Professional Documents
Culture Documents
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على أشرف األنبياء واملرسلني ،سيدان حممد وعلى آله وأصحابه
أمجعني ،أمابعد .فبعد أن نعرف أمهية اإلعجاز التشريعي ومزاايه وضوابطه ،اآلن سنتطرق إىل بعض
النماذج التطبيقية لإلعجاز التشريعي يف السنة النبوية .فقد جاءت يف األحاديث النبوية مبادئ تشريعية
وقواعد كلية جامعة يف قوالب موجزة رائعة أطلق عليها الفقهاء :القواعد الكلية .1من أمثلتها:
1وجوه اإلعجاز يف السنة املطهرة ،للدكتور أمين حممود مهدي حممد ،ص ،)682( :نشره كلية الدراسات اإلسالمية
ِبإلسكندرية – مصر ،يف اجمللد السادس من العدد اْلامس والثالثني حلوليتها.
2الوجيز يف إيضاح قواعد الفقه الكلية ،للدكتور حممد صدقي آل بورنو ،ص ،)33( :مؤسسة الرسالة – بريوت،
سنة1416 :ه – 1996م. .
احل ِد ِ
يث" .3وقال مجاعة من العلماء ومنهم اإلمام الشافعي " :أن هذا ِ ِ
َوأَ ْغ ََن َوأَ ْكثَ َر فَائ َدةً م ْن َه َذا َْ
احلديث ثلث العلم" .4ولعل إطالقهم أبن احلديث ثلث العلم مستدال حبديث آخر وهو حديث جربيل
عليه السالم املشهور الذي بني أبن الدين له ثالثة أبعاد :اإلسالم ،واإلميان ،واإلحسان .والنية تدخل يف
اَّللُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم « َّإَّنَا
صلَّى َّ ِ ِ ِ ِ ِِ
واحد من هذه الثالثة .قال اإلمام السيوطيْ " :األ ُُمور مبََقاصد َها ،ل َق ْوله َ
س» َوالْ ِف ْقه َعلَى َخَْس" .5والنية تدخل يف هذه اْلمسة : اإل ْس َال ُم َعلَى َخَْ ٍ
َ َ
ال ِِبلنِِّيَّ ِ
ات» وقَ َال «بُِِن ِْ ْاأل َْع َم ُ
الشهادة والصالة والزكة والصيام واحلج.
ومن العلماء من قال أن حديث إَّنا األعمال ِبلنيات ربَ اإلسالم .قال اإلمام أبو العباس القرطب" :
عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم َخسمائة ألف حديث ،الثابت منها :أربعة آالف حديث .وهي
ترجَ إىل أربعة أحاديث :قوله صلى هللا عليه وسلمَّ :
(إَّنا األعمال ِبلنيات) و(من حسن إسالم املرء تركه
ما ال يعنيه) و(ال يؤمن أحدكم حىت حيب ألخيه ما حيب لنفسه) و(احلالل ِِّبني واحلرام ِِّبني) .وقد جعل
غريه مكان (ال يؤمن أحدكم حىت حيب ألخيه ما حيب لنفسه) قوله( :ازهد يف الدنيا حيبك هللا)" .6مث
قال" :قلت :وهذا الذي قاله هؤالء األئمة رضي هللا عنهم أمجعني حسن ،غري أهنم لو أمعنوا النظر يف
هذا احلديث كله ،من َّأوله إىل آخره ،لوجدوه متضمنًا لعلوم الشريعة كلها ،ظاهرها وِبطنها .وإن أردت
الوقوف على ذلك فأعد النظر فيما عقدانه من اجلمل يف احلالل ،واحلرام ،واملتشاهبات ،وما يصلح
القلوب ،وما يفسدها ،وتعلُّق أعمال اجلوارح هبا".7
3فتح الباري بشرح صحيح البخاري ،للحافظ ابن حجر العسقالين ،ص (.)11
4شرح صحيح البخاري – لإلمام ابن بطال» ( ،)32 /1و األشباه والنظائر – لإلمام السيوطي» (ص.)8
5األشباه والنظائر ،لإلمام السيوطي .ص.)8( :
6املفهم ملا أشكل من تلخيص كتاب مسلم ،لإلمام أيب العباس القرطب ،ص.)499/4( :
7نفس املصدر.
فاإلعجاز التشريعي يف هذا احلديث ظاهر جلي يف اتساع معناه ومشوليته حيث استنبط منه الفقهاء
ت فِ َيها النِِّيَّة َك َما تَ َرى .فَعُلِ َم ِِ
أحكاما كثرية .قال اإلمام السيوطي " :فَ َهذه َسْب عُو َن َِب ًِب ،أ َْو أَ ْكثَرَ ،د َخلَ ْ
ني َِب ًِب ِم ْن الْعِْلم " الْ ُمبَالَغَةَ ،وإِذَا ِ ِِ ِِ اد قَ ْوِل َم ْن قَ َال َّ ِ
ِم ْن َذل َ
إن ُمَر َاد الشَّافع ِِّي بَِق ْوله " تَ ْد ُخ ُل ِيف َسْبع َ ك فَ َس ُ
صر َع ْن أَ ْن تَ ُكون ثُلُث الْ ِف ْقه أ َْو ُربْعه" .8كما أن ِِ ِ ِ ِ ِِ
َع َد ْدت َم َسائل َهذه ْاألَبْ َواب الَِّيت للنِّيَّة ف َيها َم ْد َخل ََلْ تَ ْق ُ
احلديث مليئ ِبحلكم واملواعظ ختتلف رؤيتها قوة وضعفا حسب فهم اجملتهد وقدرته على االستنباط.
ونص احلديث :عن أىب سعيد اْلدرى -رضى هللا عنه -أن النىب -صلى هللا عليه وسلم -قالَ " :ال
ض َرر وال ِضرار " حديث حسن ،رواه ابن ماجه والدارقطَن ،وغريمها مسندا .ورواه مالك يف (املوطأ) عن
َ
عمرو بن حيىي عن أبيه عن النىب صلى هللا عليه وسلم مرسال ،فأسقط أِب سعيد .وله طرق يقوى بعضها
ببعض.9
اختلف العلماء يف معَن الضرر والضرار هل بني اللفظني فرق أم ال .قال اإلمام ابن رجب احلنبلي" :
فمنهم من قال( -1 :مها مبعَن واحد ،على وجه التأكيد) .واملشهور أن بينهما فرقا.
- 2مث قيل( :إن الضرر :هو االسم ،والضرار :الفعل) ،فاملعَن( :أن الضرر نفسه ،منتف يف الشرع،
وإدخال الضرر بغري حق ،كذلك) .
- 3وقيل( :الضرر :أن يدخل على غريه ضررا ،مبا ينتفَ هو به ،والضرار :أن يدخل على غريه ضررا،
(مبا ال ينتفَ هو به) ،كمن منَ ماال يضره ،ويتضرر به املمنوع) .ورجح هذا القول ،طائفة منهم ،ابن
عبد الرب ،وابن الصالح.
وعلى أي فالنب صلى هللا عليه وسلم نفى الضرر والضرار .فال يضر أحد آبخر أبن يلحق به مفسدة
مطلقا ،وال يلحق مفسدة على وجه املقابلة له حىت ولو نتج ذالك من قيام اإلنسان ِبألفعال املباحة،
كمن حيفر بئرا يف داره ولكنه يضر جباره .وكذالك ال جيوز مقابلة اإلضرار ِبإلضرار.11
وكاحلديث األول ،فإن حديث ال ضرر وال ضرار من القواعد الكربى اليت تندرج حتتها قواعد أخرى
كقاعدة "الضرورة تبيح احملظورات" وقاعدة "الضرر ال يزال ِبضرر" ،وغريمها .فتفرع من احلديث كثري من
املسائل والفروع.
ِ اع َد َة ي ْن ب ِِن علَي ها َكثِري ِمن أَب و ِ ِ َن ه ِذهِ الْ َق ِ
ب، الرُّد ِِبلْ َعْي ِ
كَّ : اب الْف ْق ِه ِم ْن َذل َ َ َ َ ْ َ ٌ ْ َْ قال اإلمام السيوطيْ " :اعلَ ْم أ َّ َ
ِ ف الْم ْشر ِ صِ اْلِيا ِرِ :من ِ ِ ِ
احلَ ْج ُر
كَ ،و ْ وطَ ،والت َّْع ِزي ِرَ ،وإِفْ َال ِس الْ ُم ْش ََِتيَ ،و َغ ْري َذل َ َ ُ اخت َالف الْ َو ْ ْ ْ يَ أَنْ َو ِاع ْ َ َو َمج ُ
ضما ُن الْمْت لَ ِ ِ ِ ِ الش ْفعةُِ ،ألَنَّها ش ِرع ِ ِِ
ف، اتَ ،و َ َ ُ َّار ُ
ودَ ،والْ َكف َ احلُ ُد ُ
اصَ ،و ْ ص ُ ضَرِر الْق ْس َمةَ .والْق َ ت ل َدفْ َِ َ َ َُْ ِأبَنْ َواعهَ ،و ُّ َ
وب ،أ َْو ني ،والْب غَاةِ ،وفَس ُخ النِِّ َكاح ِِبلْعي ِ
ُُ ال الْ ُم ْش ِرك َ َ ُ َ ْ
ِ الصائِ ِلَ ،وقِتَ ُ
ضاةَِ ،وَدفْ َُ َّ ِِ
ب ْاألَئ َّمةَ ،والْ ُق َ
صُ
ِ
َوالْق ْس َمةَُ ،ونُ ُ
ِ
ك ".12 اإل ْع َسا ِر ،أ َْو َغ ِْري َذل َ
ِْ
وهكذا فإن الشريعة اإلسالمية متتاز بشموهلا ومرونتها واتساعها .وقد نظران ذالك يف هذين احلديثني
كنموذجني حيث يتفرع منهما أحكاما ومسائل كثرية .ومَ ذالك ميكن أن نقول أبن الشريعة شاملة
جلميَ مظاهر احلياة وكل ما حيتاج إليه البشر يف احلاضر واملستقبل .هذا وهللا املستعان.
10نفس املصدر.
11وجوه اإلعجاز يف السنة املطهرة ،ص.)683( :
12األشباه والنظائر لإلمام السيوطي ،ص.)84( :