Professional Documents
Culture Documents
الارض حين نراها بعيون الروح
الارض حين نراها بعيون الروح
( ثقافات )
*مدني قصري
يقول الباحث الروحي الفرنسي سيرج فيتز ”: Ser Fitzتوصف الكوارث الطبيعية في الوقت الحاضر بكونها
قدَ ٌر محتوم ،حتى وإن كانت مسؤولية اإلنسان في ما يسمى بـ”التغيرات المناخية” أمرا ثابتا ومؤكدا .لكنْ في
المقابل مازال ثمة افتقارنا الكبير للوعي بماهية الطبيعة العميقة لكوكب األرض الذي نعيش فيه.
فالبحر والمحيط ينتميان إلى األرض ،والغابات تنتمي إلى األرض ،والطيور والحيوانات تنتمي إلى األرض،
ُيطلق عليه “الجيوبيوتيرابي” ( Géobiothérapieأي المعالجة القائمة على العالقة بين اإلنسان
والمكان ،أو باألحرى بينه وبين بيئته) ،أن للكوارث الطبيعية أسبابا تقع ضمن نطاق مسؤولياتنا المباشرة ،إال
أننا ال نعي وجودها ،ألننا لم نعد ننظر إلى الحياة وأسرار الطبيعة بعيون الروح وإنما بعيون “العقالنية”
وحدها .
ويرى فيتز أن هذا االنتماء إلى األرض يخلق صالت وعالقات ال شك فيها .فإذا كانت األرض تتألم اليوم،
فاإلنسان يتألم معها ال محالة! وإذا تألمت الحيوانات يتألم معها اإلنسان أيضا .وإذا تألمت الغابة تألم المرء
كذلك .وإذا تألم المحيط تألم اإلنسان ،ألن المحيط هو الذي أنجبه ،والنبات هو الذي أطعمه ،وألن الحيوان هو
سرعان ما تالشت بسبب االهتمام المفرط بالعقالنية (هيمنة العقل) التي أدت تدريجيا إلى انحطاط الحياة على
األرض .فالطقوس المهداة إلى األرض اعتبرها العقلُ ،مع األسف“ ،وثنية” .وعبادةُ العقل أنستْ اإلنسانَ
كف عن الخلق! فالشعراء والفنانون فقط هم الذين ظلوا
الخلق ،كما لو أن الخالق بعد أن خلق الكون ّ
يحتفظون بسر “الوجود اإللهي” على وجه األرض .فهم ال يزالون ُيغ ّنون جمال األشجار والزهور والطيور،
إلحداث توازن ضد انحراف العالم الصناعي بما جاء به من ملوثات مدمرة فإن أفكار هؤالء المدافعين عن
البيئة لم تتمكن من مالمسة قلوب غالبية البشر .فالتلوث والنهب اللذان طاال باطن األرض متواصالن ،من
دون أن يعلو في الرأي العام صوتٌ يقول بوضوح :ك َفى ،توقفوا! إن الكارثة التي أعلن عنها العلماء
ال ُم ستنيرون ال تكمن في االحتباس الحراري بقدر ما تكمن في فقدان وعي األفراد المنتمين إلى األرض .كيف
يمكن للرجال أن يبتكروا في مصانعهم القنابل وقاذفات القنابل ،واأللغام المضادة لإلنسان ،والسموم ،وفي
المساء يعودون إلى بيوتهم لكي يرعوا أطفالهم ،مطمئني القلب والبال ،وهم يعلمون أن هذه القنابل والسموم
قداسة الجغرافيا
يمارس على البشر من خالل ترسانة من أسلحة الدمار ،فإن األرض ليست
َ ويضيف فيتز أنه إذا كان العنف
مستثنا ًة من هجمات مماثلة من قبل الصناعة والزراعات المكثفة .إن أولئك الذين يهتمون بالبيولوجيا يعرفون
أن األرض أشبه بكائن حي يعيش مع شبكاته الطاقوية المقدسة ،ونقاط تج ُّددِها ،ومع مناطقها المريضة.
فالجغرافيا المقدسة توضح لنا كيف تتواصل مختلف النقاط األرضية العليا بعضها بالبعض اآلخر .كل هذا
لنقول إن األرض ليست مجرد كومة من الصخور المنصهرة ،أو الباردة .بل هي كائن حي يمتلك هال َته وبني َته.
فمنها تستمد األماكن حيويتها .والحال أن مستويات الطاقة في مناطق األرض تختلف وفقا لماضيها التاريخي،
ووفقا للصناعة المقامة عليها ،ووفقا للسلوك البشري .لذلك ،فإن هناك صلة مباشرة بين أسلوب الحياة
(الجيوبيولوجيا علم حديث جدا نشأ عند نهاية القرن العشرين) يتحدثون في هذا الشأن عن “التوازن الكوني
األرضي .فهذه االختالفات في القطبية تؤدي إلى نشوء تبادالت مستمرة في الطاقة التي تغذي الكائن الحي.
فعندما تختل هذه التوازنات يصبح مكان العيش ،أي المكان الذي نعيش فيهُ ،مسببا لألمراض بسبب نقص
الطاقة فيه .وهذا النقص مرده أساسا إلى طبيعة طرق البناء (الخرسانة المسلحة ،أو ما يسمى في بالدنا
تشو ه طبيعة العالقات الكونية األرضية ،كما هو الحال على سبيل المثال
بالباطون) ،ولِوجود أنشطة صناعية ّ
مع أجهزة اإلرسال التلفونية الالسلكية (الموبايالت) والرادارات .ولذلك هناك انعكاسات وتداعيات خطيرة على
الصحة تبدأ في الظهور بعد سنوات قليلة .فكل شيء متفاعل بعضه مع البعض اآلخر.
حسبنا ،يقول فيتز ،أن ننظر إلى األرض من خالل عيون الروح ،لنالحظ أن األرض تتألم وبشدة .في هذا
الشأن سيقول العقالنيون (المفرطون في اإليمان باإلله العقل) أن الكوارث كانت تحدث دائما ،وسوف يستمر
وهو ما يشعر به كل واحد منا :فالشمس لم تعد “ ُتد ّفئ” كما كانت من قبل ،بل صارت ْ
“تحرق” .هناك في
الكون ما يسمى بقانون السبب والنتيجة .إن ما حدث مؤخرا من كوارث طبيعية في قارة آسيا بليغ جدا .فمن
القراءةـ الرمزية نستنتج أن األرض صارت تدافع عن نفسها :فالمحيط بدأ يدفع البشر إلى داخل األراضي،
واألمطار الغزيرة والعواصف بدأت تطرد التلوث .فاألرض – إذنْ – بدأت تتنفس وتتطهر! وهذه القراءة ليست
سياسة إزالة الغابات المفرطة ،وأن الشعاب المرجانية التي تضررت بسبب التلوث لم تعد تكبح الموجات ،وأن
وأخيرا أن مستوى البحر (البحر دائما) في تصاعد مستمر! أما فيما يتصل
ً األرض تتراجع في أماكن كثيرة،
بالزالزل األرضية أو الهزات التي تحدث في البحر فال بد من أن نعرف أن ضخ طبقات النفط الجوفية يلغي (أي
يقضي) تدريجيا “الوسادات” (مفردها وسادة أي المخدة) ال ُمخففة للضغط ،والكابحة للزالزل األرضية .كل
(وهي فضاءات حقيقية لتعشيش الطيور الطبيعية) والخنادق على طول الطرق ،واحدا من األسباب المؤدية
إلى الفيضانات .ومن ناحية أخرى فإن أساليب الزراعةـ المكثفة ،القائمة على األسمدة الكيماوية ،تساهم في
غسل األراضي بسبب عدم وجود األسمدة الطبيعية كالدبال ،مثال .وأما النتيجة فهي ارتفاع مستوى المجاري
النهرية ،وهو ما يسبب في فترات األمطار الغزيرة كوارث ُنسميها “كوارث طبيعية”.
ويستاءل فيتز “ما العمل إذن؟” ويجيب قائال “علينا أن نستعيد رشدنا! أن نعيد من حولنا بناء عالم يحترم
برجلين أو بأربعة قوائم .أال نؤيد ونشجع التجارب
كوكب األرض ،ويحترم بالتالي سكانها ،سواء كانوا ِ
المخبرية على الحيوانات! أال نفرط في “قتل” الحيوانات ،من خالل اعتمادنا لنظام غذائي نباتي .فخالفا
لالعتقاد السائد لم ُي خلق اإلنسان لكي يكثر من أكل لحوم الحيوانات “الميتة” ،ألن أمعاء اإلنسان طويلة مثل
أمعاء الحيوانات العاشبة (آكلة األعشاب) ،وليس كأمعاء الحيوانات آكلة اللحوم .ناهيك عن أن أسنان اإلنسان
ليست كأنياب آكالت اللحوم! فلِم اإلفراط إذن؟ وعلى صعيد أشمل تتطلب تربية الثروة الحيوانية أعالفا كثيرة،
ومن ثم أراض زراعية ،وبالتالي حرمان المناطق الفقيرة من الموارد الغذائية الطبيعية.
في جوهر األشياء ُخ لق اإلنسان ليأكل “ثمار األرض” ،وهذا بكل معاني الكلمة .فوفقا إلحصائيات النبات ّيين
األكثر صحة وجدية تأكد أن هؤالء النباتيين أكثر صحة من أكلة اللحوم .فالغذاء النباتي يخفف من وطأة
ويشير فيتز إلى التجارب حول ذاكرة المياه التي أجراها الباحث الشهير جاك بنفينيست Jacques
المعاناة واآلالم التي تتلقاها ،ومن ثم هناك من يقول أو يؤكد أن األمراض تأتي من هذه الجرعة القاتلة
َّ
المخزنة في منتجات اللحوم التي يساء استعمالها.
المستشفيات فيها تصل إلى أحجام ضخمة كما هي اليوم ،والتي لم تكن فيها األمراض قد تطورت إلى الحد
فاألمراض الجسدية ليست سوى نتيجة لتدهور النظام الطبيعي ،ألن صحة البشر مرتبطة بصحة األرض.
فاالثنان شريكان ،ومن الملح تطوير مفهوم الصحة البيئية ! كيف يمكن لنا أن نتصور أنفسنا في حالة جيدة
في الوقت الذي تتعرض األرض التي نعيش عليها لإلنهاك ،وفي الوقت الذي تمتلئ األغذية التي نتناولها
بالمواد الحافظة ،وتخلو من الطاقة؟ لذلك فإن عالج اإلنسان وشفاء كوكب األرض عملية ال ينفصل بعضها
ألن تجربة أي جيوبيولوجي تبين أن ما من أحديمكن أن يبقى في صحة جيدةفي بيت غير صحي.
وهذامثالصارخللعالقة الوثيقةبين الفرد وبين بيئته .فحين نتعلم كيف “نعالج” المنازل وأماكن العمل من
أمراضها – وما أكثرها ،وهي ال تقتصر على النظافة وحدها – سوف نالحظ أن هناك آثارا مباشرةليس
فقطعلى صحةسكان هذه البيوت وهذه األماكن ولكن أيضاعلىنفوسهم ،أو باألحرى أرواحهم! هناك
ويخلص فيتز إلى القول بأن التفكير التحليلي جعل من اإلنسان حكي ًما أع َمى لم يعد يرى المجموع والمجاميع.
الفص األيمن من الدماغ ،من خالل الممارسة اليومية للتفكير القياسي (النظم اإليكولوجية)،
ّ إن تطور مواهب
والرسم ،والصورة والفن قادرة على ملء هذه الثغرات .ألن العقل ال يشتغل في الوقت الحلي إال بعين واحدة،
وهو الفص األيسر ،ومن هنا ظل اإلنسان أعرج .وتلك حقيقة يجب أن نعيها ونهتم بها! ولذلك من المهم أن
نمنح كل شخص الشعور بالمسؤولية ،من خالل التنوع ،وتفتح الكائن على طاقاته الكامنة.