You are on page 1of 24

‫م‬ ‫ش‬‫ً ت ال‬

‫غدا شرق س‬
‫عاتشة ابو عمر‬
‫‪1‬‬

‫اعتادت المدينة أن ترفع عنها سدول الليل وتبدأ نشاطها مبكرا بعد ساعات الفجر األولى ‪..‬‬
‫تتلون السماء بألوان الشروق الصافية‪ ،‬أحمر‪ ..‬أصفر‪ ..‬بنفسجي‪ ..‬برتقالي‪ ..‬كهرماني‪..‬‬
‫لوحة فنية متكاملة تزين تلك القبة الزرقاء ‪.‬‬
‫إن مشيت في الشوارع يمكنك أن ترى حركة خفيفة بطيئة تسري في األحياء ‪..‬‬
‫بائع يفتح دكانه هنا ‪..‬‬
‫عجوز يمشي إلى عمله هناك ‪..‬‬
‫سيارة أو سيارتين ‪ ،‬ودراجة نارية ‪..‬‬
‫صوت فيروز من أحد الشرفات ينبعث‪..‬‬
‫قليل من الحياة هنا وقليل منها هناك ‪ ،‬على األقل إلى الحد الذي يحول دون أن تصبح مدينة‬
‫أشباح ‪..‬‬

‫الخريف بدأ ولكن المدارس لم تفتح بعد ‪ ،‬وقد ال تفتح هذا الشهر ‪ ،‬وربما حتى القادم أو الذي‬
‫بعده‬
‫أو ربما في موعد ما‪..‬‬
‫حين تكف الطائرات عن زيارة المدينة ربما!‬
‫نعم! فأنت في ساحة حرب يا صديقي‬
‫مدينتك في ساحة حرب ‪ ..‬وأنت جندي على خط جبهة مهما كنت ومهما كانت وظيفتك في‬
‫الحياة ‪ ،‬أنت هدف شرعي يمكن أن تلقى حتفك في أي لحظة ‪ ..‬وال تسأل عن السبب!‬
‫مت فحسب !! مت بهدوء دون أن تزعج العالم بموتك ‪..‬‬
‫ثم من أنت حتى يلتفت لك الكون ؟!‬
‫العالم مشغول بطباعة منشورات تتحدث عن اإلنسانية ضد رجل قام بقتل كلب !‬
‫وآخر دهس قطة ! وثالث قام بقطع شجرة وهدد أمن النظام البيئي العالمي !!‬
‫حتى اإلنسانية ذاتها مشغولة عنك فمت بهدوء أرجوك‪..‬‬

‫‪1‬‬
‫وإياك أن تطمع أن يسلط الضوء عليك ‪ ..‬يموت الكثيرون في كل يوم مثلك !‬
‫واحد زيادة لن يضر‪ ،‬ولن ينقص من وزن كتلة األرض شيئا ‪.‬‬
‫ثم إن الحياة _ التي تعد أنت أثمن منها_ لم تعطك حظك منها ‪ ،‬أتطمع بالموت؟!!‬
‫يا لك من أبله!!‬
‫أنا آسف حقا ‪ ..‬ال أقصد أن أدوس على جراحك ‪ ،‬ولكنك ولدت هنا وكبرت هنا وتعرف ما‬
‫أعني وتعلم ما الحياة والموت بالنسبة لنا ‪..‬‬
‫نحن الذين يقترب الموت منا كل يوم عشرات المرات‪..‬‬
‫يرمقنا من بعيد أحيانا ‪ ،‬وقد يزور بعضنا عن قرب أحيانا أخرى ‪..‬‬
‫ربما فاجأك في السوق مثل بصاروخ يسقط على بعد مئتي متر منك ‪..‬‬
‫وربما غمزك بقذيفة تفجر البيت الذي يجاورك‪ ،‬فقط ليضع في حسبانك أن‪" :‬ال تنسني فأنا هنا‬
‫دوما‪ ..‬من أجلك أو من أجل غيرك ‪ ،‬المهم أنني هنا "‬

‫‪15/9/2015‬‬

‫‪#‬أنس_الشامي‬

‫نسخ ‪ ...‬لصق‬

‫نشر ‪......‬‬

‫منشور آخر على فيس بوك‪ ،‬ربما يحدث فرقا أو يؤدي إلى تغيير ما ‪ ...‬ربما‬

‫‪2‬‬
‫_ أنث‪ ..‬أنث!!!‬
‫_ ‪......‬‬
‫_ ما هو هذا الذي يلمع هناك؟‬
‫_ هناك؟؟ إنها نجمة ‪ ..‬نجمة صغيرة مثلك‬
‫_ هل يمكنني التقاطها ؟‬
‫_ لم تريدينها ؟‬
‫_ الغرفة مظلمة ‪ ..‬لربما استطعنا الرؤية جيدا في الليل بوجود النجمة ‪ ..‬أال تظن ذلك؟‬
‫_ ‪ ....‬بالتأكيد‬
‫_ هل تموت النجمة ؟‬
‫_ عمرها طويل جدا يا شمس‬
‫_ هل ستموت بعد زمن بعيد ؟‬
‫_ اطمئني ‪ ..‬ستكون موجودة دائما هنا‬
‫_ ماذا أفعل إذا ماتت ؟؟‬
‫_ سآتيك بأخرى ال تقلقي‬
‫_ ليتني نجمة‪..‬‬
‫_ أنت أجمل منها !‬
‫_ أتخيل الجلوس في السماء العالية هناك ‪..‬على إحدى تلك الغيوم ‪ ،‬الرؤية من هناك جميلة‬
‫أليس كذلك ؟‬
‫_ ال أعلم ‪ ..‬عندما أجرب سأخبرك بذلك‪ ..‬ههههه‬
‫_ خذني معك بابا‬
‫_ سنذهب سويا يا شمس ‪..‬‬
‫_ وسنحضر نجمة لماما أيضا‬
‫_ موافق ‪ ..‬أال تذهبين للنوم اآلن‬
‫_ أخبرتني جدتي أنني أصعد للسماء عندما أموت‪ ..‬حقا !‬

‫‪3‬‬
‫_ ستعيشين طويل يا شمسي ‪ ..‬أعدك بهذا‬
‫_ وعندما أموت سأصعد ؟‬
‫_ ‪ ..............‬نعم‬
‫_ سأصبح نجمة أليس كذلك ؟‬
‫_ أال تحسين بالنعاس شمس ؟‬
‫_ سأصبح نجمة ؟‬
‫_ ستكونين نجمة جميلة جدا يا عزيزتي‬
‫_ سأصبح نجمة‪ ..‬وسأنظر إلى األرض من األعلى وسأضيئ الطريق لمن ال يملكون النور‬
‫في بيوتهم ‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫_ لنعقد اتفاقا ومن ثم نذهب للنوم ‪ ..‬ما رأيك شمس؟‬
‫_ اتفاق ماذا ؟‬
‫_ سأسمح لك أن تصبحي نجمة ‪ ..‬لكن قبل ذلك ‪ ..‬ستعدينني أن تكبري وتصبحي فتاة قوية‬
‫جدا وسعيدة و أن تحققي كل أحلمك ‪ ..‬ما رأيك ؟‬
‫_ اتفقنا ‪..‬‬
‫_ إذن ‪ ..‬الى النوم اآلن‬
‫_ أال يمكننا أن نختار اآلن أين سأجلس عندما أصبح نجمة ؟‬
‫_ تأخر الوقت يا شمسي ‪ ..‬ستغضب أمك مني ومنك ولن تسمح لنا بالسهر غدا !‬
‫_ حسنا ‪ ..‬سنختاره غدا‬
‫تصبح على خير أنث !‬
‫_ تصبحين عليك يا جميلتي !!‬

‫‪4‬‬
‫طبقا للمنطق‪ ..‬ال يستطيع الضعيف أن يسيطر على القوي ‪ ..‬وال أن يلزمه باتباعه واالنصياع‬
‫له وتنفيذ رغباته ‪..‬‬
‫لكن "شمس الصغيرة" قلبت كل موازين المنطق التي أؤمن بها تماما !‬
‫كانت يديها الصغيرتان تمسكان بزمام حياتي كلها‪ ،‬تقودني أنا شاءت وكيفما أرادت‬
‫عيونها البنية الصغيرة وشعرها الكستنائي الداكن بخصلته الملتفة بأنوثة طاغية ملكا علي لب‬
‫عقلي وأسرى روحي بجمالهما‪..‬‬
‫لطالما أخبرتني "رهف" وبكل غرور أن شمس تشبهها أكثر مني‪ ..‬لكنني كنت أرد عليها‬
‫بحنكة الزوج اللماح ‪ :‬هو المنى يا عزيزتي ‪ ..‬إحداكما تذكرني باألخرى ‪ ..‬وال أحب إلي‬
‫منها إال أمها والعكس صحيح أيضا‪.‬‬
‫لم نكن العائلة المثالية‪ ..‬ولكن كنا العائلة السعيدة التي تعيش بهدوء ورضا طالما كان ذلك‬
‫باإلمكان‪.‬‬
‫لم تكن تلك رفاهية متاحة في بلد يعيش حالة حرب مجهولة النهاية ‪ ،‬لكننا حاولنا فعل ما‬
‫بوسعنا ‪ ..‬كنت و"رهف" وال زلنا متفقين على ذلك ‪ ،‬نواسي بعضنا ومن حولنا بكل ما أوتينا‬
‫من أمل في حياة أفضل ‪.‬‬
‫كان القصف يشتد يوما بعد يوم و ال وجود ألخبار سارة تلوح في المستقبل القريب ‪ ..‬لكن‬
‫وفي حال كنت زوجا وأبا سيتوجب عليك أن تكون البطل الذي ال يقهر‪ ..‬والسند الذي ال يميل‬
‫ورهف كانت لي خير شريك في ذلك ‪ ،‬لكن شمس ‪-‬وبسنوات عمرها األربع القصيرة‪ -‬لم تكن‬
‫تعرف كيف تدعمني بأكثر من ابتسامتها الشقية المرحة كلما عدت من العمل ‪.‬‬
‫وبالنسبة لي كان ذلك كافيا تماما ‪ ..‬يكفيني أن تضمني دون أن تكترث لثيابي المتسخة أو‬
‫لوجهي األغبر ‪ ..‬كانت تمسح بيدها الصغيرة ما علق من التراب على جفوني ثم تقبلني بدفء‬
‫وتسألني سؤالها المعتاد ‪ :‬كم طفل أنقذت اليوم ؟‬
‫كانت هذه شيفرة بيننا اتفقنا عليها منذ أصبحت تستطيع الكلم وشرحت لها عن طبيعة عملي‪،‬‬
‫كانت سعيدة بكونها "ابنة البطل الخارق" الذي يخرج الحياة من قلب الموت ويعيد لألطفال‬
‫بسمتهم‪ ..‬حتى غدت هذه مهمتي الثانية التي اشتهرت بها ‪ ..‬البطل الخارق في نظر شمس‬
‫وكل رفاقها في الحي ‪ ..‬كانوا يستقبلونني ببسمات خلبة وعيون بريئة تنسيني كل تعبي ‪..‬‬

‫‪5‬‬
‫ثم استمع بكل شغف ألحاديثهم عما فعلو خلل يومهم وعما أخبرتهم شمس من حكايات ‪..‬‬
‫كانت األصغر سنا لكنها كانت تكبرهم بأشياء أهم من عدد السنوات الفعلي ‪ ..‬كانت كلماتها‬
‫وتصرفاتها تشعرني أنها في السادسة وتصيبني بالدهشة أحيانا ‪ ..‬كانت تفهم ما نمر به‬
‫وتحاول بكل ما تملك من خبرة عمرها القصير أن تخفف عني وعن والدتها ‪.‬‬
‫كان سكان الحي ‪-‬وكعادة الجميع في أوقات الغارات الجوية – يجتمعون في بيت واحد‬
‫نعتقد أنه األكثر أمانا تبعا لموقعه الذي يبعده ‪-‬ولو وهما‪ -‬عن أهداف القنابل والصواريخ‬
‫التي كانت تنهال من كل األطراف‪ ،‬كانت شمس تهدأ األطفال الذين يشرعون بالبكاء ما إن‬
‫يقترب صوت هدير الطائرة من سماء حيينا ‪.‬‬
‫كان عملي كمسعف في الدفاع المدني يفرض علي التغيب في أوقات كهذه عن عائلتي و‬
‫لم يكن لدي ما أوصي به رهف إال شمس ولم أوص شمس يوما إال أن تعتني برهف ‪..‬‬
‫لم أكن أرى أي اختلف بينهما وكنت واثقا أنني أستطيع أن أثق بشمس كثقتي برهف‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫‪2‬‬

‫جوع ‪ ...‬قصف ‪ ...‬موت ‪ ...‬تهجير ‪ ...‬نزوح ‪ ...‬مرض ‪ ...‬رعب ‪ ...‬ألم ‪ ...‬خوف‬

‫كيف فيك تلقي سعادة وأنت عايش وسط كل هاد البؤس اللي بخليك ما تفكر إال بشي واحد‬
‫بس ‪ ،‬أنو إيمتى رح موت ! ويا ترى لما موت رح كون جثة كاملة أو مقطعة !! ويا ترى رح‬
‫القي قبر يحتويني وال رح كون ضمن مقبرة جماعية للموتى المجهولين!!‬
‫معك حق تتفاجئ صديقي ‪ ..‬معك كامل الحق ‪ ..‬أنا متلك ‪ ..‬آخر شي كنت فكر فيه هو الموت‬
‫بس هأل صار شغلي الشاغل اني فكر بطريقة موت كريم بما أنو صار"العيش الكريم" هو‬
‫السهل الممتنع !‬
‫‪........‬‬
‫فعل مهزلة !! اللي عم يصير مهزلة حرفيا ‪ ..‬مين المسؤول طيب ؟‬
‫مين اللي بإيدو التغيير وواقف عم يشوف وساكت؟؟‬
‫أنا بس ما عم استوعب كيف عم يغمض عيونو وهو عارف ومتأكد انو في ناس غيرو بمكان‬
‫ما بهاد العالم عم تموت بنفس اللحظة!!‬
‫متخيل معي؟؟‬
‫أنا متلك بنفس الحيرة واالستغراب‪..‬‬
‫أو باألحرى اشمئزاز!‬
‫وقرف من كل شي‪ ..‬من كل شي عم يصير ومن كل شي رح يصير‪..‬‬
‫إييييه‬
‫هللا يفرجها أحسن شي‬
‫‪20 \9\ 2015‬‬
‫‪#‬أنس‪-‬الشامي‬
‫نسخ ‪ ...‬لصق‬

‫‪7‬‬
‫كل األخبار كانت تنذر ببدأ حملة شرسة على البلدة ‪ ..‬وال مكان نذهب إليه حتى الملجئ‬
‫ضاقت بساكنيها ‪ ..‬وأصبح ما تحت األرض خير من فوقها والموت السريع أفضل من حياة‬
‫تشرب فيها الموت على جرعات كل يوم !‬
‫بالنسبة لي كمسعف وبعد عدة سنوات دامية من الثورة ‪ ..‬كنت وال زلت على تماس مباشر مع‬
‫كل مظاهر العنف والدم منذ انطلق أولى الحملت المسلحة ضد المدنيين العزل ‪..‬‬
‫أحاول التوصيف بأقل قدر ممكن من األذى لكن ‪..‬‬
‫أن ترى اإلنسانية أمامك منتهكة عارية مسلوبة القوة واإلرادة في الدفاع عن نفسها لهو أمر‬
‫شاق متعذر ‪..‬‬
‫أول ما عليك التفكير فيه لحظة سماع اإلنذار هو وضع كل االحتماالت السيئة في حسبانك‬
‫و أن تجهز نفسك لرؤية ما ال يمكن لعقل بشري تصوره ‪ ،‬خصوصا عندما تتذكر أن من فعل‬
‫ذلك هو بشري مثلك ‪ ..‬أو ربما!‬
‫لحظات ‪....‬‬
‫وتمتلئ سيارات اإلسعاف بالجثث ‪ ..‬الحية والميتة على السواء‬
‫تدوي أصوات السيارات في سماء المكان لتزاحم الدخان المنبعث من الحرائق الناتجة عن‬
‫القصف والغبار المثار بتأثير ما بعد االنفجار ‪..‬‬
‫يهرع الجميع للمساعدة في رفع ما أمكن من البناء المتهالك إلخراج من دفن حيا ومسابقة‬
‫الموت في الوصول إليهم أوال‬
‫‪...‬‬
‫ال ننجح دائما ‪ ..‬الموت أيضا سريع سرعة الصاروخ ‪،‬ال يحدث جلبة كبيرة لحظة وصوله‬
‫ال تعرفه إال بعد أن يغادر ‪ ،‬تلحظ أنه كان هنا وترى آثار قدميه الدامية تتبعه األرواح التي‬
‫التقطها لحظة نزوله ‪..‬‬
‫عدة سنوات وأنا على تماس مباشر مع الموت بشكل شبه يومي ‪ ،‬لم أعتده ‪ ..‬لم أستطع ذلك‬
‫لم يصبح شيئا عاديا بالنسبة لي ولم أكن ألنظر له على أنه روتين يحدث كل يوم كما تشرق‬
‫الشمس وتغرب!‬

‫‪8‬‬
‫كنت أشتم رائحته الثقيلة كلما وصلت مكان الحدث‪ ..‬هل سبق لك أن وصفت طعم ولون‬
‫رائحة ما؟!‬
‫أستطيع أن أصف لك رائحة الموت على أنها مرة سوداء!‬
‫ال تسألني كيف؟!‬
‫هكذا كنت أتخيلها دوما‪..‬‬
‫يعبق بها المكان لعدة أيام بعد القصف‪ ..‬تمأل البيت الذي لطالما مألته ضحكات سكانه و‬
‫أصواتهم وضجة اجتماعاتهم المرحة‬
‫هنا شال ممزق يفترش األرض ‪ ،‬ماتت الجدة التي كانت تضعه على كتفها‬
‫هنا حذاء جلدي أسود ضاع زوجه ‪ ،‬مات األب الذي كان يرتديه عند خروجه للعمل‬
‫هنا ملعقة و صحن فارغ إال من بعض قطرات الدم التي جفت على أطرافه! ماتت األم‬
‫التي كانت تسكب فيه طعام عائلتها‬
‫وهنا‪ ...‬كرة و دمية بفستان أصفر اللون و شريطة حمراء علقت بها بضع شعيرات‬
‫بنية اللون !! ماتت الفتاة التي كانت تملكهم ‪ ،‬لن تربط شعرها بتلك الشريطة فقد احترقت‬
‫خصلت شعرها الجميل!‪ ..‬و لن تلعب بالكرة أو الدمية فقد بترت قدمها ويديها !‬
‫ضمها قبر‪...‬‬
‫صغير بقدر عمرها ‪ ،‬كبير بقدر حقدها وغضبها على البشرية‬
‫كنت أسمع عن الحضارة كثيرا في المدرسة وأن البشرية قد أحرزت شوطا كبيرا في التقدم‬
‫والتطور!!‬
‫أليس من المضحك أن هذه "الحضارة" عجزت عن حفظ روح هذه الطفلة؟!‬
‫وأن كل مظاهر التغني بحقوق اإلنسان وحمايتها لم تستطع أن تؤمن لهذه البريئة ميتة إنسانية‬
‫فضل عن حياة تبدو كذلك؟!!‬
‫أي عار ستوصم به؟؟ وكيف ستدافع عن نفسها حين تواجه نظرة تلك الطفلة التي تشع غضبا‬
‫وحقدا وسخطا على الحضارة منذ وجدت وحتى القيامة ؟؟؟‬

‫‪9‬‬
‫‪3‬‬

‫زمان كان في عنا ختيار يمشي بالحارة يبيع فول مسلوق أو معروك أوغزل البنات‬
‫أو قطع كاتو صغار ‪ ..‬كان يجي بعد العصر وكنت استنى وقت يمر تحت شباكنا بفارغ‬
‫الصبر وحاول انو ما تعصب أمي مني حتى تخليني انزل اشتري‪..‬‬
‫كنت اعرف أنو بعد كل هاالنتظار في شي حلو رح يصير واللي هو االكلة الطيبة اللي‬
‫رح آكلها ‪...‬‬
‫اليوم كنت عم فكر ‪ ..‬أطفال الحرب شو بيستنوا؟؟‬
‫شو الشي الحلو اللي ناطرينو لحتى يصبروا كرمالو؟؟‬
‫أنا كنت أعرف توقيت عمو البياع وقت يمر من جنب بيتي‪ ،‬بس األطفال هون بتعرف‬
‫وقت الغارة وحافظين إيمت بتمر الطيارة لحتى يعرفوا إيمت الزم ينزلو‬
‫عالملجأ يتخبوا!!‬
‫مفارقة صعبة يا صديقي صح ؟!!‬
‫والمقارنة متعذرة لألسف ‪ ..‬وما فيك تشرح الفكرة هي لطفل بيعرف شو يعني طيران‬
‫حربي وصاروخ وقذيفة وملجأ!!‬
‫‪.......‬‬

‫حلمي بس يجي اليوم اللي ما يفكر فيه هاد الطفل إال باللعبة الجديدة اللي رح يشتريها‬
‫أو شو األكلة الطيبة اللي رح ياكلها بعد ما يخلص واجبات المدرسة ‪..‬‬

‫‪23\9\2015‬‬
‫‪#‬أنس‪-‬الشامي‬

‫نسخ ‪ ....‬لصق‬

‫‪10‬‬
‫‪4‬‬

‫استيقظت صباح ذلك اليوم مريضا ‪ ،‬أعاني آالم شديدة في رأسي وبالكاد أستطيع‬
‫تحريكه‪ ..‬طلبت مني رهف البقاء في المنزل ألرتاح‪ ،‬لكنني رفضت وارتديت‬
‫ثيابي وهيأت نفسي للخروج‪..‬‬
‫استيقظت شمس قبل ذهابي بدقائق كعادتها‪ ،‬وودعتني كعادتها‪ ،‬ضمتني بيديها‬
‫الصغيرتين‪ ،‬طبعت قبلة على خدي‪ ،‬ألقت على سمعي كلماتها التي أصبحت جزءا ال‬
‫يتجزأ من وداعنا الصباحي‪" :‬أنت بطل‪ ..‬أنقذ الكثير من األطفال اليوم!! وأحضر لي‬
‫اللعبة التي أخبرتك عنها وال تتأخر‪ ،‬سأساعد ماما في الطبخ اليوم‪ ،‬سأطعمك أنا اليوم"‬
‫لم أنتبه لكل ما قالته تماما ‪ ،‬كان الصداع يصم أذني عن التركيز على ما تقوله‪..‬‬
‫أجبتها على عجلة وخرجت‪..‬‬
‫وصلت مكان العمل وقد بدا علي التعب واإلعياء‪ ،‬طلبت من زميلي أن ينوب عني ريثما‬
‫أرتاح قليل‪ ..‬تناولت حبتين من عقار مسكن وأخلدت للنوم‪..‬‬
‫ال أستطيع تذكر كم نمت من الوقت‪ ،‬خمس عشرة دقيقة ربما أو نصف ساعة‬
‫لم أكن أرى أحلما عندما كنت أنام متعبا ‪ ،‬كل ما أتذكره كان سوادا‪ ،‬سوادا النهائيا‬
‫لم ينهه إال صوت انفجار قطع علي نومي الهش بشكل مخيف‪..‬‬
‫تله صوت انفجار آخر‪..‬‬
‫ثم ثالث ورابع‪..‬‬
‫إنها غارة!!‬
‫اآلن!! في الصباح؟!!‬
‫ليس هذا وقت الغارات عادة ‪ ،‬توقيت جديد هو إذن‪ ..‬خطة ناجحة تماما إلحراز أكبر‬
‫عدد من الضحايا في لحظات كان العزل األبرياء يأخذون فيها قسطا من األمان!!‬
‫دوت صفارات اإلنذار وسمعت أصوات دواليب سيارات اإلسعاف تشق إسفلت الطريق‬
‫حين انطلقت‪ ..‬هرعت للخارج ألرى ما الذي يجري‪ ..‬أخبرني زميلي أن غارة جوية‬
‫انتهت للتو‪ ،‬سألته عن مكان القصف فأخبرني أنه ليس بعيدا من هنا وأن النجدة قد‬

‫‪11‬‬
‫سارعت للمكان للمساعدة‪ ..‬سألته عما إذا كانوا بحاجة مساعدة فأنا مستعد للذهاب‬
‫فأخبرني أن أعود للداخل وأحصل على قسط من الراحة وأن األمر تحت السيطرة‬
‫وما من داع لذهابي‪..‬‬
‫لم أكن أنوي الدخول لكن الصداع كان قويا ولم ينفع معه المسكن الذي تناولته‪..‬‬
‫اغمضت عيني لكنني لم أنم‪ ..‬وبالصدفة كانت قبضة التواصل اللسلكي الخاصة‬
‫بصديقي على المنضدة بجوار السرير حيث أستلقي ‪ ..‬سمعت ما دار من الحديث‬
‫بين أفرد طاقمنا ولم أفهم ما الذي كان يجري‪:‬‬
‫"حول‪ ..‬حول‪ ..‬هناك إصابات يا علي‪ ،‬طلبنا تعزيزات من مقر الدفاع في الحي المجاور‬
‫وهي في طريقها إلينا‪ ،‬ال توقظ أنس وال تخبره بشيء‪ ..‬انتهى"‬
‫ساورني المزيد من الشك ولم أتمالك نفسي فنهضت وذهبت ألعرف ما الذي كان يحدث‬
‫دهش "علي" عند ما رآني وكأنه لم يتوقع أن يراني أمامه في تلك اللحظة ‪ ،‬سألته ‪:‬‬
‫_ ما الذي حدث ؟‬
‫_ ال شيء ‪..‬‬
‫_ أخبرني هل حصل مكروه ؟‬
‫_ ال ال لم يحصل شيء‬
‫_ أنت تخفي أمرا ما ‪...‬‬
‫_ ‪........................‬‬

‫‪12‬‬
‫‪5‬‬

‫من أصعب المواقف التي قد تمر على من يعمل في المجال اإلنساني عموما هو عندما‬
‫يتوجب عليك أن تخبر العائلة أن فردا من أفرادها قد فارق الحياة ‪ ..‬وتشرح لهم أسباب‬
‫الوفاة وكيف أنك فعلت ما بوسعك لتنقذه لكن الموت كان أسرع وصوال ‪ ..‬لك أن تتخيل‬
‫التفاصيل المؤلمة التي ترسم المشهد بكل نواحيه‪...‬‬
‫أتذكر مرة حين أخبرت عجوزا وزوجه عن وفاة ولديهما ‪ ،‬لم يكن لديهما أبناء غيره‬
‫جمدت ملمح العجوز ولم يظهر عليه أي رد فعل ‪ ،‬جلست زوجه على الكرسي وبدأت‬
‫بالبكاء ‪ ..‬لكنه بقي صامتا ‪ ..‬لم أعرف ما الذي دار في باله لحظتها ولم أكن ألتمنى أن‬
‫أكون مكانه أبدا ‪ ..‬أن أعلم أن ولدي فارق الحياة ولم يعد موجودا وأنا الذي كنت أراه‬
‫الحياة نفسها‪ ..‬يعجز لساني عن الوصف وتقف مفردات اللغة خجل من التعبير عن‬
‫مشهد كهذا ‪....‬‬

‫‪13‬‬
‫وصلت المستشفى هائما على وجهي ال أدري أي جهة أسلك ‪ ،‬هذا المكان الذي دخلته‬
‫آالف المرات وأنا أنقل المصابين ‪ ،‬اليوم أدخله للبحث عن عائلتي بعد ما استهدفتهم‬
‫الغارة الصباحية التي أتت في موعد غير متوقع لتفتك بهم بغير ما شفقة أو رحمة !!‬
‫نسيت آالم رأسي ونسيت كل شيء ‪ ،‬نسيت اسمي ومن أكون ‪ ،‬نسيت أنني المسعف‬
‫الشجاع الذي لطالما واجه الموت وكان أقوى منه وأنقذ األرواح البريئة ‪ ،‬نسيت أنني‬
‫بطل ابنتي الذي ال يقهر ‪ ..‬ابنتي الذي ال أعلم حتى اآلن أي شيء عن حالتها ‪..‬‬
‫دخلت قسم اإلسعاف ‪ ،‬رآني صديقي وأدار وجهه عني فورا ‪ ،‬هرعت إليه مسرعا ‪:‬‬
‫_أين هم ؟‬
‫لم يستطع أن يواجه خوفي وغضبي فأجابني مرتعدا‪:‬‬
‫_ زوجتك في قسم العمليات ‪ ،‬يحاول األطباء إيقاف النزيف‬
‫_ ما الذي جرى ؟‬
‫_تعرضت لضربة مباشرة على رأسها‬
‫_ وشمس ‪ ..‬أين هي ؟‬
‫نظر إلي وقد ثبت عينيه ولم يحركهما‬
‫_ أخبرني أين هي ؟‬
‫_ أهدأ قليل‬
‫_أخبرني أين هي؟‬
‫_ مازال البحث جاريا ‪ ..‬لم نجدها بعد‬
‫حاول أن تهدأ قليل ‪ ،‬فرق اإلنقاذ ما زالت في المكان ترفع األنقاض وتخلي‬
‫المصابين‪ ..‬استهدفت الغارة أربعة منازل والدمار كبير‪ ..‬قد يأخذ األمر وقتا‬
‫لكن ال تجزع ‪ ..‬تعلم جيدا كيف تجري األمور ‪.‬‬

‫صوت ما داخل عقلي تحدث ‪":‬ال ‪..‬ال أعرف ‪ ،‬كل ما أعرفه أن ابنتي في مكان ما تحت‬
‫ذلك الدمار وال أعرف ما إذا كانت حية أو ‪".......‬‬

‫‪14‬‬
‫لم أعِ أي كلمة مما قاله صديقي ‪ ..‬توقفت أذني عن السماع منذ قال أن شمس مازالت‬
‫مفقودة !‬
‫ال أعرف كيف وصلت للخارج وركبت السيارة واتجهت إلى حيث منزلي ‪ ،‬أو باألحرى‬
‫إلى حيث كان ‪..‬‬
‫وصلت هناك ‪ ..‬كانت فرق اإلنقاذ ترفع األحجار الكبيرة وتحاول إزالة الجدران التي‬
‫سويت باألرض بعد القصف‬
‫سيارات اإلسعاف تنقل الناجين ‪ ،‬أو هذا ما ظننته‬
‫كانت جثثا هامدة ال حياة فيها ‪ ..‬لم ينج منهم أحد ‪..‬هذا ما علمته الحقا‬
‫بيتي كان المكان األقل ضررا بين كل البيوت التي استهدفت ‪ ،‬عملية بحث صغيرة‬
‫داخله تخبرك أن أصحابه لم يكونوا بداخله لحظة االستهداف ‪ ..‬ال وجود آلثار دماء‬
‫وال وجود ألي أشلء حتى ‪ ..‬خرجت مسرعا إلى البيوت المجاورة ‪ ..‬ربما كان بيتي‬
‫هو الهدف األول مما جعل رهف تهرب مع شمس لبيت أحد الجيران وتم استهدافهم‬
‫هناك ‪.‬‬
‫سألت العاملين هناك عما إذا كانوا قد أخرجوا أي ناجين من بيتي فأخبروني أنهم لم‬
‫يجدو أحدا هناك ‪ ..‬وكل من تم إسعافهم كانوا في البيوت المجاورة ‪ ..‬وأخبرني أن‬
‫سيارة إسعاف انطلقت للتو متجهة للمستشفى لنقل بعض المصابين ‪.‬‬
‫عدت للمشفى مسرعا ‪ ..‬أبحث بين المصابين وأقلب نظري في الوجوه لعلي أجد شمسي‬
‫لكن ال جدوى ‪ ،‬ليست بينهم ‪ ..‬أين اختفت ؟‬
‫توجهت لقسم العمليات ألسأل عما إذا كان هناك أحد قد رآها وألطمئن على رهف التي‬
‫ما زالت تحت أثر التخدير‪..‬‬
‫أخبرني الطبيب أن الخطر قد زال تقريبا لكن على رهف البقاء تحت المراقبة المركزة‬
‫لتفادي أي حدث طارئ ‪ ..‬وال آثار حتى اآلن لوجود شمس!!‬
‫ماذا أفعل؟؟ إلى أين أذهب ؟؟ ولمن أبوح ؟؟‬
‫ال رهف هنا ألخبرها عن اختفاء شمس ‪ ،‬وال شمس هنا ألخبرها عما حل برهف!!‬
‫يا إلهي ما أضعفني ! يا إلهي ما أضعفنا نحن البشر!!!‬

‫‪15‬‬
‫كانت الساعة تشير إلى الواحدة ليل حينما كنت أذرع ممر المستشفى جيئة وذهابا‬
‫وأنا أنتظر خبرا واحدا يخفف عني ما أمر به ‪ ..‬استيقاظ رهف أو إيجاد شمس ؟؟‬
‫ال شيء؟!!‬
‫‪.........‬‬
‫جلست على األرض فقدماي لم تعودا قويتين اليوم ‪ ..‬لست البطل بعد اآلن‬
‫لن أعود بطل إال برجوع شمس ‪ ..‬وإال فمن سيحكي لألطفال عني ؟‬
‫من سيراني األقوى واألفضل ؟؟ من غيرك يا شمس ؟؟!‬
‫‪.........‬‬
‫استمر البحث طوال ساعات الليل وصوال لساعات الفجر األولى وال نتائج ‪..‬‬
‫تم إحصاء أعداد المصابين ومقارنتها مع عدد سكان البيوت المستهدفة‬
‫تم العثور على الجميع عدا ثلثة فتيات إحداهن شمس ‪.‬‬
‫أين أنت يا ترى؟؟ بعيدة أنت عن حضني يا صغيرتي ‪ ..‬هل تشعرين بالبرد؟‬
‫بالجوع ؟ بالخوف؟ باأللم ؟ ليتني أهتدي لك يا عزيزتي فأنسيك كل ما أفزعك ‪...‬‬
‫لم أعتد أن تكوني بعيدة عني هكذا ‪ ..‬اشتقت لك كثيرا يا حلوتي ‪ ..‬أشعر وكأنه مضى‬
‫زمن طويل منذ رأيتك آخر مرة ‪.‬‬
‫‪........‬‬
‫كنت غارقا في صمت قاتل واألفكار تكاد تفجر رأسي كمدا وهما ‪ ،‬وإذ بأحد زملئي‬
‫يناديني ويخبرني أن أحد ما في قسم المرضى يطلب رؤيتي ‪ ..‬سألته إذا ما كانت‬
‫زوجتي قد أفاقت فأخبرني أن من طلبني شخص آخر وأنه أحد الناجين من الغارة‬
‫فكرت في نفسي ‪":‬لربما أحد جيراني إذن !!" ‪.‬‬
‫دخلت الغرفة ونظرت للسرير وإذا به "أيمن" ‪ ..‬أيمن هو من سكان الحي ‪ ،‬شاب في‬
‫العشرين من عمره يسكن البيت الذي يلي بيتي تماما ‪ ،‬كنا أخوة وأصدقاء أكثر من كوننا‬
‫جيرانا ‪ ..‬كانت إصابته متوسطة لكنه كان واعيا لما حوله ‪ ،‬اقتربت منه فنظر إلي و‬
‫عرفني فورا وطلب مني أن أدنو قريبا منه فجلست بقربه وسألته عن حاله لكنه فاجأني‪:‬‬
‫" شمس !! هل وجدتم شمس؟"‬

‫‪16‬‬
‫أخبرته عما حل بشمس ورهف ف سكت قليل ثم هلت دمعتان كبيرتان من عينيه ثم قال‬
‫‪:‬‬
‫" لقد رأيتها ‪ ،‬رأيت شمس وأمها تقطعان الشارع وهما تحاوالن االبتعاد عن منزلكم بعد‬
‫أن قصفته الطائرة ‪ ..‬كانت تمسك يد أمها وتحاوالن الوصول إلى بيتنا للختباء لكن‬
‫كان الصاروخ التالي من نصيب بيتنا ونزل بالقرب منهما !!! سألت عنك ألنني كنت‬
‫أرجو أن تحمل لي خبرا عنها‪!...‬‬
‫لم يكن لدي جواب ولم أستطع الشرح فحالتي ال تسمح أبدا فلذت بالصمت وتظاهرت‬
‫بالهدوء ‪...‬‬
‫بعد قليل طلب مني الحضور إلى قسم العناية ‪ ،‬أخبروني أن رهف قد استفاقت وأنها‬
‫تطلب رؤيتي ‪ ...‬وصلت غرفتها ورأيتها ‪ ،‬ضعيفة ‪ ..‬واهنة القوى ‪ ..‬انطفئ النور الذي‬
‫كان ينبعث من عينيها ‪ ..‬خابت الشمس في محياها مع غياب بسمتها‬
‫اقتربت منها ‪ ،‬امسكت يدها ونظرت في محياها‬
‫لم اتمالك نفسي وبكيت ‪ ..‬بكيت كل ما جرى ‪ ..‬بكيت كل ما حملت في قلبي من حزن‬
‫وكمد وهم وخوف ‪ ..‬هي عادتي التي لم تتبدل منذ عرفت رهف وأحببتها ‪..‬‬
‫يظهر الطفل الذي يعيش بداخلي أمامها بكل ضعفه ‪ ..‬يبكي أمامها ويبثها خبايا روحه‬
‫المهترئة‪...‬‬
‫لم أخبرها عن سبب بكائي ولم أخبرها أن شمس مفقودة حتى اآلن ‪.‬‬
‫لم تستطع أن تتكلم كثيرا ‪ ،‬سألتني عن شمس فأخبرتها أن تطمأن وأن كل شيء سيكون‬
‫على ما يرام ‪ ..‬طلبت منها فقط أن تتعافى وأن تعود إلي سالمة ‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫في تلك األثناء وفيما كنت أجلس على أحد مقاعد االنتظار دوى صوت سيارة اإلسعاف‬
‫القادمة من بعيد ومأل فضاء المكان ‪ ..‬مع أنني لم أعلم من أي جهة كانت قادمة لكنني‬
‫كنت األسرع وصوال لها ‪ ..‬فتحت الباب الخلفي ‪ ..‬نزل أحد المسعفين منها وهو‬
‫يحتضن طفلة صغيرة مضرجة بالدماء ودخل مسرعا فلحقت به فورا!!‬
‫أتراها شمس؟‬
‫أتراها هي ؟‬
‫أرجوك يا صغيرة كوني شمس ؟‬
‫كوني شمسي فالكون ظلم من دونك ‪...‬‬
‫دخلت الغرفة واقتربت منها ‪ ..‬كانت ملمحها شبه مخفية بسبب الجرح العميق الذي‬
‫شق جبهتها الناعمة ونزف دما كثيرا ‪..‬‬
‫لكن ‪..‬‬
‫توقفت فورا وتراجعت للوراء خطوتين ‪..‬‬
‫أكره قول هذا وأكره التفكير بهذه الفكرة و لكن ‪..‬‬
‫ليست شمس‬
‫ليست هي ‪..‬‬
‫سألت المسعف الذي أحضرها عما جرى ‪ ..‬فقال أنها كانت تحت األنقاض لعدة ساعات‬
‫ونجحت فرق اإلنقاذ بالوصول إليها بعد عملية طويلة من الحفر والبحث تحت المنازل‬
‫المدمرة بعد الغارة الجوية‬
‫سألته بحذر‪ :‬ألم تجدوا غيرها ؟‬
‫_ال يا صديقي ‪ ..‬لم تتوقف عمليات البحث منذ تعرض المكان للقصف وحتى اآلن ‪..‬‬
‫مازال البحث جاريا لكنني كنت هناك طوال الوقت وال أظن أنهم سيجدون أحدا ‪.‬‬
‫‪....‬‬
‫لم يكن المسعف يعرف أنني أنتظر خبر إيجاد ابنتي تحت تلك األنقاض ‪ ..‬لم أصدقه‬
‫بكل األحوال ‪ ..‬شمس مازالت مفقودة وسوف نجدها وستعود لي ‪...‬‬
‫طال غيابك يا شمس ‪....‬‬

‫‪18‬‬
‫خرجت هائما ُ على وجهي ‪ ..‬ال ألوي على جهة وال أبغي طريقا فكل الطرق ما عادت‬
‫تعنيني وجهتها‪ ،‬وكل الجهات أصبحت جهة واحدة بالنسبة لي ‪ ..‬أريد الشمس فقط‬
‫فقد طال مكوثي في الظلم ‪..‬‬
‫مشيت طوال تلك الليلة ‪ ..‬وصلت مكان بيتي ‪..‬اقتربت منه ودخلته ‪ ،‬مشيت بين أحجاره‬
‫المحطمة واستطعت تمييز بعض أركانه ‪ ،‬مشيت مستعينا بضوء مصباح يدوي وكان‬
‫ضوء القمر يضيء المكان بعض الشيء أيضا ‪.‬‬
‫مضت أكثر من ثمانية عشر ساعة على الحادثة ‪ ..‬يكاد الفجر يطلع والمكان هادئ جدا‬
‫كان من المفترض أن أكون في المنزل اآلن كالمعتاد ورهف تحضر طعام العشاء‬
‫وعدتني شمس أن تطعمني اليوم من صنع يديها ‪ ..‬آه يا حلوتي !!‬
‫كنت سعيدة أكثر مني مع أنك ستتعبين في تحضير الطعام لي بيديك الصغيرة‬
‫يقتلني الحزن يا صغيرتي ‪ ،‬لم أودعك صباحا كما يجب ‪ ..‬لم أشبع من ضمة لك على‬
‫صدري يا جميلتي ‪ ..‬لم أشبع حواسي من رائحتك ‪ ،‬من النظر في عينيك البنية‬
‫من شعرك الكستنائي الناعم ‪ ..‬من كلماتك القليلة وتأتأتك البريئة وأنت تحدثينني عن‬
‫يومك ! لم يسألني أحد اليوم عن األطفال الذين أنقذتهم ‪ ..‬من سيسألني وأنت غائبة ؟‬
‫من سيهتم وأنت مفقودة يا ابنة قلبي ؟ أردت إنقاذك صدقيني لكنني كنت عاجزا ‪..‬‬
‫لو كان بإمكاني وضع روحي بين يديك لما ترددت لحظة يا شمسي الصغيرة ولكنه‬
‫القدر الذي ال مفر منه ‪ ..‬لكنني ال أستطيع المضي هكذا‪ ..‬ال أستطيع‬
‫لم يكن أنس يوما دون شمس فكيف يكون اليوم؟!‬
‫لم أكن "بابا البطل" قبل شمس فكيف أكونه بعدك ؟!‬
‫كيف تذهبين هكذا؟ كيف تخلين بالوعد الذي بيننا يا بنتي ؟!‬
‫سمحت لك أن تصبحي نجمة مضيئة كما تريدين ولكن بعد أن تكبري وتصبحي فتاة‬
‫قوية وجميلة وذكية ‪ ..‬لقد وعدتني وأنا وثقت بك ‪ ..‬أعلم أنه ليس ذنبك يا حلوتي لكنني‬
‫أتألم و أمك اآلن في وضع حرج وال أحد هنا أحدثه عنك إال أنت !‬
‫سامحيني ألنني بقيت حيا َ ‪ ..‬كان من المفترض أن أموت وأنا أحاول إنقاذك لكنني كنت‬
‫بعيدا عن الخطر وكنت أنت وحدك بجسدك الغض في مواجهته ‪ ..‬سامحيني أرجوك‬

‫‪19‬‬
‫صوت ما !!!‬
‫صوت بعيد وضعيف جدا شق قوقعة الهدوء المقيت التي كنت فيها ‪ ..‬لم أكن أحلم‬
‫لم أكن أتخيل ‪ ..‬هنالك صوت ما أنا متأكد ‪.‬‬
‫اقتربت من المكان الذي تم قصفه صباحا ‪ ..‬هنا سقط بناء مؤلف من ثلث طوابق‬
‫كانت تسكن عائلة واحدة في الدور األرضي منه ‪ ،‬أب وأم وطفلتين ‪ ..‬توفي الوالدان‬
‫وإحدى الفتيات وبقيت األخرى مفقودة ولم يعثروا عليها ‪..‬‬
‫أنصت جيدا ألسمع بوضوح أكثر ‪ ..‬هناك صوت أنا أسمعه جيدا ‪ ..‬لم أكن أهذي!!‬
‫اتصلت بفرقة الدفاع وأخبرتهم عما سمعت وطلبت منهم الحضور فورا ‪.‬‬
‫خلل دقائق كانت سيارة وثلثة رجال في المكان ‪ ..‬أحضر أحدهم آلة وبدأ بالحفر في‬
‫المكان الذي أخبرته عنه ‪ ..‬لم يعد الصوت واضحا كما كان لكنني واصلت المحاولة‬
‫وفجأة !!!!‬
‫إنها يد !‬
‫يد صغيرة!!‬
‫أمسكتها فتحركت!!‬
‫صرخت عاليا بل وعي ‪:‬‬
‫"إنه حي !‪ ..‬مازال حيا "!!!‬
‫تابعنا الحفر حتى تمكنا من إخراجه ‪ ..‬إنها فتاة !‬
‫شمس؟ هل هي شمس؟‬
‫فكرت بيني وبين نفسي للحظات سريعة‬
‫ال‬
‫ليست هي‬
‫لم تكن شمس‬
‫حملتها بين يدي وضممتها وبكيت كثيرا وجلست في سيارة اإلسعاف وحضنتها طوال‬
‫الطريق إلى المستشفى ‪ ..‬لم تتوقف دموعي طوال الوقت ‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫وصلنا المستشفى ‪ ..‬وقفت مع الطبيب الذي أشرف على إسعافها ‪ ..‬بعض الكسور و‬
‫الرضوض في جسمها لكن ال شيء يدعو للقلق ‪ ..‬كانت واحدة من الحاالت المعجزة‬
‫التي مرت علي كثيرا خلل عملي ‪ ..‬أن تستطيع الحياة النجاة بنفسها من فكي الموت‬
‫لهو أمر يصعب تخيله ‪ ..‬سبحان المحي الذي حفظها وحفظ عليها روحها‬
‫كانت تبكي بشدة ‪ ..‬تتألم ‪ ..‬وربما جائعة ‪ ..‬وربما أيضا تريد عائلتها ‪ ..‬عائلتها التي‬
‫أصبحت اآلن مجرد ذكرى أليمة لن تستطيع بسنوات عمرها القصيرة أن تستوعبها ‪.‬‬
‫سألني الطبيب عن عائلتها فأخبرته أنهم توفوا جميعا ثم سألته عن حالتها الصحية‬
‫فأخبرني أنها ستبقى هنا الستكمال العلج وربما ترسل بعد ذلك لدار الرعاية للعناية‬
‫بها ‪.‬‬
‫قدم لها المسكن اللزم فغرقت في نوم عميق وهدأت وانتظمت دقات قلبها وأنفاسها ‪..‬‬
‫تركتها وخرجت قاصدا القسم الذي توجد فيه رهف ‪ ..‬دخلت وإذا بها مستيقظة ‪..‬‬
‫دنوت منها و جلست بقربها‬
‫ابتسمت فابتسمت لي ‪:‬‬
‫_ كيف حالك اآلن رهف ؟‬
‫_‪........‬‬
‫_ما بك؟ تتألمين؟‬
‫_ شمس لن تعود‬
‫_ ماذا تقصدين؟‬
‫_أصبحت نجمة‪!..‬‬
‫_رهف ما الذي تقولينه ؟!‬
‫_ أصبحت نجمة يا أنس ‪ ..‬ماتت ‪ ..‬ماتت شمس‬
‫غرقت رهف في بكاء صامت طويل ‪ ..‬بينما أحسست أنني فقدت قدرتي على الكلم‬
‫نسيت الحروف وتاه عقلي عن صياغة جملة تعبر عما أحسه ‪..‬‬
‫نظرت إليها ‪:‬‬
‫_ ما الذي قلته اآلن يا رهف ؟‬

‫‪21‬‬
‫_ ‪......‬‬
‫_ لماذا تقولين هذا ؟‬
‫_ رأيتها ‪ ..‬رأيتها بعيني هاتين يا أنس ‪ ،‬ماتت شمس يا أنس ولن تعود أبدا َ‬
‫‪...............‬‬
‫خرجت من الغرفة وتركت رهف غارقة في دموعها ‪..‬‬
‫ماتت شمس! كيف؟ كيف أصدق؟ كيف استوعب ذلك ‪..‬‬
‫فتحت هاتفي على الملف الذي يحوي صور شمس ‪ ..‬كانت ال تزال تبتسم‬
‫كانت التزال هناك سعيدة ‪ ..‬تبتسم ‪ ..‬تضحك ‪ ..‬تغني ‪ ..‬تركض‬
‫كانت مشرقة تضيء حياتي‬
‫كيف يعقل أن تغيب اآلن وأنا الذي لم أر شبابها بعد ؟!!‬
‫‪.............‬‬
‫في الغرفة المجاورة استيقظت الفتاة التي أخرجتها من تحت أنقاض بيتها‬
‫بدأت بالبكاء ‪ ..‬ألما ‪ ..‬خوفا ‪ ..‬حرقة‬
‫اقتربت منها وحملتها وضممتها إلي ‪:‬‬
‫_ال عليك يا صغيرتي ‪ ..‬ال تخافي ‪ ..‬ال شيء يدعو للقلق‬
‫نظرت لعينيها الصغيرتين ‪ ..‬أحسست بدفئها كما كنت أحس عندما كنت أنظر‬
‫في عيون شمس ‪..‬‬
‫سرحت في خيالي قليل وأنا أحتضنها ‪...‬‬
‫عاودت النظر إليها مجددا ‪ ..‬ضممتها إلي طويل‬
‫صوت ما نبع من داخلي وكان قويا وواضحا ‪:‬‬
‫" ومن يدري ؟! ربما تشرق الشمس من جديد !"‬
‫ربما كنتي أنت شمسي القادمة يا حلوة ‪..‬ربما‬

‫‪22‬‬
‫النهاية‬

‫عائشة أبو عمر‬

‫‪23‬‬

You might also like