You are on page 1of 18

‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫تفريغ محاضرة‬

‫حال السلف مع القرآن‬

‫لفضيلة الشيخ‬

‫عبد اهلل البخاري‬


‫غفر اهلل له ولجميع المسلمين‬

‫‪1‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫إن احلمد هلل حنمده تعاىل ونستغفره ‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ‪ ،‬من يهده اهلل فال‬
‫مضل له ومن يضلل فال هادي له وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ‪ ،‬وأشهد أن نبينا حممدا عبده‬
‫ورسوله صلى اهلل عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعد ‪:‬‬

‫(يَا أَيُّ َها الَّ ِذ َين َآمنُوا اتَّ ُقوا اللَّهَ َح َّق تُ َقاتِِه َوَال َتَُوتُ َّن إَِّال َوأَنتُم ُّم ْسلِ ُمو َن)‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫(يا أَيُّها النَّاس اتَّ ُقوا ربَّ ُكم الَّ ِذي خلَ َق ُكم ِّمن نَّ ْف ٍ ِ‬
‫اح َد ٍة وخلَق ِمْن ها زوجها وب َّ ِ‬
‫ث مْن ُه َما ر َج ااال َكث ايا َون َساءا‬ ‫س َو َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬

‫َواتَّ ُقوا اللَّهَ الَّ ِذي تَ َساءَلُو َن بِِه َو ْاْل َْر َح َام إِ َّن اللَّهَ َكا َن َعلَْي ُك ْم َرقِيباا)‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫(يا أَيُّها الَّ ِذين آمنوا اتَّ ُقوا اللَّه وقُولُوا قَواال س ِد ايدا * ي ِ‬
‫صل ْح لَ ُك ْم أ َْع َمالَ ُك ْم َويَ ْغف ْر لَ ُك ْم ذُنُوبَ ُك ْم َوَمن يُط ِع اللَّهَ‬
‫ُْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ َ‬

‫َوَر ُسولَهُ فَ َق ْد فَ َاز فَ ْوازا َع ِظ ايما)‬


‫أما بعد فإن أصدق احلديث كتاب اهلل تعاىل وخي اهلدي هدي حممد صلى اهلل عليه وآله وسلم ‪ ،‬وشر‬
‫اْلمور حمدثاهتا وكل حمدثة بدعة وكل بدعة ضاللة وكل ضاللة يف النار ‪ ،‬وبعد أيها اْلحبة الكرام أمحد اهلل‬
‫الذي ال إله غيه وال رب سواه الذي هيأ لنا هذا اللقاء يف هذا البلد املبارك يف هذا البيت املبارك من بيوت‬
‫اهلل عز وجل وهي عبارة عن حماضرة عُنون هلا حبال السلف مع القرآن وال أظن أن املقام يكفي لإلتيان عليها‬
‫من كل جوانبها ولكن حسبنا أن نشي إىل مجلة مهمة تعني على بقية اْلمور املتعلقة هبذه احملاضرة وإال‬
‫فالكالم عن القرآن عظيم كيف ال وهو الكالم عن رب العاملني جل يف عاله ‪ .‬معلوم أيها اْلحبة أن نعم اهلل‬
‫جل وعال ومننه على عباده كثية جدا ال ُُتصى أنزل علينا خي كتبه وأنزله على خي رسله صلى اهلل عليه‬

‫‪2‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫وآله وسلم وجعلنا اهلل عز وجل خي أمة أخرجت للناس وأنزل علينا هذا الكتاب الذي مجع اخلي كله وهذه‬
‫ت لِلن ِ‬
‫َّاس تَأْ ُم ُرو َن‬ ‫ُخ ِر َج ْ‬
‫ٍ‬
‫الشريعة السمحة شريعة تامة كاملة فاضلة قال اهلل جل وعال ( ُكنتُ ْم َخْي َر أ َُّمة أ ْ‬
‫بِالْمعر ِ‬
‫وف َوتَْن َه ْو َن َع ِن الْ ُمن َك ِر َوتُ ْؤِمنُو َن بِاللَّ ِه) هذا الكتاب العزيز الذي ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من‬‫َ ُْ‬
‫خلفه تنزيل من حكيم محيد نور ال تُطفأ مصابيحه وسراج ال خيبو توقده ومنهاج ال يضل هنجه وعز ال يُهزم‬
‫أنصاره وهو معدن اإلميان وينبوع احلكمة والعلم ‪ ،‬جعله اهلل ريّا لعطش العلماء وربيعا لقلوب الفقهاء ودواء‬
‫ليس بعده دواء ‪ ،‬هذا الكتاب هو حبل اهلل املتني والذكر احلكيم والصراط املستقيم فيه نبأ من قبلنا وخرب ما‬
‫بعدنا وحكم وفصل ما بيننا ‪ ،‬هو احلق ليس باهلزل ‪ ،‬باحلق أنزله اهلل وباحلق َنزل ‪ ،‬من عمل به ِأجر ومن‬
‫ي إِ َ ىىل‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬
‫(وَمن يَ ْعتَصم بالله فَ َق ْد ُهد َ‬
‫حكم به عدل من دعا به ُهدي إىل صراط مستقيم قال اهلل جل يف عاله َ‬
‫اط ُّم ْستَ ِقي ٍم ) ‪ ،‬من طلب اهلدى منه أعزه اهلل ومن ابتغى اهلدى من غيه أذله اهلل يرفع اهلل هبذا الكتاب‬
‫ِصر ٍ‬
‫َ‬
‫أقواما ويضع به آخرين ‪ ،‬نعم اهلل كثية ومننه جليلة يقول اإلمام ابن القيّم رمحه اهلل يف الفوائد ‪ :‬من اآلفات‬
‫اخلفية العامة أن يكون العبد يف نعمة أنعم اهلل هبا عليه واختارها له فيملَها العبد ويطلب اإلنتقال منها إىل ما‬
‫يزعُم جلهله أنه خي له منها وربه برمحته ال خيرجه من تلك النعمة ويعذره جبهله وسوء اختياره لنفسه حىت إذا‬
‫وتضرب منها واستحكم ملكه هلا سلبه اهلل إياها فإذا انتقل إىل ما طلبه‬
‫ضاق ذرعا بتلك النعمة وسخطها ّ‬
‫ورأى التفاوت بني ما كان فيه وما صار إليه إشتد قلقه وندمه وطلب العودة إىل ما كان فيه فإذا أراد اهلل‬
‫بعبده خيا ورشدا أشهده أن ما هو فيه نعمة من نعمه عليه ورضاه به وأوزعه شكره عليه فإذا حدثته نفسه‬
‫باإلنتقال عنه استخار ربه استخارة جاهل مبصلحته عاجز عنها مفوض إىل اهلل طالب منه حسن اختياره له‬
‫وليس على العبد أضر من ملله النعم أو من ملله من نعم اهلل عز وجل فإنه ال يراها نعمة وال يشكره عليها‬
‫وال يفرح هبا بل يسخطها ويشكوها ويعدها مصيبة هذا وهي من أعظم نعم اهلل عليه فأكثر الناس أعداء نعم‬
‫اهلل عليهم وال يشعرون بفتح اهلل عليهم نعمه وهم جمتهدون يف دفعها وردها جهال وظلما فأحدهم يسعى إىل‬
‫دفع تلك النعم جبهله واهلل عز وجل يسرته ويعينه واهلل جل يف عاله يقول (إِ َّن اللَّهَ َال يُغَيِّ ُر َما بَِق ْوٍم َح َّ ىىت‬
‫يُغَيِّ ُروا َما بِأَن ُف ِس ِه ْم) فليس للنعم أعدى من نفس العبد فهو مع عدوه ظهي على نفسه فعدوه يطرحه النار يف‬

‫‪3‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫نعمه اليت يظن أهنا نعم وهو ينفخ فيها فهو الذي مكنه من طرح النار مث أعانه بالنفخ فإذا اشتد ضرامها‬
‫استغاث من احلريق وكان غايته معاتبة اْلقدار‬

‫وعاجز الرأي مذياع لفرصته *** حىت إذا فات أمر عاتب القدر‬

‫انتهى كالمه رمحه اهلل وغفر له ‪.‬‬

‫والكالم أيها اْلحبة عن هذه احملاضرة يف جوانب متعددة نلخصها ‪:‬‬

‫أوال يف ذكر مجلة من النصوص الواردة يف فضل القرآن‬

‫ثانيا بيان معىن النصيحة لكتاب اهلل واإلشارة إىل مجلة من خصائص القرآن وأسراره‬

‫ثالثا هجر القرآن‬

‫رابعا مناذج عن السلف يف بيان حاهلم مع القرآن‬

‫واخلامسة اخلاَتة ختم اهلل لنا ولكم خبي‪.‬‬

‫فأول تلك النقاط ذكر مجلة من النصوص الدالة على فضل كتاب اهلل جل وعز وأهله‬

‫النصوص أيها اْلحبة يف هذا الباب كثية جدا وأشهر من أن تورد نورد بعضا منها من ذلك قوله تعاىل (إِ َّن‬
‫اه ْم ِسًّرا َو َع َالنِيَةا يَ ْر ُجو َن ِِتَ َاراة لَّن تَبُ َور * لِيُ َوفِّيَ ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫اب اللَّ ِه َوأَقَ ُاموا َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫الص َال َة َوأَن َف ُقوا ِمَّا َرَزقْ نَ ُ‬ ‫ين يَْت لُو َن كتَ َ‬
‫الذ َ‬
‫اب أ َُّمةٌ قَائِ َمةٌ‬‫ضلِ ِه إِنَّهُ َغ ُفور َش ُكور) ويقول جل وعال (لَْيسوا سواء ِّمن أ َْه ِل الْ ِكتَ ِ‬ ‫ُج َورُه ْم َويَِز َيد ُهم ِّمن فَ ْ‬
‫ُ ََ ا ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫أُ‬
‫وف َويَْن َه ْو َن َع ِن‬ ‫ات اللَّ ِه آنَاء اللَّي ِل وهم يسج ُدو َن * ي ؤِمنُو َن بِاللَّ ِه والْي وِم ْاآل ِخ ِر ويأْمرو َن بِالْمعر ِ‬ ‫ي ْت لُو َن آي ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫ََ ُُ‬ ‫َ َْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ ْ َُ ْ َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ك ِمن َّ ِِ‬ ‫الْمن َك ِر ويسا ِرعو َن ِيف ْ ِ ىِ‬
‫ني)‬‫يم بِالْ ُمتَّق َ‬ ‫ني * َوَما يَ ْف َعلُوا م ْن َخ ْي فَلَن يُ ْك َف ُروهُ َواللَّهُ َعل ٌ‬ ‫الصاحل َ‬ ‫اخلَْي َرات َوأُولَئ َ َ‬ ‫ُ َُ َ ُ‬
‫‪4‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫َس َحا ِر ُه ْم يَ ْستَ ْغ ِف ُرو َن) ‪ .‬فمن فضائل القرآن‬ ‫ِ‬


‫ويقول اهلل جل وعال ( َكانُوا قَل ايال ِّم َن اللَّْي ِل َما يَ ْه َجعُو َن َوبِ ْاْل ْ‬
‫أيها اْلحبة وفضائله كثية وقد ألف يف ذلك اْلئمة إما يف كتاب جمموع فضمنوا الكالم على فضائل القرآن‬
‫َّاس‬
‫أو يف رسائل مفردة وكتب مفردة فمن تلك الفضائل أنه شفاء ورمحة يقول اهلل جل يف عاله (يَا أَيُّ َها الن ُ‬
‫الص ُدوِر) يقول اإلمام قتادة بن دعامة السدوسي رمحه اهلل فيما‬ ‫قَ ْد َجاءَتْ ُكم َّم ْو ِعظَةٌ ِّمن َّربِّ ُك ْم َو ِش َفاءٌ لِّ َما ِيف ُّ‬
‫أخرجه أبو عبيد يف فضائل القرآن بإسناد ال بأس به وذكره الباجي يف سنن الصاحلني قال مل جيالس أحد‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هذا القرآن إال قام بزيادة أو نقصان مث تال قول اهلل جل وعز ( َونُنَ ِّزُل م َن الْ ُق ْرآن َما ُه َو ش َفاءٌ َوَر ْمحَةٌ لِّْل ُم ْؤمن َ‬
‫ني‬
‫ني إَِّال َخ َس اارا) وأخرج اإلمام ابن ماجة يف سننه واحلاكم يف مستدركه وصححه البوصيي يف‬ ‫وَال ي ِز ُ ِ ِ‬
‫يد الظَّالم َ‬ ‫َ َ‬
‫الزوائد أن عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل تعاىل عنهم قال عليكم بالشفاءين القرآن والعسل ‪ .‬هذا الكتاب‬
‫الذي ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه يقول فيه اإلمام ابن القيّم شفاء ودواء جلُ ّماع أمراض القلب‬
‫يبني احلق من الباطل فتزول أمراض الشبه املفسدة‬
‫أمراض الشبهات والشهوات إذ فيه الرباهني القاطعة ما ّ‬
‫التصور واإلدراك حبيث إذا أدرك ذلك يرى اْلشياء على ما هي عليه ففيه إثبات املعاد والنبوات‬
‫للعلم و ّ‬
‫ورد احملن الباطلة واآلراء الفاسدة فهو الشفاء على احلقيقة من أدواء الشبه والشكوك ولكن ذلك‬
‫والصفات ّ‬
‫موقوف على فهمه ومعرفة املراد منه إىل أن قال وأما شفاؤه من الشهوات فذلك ملا فيه من احلكمة واملوعظة‬
‫احلسنة بالرتغيب والرتهيب والتزهيد يف الدنيا والرتغيب يف اآلخرة واْلمثال والقصص اليت فيها أنواع العرب‬
‫واإلستبصار فيغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه يف معاشه ومعاده ويرغب عما يضره فيصي‬
‫للغي فيصلح القلب فتصلح إرادته ‪ ،‬إذا صلُح القلب صلحت إرادته فيصي حبيث‬
‫القلب حمبا للرشد مبغضا ّ‬
‫ال يقبل إال احلق فيتغذى القلب من اإلميان والقرآن مبا يزكيه ويقويه ويؤيده ويفرحه ويسره وينشطه كما‬
‫يتغذى البدن ِما ينميه ويقويه وكل أيها اْلحبة ‪ ،‬كل من القلب والبدن حمتاج إىل أن يُرىب باْلغذية املصلحة‬
‫له واحلمية يعين اإلمتناع عما يضره فال ينمو إال بإعطاءه ما ينفعه ومنع ما يضره فكذلك القلب ال يزكو وال‬
‫ينمو وال يتم صالحه إال بذلك وال سبيل للوصول إىل ذلك إال بالقرآن وإن وصل إليه شيء من غيه فهو‬
‫نذر يسي ال حيصل به َتام املقصود انتهى كالمه رمحه اهلل من إغاثة اللهفان ‪ .‬فمن فضائله أنه شفاء ورمحة‬
‫للمؤمنني وال يزيد الظاملني إال خسارا ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫من فضائل القرآن أيها اْلحبة أنه يشفع يوم القيامة ملن قرأه وعمل به يف الدنيا أخرج اإلمام مسلم يف‬
‫الصحيح عن أيب أمامة الباهلي رضي اهلل تعاىل عنه أنه قال مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم يقول‬
‫(اقرؤوا القرآن فإنه يأيت يوم القيامة شفيعا ْلصحابه اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإهنما تأتيان يوم‬
‫صواف ُتاجان عن أصحاهبما اقرؤوا‬
‫القيامة كأهنما غمامتان أو كأهنما غيايتان أو كأهنما فرقان من طي ّ‬
‫سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة وال تستطيعها البطلة) ‪ ،‬وأخرج اإلمام مسلم يف الصحيح عن‬
‫النواف بن مسعان رضي اهلل تعاىل عنه أن النيب صلى اهلل عليه وآله وسلم قال (يُؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله‬
‫ُتاجان عن صاحبهما) ‪ ،‬فإذا من فضائله أنه شفيع‬
‫الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران ّ‬
‫ْلصحابه وأهله العاملني به ‪.‬‬

‫من فضائل القرآن أيها اْلحبة فضل هذا القرآن على سائر الكالم ّبوب يف هذا اإلمام البخاري يف الصحيح‬
‫وذكر ُتت هذا الباب حديث أيب موسى اْلشعري رضي اهلل تعاىل عنه وفيه قوله صلى اهلل عليه وسلم (مثل‬
‫اْلترجة طعمها طيب ورحيها طيب ‪ ،‬والذي ال يقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيب وال‬
‫الذي يقرأ القرآن مثل ّ‬
‫مر ‪ ،‬ومثل الفاجر الذي ال يقرأ‬
‫ريح فيها ‪ ،‬ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الرحيانة رحيها طيب وطعمها ّ‬
‫مر وال ريح هلا) ‪ .‬قال احلافظ بن حجر رمحه اهلل يف الفتح مطابقة احلديث‬
‫القرآن كمثل احلنظلة طعمها ّ‬
‫فضل‬
‫للرتمجة من جهة ثبوت فضل قارئ القرآن على غيه فيستلزم فضل القرآن على سائر الكالم كما ّ‬
‫اْلترجة على سائر الفواكه ‪ .‬وقال صلى اهلل عليه وآله وسلم فيما أخرجه الستة إال مسلم (خيكم من تعلم‬
‫ّ‬
‫القرآن وعلمه) قال أبو عبد الرمحن السلمي راوي هذا احلديث عن عثمان رضي اهلل تعاىل عنه قال فذلك‬
‫اآلجري رمحه اهلل يف أخالق محلة القرآن فكان يعين أبو‬
‫ّ‬ ‫الذي أقعدين مقعدي هذا ‪ .‬قال أبو عبيد قال اإلمام‬
‫عبد الرمحن يعلم يعين القرآن من خالفة عثمان إىل إمرة احلجاج هذا احلديث أيها اْلحبة ظاهر يف فضل‬
‫القرآن وتعلمه ْلن اخليية يف التعلم والتعليم تقتضي خيية وأفضلية املتعلَم وهو القرآن كيف ال وهو كالم ريب‬
‫جل يف عاله وأخرج بن سريد يف فضائل القرآن بإسناد صحيح عن أيب اْلحوط أن عبد اهلل بن مسعود رضي‬
‫اهلل تعاىل عنه كان يُقرئ الرجل اآلية مث يقول له وهو يُقرئه إهنا خلي ِما طلعت عليه الشمس وما على اْلرض‬
‫من شيء يعين يساويها يقول الراوي أبو اْلحوط حىت يقول عبد اهلل ذلك بالقرآن كله كلما يعلم يقول‬
‫‪6‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫للطالب هذه الكلمة حىت يأيت على القرآن كله ‪ ،‬وأخرج أبو عبيد بسند صحيح يف الفضائل كان يقول وهو‬
‫يُقرئ قال كان يقرئ القرآن فيمر باآلية فيقول للرجل خذها فواهلل هلي خي ِما على اْلرض من شيء‪..‬‬
‫خيكم من تعلم القرآن وعلمه ‪.‬‬

‫الفضيلة التالية أن أهل القرآن هم أهل اهلل وخاصته يغلط بعض الناس فيظن أن أهل القرآن هم من يتلونه‬
‫بني ذلك النيب صلى اهلل عليه وآله وسلم ملا تكلم عن‬
‫فقط دون إقامة حروفه وحدوده وهذا فهم غلط ّبني ‪َّ ،‬‬
‫وبني لنا أمرهم فقال كما أخرج الشيخان يف الصحيحني من حديث أيب سعيد رضي اهلل تعاىل‬
‫صفة اخلوارج ّ‬
‫عنه (خيرج قوم ُتقرون صالتكم مع صالهتم وصيامكم مع صيامهم وعملكم مع عملهم يقرؤون القرآن ال‬
‫جياوز حناجرهم ميرقون من الدين مروق السهم من الرمية) ‪ ،‬قال احلافظ املستغفري يف كتابه فضائل القرآن‬
‫مبوبا على هذا احلديث باب ما جاء يف ذكر النيب صلى اهلل عليه وسلم قوما يقرؤون القرآن ال جياوز تراقيهم‬
‫ّ‬
‫ميرقون من الدين وهم اخلوارج واحلرورية ‪ ،‬أهل القرآن على احلقيقة أيها اْلحبة هم من يؤمنون بكتاب اهلل‬
‫وأنه منزل منه جل وعز وأنه كالمه على احلقيقة ليس مبخلوق وهو صفة من صفاته منه بدأ وإليه يعود حيلّون‬
‫دل عليه ‪ ،‬هؤالء هم أهل القرآن وهم أهل اهلل وهم‬
‫حالله حيرمون حرامه يقومون به حق القيام يعملون مبا ّ‬
‫خاصته وإن مل حيفظوه عن ظهر قلب ‪ ،‬قال اإلمام احلسن البصري رمحه اهلل فيما أخرجه أبو عبيد بسند ال‬
‫بأس به يف الفضائل وذكره الباجي يف سنن الصاحلني قال قرأ القرآن ثالثة نفر رجل قرأ القرآن فأع ّده بضاعة‬
‫يطلب به ما عند الناس من مصر إىل مصر هذا قسم يتأ ّكل به ‪ ،‬وقوم قرؤوا القرآن تَث َّق ُفوه كما تُث قِّف ِ‬
‫الق َدح‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ُ‬
‫استدروا به ما عند الوالة واستطالوا به على أهل البالد وما أكثر هذا الصنف‬ ‫فأقاموا حروفه وأضاعوا حدوده و ّ‬
‫من محلة القرآن ال كثرهم اهلل عز وجل ‪ ،‬هذا الصنف متقنون للقراءة لكنهم ال يقومون به حق القيام ‪ ،‬قال‬
‫ورجل قرأ القرآن فبدأ بدوام ما تعلم من القرآن ‪ ،‬بدأ بنفسه ‪ ،‬بدوام يعاجل نفسه ‪ ،‬فجعله على داء قلبه‬
‫فهملت عيناه وسهر ليله وتثربل احلب وارتدى اخلشوع فبهم يسقي اهلل الغيث ويُتقى العدو ويُدفع البالء‬
‫فواهلل هلان الضرب من محلة القرآن أقل يف الناس من الكربيت اْلمحر يعين ندرة ‪ .‬أهل القرآن أيها اْلحبة‬
‫الذين تق ّدم وصفهم والذين جاء فيهم فضل تالوة كتاب اهلل جل وعز جاء يف فضلهم حديث شريف نبيل‬
‫اآلجري يف أخالق محلة القرآن بإسناد حسن أن النيب عليه الصالة والسالم‬
‫أخرجه اإلمام أمحد وابن ماجة و ّ‬
‫‪7‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫قال (هلل من الناس أهلون) قيل من هم يا رسول اهلل ؟ قال (أهل القرآن هم أهل اهلل وخاصته) عكفوا على‬
‫هذا القرآن دراسة وحفظا وتدبرا وعمال وعبادة وهلَجوا به ذكرا قاموا به علما وعمال ودعوة فاستحقوا أيها‬
‫اْلحبة أن يكونوا من أهل اهلل وخاصته ‪.‬‬

‫من فضائل القرآن أيها اْلحبة أن صاحبه مغبوط أخرج الشيان يف الصحيحني من حديث عبد اهلل بن‬
‫مسعود رضي اهلل تعاىل عنه أن النيب عليه الصالة والسالم قال (ال حسد إال يف اثنتني رجل أتاه اهلل ماال‬
‫فسلطه على هلكته يف احلق ورجل أتاه اهلل احلكمة فهو يقضي هبا ويعلمها) وعند البخاري من حديث عبد‬
‫اهلل بن عمر (ورجل أتاه اهلل الكتاب وقام به أناء الليل) وعند البخاري من حديث أيب هريرة أيضا أن النيب‬
‫عليه الصالة والسالم قال (ال حسد إال يف اثنتني رجل علمه اهلل القرآن فهو يتلوه أناء الليل وأناء النهار‬
‫فسمعه جار له فقال يا ليتين أوتيت مثلما أويت فالن فعملت مثل ما يعمل ورجل أتاه اهلل ماال فهو ينفقه يف‬
‫احلق فقال رجل يا ليت يل مثل ما أويت فالن فعملت مثل ما يعمل) ‪ ،‬قال اإلمام بن رجب رمحه اهلل يف‬
‫جامع العلوم واحلكم متكلما عن أنواع احلسد واحلسدة قال وصنف آخر إذا حسد مل يتمىن زوال نعمة‬
‫احملسود بل يسعى يف اكتساب مثل فضائله ويتمىن أن يكون مثله فإن كانت الفضائل دنيوية فال خي يف‬
‫ذلك يعين يف التمين كما قال الذين يريدون احلياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أويت قارون ‪ ،‬وإن كانت فضائل‬
‫دينية فهو حسن وقد َتىن النيب عليه الصالة والسالم الشهادة يف سبيل اهلل إىل أن قال بعد أن ذكر حديث‬
‫الباب قال وهذه هي الغبطة ومساها النيب عليه الصالة والسالم حسدا من باب اإلستعارة ‪ ،‬وقال اإلمام ابن‬
‫القيّم يف الفوائد ملا تكلم عن حدود اْلخالق ‪ ،‬اْلخالق هلا حدود ‪ ،‬قال وللحسد حدود وهو املنافسة يف‬
‫طلب الكمال واْلنفة أن يتقدم عليه نظيه ‪ ،‬فمن تع ّدى ذلك صار بغيا وظلما يتمىن معه زوال النعمة عن‬
‫احملسود وحيرص على إيذائه ومىت ن َقص عن ذلك كان دناءة وضعف مهة وصغر نفس ‪ ،‬مث ذكر حديث‬
‫الباب ال حسد إال يف اثنتني مث قال فهذا حسد منافسة يطالب احلاسد به نفسه أن يكون مثل احملسود ال‬
‫حسد مهانة يتمىن به زوال النعمة عن احملسود إذا من فضائل القرآن أن صاحبه مغبوط أو حمسود على ما‬
‫أتاه اهلل عز وجل ‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫أيها اْلحبة ملاذا حنن نع ّدد بعضا من الفضائل ؟ ْلن حال السلف مرتبط باستشعار مثل هذه الفضائل ‪ ،‬من‬
‫فضائل القرآن أيها اْلحبة اْلجر اجلزيل ملن قرأ حرفا واحدا منه فكيف مبن قرأه بأكمله أخرج الرتمذي يف‬
‫جامعه وقال حسن صحيح أن النيب عليه الصالة والسالم قال (من قرأ حرفا من كتاب اهلل فله حسنة‬
‫واحلسنة بعشر أمثاهلا ال أقول ألف الم ميم حرف ولكن ألف حرف والم حرف وميم حرف) ‪ ،‬وأخرج‬
‫اإلمام أبو عبيد يف فضائل القرآن وابن أيب شيبة يف املصنف واللفظ له بإسناد صحيح عن عبد اهلل بن‬
‫مسعود قال رضي اهلل تعاىل عنه (تعلموا القرآن فإنه يُؤجر بكل حرف منه عشر حسنات ويُك ّفر به عشر‬
‫سيئات أما إين ال أقول ألف الم ميم حرف ولكن أقول ألف عشر والم عشر وميم عشر) يعين بألف الم‬
‫ميم ثالثون حسنة واهلل يضاعف ملن يشاء وهذا اْلثر له حكم الرفع ‪.‬‬

‫هذه أيها اْلحبة مجل من فضائل القرآن وإال وفضائله كثية منها قوله صلى اهلل عليه وسلم فيما أخرجه‬
‫اإلمام أمحد وأصحاب السنن وهو حديث حسن أنه (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ وارقى ورتّل كما‬
‫كنت ترتل يف الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) ‪.‬‬

‫وثانيا أيها اْلحبة الكالم على النصيحة لكتاب اهلل واإلشارة إىل مجلة من خصائص هذا الكتاب العزيز‬
‫وأسراره‬

‫أخرج اإلمام مسلم يف الصحيح من حديث َتيم الداري رضي اهلل تعاىل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وآله وسلم قال (الدين النصحة) قاهلا ثالثا قلنا ملن يا رسول اهلل ؟ قال (هلل ولكتابه ولرسوله وْلئمة املسلمني‬
‫وعامتهم) والشاهد منه قوله عليه الصالة والسالم (ولكتابه) ‪ ،‬قال اإلمام بن رجب أما النصيحة لكتاب اهلل‬
‫كيف تكون النصيحة لكتاب اهلل ؟ قال فشدة حبه وتعظيم قدره إذ هو كالم اخلالق وشدة الرغبة يف فهمه‬
‫وشدة العناية بتدبره والوقوف عند تالوته يف فهم املعاين ما أحب مواله أن يفهمه عنه وأن يقوم به له بعدما‬
‫يفهمه إىل أن قال مث ينشر ما فهم يف العباد ويُدمي دراسته باحملبة له والتخلّق بأخالقه والتأدب بآدابه ‪ ،‬مث نقل‬
‫نقال نفيسا عن احلافظ ابن الصالح رمحه اهلل يف قوله والنصيحة لكتابه اإلميان به وتعظيمه وتنزيهه وتالوته‬
‫‪9‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫وذب ُتريف الغالني‬


‫وتفهم علومه وأمثاله وتدبر آياته والدعاء إليه ّ‬
‫حق تالوته والوقوف مع أوامره ونواهيه ّ‬
‫وانتحال املبطلني وتأويل اجلاهلني عنه هذا معىن النصيحة لكتاب اهلل ‪.‬‬

‫وأما أسراره أيها اْلحبة وخصائصه كثية وأكثر من أن ُُتصر ‪ ،‬يقول العالمة الشاطيب رمحه اهلل يف املوافقات‬
‫تقرر أنه كلية الشريعة وعمدة امللة وينبوع احلكمة وآية الرسالة ونور‬
‫إن الكتاب يعين الكتاب العزيز قد ّ‬
‫ك بشيء خيالفه وهذا كله ال حيتاج إىل تقرير‬
‫َتس َ‬
‫البصائر وأنه ال طريق إىل اهلل سواه وال جناة بغيه وال ُّ‬
‫واستدالل عليه ْلنه معلوم من دين اْلمة وإذا كان كذلك لزم ضرورة ملن رام اإلطالع على كليات الشريعة‬
‫مر اْليام والليايل‬
‫وطمع يف إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها أن يتخذه مسيه وأنيسه وأن جيعله جليسه على ّ‬
‫نظرا وعمال ال اقتصارا على أحدمها فيوشك ‪-‬من فعل ذلك‪ -‬أن يفوز بالبُغية وأن يظفر بالطُلبة وجيد نفسه‬
‫من السابقني وبالرعيل اْلول فإن كان قادرا على ذلك وال يقدر عليه إال من زاول ما يفيده على ذلك من‬
‫السنة املبينة للكتاب وإال فكالم أئمة السابقني والسلف املتقدمني آخذ بيده يف هذا املقصد الشريف والرتبة‬
‫املنيفة انتهى كالمه رمحه اهلل ‪.‬‬
‫ُ‬
‫قال اإلمام اآلجري رمحه اهلل يف أخالق محلة القرآن أنزل اهلل عز وجل القرآن على نبيه عليه الصالة والسالم‬
‫وأعلمه فضل ما أنزل عليه وأعلَ َم خلقه بكتابه وعلى كتاب رسوله أن القرآن عصمة ملن اعتصم به وهدى ملن‬
‫اهتدى به وغىن ملن استغىن به وحرز من النار ملن اتبعه ونور ملن استنار به وشفاء ملا يف الصدور وهدى ورمحة‬
‫للمؤمنني مث أمر اهلل خلقه أن يؤمنوا به ويعملوا مبحكمه وحيلوا حالله وحيرموا حرامه ويؤمنوا مبتشاهبه ويعتربوا‬
‫بأمثاله ويقولوا آمنا به كل من عند ربنا مث وعدهم سبحانه على تالوته والعمل به النجاة من النار والدخول‬
‫إىل اجلنة مث ندب خلقه جل وعال إذا هم تلوا كتابه أن يتدبروه ويتفكروا فيه بقلوهبم ‪ ،‬وإذا مسعوه من غيهم‬
‫أحسنوا استماعه مث وعدهم على ذلك الثواب اجلزيل فله احلمد ‪ ،‬مث أعلم خلقه أن من تال القرآن وأراد به‬
‫عرفه بركة املتاجرة يف الدنيا واآلخرة انتهى كالمه‬
‫متاجرة مواله الكرمي فإنه يرحبه الربح الذي ال بعده ربح ويُ ّ‬
‫رمحه اهلل وغفر له ‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫فمن تأمل هذا علِم أسرار وخصائص القرآن وأسراره كما قلنا عظيمة وجليلة ‪ ،‬جليلة أن تدركها العقول قال‬
‫أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر وإمنا غاية أولو العلم‬
‫اإلمام ابن القيّم يف البدائع وأسرار كالم اهلل ّ‬
‫اإلستدالل مبا ظهر منها على ما وراءها وإن باديه إىل اخلايف يسي ‪-‬ما بدا منه بالنسبة للخايف يسي‪ -‬انتهى‬
‫كالمه رمحه اهلل ‪ .‬فمن عظيم خصائصه وأسراره أن هذا الكتاب حوى كل أمر ينفع العباد والبالد ويُصلح‬
‫ورد باطل وتقرير حق وتذكرة ونِذارة ‪ ،‬لذا قال بعضهم‬
‫املعاش واملعاد من عقيدة وشريعة وسلوك وأخالق ّ‬
‫حاويا وجامعا بعض علوم القرآن ‪:‬‬

‫حالل حرام حمكم متشابه *** نذير بشي قصة عظة‬

‫مثل هذه بعض أنواع العلوم يف القرآن لذا جند أهل العلم أيها اْلحبة يطلقون على بعض اآليات أو بعض‬
‫حوت خيا كثيا وكلية عظيمة فمن ذلك مثال سورة الواقعة قال فيها اإلمام مسروق بن اْلجدع‬
‫السور أهنا َ‬
‫سره أن يعلم علم‬
‫رمحه اهلل تعاىل فيما أخرجه أبو عبيد يف الفضائل وابن أيب شيبة بإسناد ال بأس به قال من ّ‬
‫اْلولني واآلخرين وعلم الدنيا واآلخرة فليقرأ سورة الواقعة ‪ ،‬فليتأمل هذه السورة العظيمة ‪ ،‬وهلذا جاء عنه‬
‫رضي اهلل عنه ورمحه كما يف مصنف ابن أيب شيبة كان يقوم الليل رضي اهلل تعاىل عنه ورمحه حىت إن امرأته‬
‫تقف خلفه تبكي حزنا عليه وشفقة من طول قيامه رمحه اهلل ‪.‬‬

‫ف وأَع ِرض ع ِن ْ ِ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني) قال يف هذه اآلية اإلمام ابن القيّم يف‬
‫اجلَاهل َ‬ ‫وتأمل يف قوله تعاىل ( ُخذ الْ َع ْف َو َوأْ ُم ْر بِالْعُْر َ ْ ْ َ‬
‫املدارج قد مجع اهلل لرسوله عليه الصالة والسالم مكارم اْلخالق يف قوله (خذ العفو وامر بالعرف وأعرض‬
‫عن اجلاهلني) ‪ ،‬قال جعفر بن حممد أمر اهلل نبيه عليه الصالة والسالم مبكارم اْلخالق وليس يف القرآن آية‬
‫أمجع ملكارم اْلخالق من هذه اآلية ‪.‬‬

‫احلَ ْم ُد لِلَّ ِه َر ِّ‬


‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك ر ِّ ِ‬
‫ب الْعَّزِة َع َّما يَص ُفو َن * َو َس َال ٌم َعلَى الْ ُم ْر َسل َ‬
‫ني * َو ْ‬ ‫وتأمل أيضا يف قوله تعاىل ( ُسْب َحا َن َربِّ َ َ‬
‫ني) من سورة الصافات انظر إىل السر البديع فيها فيما قاله اإلمام ابن القيّم يف البدائع ‪ ،‬قال ويف‬ ‫ِ‬
‫الْ َعالَم َ‬
‫اقرتان السالم عليهم (وسالم على املرسلني) يف تفتيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتفطن ماهو هذا‬
‫السر؟ الرد على كل [] ومبتدع فإنه ّنزه نفسه تنزيها مطلقا كما ّنزه نفسه عما يقول خلقه فيه مث ّسلم على‬
‫‪11‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫املرسلني وهذا يقتضي سالمته من كل ما يقوله املكذبون له املخالفون له وإذا سلِموا من كل ما رماه به‬
‫أعداؤه ل ِزم سالمة كل ما جاؤوا به من الكذب والفساد يعين ما رماه به املكذبون قال وهذا املعىن بعينه يف‬
‫اصطََف ىى آللَّهُ َخْي ٌر أ ََّما يُ ْش ِرُكو َن) إىل أن قال فتأمل هذا السر يف‬ ‫ِ ِ ِ َّ ِ‬ ‫قوله (قُ ِل ْ ِ ِ‬
‫احلَ ْم ُد للَّه َو َس َال ٌم َعلَ ىى عبَاده الذ َ‬
‫ين ْ‬
‫اقرتان السالم على رسله حبمده وتسبيحه ‪.‬‬

‫وتأمل أيها احملب أيضا يف سورة الزلزلة ويف قوله جل وعز (فَ َمن يَ ْع َم ْل ِمثْ َق َال َذ َّرٍة َخْي ارا يََرهُ * َوَمن يَ ْع َم ْل‬
‫ِمثْ َق َال َذ َّرٍة َشًّرا يََرهُ) جاء يف معامل التنزيل لإلمام البغوي يف تفسيه أن عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل تعاىل عنه‬
‫قال أحكم آية نزلت يف القرآن (فَ َمن يَ ْع َم ْل ِمثْ َق َال َذ َّرٍة َخْي ارا يََرهُ * َوَمن يَ ْع َم ْل ِمثْ َق َال َذ َّرٍة َشًّرا يََرهُ) ‪ ،‬قال‬
‫اإلمام البغوي كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يسميها اجلامعة الفاذّة حني ُسئل عن زكاة احلمر فقال (ما‬
‫أنزل اهلل علي فيها شيء إال هذه اآلية اجلامعة الفاذة (فَ َمن يَ ْع َم ْل ِمثْ َق َال َذ َّرٍة َخْي ارا يََرهُ * َوَمن يَ ْع َم ْل ِمثْ َق َال‬
‫َذ َّرٍة َشًّرا يََرهُ)) ‪ ،‬مث ذكر رمحه اهلل أن الربيع بن حسني قال مر رجل باحلسن وهو يقرأ هذه اآلية يعين احلسن‬
‫قال الرجل حسيب قد انتهت املوعظة آية حمكمة انتهى كالمه رمحه اهلل ‪ .‬واحلديث الذي أشار إليه البغوي يف‬
‫زكاة احلمر حديث يف الصحيحني خرجه البخاري ومسلم يف صحيحيهما من حديث أيب هريرة رضي اهلل‬
‫تعاىل عنه قال ابن حجر يف الفتح شارحا معىن قوله عليه الصالة والسالم الفاذّة قال بالفاء وتشديد املعجمة‬
‫مساها جامعة لشموهلا جلميع أنواع من طاعة ومن معصية ومسّاها فاذة النفرادها يف معناها قال ابن التني‬
‫واملراد أن اآلية دلّت على أن من عمل باقتناء احلمي طاعة رأى ثواب ذلك وإن عمل معصية رأى عقاب‬
‫ذلك أقول وهذا من دقيق الفقه ‪.‬‬

‫اإلحس ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫ان‬ ‫وتأمل أيها احملب وقلت اْلسرار عظيمة واخلصائص كثية ‪ ،‬تأمل آية النحل (إ َّن اللهَ يَأْ ُم ُر بالْ َع ْدل َو ْ ْ َ‬
‫َوإِيتَ ِاء ِذي الْ ُق ْرَ ىىب َويَْن َه ىى َع ِن الْ َف ْح َش ِاء َوالْ ُمن َك ِر َوالْبَ ْغ ِي يَعِظُ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّك ُرو َن) قال ابن مسعود رضي اهلل‬
‫تعاىل عنه إن أمجع آية يف القرآن خلي أو لشر آية يف سورة النحل مث تالها أخرجه اإلمام ابن جرير يف تفسيه‬
‫بسند رجاله ثقات وهكذا آيات وأمثلة عديدة ملن تدبّر هذا الكتاب وملن تأمله وتذ ّكره والذكرى تنفع املؤمنني‬
‫‪ .‬قال اإلمام ابن القيّم يف البدائع إذا تأملت القرآن وتدبرته وأعرته فِكرا وافيا اطلعت فيه من أسرار املناظرات‬

‫‪12‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫وتفريغ احلجج الصحيحة وإبطال الشبه الفاسدة وذكر النقض و ِ‬


‫الفَرق واملعارضة واملنع ما يكفيك ويكفيك‬
‫قل ومستكثر وحمروم وال حول وال قوة إال باهلل‬
‫بصره اهلل وأنعم عليه بفهم كتابه ولكن الناس يف هذا بني ُم ّ‬
‫ملن ّ‬
‫‪.‬‬

‫النقطة الثالثة هجر القرآن‬

‫وزهدوا يف إنصافه كالقرآن الكرمي فلله ما أقل عارفيه وإن‬


‫ال يُعرف مظلوم تواطأ كثي من الناس على ظلمه ّ‬
‫أحدنا لو ذهب يبحث عن العالِمني مبا فيه حبق وصدق يف أغلب ما يرى ويسمع ْلعياه ِغالبه أيها اإلخوة‬
‫‪ .‬اختذ كثي من الناس القرآن مهجورا واستبدل به وأدىن بالذي هو خي صحف وجمالت حكايات وثقافات‬
‫ِ ِ‬ ‫ضيِ‬ ‫َتوج هبا الدنيا صباحا مساء ِ ِ‬
‫وك َعن َسب ِيل اللَّه) وقال جل وعال َ‬
‫(وَما‬ ‫ضلُّ َ‬‫(وإن تُط ْع أَ ْكثَ َر َمن ِيف ْاْل َْر ِ ُ‬
‫َ‬
‫احلَ ِّق َشْيئاا) ‪ ،‬والعجب وال يكاد ينقضي العجب من كثي من‬ ‫يَتَّبِ ُع أَ ْكثَ ُرُه ْم إَِّال ظَنًّا إِ َّن الظَّ َّن َال يُ ْغ ِين ِم َن ْ‬
‫الناس أن كتاب رهبم بينهم ومعهم وقد أحاط هبم الظالم من كل جانب فيتخبطون فيه خبط عشواء والنور‬
‫ني لَ ُك ْم َكثِ ايا ِِّمَّا ُكنتُ ْم‬ ‫كما قلت بني أيديهم وال يهتدون إليه سبيال (يا أ َْهل الْ ِكتَ ِ‬
‫اب قَ ْد َجاءَ ُك ْم َر ُسولُنَا يُبَ ِّ ُ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬
‫ني * يَ ْهدي بِِه اللَّهُ َم ِن اتَّبَ َع ِر ْ‬
‫ض َوانَهُ‬ ‫اب ُّمبِ ٌ‬
‫اب وي ع ُفو عن َكثِ ٍي قَ ْد جاء ُكم ِّمن اللَّ ِه نُ ِ‬
‫ور َوكتَ ٌ‬‫ٌ‬ ‫ََ َ‬
‫ِ ِ‬
‫ُختْ ُفو َن م َن الْكتَ ِ َ َ ْ َ‬
‫اط ُّم ْستَ ِقي ٍم) ‪ ،‬كما قال قائلهم ‪:‬‬ ‫ات إِ َىل النُّوِر بِِإ ْذنِِه وي ه ِدي ِهم إِ َ ىىل ِصر ٍ‬
‫َ‬ ‫ََ ْ ْ‬
‫الس َالِم وُخيْ ِرجهم ِّمن الظُّلُم ِ‬
‫ُسبُ َل َّ َ ُ ُ َ َ‬
‫كالعيس يف البيداء يقتلها الظمأ *** واملاء فوق ظهورها حممول‬

‫والواقع أيها اْلحبة أن كثيا من أهل اإلسالم ُشغِلوا فاشتغلوا وشغلوا أنفسهم مبا يضرهم وال ينفعهم وابتعدوا‬
‫عن نورهم وأبعِدوا ‪ ،‬اشتغلوا بالسياسة والرياسة وحب الزعامة واجلمهرة وعلوم دنيوية ال خي يف كثي منها‬
‫ومال ُجيمع وهلف وراء اللذات واملهلكات نشروا ‪-‬أعداء الدين واملبغضني عرب وسائل متعددة‪ -‬نشروا الغزو‬
‫العقدي شبهات وشهوات ‪ ،‬واملصيبة كل املصيبة أن الكثي يستقبل وال يرد ‪ ،‬فما هذا التقصي‬ ‫ّ‬ ‫اْلخالقي و‬
‫احلَيَ ِاة الدُّنْيَا‬ ‫أيها اْلحبة عن الرجوع إىل املعني الصايف واملنهج العذب الذي ال ينضب (ي علَمو َن ظَ ِ‬
‫اهارا ِّم َن ْ‬ ‫َْ ُ‬

‫‪13‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫َوُه ْم َع ِن ْاآل ِخَرِة ُه ْم َغافِلُو َن) تقصي يُنذر خبطر عظيم والسعيد من رجع وآب إن يف ذلك لذكرى ملن كان له‬
‫قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ‪.‬‬

‫قال اإلمام ابن القيّم رمحه اهلل مبيّنا أنواع هجر القرآن قال هجر القرآن أنواع أحدها هجر مساعه واإلميان به‬
‫واإلصغاء إليه والثاين هجر العمل به والوقوف عند حالله وحرامه وإن قرأه وآمن به والثالث هجر ُتكيمه‬
‫صل العلم والرابع هجر‬
‫والتحاكم إليه يف أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه ال يُفيد اليقني وأن أدلته لفظية ال ُُتَ ّ‬
‫تدبّره وتفهمه ومعرفة ما أراد املتكلم به منه واخلامسة هجر االستشفاء والتداوي به يف مجيع أمراض القلوب‬
‫ب إِ َّن‬
‫ول يَا َر ِّ‬
‫الر ُس ُ‬
‫(وقَ َال َّ‬
‫وأدوائها فيُطلب شفاء دائه من غيه ويُهجر التداوي به ‪ ،‬وكل هذا داخل يف قوله َ‬
‫قَ ْوِمي َّاختَ ُذوا ىَه َذا الْ ُق ْرآ َن َم ْه ُج اورا) قال وإن كان بعض اهلجر أهون من بعض ‪ ،‬مث تكلم عن أنواع احلرج‬
‫وبعض صوره ‪-‬احلرج من القرآن‪ -‬مث قال فكل هؤالء يف صدورهم حرج من القرآن وهم يعلمون ذلك من‬
‫نفوسهم وجيدونه يف صدورهم وال ِتد تبِعا يف دينه قط إال ويف قلبه حرج من اآليات اليت ختاطب بدعته كما‬
‫أنك ال ِتد ظاملا كافرا إال ويف صدره حرج من اآليات اليت ُتول بينه وبني إرادته فتدبّر هذا املعىن مث ارضى‬
‫لنفسك مبا تشاء ‪.‬‬

‫اْلمر الرابع أيها اْلحبة مناذج عن السلف يف بيان حاهلم مع القرآن‬

‫ليُعلم أيها اْلحبة أن السلف املاضني من الصحب واْلئمة رضي اهلل تعاىل عنهم فرحوا جدا هبذا القرآن‬
‫العظيم أش ّد الفرح لذكرهم أن اهلداية والسعادة والفوز والنجاح والفالح واخلي يف اْلوىل واآلخرة باالعتصام به‬
‫وبسنة رسوله عليه الصالة والسالم وأنه العلم النافع املثمر للعمل الصاحل دومنا سواه أدرك السلف رضي اهلل‬
‫احل ِد ِ‬
‫يث كِتَاباا ُّمتَ َش ِاهباا‬ ‫مرت وتأملوا قول اهلل (اللَّهُ نََّزَل أ ْ‬
‫َح َس َن َْ‬ ‫تعاىل عنهم هذه املعاين وتلك الفضائل اليت ّ‬
‫ود ُه ْم َوقُلُوبُ ُه ْم إِ َ ىىل ِذ ْك ِر اللَّ ِه) تأملوا يف قوله تعاىل (إَِّمنَا‬ ‫ِ‬ ‫َّمث ِاين تَ ْقشعُِّر ِمْنه جلُ َّ ِ‬
‫ني ُجلُ ُ‬ ‫ين َخيْ َش ْو َن َربَّ ُه ْم ُمثَّ تَل ُ‬
‫ود الذ َ‬‫َ َ َ ُ ُ ُ‬
‫ين إِ َذا ذُ ِّك ُروا ِهبَا َخُّروا ُس َّج ادا َو َسبَّ ُحوا ِحبَ ْم ِد َرِّهبِ ْم َوُه ْم َال يَ ْستَكِْربُون) وبقوله (إَِّمنَا الْ ُم ْؤِمنُو َن‬ ‫ِ ِ ِ َّ ِ‬
‫يُ ْؤم ُن بآيَاتنَا الذ َ‬
‫ت َعلَْي ِه ْم آيَاتُهُ َز َادتْ ُه ْم إِميَاناا َو َعلَ ىى َرِّهبِ ْم يَتَ َوَّكلُو َن) وبقوله تعاىل (إِ َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ت قُلُوبُ ُه ْم َوإِ َذا تُليَ ْ‬ ‫ين إِ َذا ذُكَر اللَّهُ َوجلَ ْ‬
‫الذ َ‬
‫‪14‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫اه ْم ِسًّرا َو َع َالنِيَةا يَ ْر ُجو َن ِِتَ َاراة لَّن تَبُ َور) إىل قوله شكور‬ ‫ِ‬ ‫اب اللَّ ِه َوأَقَ ُاموا َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫الص َال َة َوأَن َف ُقوا ِمَّا َرَزقْ نَ ُ‬ ‫ين يَْت لُو َن كتَ َ‬ ‫الذ َ‬
‫اختِ َالفاا َكثِ ايا) وتأملوا‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫تأملوا وتدبروا يف قوله تعاىل (أَفَ َال يَتَ َدبَُّرو َن الْ ُق ْرآ َن َولَ ْو َكا َن م ْن عند َغ ِْي اللَّه لََو َج ُدوا فيه ْ‬
‫َنزلْنَاهُ إِلَْي َ‬
‫ك ُمبَ َارٌك‬ ‫ِ‬ ‫قوله تعاىل (أَفَ َال ي تَ َدبَّرو َن الْ ُقرآ َن أ َْم َعلَ ىى قُلُ ٍ‬
‫اب أ َ‬‫وب أَقْ َفا ُهلَا) تدبروا يف قوله تعاىل (كتَ ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬
‫اب) قال اإلمام احلسن عند هذه اآلية وما تدبّر آياته إال إتباعه بعلمه تأملوا‬ ‫لِّيدَّبَّروا آياتِِه ولِيتَ َذ َّكر أُولُو ْاْلَلْب ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ ََ َ‬
‫وتدبروا قول اهلل تعاىل (يَْت لُونَهُ َح َّق تَِال َوتِِه) قال عكرمة يتبعونه حق اتباعه وقال النخعي يتبعونه حق اتباعه‬
‫ين َآمنُوا‬ ‫َّ ِ‬
‫ويعملون به حق عمله استجابوا هلل وللرسول إذا دعاهم ملا حيييهم وقفوا عند قوله تعاىل (يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫ني الْ َم ْرِء َوقَ ْلبِ ِه َوأَنَّهُ إِلَْي ِه ُُْت َش ُرو َن) فاحلياة‬ ‫ول إِ َذا َد َعا ُك ْم لِ َما ُْحييِي ُك ْم َو ْاعلَ ُموا أ َّ‬
‫َن اللَّهَ َحيُ ُ‬
‫ول بَ ْ َ‬ ‫استَ ِجيبوا لِلَّ ِه ولِ َّلرس ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ْ ُ‬
‫النافعة يف ُتصيل االستجابة هلل ولرسوله صلى اهلل عليه وسلم ففيه العصمة واحلياة والنجاة يف اْلوىل واآلخرة‬
‫‪.‬‬

‫مث نعزف أيها اْلحبة إىل ذكر بعض اْلمثلة واْلمثلة كثية هذه اْلمثلة ال تقتصر على القراءة فقط يف الصالة‬
‫أو يف خارج الصالة ال تقتصر يف رمضان أو يف خارج رمضان فهي شاملة لذلك كله فأوهلم وإمامهم‬
‫وسيدهم وقائدهم حممد صلى اهلل عليه وآله وسلم فداه أيب وأمي أخرج الشيخان يف الصحيحني أن النيب‬
‫علي القرآن) قلت يا رسول اهلل أقرأ عليك وعليك أنزل قال( إين‬
‫عليه الصالة والسالم قال البن مسعود (اقرأ ّ‬
‫أحب أن أمسعه من غيي) قال فقرأت عليه من سورة النساء حىت جئت إىل اآلية فإذا جئنا من كل أمة‬
‫بشهيد قال (حسبك اآلن) فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان صلى اهلل عليه وآله وسلم ‪ .‬ويف املسند بسند‬
‫صحيح وغيه أن عبد اهلل بن الشخي رضي اهلل تعاىل عنه أتيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو يصلي‬
‫وجلوفه أزيز كأزيز املرجل من البكاء كغليان القدر ‪ .‬وهذا الص ّديق اْلكرب أبو بكر الصديق رضي اهلل تعاىل‬
‫عنه ففي البخاري يف الصحيح أن عائشة رضي اهلل تعاىل عنها قالت مل أعط أبويا إال ومها يدينان ِ‬
‫الدين إىل‬ ‫َ‬
‫أن قالت مث بدا ْليب بكر فابتىن مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيقف عليه نساء املشركني‬
‫وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجال بكاءا ال ميلك عينيه إذا قرأ القرآن ‪ .‬وقالت رضي اهلل‬
‫تعاىل عنها كما يف البخاري ملا أمرهم النيب صلى اهلل عليه وسلم أن يأمروا أبا بكر رضي اهلل تعاىل عنه أن‬
‫يصلي بالناس قالت عائشة رضي اهلل عنها وأرضاها يا رسول اهلل إن أبا بكر إذا قام مقامك مل يُسمع الناس‬
‫‪15‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫من البكاء ‪ .‬أدرك هؤالء الصحب رضي اهلل تعاىل عنهم وهذا الصحايب اجلليل وهو معهم من أصحاب‬
‫رسول اهلل عظم هذه اآليات اليت يتلوهنا ويتدبروهنا فرضي اهلل عنهم وأرضاهم ‪ .‬وأخرج أبو عبيد يف فضائل‬
‫القرآن أن عائشة رضي اهلل تعاىل عنها قالت إين ْلقرأ جزئي أو ُسبعي وأنا جالسة على فراشي أو على‬
‫سريري ‪ .‬وأخرج أبو عبيد أيضا يف الفضائل والبيهقي يف الكربى عن عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل تعاىل عنه‬
‫أنه كان خيتم القرآن يف غي رمضان من اجلمعة إىل اجلمعة ‪ .‬وقال احلافظ بن حجر رمحه اهلل أخرج ابن أيب‬
‫الداري أهنم كانوا خيتمون يف ُسبُع بأسانيد صحيحة يعين يف سبع ليال ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫داود عن عثمان وابن مسعود وَتيم‬
‫ومن التابعني ومن سلف اْلمة املهديني ما جاء عند ابن أيب شيبة رمحه اهلل يف املصنف وأيب عبيد يف الفضائل‬
‫عن هشام بن أيب عروة رمحه اهلل قال كان عروة بن الزبي يقرأ القرآن يف كل سبع ‪ .‬وأخرج أيضا عن أيب جملز‬
‫يؤم احلي يف رمضان وكان خيتم يف سبع وأخرج ابن أيب شيبة أيضا عن ابراهيم النخعي قال كان عبد‬
‫أنه كان ّ‬
‫الرمحن بن يزيد يقرأ القرآن يف كل سبع وكان علقمة النخعي واْلسود بن يزيد يقرؤون القرآن كذلك يف مخس‬
‫واآلخر يف ست وكان ابراهيم يقرؤه يف سبع ‪ .‬ذكر ابن قدامة رمحه اهلل يف املغين أن عبد اهلل بن أمحد قال‬
‫كان أيب خيتم القرآن يف النهار يف كل سبعة يقرأ كل يوم ُسبُعا ال يكاد يرتكه نظرا وقال حنبل كان أبو عبد‬
‫اهلل خيتم من اجلمعة إىل اجلمعة ويف مسائل [كلمة غي واضحة] أن اإلمام أمحد ملا ُسئل يف كم يُقرأ القرآن‬
‫قال أقل ما يُقرأ يف سبع ويف مسائل أيب داود أنه كره أن يٌقرأ يف أكثر من أربعني وجاء عن عبد اهلل بن‬
‫مسعود رضي اهلل تعاىل عنه أنه قال (اقرؤوا القرآن يف سبع وال تقرؤوه يف أقل من ثالث) أخرجه اإلمام سعيد‬
‫بن منصور بإسناد صحيح وقد يقول قائل وقد ُوجد أن من بعض الصحابة رضي اهلل تعاىل عنهم من كان‬
‫خيتم يف يوم وليلة كعثمان رضي اهلل تعاىل عنه وجاء عن بعض السلف منهم من كان خيتم يف ليلتني وجاء‬
‫عن اإلمام الشافعي رمحه اهلل أنه كانت له ستون ختمة يف رمضان سوى اليت يقرأ هبا يف صالته بإسناد‬
‫يدل على اإلجتهاد ‪ ،‬هذا‬
‫صحيح يف مناقب الرازي مناقب اإلمام الشافعي احلافظ بن أيب حامت وغيها وهذا ّ‬
‫يدل على اإلجتهاد يف تالوة كتاب اهلل وتأمله ولكن السنة أوىل باإلتباع كما سيأيت وهلذا علّق الذهيب رمحه‬
‫اهلل يف ترمجة أيب بكر بن شعبة بن احلجاج أنه مكث حنوا من أربعني سنة خيتم القرآن يف كل يوم وليلة مرة‬
‫علّق الذهيب رمحه اهلل قال هذه عبادة ُخيضع هلا ولكن متابعة السنة أوىل فقد صح عن النيب صلى اهلل عليه‬

‫‪16‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫وسلم أنه هنى عبد اهلل بن عمر أن يقرأ القرآن يف أقل من ثالث وقال عليه الصالة والسالم (مل يفقهه من قرأ‬
‫القرآن يف أقل من ثالث) انتهى كالمه رمحه اهلل ‪ .‬وقال الذهيب أيضا يف ترمجة اإلمام وكيع بن اجلراح الرؤاسي‬
‫من السي وقد ُروي عنه يعين وكيعا أنه كان يصوم الدهر وخيتم القرآن يف كل ليلة قال رمحه اهلل معلقا قلت‬
‫ضع هلا ولكنها من مثل إمام من اْلئمة اْلثرية مفضولة فقد صح هنيه عليه الصالة والسالم أن‬
‫هذه عبادة ُخي َ‬
‫يصوم املرء الدهر وصح أنه هنى أن يقرأ القرآن يف أقل من ثالث والدين يسر ومتابعة السنة أوىل فرضي اهلل‬
‫عن وكيع وأين مثل وكيع مث قال فكل يؤخذ من قوله ويرتك فال قدوة يف خطأ العامل نعم وال يوبّخ مبا فعله‬
‫باجتهاد نسأل اهلل املساحمة للجميع ‪ .‬وهلذا قال اإلمام أبو عبيد يف الفضائل معلقا على أثر عثمان رضي اهلل‬
‫تعاىل عنه الذي أشرنا إليه أنه كان خيتم يف يوم وليلة قال إال أن الذي خيتار [كلمة غي واضحة] أن ال نقرأ‬
‫القرآن يف أقل من ثالث لألحاديث اليت ذكرناها عن النيب عليه الصالة والسالم وأصحابه من الكراهة لذلك‬
‫فهذه مجل من مناذج السلف رضي اهلل تعاىل عنهم وأرضاهم يف كتاب اهلل عز وجل تدبرا وعلما وعمال رضي‬
‫اهلل تعاىل عنهم وأرضاهم ‪.‬‬

‫مث اخلاَتة ختم اهلل لنا ولكم خبي‬

‫ِما تقدم أيها اْلحبة يُعلم عظم هذا الكتاب العزيز الذي ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه تنزيل من‬
‫حكيم محيد والواجب على العباد مجيعا أن يتلوه حق تالوته ويقرؤوه حق قراءته فيعملون به ويعلمونه‬
‫ويقومون به حالال وحراما تعظيما لألمر والنهي ‪ .‬قال اإلمام ابن رجب رمحه اهلل من عامل اهلل بالتقوى‬
‫والطاعة يف حال رخاءه عامله اهلل باللطف واإلعانة يف حال شدته ‪ .‬ويُعلم أن التدبر يف كتاب اهلل عز وجل‬
‫والتفهم له عظيم جدا بل هو أعظم كما قلنا أعظم من إقامة حروفه حفظا قال اإلمام حيىي بن أيب كثي‬
‫اليماين فيما أخرجه أبو نعيم يف احللية تعلم الفقه صالة ودراسة القرآن صالة ‪ .‬قال الصحايب اجلليل احلرب‬
‫البحر عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل تعاىل عنه فيما أخرجه ابن أيب شيبة يف مصنفه إن هذه القلوب أوعية‬
‫اشغِلوها بالقرآن وال تشغلوها بغيه ‪ .‬وقال رمحه اهلل فيما أخرجه أبو نعيم يف احللية ينبغي حلامل القرآن أن‬

‫‪17‬‬
‫تفريغ محاضرة (حال السلف مع القرآن) لفضيلة الشيخ عبد هللا البخاري ‪-‬غفر هللا له‪-‬‬

‫يُعرف بليله إذ الناس نائمون وبنهاره إذ الناس ُمفطرون وحبزنه إذ الناس يفرحون وببكائه إذ الناس يضحكون‬
‫وبصمته إذ الناس خيوضون وخبشوعه إذ الناس خيتالون ‪ .‬أدرك اْلئمة أن من راعى وأقام كتاب اهلل علما‬
‫احلراين شيخ‬
‫وعمال كان اهلل له يف حال شدته وختم له خبي فهذا اإلمام اهلَُمام أمحد بن عبد احلليم بن تيمية ّ‬
‫اإلسالم اهلُمام قد ذُكر يف ترمجته رضي اهلل تعاىل عنه وأرضاه أنه يف السجنة اْلخية اليت ُسجنها ومات على‬
‫وتعد نسأل اهلل أن يعلي درجته يف اجلنان إنه جواد كرمي هذا‬
‫تعرض له هذا اإلمام من إيذاء ٍّ‬
‫إثرها ومعلوم كم ّ‬
‫اإلمام يقول أخوه ختمت أنا وأخي شيخ اإلسالم ابن تيمية القرآن يف السجنة اْلخية مثانني ختمة حىت‬
‫شرع يف الواحدة والثمانني إىل أن بلغ عند قوله تعاىل (إن املتقني يف جنات وهنر يف مقعد صدق عند مليك‬
‫مقتدر) قال فخرجت روحه عندها ‪ ،‬والنيب صلى اهلل عليه وآله وسلم يقول كما جاء يف الصحيح لإلمام‬
‫البخاري (اْلعمال باخلواتيم) ويقول صلى اهلل عليه وآله وسلم (من مات على شيء بُعث عليه) ‪.‬‬

‫أسأل اهلل العظيم رب العرش الكرمي أن مين علينا وعليكم بالفقه يف كتابه والثبات عليه وأن يتوفانا وإياكم‬
‫على الكتاب والسنة إنه جواد كرمي وصلى اهلل وسلم وبارك على رسوله اْلمني وعلى آله وصحبه وسلم ‪.‬‬

‫‪18‬‬

You might also like