You are on page 1of 24

‫شـرحـ القواعدـ األربـع‬

‫رحمه هللا‬ ‫لشيخ اإلسالم المجدد محمد بن عبد الوهاب‬

‫شرحـ فضيلةـ الشيخ‬


‫حفظه هللا‬ ‫صالح بن فوزان الفوزان‬

‫مفرغ]@‬
‫[شريط ّ‬
‫‪.‬تفريغ األشرطة ال يعني االستغناء عنها‬
‫الحمد هلل‪ ،‬وصلى اهلل وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه‪.‬‬
‫وبعد‪:‬‬
‫فهذا شرح للقواعد األربع التي ألفها شيخ اإلسالم المجدد‪ :‬محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه اهلل ـ‪ ،‬ألنني لم َأر من‬
‫شرحها‪ ،‬فأحببت أن أشرحها حسب وسعي وطاقتي‪.‬‬
‫واهلل يعفو عما قصرت فيه‪.‬‬

‫قال المؤلِّف رحمه اهلل تعالى‪:‬‬


‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫‪2‬‬
‫مباركـًا‬
‫َ‬ ‫رب العرش العظيم أن يتوالّك في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وأن يجعلك‬ ‫أسأل هللا الكريم ّ‬
‫ي شكر‪ ،‬وإذا ابتُلي صبر‪ ،‬وإذا أذنب استغفر‪ ،‬فإنّ‬‫أينما كنت‪ ،‬وأن يجعلك م ّمن إذا ُأعط َ‬
‫هؤالء الثالث عنوان السعادة‪.‬‬

‫[ الشرح ]‬
‫هذه (( القواعد األربع )) التي ألّفها شي ُخ اإلسالم محمد بن عبد ّ‬
‫الوهاب ـ رحمه اهلل ـ‪.‬‬
‫وهي رسالة مستقلّة‪ ،‬ولكنها تُطبَع مع (( ثالثة األصول )) من أجل الحاجة إليها لتكون في َ‬
‫متناول أيدي طلبة العلم‪.‬‬
‫مسائل كثيرة ـ أو فروعٌ كثيرة ـ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يتفرع عنه‬
‫و ( القواعد ) جمع قاعدة‪ ،‬والقاعدة هي‪ :‬األصل الذي ّ‬
‫ومضمون هذه القواعد األربع التي ذكرها الشيخ ـ رحمه اهلل ـ‪ :‬معرفة التوحيد ومعرفة الشرك‪.‬‬

‫كثيرا من الناس يتخبّطون في هذين األمرين‪،‬‬


‫وما هي القاعدة في التوحيد ؟‪ ،‬وما هي القاعدة في الشرك ؟‪ ،‬أل ّن ً‬
‫حسب هواه‪.‬‬
‫يفسرهما على َ‬‫يتخبّطون في معنى التوحيد ما هو ؟‪ ،‬ويتخبّطون في معنى الشرك‪ ،‬كلٌّ ّ‬
‫ولكن الواجب‪ :‬أننّا نرجع في تقعيدنا إلى الكتاب والسنّة‪ ،‬ليكون هذا التقعيد تقعي ًدا صحيحـًا سليمـًا مأخوذًا من‬
‫كتاب اهلل وسنّة رسوله صلى اهلل عليه وسلم السيّما في هذين األمرين العظيمين ـ التوحيد والشرك ـ‪.‬‬
‫كثير من المتخبِّطين‪ ،‬وإنما أخذ‬ ‫ِ‬
‫والشيخ ـ رحمه اهلل ـ لم يذكر هذه القواعد من عنده أو م ْن فكره كما يفعل ذلك ٌ‬
‫هذه القواعد من كتاب اهلل ومن سنّة رسول اهلل ‪ ‬وسيرته‪.‬‬

‫سهل عليك بعد ذلك معرفة التوحيد الذي بعث اهلل به رسله وأنزل به كتبه‬ ‫فإذا عرفت هذه القواعد وفهمتها ُ‬
‫مهم ًّ‬
‫جدا‪ ،‬وهو ألزم عليك من‬ ‫أمر ّ‬‫ومعرفة الشرك الذي ح ّذر اهلل منه وبيّن خطره وضرره في الدنيا واآلخرة‪ .‬وهذا ٌ‬
‫األولي واألساس‪ ،‬أل ّن الصالة والزكاة‬
‫معرفة أحكام الصالة والزكاة والعبادات وسائر األمور الدينيّة‪ ،‬ألن هذا هو األمر ّ‬
‫عز وجل ـ‪.‬‬
‫بن على أصل العقيدة الصحيحة‪ ،‬وهي التوحيد الخالص هلل ـ ّ‬ ‫تصح إذا لم تُ َ‬
‫والحج وغيرها من العبادات ال ّ‬
‫وقد ق ّدم ـ رحمه اهلل ـ لهذه القواعد األربع بمقدِّمة عظيمة فيها الدعاء لطلبة العلم‪ ،‬والتنبيه على ما سيقوله‪ ،‬حيث‬
‫مباركـًا أينما كنت‪ ،‬وأن‬
‫رب العرش الكريم أن يتوالّك في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وأن يجعلك َ‬ ‫قال‪ (( :‬أسأل اهلل العظيم ّ‬
‫ممن إذا ُأعطي شكر‪ ،‬وإذا ابتُلي صبر‪ ،‬وإذا أذنب استغفر‪ ،‬فإ ّن هذه الثالث هي عنوان السعادة ))‪.‬‬ ‫يجعلك ّ‬
‫لكل ِ‬
‫طالب علم يتعلّم عقيدته يريد بذلك الحق‪ ،‬ويريد بذلك‬ ‫هذه مق ّدمة عظيمة‪ ،‬فيها دعاءٌ من الشيخ ـ رحمه اهلل ـ ّ‬
‫تجنُّب الضالل والشرك‪ ،‬فإنه َح ِر ٌّ‬
‫ي بأن يتواله اهلل في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وإذا توالّه اهلل في الدنيا واآلخرة فإنه ال سبيل إلى المكاره أن تصل إليه‪ ،‬ال في دينه وال في دنياه‪ ،‬قال ـ تعالى ـ‪:‬‬
‫ولي الذين آمنوا يُخرجهم من الظّلمات إلى النور والذين كفروا أولياءهم الطاغوت }‪ ،‬فإذا توالّك اهلل أخرجك من‬ ‫{ اهلل ّ‬
‫الظّلمات ـ ظلمات الشرك والكفر ُّ‬
‫والشكوك واإللحاد ـ إلى نور اإليمان والعـلم النافع والعمل الصالح‪ { ،‬ذلك بأ ّن اهلل‬
‫مولى الذين آمنوا وأ ّن الكافرين ال مولى لهم } ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫فإذا توالّك اهلل برعايته وبتوفيقه وهدايته في الدنيا وفي اآلخرة‪ ،‬فإنّك تسعد سعادة ال شقاء بعدها أب ًدا‪ ،‬في الدنيا‬
‫يتوالّك بالهداية والتوفيق والسير على المنهج السليم‪ ،‬وفي اآلخرة يتوالّك بأن يُدخلك جنّته خال ًدا مخلَّ ًدا فيها ال خوف‬
‫وال مرض وال شقاء وال كبَر وال مكا ِره‪ ،‬هذه َوالية اهلل لعبده المؤمن في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫مباركـًا أينما كنت )) إذا جعلك اهلل مباركـًا أينما كنت فهذا هو غاية المطالب‪ ،‬يجعل اهلل البركة‬ ‫يجعلك َ‬
‫قال‪ (( :‬وأن‬
‫في عمرك‪ ،‬ويجعل البركة في رزقك‪ ،‬ويجعل البركة في علمك‪ ،‬ويجعل البركة في عملك‪ ،‬ويجعل البركة في‬

‫وفضل من اهلل ـ سبحانه وتعالى‬ ‫ٌ‬ ‫خير عظيم‪،‬‬


‫توجهت‪ ،‬وهذا ٌ‬ ‫ذريّتك‪ ،‬أينما كنت تصاحبك البركة‪ ،‬أينما ّ‬
‫ِ‬ ‫))‬
‫كثيرا من الناس إذا‬
‫ُأعطي شكر خالف الذي إذا ُأعطي كفر النعمة وبطرها‪ ،‬فإ ّن ً‬ ‫ممن إذا َ‬ ‫قال‪ (( :‬وأن يجعلك ّ‬
‫فصارت سببـًا لشقاوتهم‪ ،‬أما َمن يش ُكر فإ ّن‬ ‫ْ‬ ‫عز وجل ـ‪،‬‬‫ُأعطوا النعمة ك َفروها وأنكروها‪ ،‬وصرفوها في غير طاعة اهلل ـ ّ‬
‫شاكرين من فضله وإحسانه ‪ .‬فإذا‬ ‫جل وعال ـ يزيد ال ّ‬‫اهلل يزيده ‪ { :‬وإ ْذ تأذّن ربكم لئن شكرتم ألزيدنّكم }‪ ،‬واهلل ـ ّ‬
‫أردت زوال النعم فاك ُفرها ‪.‬‬
‫عز وجل ـ‪ ،‬وإذا ّ‬ ‫أر ّدت المزيد من النعم فاشكر اهلل ـ ّ‬
‫جل وعال ـ يبتلي العباد‪ ،‬يبتليهم بالمصائب‪ ،‬يبتليهم بالمكا ِره‪ ،‬يبتليهم باألعداء من‬ ‫))‬ ‫قال‪ (( :‬وإذا‬
‫ابتُلي صبر اهلل ـ ّ‬
‫الك ّفار والمنافقين‪ ،‬فيحتاجون إلى الصبر وعدم اليأس وعدم القنوط من رحمة اهلل‪ ،‬ويثبُتون على دينهم‪ ،‬وال يتزحزحون‬
‫الفتَن‪ ،‬أو يستسلمون للفتن‪ ،‬بل يثبُتون على دينهم‪ ،‬ويصبرون على ما يقاسون من األتعاب في سبيلها‪ ،‬بخالف الذي‬ ‫مع ِ‬
‫عز وجل ـ فهذا يُزاد ابتالء إلى ابتالء ومصائب إلى مصائب‪ ،‬قال ‪: ‬‬ ‫إذا ابتُلي ج ِزع وتس ّخط وقنِط من رحمة اهلل ـ ّ‬
‫أحب قومـًا ابتالهم‪ ،‬فمن رضي فله الرضى ومن سخط فعليه السخط ))‪ (( ،‬وأعظم الناس ً‬
‫بالء ‪ :‬األنبياء‪،‬‬ ‫(( إ ّن اهلل إذا ّ‬
‫ثم األمثل فاألمثل ))‪ ،‬ابتُلي الرسل وابتُلي الصدِّيقون وابتُلي الشهداء وابتُلي عباد اهلل المؤمنون‪ ،‬لكنهم صبروا‪ ،‬أما‬
‫خير اطمأ ّن به وإن أصابته‬ ‫ِ‬
‫المنافق فقد قال اهلل فيه ‪ { :‬ومن الناس من يعبُد اهلل على َح ْرف } يعني ‪ :‬طرف { فإ ْن أصابه ٌ‬
‫رورا‬ ‫ِ‬
‫وس ً‬ ‫ومل ّذات ُ‬‫فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا واآلخرة ذلك هو ال ُخسران المبين }‪ ،‬فالدنيا ليست دائمـًا نعيمـًا وَت َرفـًا َ‬
‫ونصرا‪،‬‬
‫ً‬

‫ليست دائمـًا هكذا‪ ،‬اهلل يدا ِولها بين العباد‪ ،‬الصحابة أفضل األمة ماذا جرى عليهم من االبتالء واالمتحان ؟‪ ،‬قال‬
‫تعالى ‪ { :‬وتلك األيّام نداولُها بين الناس }‪ ،‬فل ُْي َوطِّ ِن العب ُد نفسه أنه إذا ابتُلي فإ ّن هذا ليس خاصـًّا به‪ ،‬فهذا سبق ألولياء‬
‫اهلل‪ ،‬فيوطِّن نفسه ويصبِر وينتظر الفرج من اهلل ـ تعالى ـ‪ ،‬والعاقِبة للمتّقين ‪.‬‬
‫قال ‪ (( :‬وإذا أذنب استغفر )) أما الذي إذا أذنب ال يستغفر ويستزيد من الذنوب فهذا شقي ـ والعياذ باهلل ـ‪ ،‬لكن‬
‫العبد المؤمن كلّما صدر منه‬

‫ذنب بادر بالتوبة { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اهلل فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إالّ‬
‫والجهالة ليس معناها عدم العلم‪ ،‬ألن‬
‫اهلل }‪ { ،‬إنما التوبة على اهلل للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب }‪َ ،‬‬
‫الحلْم ‪ .‬فكل من عصى اهلل فهو جاهل بمعنى ناقص ِ‬
‫الحلْم وناقص العقليّة‬ ‫يؤاخذ‪ ،‬لكن الجهالة هنا هي ض ّد ِ‬
‫الجاهل ال َ‬
‫ّ َْ‬
‫‪4‬‬
‫وناقص اإلنسانيّة‪ ،‬وقد يكون عالمـًا لكنه جاهل من ناحية أخرى من ناحية أنه ليس عنده ِحلم وال ثبات في األمور‪ { ،‬ثم‬
‫يتوبون من قريب } يعني ‪ :‬كلّما أذنبوا استغفروا‪ ،‬ما هناك أحد معصوم من الذنوب‪ ،‬ولكن الحمد هلل أ ّن اهلل فتح باب‬
‫بادر بالتوبة‪ ،‬لكن إذا لم يتب ولم يستغفر فهذه عالمةُ الشقاء ‪ .‬وقد يقنط من رحمة‬ ‫التوبة‪ ،‬فعلى العبد إذا أذنب أن ي ِ‬
‫ُ‬
‫اهلل ويأتيه الشيطان ويقول له ‪ :‬ليس لك توبة ‪.‬‬
‫هذه األمور الثالث ‪ :‬إذا ُأعطي شكر‪ ،‬وإذا ْابتُلي صبر‪ ،‬وإذا أذنب استغفر هي عنوان السعادة‪َ ،‬من ُوفِّق لها نال‬
‫شقي ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫السعادة‪ ،‬ومن ُحرم منها ـ أو من بعضها ـ فإنّه ّ‬

‫قال الشيخ ـ رحمه هللا ـ ‪:‬‬

‫اعلم أرشدك هللا لطاعته‪ :‬أن الحنيفيّة ملّة إبراهيم‪:‬ـ أن تعبد هللا مخلصـًا له الدين كما‬
‫ونِ﴾[الذاريات‪.]56:‬‬‫ْج َّن واِإْل نس ِإاَّل لِي ْعب ُد ِ‬
‫قال تعالى ﴿وما َخلَ ْق ُ ِ‬
‫ت ال َ َ َ ُ‬ ‫ََ‬

‫[ الشرح ]‬
‫‪5‬‬
‫(( اعلم أرشدك اهلل ))‪ .‬هذا دعاء من الشيخ ـ رحمه اهلل ـ‪ ،‬وهكذا ينبغي للمعلم أن يدعو للمتعلم‪.‬‬

‫وطاعة اهلل معناها‪ :‬امتثال أوامره واجتناب نواهيه ‪.‬‬


‫(( أن الحنيفية ملة إبراهيم )) اهلل ـ جل وعال ـ أمر نبينا باتّباع ملّة إبراهيم‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬ثم أوحينا إليك ِ‬
‫أن اتّبع ملّة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إبراهيم حنيفـًا وما كان من المشركين }‪.‬‬
‫عما سواه‪ ،‬هذا‬ ‫الحنيفيّة‪ :‬ملة الحنيف وهو إبراهيم ـ عليه الصالة والسالم ـ‪ ،‬والحنيف هو‪ :‬المقبِل على اهلل المع ِرض ّ‬
‫ِ‬
‫هو الحنيف‪ :‬المقبِل على اهلل بقلبه وأعماله ونيّاته ومقاصده كلّها هلل‪ ،‬المع ِرض ّ‬
‫عما سواه‪ ،‬واهلل أمرنا باتّباع ملّة إبراهيم‪:‬‬
‫{ وما جعل عليكم في الدين من حرج ملّة أبيكم إبراهيم }‪.‬‬
‫وملة إبراهيم‪ (( :‬أن تعبد اهلل مخلصـًا له الدين )) هذه الحنيفيّة‪ ،‬ما قال‪ ( :‬أن تعبد اهلل ) فقط‪ ،‬بل قال‪ (( :‬مخلصـًا له‬
‫سالم ًة من الشرك األكبر‬ ‫الدين )) يعني‪ :‬وتجتنب الشرك‪ ،‬أل ّن العبادة إذا خالطها الشرك ْ‬
‫بطلت‪ ،‬فال تكون عبادة إ ّال إذا كانت َ‬
‫واألصغر‬
‫(( كما قال ـ تعالى ـ ‪ { :‬وما ُأمروا إال ليعبدوا اهلل مخلصين له الدين حنفاء } )) جمع ‪ :‬حنيف‪ ،‬وهو ‪ :‬المخلِص هلل ـ‬
‫عز وجل ـ ‪.‬‬
‫ّ‬
‫الجن واإلنس إال ليعبدون }‪ ،‬ومعنى يعبدون‬
‫وهذه العبادة أمر اهلل بها جميع الخلْق كما قال ـ تعالى ـ ‪ { :‬وما خلقت ّ‬
‫عز وجل ـ مخلِصين له الدين‪ ،‬منهم من‬
‫‪ُ :‬ي ْف ِردوني بالعبادة‪ ،‬فالحكمة من خلق الخلق ‪ :‬أنهم يعبدون اهلل ـ ّ‬

‫غير اهلل مخالِف للحكمة من خلق الخلق‪،‬‬


‫امتثل ومنهم من لم يمتثل‪ ،‬لكن الحكمة من خلقهم هي هذه‪ ،‬فالذي يعبُد َ‬
‫ومخالِف لألمر والشرع ‪.‬‬
‫جل وعال ـ ‪ { :‬وجـعـلـنـا في ذريّتـه‬
‫وإبراهيم هو ‪ :‬أبو األنبياء الذين جاءوا من بعده‪ ،‬فكلّهم من ذريّته‪ ،‬ولهذا قال ـ ّ‬
‫النبوة والكتاب }‪ ،‬فكلهم من ( بني إسرائيل ) ـ حفيد إبراهيم عليه السالم ـ‪ ،‬إال محم ًدا ‪ ‬فإنه من ذريّة إسماعيل‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فكل األنبياء من أبناء إبراهيم ـ عليه الصالة والسالم ـ‪ ،‬تكريمـًا له ‪ .‬وجعله اهلل إمامـًا للنّاس ـ يعني ‪ :‬قدوة ـ ‪ { :‬قال إني‬
‫ّ‬
‫جاعلُك للناس إمامـًا } يعني ‪ :‬قدوة‪ { ،‬إن إبراهيم كان ّأمة } يعني ‪ :‬إمامـًا يُقتدى به ‪ .‬وبذلك أمـر اهلل جميع الخلق كما‬
‫عز وجل ـ كغيره من‬ ‫الجن واإلنس إال ليعبدون }‪ ،‬فإبراهيم دعا الناس إلى عبادة اهلل ـ ّ‬
‫خلقت ّ‬‫ُ‬ ‫قال ـ تعالى ـ ‪ { :‬وما‬
‫النبيين‪ ،‬كل األنبياء دعوا الناس إلى عبادة اهلل وترك عبادة ما سواه‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬ولقد بعثنا في كل أمة رسوالً ِ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اعبدوا اهلل واجتنبوا الطاغوت } ‪.‬‬
‫وأما الشرائع التي هي األوامر والنواهي والحالل والحرام فهذه تختلف باختالف األمم حسب الحاجات‪ ،‬يشرع اهلل‬
‫الساعة‪،‬‬ ‫شريعة ثم ينسخها بشريعة أخرى إلى أ ْن جاءت شريعة اإلسالم فنسخت جميع الشرائع ِ‬
‫ت هي إلى أ ْن تقوم ّ‬‫وبقيَ ْ‬
‫أما أصل دين األنبياء ـ وهو التوحيد ـ فهو لم يُنسخ ولن يُنسخ‪ ،‬دينهم واحد وهو دين اإلسالم بمعنى ‪ :‬اإلخالص هلل‬
‫بالتوحيد ‪ .‬أما الشرائع فقد تختلف‪ ،‬تُنسخ‪ ،‬لكن التوحيد والعقيدة من آدم إلى آخر األنبياء‪ ،‬كلهم يدعون إلى التوحيد‬
‫كل وقت بما أمر به من الشرائع‪ ،‬فإذا نًسخت صار العمل بالناسخ هو العبادة‪،‬‬
‫وإلى عبادة اهلل‪ ،‬وعبادة اهلل ‪ :‬طاعته في ّ‬
‫والعمل بالمنسوخ ليس عبادة هلل ‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫قال الشيخ ‪:‬‬
‫(( فإذا عرفت أنّ هللا خلقك لعبادته فاعلم‪ :‬أنّ العبادة ال تس ّمى عبادة إال مع التوحيد))‪.‬‬

‫[ الشرح ]‬

‫الجن واإلنس إال ليعبدون }‬ ‫عرفت أن اهلل خلقك لعبادته )) يعني ‪ :‬إذا عرفت من هذه اآلية { وما خلقت ّ‬ ‫َ‬ ‫(( فإذا‬
‫داخل في هذه اآلية‪ ،‬وعرفت أن اهلل ما خلقك عبثـًا‪ ،‬أو خلقك لتأكل وتشرب فقط‪ ،‬تعيش في هذه‬ ‫ٌ‬ ‫وأنت من اإلنس‪،‬‬
‫الدنيا وتَ ْس َر ْح وتَ ْم َر ْح‪ ،‬لم يخلقك لهذا‪ ،‬خلقك اهلل لعبادته‪ ،‬وإنما س ّخر لك هذه الموجودات من أجل أن تستعين بها‬
‫تتوصل إلى عبادة اهلل إال بهذه األشياء‪ ،‬س ّخرها اهلل لك‬‫على عبادته‪ ،‬ألنّك ال تستطيع أن تعيش إال بهذه األشياء‪ ،‬وال ّ‬
‫وتفجر تأكل وتشرب ما اشتهيت‪ ،‬هذا شأن البهائم‪،‬‬ ‫وتفسق ُ‬ ‫ألجل أ ْن تعبده‪ ،‬ليس من أجل أن تفرح بها وتسرح وتَ ْم َر ْح ُ‬
‫لغاية عظيمة وحكمة عظيمة وهي العبادة‪ ،‬قال ـ تعالى ـ { وما خلقت الجن‬ ‫أما اآلدميون فاهلل ـ جل وعال ـ خلقهم ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واإلنس إال ليعبدون ‪ .‬ما ُأريد منهم من رزق } اهلل ما خلقك لتكتسب له‪ ،‬أن تحترف وتجمع له ماالً‪ ،‬كما يفعل بنو‬
‫غني عن العالَمين‪ ،‬ولهذا قال ‪{ :‬‬ ‫غني عن هذا‪ ،‬واهلل ّ‬ ‫آدم بعضهم لبعض يجعلون عُ ّماالً يجمعون لهم المكاسب‪ ،‬ال‪ ،‬اهلل ّ‬
‫جل وعال ـ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫غني عن الطعام‪ ،‬وغني ـ ّ‬ ‫طعم‪ّ ،‬‬ ‫جل وعال ـ يُطعم وال يُ َ‬
‫ما ُأريد منهم من زرق وما ُأريد أن يُطعمون } اهلل ـ ّ‬
‫نقصت ملك اهلل‪ ،‬ولكن أنت الذي بحاجة إليه‪ ،‬أنت الذي بحاجة‬ ‫َ‬ ‫بذاته‪ ،‬وليس هو في حاجة إلى عبادتك‪ ،‬لو كفرت ما‬
‫إلى العبادة‪ ،‬فمن رحمته ‪ :‬أنه أمرك بعبادته من أجل مصلحتك‪ ،‬ألنّك إذا عبدتّه فإنه ـ سبحانه وتعالى ـ يُك ِر ُمك بالجزاء‬
‫سبب إلكرام اهلل لك في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فمن الذي يستفيد من العبادة ؟‪ ،‬المستفيد من العبادة هو‬ ‫والثواب‪ ،‬فالعبادة ٌ‬
‫غني عن خلقه ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫جل وعال ـ فإنّه ّ‬
‫العابد نفسه‪ ،‬أما اهلل ـ ّ‬

‫قال‪ (( :‬فإذا عرفت أنّ هللا خلقكـ لعبادته فاعلم‪:‬ـ أنّ العبادة ال تس ّمى عبادة إال مع التوحيد‪ ،‬كما أنّ‬
‫‪7‬‬
‫الصالةـ ال تس ّمى صالة إلى مع الطهارة))‪.‬‬

‫[ الشرح ]‬

‫إذا عرفت أن اهلل خلقك لعبادته فإن العبادة ال تكون صحيحة يرضاها اهلل ـ سبحانه وتعالى ـ إال إذا توفّر فيها‬
‫ط من الشرطين بطلت ‪:‬‬ ‫اختل شر ٌ‬
‫شرطان‪ ،‬إذا ّ‬
‫بطلت‪ ،‬مثْل الطهارة إذا خالطها‬‫ْ‬ ‫األول ‪ :‬أ ْن تكون خالِصة لوجه اهلل‪ ،‬ليس فيها شرك ‪ .‬فإ ْن خالطها ٌ‬
‫شرك‬ ‫الشرط ّ‬
‫األول ‪.‬‬
‫حدث بطلت‪ ،‬كذلك إذا عبدت اهلل ثم أشركت به بطلت عبادتك ‪ .‬هذا الشرط ّ‬
‫الشرط الثاني ‪ :‬المتابعة للرسول ‪ ،‬فأي عبادة لم ِ‬
‫يأت بها الرسول فإنّها باطلة ومرفوضة‪ ،‬ألنّها بدعة و ُخرافة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫أمرنا فهو َر ّد ))‪ ،‬وفي رواية ‪َ (( :‬م ْن أح َدث في أمرنا هذا ما ليس منه‬ ‫ِ‬ ‫((‬
‫ولهذا يقول ‪َ : ‬م ْن عمل عمالً ليس عليه ُ‬
‫ِ ِ‬
‫الرسول ‪ ،‬ال باستحسانات الناس ونيّاتاهم ومقاصدهم ما دام‬ ‫فهو َر ّد ))‪ ،‬فال ب ّد أ ْن تكون العبادة موافقة ل َما جاء به ّ‬
‫تقرب بها إلى اهلل ـ‬‫تضره ألنها معصية‪ ،‬وإ ْن زعم أنه ّ‬ ‫يدل عليها دليل من الشرع فهي بدعة وال تنفع صاحبها بل ّ‬ ‫أنها لم ّ‬
‫عز وجل ـ ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫للرسول ‪ ‬حتى تكون عبادةً صحيحة نافعة لصاحبها‪،‬‬ ‫فال بد في العبادة من هذين الشرطين ‪ :‬اإلخالص‪ ،‬والمتابعة ّ‬
‫بطلت‪ ،‬وإذا صارت مبتَ َدعة ليس عليها دليل فهي باطلة أيضـًا‪ ،‬بدون هذين الشرطين ال فائدة من‬
‫ْ‬ ‫شرك‬
‫فإ ْن دخلها ٌ‬
‫العبادة‪ ،‬ألنّها على غير ما شرع اهلل ـ سبحانه وتعالى ـ‪ ،‬واهلل ال يقبل إال ما َشرع في كتابه أو على لسان رسوله ‪. ‬‬
‫فال هناك أحد من الخلق يجب اتّباعه إالّ الرسول ‪ ،‬أما ما عدا الرسول فإنه ُي ْتبَع ويُطاع إذا اتّبع الرسول‪ ،‬أما إذا‬
‫الرسول فال طاعة‪ ،‬يقول اهلل ـ تعالى ـ ‪ { :‬أطيعوا اهلل وأطيعوا الرسول وأولى األمر منكم }‪ ،‬وأولوا‬ ‫خالف ّ‬

‫وجبت طاعتهم واتّباعهم‪ ،‬أما إذا خالفوا أمر اهلل فإنها ال تجوز طاعتهم‬
‫ْ‬ ‫األمر هم ‪ :‬األمراء والعلماء‪ ،‬فإذا أطاعوا اهلل‬
‫ويتّبَع‬
‫وال اتّباعُهم فيما خالفوا فيه‪ ،‬ألنّه ليس هناك أح ٌد يُطاع استقالالً من الخلق إال رسول اهلل ‪ ،‬وما عداه فإنّه يُطاع ُ‬
‫الرسول ‪ ‬واّتبَع الرسول‪ ،‬هذه هي العبادة الصحيحة ‪.‬‬ ‫إذا أطاع ّ‬

‫‪8‬‬
‫قال الشيخ ‪:‬‬
‫((فإذا عرفتَ أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من‬
‫الخالدين في النار عرفتَ أنّ أه ّم ما عليك‪ :‬معرفة ذلك‪ ،‬لع ّل هللا أن يخلّصك من هذه‬
‫شبَكة‪ ،‬وهي الشرك باهلل الذي قال هللا فيه‪ِ﴿ :‬إ َّن اللَّهَ اَل َيغْ ِف ُر َأ ْن يُ ْش َر َك بِ ِه َو َيغْ ِف ُر َما ُدو َن ذَلِ َ‬
‫ك‬ ‫ال َّ‬
‫لِ َم ْن يَ َشاءُ﴾[النساء‪ ,]116:‬وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها هللا تعالى في كتابه‪.)).‬‬

‫*******************************************************‬
‫[ الشرح ]‬
‫عرفت التوحيد وهو ‪ :‬إفراد اهلل بالعبادة‪ ،‬يجب أن تعرف ما هو الشرك‪ ،‬أل ّن الذي ال يعرف الشيء‬ ‫َ‬ ‫أي ‪ :‬ما دام أنك‬
‫يقع فيه‪ ،‬فال ب ّد أنك تعرف أنواع الشرك من أجل أن تتجنّبها‪ ،‬أل ّن اهلل ح ّذر من الشرك وقال ‪ { :‬إن اهلل ال يغفر أن‬
‫خطره‪ ،‬وهو أنه يَ ْح ِر ُم من الجنّة { إنه من يُشرك باهلل‬
‫يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }‪ ،‬فهذا الشرك الذي هذا ُ‬
‫حرم اهلل عليه الجنّة }‪ ،‬ويَ ْح ِر ُم من المغفرة { إن اهلل ال يغفر أن يُشرك به } ‪.‬‬
‫فقد ّ‬
‫أي خطر‪ ،‬أل ّن الشرك ضلّت فيه أفهام وعُقول ‪ .‬لنعرف ما هو‬
‫خطر عظيم‪ ،‬يجب عليك أن تعرفه قبل ّ‬
‫إ ًذا ‪ :‬هذا ٌ‬
‫‪9‬‬
‫يحرم الشرك‬
‫ويبينُه‪ ،‬وما َأمر بشيء إال ويُبيّنه للناس‪ ،‬فهو لن ِّ‬
‫الشرك من الكتاب والسنة‪ ،‬اهلل ما ح ّذر من شيء إال ِّ‬
‫مجمالً‪ ،‬بل بيّنه في القرآن العظيم وبيّنه الرسول ‪ ‬في السنّة‪ ،‬بيانـًا شافيـًا‪ ،‬فإذا أردنا أن نعرف ما هو الشرك‬
‫ويتركه َ‬
‫نرجع إلى الكتاب والسنة حتى نعرف الشرك‪ ،‬وال نرجع إلى قول فالن ‪ .‬وهذا سيأتي ‪.‬‬

‫قال الشيخ ‪:‬‬


‫بأن هللا تعالىـ هو الخالِقـ‬ ‫‪ ‬القاعدةـ األولى‪ :‬أن تعلم أنّ الكفّار الذين قاتلهمـ رسول هللا ‪ ‬يُقِ ُّرونـ ّـ‬
‫الس ْم َع‬
‫ك َّ‬ ‫ض ََّأم ْن يَ ْملِ ُ‬
‫اَأْلر ِ‬ ‫ْخ ْلهم في اإلسالم‪ ،‬والدليل‪ :‬قوله تعالىـ﴿قُل من يرزقُ ُكم ِمن َّ ِ‬
‫وأن ذلكـ لم يُد ِ‬
‫المدبِّر‪ّ ،‬ـ‬
‫الس َماء َو ْ‬ ‫ْ َ ْ َْ ُ ْ ْ‬
‫اَأْلم َر فَ َسَي ُقولُو َن اللَّهُ َف ُق ْل َأفَاَل َتَّت ُقو َن﴾[يونس‪.]31:‬‬ ‫ت وي ْخرِج الْميِّ َ ِ‬
‫ِ‬ ‫واَأْلبصار ومن ي ْخرِج ال ِ‬
‫ْح ِّي َو َم ْن يُ َد ِّب ُر ْ‬
‫ت م ْن ال َ‬ ‫ْح َّي م ْن ال َْميِّ َ ُ ُ َ‬
‫َ ْ َ َ ََ ْ ُ ُ َ‬

‫[ الشرح ]‬

‫الربوبيّة‪ ،‬ومع ذلك إقرارهم‬


‫مقرين بتوحيد ّ‬
‫القاعدة األولى ‪ :‬أن تعرف أن الك ّفار الذين قاتلهم رسول اهلل ‪ ‬كانوا ِّ‬
‫يحرم دماءهم وال أموالهم ‪.‬‬
‫بتوحيد الربوبية لم يُدخلهم في اإلسالم‪ ،‬ولم ِّ‬
‫فدل على أ ّن التوحيد ليس هو اإلقرار بالربوبيّة فقط‪ ،‬وأ ّن الشرك ليس هو الشرك في الربوبيّة فقط‪ ،‬بل ليس هناك‬ ‫ّ‬
‫أح ٌد أشرك في الربوبيّة إال شواذّ من الخلق‪ ،‬وإالّ فكل األمم تُِق ّر بتوحيد الربوبية‪ ،‬وتوحيد الربوبية هو ‪ :‬اإلقرار بأ ّن اهلل‬
‫هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبّر‪ ،‬أو بعبارة أخصر ‪ :‬توحيد الربوبية هو ‪ :‬إفراد اهلل ـ تعالى ـ بأفعاله ـ سبحانه‬
‫وتعالى ـ ‪.‬‬
‫فال أحد من الخلق ا ّدعى أ ّن هناك أح ًدا يخلُق مع اهلل ـ تعالى ـ‪ ،‬أو يرزق مع اهلل‪ ،‬أو يحيي‪ ،‬أو يُميت‪ ،‬بل المشركون‬
‫مقرون بأ ّن اهلل هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبّر ‪ { :‬ولئن سألتهم َمن خلق السموات واألرض ليقولُ ّن اهلل }‪{ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ورب العرش العظيم فسيقولون هلل }‪ ،‬اقرءوا اآليات من آخر سورة المؤمنون تجدون أ ّن‬ ‫رب السموات السبع ّ‬ ‫قل َمن ّ‬
‫مقرين بتوحيد الربوبيّة‪ ،‬وكذلك في سورة يونس { قل من يرزقكم من السموات واألرض ّأم ْن يملك‬ ‫المشركين كانوا ّ‬
‫مقرون‬ ‫السمع واألبصار ومن يُخرج الحي من الميّت ويُخرج الميّت من الحي ومن يدبّر األمر فسيقولون اهلل }‪ ،‬فهم ّ‬
‫بهذا ‪.‬‬
‫فليس التوحيد هو اإلقرار بتوحيد الربوبيّة كما يقول ذلك علماء الكالم والنُظُّار في عقائدهم‪ ،‬فإنّهم ّ‬
‫يقررون بأ ّن‬

‫‪10‬‬
‫التوحيد هو اإلقرار بأن اهلل هو‬
‫الخالق الرازق المحيي المميت‪ ،‬فيقولون ‪ ( :‬واحد في ذاته ال قسيم له‪،‬‬

‫أي كتاب من‬ ‫واحد في صفاته ال شبيه له‪ ،‬واح ٌد في أفعاله ال شريك له ) وهذا هو توحيد الربوبيّة‪ ،‬ارجعوا إلى ّ‬
‫كتب علماء الكالم تجدوهم ال يخرجون عن توحيد الربوبيّة‪ ،‬وهذا ليس هو التوحيد الذي بعث اهلل به الرسل‪ ،‬واإلقرار‬
‫أقر به المشركون وصناديد ال َك َفرة‪ ،‬ولم يُخرجهم من الكفر‪ ،‬ولم يُدخلهم في‬
‫بهذا وحده ال ينفع صاحبه‪ ،‬أل ّن هذا ّ‬
‫ط عظيم‪ ،‬فمن اعتقد هذا االعتقاد ما زاد على اعتقاد أبي جهل وأبي لهب‪ ،‬فالذي عليه اآلن بعض‬ ‫اإلسالم‪ ،‬فهذا غل ٌ‬
‫مسمى التوحيد ‪.‬‬
‫ط عظيم في ّ‬ ‫يتطرقون إلى توحيد األلوهيّة‪ ،‬وهذا غل ٌ‬
‫المث ّقفين هو تقرير توحيد الربوبية فقط‪ ،‬وال ّ‬
‫وأما الشرك فيقولون ‪ ( :‬هو أن تعتقد أ ّن أح ًدا يخلُق مع اهلل أو يرزق مع اهلل )‪ ،‬نقول ‪ :‬هذا ما قاله أبو جهل وأبو‬
‫مقرون بأن اهلل هو الخالق الرازق المحيي المميت ‪.‬‬
‫ويرزق مع اهلل‪ ،‬بل هم ّ‬ ‫لهب‪ ،‬ما قالوا أن أح ًدا يخلُق مع اهلل ُ‬

‫قال الشيخ ‪:‬‬


‫وتوجهنا إليهم إال لطلب القُ ْربة‬
‫ّ‬ ‫‪ (( ‬القاعدة الثانية‪ :‬أنّهم يقولون‪ :‬ما دعوناهم‬
‫‪11‬‬
‫اء َما َن ْعبُ ُد ُه ْم ِإاَّل لُِي َق ِّربُونَا ِإلَى‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫والشفاعة‪ ،‬فدليل القُربة قوله تعالى ﴿ َوالذ َ‬
‫ين اتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونه َْأوليَ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ار﴾[الزمر‪:‬‬ ‫ب َك َّف ٌ‬ ‫اللَّه ُزلْ َفى ِإ َّن اللَّهَ يَ ْح ُك ُم َب ْيَن ُه ْم في َما ُه ْم فيه يَ ْختَل ُفو َن ِإ َّن اللَّهَ اَل َي ْهدي َم ْن ُه َو َكاذ ٌ‬
‫‪.]3‬‬
‫[ الشرح ]‬
‫سماهم اهلل مشركين وحكم عليهم بال ُخلود في النار‪ ،‬لم يشركوا في الربوبيّة‬
‫القاعدة الثانية ‪ :‬أن المشركين الذين ّ‬
‫يضرون أو يدبّرون مع اهلل‪،‬‬
‫وترزق مع اهلل‪ ،‬وأنهم ينفعون أو ّ‬
‫تخل ُ‬
‫وإنما أشركوا في األولهية‪ ،‬فهم ال يقولون إ ّن آلهتهم ُ‬
‫وإنما اتخذوهم شفعاء‪ ،‬كما قال اهلل تعالى عنهم ‪ { :‬ويعبدون من دون اهلل ما ال يضرهم وال ينفعهم ويقولون هؤالء‬
‫يضرون‪ ،‬وإنما ات ّخذوهم‬
‫يضرهم وال ينفعهم } هم معترفون بهذا إنهم ال ينفعون وال ّ‬‫شفعاؤنا عند اهلل }‪ { ،‬ما ال ّ‬
‫شفعاء‪ ،‬يعني ‪ُ :‬وسطاء عند اهلل في قضاء حوائجهم‪ ،‬يذبحون لهم‪ ،‬وين ُذرون لهم‪ ،‬ال ألنّهم يخلقون أو يرزقون أو‬
‫يتوسطون لهم عند اهلل‪ ،‬ويشفعون عند اهلل‪ ،‬هذه عقيدة المشركين ‪.‬‬
‫يضرون في اعتقادهم‪ ،‬وإنما ألنهم ّ‬ ‫ينفعون أو ّ‬
‫الولي أو هذا‬
‫سواء بسواء‪ ،‬يقول ‪ :‬أنا أدري أ ّن هذا ّ‬
‫لما تناقش اآلن قبوريـًا من القبوريّين يقول هذه المقالة ً‬
‫وأنت ّ‬
‫رجل صالح وُأريد منه الشفاعة لي عند اهلل ‪.‬‬
‫الرجل الصالح ال يضر وال ينفع‪ ،‬ولكن هو ٌ‬
‫شرطان ‪:‬‬
‫والشفاعة فيها ح ّق وفيها باطل‪ ،‬الشفاعة التي هي ح ّق وصحيحة هي ما توفّر فيها ْ‬
‫األول ‪ :‬أن تكون بإذن اهلل ‪.‬‬
‫الشرط ّ‬
‫والشرط الثاني ‪ :‬أن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد‪ ،‬أي ‪ :‬من ُعصاة الموحدين ‪.‬‬
‫ط من الشرطين فالشفاعة باطلة‪ ،‬قال ـ تعالى ـ ‪ { :‬من ذا الذي يشفع عنده إالّ بإذنه }‪ { ،‬وال يشفعون‬
‫اختل شر ٌ‬ ‫ِ‬
‫فإن ّ‬
‫إال لمن ارتضى }‪ ،‬وهم‬

‫الموحدين‪ ،‬أما الك ّفار والمشركون فما تنفعهم شفاعة الشافعين { ما للظالمين من حميم وال شفي ٍع يُطاع } ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عُصاة‬
‫عز وجل ـ‪ ،‬بل طلبوها لمن‬‫فهؤالء سمعوا بالشفاعة وال عرفوا معناها‪ ،‬وراحوا يطلبونها من هؤالء بدون إذن اهلل ـ ّ‬
‫هو مش ِر ٌك باهلل ال تنفعه شفاعة الشافعين‪ ،‬فهؤالء يجهلون معنى الشفاعة الح ّقة والشفاعة الباطلة ‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫ولهذا قال الشيخ ـ رحمه اهلل ـ ‪:‬‬
‫ض ُّر ُه ْم َواَل َيْن َفعُ ُه ْم َو َي ُقولُو َن َهُؤ اَل ِء ُش َف َعاُؤ نَا ِعْن َد اللَّ ِه﴾[يونس‪،]18:‬‬ ‫ودليلـ الشفاعةـ قوله تعالى‪﴿ :‬وي ْعب ُدو َن ِمن ُد ِ‬
‫ون اللَّ ِه َما اَل يَ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ُ‬
‫والشفاعة شفاعتان‪:‬ـ شفاعةـ منفيّة وشفاعةـ مثبَتة‪:‬‬
‫فالشفاعةـ المنفيّة ما كانت تٌطلبـ من غير هللا فيما ال يقدر عليه إالّ هللا‪ ،‬والدليل‪ :‬قوله تعالىـ ﴿يَا‬
‫َأنف ُقوا ِم َّما َر َزقْنَا ُك ْم ِم ْن َق ْب ِل َأ ْن يَْأتِ َي َي ْو ٌم اَل َب ْي ٌع فِ ِيه َواَل ُخلَّةٌ َواَل َش َف َاعةٌ َوالْ َكافِ ُرو َن ُه ْم الظَّالِ ُمو َن﴾[البقرة‪.]254:‬‬
‫َُّأيها الَّ ِذين آمنُوا ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫رضي‬
‫َ‬ ‫والشفاعةـ المثبَتة هي‪ :‬التي تُطلبـ من هللا‪ ،‬والشّافع ُم ْك َر ٌم بالشفاعة‪ ،‬والمشفوعـ له‪ :‬من‬
‫هللا قوله وعملَـه بعد اإلذن كما قال تعالىـ ﴿ َم ْن ذَا الَّ ِذي يَ ْش َف ُع ِعْن َدهُ ِإاَّل بِِإ ْذنِِه﴾[البقرة‪.]255:‬‬
‫ُ‬

‫الشرح ‪:‬‬
‫الشفاعة لها شروط ولها قُيود‪ ،‬ليست مطلَقة ‪.‬‬
‫جل وعال ـ‪ ،‬وهي الشفاعة بغير إذنه ـ سبحانه وتعالى ـ‪ ،‬فال يشفع أحد عند اهلل‬ ‫فالشفاعة شفاعتان ‪ :‬شفاعة نفاها اهلل ـ ّ‬
‫يخر ساج ًدا بين يدي ربّه‬‫إالّ بإذنه‪ ،‬وأفضل الخلق وخاتم النبيّين محمد ‪ ‬إذا أراد أن يشفع ألهل الموقف يوم القيامة ّ‬
‫ويدعوه ويحم ُده ويُثني عليه‪ ،‬وال يزال ساج ًدا حتى يُقال له ‪ (( :‬ارفع رأسك‪ ،‬وقل تُ ْس َم ْع‪ ،‬واشفع تُ َش َّف ْع ))‪ ،‬فال يشفع‬
‫إال بعد اإلذن ‪.‬‬
‫والشفاعة المثبتة هي التي تكون ألهل التوحيد‪ ،‬فالمشرك ال تنفعه شفاعة‪ ،‬والذي يقدِّم القرابين للقبور والنذور‬
‫‪13‬‬
‫للقبور هذا مشرك ال تنفعه الشفاعة ‪.‬‬
‫وخالصة القول ‪ :‬أن الشفاعة المنفية هي التي تطلب بغير إذن اهلل‪ ،‬أو تطلب لمشرك ‪.‬‬
‫والشفاعة المثبتة هي التي تكون بعد إذن اهلل‪ ،‬وألهل التوحيد ‪.‬‬

‫قال الشيخ ـ رحمه اهلل ـ ‪:‬‬


‫متفرقين في عباداتهم منهم َمن يعبُد المالئكة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ (( ‬القاعدة الثالثة‪ :‬أنّ النبي ‪ ‬ظهر علىـ ُأنا ٍ‬
‫س‬
‫ومنهم من يعبد األنبياء والصالحين‪،‬ـ ومنهم من يعبد األحجار واألشجار‪ ،‬ومنهم َمنـ يعبد الشمس‬
‫يفرق بينهم‪ ،‬والدليلـ قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وقَاتِلُ ُ‬
‫والقمر‪ ،‬وقاتلهمـ رسول هللا ‪ ‬ولم ِّ‬
‫ِّين‬ ‫ِ‬
‫وه ْم َحتَّى اَل تَ ُكو َن ف ْتنَةٌ َويَ ُكو َن الد ُ‬
‫لِلَّ ِه﴾[األنفال‪.]39:‬‬ ‫ُكلُّهُ‬
‫))‪.‬‬
‫[ الشرح ]‬
‫القاعدة الثالثة ‪ :‬أ ّن النبي ‪ ‬بُعث إلى ٍ‬
‫ُأناس من المشركين‪ ،‬منهم َم ْن يعبُد المالئكة‪ ،‬ومنهم من يعبد الشمس والقمر‪،‬‬
‫ومنهم من يعبد األصنام واألحجار واألشجار‪ ،‬ومنهم من يعبد األولياء والصالحين ‪.‬‬
‫الموحدين فإ ّن معبودهم واحد ـ سبحانه‬
‫ّ‬ ‫وهذا من قبح الشرك أ ّن أصحابه ال يجتمعون على شيء واحد‪ ،‬بخالف‬
‫سميتموها }‪ ،‬فمن سلبيّات الشرك‬ ‫خير ِأم اهلل الواحد ّ‬
‫القهار ما تعبدون من دونه إال أسماء ّ‬ ‫متفرقون ٌ‬
‫أأرباب ّ‬
‫ٌ‬ ‫وتعالى ـ {‬
‫متفرقون في عباداتهم ال يجمعهم ضابط‪ ،‬ألنّهم ال يسيرون على أصل‪ ،‬وإنّما يسيرون على أهوائهم‬ ‫وأباطيله ‪ :‬أ ّن أهله ّ‬
‫تفرقاتهم { ضرب اهلل مثالً رجالً فيه شركاء متشاكِسون ورجالً َسلَمـًا لرجل هل يستويان‬
‫ودعايات المضلّلين‪ ،‬فتكثُر ّ‬
‫مثالً الحمد هلل بل أكثرهم ال يعلمون }‪ ،‬فالذي يعبد اهلل وحده مثل المملوك الذي يعبده شخص واحد يرتاح معه‪،‬‬
‫كل‬
‫يعرف مقاصده ويعرف مطالبه ويرتاح معه‪ ،‬لكن المشرك مثل الذي له ع ّدة مالكين‪ ،‬ما يدري َم ْن يُرضي منهم‪ّ ،‬‬
‫وكل واحد له طلب‪ ،‬وكل واحد له رغبة‪ ،‬كل واحد يريده أن يأتي عنده‪ ،‬ولهذا قال سبحانه ‪ { :‬ضرب‬ ‫واحد له هوى‪ّ ،‬‬
‫اهلل مثالً رجالً فيه شركاء متشاكسون } يعني ‪ :‬يملكه ع ّدة أشخاص‪ ،‬ال يدري َمن يُرضي منهم‪ { ،‬ورجالً َسلَمـًا لرجل‬
‫وللموحد ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫} مالكه شخص واحد‪ ،‬هذا يرتاح معه‪ ،‬هذا مثل ضربه اهلل للمشرك‬
‫يفرق بينهم‪ ،‬قاتل الوثنين‪ ،‬وقاتل اليهود والنصارى‪ ،‬وقاتل‬
‫متفرقون في عباداتهم‪ ،‬والنبي ‪ ‬قاتلهم ولم ِّ‬
‫فالمشركون ّ‬
‫المجوس‪ ،‬قاتل جميع المشركين‪ ،‬وقاتل‬

‫يفرق بينهم ‪.‬‬


‫الذين يعبدون المالئكة‪ ،‬والذين يعبدون األولياء الصالحين‪ ،‬لم ِّ‬
‫فهذا فيه ردٌّ على الذين يقولون ‪ :‬الذي يعبد الصنم ليس مثل الذي يعبد رجالً صالحـًا وملكـًا من المالئكة‪ ،‬أل ّن‬
‫وأشجارا‪ ،‬ويعبدون جمادات‪ ،‬أما الذي يعبد رجالً صالحـًا ووليـًّا من أولياء اهلل ليس مثل الذي‬
‫ً‬ ‫أحجارا‬
‫ً‬ ‫هؤالء يعبدون‬
‫يعبد األصنام ‪.‬‬
‫ويريدون بذلك أن الذي يعبد القبور اآلن يختلف حكمه عن الذي يعبد األصنام‪ ،‬فال يكفر‪ ،‬وال يعتبر عمله هذا‬
‫‪14‬‬
‫شركـًا‪ ،‬وال يجوز قتاله ‪.‬‬
‫يفرق بينهم‪ ،‬والذين‬
‫واستحل دماءهم وأموالهم‪ ،‬ولم ِّ‬
‫ّ‬ ‫يفرق بينهم‪ ،‬بل اعتبرهم مشركين كلّهم‪،‬‬ ‫فنقول ‪ :‬الرسول لم ّ‬
‫زيرا‪ ،‬وهو من أنبيائهم‪ ،‬أو من صالحيهم‪،‬‬ ‫يعبدون المسيح‪ ،‬والمسيح رسول اهلل‪ ،‬ومع هذا قاتلهم ‪ .‬واليهود يعبدون ُع ً‬
‫حجرا أو‬
‫يفرق بينهم ‪ .‬فالشرك ال تفريق فيه بين َم ْن يعبُد رجالً صالحـًا أو يعبُد صنمـًا أو ً‬ ‫قاتلهم رسول اهلل ‪ ،‬لم ِّ‬
‫شجرا‪ ،‬ألن الشرك هو ‪ :‬عبادة غير اهلل كائنـًا َم ْن كان‪ ،‬ولهذا يقول ‪ { :‬واعبدوا اهلل وال تُشركوا به شيئـًا }‪ ،‬وكلمة‬
‫ً‬
‫عز وجل ـ من المالئكة والرسل والصالحين‬ ‫تعم كل َم ْن ُأشرك مع اهلل ـ ّ‬
‫كل شيء‪ّ ،‬‬ ‫تعم ّ‬‫{ شيئـًا } في سياق النهي ّ‬
‫واألولياء‪ ،‬واألحجار واألشجار ‪.‬‬

‫قال‪:‬‬
‫ِّين ُكلُّهُ لِلَّ ِه﴾[األنفال‪.)).]39:‬‬ ‫ِ‬ ‫(( والدليل قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وقَاتِلُ ُ‬
‫وه ْم َحتَّى اَل تَ ُكو َن ف ْتنَةٌ َويَ ُكو َن الد ُ‬

‫[ الشرح ]‬
‫عام‬
‫أي ‪ :‬الدليل على قتال المشركين من غير نفريق بينهم حسب معبوداتهم؛ قوله تعالى ‪ { :‬وقاتلوهم }‪ ،‬وهذا ّ‬
‫عام‪،‬‬
‫يوجد شرك‪ ،‬وهذا ّ‬ ‫لكل المشركين‪ ،‬لم يستثني أح ًدا‪ ،‬ثم قال ‪ { :‬حتى ال تكون فتنة } والفتنة ‪ :‬الشرك‪ ،‬أي ‪ :‬ال َ‬
‫سواء الشرك في األولياء والصالحين‪ ،‬أو باألحجار‪ ،‬أو باألشجار‪ ،‬أو بالشمس‪ ،‬أو بالقمر ‪.‬‬ ‫أي شرك‪ً ،‬‬ ‫َّ‬
‫{ ويكون الدين كلّه هلل } ‪ :‬تكون العبادة كلها هلل‪ ،‬ليس فيها َش ِر َكةٌ ألحد كائنـًا َم ْن كان‪ ،‬فال فرق بين الشرك‬
‫باألولياء والصالحين أو باألحجار أو باألشجار أو بالشياطين أو غيرهم ‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫قال‪:‬‬
‫(( ودليل الشمس والقمر قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وم ْن آيَاتِه اللَّْي ُل َوالن َ‬
‫س َواَل لِ ْل َق َم ِر﴾[فصلت‪:‬‬ ‫س َوالْ َق َم ُر اَل تَ ْس ُج ُدوا لِ َّ‬
‫لش ْم ِ‬ ‫ار َو َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الش ْم ُ‬ ‫َّه ُ‬
‫‪.)).]37‬‬

‫[ الشرح ]‬
‫يسجد للشمس والقمر‪ ،‬ولهذا نهى الرسول ‪ ‬عن الصالة عند طلوع الشمس وعند غروبها‬ ‫دل على أ ّن هناك َمن ُ‬
‫ّ‬
‫نصلي في هذين الوقتين‬
‫َ‬ ‫يسجد للشمس عند طلوعها ويسجد لها عند غروبها‪ ،‬فنهينا أ ْن‬ ‫ًّ‬
‫سدا للذريعة‪ ،‬أل ّن هناك َمن ُ‬
‫وإ ْن كانت الصالة هلل‪ ،‬لكن لَ ّما كان في الصالة في هذا الوقت مشابهة لفعل المشركين ُمنِ َع من ذلك ًّ‬
‫سدا للذريعة التي‬
‫تُفضي إلى الشرك‪ ،‬والرسول ‪ ‬جاء بالنهي عن الشرك وس ّد ذرائعه المفضية إليه ‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫قال‪:‬‬
‫((ودليل المالئكة قوله تعالى‪:‬ـ ﴿ َواَل يَ ُْأم َر ُك ْم َأ ْن َتت َِّخ ُذوا ال َْماَل ِئ َكةَ َوالنَّبِيِّ َين َْأربَابًا﴾[آل عمران‪.)) .]80:‬‬

‫[ الشرح ]‬
‫دل على أ ّن هناك َم ْن َعبد المالئكة والنبيّين‪ ،‬وأن ذلك شرك ‪.‬‬
‫ّ‬
‫وعبّاد القبور اليوم يقولون ‪ :‬الذي يعبد المالئكة والنبيّين والصالحين ليس بكافر ‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫قال‪:‬‬
‫َّاس اتَّ ِخ ُذونِي َو ُِّأمي‬ ‫ْت لِلن ِ‬ ‫يسى ابْ َن َم ْريَ َم َأ َ‬
‫َأنت ُقل َ‬ ‫(( ودليل األنبياء قوله تعالى‪﴿ :‬وِإ ْذ قَ َ َّ ِ‬
‫ال اللهُ يَا ع َ‬ ‫َ‬
‫نت ُقلْتُهُ َف َق ْد َعلِ ْمتَهُ َت ْعلَ ُم‬
‫س لِي بِ َح ٍّق ِإ ْن ُك ُ‬ ‫ك َما يَ ُكو ُن لِي َأ ْن َأقُ َ‬ ‫ون اللَّ ِه قَ َ‬‫ِإلَ َه ْي ِن ِمن ُد ِ‬
‫ول َما لَْي َ‬ ‫ال ُس ْب َحانَ َ‬ ‫ْ‬
‫وب﴾[المائدة‪.)) .]116:‬‬ ‫ت َعاَّل ُم الْغُيُ ِ‬
‫ك َأنْ َ‬ ‫َما فِي َن ْف ِسي َواَل َأ ْعلَ ُم َما فِي َن ْف ِس َ‬
‫ك ِإنَّ َ‬

‫[ الشرح ]‬
‫هذا فيه دليل على أن عبادة األنبياء شرك مثل عبادة األصنام ‪.‬‬
‫ففيه ردٌّ على من ّ‬
‫فرق في ذلك من عبّاد القبور‬
‫يسوى عندهم بين َمن عبد األصنام وبين َمن‬
‫فهذا فيه ر ّد على هؤالء الذين يقولون ‪ :‬إن الشرك عبادة األصنام‪ ،‬وال َّ‬
‫مقصور على عبادة األصنام فقط‪ ،‬وهذا‬
‫ٌ‬ ‫عبد وليـّا أو رجالً صالحـًا‪ ،‬وينكرون التسوية بين هؤالء‪ ،‬ويزعمون أ ّن الشرك‬
‫من المغالَطة الواضحة من ناحيتين ‪:‬‬
‫جل وعال ـ في القرآن أنكر على الجميع‪ ،‬وأمر بقتال الجميع ‪.‬‬
‫الناحية األولى ‪ :‬أ ّن اهلل ـ ّ‬
‫يفرق بين عابِ ِد ٍ‬
‫صنم وعابِد ملَك أو رجل صالح‬ ‫الناحية الثانية ‪ :‬أ ّن النبي ‪ ‬لم ِّ‬

‫‪18‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ِ‬ ‫(( ودليل الصالحين قوله تعالى‪ُ﴿ :‬أولَِئ َ َّ ِ‬
‫ين يَ ْدعُو َن َي ْبَتغُو َن ِإلَى َربِّ ِه ْم ال َْوسيلَةَ َُّأي ُه ْم َأق َْر ُ‬
‫ب‬ ‫ك الذ َ‬ ‫ْ‬
‫َو َي ْر ُجو َن َر ْح َمتَهُ َويَ َخافُو َن َع َذابَهُ‪﴾ ...‬اآلية[اإلسراء‪.))57:‬‬

‫[ الشرح ]‬
‫(( ودليل الصالحين )) يعني ‪ :‬ودليل أ ّن هناك َمن عبد الصالحين من البشر ‪ :‬قوله ـ تعالى ـ ‪ { :‬أولئك الذين يدعون‬
‫زيرا‪ ،‬فأخبر ـ سبحانه ـ أ ّن‬
‫وأمه وعُ ً‬
‫يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيُّهم أقرب } قيل ‪ :‬نزلت هذه اآلية فيمن يعبد المسيح ّ‬
‫يتقربون إلى اهلل ويرجون رحمته ويخافون عذابه‪ ،‬فهم عبا ٌد محتاجون إلى‬ ‫زيرا كلهم عبا ٌد هلل‪ّ ،‬‬
‫المسيح وأمه مريم‪ ،‬وعُ ً‬
‫ويتوسلون إليه بالطّاعة { يبتغون إلى ربهم الوسيلة } يعني ‪ :‬ال ُقرب منه ـ سبحانه ـ بطاعته‬
‫ّ‬ ‫اهلل مفتقرون إليه يدعونه‬
‫بشر محتاجون فقراء‪ ،‬يدعون اهلل‪ ،‬ويرجون رحمته‪ ،‬ويخافون عذابه‪،‬‬ ‫فدل على أنهم ال يصلُحون للعبادة ألنّهم ٌ‬ ‫وعبادته‪ّ ،‬‬
‫عز وجل ـ ‪.‬‬
‫ومن كان كذلك ال يصلُح أن يُعبد مع اهلل ـ ّ‬ ‫َ‬
‫والقول الثاني ‪ :‬أنها نزلت في ٍ‬
‫ُأناس من المشركين كانوا يعبدون ن َف ًرا من الجن‪ ،‬فأسلم الجن ولم يعلم هؤالء الذين‬
‫يتقربون إلى اهلل بالطاعة والضَّراعة ويرجون رحمته ويخافون عذابه‪ ،‬فهم عبا ٌد محتاجون‬
‫يعبدونهم بإسالمهم‪ ،‬وصاروا ّ‬
‫فقراء ال يصلُحون للعبادة ‪.‬‬
‫سواء كانوا من األنبياء والصدِّيقين‪ ،‬أو‬
‫تدل على أنه ال يجوز عبادة الصالحين‪ً ،‬‬ ‫وأيـًّا كان المراد باآلية الكريمة فإنّها ّ‬
‫جل وعال ـ ‪.‬‬
‫من األولياء والصالحين‪ ،‬فال تجوز عبادتهم‪ ،‬أل ّن ال ُكل عبا ٌد هلل فقراء إليه‪ ،‬فكيف يُعبدون مع اهلل ـ ّ‬
‫يوصل إلى رضى اهلل‬
‫يوصل إلى المقصود ‪ .‬فالذي ِّ‬ ‫والوسيلة معناها ‪ :‬الطاعة وال ُقرب‪ ،‬فهي في اللغة ‪ :‬الشيء الذي ِّ‬
‫وجنّته هو الوسيلة إلى اهلل‪ ،‬هذه هي الوسيلة المشروعة في قوله تعالى ‪ { :‬وابتغوا إليه الوسيلة } ‪.‬‬
‫المخرفون فيقولون ‪ :‬الوسيلة ‪ :‬أ ْن تجعل بينك وبين اهلل واسطة من األولياء والصالحين واألموات‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫المحرفون‬
‫ِّ‬ ‫أما‬
‫تجعلهم واسطة بينك وبين اهلل‬

‫المخرفين ‪ :‬أن تجعل بينك‬


‫ّ‬ ‫ليقربونا إلى اهلل ُزلفى }‪ ،‬فمعنى الوسيلة عند هؤالء‬
‫ليقربوك إلى اهلل { ما نعبدهم إال ِّ‬
‫ِّ‬
‫جل وعال ـ‬‫جل وعال ـ ال يعلم‪ ،‬أو كأن اهلل ـ ّ‬
‫عرف اهلل بك وتن ُقل له حاجاتك وتُخبره عنك‪ ،‬كأ ّن اهلل ـ ّ‬ ‫وبين اهلل واسطة تُ ِّ‬
‫جل‬
‫عما يقولون ـ ‪ .‬ولهذا يشبّهون على النّاس ويقولون ‪ :‬اهلل ـ ّ‬ ‫يلح عليه بالوسائط ـ تعالى اهلل ّ‬
‫بخيل ال يعطي إالّ بعد ما ّ‬
‫أمر‬
‫فدل على أ ّن اتّخاذ الوسائط من الخلق إلى اهلل ٌ‬‫وعال ـ يقول ‪ { :‬أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } ّ‬
‫مشروع أل ّن اهلل أثنى على أهله‪ ،‬وفي اآلية األخرى ‪ { :‬يأيها الذين آمنوا اتّقوا اهلل وابتغوا إليه الوسيلة ِ‬
‫وجاهدوا في‬
‫يحرفون ال َك ِلم عن مواضعه‪،‬‬
‫سبيله } قالوا ‪ :‬إن اهلل أمرنا أن نتّخذ الوسيلة إليه‪ ،‬والوسيلة معناها ‪ :‬الواسطة‪ ،‬هكذا ّ‬
‫والتوسل إليه بأسمائه وصفاته سبحانه‬
‫ُّ‬ ‫تقرب إلى اهلل‪،‬‬
‫فالوسيلة المشروعة في القرآن وفي السنة هي ‪ :‬الطاعة التي ِّ‬
‫التوسل بالمخلوقين إلى اهلل فهو وسيلةٌ ممنوعة‪ ،‬ووسيلة شركيّة‪ ،‬وهي التي‬ ‫وتعالى ‪ .‬هذه هي الوسيلة المشروعة‪ ،‬أما ُّ‬
‫يضرهم وال ينفعهم ويقولون هؤالء شفعاؤنا عند اهلل }‪،‬‬ ‫اتّخذها المشركون من قبل ‪ { :‬ويعبدون من دون اهلل ما ال ّ‬
‫‪19‬‬
‫األولين واآلخرين سواء بسواء‪،‬‬ ‫ليقربونا إلى اهلل ُزلفى }‪ ،‬هذا هو شرك ّ‬ ‫{ والذين اتّخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إال ّ‬
‫سموه وسيلة فهو الشرك بعينه‪ ،‬وليس هو الوسيلة التي شرعها اهلل ـ سبحانه وتعالى ـ‪ ،‬أل ّن اهلل لم يجعل الشرك‬ ‫وإ ْن ّ‬
‫حرم اهلل عليه الجنّة ومأواه النار‬ ‫ِ‬
‫وسيلة إليه أب ًدا‪ ،‬وإنما الشرك ُم ْبع ٌد عن اهلل ـ سبحانه وتعالى ـ ‪ { :‬إنه َمن يُشرك باهلل فقد ّ‬
‫عما يقولون ـ ‪.‬‬
‫وما للظالمين من أنصار } فكيف يُجعل الشرك وسيلة إلى اهلل ـ تعالى اهلل ّ‬
‫شاهد من اآلية ‪ :‬أ ّن فيها دليالً على أ ّن هناك من المشركين َمن يعبد الصالحين‪ ،‬أل ّن اهلل بيّن ذلك‪ ،‬وبيّن أن هؤالء‬
‫ال ّ‬
‫يتقربون إليه بالطّاعة { أيُّهم أقرب } يتسابقون إلى‬
‫الذين تعبدونهم هم عبا ٌد فقراء { يبتغون إلى ربّهم الوسيلة } يعني ‪ّ :‬‬
‫ومن كان كذلك فإنّه ال يصلُح‬ ‫جل وعال ـ بالعبادة لفقرهم إلى اهلل وحاجتهم { ويرجون رحمته ويخافون عذابه } َ‬ ‫اهلل ـ ّ‬
‫عز وجل ـ ‪.‬‬ ‫أ ْن يكون إلهـًا يُدعى ويُعبد مع اهلل ـ ّ‬

‫قال ‪:‬‬
‫(( ودليل األحجار واألشجار قوله تعالى‪:‬ـ ﴿َأ َف َر َْأيتُ ْم الاَّل َت َوالْعَُّزى(‪)َ 19‬و َمنَا َة الثَّالِثَةَ اُأْل ْخ َرى﴾[النجم‪.)).]20-19:‬‬

‫[ الشرح ]‬
‫في هذه اآلية دليل أ ّن هناك َمن يعبد األحجار واألشجار من المشركين ‪.‬‬
‫فقوله ‪ { :‬أفرأيتهم } هذا استفهام إنكار‪ ،‬أي ‪ :‬أخبروني‪ ،‬من باب استفهام اإلنكار والتوبيخ ‪.‬‬
‫بيت مبني‪ ،‬وعليه ستائر‪،‬‬
‫صنم في الطائف‪ ،‬وهو عبارة عن صخرة منقوشة‪ ،‬عليها ٌ‬ ‫اسم ٍ‬‫{ الالت } ـ بتخفيف التاء ـ ‪ُ :‬‬
‫عز وجل ـ‪ ،‬وهي لثقيف وما واالهم من‬
‫يضاهي الكعبة‪ ،‬وحوله ساحة‪ ،‬وعنده َس َدنَة‪ ،‬كانوا يعبدونها من دون اهلل ـ ّ‬
‫القبائل‪ِ ،‬‬
‫يفاخرون بها ‪.‬‬
‫السويق‬ ‫رجل صالح كان يلُ ُّ‬
‫ت َّ‬ ‫ت )‪ ،‬وهو ‪ٌ :‬‬ ‫ت َيلُ ُّ‬ ‫َّ‬
‫الالت } ـ بتشديد التاء ـ اسم فاعل من ( لَ َّ‬ ‫وقُرئ ‪ { :‬أفرأيتم‬
‫عز وجل ـ‪ ،‬هذا‬‫وأرخوا عليه الستائر‪ ،‬فصاروا يعبدونه من دون اهلل ـ ّ‬ ‫فلما مات بنوا على قبره بيتـًا‪ْ ،‬‬
‫للح ّجاج‪ّ ،‬‬
‫ويُطعمه ُ‬
‫هو الالّت ‪.‬‬
‫السلَم في وادي نخلة بين م ّكة والطائف‪َ ،‬ح ْولَها بناء وستائر‪ ،‬وعندها َس َدنة‪ ،‬وفيها‬
‫والعزى } ‪ :‬شجرات من َّ‬
‫{ ّ‬
‫الجهال أ ّن هذا الذي يكلّمهم هو نفس هذه الشجرات أو هذا البيت الذي بنوه مع أ ّن‬ ‫ويظن ّ‬
‫شياطين يكلّمون الناس‪ّ ،‬‬
‫الذي تكلِّمهم هي الشياطين لتضلّهم عن سبيل اهلل‪ ،‬وكان هذا الصنم لقريش وأهل م ّكة َ‬
‫ومن حولهم ‪.‬‬
‫وكانت ل ُخزاعة واألوس‬
‫ْ‬ ‫{ ومناة } ‪ :‬صخرة كبيرة في مكان يقع قريبـًا من جبل قُديد‪ ،‬بين م ّكة والمدينة‪،‬‬
‫والخزرج‪ ،‬وكانوا يح ِرمون من عندها بالحج‪ ،‬ويعبدونها من دون اهلل ‪.‬‬
‫ْ‬
‫فهذه األصنام الثالثة هي أكبر أصنام العرب ‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫ومناة } هل أغنتكم شيئـًا ؟‪ ،‬هل نفعتكم ؟‪ ،‬هل نصرتكم ؟‪ ،‬هل كانت‬
‫والعزى َ‬
‫قال اهلل ـ تعالى ـ ‪ { :‬أفرأيتم الالّت ّ‬
‫تخلق وترزق وتحيي‬

‫وتميت ؟‪ ،‬ماذا وجدتّم فيها ؟‪ ،‬هذا من باب اإلنكار وتنبيه العقول إلى أ ْن ترجع إلى رشدها‪ ،‬فهذه إنما هي صخرات‬
‫وشجرات ليس فيها نفع وال ضر‪ ،‬مخلوقة ‪.‬‬
‫حرب إلى ( الالّت )‬‫المشرفة أرسل المغير بن ُشعبة وأبا سفيان بن ْ‬
‫ّ‬ ‫ولَ ّما جاء اهلل باإلسالم وفتح رسول اهلل ‪ ‬م ّكة‬
‫العزى فهدمها وقطع األشجار وقتل الجنيّة التي‬
‫في الطائف فهدماها بأمر رسول اهلل ‪ ،‬وأرسل خالد بن الوليد إلى ّ‬
‫علي بن أبي طالب إلى ( َمناة ) فهدمها‬ ‫ِ‬
‫كانت فيها تخاطب الناس وتضلّهم ومحاها عن آخرها ـ والحمد هلل ـ‪ ،‬وأرسل ّ‬
‫ومحاها‪ ،‬وما أنقذت نفسها‪ ،‬فكيف تُنقذ أهلها وعُبّادها { أفرأيتم الالت والعُ ّزى ومناة الثالثة األخرى } أين ذهبت ؟‪،‬‬
‫الموحدين ؟ ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫منعت نفسها من جنود اهلل وجيوش‬‫هل نفعتكم ؟‪ ،‬هل ْ‬
‫فهذا فيه دليل على أ ّن هناك َمن يعبد األشجار واألحجار‪ ،‬بل إ ّن هذه األصنام الثالثة كانت هي أكبر أصنامهم ومع‬
‫الوجود‪ ،‬وما دفعت عنها وال نفعت أهلها فقد غزاهم رسول اهلل ‪ ‬وقاتلهم ولم تمنعهم أصنامهم‪،‬‬ ‫هذا محاها اهلل من ُ‬
‫استدل له الشيخ ـ رحمه اهلل ـ أ ّن هناك َمن يعبد األحجار واألشجار‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فهذا فيه ما‬
‫يا سبحان اهلل ! بشر عقالء يعبدون األشجار واألحجار الجامدة التي ليس فيها عقول وليس فيها حركة وال حياة‪،‬‬
‫كبيرا‪.‬‬
‫علوا ً‬‫عما يقولون ًّ‬
‫أين عقول البشر ؟‪ ،‬تعالى اهلل ّ‬

‫قال‪:‬‬
‫(( وحديث أبي واق ٍد الليثي ‪ ‬قال‪ :‬خرجنا مع النبي ‪ ‬إلىـ ُحنين ونحنُ حدثاء عه ٍـد بكفر‪ ،‬وللمشركين‬
‫سدرة يعكفونـ عندها وينوطونـ بها أسلحتهم يقال لها‪ :‬ذات أنواط‪ ،‬فمررنا بسدرة فقلنا‪ :‬يا رسول‬
‫هللا إجعل لناـ ذات أنواط كما لهم ذات أنواط‪ ...‬الحديث‪.)).‬‬

‫‪21‬‬
‫[ الشرح ]‬
‫عن أبي واقد الليثي ـ رضي اهلل عنه ـ وكان ممن أسلم عام الفتح على المشهور سنة ٍ‬
‫ثمان من الهجرة ـ يقال لها‬ ‫ّ‬
‫بعض‬
‫للتبرك بها‪ ،‬فقال ُ‬‫ذات تعاليق‪ ،‬يعلِّقون بها أسلحتهم ّ‬
‫ذات أنواط )‪ ،‬واألنواط جمع نوط وهو ‪ :‬التعليق‪ ،‬أي ‪ُ :‬‬ ‫( ُ‬
‫ولم يعرفوا التوحيد تمامـًا ‪.‬‬
‫الصحابة الذين أسلموا قريبـًا ْ‬
‫تعجب‬ ‫ذات أنواط )‪ ،‬وهذه بليّة التقليد والتشبُّه‪ ،‬وهي من أعظم الباليا‪ ،‬فعند ذلك ّ‬ ‫ذات أنواط كما لهم ُ‬ ‫( اجعل لنا َ‬
‫النبي ‪ ‬وقال ‪ (( :‬اهلل أكبر!‪ ،‬اهلل أكبر!‪ ،‬اهلل أكبر! ))‪ ،‬وكان ‪ ‬إذا أعجبه شيء أو استنكر شيئـًا فإنّه يكبِّر أو يقول ‪:‬‬
‫(( سبحان اهلل )) ِّ‬
‫ويكرر ذلك ‪.‬‬
‫السنَن )) أي ‪ :‬الطُُرق التي يسلُكها الناس ويقتدي بعضهم ببعض‪ ،‬فالسبب الذي حملكم على هذا هو اتّباع‬ ‫(( إنها ُّ‬
‫األولين والتشبُّه بالمشركين ‪.‬‬
‫سنن ّ‬
‫(( قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كمـا قـالت بنوا إسـرائيل لموسى ‪ { :‬اجعل لنا إلهـًا كما لهم آلهة قال إنكم ٌ‬
‫قوم‬
‫مروا على‬‫عدوهم فيه وهم ينظرون‪ّ ،‬‬ ‫لما تجاوز البحر ببني إسرائيل وأغرق اهلل ّ‬ ‫تجهلون } )) ‪ .‬موسى ـ عليه السالم ّ‬
‫أصنام لهم من المشركين‪ ،‬فقال هؤالء لموسى ـ عليه السالم ـ ‪ { :‬اجعل لنا إلهـًا كما لهم آلهةً قال‬ ‫ُأناس يع ُكفون على ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وباطل ما كانوا يعملون } ألنّه‬
‫ٌ‬ ‫قوم تجهلون } أنكر عليهم وقال ‪ { :‬إ ّن هؤالء ُمتََّب ٌر ما هم فيه } يعني ‪ :‬باطل‪{ ،‬‬ ‫إنكم ٌ‬
‫ضلكم على العالَمين } أنكر عليهم ـ عليه الصالة والسالم ـ كما أ ّن نبيّنا محم ًدا‬ ‫أغير اهلل أبغيكم إلهـًا وهو ف ّ‬
‫شرك‪ { ،‬قال َ‬
‫‪‬‬

‫أنكر على هؤالء‪ ،‬ولكن هؤالء وهؤالء لم يشركوا‪ ،‬فبنوا إسرائيل لَ ّما قالوا هذه المقالة لم يُشركوا ألنّهم لم‬
‫ولكن اهلل حماهم‪ ،‬لَ ّما نهاهم نبيّهم انتهوا‪ ،‬وقالوا هذه‬
‫يفعلوا‪ ،‬وكذلك هؤالء الصحابة لو اتّخذوا ذات أنواط ألشركوا ّ‬
‫عز وجل ـ ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فلما علموا أنها شرك انتهوا ولم ين ّفذوا‪ ،‬ولو ن ّفذوا ألشركوا باهلل ـ ّ‬
‫تعمد‪ّ ،‬‬
‫المقالة عن جهل‪ ،‬ما قالوها عن ُّ‬
‫شاهد من اآلية ‪ :‬أ ّن هناك َمن يعبد األشجار‪ ،‬أل ّن هؤالء المشركين اتّخذوا ذات أنواط‪ ،‬وحاول هؤالء الصحابة‬
‫فال ّ‬
‫الذين لم يتم ّكن العلم من قلوبهم حاولوا أن يتشبّهوا بهم لوال أ ّن اهلل حماهم برسوله ‪. ‬‬
‫تقربـًا إليها ‪ .‬فالعُكوف‬
‫يتبرك باألشجار ويع ُكف عندها‪ ،‬والعكوف معناه ‪ :‬البقاء عندها م ّدة ُّ‬
‫الشاهد ‪ :‬أ ّن هناك َمن ّ‬
‫هو ‪ :‬البقاء في المكان ‪.‬‬
‫فدل هذا على مسائل عظيمة ‪:‬‬
‫ّ‬
‫ي أ ْن يقع في الشرك وهو ال يدري‪ ،‬ومن‬ ‫يجهل التوحيد َح ِر ٌّ‬
‫ُ‬ ‫المسألة األولى ‪ :‬خطر الجهل بالتوحيد‪ ،‬فإ ْن َم ْن كان‬
‫يضاده من الشرك حتى يكون اإلنسان على بصيرة لئال يُؤتى من جهله‪ ،‬ال سيّما إذا‬ ‫هنا يجب تعلُّم التوحيد‪ ،‬وتعلُّم ما ّ‬
‫خطر الجهل‪ ،‬ال سيّما في أمور العقيدة‬‫رأى من يفعل ذلك فيحسبُه حقـًّا بسبب جهله‪ ،‬ففيه ‪ُ :‬‬
‫بقوم فهو منهم ))‪،‬‬‫ثانيـا ‪ :‬في الحديث خطر التشبُّه بالمشركين‪ ،‬وأنه قد يؤدِّي إلى الشرك‪ ،‬قال ‪ (( : ‬من تشبه ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫‪22‬‬
‫فال يجوز التشبُّه بالمشركين ‪.‬‬
‫شرك وإ ْن ُس ِّمي بغير اسمه‪ ،‬ألنه طلب البركة من غير اهلل من‬
‫التبرك باألحجار واألشجار واألبنية ٌ‬
‫المسألة الثالثة ‪ :‬أ ّن ُّ‬
‫سموه بغير اسم الشرك ‪.‬‬ ‫األحجار واألشجار وال ُقبور واألضرحة‪ ،‬وهذا شرك وإ ْن ّ‬

‫قال‪:‬‬
‫‪ ‬القاعدةـ الرابعة‪ :‬أنّ مشركي زماننا أغلظ شركـًا من األ ّولين‪،‬ـ ألنّ األ ّولينـ يُشركون في الرخاء‬
‫ويُخلصونـ في الشدّة‪،‬ـ ومشركوا زماننا شركهم دائم؛ في الرخاء والشدّة‪.‬ـ والدليلـ قوله تعالى‪﴿ :‬فَِإ ذَا‬
‫ِّين َفلَ َّما نَ َّج ُاه ْم ِإلَى الَْب ِّر ِإذَا ُه ْم يُ ْش ِر ُكو َن﴾[العنكبوت‪.]65:‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َركبُوا في الْ ُفلْك َد َع ْوا اللَّهَ ُم ْخلص َ‬
‫ين لَهُ الد َ‬

‫[ الشرح ]‬
‫األولين الذين بُعث إليهم رسول اهلل ‪. ‬‬
‫أعظم شركـًا من ّ‬
‫القاعدة الرابعة ـ وهي األخيرة ـ‪ :‬أ ّن مشركي زماننا ُ‬

‫جل وعال ـ أخبر أن المشركين األولين يُخلصون هلل إذا اشت ّد بهم األمر‪ ،‬فال‬ ‫والسبب في ذلك واضح ‪ :‬أ ّن اهلل ـ ّ‬
‫الضر في البحر‬ ‫مسكم ّ‬ ‫عز وجل ـ لعلمهم أنّه ال يُنقذ من الشدائد إالّ اهلل كما قال ـ تعالى ـ ‪ { :‬وإذا ّ‬
‫يدعون غير اهلل ـ ّ‬
‫ـورا }‪ ،‬وفي اآلية األخرى ‪ { :‬وإذا غَ ِشَي ُه ْم‬
‫البر أعرضـتم وكـان اإلنسـان كـف ً‬
‫نجاكم إلى ّ‬ ‫فلما ّ‬
‫ضل َمن تدعون إالّ إياه ّ‬
‫ّ‬
‫نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد }‪ ،‬وفي‬ ‫دعوا اهلل مخلصين له الدين } يعني ‪ :‬مخلصين له الدعاء‪ { ،‬فلما ّ‬ ‫موج كالظُّلَل ُ‬
‫ٌ‬
‫فاألولون يُشركون في الرخاء‪ ،‬يدعون األصنام واألحجار‬ ‫نجاهم إلى البر إذا هم يُشركون }‪ّ ،‬‬ ‫اآلية األخرى ‪ { :‬فلما ّ‬
‫حجرا وال أي مخلوق‪،‬‬ ‫شجرا وال ً‬
‫واألشجار ‪ .‬أما إذا وقعوا في ش ّدة وأشرفوا على الهالك فإنهم ال يدعون صنمـًا وال ً‬
‫غيره في‬ ‫ِّ‬
‫جل وعال ـ فكيف يُدعى ُ‬ ‫وإنما يدعون اهلل وحده ـ سبحانه وتعالى ـ‪ ،‬فإذا كان ال يخلص من الشدائد إالّ اهلل ـ ّ‬
‫الرخاء ‪.‬‬
‫دائم في‬
‫األمة المحمديّة فإ ّن شركهم ٌ‬ ‫أما مشركوا هذا الزمان يعني ‪ :‬المتأ ّخرين الذين حدث فيهم الشرك من هذه ّ‬
‫الرخاء والش ّدة‪ ،‬ال يُخلصون هلل وال في حالة الش ّدة‪ ،‬بل كلما اشت ّد بهم األمر اشت ّد شركهم ونداؤهم للحسن والحسين‬
‫والرفاعي وغير ذلك‪ ،‬هذا شيء معروف‪ ،‬ويُذكر عنهم العجائب في البحار‪ ،‬أنهم إذا اشت ّد بهم األمر‬‫وعبد القادر ِّ‬
‫‪23‬‬
‫صاروا يهتفون بأسماء األولياء‬

‫عز وجل ـ‪ ،‬أل ّن دعاة الباطل والضالل يقولون لهم ‪ :‬نحن ننقذكم من‬ ‫والصالحين ويستغيثون بهم من دون اهلل ـ ّ‬
‫ونحن ننقذكم ‪ .‬كما يُروى هذا عن مشايخ الطُّرق الصوفية‪ ،‬واقرءوا ـ إ ْن‬ ‫ُ‬ ‫البِحار‪ ،‬فإذا أصابكم شيء اهتفوا بأسمائنا‬
‫يسميه كرامات األولياء‪ ،‬وأنهم ينقذون من البحار‪ ،‬وأنه‬ ‫مما ّ‬ ‫تقشعر منه الجلود ّ‬
‫ّ‬ ‫شئتم ـ (( طبقات الشعراني )) ففيها ما‬
‫يم ّد يده إلى البحر ويحمل المر َكب كله ويُخرجه إلى البر وال َتَتنَ َّدى أكمامه‪ ،‬إلى غير ذلك من ُت َّر َهاتهم و ُخرافاتهم‪،‬‬
‫األولين ‪.‬‬
‫فشركهم دائم في الرخاء والش ّدة‪ ،‬فهم أغلظ من المشركين ّ‬
‫وأيضـًا ـ كما قال الشيخ في (( كشف الشبهات )) ـ ‪ :‬من وجه آخر ـ ‪ :‬أ ّن ّ‬
‫األولين يعبدون ُأناسـًا صالحين من‬
‫يسمونهم األقطاب‬
‫المالئكة واألنبياء واألولياء‪ ،‬أما هؤالء فيعبدون ُأناسـًا من أفجر الناس‪ ،‬وهم يعترفون بذلك‪ ،‬فالذين ّ‬
‫يتنزهون عن الزنا واللواط والفاحشة‪ ،‬ألنهم بزعمهم ليس عليهم تكاليف‪،‬‬
‫واألغواث ال يصلّون‪ ،‬وال يصومون‪ ،‬وال ّ‬
‫فليس عليهم حرام وال حالل‪ ،‬إنما هذا للعوام فقط ‪ .‬وهم يعترفون أ ّن سادتهم ال يصلّون وال يصومون‪ ،‬وأنهم ال‬
‫والرفاعي‪،‬‬
‫يتورعون عن فاحشة‪ ،‬ومع هذا يعبدونهم‪ ،‬بل يعبدون ُأناسـًا من أفجر الناس ‪ :‬كالحالّج‪ ،‬وابن عربي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫والبدوي وغيرهم ‪.‬‬
‫األولين يُخلصون في‬
‫األولين‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫ظ شركـًا من ّ‬ ‫وقد ساق الشيخ الدليل على أ ّن المشركين المتأ ّخرين أعظم وأغل ُ‬
‫الش ّدة ويُشركون في الرخاء‪ ،‬فاستدل بقوله تعالى ‪ { :‬فإذا ركِبوا في ال ُفلْك دعوا اهلل مخلصين له الدين } ‪.‬‬
‫وصلى اهلل وسلم على نبينا محمد‪ ،‬وآله وصحبه أجمعين ‪.‬‬

‫‪24‬‬

You might also like