You are on page 1of 4

‫مناذج اإلعجاز التشريعي يف السنة‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف األنبياء واملرسلني‪ ،‬سيدان حممد وعلى آله وأصحابه‬
‫أمجعني‪ ،‬أمابعد‪ .‬فبعد أن نعرف أمهية اإلعجاز التشريعي ومزاايه وضوابطه‪ ،‬اآلن سنتطرق إىل بعض‬
‫النماذج التطبيقية لإلعجاز التشريعي يف السنة النبوية‪ .‬فقد جاءت يف األحاديث النبوية مبادئ تشريعية‬
‫وقواعد كلية جامعة يف قوالب موجزة رائعة أطلق عليها الفقهاء‪ :‬القواعد الكلية‪ .1‬من أمثلتها‪:‬‬

‫املثال األول‪ :‬حديث (إمنا األعمال ابلنيات)‬

‫اَّللُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم‬


‫صلَّى َّ‬ ‫ول َِّ‬ ‫ِ‬ ‫اب ‪َ -‬ر ِض َي َّ‬ ‫اْلَطَّ ِ‬
‫اَّلل ‪َ -‬‬ ‫ت َر ُس َ‬‫اَّللُ َعْنهُ‪ -‬قَ َال‪ََ :‬س ْع ُ‬ ‫ونص احلديث‪ :‬عن عُ َمَر بْن ْ‬
‫اَّللِ َوَر ُسولِِه فَ ِه ْجَرتُهُ إِ َىل‬
‫ت ِه ْجَرتُهُ إِ َىل َّ‬ ‫ِ‬ ‫ول‪" :‬إََِّّنَا األ َْعم ُ ِ ِ‬
‫ال ِِبلنِّيَّات‪َ ،‬وإََِّّنَا ل ُك ِِّل ْام ِر ٍئ َما نَ َوى‪ ،‬فَ َم ْن َكانَ ْ‬ ‫َ‬ ‫‪ -‬يَ ُق ُ‬
‫اجَر إِلَْي ِه"‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ت ِهجرتُه ُ ِ‬ ‫َِّ ِِ‬
‫لدنْيَا يُصيبُ َها أ َْو ْامَرأَة يَْنك ُح َها فَ ِه ْجَرتُهُ إ َىل َما َه َ‬ ‫اَّلل َوَر ُسوله‪َ ،‬وَم ْن َكانَ ْ ْ َ ُ‬
‫هذا حديث صحيح أخرجه الشيخان (البخاري ومسلم) يف صحيحيهما‪ .‬وقد استنبط الفقهاء من هذا‬
‫احلديث قاعدة "األمور مبقاصدها"‪ .‬وهي من القواعد الفقهية الكربى اليت تندرج حتتها قواعد فقهية‬
‫أخرى‪ .‬بل قال الدكتور حممد آل بورنو ‪ " :‬وقد جعلنا هذا احلديث رأس القاعدة وعنواانً داالً عليها ال‬
‫وص ِِّدرت به موسوعة القواعد الفقهية تيمناً واقتداء"‪.2‬‬
‫دليالً هلا‪ُ ،‬‬
‫وكثر الكالم حول فوئد هذا احلديث‪ ،‬حىت قال احلافظ ابن حجر العسقالين‪َ " :‬وقَ ْد تَ َواتَ َر النَّ ْق ُل َع ِن‬
‫اَّللُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم َش ْيءٌ أَ ْمجَ ََ‬ ‫س ِيف أ ْ ِ ِ‬ ‫يث قَ َال أَبو عب ِد َِّ‬
‫احل ِد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫صلَّى َّ‬
‫َّب َ‬
‫َخبَار الن ِِّ‬ ‫اَّلل لَْي َ‬ ‫ُ َْ‬ ‫ْاألَئ َّمة ِيف تَ ْعظي ِم قَ ْد ِر َه َذا َْ‬

‫‪1‬وجوه اإلعجاز يف السنة املطهرة‪ ،‬للدكتور أمين حممود مهدي حممد‪ ،‬ص‪ ،)682( :‬نشره كلية الدراسات اإلسالمية‬
‫ِبإلسكندرية – مصر‪ ،‬يف اجمللد السادس من العدد اْلامس والثالثني حلوليتها‪.‬‬
‫‪2‬الوجيز يف إيضاح قواعد الفقه الكلية‪ ،‬للدكتور حممد صدقي آل بورنو‪ ،‬ص‪ ،)33( :‬مؤسسة الرسالة – بريوت‪،‬‬
‫سنة‪1416 :‬ه – ‪1996‬م‪. .‬‬
‫احل ِد ِ‬
‫يث"‪ .3‬وقال مجاعة من العلماء ومنهم اإلمام الشافعي ‪" :‬أن هذا‬ ‫ِ ِ‬
‫َوأَ ْغ ََن َوأَ ْكثَ َر فَائ َدةً م ْن َه َذا َْ‬
‫احلديث ثلث العلم"‪ .4‬ولعل إطالقهم أبن احلديث ثلث العلم مستدال حبديث آخر وهو حديث جربيل‬
‫عليه السالم املشهور الذي بني أبن الدين له ثالثة أبعاد‪ :‬اإلسالم‪ ،‬واإلميان‪ ،‬واإلحسان‪ .‬والنية تدخل يف‬
‫اَّللُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم « َّإَّنَا‬
‫صلَّى َّ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِِ‬
‫واحد من هذه الثالثة‪ .‬قال اإلمام السيوطي‪ْ " :‬األ ُُمور مبََقاصد َها‪ ،‬ل َق ْوله َ‬
‫س» َوالْ ِف ْقه َعلَى َخَْس"‪ .5‬والنية تدخل يف هذه اْلمسة ‪:‬‬ ‫اإل ْس َال ُم َعلَى َخَْ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ال ِِبلنِِّيَّ ِ‬
‫ات» وقَ َال «بُِِن ِْ‬ ‫ْاأل َْع َم ُ‬
‫الشهادة والصالة والزكة والصيام واحلج‪.‬‬

‫ومن العلماء من قال أن حديث إَّنا األعمال ِبلنيات ربَ اإلسالم‪ .‬قال اإلمام أبو العباس القرطب‪" :‬‬
‫عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم َخسمائة ألف حديث‪ ،‬الثابت منها‪ :‬أربعة آالف حديث‪ .‬وهي‬
‫ترجَ إىل أربعة أحاديث‪ :‬قوله صلى هللا عليه وسلم‪َّ :‬‬
‫(إَّنا األعمال ِبلنيات) و(من حسن إسالم املرء تركه‬
‫ما ال يعنيه) و(ال يؤمن أحدكم حىت حيب ألخيه ما حيب لنفسه) و(احلالل ِِّبني واحلرام ِِّبني)‪ .‬وقد جعل‬
‫غريه مكان (ال يؤمن أحدكم حىت حيب ألخيه ما حيب لنفسه) قوله‪( :‬ازهد يف الدنيا حيبك هللا)"‪ .6‬مث‬
‫قال‪" :‬قلت‪ :‬وهذا الذي قاله هؤالء األئمة رضي هللا عنهم أمجعني حسن‪ ،‬غري أهنم لو أمعنوا النظر يف‬
‫هذا احلديث كله‪ ،‬من َّأوله إىل آخره‪ ،‬لوجدوه متضمنًا لعلوم الشريعة كلها‪ ،‬ظاهرها وِبطنها‪ .‬وإن أردت‬
‫الوقوف على ذلك فأعد النظر فيما عقدانه من اجلمل يف احلالل‪ ،‬واحلرام‪ ،‬واملتشاهبات‪ ،‬وما يصلح‬
‫القلوب‪ ،‬وما يفسدها‪ ،‬وتعلُّق أعمال اجلوارح هبا"‪.7‬‬

‫‪3‬فتح الباري بشرح صحيح البخاري‪ ،‬للحافظ ابن حجر العسقالين‪ ،‬ص (‪.)11‬‬
‫‪4‬شرح صحيح البخاري – لإلمام ابن بطال» (‪ ،)32 /1‬و األشباه والنظائر – لإلمام السيوطي» (ص‪.)8‬‬
‫‪5‬األشباه والنظائر‪ ،‬لإلمام السيوطي‪ .‬ص‪.)8( :‬‬
‫‪6‬املفهم ملا أشكل من تلخيص كتاب مسلم‪ ،‬لإلمام أيب العباس القرطب‪ ،‬ص‪.)499/4( :‬‬
‫‪7‬نفس املصدر‪.‬‬
‫فاإلعجاز التشريعي يف هذا احلديث ظاهر جلي يف اتساع معناه ومشوليته حيث استنبط منه الفقهاء‬
‫ت فِ َيها النِِّيَّة َك َما تَ َرى‪ .‬فَعُلِ َم‬ ‫ِِ‬
‫أحكاما كثرية‪ .‬قال اإلمام السيوطي‪ " :‬فَ َهذه َسْب عُو َن َِب ًِب‪ ،‬أ َْو أَ ْكثَر‪َ ،‬د َخلَ ْ‬
‫ني َِب ًِب ِم ْن الْعِْلم " الْ ُمبَالَغَة‪َ ،‬وإِذَا‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫اد قَ ْوِل َم ْن قَ َال َّ‬ ‫ِ‬
‫ِم ْن َذل َ‬
‫إن ُمَر َاد الشَّافع ِِّي بَِق ْوله " تَ ْد ُخ ُل ِيف َسْبع َ‬ ‫ك فَ َس ُ‬
‫صر َع ْن أَ ْن تَ ُكون ثُلُث الْ ِف ْقه أ َْو ُربْعه"‪ .8‬كما أن‬ ‫ِِ ِ ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫َع َد ْدت َم َسائل َهذه ْاألَبْ َواب الَِّيت للنِّيَّة ف َيها َم ْد َخل ََلْ تَ ْق ُ‬
‫احلديث مليئ ِبحلكم واملواعظ ختتلف رؤيتها قوة وضعفا حسب فهم اجملتهد وقدرته على االستنباط‪.‬‬

‫املثال الثاين‪ :‬حديث (ال ضرر وال ضرار)‬

‫ونص احلديث‪ :‬عن أىب سعيد اْلدرى ‪ -‬رضى هللا عنه ‪ -‬أن النىب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬قال‪َ " :‬ال‬
‫ض َرر وال ِضرار " حديث حسن‪ ،‬رواه ابن ماجه والدارقطَن‪ ،‬وغريمها مسندا‪ .‬ورواه مالك يف (املوطأ) عن‬
‫َ‬
‫عمرو بن حيىي عن أبيه عن النىب صلى هللا عليه وسلم مرسال‪ ،‬فأسقط أِب سعيد‪ .‬وله طرق يقوى بعضها‬
‫ببعض‪.9‬‬

‫اختلف العلماء يف معَن الضرر والضرار هل بني اللفظني فرق أم ال‪ .‬قال اإلمام ابن رجب احلنبلي‪" :‬‬
‫فمنهم من قال‪( -1 :‬مها مبعَن واحد‪ ،‬على وجه التأكيد) ‪.‬واملشهور أن بينهما فرقا‪.‬‬

‫‪ - 2‬مث قيل‪( :‬إن الضرر‪ :‬هو االسم‪ ،‬والضرار‪ :‬الفعل) ‪ ،‬فاملعَن‪( :‬أن الضرر نفسه‪ ،‬منتف يف الشرع‪،‬‬
‫وإدخال الضرر بغري حق‪ ،‬كذلك) ‪.‬‬

‫‪ - 3‬وقيل‪( :‬الضرر‪ :‬أن يدخل على غريه ضررا‪ ،‬مبا ينتفَ هو به‪ ،‬والضرار‪ :‬أن يدخل على غريه ضررا‪،‬‬
‫(مبا ال ينتفَ هو به) ‪ ،‬كمن منَ ماال يضره‪ ،‬ويتضرر به املمنوع)‪ .‬ورجح هذا القول‪ ،‬طائفة منهم‪ ،‬ابن‬
‫عبد الرب‪ ،‬وابن الصالح‪.‬‬

‫‪8‬األشباه والنظائر لإلمام السيوطي ص‪.)11( :‬‬


‫‪9‬القاعدة الذهبية يف املعامالت اإلسالمية ال ضرر وال ضرار‪ ،‬ص‪ 14 :‬ابن رجب النبلي‪.‬‬
‫‪ - 4‬وقيل‪( :‬الضرر‪ :‬أن يضر مبن ال يضره‪ ،‬والضرار‪ .‬أن يضر مبن قد أضر به‪ ،‬على وجه غري جائز)‬
‫"‪.10‬‬

‫وعلى أي فالنب صلى هللا عليه وسلم نفى الضرر والضرار‪ .‬فال يضر أحد آبخر أبن يلحق به مفسدة‬
‫مطلقا‪ ،‬وال يلحق مفسدة على وجه املقابلة له حىت ولو نتج ذالك من قيام اإلنسان ِبألفعال املباحة‪،‬‬
‫كمن حيفر بئرا يف داره ولكنه يضر جباره‪ .‬وكذالك ال جيوز مقابلة اإلضرار ِبإلضرار‪.11‬‬

‫وكاحلديث األول‪ ،‬فإن حديث ال ضرر وال ضرار من القواعد الكربى اليت تندرج حتتها قواعد أخرى‬
‫كقاعدة "الضرورة تبيح احملظورات" وقاعدة "الضرر ال يزال ِبضرر"‪ ،‬وغريمها‪ .‬فتفرع من احلديث كثري من‬
‫املسائل والفروع‪.‬‬
‫ِ‬ ‫اع َد َة ي ْن ب ِِن علَي ها َكثِري ِمن أَب و ِ ِ‬ ‫َن ه ِذهِ الْ َق ِ‬
‫ب‪،‬‬ ‫الرُّد ِِبلْ َعْي ِ‬
‫ك‪َّ :‬‬ ‫اب الْف ْق ِه ِم ْن َذل َ‬ ‫َ َ َ ْ َ ٌ ْ َْ‬ ‫قال اإلمام السيوطي‪ْ " :‬اعلَ ْم أ َّ َ‬
‫ِ‬ ‫ف الْم ْشر ِ‬ ‫صِ‬ ‫اْلِيا ِر‪ِ :‬من ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫احلَ ْج ُر‬
‫ك‪َ ،‬و ْ‬ ‫وط‪َ ،‬والت َّْع ِزي ِر‪َ ،‬وإِفْ َال ِس الْ ُم ْش ََِتي‪َ ،‬و َغ ْري َذل َ‬ ‫َ ُ‬ ‫اخت َالف الْ َو ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫يَ أَنْ َو ِاع ْ َ‬ ‫َو َمج ُ‬
‫ضما ُن الْمْت لَ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫الش ْفعةُ‪ِ ،‬ألَنَّها ش ِرع ِ‬ ‫ِِ‬
‫ف‪،‬‬ ‫ات‪َ ،‬و َ َ ُ‬ ‫َّار ُ‬
‫ود‪َ ،‬والْ َكف َ‬ ‫احلُ ُد ُ‬
‫اص‪َ ،‬و ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ضَرِر الْق ْس َمة‪َ .‬والْق َ‬ ‫ت ل َدفْ َِ َ‬ ‫َ َُْ‬ ‫ِأبَنْ َواعه‪َ ،‬و ُّ َ‬
‫وب‪ ،‬أ َْو‬ ‫ني‪ ،‬والْب غَاةِ‪ ،‬وفَس ُخ النِِّ َكاح ِِبلْعي ِ‬
‫ُُ‬ ‫ال الْ ُم ْش ِرك َ َ ُ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫الصائِ ِل‪َ ،‬وقِتَ ُ‬
‫ضاةِ‪َ ،‬وَدفْ َُ َّ‬ ‫ِِ‬
‫ب ْاألَئ َّمة‪َ ،‬والْ ُق َ‬
‫صُ‬
‫ِ‬
‫َوالْق ْس َمةُ‪َ ،‬ونُ ُ‬
‫ِ‬
‫ك "‪.12‬‬ ‫اإل ْع َسا ِر‪ ،‬أ َْو َغ ِْري َذل َ‬
‫ِْ‬

‫وهكذا فإن الشريعة اإلسالمية متتاز بشموهلا ومرونتها واتساعها‪ .‬وقد نظران ذالك يف هذين احلديثني‬
‫كنموذجني حيث يتفرع منهما أحكاما ومسائل كثرية‪ .‬ومَ ذالك ميكن أن نقول أبن الشريعة شاملة‬
‫جلميَ مظاهر احلياة وكل ما حيتاج إليه البشر يف احلاضر واملستقبل‪ .‬هذا وهللا املستعان‪.‬‬

‫‪10‬نفس املصدر‪.‬‬
‫‪11‬وجوه اإلعجاز يف السنة املطهرة‪ ،‬ص‪.)683( :‬‬
‫‪12‬األشباه والنظائر لإلمام السيوطي‪ ،‬ص‪.)84( :‬‬

You might also like