You are on page 1of 7

‫الجسد من منظور مسيحى ‪:‬‬

‫وتأثيره على الصحة النفسية والروحية‬

‫ديفيد طلعت إبراهيم واصف‬


‫‪1‬‬

‫مقدمة‬

‫إن كثير من المفاهيم المغلوطة عن الجسد أصبحت منتشرة اليوم بشكل كبير ‪ ،‬فكثير من الناس يعتقد‬

‫أنه ُمسير فى فعل الخطية وأن الخطية هى جزء من تكوينه النفسى أو البيولوجى ‪ .‬وقد يتخذ لنفسه أسبابا ً منها‬

‫عدم قدرته على ضبط غرائزه أو إنفعاالته ‪ ،‬ويقول أن هذه الخطايا هى جزء منه ‪ ،‬وأنه ال يستطيع أن‬

‫يستأصلها ‪ .‬وهذه المفاهيم المغلوطة تؤثر بشكل فعال ‪ ،‬وسلبى فى نفس الوقت ‪ ،‬على حياة الشباب‬

‫والمتزوجين من جميع األعمار واألجناس ‪ .‬وفى هذه الورقة البحثية نشرح كيف ينظر المسيحى إلى جسده ؟‬

‫‪ ،‬وتأثير هذه الرؤية على حياة اإلنسان النفسية والروحية ‪ ،‬وكيف نرى التطرف فى التعامل مع الجسد‬

‫بإعتباره مصدرا ً للخطية ‪.‬‬

‫الجسد‬

‫كيف ينظر المسيحى إلى جسده ؟‬

‫يرى المسيحى جسده بأنه وحدة متكاملة مع النفس والروح ‪ ،‬فجسد اإلنسان ليس شيئا ً ‪ ،‬نشتهيه أو‬

‫نمتهنه ‪ .‬ولكنه مكرم جدا ً ‪ ،‬ألنه مخلوق على صورة هللا ومثاله هو الجسد الذى سيقوم به فى القيامة الثانية ‪.‬‬

‫والجسد ليس منفصالً عن النفس والروح ولكنه يتأثر بهما ويؤثر فيهما ‪ .‬فإذا إنتبهت النفس لعمل النعمة من‬

‫أجل تجديد الذهن والتوبة مثالُ ‪ ،‬فإن هذا يؤثر مباشرة على سلوك الجسد ‪ ،‬فتجده ال ينظر نظرات شريرة ‪،‬‬

‫وال تمتد اليد لتسرق ‪ ،‬وهذا يحدث طبعا ً بإرادة اإلنسان الحرة ‪ .‬والعكس صحيح إذا لم تستجيب النفس لعمل‬

‫النعمة وتأخذ قرارات حاسمة تجاه الخطية ‪ ،‬نجد الجسد يسلك سلوكا ً مستبيحا ً ‪ ،‬على حسب نوع الخطية‬

‫المعروضة عليه ‪ .‬وأيضا ً إذا سكنت الخطية الجسد ‪ ،‬بإرادة اإلنسان ‪ ،‬تجد الجسد قد يبدأ بفعل الخطية‬

‫أوتوماتيكيا ً ‪ ،‬وهذا يؤثر سلبيا ً على النفس والروح أيضا ً ‪ .‬لذا يتعامل المسيحى مع جسده بإعتباره جزء من كل‬

‫متكامل ‪ .‬وليس جزء منفصل عن الكل ال يؤثر أو يتأثر به ‪.‬‬

‫كما يتحمل اإلنسان المسيحى مسئوليته الكاملة عن جسده ‪ ،‬وعن أفعاله وخطاياه ‪ .‬وينظر اإلنسان‬
‫‪2‬‬

‫المسيحى إلى جسده بأنه ليس شر فى حد ذاته ‪ .‬ولكن الشر يكمن فى الخطية التى يقبلها بفكره وقلبه ‪ ،‬والتى‬

‫تظهر آثارها على النفس والجسد والروح ‪.‬‬

‫ويرى المسيحى أيضا ً أنه عندما ولد أخذ جسدا ً يخلو من الخطية ‪ ،‬فالخطية ليس لها كيان ‪ .‬يقول‬
‫‪2‬‬
‫القديس أغسطينوس أن " الخطية عدم " ‪ 1‬ويقول القديس باسيليوس الكبير " الشر ال وجود له بحد ذاته "‬

‫وبالتالى فالخطية عند والدة اإلنسان ‪ ،‬وقبل أن يفعل خيرا ً أو شرا ً ‪ ،‬ال وجود لها فى جسد اإلنسان الطفل ‪ .‬أما‬

‫ما ورثناه من أبينا آدم هو الطبيعة الفاسدة أى الطبيعة التى تميل للشهوة والتحول نحو األشياء الحسية‬

‫والمادية ‪ .‬ويرفض القديس ساويرس األنطاكى ‪ 3‬فكرة أن اإلنسان مولود بالخطية ‪ ،‬ويؤكد على رفض جميع‬

‫اآلباء الشرقيين الذين كتبوا باليونانية هذا الفكر ‪ .‬وظهر ذلك عندما كتب األسقف يوليان كتابا ً إحتوى على‬

‫جملة " الجسد فى الخطية " ‪ .‬فرد عليه القديس ساويرس األنطاكى ردا ً مطوالً بإثباتات آبائية ‪4‬من أقول‬

‫القديس كيرلس الكبير والقديس أثناسيوس الرسولى ‪ ،‬يرفض فيه لفظ " الجسد فى الخطية " وقال أن هذا اللفظ‬

‫يوحى بأن الجسد يشتمل فى تكوينه على الخطية ‪ .‬فجسد آدم ‪ ،‬قبل السقوط ‪ ،‬كان فيه طبيعة قابلة للسقوط‬

‫نتيجة للحرية التى أعطاها له هللا بسبب محبته ‪ .‬ولكنه لما كان يعيش مع هللا كان يتمتع " بالنعمة اإللهية‬

‫الحافظة " ‪ .‬وعندما إختار ‪ ،‬بإرادته الحرة ‪ ،‬أن يبعد عن هللا فقد هذه النعمة اإللهية الحافظة ‪ .‬فتجاوبت طبيعته‬

‫القابلة للسقوط مع كالم حواء فسقط بالفعل ‪ .‬فالطفل يولد بطبيعة فاسدة مائلة للشهوة وليس بطبيعة خاطئة ‪.‬‬

‫وبعدها يختار بإرادته الحرة إذا كان سيفعل الخطيئة أم ال ‪ .‬لذا فالمسيحى يؤمن بأنه لم يرث من أبويه خطية‬

‫الغضب مثالً ولكنه قد يكون قد إكتسبها منهم ‪.‬‬

‫وبالتالى يمكننا أن نفسر ما قاله القديس بولس الرسول فى رسالته إلى أهل رومية " فإ ِ ِني أعْل ُم أنَّهُ‬

‫‪ 1‬دكتور عدنان طرابلسى ‪ ،‬الرؤية األرثوذكسية لإلنسان ‪ ،‬لبنان ‪ ،‬منشورات النور ‪143 . 1989 ،‬‬
‫‪ 2‬دكتور عدنان ‪ ،‬الرؤية األرثوذكسية ‪143 .‬‬
‫‪ 3‬هو أحد اآلباء المعلمين ‪ ،‬وأحد الثمانية المعترف بهم فى كنيستنا القبطية األرثوذكسية كحماة اإليمان األرثوذكسى ‪ ،‬والذين يتم ذكرهم فى تحليل الخدام‬
‫وهم " القديس ساويرس األنطاكى ‪ ،‬القديس ديوسقوروس ‪ ،‬القديس أثناسيوس الرسولى ‪ ،‬القديس بطرس خاتم الشهداء ‪ ،‬القديس يوحنا ذهبى الفم ‪،‬‬
‫القديس كيرلس اإلسكندرى ( الكبير ) ‪ ،‬القديس باسيليوس والقديس غريغوريوس الثيؤولوغوس "‪.‬‬
‫‪ 4‬راجع كتاب "الخطية الجدية بحسب تعليم القديس ساويرس األنطاكى " دكتور جورج فرج ‪ ،‬إصدار المركز األرثوذكسى للدراسات اآلبائية بالقاهرة ‪.‬‬
‫اإلثْ ِم ُ‬
‫ص ِو ْرتُ ‪،‬‬ ‫والكتاب يحتوى على كثير ردود اآلباء المعلمين على اآليات التى توحى بأننا مولودين بخطية آدم منها قول معلمنا داود النبى " هأنذا بِ ِ‬
‫ت بِي أ ُ ِمي " ( مزمور ‪ ) 5 : 51‬وما شابهها من آيات ‪.‬‬
‫وبِ ْالخطِ يَّ ِة ح ِبل ْ‬
‫‪3‬‬

‫اضرة ٌ ِع ْندِي‪ ،‬وأ َّما أ ْن أ ْفعل ْال ُحسْنى فل ْستُ أ ِجدُ "‬ ‫ي فِي جسدِي‪ ،‬ش ْي ٌء صا ِل ٌح‪ .‬أل َّن ِ‬
‫اإلرادة ح ِ‬ ‫ليْس سا ِك ٌن فِ َّ‬
‫ي‪ ،‬أ ْ‬

‫( رومية ‪ ) 18 : 7‬بأنه عندما إنفعل بالخطية وتجاوب معها ‪ ،‬فصارت تسكن فى جسده ‪ ،‬ألنه قال عن نفسه‬

‫" أنا الَّذِي ُك ْنتُ قب ًْال ُمج ِدفًا و ُمضْط ِهدًا و ُم ْفت ِريًا‪ .‬ول ِكنَّنِي ُر ِح ْمتُ ‪ ،‬ألنِي فع ْلتُ بِج ْهل ِفي عد ِم إِيم ٍ‬
‫ان‪ 1 ( " .‬تى‬

‫‪ ) 13 : 1‬وليس معنى كالمه إطالقا ً أنه قد ورث الخطية من أبوينا األولين ‪.‬‬

‫إن هذه المناقشة الالهوتية هى أمر هام للغاية ‪ ،‬ألن اإلنسان إن إعتقد بأنه ورث الخطية من أبويه ‪،‬‬

‫وأصبح مضطرا ً أن يفعلها فيقول " وأين عدل هللا ؟!!" وهذا سيؤثر حتما ً على صورة هللا فى ذهنه ‪ ،‬حتى وإن‬

‫كان يحاول إخفاء ذلك ‪ .‬وسيؤثر حتما ً على عالقته باهلل ‪ ،‬ألنه سيعرف أنه هو المسئول األول واألخير عن‬

‫جسده ‪ ،‬وعن حياته الروحية والنفسية أيضا ً ‪ .‬وأن كل شيئ محكوم ومضبوط بقوة هللا العادلة ‪ .‬وأنه لن يجنى‬

‫ثمرا ً من شجرة رديئة لم يزرعها ‪.‬‬

‫لذلك فالتطرف بأن جسد اإلنسان هو مصدرا ً للخطية ‪ ،‬هو أمر غير مقبول ‪ .‬فجسد اإلنسان المولود به‬

‫مكرم جدا ً ‪ ،‬وفى المعمودية يحصل المعمد على سر الوالدة الجديدة فى المسيح يسوع المخلص ‪ .‬ولكن يجب‬

‫أن نعى جيدا ً أن كل خطية ينفعل بها اإلنسان بإرادته الحرة ‪ ،‬تبقى فى عقله الباطن ‪ .‬ويقوم عقله الباطن‬

‫بطريقة آلية بإستدعائها وبقذفها فى فكره ومشاعره ‪ ،‬فالخطية التى يراها اإلنسان تأتى من داخله ‪ ،‬يكون هو‬

‫المسئول عن قبولها فى وقت سابق ‪ .‬لذا فالبد أن نميز بين الخطية التى نقبلها اآلن ‪ ،‬فتحاول أن تفرض نفسها‬

‫علينا فى وقت الحق ‪ ،‬وبين أن جسدنا الذى ولدنا به هو جسد يحمل الخطية فى أعضائه ‪ .‬ألن الثانية تعنى أنى‬

‫غير مسئول عن أى تصرف خطية أقوم به ‪.‬‬

‫لذا فاإلنسان المسيحى ينظر إلى جسده نظرة المسئولية والتقديس أيضا ً ‪ ،‬وهو يرى فى فداء المسيح‬

‫عودة هذه " النعمة اإللهية الحافظة " وأن كل ما عليه هو أن يرفض أن يتفاعل مع الخطية فكريا ً أو وجدانيا ً ‪،‬‬

‫وهذا هو الجهاد السلبى ‪ ،‬ولكنه مطالب باألكثر بالنمو فى معرفة ربنا يسوع المسيح المخلص ‪ ،‬وأن يستمر فى‬
‫‪4‬‬

‫اس قام ِة ِم ْل ِء ْالمسِيحِ " ( أفسس‬


‫إستقبال محبته والعشرة الحقيقية معه ‪ ،‬وأن يستمر فى النمو بالنعمة " إِلى قِي ِ‬

‫‪) 13 : 4‬‬

‫ونفسيا ً ‪ ،‬فإن فكرة إنى غير مسئول عما فعله أبواى األولين ‪ ،‬ولكننى مسئول عن أفعالى فقط ‪،‬‬

‫تعطينى إطمئنانا ً ‪ ،‬وراحة ‪ ،‬وسالما ً ‪ ،‬وثقة فى هللا ‪ ،‬وتحفيزا ً على إستكمال المسيرة مع هللا نحو الكمال ‪ ،‬ثم‬

‫إلى عشرة دائمة معه فى ملكوته السماوى ‪.‬‬


‫‪5‬‬

‫فهرس الحواشي‬

‫‪ -1‬دكتور عدنان طرابلسى ‪ ،‬الرؤية األرثوذكسية لإلنسان ‪ ،‬لبنان ‪ ،‬منشورات النور ‪143 . 1989 ،‬‬

‫‪ -2‬دكتور عدنان ‪ ،‬الرؤية األرثوذكسية ‪143 .‬‬

‫‪ -3‬هو أحد اآلباء المعلمين ‪ ،‬وأحد الثمانية المعترف بهم فى كنيستنا القبطية األرثوذكسية كحماة‬
‫اإليمان األرثوذكسى ‪ ،‬والذين يتم ذكرهم فى تحليل الخدام وهم " القديس ساويرس األنطاكى ‪ ،‬القديس‬
‫ديوسقوروس ‪ ،‬القديس أثناسيوس الرسولى ‪ ،‬القديس بطرس خاتم الشهداء ‪ ،‬القديس يوحنا ذهبى الفم ‪ ،‬القديس‬
‫كيرلس اإلسكندرى ( الكبير ) ‪ ،‬القديس باسيليوس والقديس غريغوريوس الثيؤولوغوس "‪.‬‬

‫‪ -4‬راجع كتاب "الخطية الجدية بحسب تعليم القديس ساويرس األنطاكى " دكتور جورج فرج ‪،‬‬
‫إصدار المركز األرثوذكسى للدراسات اآلبائية بالقاهرة ‪ .‬والكتاب يحتوى على كثير ردود اآلباء المعلمين‬
‫ص ِو ْرتُ ‪ ،‬وبِ ْالخ ِطيَّ ِة‬
‫اإلثْ ِم ُ‬
‫على اآليات التى توحى بأننا مولودين بخطية آدم منها قول معلمنا داود النبى " هأنذا ِب ِ‬
‫ت ِبي أ ُ ِمي " ( مزمور ‪ ) 5 : 51‬وما شابهها من آيات ‪.‬‬
‫ح ِبل ْ‬
‫‪6‬‬

‫المراجع‬

‫الكتاب المقدس بعهدية القديم والجديد – الترجمة البيروتية ‪.‬‬

‫فرج دكتور جورج ‪ ،‬الخطية الجدية بحسب تعليم القديس ساويرس األنطاكى ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬المركز األرثوذكسى‬
‫للدراسات اآلبائية ‪ ،‬بدون ‪.‬‬

‫طرابلسى دكتور عدنان ‪ ،‬الرؤية األرثوذكسية لإلنسان ‪ ،‬لبنان ‪ ،‬منشورات النور ‪1989 ،‬م‬

‫الرشية جان‪ -‬كلود ‪ ،‬هوذا جسدى ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬دير الشفيعة الحارة ‪ 2012 ،‬م‬

You might also like