط (موريتانيا) قبل اال�ستقالل �سنة 1960
«د •أبوبكر خالدو با :حركة الفالح للتربية والثقافة اإلسالمية ( الحاج محمود با ) نسخة مصورة
لدى حفيد الحاج محمود با ،نواكشوط 2016
•أحمد ولد األمين :الوسيط في تراجم أدباء شنقيط ،الناشر مكتبة الخانجي ،القاهرة ،الطبعة
السادسة . 2008
عنو
•أحمد ولد الحسن :الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر ،مساهمة في وصف األساليب،
منشورات جمعية الدعوة االسالمية العالمية ،الطبعة األولى . 1995
•حماه هللا ولد السالم :االسالم والثقافة العربية في الصحراء الكبرى ،دراسات ومراجعات.
1-1 مطبعة دار الكتب العلمية ،بيروت لبنان ،الطبعة األولى . 2010
•حماه هللا ولد السالم :تاريخ موريتانيا العناصر األساسية ،منشورات الزمن ،مطبعة النجاح،
المص الدار البيضاء ،الطبعة الثانية . 2011
•الخليل النحوي :بال شنقيط أرض المنارة والرباط نشر المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم،
تونس . 1978
()34 •عبد هللا ولد احميده :نشأة الشعر العربي الفصيح في بالد شنقيط ،رسالة ماجستير غير منشورة
في كلية اآلداب ،جامعة القاهرة سنة .1986
•على بكر سيسي :تاريخ المجتمع السوننكي في موريتانيا ،مطبعة طوب بريس ،الرباط المغرب،
الطبعة األولى .2012
•ال
•محمد األمين ولد الناتي :الثقافة الشنقيطية مقاربة نسقية ،نشر المولف دون ذكر مكان أو تاريخ
الطبعة.
•محمد المحجوب بن بيه :المقاومة السوننكية لالستعمار في كيدي ماغة ،نشر مكتبة القرنين 15
21-انواكشوط ،دون ذكررقم الطبعة أو مكانها.
•نصر السيد نصر(مشرفا) :الجمهورية اإلسالمية الموريتانية ،دراسة مسحية ،نشر المنظمة
العربية للتربية والثقافة والعلوم .1978
•موريتانيا بين اإلنتماء العربي والتوجه اإلفريقي دراسة في إشكالية الهوية السياسية – 1960
،1993نشر مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت ،الطبعة األولى .2003
•الوضع اللغوي في موريتانيا :مجموعة باحثين تحت إشراف بيار شارتران ،ترجمة عبد الحميد
منصور ،نشر المدرسة الوطنية لإلدارة ،انواكشوط.1981 ،
227
ال�شيخ حماه اهلل
•
• Ahmed Baba Miske :Al wasit ،Tableau de la Mauritanie au debut de XXe
siecle ، Mémoire Dakar19667.
• Ba Omar :France parler Toucouleur Bulletin de l I F A N.
• Franke Nicolas :La Langue berber de Mauritanei Dakar 1928.
•
228