You are on page 1of 62

‫شرح ثالثة األصول وأدلتها‬

‫لشيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب رمحه الل‬

‫من الدرس (‪ )6‬إىل الدرس (‪)9‬‬

‫شرح الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر حفظهما الل تعاىل‬

‫‪1‬‬
‫الدرس السادس‬
‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والعاقبة للمتقني‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن حممداً‬
‫عبده ورسوله صلى هللا وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أمجعني‪ .‬أما بعد‪:‬‬
‫قال شيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب رمحه هللا تعاىل وغفر له وللشارح والسامعني يف كتابه «األصول‬
‫الثالثة»‪:‬‬
‫ِ‬
‫خملصا له الدين‪ ،‬وبذلك أ ََم َر هللاُ‬
‫اهيم أ ْن تعب َد هللاَ وح َدهُ ً‬ ‫ِ َّ‬ ‫اعلَ ْم أرش َد َك هللاُ لطاعتِه َّ‬
‫أن احلنيفيةَ ملةَ إبر َ‬
‫مجيع الناس وخلَقهم هلا‪ ،‬كما قال هللا تعاىل‪﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾[الذارايت‪ ،]56:‬ومعىن‬ ‫َ‬
‫الشرك؛ وهو‬ ‫أعظم ما هنى عنه‬ ‫دون‪ ،‬وأعظم ما أَمر هللا به التوحي َد وهو‪ :‬إفر ُ ِ‬ ‫﴿ﭚ﴾ ِ‬
‫يوح ِ‬
‫ُ‬ ‫اد هللا ابلعبادة‪ ،‬و ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬
‫دعوةُ غريه معهُ‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾[النساء‪.]36 :‬‬
‫ِ‬
‫************‬
‫فهذه الرسالة الثالثة من الرسائل القيمة اليت صدرت هبا األصول الثالثة‪ ،‬وبدأها املصنف رمحه هللا تعاىل هبذه‬
‫الدعوة؛ بقوله‪(( :‬اعلَ ْم أرش َد َك هللاُ لطاعتِه))‪ ،‬وعرفنا أن هذا من نصحه رمحه هللا؛ حيث كان حريصاً على بيان‬
‫يصا على الدعاء للناس ابلرمحة واخلري واملغفرة والرشاد والسداد‪ ،‬فكثرياً ما أييت‬
‫اخلري وإيضاحه‪ ،‬ويف الوقت نفسه حر ً‬
‫يف رسائله رمحه هللا عموم الدعاء للناس‪ ،‬ملن يبصرون ويرشدون ويوجهون‪ ،‬يدعو هلم مبثل هذه الدعوات‪ ،‬الدالة‬
‫على نصحه وحرصه رمحه هللا تعاىل‪.‬‬
‫أن احلنيفيةَ ِملَّةَ إبراهيم))؛ هذا عنوان هذه الرسالة‪ ،‬وبيان ملفادها وفحواها‪ ،‬فهي رسالة خمتصرة‬ ‫قال‪َّ (( :‬‬
‫قصد هبا رمحه هللا تعاىل أن يبني احلنيفية اليت هي ملة إبراهيم‪ ،‬وهللا جل وعال قد وصف نبيه ورسوله وخليله إبراهيم‬
‫عليه السالم أبنه كان حنيفاً‪ ،‬وذلك يف قوله جل وعال‪﴿ :‬ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬
‫ﭰ﴾[النحل‪]120:‬؛ نعته هبذه النعوت‪ ،‬ومن بينها أنه عليه السالم كان حنيفاً‪ ،‬ومعىن «حنيفاً»‪ :‬أي مائالً إىل حب هللا‬
‫وتوحيده‪ ،‬وإخالص الدين له‪ ،‬واإلقبال عليه ذالً ورجاء ورغباً ورهباً‪ ،‬بعيداً عن الشرك جمانباً له‪ .‬إذ احلنيف أصل‬
‫معناه‪ :‬املائل‪ ،‬واحلنف‪ :‬امليل‪ ،‬ومعىن كونه عليه صلوات هللا وسالمه عليه حنيفاً‪ :‬أي مائالً عن الشرك إىل التوحيد‪،‬‬
‫وعن املعصية إىل الطاعة‪ ،‬فكان شأنه عليه الصالة والسالم هو هذا كما نعته بذلك ربه‪ .‬مث بعد هذه اآلية آبايت‬
‫قال هللا عز وجل خماطباً نبيه حممداً ‪﴿ :‬ﮅ ﮆ ﮇ﴾ أي أيها النيب‪﴿ ،‬ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ﴾‬
‫[النحل‪]123:‬؛‬

‫فأمره جل وعال أن يتبع ملة إبراهيم احلنيفية السمحة‪ ،‬وهي اإلخالص هلل تبارك وتعاىل وإفراده ابلعبادة والرباءة من‬
‫الشرك ‪-‬كما سيأيت بيان ذلك وإيضاحه‪ ،-‬وقال هللا جل وعال يف موضع آخر من القرآن‪﴿ :‬ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ‬

‫‪2‬‬
‫ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ﴾[البقرة‪]130:‬؛ أي أن هذه امللة احلنيفية السمحة ‪-‬ملة إبراهيم‪ -‬ال يرغب عنها أي ال يعدل‬
‫عنها ويرتكها ويذهب إىل غريها من امللل والنحل إال من حكم على نفسه ابلسفه والغي‪.‬‬
‫أن احلنيفيةَ ِملَّةَ إبراهيم))؛ «ملة» بدل من احلنيفية‪ ،‬واخلرب ‪-‬خرب أن‪ -‬هو قوله رمحه هللا‪(( :‬أ ْن تعب َد‬
‫قال‪َّ (( :‬‬
‫الدين))؛ فاحلنيفية اليت هي ملة إبراهيم اخلليل عليه السالم هي أن تعبد هللا خملصاً له الدين‪ ،‬هذه‬‫هللا وح َد ُه خملصا له ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫هي احلنيفية‪ .‬لو قال قائل‪ :‬ما احلنيفية؟ ملة إبراهيم اليت أمر نبينا عليه الصالة والسالم ابتباعها‪ ،‬وأمرت أمته بذلك‪.‬‬
‫اجلواب‪ :‬احلنيفية ملة إبراهيم‪ ،‬هي‪ :‬أن تعبد هللا خملصاً له الدين؛ هذه هي احلنيفية‪ ،‬أن تعبد هللا خملصاً له الدين‪ ،‬أن‬
‫تصرف العبادة كلها جبميع أنواعها هلل وحده‪ ،‬وال جتعل معه تبارك وتعاىل شريكاً يف شيء منها‪.‬‬
‫الدين))؛ العبادة هي غاية الذل مع غاية احلب واخلضوع‪ ،‬وهي حق هلل‬ ‫قال‪(( :‬أ ْن تعب َد هللا وح َد ُه خملصا له ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫تبارك وتعاىل‪ ،‬ليس ألحد شركة يف شيء من ذلك‪ ،‬فهذا التذلل واخلضوع واحملبة واالنكسار وحنو ذلك من العبودية‬
‫هذا كله حق هلل جل وعال‪ ،‬ال شركة ألحد فيه‪ ،‬وسيأيت ذكر الدليل على ذلك عند املصنف رمحه هللا تعاىل‪.‬‬
‫الدين))؛ أ ْن تعبد هللا‪ :‬أي أن تفرده وتوحده ابلعبادة‪ ،‬وسيأيت معنا أن األمر‬ ‫قال‪(( :‬أ ْن تعب َد هللا خملصا له ِ‬
‫َ ً‬
‫ابلعبادة يف القرآن والسنة أمر ابلتوحيد‪ ،‬فمعىن أن تعبد هللا‪ :‬أي أن تفرده تبارك وتعاىل ابلعبادة فال جتعل معه‬
‫شريكاً يف شيء منها‪ .‬ولكي حيقق املرء ذلك البد أن يعرف العبادة‪ ،‬ما حقيقتها؟ ليجعلها كلها هلل خالصة‪،‬‬
‫والعبادة أمجع ما قيل يف معناها وبيان حقيقتها‪ :‬أهنا اسم جامع لكل ما حيبه هللا ويرضاه‪ ،‬من األقوال واألعمال‬
‫الظاهرة والباطنة‪ .‬وهبذا يعلم أن من العبادة ما يكون ابلقلب‪ ،‬مثل‪ :‬الرجاء واحملبة واخلوف والتوكل واالستعانة‪،‬‬
‫ومنها ما يكون ابللسان‪ ،‬مثل‪ :‬الذكر والدعاء وتالوة القرآن واألمر ابملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬هذه كلها‬
‫عبادات‪ ،‬ومنها ما يكون ابجلوارح‪ ،‬مثل‪ :‬الصالة والصيام واحلج والرب وحنو ذلك من األمور اليت أمر هللا سبحانه‬
‫وتعاىل عباده هبا‪ ،‬وحيبها منهم ويرضاها‪ .‬فالعبادة‪ :‬اسم جامع لكل ما حيبه هللا ويرضاه‪ ،‬من األقوال واألعمال‬
‫الظاهرة والباطنة‪.‬‬
‫الدين))؛ أي أن تقع منك العبادة خالصةً هلل‪ ،‬كما قال هللا تعاىل‪﴿ :‬ﮆ ﮇ ﮈ‬ ‫قال‪((:‬خملصا له ِ‬
‫ً‬
‫ﮉﮊ﴾[الزمر‪ ]3:‬وكما قال جل وعال‪﴿ :‬ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾[البينة‪ .]5:‬فقوله رمحه هللا‪ً « :‬‬
‫خملصا له‬
‫الدين» أي أن أتيت ابلعبادة صافية نقية‪ ،‬ألن اخلالص هو الصايف النقي‪ .‬ومعىن أن تكون العبادة خالصةً‪ :‬أي أن‬ ‫ِ‬
‫تكون صافية نقية‪ ،‬ليس فيها شائبة شرك أو رايء أو مسعة أو إرادة للدنيا ابلعمل‪ ،‬بل هي صافية نقية‪ ،‬مل يرد هبا إال‬
‫هللا جل وعال‪.‬‬
‫واخلالص يف اللغة‪ :‬هو الصايف النقي‪ ،‬واقرؤوا يف معرفة معىن اخلالص لغةً قول هللا سبحانه وتعاىل يف سورة‬
‫النحل ‪-‬سورة النعم‪﴿ :-‬ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ‬

‫‪3‬‬
‫ﭵ﴾[النحل‪]66:‬؛ فهذه تبني لك معىن اخلالص لغة‪ .‬اخلالص لغة‪ :‬الصايف النقي‪ ،‬وانظر يف معرفة مدلول هذه اللفظة‬
‫لغةً إىل اللنب الذي خيرج من هبيمة األنعام؛ فقد وصفه هللا أبنه خيرج من ينب فرث ودم‪ ،‬حىت إن بعض أهل اخلربة‬
‫يقولون إن خروجه من بني الفرث والدم هو وقت احللب‪ ،‬يعين خيرج لتوه من بني الفرث والدم‪ ،‬والدم معروف‪،‬‬
‫والفرث أيضاً معروف‪ ،‬واحلليب أو اللنب الذي خيرج من هبيمة األنعام خيرج حني خيرج من بني فرث ودم‪ ،‬لكنك‬
‫ماذا تراه؟ هل ترى فيه قطرة دم؟ ولون الدم معروف‪ ،‬واحلليب لونه معروف‪ ،‬هل ترى فيه قطرة دم؟ أو ترى فيه‬
‫قطعة من فرث؟ اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬اجلواب‪ :‬تراه صافياً نقياً؛ وهلذا قال هللا تعاىل‪﴿ :‬ﭲ﴾ أي صافياً نقياً‪ ،‬مع أنه‬
‫خرج للتو من بني فرث ودم‪ ،‬ال ترى فيه نقطة دم‪ ،‬وال ترى فيه قطعة فرث!! وهذه آية من آايت هللا وعربة من‬
‫العرب‪ ،‬وهلذا صدر هللا سبحانه اآلية بقوله‪﴿ :‬ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ﴾‪ ،‬ومن العربة والعظة يف األنعام هذه اآلية من‬
‫آايت هللا؛ أن خيرج اللنب من بني الفرث والدم خالصاً‪ .‬مث ماذا؟ قال‪﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ﴾؛ أي مع علم الناس‬
‫مبصدره وخمرجه ومنبعه فإهنم يستسيغونه‪ ،‬ال تنفر نفوسهم منه لكونه خرج من هذا املكان‪ ،‬بل يستسيغونه‬
‫ويستلذونه‪ ،‬وجيدون له طعماً لذيذاً هنيئاً؛ ﴿ﭳ ﭴ ﭵ﴾ أي ملن يشربه‪.‬‬
‫فهذه آية من آايت هللا سبحانه وتعاىل‪ ،‬وهذه اآلية تبني لنا معىن اخلالص لغةً؛ أي الصايف النقي‪.‬‬
‫وقوله جل وعز‪﴿ :‬ﮆ ﮇ ﮈ‬ ‫فإذاً قول ربنا جل وعز‪﴿ :‬ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾‬
‫[البينة‪]5:‬‬

‫ﮉﮊ﴾[الزمر‪ ]3:‬ما معىن اخلالص؟ عرفنا معىن اخلالص ومدلوهلا؛ اخلالص‪ :‬أي الصايف النقي ﴿ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ﴾‬
‫أي له الدين الصايف النقي؛ مبعىن أن تقبل بكليتك وبقلبك وبنيتك وبقصدك وحبك ورجائك وذلك تقبل على هللا‬
‫وحده‪ ،‬ال جتعل مع هللا شريكاً يف ذلك‪ ،‬ألنك إن جعلت مع هللا شريكاً يف ذلك أخللت ابإلخالص‪ ،‬مل تكن‬
‫عبادتك صافية‪ ،‬إن دعا أحد هللا ودعا معه غريه خدش دعاؤه لغري هللا مع هللا إبخالصه‪ ،‬مل يصبح خملصاً بل‬
‫أصبح مشركاً‪ ،‬ألن املخلص‪ :‬هو الذي أييت ابلعبادة صافية نقية هلل وحده‪ ،‬ال جيعل مع هللا سبحانه وتعاىل شريكاً‬
‫وجعل غري هللا نداً‬
‫فيها‪ ،‬واملشرك‪ :‬هو الذي جيعل مع هللا شريكاً يف العبادة؛ ألن الشرك‪ :‬هو تسوية غري هللا ابهلل‪ْ ،‬‬
‫هلل وعدالً له تبارك وتعاىل‪ ،‬يصرف له من احلقوق ما يصرف هلل تبارك وتعاىل‪.‬‬
‫الدين)) أي أن يكون دينك وعبادتك وطاعتك وذلك وخضوعك كل‬ ‫فإذاً قوله رمحه هللا‪(( :‬خملصا له ِ‬
‫ً‬
‫ذلكم يكون خالصاً هلل ﴿ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ﴾[األنعام‪-162:‬‬

‫‪ ]163‬أي أمرت ابإلخالص؛ أن تكون هذه األعمال كلها هلل تبارك وتعاىل خالصة‪ ،‬ليس ألحد فيها مع هللا سبحانه‬
‫وتعاىل مشاركة‪.‬‬
‫مجيع الناس)) مر معنا اآلية قال‪﴿ :‬ﯡ ﯢ﴾ فاهلل سبحانه‬ ‫ِ‬
‫خملصا له الدين وبذلك أ ََم َر هللاُ َ‬
‫قال‪ً (( :‬‬
‫وتعاىل أمر مجيع الناس بذلك‪ ،‬وقال يف أول أمر ورد يف القرآن‪﴿ :‬ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ‬
‫‪4‬‬
‫ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾[البقرة‪ ]21:‬فهذا أول أمر يف القرآن‪ ،‬وأول هني يف القرآن هو قوله‪﴿ :‬ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ‬
‫ﯟ ﯠ ﯡ﴾[البقرة‪]22:‬؛ فأول أمر يف القرآن أمر ابلعبادة والتوحيد واإلخالص‪ ،‬وأول هني يف القرآن هني عن‬
‫الشرك والتنديد واختاذ الشركاء مع هللا سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫مجيع الناس))﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾‪.‬‬
‫قال‪(( :‬وبذلك أ ََم َر هللاُ َ‬
‫((وخلَقهم هلا))؛ أي هلذه الغاية خلقهم وأوجدهم؛ فهو تبارك وتعاىل خلقهم وأوجدهم حلكمة عظيمة‪،‬‬
‫وغاية نبيلة‪ ،‬وهدف جليل‪ ،‬وهو أن يعبدوا هللا سبحانه وتعاىل خملصني له الدين‪.‬‬
‫((والدليل على ذلك قول هللا سبحانه يف سورة الذارايت‪﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾))‬
‫أي إال لغاية وهي عباديت‪ ،‬ومعىن ﴿ﭷ ﭸ ﭹ﴾ أي إال ليوحدون‪ ،‬كما جاء عن ابن عباس رضي هللا عنهما‬
‫أنه قال‪« :‬كل أمر ابلعبادة يف القرآن أمر ابلتوحيد»‪ .‬فقوله ﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾ أي وحدوا ربكم‬
‫ابلعبادة‪ ،‬فأخلصوها له‪ ،‬قوله‪﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ﴾ أي إال ليوحدون؛ أي إال ليفردوين وحدي ابلعبادة‪ ،‬وخيلصوا‬
‫الدين يل دون شريك‪.‬‬
‫﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾ أخرب جل وعال يف هذه اآلية أنه تفرد ابخللق ﴿ﭳ ﭴ﴾‬
‫تفرد جل وعال ابخللق واإلجياد واإلنعام‪ ،‬أخرب أنه تفرد بذلك‪ ،‬وأوجد اإلنسان وخلقه‪ ،‬أوجد الثقلني‪ ،‬وحدد الغاية‬
‫اليت ألجلها خلقهم؛ قال‪﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾ فأخرب تعاىل أنه فعل األول وهو اخللق‬
‫﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾ ليفعلوا هم الثاين وهو العبادة ﴿ﭷ ﭸ ﭹ﴾؛ أي إال ليقوموا بعباديت وتوحيدي‪.‬‬
‫فماذا كان حاهلم مع هذا الذي خلقهم هللا ألجله وأوجدهم لتحقيقه؟ انقسموا إىل فريقني‪﴿ :‬ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ‬
‫ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ﴾[النحل‪]36:‬؛ فمنهم من هدى هللا فقام هبذه الغاية‪ ،‬ووحد هللا وأفرده تبارك وتعاىل‬
‫ابلعباد‪،‬ة ومل يصرف شيئاً من العبادة لغريه‪ ،‬ومنهم من حقت عليه الضاللة‪ ،‬فوقع يف الشرك والكفر ابهلل سبحانه‬
‫وتعاىل‪ .‬قال هللا تعاىل‪﴿ :‬ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ‬
‫ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ﴾[النحل‪.]36:‬‬
‫قال‪(( :‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾‪ ،‬ومعىن ﴿ﭚ﴾ أي‪ِ :‬‬
‫يوح ِ‬
‫دون))؛‬
‫معىن ﴿ﭚ﴾ الذي خلق جل وعال اخللق ألجله أي‪ :‬يوحدون‪ .‬فالعبادة ال تكون عبادةً إال ابلتوحيد‪ ،‬كما أن‬
‫الصالة ال تكون صالةً إال ابلطهارة؛ أرأيتم لو أن شخصاً صلى وأخرب عن نفسه بذلك‪ ،‬قال "صليت بغري‬
‫طهارة"؛ يصح أن يقال له‪ :‬ما صليت‪ ،‬ألن من شروط صحة الصالة الطهارة‪ ،‬فالصالة بدون طهارة كأهنا مل‬
‫تكن‪ ،‬ويقال ملن صلى بغري طهارة‪ :‬ما صليت‪ .‬ومن عبد هللا بدون توحيد شأنه كذلك؛ مل يعبد هللا‪ ،‬من عبد هللا‬
‫‪5‬‬
‫بغري توحيد هو يف احلقيقة مل يعبد هللا‪ ،‬ألن عبادة هللا ال تكون عبادة مقبولةً مشكورةً مرضية عند هللا إال ابلتوحيد‪،‬‬
‫فإذا فقدت العبادة التوحيد فقدت أساس القبول‪ ،‬وهلذا قال ربنا جل وعال يف احلديث القدسي‪(( :‬أان أغىن‬
‫الشركاء عن الشرك‪ ،‬من عمل عمالً أشرك معي فيه غريي تركته وشركه))‪ ،‬فالعبادة مع الشرك ال تكون عبادةً‪ ،‬بل‬
‫ترد على صاحبها وال تقبل منه‪ ،‬وإن مات على ذلك عاقبه هللا سبحانه وتعاىل يوم القيامة أشد العقاب‪ ،‬وأحل به‬
‫أشد النكال ﴿ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ﴾[النساء‪.]48:‬‬
‫وهلذا وجب على كل إنسان أن يهتم هبذا األمر ومبعرفته أشد االهتمام‪ ،‬ألنه أساس عظيم وأصل متني خلق‬
‫ألجله‪ ،‬وأوجد لتحقيقه‪ ،‬وهو يف الوقت نفسه ألذ شيء يف هذه احلياة الدنيا؛ ألذ شيء يف هذه احلياة الدنيا‬
‫التوحيد‪ ،‬ومن عاش هذه احلياة الدنيا وخرج منها بدون التوحيد خرج منها ومل يذق ألذ شيء فيها‪ ،‬ألذ شيء يف‬
‫هذه احلياة الدنيا توحيد هللا؛ فهو احلالوة واللذة وقرة العني وهناءة العيش ﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ‬
‫ﮑ﴾ أي موحد هلل ﴿ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾‬
‫[النحل‪]97:‬‬

‫فبالتوحيد تكون احلياة اهلنيئة‪ ،‬والعيش الطيب‪ ،‬والسعادة‪ ،‬واللذة‪ ،‬والراحة‪ ،‬وقرة العني‪ ،‬وبدونه تفقد اخلريات يف‬
‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬وحتل على اإلنسان الشرور تلو الشرور‪ .‬وهلذا ينبغي أن يكون اهتمام العبد ابلتوحيد أشد االهتمام‪،‬‬
‫وأن تكون عنايته به أعظم العناية‪ ،‬أعظم من عنايته بطعامه وشرابه ولباسه وسائر شؤونه‪ .‬قال‪(( :‬ومعىن‬
‫﴿ﭚ﴾‪ :‬يوحدون))‪.‬‬
‫َمر هللاُ به التوحي َد))؛ أي أعظم شيء أمر هللا العباد به التوحيد‪ .‬ويدل لذلك دالئل ال حصر‬
‫وأعظم ما أ َ‬
‫(( ُ‬
‫هلا‪ ،‬وشواهد ال عد هلا‬
‫منها‪:‬أنه املقصود ابخللق؛﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾‪.‬‬ ‫▪‬
‫ومنها‪ :‬أنه الغاية من بعثة الرسل ﴿ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ‬ ‫▪‬
‫ﭾﭿ﴾‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه أول أمر يف القرآن ﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾‪.‬‬ ‫▪‬
‫ومنها‪ :‬أنه أول األوامر يف القرآن؛ عندما أتيت آايت األوامر والنواهي يف القرآن تبدأ ابألمر‬ ‫▪‬
‫ابلتوحيد‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه أساس السعادة والفالح يف الدنيا واآلخرة؛ فإذا فقد فقدت السعادة وفقد الفالح‪.‬‬ ‫▪‬
‫وأنه أساس قبول األعمال؛ فال تقبل األعمال إال ابلتوحيد‪ ،‬فإذا فقدت التوحيد ردت على‬ ‫▪‬
‫العامل‪ ،‬ومل تقبل منه‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫إىل غري ذلك من األمور الدالة على أن التوحيد هو أعظم شيء أمر هللا سبحانه وتعاىل عباده به‪ .‬ومعىن هذا‬
‫أن هللا أمر عباده أبوامر كثرية جاءت يف الكتاب والسنة‪ ،‬أعظم هذه األوامر توحيد هللا جل وعال‪.‬‬
‫َمر هللاُ سبحانه وتعاىل به التوحيد)) ما هو التوحيد الذي هو أعظم شيء أمر هللا‬ ‫وأعظم ما أ َ‬
‫قال‪ُ (( :‬‬
‫سبحانه وتعاىل عباده به؟ هذه الكلمة «التوحيد» مصدر للفعل وحد يوحد توحيداً‪ ،‬وهو أصل يدل على اإلفراد‪،‬‬
‫التوحيد هو اإلفراد‪ ،‬ودين اإلسالم مسي توحيداً‪ :‬ألن مبناه على اإلميان بوحدانية هللا‪ ،‬وهللا جل وعال من أمسائه‬
‫احلسىن «األحد»‪ ،‬ومن أمسائه احلسىن «الواحد»‪ ،‬فدين اإلسالم مسي توحيداً ألنه مبناه على اإلميان بوحدانية هللا‪،‬‬
‫وحدانية هللا يف ماذا؟ يف ربوبيته جل وعال‪ ،‬ويف أمسائه وصفاته‪ ،‬ويف ألوهيته‪.‬‬
‫يف ربوبيته‪ :‬أبن يعتقد أبنه وحده سبحانه وتعاىل اخلالق املالك الرازق املنعم املتصرف ال شريك له‪.‬‬ ‫•‬
‫وحدانيته يف أمسائه وصفاته‪ :‬أبن تثبت له األمساء احلسىن والصفات العال‪ ،‬دون تعطيل أو حتريف‪،‬‬ ‫•‬
‫ودون تكييف أو متثيل ﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ﴾[األعراف‪.]180:‬‬
‫ووحدانيته يف ألوهيته‪ :‬أبن يفرد جل وعالوحده ابلعبادة‪ ،‬وأن خيلص له الدين‪.‬‬ ‫•‬
‫وهلذا قال العلماء‪ :‬التوحيد أنواع ثالثة‪ :‬توحيد الربوبية‪ ،‬وتوحيد األمساء والصفات‪ ،‬وتوحيد األلوهية‪ .‬وكل‬
‫من توحيد الربوبية وتوحيد األمساء والصفات مستلزم لتوحيد العبادة؛ مبعىن أن من عرف أن هللا جل وعال متفرد‬
‫ابلربوبية‪ ،‬وآمن أبمسائه وصفاته‪ ،‬لزمه أن يفرده ابلعبادة‪ ،‬وهلذا ترى آايت كثرية يف القرآن فيها الدعوة إىل إفراد هللا‬
‫ابلعبادة من خالل هذين األمرين؛ من خالل اإلقرار ابلربوبية ﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾[األنبياء‪ ،]92:‬ومن‬
‫خالل اإلميان ابألمساء والصفات ﴿ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ﴾[يوسف‪﴿ ،]39:‬ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ‬
‫ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ﴾[احلشر‪]22:‬؛ فيأيت يف القرآن آايت كثرية فيها الدعوة إىل إفراد‬
‫هللا ابلعبادة‪ ،‬من خالل إلزام من أقر ابلربوبية وأقر ابألمساء والصفات أن يفرده ابلعبادة؛ أي كما أنك تقر أبنه‬
‫وحده تفرد ابخللق والرزق واإلنعام ال شريك له‪ ،‬وتقر أبن له األمساء احلسىن والصفات العال‪ ،‬الدالة على كماله‬
‫وجالله وعظمته فأفرده وحده ابلعبادة‪ ،‬ال جتعل معه شريكاً يف العبادة‪ ،‬ال تدعو إال هو‪ ،‬وال تسأل إال هو‪ ،‬وال‬
‫تذل إال له‪ ،‬وال ختضع إال له‪ ،‬وال تصرف شيئاً من العبادة إال له جل وعال؛ كما أنه تفرد ابخللق والرزق واإلنعام ال‬
‫شريك له‪ ،‬فيجب أن يفرد جل وعال وحده ابلعبادة‪ ،‬فال جيعل معه شريكاً فيها‪.‬‬
‫هللا ابلعبادة)) فسر هنا توحيد األلوهية‪ ،‬ألن توحيد األلوهية‬ ‫اد ِ‬‫هنا قال رمحه هللا‪(( :‬التوحي َد وهو‪ :‬إفر ُ‬
‫متضمن لنوعي التوحيد اآلخرين ‪-‬أعين الربوبية واألمساء والصفات‪ -‬فتوحيد األلوهية متضمن للنوعني اآلخرين‪ ،‬أما‬
‫النوعان اآلخران فهما مستلزمان لتوحيد األلوهية كما سبق إيضاحه‪ ،‬أما توحيد األلوهية فهو متضمن هلما‪ ،‬مبعىن‪:‬‬

‫‪7‬‬
‫أن من وحد هللا فتوحيده هلل تبارك وتعاىل فرع عن إقراره بربوبيته وإميانه أبمسائه وصفاته‪ ،‬ألن عبوديته وذله له‬
‫وخضوعه وانكساره له هو فرع عن إقراره أبنه الرب اخلالق الرازق‪ ،‬وعن إقراره أبمسائه وصفاته‪.‬‬
‫وهذا هو الذي حصل فيه اخلصومة بني األنبياء وأقوامهم؛ فاألنبياء ملا قالوا لألقوام‪﴿ :‬ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ‬
‫ﭱ ﭲ﴾ وقعت اخلصومة بينهم وبني األقوام‪ ،‬ألن األمم كانت تقر ‪-‬يف الغالب األعم‪ -‬أبن هللا هو الرب‪ ،‬وأنه‬
‫اخلالق الرازق‪ ،‬لكنهم جعلوا معه شركاء ووسطاء وأنداد‪ ،‬بزعمهم تقرهبم إىل هللا ﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ﴾[الزمر‪﴿ ،]3:‬ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ﴾[يونس‪ ،]18:‬فاختذوا مع هللا األنداد اليت هي بزعمهم تقرهبم إىل‬
‫هللا‪ ،‬ويعتقدون يف األنداد أهنا ليست خالقة وال رازقة وال مالكة وال متصرفة‪ ،‬بل يعتقدون فيها أن هلا مكانة عند‬
‫هللا‪ ،‬فتشفع هلم عند هللا‪ ،‬وتكون واسطة هلم عند هللا؛ وهلذا قالوا‪﴿ :‬ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾ ما قالوا‪ :‬ما‬
‫نعبدهم إال لكوهنم خيلقون ويرزقون‪ ،‬ما قالوا ذلك‪ ،‬بل يعتقدون أن اخلالق الرازق املنعم املتصرف هللا‪ ،‬وجاء يف‬
‫القرآن آايت كثرية تدل على هذا املعىن‪ ،‬وتدل على أن احنراف هؤالء وزيغهم يف اختاذ األنداد هو جبعل األنداد‬
‫شركاء هلل يف العبادة‪.‬‬
‫فإذاً هذا األمر هو الذي وقعت فيه اخلصومة بني األنبياء وأقوامهم؛ ملا قال النيب عليه الصالة والسالم لقومه‪:‬‬
‫((قولوا ال إله إال هللا تفلحوا)) ماذا قالوا؟ عرفوا املعىن‪ ،‬وعرفوا املدلول‪ ،‬وعرفوا املراد قالوا‪﴿ :‬ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ‬
‫ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ﴾[ص‪﴿ ]5:‬ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ﴾ أي جعل املعبودات معبوداً واحداً؟! ألن اإلله معناه يف اللغة‪:‬‬
‫املعبود‪﴿ ،‬ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ﴾ يعين جعل املعبودات اليت تقصد ويلجأ إليها ويطلب منها وخيضع هلا‬
‫واحدة؟﴿ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ﴾ أمر عجيب وغريب ﴿ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ﴾ مث أيضاً تواصوا‬
‫بينهم أن ال يطيعوه يف هذا األمر العجاب بزعمهم ﴿ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ﴾[ص‪ ]6:‬يعين تواصوا‬
‫ابلصرب على اختاذ اآلهلة أنداداً وشركاء يعبدوهنا مع هللا‪ .‬وإذا قيل هلم‪ :‬هل هذه األنداد اليت تتخذوهنا شركاء مع هللا‬
‫هل ختلق؟ هل ترزق؟ هل متلك؟ ماذا يقولون؟ ال‪ .‬إ ًذا مل تعبدوهنا؟ قالوا‪﴿ :‬ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾‪.‬‬
‫وهلذا كانوا يلبون عندما حيجون البيت‪ ،‬ويقولون يف تلبيتهم‪« :‬لبيك ال شريك لك‪ ،‬إال شريكاً هو لك‪،‬‬
‫متلكه وما ملك»؛ يعين حنن ال نتخذ معك شريكاً إال شريكاً هو لك متلكه‪ ،‬ماذا يعنون؟ يعين هذه األصنام‬
‫واألنداد اليت يعبدوهنا هي ال متلك – يقولون ‪ -‬وهللا ميلكها‪ ،‬وهلذا يقولون يف تلبيتهم‪« :‬لبيك ال شريك لك‪ ،‬إال‬
‫شريكاً هو لك‪ ،‬متلكه وما ملك»‪ ،‬وهلذا ملا وصف جابر رضي هللا عنه حجة النيب عليه الصالة والسالم قال‪:‬‬
‫«فأهل النيب ‪ ‬ابلتوحيد»‪ ،‬أولئك كانوا يهلون مباذا؟ كانوا يهلون ابلتنديد‪ ،‬فأهل نبينا عليه الصالة والسالم‬
‫ابلتوحيد قال‪« :‬لبيك اللهم لبيك‪ ،‬لبيك ال شريك لك لبيك‪ ،‬إن احلمد والنعمة لك وامللك‪ ،‬ال شريك لك» أي‬

‫‪8‬‬
‫كما أنك اي ربنا تفردت ابلنعمة وامللك واحلمد ال شريك لك يف ذلك‪ ،‬فأنت تفرد ابلعبادة ال ند لك‪ ،‬تفرد‬
‫ابلطاعة ال ند لك؛ «لبيك اللهم لبيك» هذه كلمات توحيد وإخالص هلل تبارك وتعاىل؛ وهلذا ينبغي على كل‬
‫حاج أن يردد هذه الكلمات يف حجه كثرياً‪،‬مستشعراً ما دلت عليه من التوحيد واإلخالص هلل‪ ،‬والرباءة من‬
‫الشرك‪ ،‬وهي دلت على التوحيد بنوعيه‪ :‬العلمي والعملي؛ العلمي يف قوله‪« :‬لبيك اللهم لبيك‪ ،‬لبيك ال شريك‬
‫لك لبيك»‪ ،‬والعملي يف قوله‪« :‬إن احلمد والنعمة لك وامللك» النعمة لك‪ ،‬وامللك لك‪ :‬هذا توحيد علمي‪.‬‬
‫اد ِ‬
‫هللا ابلعبادة)) هذا تعريف توحيد األلوهية‪ ،‬وهو متضمن‬ ‫فالشاهد أن قول املصنف‪(( :‬التوحي َد وهو‪ :‬إفر ُ‬
‫لنوعي التوحيد اآلخرين؛ أعين توحيد الربوبية‪ ،‬وتوحيد األمساء والصفات‪.‬‬
‫اد ِ‬
‫هللا ابلعبادة))؛ إفراده ما معناها؟‬ ‫عرف رمحه هللا توحيد األلوهية هبذا التعريف املختصر اجلامع قال‪(( :‬إفر ُ‬
‫أي أن تكون العبادة له وحده‪ ،‬هذا معىن إفراده‪ :‬أن تكون العبادة له وحده‪ ،‬ال جيعل معه شريك فيها‪.‬‬
‫والعبادة عرفنا معناها؛ الصالة عبادة‪ ،‬الصيام عبادة‪ ،‬الدعاء عبادة‪ ،‬الذبح عبادة‪ ،‬النذر عبادة‪ ،‬التوكل‬
‫عبادة‪ ،‬االستعانة عبادة‪ ،‬هذه كلها عبادات؛ فالتوحيد هو أن يفرد هللا أبنواع العبادات‪ ،‬ال جيعل معه شريك فيها‪،‬‬
‫يفرد ابلعبادة كلها‪ ،‬املوحد هو الذي ال يدعو إال هللا‪ ،‬وال يستغيث إال ابهلل‪ ،‬وال يذبح إال هلل‪ ،‬وال ينذر إال هلل‪ ،‬وال‬
‫يتوكل إال على هللا‪ ،‬وال يصرف شيئاً من العبادة إال هلل تبارك وتعاىل وحده؛ فمن نذر لغري هللا‪ ،‬أو ذبح لغري هللا‪،‬‬
‫أو توكل على غري هللا‪ ،‬أو صرف شيئاً من العبادة لغري هللا صار مشركاً‪ ،‬وفارق بذلك التوحيد‪ ،‬وخرج منه‪ ،‬ومل يكن‬
‫من أهله‪ ،‬ألنه ال يكون من أهل التوحيد إال إذا أفرد العبادة كلها هلل‪ ،‬مل جيعل مع هللا سبحانه وتعاىل شريكاً يف‬
‫شيء منها‪.‬‬
‫والشرك من أعفن األشياء وأقبحها وأخسها‪ ،‬وإذا دخل الشرك يف العمل أفسده برمته‪ ،‬أفسده كامالً؛ فمثالً‬
‫لو أن شخصاً أخلص يف صالته‪ ،‬أخلص يف صيامه‪ ،‬أخلص يف حجه‪ ،‬أشرك يف دعائه؛ شركه يف الدعاء يفسد‬
‫كل شيء‪ ،‬ويدمر كل شيء‪ ،‬وخيرب كل شيء‪ ،‬فالشرك من أخس األشياء وأعفنها وأخطرها؛ حمبط لألعمال كلها‬
‫﴿ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾[الزمر‪« ]65:‬عمل» مفرد مضاف‪ ،‬فيعم كل عمل‪ ،‬أي‬
‫حلبطت أعمالك كلها‪ ،‬وفسدت مجيعها‪.‬‬
‫الشرك خطري جداً‪ ،‬حيبط كل عمل‪ ،‬ويفسد كل عمل؛ وهلذا من لقي هللا سبحانه وتعاىل مشركاً به‪ ،‬تبطل‬
‫أعماله كلها‪ ،‬وتذهب هباء‪ ،‬وتضيع سدى ﴿ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ﴾[الفرقان‪ ،]23:‬وهلذا‬
‫قال العلماء انصحني‪ :‬جيب على كل إنسان أن يكون خوفه من الشرك أشد اخلوف‪ ،‬وأن يكون دائماً خائفاً‬
‫حذراً من الشرك أشد من خوفه من أي أمر آخر‪ .‬مر النيب عليه الصالة والسالم مرةً على الصحابة رضي هللا عنهم‬
‫وهم يتذاكرون فتنة املسيح الدجال‪ ،‬اليت أخرب النيب عليه الصالة والسالم أهنا من أشد الفنت‪ ،‬فقال هلم عليه‬
‫الصالة والسالم‪(( :‬أال أخربكم مبا هو أخوف عليكم عندي من فتنة املسيح الدجال؟)) قالوا‪ :‬بلى اي رسول هللا‪،‬‬
‫‪9‬‬
‫قال‪(( :‬الشرك اخلفي)) أخوف عليكم عندي من فتنة املسيح الدجال‪ ،‬فتنة املسيح الدجال فتنة عظمى‪ ،‬وبلية‬
‫كربى‪ ،‬وخاف النيب ‪ ‬على أمته من الشرك أشد من خوفه عليهم من فتنة املسيح الدجال‪ ،‬اليت هي من أشد‬
‫الفنت وأعظمها‪.‬‬
‫إمام احلنفاء عليه صلوات هللا وسالمه الذي حطم األصنام بيده‪ ،‬قال يف دعائه‪﴿ :‬ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬
‫ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ﴾[إبراهيم‪ ]36-35:‬كثرياً من الناس أضلتهم األصنام‪ ،‬أكثر الناس على غري‬
‫أكثر الناس على غري التوحيد‪ ،‬وآايت يف‬ ‫التوحيد ﴿ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ﴾‬
‫[يوسف‪]103:‬‬

‫القرآن تقرر هذا كثرياً‪ ،‬ومن ذلك قوله‪﴿ :‬ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾[يوسف‪ ]106:‬يؤمنون ابهلل رابً‬
‫خالقاً رازقاً منعماً‪ ،‬لكنهم يشركون معه غريه يف العبادة‪ ،‬جيعلون معه الشركاء إما يف الدعاء؛ جتد أحدهم إذا مسه‬
‫الضراء‪ ،‬ونزل به البالء‪ ،‬وأصيب ابملرض والألواء‪ ،‬فزع إىل غري هللا!! "مدد اي فالن‪ ،‬أدركين اي فالن‪ ,‬أحلقين اي‬
‫فالن‪ ،‬إن مل تدركين من الذي يدركين؟ وإن مل أتخذ بيدي من الذي أيخذ بيدي؟ أان الئذ جبنابك‪ ،‬وأان عائذ‬
‫أبعتابك"‪ ،‬وبعضهم يقول‪" :‬وأان عبدك الكسري بني يديك" يناجي خملوقاً مثله‪ ،‬سبحان هللا! أين عقول هؤالء؟!‬
‫أين عقوهلم عن هذه الغاية اليت خلقوا ألجلها؟! أين إمياهنم ابهلل‪ ،‬رهبم جل وعال الذي خلقهم وأوجدهم‪ ،‬يلجأ إىل‬
‫خملوق مثله‪ ،‬ال ميلك لنفسه نفعاً وال ضراً‪ ،‬وال عطاء وال منعاً وال خفضاً‪ ،‬مث يقول مستغيثاً به‪" :‬مدد؟! أدركين؟!‬
‫الشفاء؟! العافية؟! إن مل تدركين من الذي يدركين"‪ ،‬أين عقول هؤالء؟! أين عقول هؤالء عن الغاية اليت خلقهم هللا‬
‫سبحانه وتعاىل وأوجدهم ألجلها؟!‬
‫الشرك))؛ والشرك أقسامه ثالثة‪ ،‬كما أن التوحيد أقسامه ثالثة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وأعظم ما هنى عنه‬
‫مث قال رمحه هللا‪ُ (( :‬‬
‫عرفنا أن التوحيد‪ :‬توحيد الربوبية‪ ،‬واألمساء والصفات‪ ،‬واأللوهية‪ ،‬وكذلك الشرك أقسامه ثالثة‪ :‬شرك يف‬
‫الربوبية‪ ،‬وشرك يف األمساء والصفات‪ ،‬وشرك يف األلوهية‪.‬‬
‫وعرف هنا رمحه هللا الشرك يف األلوهية؛ ألنه هو الذي فيه املعرتك واخلصومة؛ قال‪(( :‬الشرك وهو دعوة غريه‬
‫معه)) هذا هو الشرك‪ :‬دعوة غريه معه‪ ،‬سئل نبينا عليه الصالة والسالم أي الذنب أعظم؟ قال‪(( :‬أن جتعل هلل نداً‬
‫وهو خلقك)) هذا هو تعريف الشرك‪ ،‬وهو أعظم الذنوب؛ أن جتعل هلل نداً وهو خلقك‪ .‬لو قال قائل‪ :‬ما الشرك؟‬
‫وقلت له هذه الكلمة اليت قاهلا نبيك عليه الصالة والسالم‪« :‬أن جتعل هلل نداً وهو خلقك»‪ ،‬ضم إليها احلديث‬
‫اآلخر‪(( :‬أال أنبئكم أبكرب الكبائر؟ قلنا‪ :‬بلى اي رسول هللا‪ ،‬قال‪ :‬اإلشراك ابهلل))‪ ،‬ما هو اإلشراك ابهلل؟ يفسره‬
‫احلديث اآلخر ((أن جتعل هلل نداً وهو خلقك))‪ .‬فالشرك‪ :‬اختاذ األنداد؛ أن جيعل مع هللا ند يف حقوقه سبحانه‪،‬‬
‫والعبادة حق هلل ((أتدري ما حق هللا على العباد؟)) مث قال‪(( :‬أن يعبدوه وال يشركوا به شيئاً)) العبادة حق هلل‬
‫وحده سبحانه وتعاىل‪ .‬فهنا فسر رمحه هللا الشرك هبذا‪ ،‬قال‪(( :‬هو دعوة غري هللا معه))‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫وأصل هذه الكلمة «الشرك»‪ :‬التسوية‪ .‬واملعىن هنا‪ :‬تسوية غري هللا ابهلل يف شيء من حقوقه أو شيء من‬
‫خصائصه‪ ،‬وهلذا املشركون إذا دخلوا يوم القيامة انر جهنم ماذا يقولون؟ ﴿ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ‬
‫هكذا يقول املشركون إذا دخلوا النار يوم القيامة‪ ،‬يقولون‪﴿ :‬ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ‬ ‫ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾‬
‫[الشعراء‪]80-79:‬‬

‫ﮡ ﮢ ﮣ﴾ حيلفون ابهلل أهنم كانوا يف ضالل‪ ،‬ما الضالل الذي كانوا فيه؟ قالوا‪﴿ :‬ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ‬
‫ﮨ﴾ الشرك‪ :‬التسوية؛ أن يسوى غري هللا ابهلل يف شيء من حقوق هللا أو خصائصه سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫والدعاء أعظم أنواع العبادة وأجلها‪ ،‬وهلذا قال نبينا عليه الصالة والسالم‪(( :‬الدعاء هو العبادة)) وتال قول‬
‫هللا تعاىل‪﴿ :‬ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‬
‫ﭫ﴾[غافر‪ ]60:‬مسى الدعاء عبادةً‪ ،‬فالدعاء أعظم أنواع العبادة وأجلها‪ .‬فمن جعل مع هللا شريكاً يف الدعاء‪ ،‬كأن‬
‫يدعو ميتاً أو غائباً أو حجراً أو شجراً أو غري ذلك أبي حاجة أو مطلب‪ ،‬مثل أن يقول‪" :‬مدد" أو أن يقول‪:‬‬
‫"أدركين‪ ،‬أو‪ :‬أسألك الشفاء‪ ،‬أو‪ :‬احلقين‪ ،‬أو أان مريض فعافين‪ ،‬أو أان ضال فاهدين" أو حنو ذلك فقد أشرك ابهلل‬
‫وقال جل وعال‪:‬‬ ‫العظيم‪ ،‬قال هللا تعاىل‪﴿ :‬ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ﴾‬
‫[فاطر‪]13:‬‬

‫وقال جل وعال‪﴿ :‬ﯗ ﯘ ﯙ‬ ‫﴿ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾‬


‫[األحقاف‪]5:‬‬

‫ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ﴾[اإلسراء‪ ،]56:‬ويقول جل وعال‪﴿ :‬ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ‬


‫ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ‬
‫ﰊ﴾[سبأ‪ .]22:‬واآلايت اليت فيها األمر إبخالص الدعاء هلل تبارك وتعاىل يف القرآن كثرية‪ ،‬ويف السنة النبوية كثرية‬
‫جداً؛ األمر إبخالص الدعاء هلل؛ فال يدعى إال هللا‪ ،‬وال يسأل إال هللا‪ ،‬قال النيب ‪ ‬البن عباس رضي هللا عنهما‪:‬‬
‫((إذا سألت فاسأل هللا‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن ابهلل‪ ،‬واعلم أن األمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك‬
‫إال بشيء كتبه هللا لك‪ ،‬وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء مل يضروك إال بشيء كتبه هللا عليك‪ ،‬رفعت األقالم‬
‫وجفت الصحف))‪ ،‬األمر كله بيد هللا‪ ،‬قال جل وعال لنبيه‪﴿ :‬ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾[آل عمران‪ ،]128:‬وقال النيب ‪‬‬
‫مقرراً هذه احلقيقة‪(( :‬اي فاطمة بنت حممد سليين من مايل ما شئت ال أغين عنك من هللا شيئاً))‪ ،‬وقال هللا له يف‬
‫القرآن‪﴿ :‬ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ﴾ أي على هدايتهم ﴿ﭶ ﭷ﴾[يوسف‪ ،]103:‬حرص على هداية عمه‬
‫ومل يهتد‪ ،‬اهلداية بيد هللا‪ ،‬وأنزل هللا قوله‪﴿ :‬ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ﴾[القصص‪.]56:‬‬
‫فالشفاء بيد هللا ليس بيد أحد‪ ،‬نبينا عليه الصالة والسالم كان إذا طلب الشفاء لنفسه أو لغريه قال‪:‬‬
‫((اللهم رب الناس‪ ،‬أذهب الباس))‪ ،‬ويف رواية ((اللهم رب الناس‪ ،‬مذهب البأس‪ ،‬اشف أنت الشايف‪ ،‬ال شفاء‬
‫إال شفاؤك‪ ،‬شفاء ال يغادر سقماً))‪ ،‬فكيف إبنسان يذهب إىل قرب أو قبة أو ضريح يطلب من امليت أن يشفيه؟!‬

‫‪11‬‬
‫أو يطلب من امليت أن يعطيه ولداً؟ أو يطلب من امليت أن يهديه؟ هذا امليت لو كان حياً مل ميلك لنفسه هو‬
‫شفاءً‪ ،‬ومل ميلك لنفسه هو ولداً‪ ،‬ومل ميلك لنفسه هدايةً؛ هذا كله بيد هللا جل وعال فكيف يطلب من غريه؟!‬
‫كيف يلتجأ فيه إىل غريه؟! أييت أشخاص إىل قبور أو قباب أو أضرحة أو حنو ذلك مث يقف أمامها منكسراً‪،‬‬
‫خاضعاً‪ ،‬ذليالً‪ ،‬طامعاً‪ ،‬راجياً‪ ،‬ابكياً "احلقين‪ ..‬أدركين‪ ..‬أعطين‪ ..‬أريد كذا‪ ..‬أريد كذا‪ ..‬أريد كذا" اي سبحان هللا!‬
‫ال إله إال هللا‪ ،‬وهللا يقول‪﴿ :‬ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ‬
‫ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾[الزمر‪ ،]67:‬أين عقول هؤالء عن التوحيد الذي خلقوا ألجله‪ ،‬واإلخالص‬
‫الذي أوجدهم هللا لتحقيقه؟ يذهبون هذه املذاهب‪ ،‬وينحرفون هذه االحنرافات‪ ،‬ويقعون يف الشرك العظيم‪.‬‬
‫والشرك أظلم الظلم‪ ،‬وأكرب اإلمث‪ ،‬وعرفنا ذلك يف احلديث‪(( :‬أال أنبئكم أبكرب الكبائر؟ قلنا‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪:‬‬
‫اإلشراك ابهلل))‪ ،‬فالشرك أظلم الظلم على اإلطالق‪ ،‬وأبطل الباطل‪ ،‬وهو هضم للربوبية‪ ،‬وتنقص لأللوهية‪ ،‬وسوء‬
‫ظن برب العاملني‪ ،‬املشرك سيء الظن بربه‪ ،‬وإال لو كان حسن الظن ابهلل ملا جلأ إال إليه وحده‪ ،‬وملا دعا غريه‪،‬‬
‫فاملشرك سيء الظن ﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ﴾[الفتح‪ ]6:‬املشرك سيء الظن ابهلل‪ ،‬لو كان حسن‬
‫الظن ابهلل تبارك وتعاىل ملا جلأ إال إىل هللا‪ ،‬وملا توكل إال على هللا‪ ،‬وملا صرف ذله وانكساره وخضوعه إال هلل‬
‫سبحانه وتعاىل؛ ألن هذا حقه سبحانه‪ ،‬فاملشرك هضم ذلك كله‪ ،‬وتلوث هبذا التلوث الذي هو أشر وأشد ما‬
‫يكون ضرراً على اإلنسان‪.‬‬
‫الشرك وهو دعوةُ غريهِ معهُ))؛ دعوة غريه أايً كان املدعو‪ ،‬ألان عرفنا أن العبادة حق هلل وحده‪،‬‬
‫قال‪ُ (( :‬‬
‫فمقام اإلنسان والشخص ومكانته عند هللا ليست مسوغاً أن جيعل شريكاً هلل‪ ،‬الشخص إذا كان له مكانة عند هللا‬
‫مكانته حتفظ‪ ،‬ويقر هبا ويعرتف‪ ،‬لكن مكانته عند هللا ليست مسوغاً أن جيعل شريكاً مع هللا جل وعال‪ ،‬يدعى‪،‬‬
‫ويستغاث به‪ ،‬ويلتجأ إليه‪ ،‬وتصرف له أنواع العبادة؛ ألن العبادة حق هلل تبارك وتعاىل‪ ،‬ال جيوز أن جيعل مع هللا‬
‫فيها شريك أايً كان‪ ،‬ال ملك مقرب وال نيب مرسل‪ ،‬فضالً عن غريمها‪ ،‬كما أييت دليل ذلك يف اآلية اليت ساقها‬
‫املصنف‪ ،‬وهي قول هللا تعاىل‪﴿ :‬ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾‪.‬‬
‫هذه اآلية مجعت دالئل عديدة ملا سبق ذكره عند املصنف‪ ،‬وليكن حاضراً يف ذهنك األمور العديدة اليت‬
‫قررها‪:‬‬
‫قرر رمحه هللا أن التوحيد أعظم ما أمر هللا به‪ ،‬وأنه إفراد هللا ابلعبادة‪ ،‬وأن الشرك أعظم شيء هنى هللا عنه؛‬
‫وأنه دعوة غري هللا معه‪ .‬وهذا كله اجتمعت الداللة عليه يف هذه اآلية الكرمية ﴿ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾؛‬
‫هذه اآلية جاءت يف سورة النساء‪ ،‬وتعرف عند بعض أهل العلم آبية احلقوق العشرة‪ ،‬ألن هللا سبحانه وتعاىل ذكر‬
‫فيها عشرة حقوق‪ ،‬قال جل وعال‪﴿ :‬ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬

‫‪12‬‬
‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ﴾‬
‫[النساء‪]36:‬‬

‫كم هذه؟ عشرة‪ ،‬عشرة حقوق ذكرها هللا سبحانه وتعاىل يف هذه اآلية مب بدأها؟ بدأها أبعظم احلقوق وأمهها‬
‫وأكربها على اإلطالق‪ ،‬وهو قوله‪﴿ :‬ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾‪.‬‬
‫وهلذا ملا تتبع القرآن يف آايت األوامر والنواهي‪ ،‬وأييت يف القرآن يف مواضع عديدة ذكر األوامر والنواهي‬
‫متوالية يف موضع واحد‪ ،‬جتدها يف مجيع املواضع مبدوءة مباذا؟ مبدوءة هبذا األمر العظيم‪ .‬مثلها متاماً قول هللا‬
‫سبحانه يف سورة اإلسراء قال‪﴿ :‬ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ‬
‫مث ذكر حق القرابة‪ ،‬وهنى عن التبذير‪ ،‬هنى عن الزان‪ ،‬هنى عن القتل‪ ،‬هنى عن‬ ‫ﮜ ﮝ ﮞﮟ﴾‬
‫[اإلسراء‪]23-22:‬‬

‫أشياء كثرية‪ ،‬لكنه صدر هذه األوامر والنواهي ابلنهي عن الشرك واألمر ابلتوحيد‪ .‬ومثلها أيضاً قول هللا سبحانه‬
‫وتعاىل‪﴿ :‬ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ﴾[األنعام‪ .]151:‬أيضاً مثلها‬
‫قول هللا تعاىل يف صفات عباد الرمحن قال‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ‬
‫ﭟ ﭠ ﭡﭢ﴾[الفرقان‪ .]68:‬فرتى هذا يف آي القرآن عندما تذكر األوامر والنواهي تبدأ ابألمر ابلتوحيد الذي هو‬
‫أعظم األوامر‪ ،‬وابلنهي عن الشرك الذي هو أخطر النواهي‪.‬‬
‫وقوله‪﴿ :‬ﮖ ﮗ﴾ هذا أمر ابلتوحيد‪ ،‬ومر معنا قول ابن عباس رضي هللا عنهما‪« :‬كل أمر ابلعبادة يف‬
‫القرآن أمر ابلتوحيد»؛ فمعىن قوله‪﴿ :‬ﮖ ﮗ﴾ أي وحدوا هللا‪ ،‬أي أفردوا هللا ابلعبادة‪.‬‬
‫﴿ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾؛ وال ت ْشركوا‪ :‬أي ال تسووا ابهلل غريه‪ .‬الشرك‪ :‬التسوية‪ ،‬والشرك‪ :‬العدل ﴿ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾[األنعام‪ ]1:‬أي يعدلون به غريه‪ ،‬يسوون به غريه‪.‬‬
‫﴿ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾«شْيئاً» جاءت يف هذا السياق نكرةً‪ ،‬والسياق سياق هني فتفيد العموم ﴿ﮘ ﮙ‬
‫ﮚ ﮛ﴾ أي أي شيء‪ .‬مثلها مثل ما مر معنا ﴿ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾[اجلن‪ ]18:‬أي أي أحد‬
‫كان ال ملك مقرب وال نيب مرسل وال غريمها ممن هو دوهنما‪ ،‬فالعبادة حق هلل تبارك وتعاىل‪ ،‬ال جيوز أن جيعل مع‬
‫هللا سبحانه وتعاىل شريك فيها‪.‬‬
‫هذه املسألة اليت تضمنتها هذه الرسالة العظيمة هي يف بيان احلنيفية ملة إبراهيم‪ ،‬وهذه املعاين واملضامني اليت‬
‫مسعتها ‪-‬أيها األخ املوفق ابرك هللا فيك‪ -‬هذه املضامني لتكن منك دوماً حاضرة‪ ،‬يومياً استذكرها‪ ،‬يومياً راجعها‪،‬‬
‫ال تفوت يوماً إال وأنت تراجع هذه احلنيفية‪ ،‬وليكن مراجعتك هلا واستذكارك هلا يف الصباح الباكر‪ ،‬يف أذكار‬
‫الصباح‪ ،‬كما كان نبينا عليه الصالة والسالم يقول يف حديث عبد الرمحن بن أبزى يف املسند ويف غريه بسند‬

‫‪13‬‬
‫اثبت؛ قال كان النيب ‪ ‬إذا أصبح قال‪« :‬أصبحنا على فطرة اإلسالم‪ ،‬وعلى كلمة اإلخالص‪ ،‬وعلى دين نبينا‬
‫حممد ‪ ،‬وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من املشركني»‪.‬‬
‫كل يوم يف الصباح يصبح اإلنسان ويبدأ يومه ابستحضار احلنيفية‪ ،‬التوحيد‪ ،‬الفطرة‪ ،‬اإلخالص هلل تبارك‬
‫وتعاىل‪ ،‬ويبدأ يومه يف عهد مع هللا أبن ميضي يومه ابلتوحيد‪« ،‬أصبحنا» على ماذا؟ على ماذا أصبحنا؟ جتد بعض‬
‫الناس – نسأل هللا العافية والسالمة – يصبح على ماذا؟ على التوجه للقبور‪ ،‬على التوجه لألضرحة‪ ،‬على التوجه‬
‫هنا وهناك‪ ،‬يسأل ويستغيث‪ ،‬ويهيئ نفسه من الليل ليذهب إىل هنا وهناك‪ ،‬ليسأل غري هللا‪ ،‬ويصرف العبادة‬
‫لغريه‪ ،‬فاملسلم احلق املوحد الصادق كل يوم يصبح على التوحيد‪ ،‬على الفطرة‪ ،‬على اإلخالص‪ ،‬على احلنيفية‪،‬‬
‫على إفراد هللا تبارك وتعاىل وحده ابلعبادة‪.‬‬
‫وهلذا حيفظ هذا الدعاء‪ ،‬وهذا الذكر املبارك‪ ،‬ويردده املسلم‪ ،‬أييت به يف الصباح الباكر‪ ،‬كل يوم يف مجلة‬
‫أذكار الصباح‪.‬‬
‫«أصبحنا على فطرة اإلسالم‪ ،‬وعلى كلمة اإلخالص‪ ،‬وعلى دين نبينا حممد ‪ ،‬وعلى ملة أبينا إبراهيم‬
‫حنيفاً مسلماً‪ ،‬وما كان من املشركني»‪.‬‬
‫هذه إن شاء هللا من الصباح غداً نواظب عليها مجيعنا‪ ،‬وال تكون املواظبة عليها كالم يردد ال ندري ما هو‪،‬‬
‫وإمنا نواظب عليها‪ ،‬ونستحضر هذه املعاين العظيمة اليت هي احلنيفية‪ ،‬اليت هي ملة إبراهيم‪.‬‬
‫وأقول‪ :‬يوم تشرق عليك مشسه وأنت صحيح معاف‪ ،‬تصبح ذلك اليوم إبعالن التوحيد والبقاء على الفطرة‪،‬‬
‫البقاء على احلنيفية‪ ،‬على ملة أبينا إبراهيم؛ يوم أنعم به وأكرم‪ ،‬يوم مبارك عليك‪ ،‬تصبح وأنت تعلن هذا اإلعالن‪،‬‬
‫وتردد هذا الكالم معلناً بقاءك‪ ،‬يف الناس ويف العاملني من غري ومن بدل تبديالً‪ ،‬ومن تلوث أبنواع من اللواثت‪،‬‬
‫وأنت يكرمك هللا‪ ،‬وينعم عليك‪ ،‬وتصبح هذا الصباح الكرمي‪ ،‬تعلن يف صباحك‪« :‬أصبحنا على فطرة اإلسالم‪،‬‬
‫وعلى كلمة اإلخالص‪ ،‬وعلى دين نبينا حممد ‪ ،‬وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً‪ ،‬وما كان من املشركني»‪،‬‬
‫وتبدأ يومك من صباحه الباكر وأنت على هذه الفطرة‪ ،‬وعلى هذا التوحيد‪ ،‬وعلى هذا الدين القومي‪ ،‬وعلى هذه‬
‫امللة احلنيفية السمحة‪ ،‬ومتضي يومك كذلك يف عهد مع هللا‪ ،‬ويف أمن وأمان وحفظ من هللا ﴿ﭑ ﭒ ﭓ‬
‫ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ﴾[األنعام‪]82:‬؛ أمن واهتداء يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫هبذا انتهت الرسائل الثالث اليت جاءت يف مقدمة األصول الثالثة‪ ،‬واألصول الثالثة اآليت عرضها يظهر ‪-‬‬
‫وهللا تعاىل أعلم ‪ -‬أهنا رسالة مستقلة مفردة‪ ،‬وبعض طالب الشيخ رمحه هللا وتالميذه وضع هذه الرسائل اليت هي‬
‫للشيخ نفسه رمحه هللا‪ ،‬وضعها بني يدي دراسة هذه األصول الثالثة؛ تتميماً للفائدة‪ ،‬وإكماالً للنفع‪ ،‬ومجعاً هلذه‬
‫املسائل العظام يف موضع واحد‪ ،‬وإىل مثل هذا املعىن أشار الشيخ عبد الرمحن بن قاسم رمحه هللا تعاىل يف تعليقه‬
‫على األصول الثالثة‪ ،‬حيث ملا بدأ بشرحها قال‪« :‬وما تقدمها من املسائل – أي يف الرسائل الثالث – فلعل‬
‫‪14‬‬
‫بعض تالميذه قرهنا هبا»‪ ،‬أي بعض تالميذ الشيخ رمحه هللا قرهنا هبا؛ أي ابألصول الثالثة‪ ،‬وذلك تتميماً للفائدة‪،‬‬
‫ومجعاً هلذا اخلري العظيم يف موضع واحد‪ ،‬ليعظم انتفاع طالب العلم هبذا اجملموع املختصر‪ ،‬النافع اجلامع‪.‬‬
‫وهللا تعاىل أعلم‪ ،‬وصلى هللا وسلم على عبد هللا ورسوله نبينا حممد وآله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫الدرس السابع‬
‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والعاقبة للمتقني‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن حممداً‬
‫عبده ورسوله؛ صلى هللا وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أمجعني‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫قال شيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب رمحه هللا تعاىل وغفر له وللشارح والسامعني‪:‬‬
‫اإلنسان معرفتُها؟ ف ُقل‪ :‬مع ِرفةُ ِ‬
‫العبد َربَّهُ‪ ،‬ودينَهُ‪ ،‬ونبيَّهُ‬ ‫ِ‬ ‫جيب على‬ ‫ِ ِ‬
‫ْ‬ ‫ول الثالثةُ اليت ُ‬
‫ُص ُ‬ ‫َك‪َ :‬ما األ ُ‬ ‫يل ل َ‬
‫فَإذَا ق َ‬
‫حمم ًدا ‪.‬‬
‫بنعم ِه‪ ،‬وهو معبودي ليس يل‬ ‫العاملني ِ‬
‫َ‬ ‫مجيع‬
‫ورََّّب َ‬ ‫ريب هللاُ الذي رابين َ‬
‫فقل‪َّ :‬‬
‫ك؟ ْ‬ ‫لك‪َ :‬م ْن َربُّ َ‬‫قيل َ‬
‫فإن َ‬
‫ذلك‬
‫هللا عا َلٌ‪ ،‬وأان واح ٌد من َ‬ ‫كل ما ِسوى ِ‬ ‫والدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ و ُّ‬ ‫معبو ٌد سواهُ‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫العاَِل‪.‬‬
‫ومن آايتِه الليل والنهار والشمس والقمر‪ِ ،‬‬
‫وم ْن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫لك‪ِِ :‬بَ عرفْ َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت ربَّك؟ ف ُقل‪ :‬آبايته وخملوقاته؛ ْ‬ ‫قيل َ‬
‫فإذَا َ‬
‫ىل‪﴿ :‬ﯗ ﯘ ﯙ‬ ‫والدليل قولُه تَ َعا ٰ‬
‫ُ‬ ‫فيهن وما بينهما‪،‬‬
‫وم ْن َّ‬ ‫السبع َ‬
‫ضو َن َّ‬
‫س ْب ُع واأل ََر ُ‬ ‫وات ال َّ‬ ‫خملوقاتِه ٰ‬
‫السم ُ‬
‫ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ‬
‫ﯫ﴾[فصلت‪ ،]37:‬وقولُهُ تعاىل‪﴿ :‬ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ‬
‫ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ‬
‫دليل قولُه تعاىل‪﴿ :‬ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ‬
‫املعبود‪ ،‬وال ُ‬
‫ُ‬ ‫ب هو‬ ‫ﮧ﴾[األعراف‪َّ .]54:‬‬
‫والر ُّ‬
‫ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ‬
‫رِحه هللا تعاىل‪« :‬اخلالق هلٰذه األ ِ‬
‫شياء هو‬ ‫ِ‬ ‫ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ﴾[البقرة‪َ ،]22-21:‬‬
‫ُ‬ ‫ابن كثري َ ُ ُ‬
‫قال ُ‬
‫املستحق للعبادةِ»‪.‬‬
‫ُّ‬
‫***********‬
‫بدأ رمحه هللا ابلكالم على األصول الثالثة العظيمة وهي‪ :‬معرفة العبد ربه ودينه ونبيه حممداً ‪ ،‬وهذه‬
‫األصول ينبغي وجيب على كل مسلم أن يدرك إدراكاً اتماً عظمتها وأمهيتها‪ ،‬وحاجته امللحة إىل معرفتها‪ ،‬وضرورته‬
‫الشديدة إىل الدراية هبا‪ ،‬والعمل هبا وحتقيقها؛ إذ إن سعادة العبد يف دنياه وأخراه وجناته ال تتحقق إال بتحقيق‬
‫هذه األصول الثالثة‪ ،‬وقد صح يف احلديث عن نبينا صلوات هللا وسالمه عليه من حديث الرباء وغريه أن امليت إذا‬

‫‪16‬‬
‫أدخل القرب أاته ملكان‪ ،‬وسأاله عن هذه األصول الثالثة «من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟»‪ ،‬كل من مات‬
‫وأدرج القرب وجهت له هذه األسئلة الثالثة‪ :‬من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟‬
‫وجاء عن نبينا ‪ ‬أنه قال‪(( :‬ذاق طعم اإلميان من رضي ابهلل رابً‪ ،‬وابإلسالم ديناً‪ ،‬ومبحمد ‪ ‬رسوالً))‪،‬‬
‫وطعم اإلميان‪ :‬أي لذة اإلميان وحالوته‪ ،‬فاإلميان له حالوة ال ميكن أن يذوقها القلب إال ابلرضا هبذه األصول‪،‬‬
‫والرضا هبذه األصول الثالثة يكون‪ :‬ابلعلم هبا‪ ،‬وابعتقاد ما دلت عليه‪ ،‬وابلعمل هبا‪ .‬فهذه حقيقة الرضا ابهلل رابً‬
‫وابإلسالم ديناً ومبحمد ‪ ‬رسوالً؛ حقيقة الرضا بذلك أن يتعلم هذه األصول تعلماً صحيحاً وأن يفهمها فهماً‬
‫اعتقادا راسخاً ويؤمن به إمياانً جازماً‪ ،‬وأن يعمل مبوجبات ذلك ومقتضياته؛ فهذه حقيقة‬
‫ً‬ ‫سليماً‪ ،‬وأن يعتقد ذلك‬
‫الرضا ابهلل رابً‪ ،‬وابإلسالم ديناً‪ ،‬ومبحمد ‪ ‬رسوالً‪.‬‬
‫ومن عناية نبينا عليه الصالة والسالم هبذه األصول توجيهه ‪ ‬املسلم عند مساع اآلذان‪ ،‬عندما يقول‬
‫املؤذن‪« :‬أشهد أن ال إله إال هللا‪ ،‬أشهد أن حممداً رسول هللا» يشرع للمسلم أن يقول‪« :‬وأان أشهد أن ال إله إال‬
‫هللا وأن حممداً رسول هللا‪ ،‬رضيت ابهلل رابً‪ ،‬وابإلسالم ديناً‪ ،‬ومبحمد ‪ ‬رسوالً»‪ .‬وورد أيضاً قول ذلك يف أذكار‬
‫الصباح واملساء أن يقول إذا أصبح ثالاثً‪« :‬رضيت ابهلل رابً وابإلسالم ديناً ومبحمد ‪ ‬رسوالً» وثالاثً إذا أمسى‪،‬‬
‫على خالف بني أهل العلم يف حتسني احلديث الذي ورد يف ذلك أو تضعيفه‪.‬‬
‫كل ذلكم يؤكد املكانة العظيمة هلذه األصول الثالثة‪ ،‬ىوحاجة املسلم إليها‪ ،‬واستذكارها‪ ،‬وحتقيق مضامينها‪،‬‬
‫وترسيخ اإلميان هبا‪ ،‬وجتديد ذلك كل يوم؛ يف أذكارك‪ ،‬وعند مساعك لآلذان‪ ،‬وأنت تستحضر هذه األصول الثالثة‬
‫مستذكراً هلا‪ ،‬جمدداً اإلميان هبا‪ ،‬حريصاً على تتميمها وتكميلها؛ كل ذلكم يؤكد على أمهية هذه األصول الثالثة‬
‫وعظم شأهنا وحاجة كل مسلم إىل دراستها ومذاكرهتا‪.‬‬
‫وشيخ اإلسالم رمحه هللا تعاىل أكرمه هللا جل وعال ومن عليه أبن أفرد هذه األصول الثالثة يف رسائل؛كتبها‬
‫بصيغ تناسب طالب العلم‪ ،‬وكتبها أيضاً بصيغة تناسب العوام ‪-‬عوام الناس‪ ،-‬وأيضاً من هللا سبحانه وتعاىل أبن‬
‫نفع هبذه األصول نفعاً عظيماً واعتىن هبا الناس عناية ابلغة؛ تدريساً ودراسة ومذاكرة وحفظاً‪ .‬وعاش على هذه‬
‫األصول أقوام أكرمهم هللا سبحانه وتعاىل وماتوا عليها غري مغريين وال مبدلني‪ ،‬وهذا فضل هللا عز وجل يؤتيه من‬
‫يشاء وهللا ذو الفضل العظيم‪.‬‬
‫فينبغي على كل إنسان أن يغنم حياته يف معرفة هذه األصول‪ ،‬الواجب على كل مسلم أن يتعلمها‪ ،‬وأن‬
‫يعتين بدراسة هذه األصول‪ ،‬وأن يكثر من قراءهتا ومطالعتها ومراجعتها‪ ،‬وأن يسعى يف نشرها بني أهله وأوالده‬
‫وقرابته وجريانه؛ نشراً للخري‪ ،‬وتعميماً للفائدة‪ ،‬فإن الدال على اخلري كفاعله‪(( ،‬ومن دعا إىل هدى كان له من‬
‫األجر مثل أجور من تبعه‪ ،‬ال ينقص ذلك من أجورهم شيئاً))؛ وهلذا من أعظم ما يكون هديةً يقدمها احلاج‬

‫‪17‬‬
‫ألقاربه وزمالئه هذه األصول اليت سيمتحنون عليها عندما يدخلون يف قبورهم‪ ،‬حيث كل واحد منهم يقال له‪:‬‬
‫«من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟»‪.‬‬
‫والشيخ رمحه هللا تعاىل أكرمه هللا ومن عليه أبن مجع خالصات عظيمة وزبد مفيدة تتعلق هبذه األصول‬
‫الثالثة‪ ،‬مجعها من كتاب هللا تبارك وتعاىل‪ .‬والشيخ كما يعلمه كل من اطلع على مؤلفاته ورأى مصنفاته هذا دأبه؛‬
‫يذكر املسألة مضموماً إليها دليلها "يشرع كذا والدليل‪ :‬قال هللا تعاىل كذا"‪ ،‬فيذكر املسألة مضموماً إليها دليها من‬
‫كتاب هللا أو سنة النيب الكرمي عليه الصالة والسالم‪ ،‬وهلذا هذا الكتاب «األصول الثالثة» هو عبارة عن مسائل‬
‫عظيمة ومهمة للغاية يف هذه األصول الثالثة‪ ،‬مضموماً إىل كل مسألة دليلها من كتاب هللا تبارك وتعاىل أو سنة‬
‫النيب الكرمي عليه الصالة والسالم؛ وهلذا أقول‪ :‬إن هذه األصول الثالثة خري زاد ليوم املعاد‪ ،‬وجدير بكل مسلم أن‬
‫تكون عنايته هبذه األصول واهتمامه هبا أعظم من اهتمامه أبي أمر آخر؛ ألهنا أساس السعادة‪ ،‬وسبيل الفوز‬
‫والفالح يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫مث إن الشيخ رمحه هللا ملا أفرد هذه األصول الثالثة ابلتأليف حرص أن يكتبها رمحه هللا على صيغة سؤال‬
‫وجواب‪ ،‬تيسرياً للفائدة‪ ،‬وتقريباً للمنفعة‪ ،‬جعلها على صيغة سؤال وجواب؛ إذا قيل لك كذا فقل كذا‪ ,‬وإذا قيل‬
‫لك كذا فقل كذا‪..‬إىل آخر الرسالة‪ .‬فكتبها على صيغة السؤال واجلواب ألن هذه الصيغة من الصيغ البليغة القوية‬
‫يف متكني الفائدة لدى املتلقي‪ ،‬وكثرياً ما أتيت هذه الصيغة يف أحاديث النيب عليه الصالة والسالم؛ مثل قول النيب‬
‫‪ ‬ملعاذ رضي هللا عنه‪(( :‬أتدري ما حق هللا على العباد وما حق العباد على هللا؟))‪ ،‬ومثل قوله‪(( :‬أال أنبئكم‬
‫أبكرب الكبائر؟))‪ ،‬وهلذا نظائر كثرية يف أحاديثه عليه الصالة والسالم؛ يطرح سؤاالً وجييب عليه‪ ،‬ويطرح سؤاالً‬
‫آخر وجييب عليه؛ فهذا يكون أبلغ‪ ،‬ومن ذلكم قول هللا سبحانه وتعاىل يف آايت عديدة يف القرآن‪﴿ :‬ﮠ‬
‫ﮡ ﮢﮣ﴾[البقرة‪﴿ ،]222:‬ﮭﮮ ﮯ ﮰﮱ﴾[البقرة‪﴿ ،]189:‬ﭕ ﭖ ﭗﭘ﴾[البقرة‪ ]220:‬وأييت البيان‪.‬‬
‫فالشاهد أن الشيخ رمحه هللا تعاىل حرص على كتابة هذه األصول الثالثة بصيغة السؤال واجلواب‪ ،‬وملا كتبها‬
‫يف رسالة أخرى غري هذه الرسالة‪ ،‬ملا كتبها للعوام أيضاً كتبها بصيغة سؤال وجواب‪ ،‬واختصر فيها املعلومات‪،‬‬
‫وصاغها أبسلوب قريب من أساليب العامة يف احلديث واللهجة؛ كل ذلكم من حرصه رمحه هللا تعاىل‪ .‬واليت كتبت‬
‫للعوام مشهورة بـ«األصول الثالثة»‪ ،‬وهذه مشهورة بـ«ثالثة األصول»؛ تفريقاً بني الرسالتني‪.‬‬

‫ِ‬
‫اإلنسان معرفتُها؟))؛ قوله «اليت‬ ‫جيب على‬ ‫ِ ِ‬
‫ول الثالثةُ اليت ُ‬‫ُص ُ‬
‫ك‪َ :‬ما األ ُ‬
‫يل لَ َ‬
‫قال رمحه هللا تعاىل‪(( :‬فَإذَا ق َ‬
‫جيب على اإلنسان» أي على كل مكلف‪ ،‬صغري أو كبري‪ ،‬ذكر أو أنثى‪ .‬قوله‪« :‬معرفتها» أي‪ :‬معرفتها‪ ،‬واعتقاد‬
‫ما دلت عليه‪ ،‬والعمل هبا‪ .‬املراد بقوله «معرفتها»‪ :‬أي العلم هبا‪ ،‬واعتقاد ذلك‪ ،‬والعمل به‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫((ف ُقل‪ :‬مع ِرفةُ ِ‬
‫العبد َربَّهُ‪ ،‬ودينَهُ‪ ،‬ونبيَّهُ حمم ًدا ‪))‬؛ وهنا بدأ كتابه «الثالثة أصول» بذكر األصول الثالثة‬ ‫ْ‬
‫جمملة‪ ،‬مث شرع بعد ذلك يف تفصيلها أصالً أصالً‪ ،‬وكل أصل يذكر مجلةً من التفاصيل املتعلقة به‪ ،‬مع شيء من‬
‫الدالئل من كتاب هللا أو سنة رسول هللا ‪.‬‬
‫قال‪(( :‬ف ُقل‪ :‬مع ِرفةُ ِ‬
‫العبد َربَّهُ‪ ،‬ودينَهُ‪ ،‬ونبيَّهُ حمم ًدا ‪))‬؛ قال الشيخ عبد الرمحن بن قاسم‪« :‬ذكر املصنف‬ ‫ْ‬
‫رمحه هللا هذه األصول الثالثة جمملةً‪ ،‬مث ذكرها بعد مفصلة أصالً أصالً‪ ،‬تتميماً للفائدة‪ ،‬وتنشيطاً للقارئ؛ فإنه إذا‬
‫عرفها جمملة‪ ،‬وعرف ألفاظها وضبطها‪ ،‬بقي متشوقاً إىل معرفة معانيها‪ ،‬وهي املقصود هبذه النبذة»‪.‬‬
‫ك؟))؛ هنا شرع يف التفصيل يف بيان األصل األول من األصول‬ ‫لك‪َ :‬م ْن َربُّ َ‬
‫قيل َ‬
‫قال رمحه هللا‪(( :‬فإذا َ‬
‫الثالثة‪ ،‬وهو معرفة العبد ربه؛ إذا قيل لك من ربك؟ ماذا تقول؟ إذا قيل لك من ربك؟ أي من خالقك؟ من‬
‫رازقك؟ من املنعم عليك؟ من املتفضل عليك؟ من الرب الذي تعبده وختضع له‪ ،‬وتسجد له وتركع‪،‬وتتقرب إليه‬
‫أبنواع القرابت‪ ،‬وتصرف له أنواع الطاعات والعبادات‪ ،‬وختلص له دينك؟ من هو هذا الرب؟‬
‫بنعم ِه‪ ،‬وهو معبودي ليس يل‬ ‫ني ِ‬ ‫مجيع العامل َ‬
‫ورََّّب َ‬
‫ريب هللاُ الذي رابين َ‬
‫فقل‪َّ :‬‬‫ك؟ ْ‬ ‫لك‪َ :‬م ْن َربُّ َ‬
‫قيل َ‬
‫((إذا َ‬
‫معبو ٌد سواهُ))؛ هذا هو جواب هذا السؤال «من ربك؟»‪ ،‬من ربك الذي خلقك ورزقك‪ ،‬وتفضل عليك أبنواع‬
‫قل‪ :‬ريب هللا الذي رابين ورَّب مجيع العاملني بنعمه‪.‬‬
‫النعم‪ ،‬وتقصده أبنواع العبادة‪ ،‬وختلص له الدين؟ من هو؟ ْ‬
‫ريب))؛ الرب معناه‪ :‬امللك اخلالق الرازق املتصرف السيد‪ ،‬الذي له التدبري‪ ،‬ال شريك له يف ذلك‪.‬‬
‫قل‪َّ :‬‬
‫(( ْ‬
‫قل‪ :‬ريب هللا))؛ و«هللا» هذا اسم علم على هللا جل وعال‪ ،‬وهو دال على ألوهيته وعبوديته سبحانه؛ أنه‬ ‫(( ْ‬
‫ذو األلوهية والعبودية على خلقه أمجعني‪ .‬دال على ألوهيته؛ أي على كماله وجالله وعظمته‪ ،‬وأنه سبحانه له‬
‫األمساء احلسىن والصفات العال‪ ،‬ودال على أنه ذو العبودية على خلقه أمجعني؛ أي جيب عليهم أمجعني أن يذلوا له‬
‫وحده‪ ،‬وأن خيضعوا له وحده‪ ،‬وأن يصرفوا له وحده مجيع أنواع العبادة دون سواه‪.‬‬
‫ريب هللاُ الذي رابين)) وهذا من معاين الربوبية‪ ،‬من معاين الربوبية الرتبية‪ ،‬والرتبية هي عامة‬
‫قل‪َّ :‬‬
‫قال‪ْ (( :‬‬
‫وخاصة‪.‬‬
‫عامة جلميع املخلوقات؛ ابإلنعام وابلصحة وابلطعام وابلشراب وابلغذاء وغري ذلك‪ ،‬فاهلل جل‬ ‫❖‬
‫وعال رب العاملني‪ ،‬فكل ما يكون يف املخلوقات من إنعام وآالء وعطااي ومنن إىل غري ذلك‪ ،‬كله من هللا سبحانه‬
‫وتعاىل‪ ،‬فهو رب العاملني‪ ،‬رَّب مجيع العاملني بنعمه ﴿ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ﴾[النحل‪﴿ ،]53:‬ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ‬
‫ﭜﭝ﴾[النحل‪.]18:‬‬
‫وتربية خاصة؛ وهي خاصة أبنبيائه وأوليائه وعباده الصاحلني‪ ،‬أبن رابهم على اإلميان‪ ،‬ووفقهم هلذا‬ ‫❖‬
‫الدين‪ ،‬وهداهم لصراطه املستقيم‪ ،‬فهذه منة هللا عليهم ﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬

‫‪19‬‬
‫ﭰ ﭱ ﭲﭳ﴾[النور‪ ،]21:‬وقال جل وعال‪﴿ :‬ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ‬
‫ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ﴾[احلجرات‪ ،]8-7:‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ‬
‫ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ﴾[احلجرات‪ .]17:‬فإذاً التوفيق لإلميان‪ ،‬واهلداية‬
‫لإلسالم‪ ،‬واإلعانة على طاعة هللا تبارك وتعاىل‪ ،‬والسري على صراطه املستقيم‪ ،‬هذه تربية خاصة يتفضل هللا سبحانه‬
‫وتعاىل هبا على من شاء من عباده‪ ،‬والفضل بيد هللا يؤتيه من يشاء وهللا ذو الفضل العظيم‪.‬‬
‫بنعم ِه)) املراد ابلربوبية هنا العامة‪ ،‬ألنه قال‪« :‬مجيع العاملني»‪،‬‬
‫العاملني ِ‬
‫َ‬ ‫مجيع‬
‫ورََّّب َ‬
‫وقوله هنا‪(( :‬الذي رابين َ‬
‫أما الرتبية اخلاصة ليست جلميع العاملني‪ ،‬الرتبية اخلاصة على اإلميان والطاعة والتوحيد واإلخالص هلل تبارك وتعاىل‪،‬‬
‫هذه الرتبية على من خيتصهم جل وعال بكرامته‪ ،‬وجيتبيهم لصراطه املستقيم‪ ،‬ويتفضل عليهم ابهلداية لدينه القومي‪.‬‬
‫بنعم ِه))؛ أي بنعمه وآالئه ومننه الظاهرة والباطنة‪ ،‬وكل نعمة ابلعباد‬
‫العاملني ِ‬
‫َ‬ ‫مجيع‬
‫ورََّّب َ‬
‫قال‪(( :‬الذي رابين َ‬
‫فهي من هللا؛ فهو املان واملنعم واملتفضل ال شريك له‪ ،‬الفضل فضل هللا‪ ،‬واإلنعام إنعامه‪ ،‬واألمر بيده تبارك‬
‫وتعاىل؛ خيفض ويرفع‪ ،‬ويعطي ومينع‪ ،‬ويقبض ويبسط‪ ،‬وحييي ومييت‪ ،‬ويعز ويذل‪ ،‬يتصرف يف ملكه كيف يشاء‪،‬‬
‫ويقضي فيه مبا يريد‪ ،‬ال معقب حلكمه وال راد لقضائه‪ ،‬ما شاء كان‪ ،‬وما مل يشأ مل يكن‪ ،‬وال حول وال قوة إال ابهلل‬
‫العلي العظيم‪.‬‬
‫قال‪(( :‬وهو معبودي))؛ أي هذا الرب العظيم الذي رابين ورَّب مجيع العاملني بنعمته هو معبودي‪ ،‬أي هو‬
‫الذي أقصده وحده بعباديت؛ ذيل وخضوعي ورجائي ورغيب ورهيب ودعائي وذحبي ونذري وصاليت ونسكي وغري‬
‫ذلك من أنواع العبادة‪ ،‬كل ذلكم أخصه جل وعال به‪ ،‬وال أجعل معه شريكاً يف ذلك؛ ألنه وحده الذي خلقين‪،‬‬
‫ال شريك له يف اخللق‪ ،‬وهو وحده جل وعال الذي رابين ورَّب مجيع العاملني بنعمه ((فهو معبودي ليس يل معبود‬
‫سواه)) ال أعبد إال إايه‪ ،‬كما أنه سبحانه وتعاىل تفرد ابخللق والرزق واإلنعام وحده‪ ،‬فأان أفرده وحده ابلعبادة‪ ،‬وال‬
‫أصرف شيئاً من العبادة إال له‪(( .‬ليس يل معبو ٌد سواهُ)) أايً كان‪ ،‬سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً أو غري ذلك‬
‫(ليس يل معبود سواه)؛ أي سوى هللا‪ ،‬ال أدعو إال هللا‪ ،‬وال أذبح إال هلل‪ ،‬وال أنذر إال هلل‪ ،‬وال أصلي إال هلل‪ ،‬وال‬
‫أصرف شيئاً من العبادة إال له ﴿ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ﴾[األنعام‪.]163-162:‬‬
‫قال‪(( :‬وهو معبودي ليس يل معبو ٌد سواهُ)) ما الدليل على ذلك؟ األدلة على ذلك كثرية جداً‪ ،‬لكن‬
‫الشيخ رمحه هللا يف هذه الرسالة يذكر املسألة ودليالً واحداً عليها‪.‬‬
‫ذلك‬ ‫كل من ِسوى ِ‬
‫هللا عا َلٌ وأان واح ٌد من َ‬ ‫والدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ و ُّ‬ ‫قال‪(( :‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫العاَِل)) هذا هو الدليل‪ ،‬الدليل‪﴿ :‬ﭖ﴾؛ واحلمد‪ :‬هو الثناء على هللا سبحانه وتعاىل مع حبه سبحانه‪ ،‬محداً له‬
‫على نعمائه وفضله وعطائه‪ ،‬ومحداً له على أمسائه احلسىن وصفاته العليا وأفعاله العظيمة سبحانه وتعاىل‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﭖ﴾«هلل» عرفنا معىن هذا االسم وداللته؛ قد قال ابن عباس رضي هللا عنهما‪« :‬هللا‪ :‬أي ذو‬
‫األلوهية والعبودية على خلقه أمجعني»‪.‬‬
‫﴿ﭗ ﭘ ﭙ﴾ عرفنا يف كالم الشيخ قال‪(( :‬وكل من سوى هللا عامل))؛ ﴿ﭗ ﭘ ﭙ﴾؛‬
‫العامل‪ :‬من سوى هللا‪ ،‬وهللا رب العامل كله‪ ،‬ومعىن كونه جل وعال رب العاملني‪ :‬أي أنه مالكهم ﴿ﮇ ﮈ ﮉ‬
‫ﮊ﴾[آل عمران‪ ،]26:‬أيضاً معناه أنه خالقهم ﴿ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ﴾[فاطر‪ ،]3:‬معىن ذلك أنه تبارك وتعاىل‬
‫سيدهم وموالهم املتصرف فيهم؛ خفضاً ورفعاً‪ ،‬حياة ومواتً‪ ،‬عزاً وذالً‪ ،‬ليس ألحد غري هللا تبارك وتعاىل ذلك‪ ،‬هو‬
‫وحده املتصرف يف هذا الكون‪ ،‬ال شريك له‪ ،‬هو النافع الضار‪ ،‬هو املعطي املانع‪ ،‬هو القابض الباسط‪ ،‬هو املعز‬
‫املذل‪ ،‬هو كما قال‪﴿ :‬ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ﴾[النجم‪ ،]44-43:‬هو املتصرف يف هذا العامل‬
‫كله‪ ،‬ال شريك له يف شيء من ذلك‪.‬‬
‫﴿ﭗ ﭘ ﭙ﴾ أي مالكهم‪﴿ ،‬ﭗ ﭘ ﭙ﴾ أي خالقهم وموجدهم من العدم‪﴿ ،‬ﭗ ﭘ‬
‫ﭙ﴾ أي املتصرف فيهم واملدبر لشؤوهنم‪ ،‬واملخلوقات كلها طوع تصريفه ﴿ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ‬
‫ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾[يس‪ ،]82:‬وإذا حكم بشيء وقضى بشيء كان‪ ،‬ال معقب حلكمه وال راد لقضائه‪ ،‬امللك‬
‫ملكه سبحانه وتعاىل‪ ،‬واخللق خلقه‪ ،‬والعبيد عبيده‪ ،‬ونواصي العباد بيده جل وعز ﴿ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾‬
‫[الرمحن‪]29:‬‬

‫يف ملكه سبحانه وتعاىل‪ ،‬كل يوم هو يف شأن‪ ،‬حييي ومييت‪ ،‬يعزو يذل‪ ،‬يعطي ومينع‪ ،‬خيفض ويرفع‪ ،‬األمر هلل‬
‫سبحانه وتعاىل أوالً وآخراً‪ ،‬ظاهراً وابطناً‪ ،‬وليس ألحد من األمر شيء‪ ،‬ويف القرآن قال هللا سبحانه لنبيه حممد‬
‫‪ ،‬سيد ولد آدم‪﴿ :‬ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾[آل عمران‪ ]128:‬األمر هلل‪ ،‬وامللك هلل‪ ،‬واخللق تصريفهم بيد هللا جل وعال‪.‬‬
‫﴿ﭗ ﭘ ﭙ﴾ وهنا أيضاً وأنت تقرأ هذه اآلية؛ وهي أول آية تواجهك يف القرآن بعد البسملة‪ ،‬وهي‬
‫دعاء أهل اجلنة إذا دخلوا جنات النعيم ‪-‬نسأل هللا عز وجل أن يكرمنا أمجعني بذلك‪﴿ -‬ﭹ ﭺ ﭻ‬
‫ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾[يونس‪ ،]10:‬فأنت عندما تقرأ ﴿ﭖ ﭗ‬
‫ﭘ ﭙ﴾ وتتأمل فيها وتتدبر داللتها تعرف نفسك‪ ،‬إذا قرأت ﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ مث تساءلت‬
‫يف ضوء هذه اآلية‪ :‬من أان؟ ماذا أكون؟ ﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ العامل‪ :‬كل من سوى هللا‪ .‬الوجود وجودان‪:‬‬
‫وجود هللا سبحانه وتعاىل‪ ،‬ووجود من سواه‪ ،‬وهو جل وعال وجوده أول بال ابتداء وآخر بال انتهاء‪ ،‬ووجود‬
‫املخلوقات إبجياده سبحانه وتعاىل‪ ،‬العامل كله وجد إبجياد هللا‪ ،‬واإلنسان كان عدم ﴿ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ‬
‫ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾[اإلنسان‪ ،]1:‬خلقه هللا‪ ،‬وجعل له السمع والبصر واحلواس والقوى‪ ،‬ومن عليه ابللباس والغذاء‬
‫والطعام‪ .‬فإذا قرأت ﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ مث يف ضوء ذلك أتملت وقلت‪ :‬من أان؟ ماذا أكون؟ العامل‪ :‬من‬
‫‪21‬‬
‫سوى هللا‪ ،‬وأان واحد من هذا العامل‪ ،‬أان فرد من ماليني وباليني املخلوقات اليت هي خلق هللا جل وعال‪ ،‬ومجيع‬
‫هذه املخلوقات كلها رب العاملني مطلع عليها‪ ،‬وهي خملوقات ابملاليني والباليني‪ ،‬ال حيصي خلق هللا إال هللا جل‬
‫وعال‪ ،‬ال حيصيهم إال الذي خلقهم سبحانه ﴿ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ﴾[اجلن‪ ،]28:‬مجيع هذه املخلوقات من أانس‪،‬‬
‫من هبائم‪ ،‬من حشرات‪ ،‬من غري ذلك‪ ،‬مجيعها رب العاملني يعلم هبا‪ ،‬وحييط هبا‪ ،‬ويرى حركاهتا وسكناهتا‪ ،‬وال‬
‫ختفى عليه منها خافية‪ ،‬وأنت واحد من هذا العامل‪ ،‬خملوق هلل مربوب‪ ،‬أوجدك هللا سبحانه وتعاىل من العدم‪.‬‬
‫مث سبحان هللا عجيب حال بعض الناس! عندما ينسى نفسه‪ ،‬ينسى أنه خلق من نطفة‪ ،‬وينسى أنه حيمل‬
‫دوماً يف بطنه العذرة‪ ،‬وينسى أنه سيكون يوماً يف حفرة أتكله الديدان‪ ،‬ينسى أنه خرج من خمرج البول مرتني؛ من‬
‫أبيه وأمه‪ ،‬ينسى ذلك‪ ،‬مث ميشي على األرض متكرباً متعالياً خمتاالً!! حىت يوجد يف بعض الناس من يقول‪ :‬أان‬
‫ربكم األعلى‪ ،‬ويقول‪ :‬ما علمت لكم من إله غريي‪ ،‬ويقول‪ ،‬ويقول‪ ،‬ويقول‪ ،‬كل هؤالء ما عرفوا أنفسهم‪ ،‬ما عرفوا‬
‫إال الشيطان؛ صاروا عبيداً له‪ ،‬مطيعني له يف كل ما أيمرهم به وما يدعوهم إليه‪ .‬وهلذا حقيقةً ال يعرف نفسه‬
‫حقيقة إال املسلم‪ ،‬الذي يعرف ربه سبحانه وتعاىل الذي أوجده‪ ،‬ويعرف مل أوجده سبحانه وتعاىل‪ ،‬وجياهد نفسه‬
‫ليذل له جل وعال وينكسر بني يديه‪ ،‬وخيضع جلنابه سبحانه؛ يركع له ويسجد‪ ،‬ويناجيه سبحانه‪ ،‬ويبكي بني‬
‫يديه‪ ،‬ويرجو رمحته سبحانه‪ ،‬وخياف عذابه‪ ،‬وجياهد نفسه يف حياته كلها على حتقيق طاعته‪ ،‬والذل والعبودية له‬
‫سبحانه وتعاىل‪ .‬فال يعرف نفسه حقيقة إال املسلم الذي من هللا عليه ابإلسالم‪ ،‬وهداه هلذا الدين العظيم والصراط‬
‫ذلك العاَِل))‪.‬‬ ‫كل ما ِسوى ِ‬
‫هللا عا َلٌ‪ ،‬وأان واح ٌد من َ‬ ‫املستقيم‪ .‬قال‪(( :‬و ُّ‬
‫َ‬

‫ت ربَّك؟))؛ ما اآلايت وما الدالالت وما الرباهني اليت هبا عرفت ربك‬ ‫لك‪ِِ :‬بَ عرفْ َ‬
‫قيل َ‬‫قال‪(( :‬فإ َذا َ‬
‫سبحانه وتعاىل؟ (مب عرفْت ربك؟)‪ ،‬إذا قيل لك‪ :‬مب عرفت ربك؟ ماذا تقول؟‬
‫قال‪(( :‬ف ُقل‪ :‬آبايتِه وخملوقاتِه))؛ اآلايت مجع آية‪ ،‬واآلية‪ :‬العالمة والداللة والربهان واحلجة‪ .‬واملخلوقات‪:‬‬
‫مجع خملوق وهو‪ :‬ما أوجد بعد العدم‪.‬‬
‫((إذا قيل لك‪ :‬مباذا عرفت ربك؟ فقل‪ :‬آبايته وخملوقاته))‪ ،‬وقل يف تتميمك اجلواب على هذا السؤال‪:‬‬
‫فيهن وما‬
‫وم ْن َّ‬ ‫ومن آايتِه الليل والنهار والشمس والقمر‪ِ ،‬‬
‫وم ْن خملوقاتِه ٰ‬ ‫ِ‬
‫السبع َ‬
‫ضو َن َّ‬
‫الس ْب ُع واأل ََر ُ‬
‫وات َّ‬
‫السم ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫(( ْ‬
‫بينهما))؛ أعرايب قيل له هذا السؤال‪ ،‬قيل له‪ :‬مب عرفت ربك؟ قال‪« :‬سبحان هللا! أرض ذات فجاج‪ ،‬وحبار ذات‬
‫أمواج‪ ،‬ومساء ذات أبراج؛ أال يدل ذلك على اللطيف اخلبري؟!»‪ ،‬أي هذه املخلوقات وهذه اآلايت العظيمة‬
‫العجيبة‪ ،‬هذه برهان ودليل على أنه سبحانه وتعاىل الرب املدبر املالك املتصرف‪ ،‬الذي ال شريك له سبحانه‬
‫وتعاىل يف شيء من ذلك (( ِ‬
‫وم ْن آايتِه))‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫مث قال‪ِ (( :‬‬
‫وم ْن خملوقاتِه))‪ ،‬و«م ْن» هنا للتبعيض؛ إشارة إىل بعض اآلايت العظيمة‪ ،‬وإال حقيقة األمر كما‬
‫قال القائل‪ :‬ويف كل شيء له آية تدل على أنه الواحد‬
‫مجيع ما تراه من املخلوقات دليل على خالقها ومبدعها ﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ‬
‫ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ﴾[الطور‪ ،]36-35:‬فاخلالق هلذه ملخلوقات واملوجد هلذه الكائنات هبذا االنتظام البديع‬
‫واخللق العجيب والتصريف والتدبري؛ هذه آايت ابهرات‪ ،‬وحجج ساطعات‪ ،‬ودالئل بينات على أنه تبارك وتعاىل‬
‫الرب الذي ال إله إال هو‪ ،‬وال معبود حبق سواه‪.‬‬
‫والنهار))؛ الليل والنهار آية من آايت هللا العجيبة‪ ،‬حيث إنه سبحانه وتعاىل جعل‬ ‫الليل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫قال‪(( :‬وم ْن آايته ُ‬
‫هذه اآلية العظيمة متر على الناس مبر األايم والليايل؛ ليل وهنار ومشس وقمر‪ ،‬ومتشي ابنتظام ودقة عجيبة كما أمرها‬
‫هللا سبحانه وتعاىل ﴿ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ﴾[يس‪ ]40:‬كل منهما يسري ابنتظام عجيب‪ ،‬ليس أحد منهما يسبق اآلخر‪،‬‬
‫وميشيان ابنتظام عجيب ﴿ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾[األعراف‪ ،]54:‬فهذه من آايت هللا العجيبة؛ تصبح ومتسي وأنت‬
‫ترى هذه اآلية الدالة على كمال اخلالق‪ ،‬وعظمة املبدع سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫والقمر)) كل منهما جيري حبسبان‪ ،‬وأبمر الرمحن سبحانه ﴿ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ‬
‫ُ‬ ‫والشمس‬
‫ُ‬ ‫((‬
‫ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ﴾[يس‪ ،]40:‬هذه آايت من آايت هللا العظيمة‪ ،‬جعلها أمام العباد‬
‫يشاهدوهنا ويروهنا مع تكرر األايم والليايل ﴿ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ‬
‫ﮰ﴾[الفرقان‪.]62:‬‬
‫السبع))؛ هذه خملوقات عجيبة هلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬دالة‬
‫ضو َن َّ‬‫الس ْب ُع واأل ََر ُ‬
‫وات َّ‬
‫السم ُ‬ ‫قال‪ِ (( :‬‬
‫وم ْن خملوقاتِه ٰ‬
‫على كمال ربوبيته وعظمته جل وعال؛ األرضون السبع وما أودع فيها من جبال وأهنار وأشجار وأودية وخملوقات‪،‬‬
‫والسماوات وما جعل فيها من العرب والعظات واآلايت‪.‬‬
‫فيهن وما بينهما))؛ «وما فيهن» أي السماوات واألرضني‪« ،‬وما بينهما» أي ما بني السماء‬‫وما َّ‬
‫قال‪َ (( :‬‬
‫واألرض من هواء وسحاب وحنو ذلك؛ فهذا كله من خلق هللا جل وعال الدال على أنه الرب املعبود حبق‪ ،‬وأنه ال‬
‫معبود حبق سواه‪.‬‬
‫ىل)) هذا الدليل على األول وهو اآلايت ﴿ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫والدليل قولُه تَ َعا ٰ‬
‫ُ‬ ‫قال‪(( :‬‬
‫ﯜﯝ﴾ هذه آايت من آايت هللا سبحانه وتعاىل الدالة على وحدانيته‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ﴾ نعم هذه آية عظيمة تشد القلوب واألبصار‪ ،‬وحركتها عجيبة‪،‬‬
‫وانتظامها عجيب؛ لكن كل ما ترونه يف هذا الكون من أمور عجيبة أو عظيمة أو مجيلة كل ذلكم ال شيء منه‬

‫‪23‬‬
‫يستحق شيء من العبادة‪ ،‬ألهنا كلها خملوقات هلل تبارك وتعاىل‪ ،‬واملخلوق أايً كان ومهما بلغ يف العظمة واحلسن‬
‫واجلمال والقدرة وحنو ذلك ال يستحق من العبادة شيء‪ ،‬العبادة ملن خلقه وأوجده‪ ،‬أما املخلوق ال يستحق من‬
‫العبادة وال شيء يسري‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾؛ وهذه‬
‫قاعدة يستفيدها املسلم يف هذا الباب؛ يعين مهما ترى يف هذه املخلوقات من األشياء العظيمة‪ ،‬إما يف حسنها‬
‫ومجاهلا‪ ،‬أو يف قدرهتا وقوهتا‪ ،‬أو يف مكانتها ومنزلتها‪ ،‬أو حنو ذلك كل ما تراه ال يستحق من العبادة‪ .‬الذي‬
‫يستحق العبادة اخلالق هلذه األشياء‪ ،‬املوجد هلا من العدم‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ فهذه قاعدة وأصل عظيم يف هذا‬
‫الباب؛ أن العبادة ال تكون ألحد أايً كان ومهما كان‪ ،‬إال للخالق العظيم الرب اجلليل‪ ،‬املوجد هلذه الكائنات‪،‬‬
‫املبدع هلذه املخلوقات‪ ،‬الذي ال شريك له يف شيء من ذلك ﴿ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ‬
‫ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾[الزمر‪.]67:‬‬
‫قال‪(( :‬وقولُهُ تعاىل))؛ هذا الدليل الثاين لقوله‪« :‬وم ْن خملوقاته ٰ‬
‫السموات السْبع‪..‬اخل»‪.‬‬
‫قال‪(( :‬وقولُهُ تعاىل‪﴿ :‬ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ‬
‫ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾))؛‬
‫فهذه خملوقات عظيمة وكبرية دالة على أن خالقها ومبدعها هو املستحق للعبادة دون سواه جل وعال‪.‬‬
‫﴿ﮅ ﮆ ﮇ﴾ مث ذكر خملوقاته الدالة عليه؛ ذكر أوالً‪ :‬خلق السماوات واألرض يف ستة أايم‪ ،‬وخلق‬
‫السماوات واألرض هبذه اهليئة العجيبة والصفة العظيمة آية من آايت هللا‪ ،‬الدالة على وحدانيته وفردانيته سبحانه‬
‫وتعاىل‪.‬‬
‫﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾ العرش اجمليد العظيم الكرمي أيضاً هذا من خملوقات هللا العظيمة‪ ،‬والعرش سقف‬
‫املخلوقات وأعالها‪ ،‬وقد وصفه هللا يف القرآن أبنه عرش جميد‪ ،‬وأنه عرش عظيم‪ ،‬وأنه عرش كرمي حلسنه وهبائه‪.‬‬
‫وصفه هللا جل وعالهبذه الصفات‪ ،‬قال نبينا عليه الصالة والسالم‪(( :‬إذا سألتم هللا اجلنة فاسألوه الفردوس األعلى؛‬
‫فإنه أعلى اجلنة ووسط اجلنة وفوقه عرش الرمحن))‪ ،‬فعرش الرمحن جل وعال هو أكرب املخلوقات‪ ،‬وأوسعها‪،‬‬
‫واجمليد معناه‪ :‬الواسع‪ .‬فالعرش أكرب‬ ‫وأعظمها‪ ،‬وهلذا وصفه هللا ابجمليد قال‪﴿ :‬ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ﴾‬
‫[الربوج‪،]15:‬‬

‫املخلوقات وأوسع املخلوقات؛ وهذا من آايت هللا العظيمة‪ ،‬ومن خملوقاته الكبرية الدالة على عظمة اخلالق سبحانه‬
‫وتعاىل‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫وحىت نتفكر قليالً ونتدبر يف هذا األمر نستذكر حديث أيب ذر رضي هللا عنه قال‪ :‬أتيت النيب عليه الصالة‬
‫والسالم وهو جالس يف املسجد احلرام وسألته عن الكرسي؛ قول هللا سبحانه وتعاىل يف آية الكرسي‪﴿ :‬ﯲ‬
‫ﯳ ﯴ ﯵﯶ﴾[البقرة‪ ،]255:‬فقال النيب عليه الصالة والسالم‪(( :‬ما الكرسي يف العرش إال كحلقة ألقيت يف‬
‫فالة)) يعين قطعة من حديد صغرية ألقيت يف صحراء؛ ماذا تكون نسبة احللقة الصغرية من احلديد اليت ألقيت يف‬
‫صحراء واسعة؟! قال‪(( :‬ما الكرسي يف العرش إال كحلقة ألقيت يف فالة‪ ،‬وما السماوات السبع واألرضون السبع‬
‫يف الكرسي إال مثل ذلك)) السماوات السبع واألرضون السبع ابلنسبة للكرسي كحلقة ألقيت يف فالة‪ ،‬والكرسي‬
‫ابلنسبة للعرش كحلقة ألقيت يف فالة‪ ،‬األرض اليت أنت عليها ما نسبتها لعموم األرض؟ وما نسبتها لألرضني‬
‫السبع؟ وما نسبتها للسماوات احمليطة ابألرضني؟ كل هذه نسبتها للكرسي كحلقة حديد صغرية ملقاة يف صحراء‪،‬‬
‫هكذا قال عليه الصالة والسالم‪ ،‬والكرسي نسبته للعرش كحلقة من حديد صغرية ألقيت يف صحراء‪.‬‬
‫هذه آايت عظيمات تدل على هللا سبحانه وتعاىل‪ ،‬وهلذا جاء ذكر الكرسي يف آية الكرسي متهيداً لذكر‬
‫عظمة هللا‪ ،‬ألنه قال‪﴿ :‬ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ﴾‪ ،‬فذكر الكرسي‬
‫متهيداً لذكر عظمته سبحانه‪ .‬الكرسي حميط ابلسماوات واألرضون ﴿ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ﴾‪ ،‬وهذا‬
‫الكرسي العظيم نسبته إىل العرش كحلقة ألقيت يف فالة‪ ،‬والرب جل وعز عظم شأنه وتعاىل جده وال إله غريه‬
‫أخرب عن نفسه يف سبع آايت من القرآن الكرمي أنه استوى على العرش؛ أي عال وارتفع عليه‪ .‬وحنن نؤمن مبا أخرب‬
‫به ربنا عن نفسه ومبا أخرب عنه رسوله عليه الصالة والسالم‪ ،‬ونقول كما قال هللا‪﴿ :‬ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾[األعراف‪،]54:‬‬
‫نقول كما قال هللا‪﴿ :‬ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾[طه‪ .]5:‬ولو قال لنا قائل‪ :‬أين هللا؟ نقول‪﴿ :‬ﮉ ﮊ ﮋ‬
‫ﮌ ﮍ﴾‪ ،‬اجلواب ما هو اي إخوان عندما يسألك سائل ويقول لك‪ :‬أين هللا؟ وتقول ﴿ﮉ ﮊ ﮋ‬
‫ﮌ ﮍ﴾ اجلواب هذا ما هو؟ آية تتلى يف القرآن الكرمي يف سورة طه‪ .‬فإذا قيل لك‪ :‬أين هللا؟ اتل هذه اآلية‪:‬‬
‫﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾؛ أي عال وارتفع جل وعال‪ .‬ودعك من أقاويل املبطلني‪ ،‬وكلمات الضالني‬
‫املنحرفني الزائغني‪ ،‬أجب بكالم هللا وبكالم رسول هللا ‪ ،‬وإايك أن تؤخذ هنا وهناك‪ ،‬بعيداً عن القرآن الكرمي‬
‫وبعيداً عن سنة النيب صلوات هللا وسالمه عليه‪.‬‬
‫﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾ أي عال وارتفع عليه‪ ،‬االستواء معناه يف اللغة‪ :‬العلو واالرتفاع‪﴿ ،‬ﮐ ﮑ ﮒ﴾‬
‫أي عال وارتفع عليه‪ .‬فإذا قال لك قائل‪ :‬كيف استوى على العرش؟ ماذا تقول له؟ هللا جل وعال أخربان يف القرآن‬
‫أنه استوى‪ ،‬ومل خيربان كيف استوى‪ ،‬فالذي أخربان هللا سبحانه وتعاىل به نقوله ونؤمن به ونعتقده ونعلن اعتقادان‬
‫له‪ ،‬والذي مل خيربان هللا سبحانه وتعاىل به ال خنوض فيه وال نتكلم فيه حبرف واحد‪ .‬وهلذا ملا قال رجل لإلمام مالك‬

‫‪25‬‬
‫بن أنس إمام دار اهلجرة رمحه هللا‪ ،‬ملا قال له‪﴿ :‬ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾ كيف استوى؟ غضب رمحه هللا‬
‫غضباً شديداً حىت إن جسمه تصبب عرقاً تعظيماً هلل سبحانه وتعاىل؛ علته الرحضاء؛ أي تصبب عرقاً‪ ،‬وقال‬
‫كلمته العظيمة املشهورة؛ قال‪« :‬االستواء معلوم‪ ،‬والكيف جمهول‪ ،‬واإلميان به واجب‪ ،‬والسؤال عنه بدعة»‪،‬‬
‫«االستواء معلوم» أي معناه معلوم أي‪ :‬عال وارتفع‪« ،‬والكيف جمهول» ألان مل خنرب ابلكيفية‪ ،‬أخربان ابالستواء ومل‬
‫خنرب بكيفيته‪ ،‬فال خنوض يف ذلك؛ وهلذا طريقة السلف يف الصفات هي‪« :‬أمروها كما جاءت بال كيف» يعين ال‬
‫ختض ابلتكييف‪ ،‬التكييف ابطل‪ ،‬التكييف قول على هللا بال علم‪ ،‬وهللا يقول‪﴿ :‬ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ‬
‫ويقول‪( :‬وال تقف ما ليس لك به علم) ﴿ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ‬ ‫ﰄ﴾‬
‫[األعراف‪،]33:‬‬

‫ﰀ﴾[اإلسراء‪.]36:‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾؛ هو جل وعال مستو على عرشه العظيم اجمليد الكرمي‪ ،‬ويدبر خملوقاته‪،‬‬
‫ويتصرف يف الكائنات كيف يشاء‪ ،‬وتنزل تدابريه وأوامره وأحكامه وقضاؤه سبحانه‪ ،‬وال يتخلف شيء مما قضاه‬
‫وقدره جل وعال‪.‬‬
‫وهلذا ينبغي على املؤمن أن يقوي هذه اإلميانيات يف نفسه لتقوى صلته بربه‪ .‬زينب رضي هللا عنها ماذا‬
‫كانت تقول يف قصة زواجها؟ كانت تقول ألزواج النيب عليه الصالة والسالم‪« :‬زوجكن أهاليكن‪ ،‬وزوجين هللا من‬
‫زوجها هللا سبحانه وتعاىل من فوق سبع‬ ‫فوق سبع مساوات»؛ ﴿ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾‬
‫[األحزاب‪]37:‬‬

‫مساوات‪ ،‬فكانت تفخر بذلك؛ فانظر إىل هذا اإلميان ابهلل جل وعال وأنه من فوق سبع مساوات يقضي وحيكم‬
‫ويدبر ويسخر ويعطي ومينع وخيفض ويرفع عز وجل سبحانه‪ .‬وهلذا عندما يكون العبد ساجداً يذكر هذه العقيدة‬
‫العظيمة‪ ،‬ويسبح الرب األعلى يف سجوده قائالً‪« :‬سبحان ريب األعلى»‪ ،‬وأقرب ما يكون العبد من ربه جل وعال‬
‫وهو ساجد‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾«يـ ْغشي اللْيل النـهار»‪ :‬أي يغطي الليل النهار‪« ،‬يطْلبه حثيثًا» أي‬
‫يطلبه سريعاً‪.‬‬
‫﴿ﮘ ﮙ ﮚ﴾ كل هذه املخلوقات ﴿ﮛ ﮜﮝ﴾ أي تسري وتتحرك بتسخريه وتدبريه‬
‫سبحانه وتعاىل‪ ،‬ليس هلا من األمر شيء‪ ،‬األمر ملالكها وخالقها ومسخرها سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫﴿ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ﴾؛ له اخللق وله األمر‪ ،‬أي هو متفرد ابخللق واألمر‪ .‬واخللق عرفناه وهو‪ :‬إجياد هذه‬
‫الكائنات‪ .‬واألمر‪ :‬هو أوامره سبحانه وتعاىل ﴿ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾[يس‪ ،]82:‬وأمره‪:‬‬
‫كلماته سبحانه وتعاىل‪ ،‬وكلماته نوعان‪ :‬كلمات كونية قدرية‪ ،‬وكلمات شرعية دينية‪ .‬فاخللق هلل‪ ،‬واألمر هلل‪،‬‬

‫‪26‬‬
‫وفرق سبحانه وتعاىل بني اخللق واألمر؛ وهذا فيه داللة على أن القرآن وهو من كالم هللا سبحانه وتعاىل‬
‫ليس خملوقاً‪ ،‬ألن هللا فرق بني اخللق وبني األمر جل وعال‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾ تـبارك‪ :‬أي تعاظم وجل وعز شأنه سبحانه وعظم؛‬
‫وهذا ال يطلق إال على هللا‪« ،‬تـبارك» هذه الكلمة ال جيوز أن تطلق إال على هللا‪ ،‬ال جيوز أن يقال يف أي خملوق‬
‫«تبارك»‪ ،‬هذا أمر ال يطلق إال على هللا‪ ،‬ميكن أن يقال‪« :‬مبارك» ﴿ﮒ ﮓ﴾[مرمي‪ ،]31:‬وميكن أن يقال‪:‬‬
‫"ابرك هللا فيك" أو حنو ذلك‪ ،‬أما «تبارك» هذه كلمة ال تطلق إال على هللا سبحانه‪ .‬قال‪﴿ :‬ﮣ ﮤ ﮥ‬
‫ﮦ ﮧ﴾‪.‬‬
‫املعبود))؛ أي الرب الذي خلق هذه املخلوقات‪ ،‬وأوجد هذه الكائنات‪ ،‬وأبدعها‬‫ُ‬ ‫ب هو‬‫والر ُّ‬
‫قال‪َّ (( :‬‬
‫سبحانه وتعاىل‪ ،‬وأوجدها بعد أن مل تكن هو املعبود؛ أي الذي ال معبود حبق سواه‪ ،‬له العبادة وله الذل وله‬
‫اخلضوع كما قال‪﴿ :‬ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾[األنبياء‪ ،]92:‬وقال‪﴿ :‬ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾[البقرة‪.]21:‬‬
‫املعبود)) أي الذي جيب أن تصرف له العبادة وحده دون سواه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ب هو‬
‫والر ُّ‬
‫قال‪َّ (( :‬‬
‫والدليل قولُه تعاىل‪﴿ :‬ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ‬
‫ُ‬ ‫((‬
‫ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ‬
‫ﯠ ﯡ﴾))؛ هااتن اآليتان الكرميتان مها أول آيتني وردات يف القرآن يف ابب األمر والنهي‪ ،‬فأول ما تقرأ يف‬
‫األوامر يف القرآن‪﴿ :‬ﮞ ﮟ﴾‪ ،‬وأول ما تقرأ يف النواهي يف القرآن‪﴿ :‬ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ﴾‪ ،‬فأول أمر يف‬
‫القرآن أمر ابلتوحيد‪ ،‬وأول هني يف القرآن هني عن الشرك والتنديد‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾ فهذا نداء جلميع الناس‬
‫أن يفردوا هللا سبحانه وتعاىل ابلعبادة ﴿ﮞ ﮟ﴾‪ ،‬وعرفنا قول ابن عباس رضي هللا عنهما‪« :‬كل أمر يف‬
‫القرآن ابلعبادة أمر ابلتوحيد»‪﴿ ،‬ﮞ ﮟ﴾ أي أفردوه ابلعبادة‪ ،‬وحدوه سبحانه وتعاىل‬
‫﴿ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾ أي الذي تفرد خبلقكم وخ ْلق من قبلكم‪ ،‬أي كما أنه سبحانه تفرد ابخللق‬
‫للعاملني ال شريك له يف ذلك‪ ،‬فيجب أن يفرد وحده ابلعبادة‪ ،‬ال أن يكون هو اخلالق والعبادة تصرف لغريه‪ ،‬وهذا‬
‫من النبأ العظيم واألمر الغريب يف حال كثري من الناس؛ تفرد رب العاملني خبلقهم ورزقهم والتصرف فيهم‪ ،‬مث‬
‫يفزعون إىل غريه ويلجؤون إىل من سواه!! إذا أراد حاجة ومطلباً ورغبة فزع إىل غري هللا من شجر أو حجر أو‬
‫ميت أو غري ذلك‪ ،‬يفزع إليهم يف حاجاته ورغباته‪ ،‬فهذا من األمر العجيب يف حال بعض الناس‪ ،‬وهللا يقول‪:‬‬
‫﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾ أي أفردوه – جل وعال – ابلعبادة وال جتعلوا معه شريكاً يف ذلك‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫مث ذكر جل وعال من آايته ومن خملوقاته الدالة على وجوب إفراده سبحانه وتعاىل ابلعبادة قال‪﴿ :‬ﮨ‬
‫ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ﴾ أي مفروشة ممتدة‪﴿ ،‬ﮭ ﮮ﴾ قال هللا تعاىل‪﴿ :‬ﯰ ﯱ ﯲ﴾‬
‫[الذارايت‪.]47:‬‬

‫﴿ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ﴾ أي أنزل املطر من السحاب ﴿ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ﴾ أي من أنواع الثمار‬


‫والزروع رزقاً لكم؛ وهذا كله تفرد به رب العاملني‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ﴾ واخلطاب هنا للمشركني الذين جعلوا مع هللا سبحانه‬
‫وتعاىل األنداد والشركاء؛ يعبدوهنم مع هللا‪ ،‬ويدعوهنم مع هللا‪ ،‬ويستغيثون هبم مع هللا‪ ،‬ويلتجئون إليهم مع هللا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ﴾ أي ال جتعلوا هلل شركاء ونظراء ﴿ﯟ ﯠ ﯡ﴾؛ اخلطاب للمشركني‪ ،‬فما معىن‬
‫قول هللا هلم‪﴿ :‬ﯟ﴾ أي أيها املشركون ﴿ﯠ ﯡ﴾؟ ماذا يعلم املشركون؟‬
‫قال ابن عباس رضي هللا عنهما يوضح معىن اآلية‪« :‬أي ال جتعلوا هلل شركاء يف العبادة‪ ،‬وأنتم تعلمون أنه ال‬
‫خالق لكم غري هللا»؛ املشركون يعلمون أنه ال خالق هلم غري هللا‪ ،‬إذا قيل هلم‪ :‬من خلقكم؟ من خلق السماوات؟‬
‫من خلق األرض؟ من خلق اجلبال؟ كل ذلكم يقولون‪ :‬هللا؛ وهلذا يقول رب العاملني‪﴿ :‬ﯛ ﯜ﴾ أي أيها‬
‫املشركون ﴿ﯝ ﯞ﴾ أي هلل شركاء يف العبادة ﴿ﯟ ﯠ ﯡ﴾ أنه ال خالق لكم غري هللا‪ .‬ويف آية أخرى‬
‫قال سبحانه‪﴿ :‬ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾[يوسف‪]106:‬؛ أي وما يؤمن أكثرهم ابهلل رابً خالقاً رازقاً‬
‫منعماً إال وهم مشركون غريه معه يف العبادة؛ يدعون غريه‪ ،‬ويستغيثون بغريه‪ ،‬ويلتجئون لغريه سبحانه وتعاىل‪ .‬قال‪:‬‬
‫﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ﴾‪.‬‬
‫ابن كثري))؛ «ابن كثري» احلافظ اإلمام املفسر صاحب التفسري العظيم املوسوم بـ‪« :‬تفسري القرآن‬ ‫قال ُ‬‫(( َ‬
‫العظيم» وهو من أنفع كتب التفسري وأنفعها وأجودها‪.‬‬
‫قال رمحه هللا تعاىل يف تفسريه هلذه اآلية‪« :‬اخلالق هلٰذه األشياء هو املستحق للعبادة»؛ هذه خالصة بديعة‪،‬‬
‫مستنبطة ومأخوذة من هذه اآلية؛ أي اخلالق هلذه األشياء؛ أي اخلالق لكم وملن قبلكم وللسماء ولألرض‬
‫وللسحاب وللنبات؛ اخلالق هلذه األشياء كلها هو املستحق للعبادة‪ ،‬أي ال أحد يستحق العبادة سواه‪ ،‬الذي‬
‫يستحق العبادة ذالً وخضوعاً وانكساراً ودعاءً ورجاء هو اخلالق هلذه األشياء‪ ،‬أما من سوى هللا من املالئكة‬
‫واألنبياء وغريهم كل هؤالء ال يستحقون من العبادة أي شيء‪ ،‬ألن العبادة حق للخالق اجلليل والرب العظيم‪،‬‬
‫اخلالق هلذه األشياء‪ ،‬الذي ال شريك له يف خلقها‪ .‬وسيأيت عند املصنف رمحه هللا بيان عظيم للعبادة‪ ،‬وذكر أفراد‬
‫عديدة هلا‪ ،‬مع ذكر الدالئل على ذلك من كتاب هللا عز وجل‪.‬‬
‫فهذا كالم يتعلق ابألصل األول؛ وهو معرفة العبد ربه‪ ،‬وال يزال هلذا املوضوع صلة يف بيان أنواع العبادة‪،‬‬
‫ألنه حتصل لنا مما سبق أن العبادة حق هلل‪ ،‬ال يستحق العبادة إال اخلالق هلذه األشياء‪ ،‬وهو رب العاملني ال شريك‬
‫‪28‬‬
‫له؛ وهذا يستوجب على كل مسلم أن يعرف العبادة ما هي؟ وأن يعرف أفرادها‪ ،‬ليفردها وخيلصها هلل جل‬
‫وعالئ‪ ،‬وال جيعل مع هللا شريكاً يف شيء من ذلك‪.‬‬
‫وهللا أعلم‪ ،‬وصلى هللا وسلم وابرك وأنعم على عبد هللا ورسوله نبينا حممد وآله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫الدرس الثامن‬
‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والعاقبة للمتقني‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن حممداً‬
‫عبده ورسوله؛ صلى هللا وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أمجعني‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫قال شيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب رمحه هللا تعاىل وغفر له وللشارح والسامعني‪:‬‬
‫واخلوف‪ ،‬والرجاءُ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫واإلحسان؛ ومنهُ الدعاءُ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫واإلميان‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اإلسالم‪،‬‬ ‫مثل‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫وأنواع العبادة اليت أ ََم َر هللاُ هبا‪ُ :‬‬
‫ُ‬
‫واخلشوع‪ ،‬واخلَشيةُ‪ ،‬واإلانبةُ‪ ،‬واالستعانةُ‪ ،‬واالستعاذةُ‪ ،‬واالستغاثةُ‪ ،‬و َّ‬
‫الذبْ ُح‪،‬‬ ‫كل‪ ،‬والرغبةُ‪ ،‬والرهبةُ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫والتو ُ‬
‫والدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ‬ ‫َمر هللاُ هبا‪ ،‬كلُّها هلل تعاىل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫وغري ذلك من أنواع العبادة اليت أ َ‬ ‫والنذر‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫والدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯥ‬
‫ُ‬ ‫ف منها شيئًا لغري هللا فهو مش ِر ٌك ٌ‬
‫كافر‪،‬‬ ‫ص َر َ‬ ‫ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾[اجلن‪َ .]18:‬‬
‫فم ْن َ‬
‫ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾[املؤمنون‪.]117:‬‬
‫والدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ‬ ‫الد َعاء م ُّخ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ادة»‬
‫العبَ َ‬ ‫ويف احلديث « ُّ ُ ُ‬
‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾[غافر‪.]60:‬‬
‫ِ‬
‫اخلوف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾[آل عمران‪.]175:‬‬ ‫ودليل‬
‫ُ‬
‫جاء قوله تعاىل‪﴿ :‬ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ﴾[الكهف‪.]110:‬‬ ‫الر ِ‬
‫ودليل َّ‬
‫ُ‬
‫ودليل التَّوُّك ِل قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ﴾[املائدة‪ ،]23:‬وقوله‪﴿ :‬ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ‬
‫ُ‬
‫ﮫ ﮬﮭ﴾[الطالق‪.]3:‬‬
‫شوع قولُه تعاىل‪﴿ :‬ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬ ‫والرهبَ ِة واخلُ ِ‬
‫الر ْغبَ ِة َّ‬
‫ودليل َّ‬
‫ُ‬
‫ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾[األنبياء‪.]90:‬‬
‫شية قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮭ ﮮ ﮯ﴾[البقرة‪.]150:‬‬ ‫ودليل اخلَ ِ‬
‫ُ‬
‫اإلانبة قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾[الزمر‪.]54:‬‬ ‫ِ‬ ‫ودليل‬
‫استَ ِع ْن‬ ‫ِ‬ ‫االستعانة قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾[الفاحتة‪ ،]5:‬ويف‬ ‫ِ‬
‫ت فَ ْ‬
‫استَ َع ْن َ‬
‫احلديث‪« :‬إ َذا ْ‬ ‫ودليل‬
‫ِ‬
‫ابهلل»‪.‬‬
‫ودليل االستعاذةِ قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾[الفلق‪ ،]1:‬و ﴿ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾[الناس‪.]1:‬‬

‫‪30‬‬
‫ِ‬
‫االستغاثة قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ﴾[األنفال‪.]9:‬‬ ‫ودليل‬
‫ودليل َّ‬
‫الذبْ ِح قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ‬
‫السن َِّة‪« :‬لَعن هللا من ذَبح لِغَ ِْري ِ‬
‫هللا»‪.‬‬ ‫ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ﴾[األنعام‪ِ ،]163-162:‬‬
‫وم َن ُّ‬
‫ََ َُْ ََ‬
‫ودليل النَّ ْذ ِر قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾[اإلنسان‪.]7:‬‬
‫ُ‬
‫*************‬
‫هنا ذكر اإلمام رمحه هللا تعاىل مجلةً من أنواع العبادة‪ ،‬بياانً هلا‪ ،‬وتذكرياً هبا‪ ،‬وداللةً هبا على ما سواها من‬
‫أنواع العبادة مما مل يذكره‪ ،‬والذي ذكره رمحه هللا هنا وهو سبعة عشر نوعاً من أنواع العبادة‪ ،‬ذكرها على سبيل املثال‬
‫ال على سبيل احلصر‪ ،‬مبيناً يف كل نوع من هذه األنواع وفرد من هذه األفراد دليله من كتاب هللا جل وعال‪ ،‬وعرفنا‬
‫فيما سبق أن الدين كله مسائل ودالئل‪ ،‬الدين كله مسائل تذكر مع دالئلها من كتاب هللا جل وعال؛ فاملسائل‬
‫اليت ال تقوم على دليل من كتاب هللا وسنة رسوله ‪ ،‬وليس هلا مستند من كتاب هللا جل وعال وسنة نبيه ‪‬‬
‫فهي مردودة‪ ،‬فالدين مسائل ودالئل‪ ،‬وهلذا نرى الشيخ رمحه هللا على طريقة أهل العلم وجادة السلف ‪ -‬أهل‬
‫السنة ‪ -‬يذكرون املسألة مضموماً إليها دليلها‪ ،‬إما من كتاب هللا جل وعال أو سنة نبيه صلوات هللا وسالمه عليه‪،‬‬
‫فهم ال أيتون بشيء من عند أنفسهم‪ ،‬وال خيرتعون ‪-‬وحاشاهم ذلك‪ -‬بل يبنون كل ما يقررونه على الدالئل‬
‫البينات‪ ،‬واحلجج الواضحات‪ ،‬والرباهني الساطعات من كتاب هللا وسنة نبيه عليه الصالة والسالم‪ ،‬فهم أئمة‬
‫هدى‪ ،‬ودعاة حق إىل كتاب هللا وسنة نبيه ‪ ،‬وإىل صراط هللا املستقيم‪.‬‬
‫وكان رمحه هللا ذكر يف األصل األول ‪-‬الذي هو معرفة العبد ربه‪ -‬أن معرفة العبد ربه تكون ابعتقاد أن الرب‬
‫الذي تفرد ابخللق والرزق والذي يعرف آبايته وخملوقاته ال يعبد إال هو‪ ،‬كما مر كالمه رمحه هللا‪(( :‬والرب هو‬
‫املعبود))‪ ،‬وتال قول هللا سبحانه‪﴿ :‬ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ‬
‫ﮧ﴾[البقرة‪ ،]21:‬ونقل كالم اإلمام املفسر ابن كثري رمحه هللا قال‪« :‬اخلالق هلذه األشياء هو املستحق للعبادة»؛ فإذا‬
‫تقرر ذلك وجب على املسلم أن يعرف العبادة‪ ،‬وأن يعرف أنواعها‪ ،‬وجيتهد يف معرفة أفرادها ليصرفها كلها هلل‪،‬‬
‫ولكي ال جيعل مع هللا سبحانه وتعاىل شريكاً يف شيء منها‪ .‬وهلذا أخذ يعدد املصنف رمحه هللا أنواعاً من العبادة‪،‬‬
‫مستدالً على كل نوع من هذه األنواع بدليله من كتاب هللا وسنة نبيه ‪.‬‬
‫وأنواع العبادةِ اليت أ ََم َر هللاُ هبا))‪ ،‬ولننتبه إىل قوله رمحه هللا‪« :‬اليت أمر هللا هبا»؛ ألن العبادة‬
‫وهلذا قال‪ُ (( :‬‬
‫هي شرع هللا الذي أذن هو جل وعال لعباده أن يتقربوا به إليه كما قال‪﴿ :‬ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ﴾[املائدة‪ ]3:‬قال‬
‫جل وعال‪﴿ :‬ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ﴾[الشورى‪ ،]21:‬فالدين هو ما أذن هللا به‪،‬‬
‫ورضيه لعباده‪ ،‬وأمرهم به يف كتابه أو يف سنة رسوله صلوات هللا وسالمه عليه‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ِ‬
‫واإلحسان)) وهذه األمور الثالثة اليت بدأ هبا رمحه هللا هي الدين كله‪ ،‬كما‬ ‫ِ‬
‫واإلميان‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اإلسالم‪،‬‬ ‫مثل‬
‫قال‪ُ (( :‬‬
‫هو مبني يف حديث جربيل املشهور ملا سأل النيب عليه الصالة والسالم عن اإلسالم‪ ،‬مث سأله عن اإلميان‪ ،‬مث سأله‬
‫عن اإلحسان‪ ،‬مث قال عليه الصالة والسالم يف متام احلديث‪(( :‬هذا جربيل أاتكم يعلمكم دينكم))؛ فالدين جيمعه‬
‫هذه املراتب الثالث‪ :‬اإلسالم واإلميان واإلحسان؛ هذه مراتب الدين‪ .‬وأعلى هذه املراتب اإلحسان؛ وهو أن يعبد‬
‫املسلم ربه جل وعال كأنه يراه‪ ،‬كما قال عليه الصالة والسالم‪(( :‬أن تعبد هللا كأنك تراه‪ ،‬فإن مل تكن تراه فإنه‬
‫يراك))‪ .‬مث يلي هذه املرتبة مرتبة اإلميان‪ ،‬وقد فسر النيب عليه الصالة والسالم اإلميان بذكر أصوله اليت عليها يبىن‪،‬‬
‫قال‪(( :‬أن تؤمن ابهلل‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم اآلخر‪ ،‬وأن تؤمن ابلقدر خريه وشره))‪ .‬مث يلي هذه املرتبة‬
‫مرتبة اإلسالم‪ ،‬وفسره النيب عليه الصالة والسالم بقوله‪(( :‬أن تشهد أن ال إله إال هللا وأن حممداً رسول هللا‪ ،‬وتقيم‬
‫الصالة‪ ،‬وتؤيت الزكاة‪ ،‬وتصوم رمضان‪ ،‬وحتج البيت احلرام إن استطعت إليه سبيالً))‪.‬‬
‫فهذه الثالثة هي الدين؛ الدين إسالم وإميان وإحسان‪ ،‬وكل من هذه األمساء ‪-‬اإلسالم واإلميان واإلحسان‪-‬‬
‫جاء بياهنا جممالً ومفصالً يف كتاب هللا جل وعال؛ وهلذا من العبادة ومن الدين الذي نتقرب إىل هللا سبحانه‬
‫وتعاىل به أن حنقق العلم هبذه املراتب الثالث‪ ،‬وجنتهد يف حتقيق ذلك‪ ،‬وأن حنقق أيضاً العمل هبذه املراتب‪ ،‬وما‬
‫تقتضيه من ذل وعبودية وخضوع هلل تبارك وتعاىل‪ .‬فهذا من العبادة؛ اإلسالم واإلميان واإلحسان‪ ،‬وهو من أعظم‬
‫ما يتقرب به العبد إىل هللا جل وعال بل هو الدين كله؛ الدين كله جيتمع يف هذه الكلمات الثالث‪ :‬اإلسالم‬
‫واإلميان واإلحسان‪ .‬وسيأيت ذكر الدليل على هذه املراتب الثالث عند املصنف رمحه هللا تعاىل الحقاً‪.‬‬
‫قال‪(( :‬ومنهُ الدعاءُ))؛ من العبادة اليت يتقرب هبا إىل هللا سبحانه وتعاىل‪ ،‬ويفرد به‪ ،‬وختلص له سبحانه‬
‫وتعاىل‪ ،‬وال جيعل معه شريك فيها‪ :‬الدعاء؛ بل إن الدعاء هو أعظم العبادة وأجلها‪ ،‬وسيأيت ذكر الدليل عليه‪،‬‬
‫اخلوف‪،‬‬
‫وكذلك ذكر الدليل على بقية العبادات اليت ساقها رمحه هللا تعاىل؛ فذكر رمحه هللا من العبادة‪« :‬الدعاءُ‪ ،‬و ُ‬
‫واخلشوع‪ ،‬واخلَشيةُ‪ ،‬واإلانبةُ‪ ،‬واالستعانةُ‪ ،‬واالستعاذةُ‪ ،‬واالستغاثةُ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫كل‪ ،‬والرغبةُ‪ ،‬والرهبةُ‪،‬‬
‫والرجاءُ‪ ،‬والتو ُ‬
‫والنذر»؛ قال‪« :‬وغري ذلك من أنواع العبادة»‪ ،‬وسيأيت الكالم على هذه العبادات واحداً واحداً‪ ،‬مع‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫والذبْ ُح‪،‬‬
‫ذكر الدليل الذي ساقه املصنف رمحه هللا على هذه العبادات‪.‬‬
‫َمر هللاُ هبا‪،‬كلُّها هلل)) قال «كلها» أي ما ذكره رمحه هللا من‬ ‫ِ‬
‫وغري ذلك من أنواع العبادة اليت أ َ‬
‫قال‪ُ (( :‬‬
‫العبادة وما مل يذكره‪ ،‬ألن الذي ذكره ذكره على سبيل املثال‪ ،‬فما ذكره من العبادة‪ :‬الدعاء‪ ،‬والذبح‪ ،‬والنذر‪،‬‬
‫واالستغاثة‪ ،‬واالستعانة‪ ،‬وغريها‪ ،‬هذه كلها وغريها أيضاً مما مل يذكره‪ ،‬العبادة كلها حق هلل جل وعال‪ ،‬العبادة اليت‬
‫هي غاية الذل مع اخلضوع واحلب هلل هذه هلل‪ ،‬ال يكون ذل اإلنسان وخضوعه وانكساره وإتيانه هبذه العبودايت‬
‫إال للذي خلقه جل وعال‪ ،‬وأوجده من العدم‪ ،‬ومن عليه بصنوف النعم وأنوع املنن؛ فال يدعو إال هللا‪ ،‬وال خياف‬
‫إال هللا‪ ،‬وال يرجو إال هللا‪ ،‬وال يتوكل إال على هللا‪ ،‬وال يرغب إال إليه‪ ،‬وال يرهب إال منه‪ ،‬وال يصرف شيئاً من هذه‬

‫‪32‬‬
‫العبادات وال غريها إال هلل تبارك وتعاىل‪ ،‬فإن العبادة حق له‪ ،‬ال شريك له يف شيء منها‪ ،‬ال ملك مقرب‪ ،‬وال نيب‬
‫مرسل‪ ،‬فضالً عن غريمها‪.‬‬
‫والدليل)) أي والدليل على أن هذه العبادات كلها هلل‪ ،‬وأن أحداً ليس له شركة مع هللا سبحانه‬
‫ُ‬ ‫قال‪(( :‬‬
‫وتعاىل يف شيء منها‪ ،‬الدليل على ذلك‪:‬‬
‫((قول هللا تعاىل‪﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾)) أي ال تعبدوا مع هللا أحداً‪ ،‬العبادة حق هلل‬
‫تبارك وتعاىل؛ ال ت ْدعوا مع اَّلل أح ًدا دعاء مسألة‪ ،‬من سؤال وطلب ورغبة‪ ،‬وال تدعوا مع هللا أحداً دعاء عبادة؛‬
‫فال تذلوا وختضعوا وتصرفوا العبادة إال هلل تبارك وتعاىل‪ ،‬فالعبادة حق له وحده‪.‬‬
‫وقوله جل وعال يف هذه اآلية‪﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ﴾؛ «الْمساجد» حتتمل أحد معنيني‪:‬‬
‫حتتمل املساجد أي مواضع السجود؛ ﴿ﭷ ﭸ ﭹ﴾ أي مواضع السجود‪ ،‬واألماكن املبنية‬ ‫‪.1‬‬
‫للصالة والسجود والعبادة هلل تبارك وتعاىل‪ ،‬ويكون املعىن ﴿ﭷ ﭸ ﭹ﴾‪ :‬أي مواضع السجود‪ ،‬وأمكنة‬
‫السجود هلل‪ ،‬فال يعبد فيها إال هللا‪ ،‬ألهنا بيوت هللا‪ ،‬وهي أحب األماكن إىل هللا سبحانه وتعاىل ﴿ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ‬
‫ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ﴾[النور‪ ،]36:‬فهي أماكن لعبادة هللا تبارك وتعاىل‪ ،‬فال يعبد فيها إال هللا‪(( ،‬جعلت يل‬
‫األرض مسجداً وطهوراً))‪.‬‬
‫واملعىن الثاين‪﴿ :‬ﭷ ﭸ﴾ أي أعضاء السجود‪ ،‬وهي‪ :‬الوجه اجلبهة واألنف‪ ،‬والكفني‪،‬‬ ‫‪.2‬‬
‫والركبتني‪ ،‬وأطراف القدمني ﴿ﭖ﴾ أي ال يسجد هبا إال هلل؛ فال يكون من العبد سجود وركوع وخضوع وذل‬
‫إال هلل تبارك وتعاىل‪.‬‬
‫﴿ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾«أح ًدا» نكرة جاءت يف سياق النهي فتفيد العموم؛ أي أي‬
‫أحد كان‪ ،‬ال من األنبياء املرسلني‪ ،‬وال من املالئكة املقربني‪ ،‬وال من األولياء الصاحلني‪ ،‬وال من غريهم؛ ال ت ْدعوا‬
‫مع اَّلل أح ًدا‪ :‬أي أي أحد كان‪ ،‬فكل أحد مهما عال قدره وعلت منزلته وعظم جاهه ليس له أحقية يف العبادة‪،‬‬
‫وليس له مشاركة يف العبادة‪ ،‬العبادة ليست إال هلل وحده‪ ،‬الذي تفرد ابخللق والرزق واإلحياء واإلماتة والعطاء واملنع‬
‫والتدبري‪ ،‬العبادة له جل وعال وحده‪ ،‬فال يصرف شيء منها ألحد سواه‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾ هذا دليل صريح على أن العبادة كلها هلل؛ من دعاء أو‬
‫ذبح أو نذر أو استغاثة أو رجاء أو توكل أو غري ذلك‪ ،‬كل ذلك هلل‪ ،‬ال يصرف شيء منه إال هلل سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫ف منها شيئًا لغري هللا فهو مش ِر ٌك ٌ‬
‫كافر))؛ م ْن صرف منها أي من العبادات لغري هللا فهو‬ ‫ص َر َ‬
‫فم ْن َ‬
‫قال‪َ (( :‬‬
‫مشرك كافر؛ مشرك‪ :‬أي متخذ األنداد مع هللا‪ ،‬وكافر ابهلل العظيم‪ ،‬وكل مشرك كافر ابهلل سبحانه وتعاىل؛ الذي‬
‫يتخذ األنداد والشركاء مع هللا هو كافر ابهلل‪ ،‬غري مؤمن به‪ ،‬ألنه ال يكون اإلميان ابهلل إال بتوحيده‪ ،‬وإخالص‬
‫‪33‬‬
‫الدين له‪ ،‬فمن مل خيلص الدين هلل جل وعال فهو كافر ابهلل‪ ،‬ومن كان كافراً ابهلل فأعماله كلها حابطة ﴿ﯽ ﯾ‬
‫ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾[املائدة‪ ،]5:‬وقال جل وعال‪﴿ :‬ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ‬
‫فجعل الشركاء مع هللا تبارك وتعاىل مبطل لألعمال حمبط هلا‪ ،‬ومن جعل مع هللا الشركاء فهو‬ ‫ﯙ﴾[الزمر‪]65:‬؛ ْ‬
‫مشرك كافر ابهلل تبارك وتعاىل‪.‬‬
‫ف منها شيئًا لغري هللا فهو مش ِر ٌك ٌ‬
‫كافر)) ما الدليل؟‬ ‫ص َر َ‬
‫فم ْن َ‬
‫قال‪َ (( :‬‬
‫الدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ‬ ‫قال‪ُ (( :‬‬
‫ﯷ ﯸ﴾))؛ فسمى جل وعال من يدعو غريه ويعبد غريه كافراً ابهلل‪ ،‬والكافر أعماله كلها ابطلة‪ ،‬وعباداته‬
‫كلها حابطة‪ ،‬وال يقبل هللا سبحانه وتعاىل منها شيء‪ ،‬وإن مات على كفره ابهلل أدخله هللا يوم القيامة انر جهنم‬
‫خملداً فيها أبد اآلابد‪ ،‬ال يقضى عليه فيموت‪ ،‬وال خيفف عنه من عذاهبا‪ ،‬كما قال جل وعال‪﴿ :‬ﮦ ﮧ‬
‫ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾[فاطر‪ ]36:‬فكل كفور‬
‫هذا مآله‪ ،‬وهذا مصريه‪ ،‬دخول النار يوم القيامة واخللود فيها أبد اآلابد‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾ أي من جيعل مع هللا آهلة أخرى‪ ،‬أنداداً مع هللا‪ ،‬وشركاء مع هللا‪،‬‬
‫يدعوهم كما يدعو هللا‪ ،‬ويذبح هلم كما يذبح هلل‪ ،‬وينذر هلم‪ ،‬ويستغيث هبم‪ ،‬ويلتجئ إليهم‪ ،‬ويتوكل عليهم‪،‬‬
‫ويرجوهم‪ ،‬وخيافهم‪ ،‬ويصرف هلم أنواع العبادة‪ ،‬فهو كافر ابهلل تبارك وتعاىل‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾«ال بـ ْرهان»‪ :‬أي ال حجة وال سلطان‪ ،‬وهذا كما بني‬
‫العلماء رمحهم هللا وصف الزم ال ينفك؛ فكل من دعا مع هللا إهلاً آخر ال برهان له‪ ،‬فهذا وصف الزم ال ينفك‬
‫عن كل من دعا مع هللا تبارك وتعاىل إهلاً آخر‪.‬‬
‫﴿ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ﴾ أي عقوبته وجزاؤه على شركه وكفره ابهلل‬
‫حسابه عند ربه‪ ،‬يوم يلقى هللا جل وعال؛ فال يغفر هللا له ﴿ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾[النساء‪ ،]48:‬ويدخله النار‬
‫خملداً فيها أبد اآلابد‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾ أي ال سبيل ملن مات على الكفر ابهلل أن حيصل فالحاً‪ ،‬وال مطمع‬
‫له يف مغفرة هللا والفوز برمحته‪ ،‬ألن هللا توعد سبحانه وتعاىل أن من مات على الشرك ابهلل ال يغفر هللا له ﴿ﮢ ﮣ‬
‫ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ﴾[النساء‪ ،]48:‬فالذي ميوت على الشرك ال مطمع له يف فالح‪ ،‬وال سبيل‬
‫له لنيل رمحة هللا سبحانه وتعاىل؛ وهلذا فإن الكافر يوم القيامة يطالب أبمور ال حيصل شيئاً منها‪:‬‬
‫يطالب أبن يعاد مرة اثنية للحياة الدنيا‪ ،‬ليعمل صاحلاً غري الذي كان يعمل‪ ،‬فال يستجاب له‪.‬‬ ‫•‬

‫‪34‬‬
‫يطالب أن خيفف عنه العذاب يف النار‪ ،‬وأن ختف عليه شدة العذاب‪ ،‬فال يستجاب له‪.‬‬ ‫•‬
‫يطالب ويتمىن أن يكون تراابً‪ ،‬يقضى عليه فيموت‪ ،‬فال يستجاب له‪.‬‬ ‫•‬
‫بل أيتيه كالم يسمعه هو أشد كالم يسمعه أهل النار يف النار؛ وهو ما جاء يف قوله سبحانه وتعاىل‪:‬‬
‫﴿ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾[النبأ‪ ]30:‬يعين ليس هناك موت‪ ،‬وليس هناك ختفيف‪ ،‬وليس هناك عودة للحياة‬
‫الدنيا‪ ،‬بل ليس أمامكم إال زايدة العذاب ﴿ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾؛ فهذه حال من يكفر ابهلل‪ ،‬ويشرك‬
‫ابهلل‪ ،‬وجيعل مع هللا تبارك وتعاىل األنداد‪ .‬قال‪﴿ :‬ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ‬
‫ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾‪.‬‬
‫ملا ذكر رمحه هللا هذين الدليلني‪:‬‬
‫الدليل األول‪ :‬على أن العبادة كلها هلل سبحانه وتعاىل‪.‬‬ ‫❖‬
‫والدليل الثاين‪ :‬على أن من صرف شيئاً من العبادة لغري هللا فهو كافر مشرك‪.‬‬ ‫❖‬
‫ملا ذكر الدليلني على ذلك؛ بدأ رمحه هللا يذكر األدلة دليال دليالً على ما ذكره من أفراد العبادة‪ .‬سبق أن‬
‫ذكر الدعاء واخلوف والرجاء والتوكل‪..‬اخل‪ ،‬فبدأ رمحه هللا يذكر األدلة من كتاب هللا جل وعال ومن السنة‪ ،‬الدالة‬
‫على أن هذه عبادات‪ ،‬وأهنا حق هلل‪ ،‬وأنه ال جيوز صرف شيء منها وال من غريها من العبادات لغريه سبحانه‬
‫وتعاىل‪.‬‬
‫فبدأ ابلدعاء؛ وبدؤه ابلدعاء‪ :‬ألنه أعظم أنواع العبادة‪ ،‬وهلذا بدأ ابحلديث الدال على ذلك قال‪(( :‬ويف‬
‫الد َعاء م ُّخ ِ‬ ‫ِ‬
‫ادة»)) ومعىن «مخ العبادة»‪ :‬أي خالص العبادة‪ ،‬ولب العبادة‪ ،‬وصفو العبادة‪ .‬فهذا‬ ‫العبَ َ‬ ‫احلديث « ُّ ُ ُ‬
‫فيه داللة على أمهية الدعاء‪ ،‬وقد ثبت عن النيب ‪ ‬أنه قال يف احلديث اآلخر‪(( :‬الدعاء هو العبادة))‪ ،‬وهذا فيه‬
‫أن الدعاء أعظم أنواع العبادة؛ ألن النيب عليه الصالة والسالم أتى هبذه الصيغة بضمري الفصل‪ ،‬واخلرب املعرف‬
‫ابأللف والالم‪ ،‬ليدل على احلصر‪ ،‬وهذا فيه الداللة على عظم مكانة الدعاء يف العبادة‪ ،‬وأن له املكانة العلية‬
‫واملنزلة الرفيعة‪ .‬نظريه قوله عليه الصالة والسالم‪(( :‬الدين النصيحة)) وقوله‪(( :‬احلج عرفة)) وحنو ذلك من‬
‫األحاديث‪.‬‬
‫فالدعاء عبادة عظيمة‪ ،‬وطاعة جليلة‪ ،‬ال تصرف إال هلل‪ ،‬وهلذا قال النيب عليه الصالة والسالم البن عباس‬
‫رضي هللا عنهما‪(( :‬إذا سألت فاسأل هللا))؛أي ال تسأل غري هللا‪ ،‬ال تتوجه يف سؤالك وطلبك ورغباتك‬
‫وحاجاتك إال هلل تبارك وتعاىل‪ ،‬ألنه وحده الذي بيده العطاء واملنع‪ ،‬واخلفض والرفع‪ ،‬والقبض والبسط‪ ،‬والعز‬
‫والذل؛ كل ذلك بيده‪ ،‬هو مالك امللك‪ ،‬وهو جل وعال مدبر األمر‪ ،‬وهو املعطي املانع‪ ،‬اخلافض الرافع‪ ،‬القابض‬
‫الباسط‪ ،‬فال يدعى إال هللا سبحانه وتعاىل‪ .‬والنيب ‪ ‬ملا قال‪(( :‬الدعاء هو العبادة)) تال قول هللا تعاىل‪﴿ :‬ﭝ‬

‫‪35‬‬
‫ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾[غافر‪ ]60:‬أي حقريين‬
‫صاغرين ذليلني‪ .‬فالدعاء عبادة‪ ،‬والعبادة حق هلل تبارك وتعاىل‪ ،‬واألنبياء كلهم بعثوا ابلدعوة إىل دعاء هللا وحده‪،‬‬
‫وصرف العبادة كلها هلل جل وعال‪ ،‬دون أن جيعل معه شريك يف شيء من ذلك‪.‬‬
‫والدليل)) على أن الدعاء عبادة قول هللا تعاىل‪﴿ :‬ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ‬ ‫ُ‬ ‫قال‪(( :‬‬
‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾ وهذه اآلية تالها النيب عليه الصالة والسالم عندما قال‪:‬‬
‫((الدعاء هو العبادة))‪ ،‬وهي نص صريح يف أن الدعاء عبادة‪ ،‬ألن هللا قال‪﴿ :‬ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ‬
‫ﭧ﴾؛ فسمى جل وعال من يستكرب عن الدعاء مستكرباً عن العبادة‪ ،‬فالدعاء عبادة‪ ،‬والعبادة حق هلل‪:‬‬
‫﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾[الذارايت‪﴿ ،]56:‬ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾[البينة‪﴿ ،]5:‬ﮖﮗ‬
‫ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾[اإلسراء‪﴿ ،]23:‬ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾[النساء‪]36:‬؛ فالدعاء هو من مجلة العبادات‪ ،‬بل‬
‫هو من أعظم العبادات اليت يتقرب هبا إىل هللا سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫وهلذا من دعا غري هللا من ميت أو غائب أو شجر أو حجر‪ ،‬وسأله وطلبه‪ ،‬وعرض عليه حاجاته‪ ،‬فقد‬
‫أشرك ابهلل العظيم‪ ،‬ألن الدعاء عبادة ال تصرف إال هلل‪ ،‬وال يتوجه فيه إال إىل هللا سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫واملصنف رمحه هللا ليس املقام عنده يف هذه الرسالة مقام بسط األدلة‪ ،‬وهلذا يكتفي يف كل ما يذكره بذكر‬
‫دليل واحد على ذلك من كتاب هللا وسنة نبيه ‪ ،‬وإال لو تطالع القرآن يف موضوع الدعاء خاصة جتد األدلة‬
‫على وجوب إخالص الدعاء هلل‪ ،‬وبيان أن من دعا غري هللا تبارك وتعاىل أبنه مشرك ابهلل‪ ،‬كثرية جداً يف القرآن‬
‫الكرمي‪ ،‬ومع كثرهتا وصراحتها ووضوحها فإن الدعاء أكثر العبادات اليت تصرف لغري هللا!! وكثري من الناس والسيما‬
‫عند الضراء‪ ،‬وعند نزول البالء‪ ،‬وعند حلول األمراض واألسقام‪ ،‬وعند اشتداد احلاجات والطلبات‪ ،‬يفزعون إىل‬
‫غري هللا سبحانه وتعاىل‪ ،‬ويلجؤون إىل غري هللا‪ ،‬ممن ال ميلك له‪ ،‬ال ميلك لنفسه فضالً أن ميلك لغريه‪.‬‬
‫وهلذا جيب على املسلم أن يدرك هذه احلقيقة‪ ،‬وأن يعلم هذا األمر جلياً؛ فال يصرف دعاءه إال هلل سبحانه‬
‫وتعاىل؛ ال يدعو ملكاً‪ ،‬ال يقول يف دعائه وحاجته‪" :‬اي جربيل‪ ،‬أو اي إسرافيل‪ ،‬أو اي ميكائيل‪ ،‬أو اي مالئكة هللا"‬
‫ال يقول ذلك‪ ،‬املالئكة هلم مكانة عظيمة ومنزلة علية‪ ،‬لكن مع مكانتهم ومنزلتهم ما جيوز أن جيعلوا آهلة مع هللا‪،‬‬
‫يدعون وتصرف هلم العبادة اليت هي حق هلل‪ .‬وكذلك ال جيوز دعاء األنبياء‪ ،‬ال يقول‪" :‬اي أنبياء هللا أدركوين‪ ،‬أو‬
‫احلقوين‪ ،‬أو أان عائذ بكم‪ ،‬أو الئذ جبنابكم‪ ،‬أو مستجري بكم"‪ ،‬وال يقول‪" :‬اي نيب هللا‪ ،‬أو اي رسول هللا احلقين‪،‬‬
‫أدركين‪ ،‬أنقذين"‪ .‬وال يقول‪" :‬اي أولياء هللا‪ ،‬أو اي سيدي فالن‪ ،‬أو اي شيخ فالن احلقين‪ ،‬أدركين"؛ ال يقول ذلك‪،‬‬
‫ألن هذا دعاء والدعاء هلل ﴿ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾‪﴿ ،‬ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ﴾‪ ،‬نبينا عليه‬
‫الصالة والسالم يقول‪(( :‬إذا سألت فاسأل هللا))‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫أذكر مرة كان إىل جنيب رجل من الزائرين ـ وكنت أقرأ القرآن‪ ،‬وكان ماداً يديه يدعو‪ ،‬ويبكي يف دعائه‪ ،‬مث‬
‫رفع صوته قليالً يف الدعاء‪ ،‬وإذا به يف دعائه وخشوعه وبكائه ومناجاته ينادي ويستغيث برسول هللا ‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫"اي رسول هللا احلقين"‪ ،‬ينادي‪ ،‬يستغيث ابلرسول عليه الصالة والسالم‪ ،‬ويطلب أن يكشف كربه من الرسول عليه‬
‫الصالة والسالم!! وهللا يقول‪﴿ :‬ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ‬
‫ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾[النمل‪ ]62:‬فأخذت أحتدث معه قليالً قليال يف مكانة الدعاء أوالً‪ ،‬وفضل الدعاء‬
‫ومنزلته من الدين‪ ،‬وفضل اخلشوع يف الدعاء‪ ،‬واإلحلاح يف الدعاء‪ ،‬وذكرت له بعض اآلايت واألحاديث يف ذلك‪،‬‬
‫مث أخذت أذكر له اآلايت اخلاصة ابلدعاء‪ ،‬وأنه عبادة ال تصرف إال هلل‪ ،‬مثل قول هللا تعاىل‪﴿ :‬ﭝ ﭞ‬
‫ﭟ ﭠ ﭡﭢ﴾‪ ،‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ﴾‬
‫[البقرة‪]186:‬‬

‫وقول هللا تعاىل‪﴿ :‬ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾[األحقاف‪﴿ ]5:‬ﯰ ﯱ﴾؛ أي ال‬


‫أحد أضل‪ ،‬استفهام إنكاري ﴿ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬
‫ﯼ ﯽ﴾‪ ،‬وقول هللا تعاىل‪﴿ :‬ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ‬
‫ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ﴾[فاطر‪ ،]14-13:‬ومثل قول‬
‫هللا تعاىل‪﴿ :‬ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ﴾[اإلسراء‪ ،]56:‬ومثل قول هللا‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ‬
‫ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ﴾[سبأ‪ ]22:‬وآايت أخرى يف هذا الباب‪ .‬أخذت أتلوا عليه هذه اآلايت‪ ،‬وأقرأها عليه‬
‫آيةً آية‪.‬‬
‫مث أخذت أذكر له من السنة أحاديث عن النيب عليه الصالة والسالم يف الدعاء‪ ،‬وقلت له‪ :‬النيب ‪‬‬
‫حاجاته كلها ينزهلا ابهلل‪ ،‬ويلتجئ هبا إىل هللا‪ ،‬ويطلب كشفها من هللا سبحانه وتعاىل‪ ،‬وهو عبد فقري إىل هللا‬
‫سبحانه وتعاىل من كل وجه‪ ،‬واألمر بيد هللا‪ ،‬قال هللا له‪﴿ :‬ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾[آل عمران‪ ،]128:‬وقال هللا له‪:‬‬
‫﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ﴾[القصص‪ ،]56:‬وقال هللا له‪﴿ :‬ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ‬
‫ﰌ ﰍ﴾[يوسف‪]103:‬؛ األمر هلل‪ ،‬األمر بيد هللا سبحانه وتعاىل‪ .‬قلت له‪ :‬النيب ‪ ‬يفزع إىل هللا‪ ،‬إذا مرض هو أو‬
‫مرض أحد فزع ابلدعاء إىل هللا‪ ،‬يقول يف دعائه‪(( :‬اللهم رب الناس‪ ،‬مذهب الباس‪ ،‬اشف أنت الشايف‪ ،‬ال شفاء‬
‫إال شفاؤك‪ ،‬شفاء ال يغادر سقماً))‪ ،‬الشفاء بيد هللا‪ ،‬واهلداية بيد هللا‪ ،‬والعطاء بيد هللا‪ ،‬والفضل بيد هللا‪ ،‬كل ذلك‬
‫بيد هللا‪ ،‬وال يطلب إال من هللا‪ ،‬ال يطلب من األنبياء وال من املالئكة وال من غريهم‪ .‬فأخذت أبني له هذه املعاين‬
‫مع دالئلها من كتاب هللا جل وعال وسنة النيب عليه الصالة والسالم‪ ،‬مث أردت أن أأتكد هل الرجل فهم أم مل‬

‫‪37‬‬
‫يفهم؟ هل استوعب الكالم أم مل يستوعب؟ فقلت له‪ :‬ما رأيك يف هذا الكالم الذي مسعته؟ فقال الرجل يل كلمة‬
‫عظيمة جداً؛ قال يل‪" :‬تقول يل ما رأيك‪ ،‬وأنت تقرأ علي آايت وأحاديث؟!" يعين ما يف رأي إذا جاءت اآلايت‬
‫واألحاديث‪ ،‬ما يف رأي ألحد‪ ،‬وصدق‪ ،‬إذا جاءت اآلايت وجاءت األحاديث فليس هناك رأي ألحد‪ ،‬من الذي‬
‫يقدم رأيه على كالم هللا وكالم رسوله عليه الصالة والسالم؟ وهذه من فطنة ذلك الرجل ونباهته؛ قال يل‪" :‬تقول‬
‫ما رأيك‪ ،‬وأنت تقرأ علي أحاديث وآايت؟!" أي ليس يل رأي‪ ،‬هذا كالم هللا وكالم رسوله عليه الصالة والسالم‪،‬‬
‫وإذا جاء هنر هللا بطل هنر عمرو وزيد‪ ،‬هللا يقول‪﴿ :‬ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ﴾[احلجرات‪ .]1:‬قال يل‪:‬‬
‫"تقول يل ما رأيك‪ ،‬وأنت تقرأ علي آايت وأحاديث؟!" فما زلت مصراً أن أطمئن أن الرجل فهم واستوعب أم مل‬
‫يستوعب؟ فقلت له‪ :‬أان مسعتك تقول يف دعائك‪ :‬اي رسول هللا أدركين‪ ،‬وهلذا أقول لك ما رأيك؟ فماذا قال؟ قال‬
‫يل‪ " :‬أان من بلد كذا ‪-‬مسى يل بلده‪ -‬ما أحد قال يل الكالم هذا" يعين ما أحد تال علي هذه اآلايت وهذه‬
‫األحاديث من كتاب هللا‪ ،‬ما أحد فهمه أن الدعاء عبادة ال تصرف إال هلل‪.‬‬
‫وكثري من الناس يبتلى يف بلده أن دعاة الضالل يفهمونه أن دعاء غري هللا واالستغاثة بغري هللا توسل‪،‬‬
‫ويقولون‪ :‬هذا واسطة بيننا وبني هللا‪ ،‬هذا واسطة وشفيع لنا عند هللا سبحانه وتعاىل؛ فيدعون غري هللا‪ ،‬ويستغيثون‬
‫بغري هللا‪ ،‬ويصرفون هذه العبادة اليت هي حق هلل لغريه‪ ،‬بزعم أنه واسطة يقرهبم إىل هللا‪ ،‬وهذا نظري ما جاء يف‬
‫يف اآلية األخرى‪﴿ :‬ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ‬ ‫القرآن‪﴿ :‬ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾‬
‫[الزمر‪]3:‬‬

‫ﮯﮰ﴾[يونس‪]18:‬؛ أي وسطاء لنا عند هللا‪ .‬من الذي قال لك اختذ يف ابب الدعاء بينك وبني هللا واسطة؟ هللا يقول‪:‬‬
‫من‬ ‫﴿ﭝ ﭞ﴾ ماذا؟ ﴿ﭟ﴾ اجتهوا إيل‪ ،‬التجؤوا إيل‪﴿ ،‬ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ﴾‬
‫[غافر‪]60:‬‬

‫الذي قال لك اختذ وسطاء بينك وبني هللا؟ األنبياء واسطة بيننا وبني هللا يف إبالغ الدين‪ ،‬يبلغوننا دين هللا‪ ،‬لكن‬
‫العبادة ليس بني هللا وبني خلقه واسطة فيها؛ يعبد هللا مباشرة‪ ،‬يتجه إىل هللا سبحانه وتعاىل مباشرة‪ ،‬ال جيعل العبد‬
‫بينه وبني هللا واسطة يف دعائه‪ ،‬أو يف عبادته‪ ،‬أو يف سجوده‪ ،‬أو يف ذله‪ ،‬أو يف خضوعه‪ ،‬فالذي يتخذ الوسطاء‬
‫والشفعاء تكون حاله كحال من قال هللا عنهم‪﴿ :‬ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ﴾‪.‬‬
‫فالشاهد أن الدعاء نظري سائر العبادات‪ ،‬بل هو أهم العبادات‪ ،‬ال يصرف إال هلل؛ فال يدعى إال هللا‪ ،‬وال‬
‫يستغيث العبد إال ابهلل‪ ،‬وال ينزل حاجاته ورغباته إال ابهلل‪ .‬بعض الناس خياطب خملوقني‪ ،‬ويقول يف خماطبته‬
‫ملخلوق‪" :‬إن مل تدركين من الذي يدركين؟ إن مل أتخذ بيدي من الذي أيخذ بيدي؟"‪ ،‬ويقول بعضهم لبعض‬
‫املخلوقني مستغيثاً به‪" :‬أان عبدك الالئذ جبنابك‪ ,‬املنكسر عند اببك‪ ,‬الواقف أبعتابك‪ ،‬يرجوك ويطمع يف نوالك"‬
‫ويبدأ يلح ويسأل ﴿ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ﴾[األعراف‪ ،]194:‬العبد ال يعبد مهما كانت‬
‫مكانته‪ ،‬ومهما علت منزلته‪ ،‬العبد ال يعبد‪ ،‬العبادة حق هلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬العبد مهما عظمت مكانته وعلت‬

‫‪38‬‬
‫منزلته ال يعبد‪ ،‬ال يعطى شيئاً من العبادة‪ ،‬نبينا عليه الصالة والسالم قال يف احلديث الصحيح‪(( :‬ما أحب أن‬
‫تنزلوين فوق منزليت اليت أنزلين هللا إايها)) منزلة العبودية والرسالة‪.‬‬
‫فالشاهد أن الدعاء عبادة وهي حق هلل سبحانه وتعاىل وال جيوز صرفها لغريه‪ ،‬والدليل على ذلك قول هللا‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾‪.‬‬
‫اخلوف قول هللا تعاىل‪﴿ :‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾))؛ اخلوف عبادة قلبية‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ودليل‬
‫قال‪ُ (( :‬‬
‫مكاهنا القلب؛ وهو فزع القلب ووجله‪ ،‬وهو عبادة ال تصرف إال هلل جل وعال‪ ،‬واملراد ابخلوف الذي هو عبادة وال‬
‫جيوز صرفه لغري هللا‪ :‬خوف السر‪ ،‬اخلوف الباطن الذي يف القلب؛ الذي يكون يف قلب اإلنسان‪ ،‬حبيث خياف يف‬
‫قلبه من شخص ما أبن يدعي فيه أبنه عنده قدرة مثالً على زيغ القلوب‪ ،‬أو على قبض األرواح‪ ،‬أو يعتقد فيه أنه‬
‫عنده قدرة على إنزال الضر به‪ ،‬أو حنو ذلك؛ فيخافه خوف السر الذي ال يكون إال هلل جل وعال‪ .‬فاملراد ابخلوف‬
‫هنا خوف السر؛ حبيث خياف من شخص ما‪ ،‬ويعتقد فيه أن عنده قدرة على أن يزيغ قلبه‪ ،‬أو أن يقبض روحه‪،‬‬
‫أو حنو ذلك من االعتقادات والظنون واملخاوف اليت قد ينزهلا بعض الناس بغري هللا جل وعال‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬أن خياف بعض الناس من املقبورين؛ فيكون خائفاً من صاحب القرب‪ ،‬وجتده يرتك بعض‬
‫األعمال ال يفعلها خوفاً من صاحب القرب‪ .‬أحدهم قيل له‪ :‬احلف ابهلل ‪ -‬وكان كاذابً ‪ -‬فحلف‪ ،‬فقيل له‪:‬‬
‫احلف ابلويل فالن؛ فامتنع‪ ،‬خاف يف ابطنه وقلبه من الويل أشد من خوفه من هللا سبحانه وتعاىل‪ ،‬ملا حلفوه ابهلل‬
‫حلف‪ ،‬وملا حلفوه ابلويل امتنع؛ هذا خوف السر‪ ،‬خياف من الويل أن يصيبه‪ ،‬خوف سر يف ابطنه أشد من خوفه‬
‫من هللا؛ هذا شرك ابهلل‪.‬‬
‫قال يل مرة أحد التجار يف إحدى الدول‪ ،‬صاحب أموال‪ ،‬وجاهل يف الدين‪ ،‬وانصحته فيما قال يل‪ ،‬قال‬
‫يل‪ :‬أان أبيع على الناس حاجات‪ ،‬وأحياانً أبيع ابلدين‪ ،‬يعين أيخذون مين ابلدين‪ ،‬ويوفون فيما بعد‪ ،‬قال‪ :‬فبعضهم‬
‫جيحد أحياانً أن يل عنده شيء‪ ،‬يقول‪ :‬جربت إذا حلفتهم ابهلل حيلفون‪ ،‬وإذا حلفتهم ابلشيخ فالن ما حيلفون‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬أان دائماً ما أحلفهم ابهلل‪ ،‬أحلفهم ابلشيخ؛ ألهنم أبداً إذا حلفتهم ابلشيخ ما جيحد‪ ،‬خياف من الشيخ‪،‬‬
‫من الويل خوف سر‪ ،‬ورب العاملني ال خياف منه هذا اخلوف الذي خيافه من الشيخ!‪ .‬هذا العمل ما هو؟ هذا‬
‫شرك ابهلل‪ ،‬خوف السر عبادة ال تصرف إال هلل سبحانه وتعاىل‪ .‬أحد هؤالء قيل له‪ :‬احلف ابهلل فحلف‪ ،‬قيل له‪:‬‬
‫احلف ابلويل الفالين فحلف‪ ،‬فغضب صاحبه‪ ،‬أان ملا قرأت هذه الكلمة «فغضب صاحبه»‪ ،‬ظننت أنه غضب‬
‫للشرك ((من حلف بغري هللا فقد كفر أو أشرك)) ظننت أنه غضب للشرك‪ ،‬قال‪" :‬فغضب صاحبه‪ ،‬وقال‪ :‬حتلف‬
‫ابلويل الفالين‪ ،‬وأنت تعلم أنه يعلم أنك كاذب؟!" الويل ميت يف قربه‪ ،‬وملا حلف ابهلل ما قال له‪ :‬حتلف ابهلل‪،‬‬
‫وأنت تعلم أن هللا يعلم أنك كاذب‪ ،‬ما قال له هذه الكلمة‪ ،‬لكن ملا حلف ابلويل غضب‪ ،‬وملا حلف ابهلل مل‬
‫يغضب!‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫فمثل هذا التعلق ‪-‬تعلق القلوب‪ -‬ابألولياء واملقبورين‪ ،‬وأن خياف منهم‪ ،‬هذا شرك ابهلل سبحانه وتعاىل‪،‬‬
‫بعضهم ميتنع من أعمال مثل أن ميتنع من زان أو‪ ،..‬خيوفونه ابلويل‪ ،‬ما خيوفونه ابهلل‪ ،‬فيكون هذا اخلوف الذي وقع‬
‫يف قلبه ومنعه من الفاحشة شرك ابهلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬انقل من امللة‪ ،‬الزان ما ينقل من امللة‪ ،‬والسرقة ما تنقل من‬
‫امللة‪ ،‬لكن الشرك ابهلل ينقل من امللة‪ ،‬خيرج من الدين ﴿ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ‬
‫ﯚ﴾[الزمر‪]65:‬؛ الشرك حمبط لألعمال كلها‪.‬‬
‫ابن مسعود رضي هللا عنه قال‪« :‬ألن أحلف ابهلل كاذابً أحب إيل من أحلف بغريه صادقاً»؛ ألن احللف‬
‫ابهلل كاذابً ما هو؟ كبرية وليس شركاً‪ ،‬واحللف بغريه صادقاً شرك ابهلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬وعندما توازن بني الكلمتني‬
‫تدرك فقه الصحابة؛ يقول رضي هللا عنه‪« :‬ألن أحلف ابهلل كاذابً أحب إيل من أحلف بغريه صادقاً»‪ ،‬ويف كل‬
‫من األمرين حسنة وسيئة‪:‬‬
‫األمر األول‪ :‬احللف ابهلل فيه حسنة‪ :‬حسنة التوحيد‪ ،‬وفيه سيئة‪ :‬سيئة الكذب‪.‬‬ ‫❖‬
‫واألمر الثاين‪ :‬فيه حسنة الصدق‪ ،‬وفيه سيئة الشرك‪.‬‬ ‫❖‬
‫فإذا وازنت تدرك فقه الصحابة رضي هللا عنهم‪ ،‬وهلذا قال رضي هللا عنه‪« :‬ألن أحلف ابهلل كاذابً أحب إيل‬
‫من أحلف بغريه صادقاً»؛ ألن احللف ابهلل كاذابً كبرية‪ ،‬واحللف بغريه صادقاً شرك ابهلل جل وعال‪ ،‬كما قال نبينا‬
‫عليه الصالة والسالم‪(( :‬من حلف بغري هللا فقد كفر أو أشرك))‪.‬‬
‫الشاهد أن خوف السر عبادة‪ ،‬ال جيوز صرفه لغري هللا‪ ،‬وخوف السر عرفنا معناه‪ ،‬وهو أن خياف من غري هللا‬
‫من ميت أو غائب أو حنو ذلك‪ ،‬خياف أن يقبض روحه‪ ،‬خياف أن يطلع على عمله‪ ،‬يرتك احملرمات خوفاً منه‪،‬‬
‫يفعل الواجبات خوفاً منه أو حنو ذلك؛ هذا يسمى خوف السر‪ ،‬وهو عبادة ال جيوز أن تصرف إال هلل رب‬
‫العاملني‪ ،‬وسيأيت الدليل على ذلك عند املصنف رمحه هللا تعاىل‪.‬‬
‫أما اخلوف الطبيعي؛ خوف اإلنسان من عقرب أمامه‪ ،‬أو من حية‪ ،‬أو من انر مشتعلة‪ ،‬أو من عدو أمامه؛‬
‫هذا خوف طبيعي‪ ،‬جاء يف احلديث‪« :‬كان النيب عليه الصالة والسالم إذا خاف من قوم قال‪ :‬اللهم إننا جنعلك‬
‫يف حنورهم‪ ،‬ونعوذ بك اللهم من شرورهم»‪ ،‬ويف القرآن‪﴿ :‬ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾ ملا ألقى السحرة‬
‫بعصيهم‪ ،‬وأصبحت حيات تسعى ﴿ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ﴾[طه‪]68-67:‬؛ فهذا خوف طبيعي‪،‬‬
‫يعين أمام اإلنسان أسد أو عقرب أو حية أو انر مشتعلة أو عدو متسلط فيخاف منه‪ ،‬هذا خوف طبيعي‪ ،‬وال‬
‫شيء على اإلنسان فيه‪ ،‬لكن اخلوف الذي هو عبادة هو خوف السر؛ كأن خياف غائباً أو خياف ميتاً أو حنو‬
‫ذلك‪ ،‬فيرتك مثالً احملرم خوفاً منه‪ ،‬أو يفعل الواجب خوفاً منه أو حنو ذلك؛ هذا خوف سر ال يكون إال هلل تبارك‬
‫وتعاىل‪ ،‬ومن صرفه لغري هللا فقد أشرك‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫واخلوف من هللا هو عبادة قلبية عظيمة تسوق اإلنسان إىل فعل الطاعات واجتناب احملرمات‪ ،‬ألن العبد‬
‫كلما كان من هللا أخوف كان لعبادته أطلب‪ ،‬وقد قيل‪« :‬كل شيء ختاف منه تفر منه؛ إال هللا سبحانه وتعاىل‬
‫إذا خفته فررت إليه»‪﴿ ،‬ﰃ ﰄ ﰅﰆ﴾[الذارايت‪ ]50:‬ال ملجأ من هللا إال إليه‪ ،‬ليس لك ملجأ ﴿ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ﴾‬
‫[القيامة‪]11:‬‬

‫ال مفر لك وال ملجأ إليك إال إىل هللا سبحانه وتعاىل؛ فالعبد إذا خاف هللا سبحانه وتعاىل يف قلبه ترك احملرمات‪،‬‬
‫وابتعد عن اآلاثم وعن املعاصي خوفاً من هللا‪ .‬فاخلوف عبادة قلبية عظيمة‪ ،‬والعلماء رمحهم هللا يقولون‪ :‬العبادات‬
‫عموماً تقوم على أركان ثالثة يف القلب‪ ،‬وهي‪ :‬احملبة والرجاء واخلوف‪ ،‬وسيأيت ذكر الرجاء عند املصنف‪.‬‬
‫فاحملبة عبادة‪ ،‬والرجاء عبادة‪ ،‬واخلوف عبادة؛ وهي للعبادات كلها مبثابة األركان‪ ،‬تقوم العبادات كلها على‬
‫هذه األركان الثالثة‪ :‬احلب والرجاء واخلوف‪ .‬إذا قيل لك مثالً ملاذا تصلي؟ ملاذا تصوم؟ ملاذا حتج؟ تقول‪ :‬أان أؤدي‬
‫هذه الطاعات حباً هلل‪ ،‬ورجاء لثوابه‪ ،‬وخوفاً من عقابه‪ ،‬كما قال هللا سبحانه وتعاىل‪﴿ :‬ﯥ ﯦ ﯧ‬
‫فهذا شأن أهل اإلميان وأهل‬ ‫ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾‬
‫[اإلسراء‪]57:‬‬

‫الطاعات‪ ،‬يتقربون إىل هللا سبحانه وتعاىل أبنواع القرب وأنواع العبادات‪ ،‬حباً هلل‪ ،‬ورجاءً لثواب هللا‪ ،‬وخوفاً من‬
‫عقاب هللا سبحانه وتعاىل‪ .‬وهبذا يعلم أن هذه الثالث ‪-‬احلب والرجاء واخلوف‪ -‬أركان قلبية للعبادات كلها‪ ،‬وهبا‬
‫أيضاً يعلم مكانة اخلوف من الدين؛ اخلوف من هللا سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫اخلوف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾))؛ أول اآلية‪﴿ :‬ﭢ ﭣ‬ ‫ِ‬ ‫ودليل‬
‫قال‪ُ (( :‬‬
‫ﭤ ﭥ ﭦ﴾[آل عمران‪]175:‬؛ أي خيوفكم أبوليائه‪ ،‬قال‪﴿ :‬ﭧ ﭨ﴾ يعين ال ختافوا أولياء الشيطان‪،‬‬
‫﴿ﭩ﴾ أي ليكن خوفكم من هللا وحده ﴿ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾ أي ابهلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬ومبا أمركم جل‬
‫وعال ابإلميان به؛ فال ختافوا إال هللا‪ ،‬ال ختافوا الشيطان‪ ،‬وال ختافوا أولياء الشيطان‪ ،‬ال ختافوا إال هللا جل وعال‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾ جعل اخلوف شرطاً يف صحة اإلميان‪ ،‬قال‪﴿ :‬ﮧ ﮨ‬
‫ﮩ ﮪ﴾؛ فكما أنه إذا دعا غري هللا أو سأل غري هللا انتفى عنه اإلميان‪ ،‬فكذلك إذا خاف غري هللا خوف‬
‫السر‪ ،‬مثل أن خياف أن يفعل به شيئاً بسره‪ ،‬فإن اخلوف أنواع منه خوف السر‪ ،‬فإذا خاف من غري هللا فيما ال‬
‫يقدر عليه إال هللا فهو مشرك كافر ابهلل سبحانه وتعاىل‪ .‬وهذا له أمثلة أشرت إىل بعضها‪ ،‬مثل لو خاف من أحد‬
‫غائب أو ميت أو حنو ذلك أن يزيغ قلبه‪ ،‬أو أن يضله‪ ،‬أو أن يقبض روحه أو حنو ذلك؛ هذا كله خوف سر‪،‬‬
‫وهو شرك ابهلل سبحانه وتعاىل‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫الر ِ‬
‫جاء)) والرجاء عبادة قلبية من أجل العبادات‪ ،‬والرجاء‪ :‬هو الطمع واألمل؛ طمع القلب‬‫ودليل َّ‬
‫قال‪ُ (( :‬‬
‫وأمله ابهلل سبحانه وتعاىل ومبا عنده‪ ،‬وطمعه يف رمحة هللا ﴿ﯮ ﯯ﴾[اإلسراء‪ ،]57:‬وهو عبادة ال تصرف إال هلل‬
‫جل وعال‪ ،‬قال هللا تعاىل‪﴿ :‬ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ﴾[الكهف‪ ،]110:‬ومر معنا ﴿ﯮ ﯯ﴾؛ فالرجاء عبادة‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ﴾ األعمال الصاحلات والطاعات الزاكيات يقدمها املسلم يف‬
‫هذه احلياة‪ ،‬يرجو هبا لقاء هللا على خري حال‪ .‬فالرجاء عبادة وهي عبادة قلبية‪ ،‬عبادة مكاهنا القلب‪ ،‬بل هو من‬
‫أركان التعبد القلبية وهي‪ :‬الرجاء واخلوف واحملبة‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ﴾؛ «أح ًدا» نكرة يف سياق النهي‬
‫فتفيد العموم‪ ،‬من كان يرجو لقاء هللا‪ ،‬ويطمع يف ثوابه‪ ،‬وخياف من عقابه‪ ،‬ويعلم أنه سيقف يوماً بني يديه حياسبه‬
‫وجيازيه ﴿ﰕ ﰖ ﰗ﴾ أي ليتقرب إىل هللا‪ ،‬وليكثر من األعمال الصاحلة املقربة إىل هللا ﴿ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ‬
‫ﰜ ﰝ﴾‪.‬‬
‫وهذه اآلية كما نبه العلماء مجعت بني شرطي قبول العمل‪ ،‬فإن األعمال ال تقبل إال بشرطني‪ :‬إخالص‬
‫للمعبود‪ ،‬ومتابعة للرسول عليه الصالة والسالم؛ اإلخالص يف قوله‪﴿ :‬ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ﴾‪ ،‬واملتابعة يف‬
‫قوله‪﴿ :‬ﰕ ﰖ ﰗ﴾‪ ،‬ألن العمل الصاحل هو ما وافق السنة‪ ،‬وهللا ال يقبل العمل إال إذا كان خالصاً‬
‫لوجهه‪ ،‬صواابً على وفق هدي نبيه صلوات هللا وسالمه عليه‪ .‬وهلذا جاء عن الفضيل بن عياض رمحه هللا أنه قال‬
‫قال‪« :‬أخلصه وأصوبه» قيل‪ :‬اي أاب علي‪ ،‬وما‬ ‫يف معىن قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ﴾‬
‫[امللك‪]2:‬‬

‫أخلصه وأصوبه؟ قال‪« :‬إن العمل إذا كان خالصاً ومل يكن صواابً مل يقبل‪ ،‬وإذا كان صواابً ومل يكن خالصاً مل‬
‫يقبل‪ ،‬حىت يكون خالصاً صواابً‪ ،‬واخلالص‪ :‬ما كان هلل‪ ،‬والصواب‪ :‬ما كان على السنة»‪.‬‬
‫ودليل التَّوُّك ِل))؛ والتوكل أيضاً عبادة قلبية‪ ،‬عبادة مكاهنا القلب‪ ،‬وهو التقويض واالعتماد ﴿ﮈ‬
‫قال‪ُ (( :‬‬
‫ﮉ ﮊ ﮋﮌ﴾[غافر‪ ]44:‬اعتماد القلب‪ ،‬االعتماد والتفويض ال يكون إال على هللا سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫ودليل التَّوُّك ِل قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ﴾)) إن كنتم مؤمنني فابرؤوا من‬
‫قال‪ُ (( :‬‬
‫حول أنفسكم وقوهتا‪ ،‬ومن حول الناس وقوهتم‪ ،‬واعتمدوا يف أموركم وحاجاتكم ورغباتكم وشؤونكم كلها على هللا‬
‫وحده‪ ،‬فوضوا األمور كلها إىل هللا‪ ،‬اجلأوا فيها إىل هللا‪ ،‬اعتمدوا فيها بقلوبكم على هللا سبحانه وتعاىل؛ أموركم‬
‫الدينية والدنيوية‪ .‬وهلذا وجه نبينا عليه الصالة والسالم من خيرج من بيته أن يقول‪« :‬بسم هللا‪ ،‬توكلت على هللا‪ ،‬ال‬
‫حول وال قوة إال ابهلل»‪ ،‬وهذه الكلمات الثالث كلها كلمات استعانة وتوكل «بسم هللا‪ ،‬توكلت على هللا‪ ،‬ال حول‬
‫وال قوة إال ابهلل» قال‪(( :‬فإذا قال ذلك قيل له‪ :‬هديت ووقيت وكفيت)) أي هداك هللا‪ ،‬ووقاك هللا‪ ،‬وكفاك هللا‪،‬‬

‫‪42‬‬
‫ألنك متوكل على هللا ﴿ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ﴾[الطالق‪﴿ ]3:‬ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ﴾[الزمر‪ ،]36:‬من توكل على هللا‬
‫لو كادته السماوات واألرض ومن فيها فاهلل سبحانه وتعاىل انصره ومؤيده وحافظه وكافيه‪(( ،‬واعلم أن األمة لو‬
‫اجتمعوا على أن يضروك بشيء‪ ،‬لن يضروك إال بشيء كتبه هللا عليك))‪ .‬فالتوكل عبادة وال تكون هذه العبادة إال‬
‫على هللا سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫نبينا عليه الصالة والسالم مرةً كان قافالً مع أصحابه من غزوة‪ ،‬فأدركهم التعب فناموا مجيعاً‪ ،‬وانم عليه‬
‫الصالة والسالم وسيفه إىل جنبه‪ ،‬فجاء رجل من األعداء‪ ،‬وأراد أن يغتنم هذه الفرصة‪ ،‬يريد قتل النيب عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬فأخذ يتخطى هبدوء‪ ،‬إىل أن جاء إىل النيب عليه الصالة والسالم‪ ،‬وأخذ السيف‪ ،‬وسله مصلتاً؛ ففتح‬
‫عليه الصالة والسالم عينيه‪ ،‬وإذا هبذا العدو واقف‪ ،‬وبيده السيف‪ ،‬ويريد أن يهوي به على رسول اله عليه الصالة‬
‫والسالم؛ يد قوية‪ ،‬وهبا سيف صلت‪ ،‬ورافعاً له‪ ،‬ما بقي إال أن يهوي به‪ ،‬فقال الرجل خماطباً النيب عليه الصالة‬
‫والسالم‪" :‬من حيميك مين؟" فقال عليه الصالة والسالم بكل ثقة وتوكل على ربه جل وعال‪(( :‬هللا))‪ ،‬قال‪" :‬من‬
‫حيميك مين؟" يعين من خيلصك؟ من ينقذك؟ من ينجيك مين؟ قال النيب عليه الصالة والسالم‪(( :‬هللا))‪ ،‬فلما قال‬
‫عليه الصالة والسالم ((هللا)) تعطلت يد الرجل عن احلركة‪ ،‬يده وساعده القوي املمسك ابلسيف بقوة‪ ،‬أصبحت‬
‫يده معطلة‪ ،‬ال حتسن تقبض على سيف‪ ،‬وال حتسن أن تضرب بسيف‪ ،‬ليس فيها قوة‪ ،‬عطلها هللا سبحانه وتعاىل‬
‫عن ما فيها من القوة؛ فسقط السيف من يده ألن يده أصبحت ما تتحرك‪ ،‬فقام عليه الصالة والسالم وأخذ‬
‫السيف‪ ،‬وأمسك ابلسيف‪ ،‬وقال له‪ :‬من حيميك مين؟ فأخذ يرتجى‪ :‬أنت كرمي‪ ،‬وأنت ابن كرمي‪ ،‬ويطلب من النيب‬
‫عليه الصالة والسالم أن يساحمه‪.‬‬
‫موسى عليه السالم ملا تراءى اجلمعان ماذا قال له قومه؟ قالوا «إان ملدركون»؛ يرون حقيقة مفزعة؛ البحر‬
‫أمامهم‪ ،‬وفرعون جبيشه وعتاده وجنوده وقوته وصلوهم؛ قالوا إان ملدركون‪﴿ ،‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ‬
‫ﭘ ﭙ﴾[الشعراء‪]61:‬ماذا قال موسى؟ ﴿ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾[الشعراء‪ ]62:‬هذا توكل على هللا‪ ،‬واعتماد على‬
‫هللا سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫التوكل عبادة قلبية ال جيوز أن تصرف إال إىل هللا‪ ،‬وهي عبادة تصحب املسلم يف كل أموره الدينية والدنيوية؛‬
‫إذا أردت أن تصلي‪ ،‬تصوم‪ ،‬حتج‪ ،‬تتصدق‪ ،‬تفعل أي طاعة‪ ،‬فعليك أن تتوكل على هللا سبحانه وتعاىل فيها‪،‬‬
‫تعتمد فيها عليه سبحانه وتعاىل‪ .‬وإذا أردت أيضاً حاجاتك الدنيوية من بيع وشراء وطعام وشراب ولباس وغري‬
‫ذلك أيضاً تتوكل على هللا‪.‬‬
‫وهلذا ينبغي أن يعلم أن التوكل عبادة قلبية تصحب املسلم يف حياته كلها‪ ،‬يف أموره الدينية وأموره الدنيوية‪،‬‬
‫جيب على املسلم أن يكون شأنه يف أموره وأعماله وشؤونه وأحواله كلها متوكالً على هللا سبحانه وتعاىل ﴿ﮧ‬

‫‪43‬‬
‫ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ﴾[الطالق‪ ]3:‬أي كافيه‪ ،‬ومن يتوكل على هللا ماذا يكون له؟ ((من تعلق شيئاً وكل إليه))‪ ،‬ومن‬
‫توكل على غري هللا وكل إىل اخلسران واحلرمان يف دنياه وأخراه‪ .‬فالتوكل عبادة قلبية عظيمة‪ ،‬ال جيوز أن تصرف إال‬
‫هلل سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫وال يعين التوكل ترك األسباب‪ ،‬بل التوكل على هللا حق التوكل يكون مع فعل األسباب؛ وهلذا إمام املتوكلني‬
‫عليه الصالة والسالم كان يفعل األسباب ويباشرها‪ ،‬األسباب يف األمور الدينية واألمور الدنيوية‪ ،‬كان يباشر ذلك‬
‫عليه الصالة والسالم‪ ،‬وأيمر بذلك؛ وهلذا جاء يف احلديث الصحيح عنه قال‪(( :‬لو توكلتم على هللا حق توكله‪،‬‬
‫لرزقكم كما يرزق الطري‪ ،‬تغدو مخاصاً‪ ،‬وتروح بطاانً))‪ ،‬قال‪« :‬تغدو» الطري ما جلست يف أوكارها تنتظر أن أيتيها‬
‫الطعام! بل متشي‪ ،‬وتذهب املسافات‪ ،‬تبحث عن الشراب وعن الطعام‪ ،‬وهلذا التوكل البد فيه من فعل األسباب‪،‬‬
‫وهلذا قال نبينا عليه الصالة والسالم‪(( :‬احرص على ما ينفعك واستعن ابهلل)) قال‪« :‬احرص على ما ينفعك»‬
‫يعين افعل األمور اليت تنفعك‪ ،‬واجتهد على فعلها‪ ،‬وال تتوكل إال على هللا‪ ،‬قال‪« :‬واستعن ابهلل» أي توكل على‬
‫هللا‪.‬‬
‫الصحايب الذي سأل النيب عليه الصالة والسالم عن انقته قال‪« :‬أعقلها وأتوكل‪ ،‬أو أتركها وأتوكل؟» يعين‬
‫هل أعقل الناقة؟ أضع هلا عقال يف قدمها حىت ال تذهب‪ ،‬وأتوكل على هللا؟ أو أتركها طليقة بدون عقال‪ ،‬وأتوكل‬
‫على هللا؟ إىل ماذا أرشده عليه الصالة والسالم؟ أرشده إىل فعل السبب‪ ،‬قال‪(( :‬اعقلها وتوكل)) يعين ضع يف‬
‫رجلها العقال‪ ،‬وتوكل على هللا؛ أرشده عليه الصالة والسالم إىل فعل السبب‪.‬‬
‫عمر رضي هللا عنه ملا ذكر له طائفة من الناس جاءوا إىل احلج بدون زاد‪ ،‬وقالوا‪ :‬حنن املتوكلون‪ ،‬قال‪« :‬بل‬
‫هم املتواكلون»‪ ،‬املتوكل هو الذي يضع بذره‪ ،‬ويتوكل على هللا‪ ،‬البد أن يفعل السبب‪ ،‬أما أن جيلس معطالً بدون‬
‫سبب ويريد أن حيصل!!‬
‫فالبد من فعل األسباب‪ ،‬وال يعتمد على األسباب‪ ،‬وإمنا يعتمد على هللا سبحانه وتعاىل؛ وهلذا لو أن‬
‫شخصاً قال‪" :‬إن كتب هللا يل أوالد يكون يل أوالد‪ ،‬لكن أان لن أتزوج إىل أن أموت"‪ ،‬أو شخص مثالً يقول‪:‬‬
‫"إن كتب هللا يل أن أكون من كبار العلماء احملققني سأكون‪ ،‬لكن لن أطلب العلم يوماً‪ ،‬ولن أذهب إىل عامل‪ ،‬ولن‬
‫أقرأ كتاابً‪ ،‬ولن أحفظ درساً‪ ،‬ولن أتفقه" هذا ال يكون عاملاً‪ .‬النيب عليه الصالة والسالم قال‪(( :‬إمنا العلم ابلتعلم‪،‬‬
‫وإمنا احللم ابلتحلم)) أرشد إىل فعل السبب‪ .‬وهلذا قال من قال‪:‬‬
‫متنيت أن متسي فقهياً مناظراً بغري عناء واجلنون فنون‬
‫وليس اكتساب املال دون مشقة تلقيتها فالعلم كيف يكون‬
‫يعين العلم ال يكون إال بفعل السبب‪ .‬فإذاً التوكل عبادة قلبية عظيمة جداً‪ ،‬تصحب املسلم يف أموره كلها‪،‬‬
‫وشؤونه مجيعها‪ ،‬الدينية والدنيوية‪ ،‬وهي شرط يف اإلميان؛ قال‪﴿ :‬ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ﴾‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ﴾ أي كافيه‪ ،‬يف اآلية األخرى قال‪﴿ :‬ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ﴾‬
‫فمعىن ﴿ﮬﮭ﴾ أي كافيه‪ ،‬احلسب هو الكايف؛ فالذي يتوكل على هللا يكون هللا سبحانه وتعاىل كافيه‪ ،‬ومؤيده‪،‬‬
‫وانصره‪ ،‬وحافظه‪ .‬فهذا دليل التوكل‪ ،‬ذكر رمحه هللا تعاىل على التوكل دليلني‪ ،‬مث استمر رمحه هللا تعاىل يف سوق‬
‫األدلة على بقية العبادات اليت ذكرها‪ ،‬وإىل هنا نقف‪.‬‬
‫وهللا تعاىل أعلم‪ ،‬وصلى هللا وسلم على رسول هللا وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫الدرس التاسع‬
‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني والعاقبة للمتقني‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له وأشهد أن حممداً عبده‬
‫ورسوله‪ ،‬صلى هللا وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أمجعني‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫قال شيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب رمحه هللا تعاىل وغفر له وللشارح والسامعني يف كتابه «األصول‬
‫الثالثة»‪:‬‬
‫شوع قولُه تعاىل‪﴿ :‬ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬ ‫والرهبَ ِة واخلُ ِ‬
‫ودليل ا َّلر ْغبَ ِة َّ‬
‫ُ‬
‫ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾[األنبياء‪.]90:‬‬
‫شية قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮭ ﮮ ﮯ﴾[البقرة‪.]150:‬‬ ‫ودليل اخلَ ِ‬
‫ُ‬
‫اإلانبة قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾[الزمر‪.]54:‬‬ ‫ِ‬ ‫ودليل‬
‫استَ ِع ْن‬ ‫ِ‬ ‫االستعانة قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾[الفاحتة‪ ،]5:‬ويف‬ ‫ِ‬
‫ت فَ ْ‬‫استَ َع ْن َ‬
‫احلديث‪« :‬إ َذا ْ‬ ‫ودليل‬
‫ِ‬
‫ابهلل»‪.‬‬
‫ودليل االستعاذةِ قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾[الفلق‪﴿ ،]1:‬ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾[الناس‪.]1:‬‬
‫ِ‬
‫االستغاثة قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ﴾[األنفال‪.]9:‬‬ ‫ودليل‬
‫ودليل َّ‬
‫الذبْ ِح قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ﴾‬
‫[األنعام‪-162:‬‬

‫السن َِّة‪« :‬لَعن هللا من َذبح لِغَ ِْري ِ‬


‫هللا»‪.‬‬ ‫‪ِ ،]163‬‬
‫وم َن ُّ‬
‫ََ َُْ ََ‬
‫ودليل النَّ ْذ ِر قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾[اإلنسان‪.]7:‬‬
‫ُ‬
‫***************‬
‫فإن املصنف رمحه هللا تعاىل يذكر هنا أنواعاً من العبادات اليت أمر هللا تبارك وتعاىل عباده هبا وخلقهم‬
‫لتحقيقها‪ ،‬وأرسل إليهم رسله لبياهنا وإيضاحها‪ ،‬وهذه العبادات كلها صفات ذل وخضوع وطواعية وانكسار هلل‬
‫تبارك وتعاىل‪ ،‬ووظائف الشرع وطاعاته مسيت عبادات ألهنا هيئات يذل فيها العبد وينكسر وخيضع لربه جل‬
‫وعال‪ .‬والعبادة أصلها وأصل مدلوهلا يف اللغة‪ :‬من الذل؛ يقال طريق معبد‪ :‬أي مذلل‪ .‬والعبادات مسيت عبادات‬
‫ملا فيها من الذل هلل واخلضوع له جل وعال‪ ،‬ومجيع ما يقوم به العبد من قرب وطاعات وأعمال وأقوال حيبها هللا‬
‫جل وعال ويرضاها من عباده‪ ،‬هذه كلها عبادات يذل فيها العبد هلل جل وعال‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫والعبادات منها ما هو يف القلب؛ مثل اخلشية واإلانبة والتوكل والرجاء واخلوف‪ ،‬ومنها ما هو يف اللسان؛‬
‫كذكر هللا‪ ،‬ودعائه‪ ،‬وتالوة القرآن‪ ،‬واألمر ابملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬ومنها ما هو ابجلوارح؛ كالصالة‪ ،‬والصيام‪،‬‬
‫واحلج وغري ذلك من العبادات املقربة إىل هللا سبحانه وتعاىل‪ .‬والواجب على املسلم أن يعرف العبادة ما هي؛‬
‫ألمرين‪:‬‬
‫األمر األول‪ :‬لكي يصرفها هلل وحده‪ ،‬ذالً وخضوعاً وطاعةً وامتثاالً‪ ،‬ولكي ال يصرف شيئاً منها‬ ‫•‬
‫لغريه؛ فصرفها هلل تبارك وتعاىل وحده توحيد‪ ،‬وصرفها لغريه شرك‪ .‬والتوحيد قوام األمر‪ ،‬والشرك انقض للدين‪،‬‬
‫وقادح يف اإلميان‪ ،‬وانقل من امللة؛ وهلذا كان متأكداً على كل مسلم أن يعرف العبادة لكي يصرفها كلها هلل‪،‬‬
‫يصلي هلل‪ ،‬يصوم هلل‪ ،‬يذبح هلل‪ ،‬ينذر هلل‪ ،‬يرجو رمحة هللا‪ ،‬خياف عذاب هللا‪ ،‬يتوكل على هللا ﴿ﯓ ﯔ ﯕ‬
‫ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ﴾[األنعام‪ ،]162:‬جيعل ذلك كله هلل وحده سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫واألمر الثاين‪ :‬لكي ال جيعل شيئاً منها لغريه‪ ،‬ألنه إن جعل شيئاً منها لغري هللا تبارك وتعاىل صار‬ ‫•‬
‫بذلك مشركاً‪ ،‬وإذا صار مشركاً انتقض دينه وحبط عمله وخرج من امللة‪ ،‬قال هللا تعاىل‪﴿ :‬ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ‬
‫ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ﴾ أي وحده ﴿ﭜ ﭝ ﭞ‬
‫ﭟ﴾[الزمر‪ ]66-65:‬فالعبادة حق هلل وحده‪.‬‬
‫فإذاً مقام العبادة مقام عظيم‪ ،‬وجيب على كل مسلم أن يعرف العبادة ما هي؛ لكي يصرفها أبنواعها‬
‫وأفرادها هلل جل وعال وحده‪ ،‬حمققاً قوله‪﴿ :‬ﯟ ﯠ ﯡ﴾‪ ،‬ولكي ال يصرف شيئاً منها لغريه فيكون بذلك –‬
‫والعياذ ابهلل‪ -‬من املشركني‪ ،‬فينتقض عليه دينه وينتقل من امللة‪ .‬وهلذا كان من نصح املصنف رمحه هللا تعاىل هنا أن‬
‫ذكر بعض العبادات على سبيل التمثيل‪ ،‬من العبادات القلبية والعبادات البدنية والعبادات املالية؛ نوع رمحه هللا يف‬
‫ذكر العبادات‪ ،‬حىت يفقه املسلم أنواع العبادة‪ ،‬لكي يصرفها كلها هلل ﴿ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬
‫ﭿ﴾[اجلن‪ ،]18:‬ولكي ال يصرف شيئاً منها لغري هللا تبارك وتعاىل‪.‬‬
‫وهلذا ينبغي أن يكون منا على ابل ‪ -‬وحنن نقرأ هذه العبادات مع دالئلها‪ -‬أن يكون منا على ابل اآليتني‬
‫اللتني قدم رمحه هللا الكالم على هذه األنواع هبا؛ وهي قول هللا سبحانه وتعاىل‪﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ‬
‫ﭾ ﭿ﴾ فهذه فيها الدليل على أن العبادات كلها هلل‪ ،‬واآلية الثانية قول هللا تعاىل‪﴿ :‬ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ‬

‫ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾[املؤمنون‪ ]117:‬وهي تدل على أن من صرف شيئاً‬


‫من العبادة لغري هللا فإنه يكون بذلك مشركاً ابهلل عز وجل‪ ،‬ويكون بذلك كافراً ﴿ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫والرهبَ ِة واخلُ ِ‬
‫شوع))؛ الرغبة والرهبة واخلشوع هذه ثالث عبادات‪ ،‬جاءت‬ ‫الر ْغبَ ِة َّ‬
‫ودليل َّ‬
‫قال هنا رمحه هللا‪ُ (( :‬‬
‫جمتمعةً يف آية واحدة‪ ،‬وصفاً ألنبياء هللا ورسله عليهم صلوات هللا وسالمه‪ ،‬ألن هللا سبحانه وتعاىل ذكر عدداً من‬
‫األنبياء‪ ،‬وذكر شيئاً من خربهم‪ ،‬وطرفاً من قصصهم‪ ،‬مث ختم ذلك كله بقوله سبحانه‪﴿ :‬ﮞ﴾ أي هؤالء األنبياء‬
‫﴿ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾[األنبياء‪]90:‬؛ فوصفهم أبهنم‬
‫أي إليه‬ ‫راغبون إىل هللا ﴿ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾[التوبة‪﴿ ،]59:‬ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ﴾‬
‫[الشرح‪]8-7:‬‬

‫وحده دون سواه‪ ،‬فوصفهم ابلرغبة إىل هللا جل وعال‪ ،‬ووصفهم ابلرهبة منه؛ فهم إليه راغبون‪ ،‬ومنه جل وعز‬
‫راهبون‪ ،‬وختم اآلية أبهنم له جل وعال خاشعون؛ فذكر ثالث عبادات امتدح هبا األنبياء‪ ،‬وأثىن عليهم هبا‪ ،‬وهذا‬
‫مقام ثناء ومدح‪ ،‬وهذا أيضاً دليل على أن هللا حيب هذه األعمال‪ .‬وعرفنا ضابط العبادة اجلامع «اسم جامع لكل‬
‫ما حيبه هللا ويرضاه من األقوال واألعمال الظاهرة والباطنة»؛ فالرغبة والرهبة واخلشوع هذه كلها أعمال وطاعات‬
‫حيبها هللا‪ ،‬إذاً فهي عبادات ال يتقرب هبا إال إىل هللا‪ ،‬وال تصرف إال له سبحانه وتعاىل‪ ،‬فال تكون الرغبة إال إىل‬
‫هللا‪ ،‬وال تكون الرهبة إال من هللا‪ ،‬وال يكون اخلشوع إال هلل‪ .‬فهذه عبادات ال تصرف إال هلل هي حق له جل وعال‬
‫دون سواه‪ ،‬صرفها له توحيد‪ ،‬وصرفها لغريه شرك وتنديد‪ .‬وهي عبادات قلبية؛ الرغبة والرهبة واخلشوع‪:‬‬
‫أما الرغبة ففيها معىن الطلب؛ فيها معىن طلب القلب لألعمال والطاعات والقرابت اليت تدين‬ ‫❖‬
‫العبد من هللا سبحانه وتعاىل وتقربه منه‪ ،‬ومر معنا قريباً ذكر الرجاء‪ ،‬عبادة من العبادات املقربة إىل هللا‪ ،‬وتال‬
‫املصنف رمحه هللا يف ذلك قول هللا تعاىل‪﴿ :‬ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ﴾[الكهف‪﴿ ،]110:‬ﯮ ﯯ﴾[اإلسراء‪ ،]57:‬الرجاء‬
‫عبادة‪ ،‬والرغبة عبادة‪ ،‬ومعنامها متقارب‪ ،‬لكن مثة فرق بينهما‪ ،‬قال العالمة ابن القيم رمحه هللا تعاىل‪« :‬الفرق بني‬
‫الرغبة والرجاء‪ :‬أن الرجاء طمع‪ ،‬والرغبة طلب»؛ الرجاء طمع‪ ،‬يعين طمع القلب وأمله فيما عند هللا سبحانه‬
‫وتعاىل من ثواب ومن جزاء ومن إنعام وفضل وإحسان‪ ،‬والرغبة طلب‪ ،‬فهي ‪-‬أي الرغبة‪ -‬مثرة الرجاء‪ ،‬فإنه إذا رجا‬
‫الشيء طلبه‪ ،‬يعين إذا وقع يف قلبه رجاء للشيء سعى قلبه يف طلب ذلك الشيء‪ .‬فهذا يبني لنا الفرق بني الرجاء‬
‫والرغبة‪ :‬أن الرجاء طمع‪ ،‬والرغبة طلب‪ ،‬وتكون بذلك الرغبة مثرة للرجاء‪ ،‬مبعىن إذا وقع يف القلب رجاء أي طمع‬
‫فيما عند هللا عز وجل من الثواب واألجر‪ ،‬وجدت الرغبة إىل هللا سبحانه وتعاىل ابجلد واالجتهاد فيما يقرب إليه‬
‫سبحانه ﴿ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾[التوبة‪﴿ ،]59:‬ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ﴾[الشرح‪.]8-7:‬‬
‫والرهبة‪ :‬هي اإلمعان يف اهلرب من الشيء‪ ،‬إذا كان اإلنسان راهب من شيء ‪-‬يعين خائف منه‪-‬‬ ‫❖‬
‫فإن هذا يعطي معىن خوف القلب‪ ،‬وهلذا قال‪﴿ :‬ﯫ ﯬ ﯭﯮ﴾[األنبياء‪ ]90:‬أي أهنم يف دعائهم هلل سبحانه‬
‫وتعاىل بني الرغب والرهب؛ الرغب فيما عند هللا من فضل وعطاء وخري وإنعام‪ ،‬والرهب أيضاً من سخطه‪ ،‬ومن‬
‫أن يرد على اإلنسان عمله‪ ،‬أو ال يقبل دعاؤه‪ ،‬فيكون راغباً راهباً‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫وهذان األمران ‪-‬الرغبة والرهبة‪ -‬جيب على كل مسلم أن يستصحبهما يف كل طاعة‪ ،‬حبيث يكون يف كل‬
‫طاعة أييت هبا وعبادة يتقرب إىل هللا سبحانه وتعاىل هبا أن يكون يف ذلك كله راغب وراهب؛ راغب فيما عند هللا‪،‬‬
‫وراهب أيضاً من سخط هللا جل وعال‪ ،‬فتكون طاعاته بني الرغبة والرهبة‪ ،‬وبني الرجاء واخلوف؛ ومها للعامل مبثابة‬
‫اجلناحني للطائر‪ ،‬وهلذا قال ابن القيم رمحه هللا كلمة عظيمة تسطر‪ ،‬قال‪« :‬الرغبة والرهبة مادات التوفيق» مبعىن أن‬
‫العبد مادام عنده رغبة ورهبة بتوازن‪ ،‬وماضياً حياته كذلك على هذه احلال راغب وراهب‪ ،‬هذه مادات التوفيق‪،‬‬
‫يعين متده إبذن هللا تبارك وتعاىل ليسري سرياً حثيثاً فيما يقرب إىل هللا سبحانه وتعاىل ويدين من رمحته‪ ،‬فرغبته حتدوه‬
‫وتسوقه لفعل الصاحلات وأنواع الطاعات‪ ،‬وخوفه ورهبته تزجره عن ارتكاب املعاصي واخلطيئات‪.‬‬
‫وهلذا قال بعض السلف عن الرجاء واخلوف والرغبة والرهبة‪« :‬الرجاء قائد‪ ،‬واخلوف سائق»‪ ،‬الرجاء يقود‬
‫اإلنسان إىل اخلريات‪ ،‬واخلوف يسوقه من الوراء للتقدم واملضي يف اخلريات‪ ،‬وأيضاً مينعه إذا أراد أن يلتفت إىل‬
‫شيء من احلرام‪ ،‬أو أراد أن يدخل يف شيء من اآلاثم أيتيه اخلوف ومينعه –خوفا من هللا–؛ ميضي يف الطاعات‬
‫راجياً ثواب هللا‪ ،‬مقبالً على هللا‪ ،‬طامعاً يف ثواب هللا‪ ،‬إذا التفتت نفسه إىل ابب من أبواب احلرام جاءه اخلوف‬
‫ومنعه‪ ،‬وجاءته الرهبة وحجزته‪ ،‬فيمتنع خوفاً من هللا‪.‬‬
‫وهلذا املؤمن كلما عظم خوفه من هللا‪ ،‬ازداد بعده عن املعاصي والذنوب‪ ،‬وكلما أحضر يف قلبه اخلوف من‬
‫هللا عندما تقبل نفسه عن املعصية‪ ،‬امتنع منها‪ ،‬ألن اخلوف مينع اإلنسان‪ ،‬خوفه من هللا‪ ،‬من عقابه‪ ،‬من سخطه‪،‬‬
‫من بطشه‪ ،‬مينعه‪.‬‬
‫وهلذا القرآن والسنة كالمها قائمان على الرتغيب والرتهيب؛ الرتغيب بذكر آايت الرجاء والثواب واإلنعام‬
‫والفضل واإلكرام‪ ،‬والرتهيب بذكر العقاب والسخط واالنتقام والبطش والشدة‪ ،‬وهلذا ترى يف القرآن اجلنة والنار‬
‫يذكران معاً‪ ،‬الثواب والعقاب يذكران معاً ﴿ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ‬
‫﴿ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ﴾ هذا حيرك الرجاء‪﴿ ،‬ﯻ ﯼ ﯽ‬ ‫ﯿ ﰀ﴾‬
‫[احلجر‪]50-49:‬؛‬

‫ﯾ ﯿ ﰀ﴾ هذا حيرك اخلوف‪﴿ .‬ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ﴾‬


‫[اإلسراء‪]57:‬‬

‫فعندما يقرأ املسلم يف آايت الرجاء يقوى يف قلبه الرجاء‪ ،‬وعندما يقرأ يف آايت اخلوف حتجزه عن املعاصي؛‬
‫واقرأ هذا يف السورة اليت تكررها فرضاً واجباً كل يوم وليلة سبع عشرة مرة‪-‬سورة الفاحتة‪ ،-‬عندما تقرأ‪﴿ :‬ﭖ ﭗ‬
‫ﭘ ﭙ ﭓ ﭔ ﭕ﴾ وتتأمل يف هذين األمسني العظيمني‪ ،‬وما دال عليه من ثبوت الرمحة الواسعة‬
‫والواصلة‪ ،‬عندما تقرأ يف هذين االمسني متدبراً‪ ،‬ما الذي يتحرك يف قلبك؟ ﴿ﯮ ﯯ﴾‪ ،‬فإذا انتقلت إىل‬
‫اآلية اليت بعدها ﴿ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ وذكرت أن يوم الدين يوم احلساب والعقاب ﴿ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ‬
‫ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ﴾[االنفطار‪ ]19-17:‬فإذا قرأت‪﴿ :‬ﭞ ﭟ‬

‫‪49‬‬
‫ﭠ ﭡ﴾ دخل إىل قلبك ماذا؟ اخلوف؛ فتكون دائماً يف عباداتك راجي وخائف‪ ،‬الصالة تؤديها حباً هلل‪،‬‬
‫وعندما تقول‪﴿ :‬ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ يتحرك يف قلبك احلب‪ ،‬وعندما تقرأ‪﴿ :‬ﭓ ﭔ ﭕ﴾ يرتك الرجاء‪،‬‬
‫وعندما تقرأ‪﴿ :‬ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ يتحرك اخلوف؛ وهبذه الثالثة تكون الصالة‪ ،‬وهبا تكون كل الطاعات‪ .‬وهلذا‬
‫قال العلماء رمحهم هللا‪« :‬احلب والرجاء واخلوف أركان قلبية للتعبد» مبعىن أهنا تكون مستصحبة يف كل العبادات‪،‬‬
‫حاضرة مع املسلم يف كل الطاعات‪ ،‬يؤديها راجياً خائفاً‪ ،‬راغباً راهباً‪ ،‬وهبذين األمرين كما يقرر ابن القيم رمحه هللا‬
‫يتحقق التوفيق‪ ،‬فهما مادات التوفيق؛ مادات التوفيق‪ :‬أي لكل خري حيبه ويرضاه جل وعال‪ ،‬والبعد عن املعاصي‬
‫واآلاثم‪ .‬وقلة الطاعات والقصور فيها من ضعف الرغبة‪ ،‬والوقوع يف املعاصي واآلاثم من ضعف الرهبة؛ فإذا قويت‬
‫الرغبة‪ ،‬وقويت الرهبة‪ ،‬وكانتا يف العبد متوازنتني‪ ،‬مضى إبذن هللا تبارك وتعاىل يف طريق السداد والتوفيق‪ .‬اللهم‬
‫اهدان وسددان‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾ هذه العبادة الثالثة يف هذه اآلية‬ ‫❖‬
‫﴿ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾ واخلشوع‪ :‬هو السكون والطمأنينة‪ ،‬وهي عبادة عظيمة‪ ،‬مقربة إىل هللا جل وعال‪،‬‬
‫وهي يف معناها قريبة من اخلضوع‪ ،‬إال أن اخلضوع يف البدن‪ ،‬وأما اخلشوع فإنه يكون يف القلب‪ ،‬قلب خاشع‪،‬‬
‫ويكون أيضاً يف البصر ﴿ﭑ ﭒ﴾[املعارج‪ ]44:‬البصر خيشع‪ ،‬ويكون أيضاً يف اللسان؛ فاخلشوع يف القلب واللسان‬
‫والبصر‪ ،‬واخلضوع يف البدن‪ ،‬خيضع أي عندما يركع هلل ويسجد هذا خضوع هلل جل وعال‪ ،‬واخلشوع معىن أوسع‬
‫من ذلك‪ ،‬يكون ابلبدن‪ ،‬ويكون ابلقلب‪ ،‬ويكون ابللسان‪ ،‬ويكون ابجلوارح‪ ،‬وهي عبادة حيبها هللا ويرضاها‪،‬‬
‫وامتدح أنبياءه هبا‪ ،‬قال‪﴿ :‬ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾‪.‬‬
‫وهلذا ينبغي على املسلم أن يكون خاشعاً هلل يف صالته‪ ،‬أن يكون خاشعاً هلل جل وعال يف دعائه‪ ،‬ويف‬
‫طلبه‪ ،‬ويف سؤاله‪ ،‬فهي عبادة جليلة تصرف هلل‪ ،‬وال جيوز صرفها لغريه سبحانه وتعاىل‪﴿.‬ﯖ﴾‪ :‬أي خاضعني‬
‫متذللني هلل جل وعال‪ ،‬ءمسنكسرين جلنابه‪.‬‬
‫فدلت هذه اآلية على أن هذه الثالث‪ :‬الرغبة والرهبة واخلشوع أهنا كلها عبادات مقربة إىل هللا جل وعال‪،‬‬
‫فال تكون إال له‪ ،‬وال تصرف إال له سبحانه وتعاىل‪ .‬فإذا وقف إنسان أمام ضريح من األضرحة‪ ،‬أو موقع من‬
‫املواقع‪ ،‬متجهاً إىل خملوق من املخلوقات‪ ،‬وقامت فيه هذه األمور الثالثة‪ ،‬متقرابً هبا من هذا املخلوق‪ ،‬فجمع بني‬
‫الرغبة والرهبة واخلشوع‪ ،‬عند ضريح أو عند مكان أحد األموات من األولياء أو غريهم‪ ،‬فقام أمامه راغباً راهباً‬
‫خاشعاً‪ ،‬تكون جوارحه فيها ذلك؛ قلبه فيه الرغبة وفيه الرهبة وفيه اخلشوع‪ ،‬ويتحرك لسانه أمام ذلك املخلوق يف‬
‫الطمع والطلب‪ ،‬وبعضهم يصرح منادايً خملوقاً من املخلوقات‪" :‬اي فالن أان راغب فيما عندك‪ ،‬اي فالن أان خاشع‬

‫‪50‬‬
‫بني يديك"‪ ،‬بعضهم هبذا اللفظ ينطق بلسانه ما قام يف قلبه‪ ،‬من ذل وخضوع وانكسار وعبودية لغري هللا تبارك‬
‫وتعاىل!!‬
‫فإذا كانت الرغبة والرهبة واخلشوع عبادات حيبها هللا سبحانه وتعاىل‪ ،‬ويرضاها لعباده‪ ،‬وامتدحهم هبا يف‬
‫مواضع كثرية من القرآن؛ فإن صرفها لغري هللا شرك ابهلل‪ ،‬أايً كان الذي صرفت له هذه العبادة‪ ،‬سواء صرفت مللك‪،‬‬
‫أو صرفت لنيب‪ ،‬أو صرفت لويل‪ ،‬أو ألي أحد كان كائناً من كان‪.‬‬
‫أنبياء هللا وصفوة عباده مدحهم هللا أبهنم راغبون إىل هللا‪ ،‬راهبون من هللا‪ ،‬خاشعون هلل‪ ،‬وأهنم دعوا أقوامهم‬
‫إىل ذلك‪ ،‬وبينوا هلم ذلك‪ ،‬فمن صرف هذه األعمال لغري هللا تبارك وتعاىل فإنه يكون بذلك مشركاً‪.‬‬
‫وبعض الناس ممن بلي هبذه املفاسد والعظائم‪ ،‬رمبا عندما أييت إىل ضريح من األضرحة‪ ،‬يقوم يف قلبه من‬
‫الرغبة والرهبة واخلشوع ما ال يقوم يف قلبه إذا قام يصلي بني يدي هللا تبارك وتعاىل!! وهذه مصيبة عظمى‪ ،‬وبلية‬
‫كربى‪ ،‬وكارثة من أشد الكوارث‪ ،‬وعظيمة من أشد العظائم؛ وهلذا كان املقام مقاماً ينبغي أن يتفطن له املسلم‪،‬‬
‫وأن يعرف العبادات‪ ،‬ألجل أن يصرفها كلها هلل تبارك وتعاىل‪ ،‬وألجل أال جيعل لغري هللا سبحانه وتعاىل كائناً من‬
‫كان مشاركة هلل يف شيء منها‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫شية قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮭ ﮮ ﮯ﴾‬ ‫ودليل اخلَ ِ‬
‫ُ‬
‫********‬
‫قال رمحه هللا‪(( :‬ودليل اخلشية)) اخلشية أيضاً عبادة قلبية‪ ،‬اخلشية فعلة من خشيه أي خافه‪ ،‬وهو مبعىن‬
‫اخلوف‪ ،‬إال أنه أخص من اخلوف؛ ألن اخلشية عن معرفة‪ ،‬والباعث إليها املعرفة مبن خيشاه‪ ،‬قال هللا تعاىل‪﴿ :‬ﯞ‬
‫ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ﴾[فاطر‪ ،]28:‬وهلذا العبد كلما ازداد معرفة ابهلل وأبمسائه احلسىن وصفاته العال‪ ،‬ازداد خشية‬
‫من هللا‪ ،‬وكلما عظمت فيه اخلشية من هللا سبحانه وتعاىل‪ ،‬انكف عن احلرام‪ ،‬وابتعد عن اآلاثم‪ ،‬وهلذا قال ابن‬
‫القيم رمحه هللا ما معناه يف بعض كتبه‪« :‬من كان ابهلل أعرف‪ ،‬كان منه أخوف‪ ،‬ولعبادته أطلب‪ ،‬وعن معصيته‬
‫أبعد»؛ فمعرفة هللا‪ ،‬والعلم أبمسائه وصفاته سبحانه‪ ،‬تورث حبه‪ ،‬وتورث أيضاً خشيته جل وعال‪.‬‬
‫وإذا قامت يف قلب العبد اخلشية من هللا جل وعال‪ ،‬كانت سائقاً له إىل كل خري وفضيلة‪ ،‬وحاجزاً له عن‬
‫الوقوع يف كل سوء ورذيلة‪.‬‬
‫قال‪(( :‬ودليل اخلَ ِ‬
‫شية))؛ أي والدليل على أن اخلشية عبادة ال جيوز صرفها لغري هللا تبارك وتعاىل قول هللا‬ ‫ُ‬
‫جل وعال‪﴿ :‬ﮭ ﮮ ﮯ﴾))؛ قول هللا‪﴿ :‬ﮭ ﮮ﴾ أي الناس ﴿ﮯ﴾ أي اخشوين وحدي‪،‬‬
‫لتكن خشيتكم مين وحدي‪ ،‬وال ختشوا الناس‪ ،‬لتكن خشيتكم من هللا تبارك وتعاىل وحده‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﮭ ﮮ ﮯ﴾ أي ال ختافوا الناس‪ ،‬وال ختشوا الناس‪ ،‬ولتكن خشيتكم من هللا؛ ألن األمور‬
‫كلها بيده‪ ،‬ونواصي العباد بيده‪ ،‬وحكمه جل وعال ماض فيهم؛ فلتكن خشيتكم من هللا‪ ،‬ألن العبد مهما أويت‬
‫من القوة والقدرة‪ ،‬ال يستطيع أن يصل إليك أبي أذى إال شيء كتبه هللا عليك قال‪(( :‬واعلم أن األمة لو اجتمعوا‬
‫على أن يضروك بشيء مل يضروك إال بشيء كتبه هللا عليك))‪ ،‬إذاً امجع قلبك يف اخلشية‪ ،‬ولتكن من هللا سبحانه‬
‫وتعاىل وحده؛ فهذه عبودية قلبية‪ ،‬ال جيوز أن تصرف إال هلل لقوله تبارك وتعاىل‪﴿ :‬ﮭ ﮮ﴾ هذا هني‬
‫﴿ﮯ﴾ هذا أمر؛ هنى جل وعال عن خشية سواه‪ ،‬وأمر جل وعز خبشيته جل وعال وحده‪ ،‬فدل ذلك على‬
‫أن اخلشية عبادة من العبادات العظيمة‪ ،‬وأن صرفها لغري هللا تبارك وتعاىل شرك ابهلل‪.‬‬
‫اإلانبة قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ‬ ‫ِ‬ ‫قال‪(( :‬ودليل‬
‫ﯨ ﯩ﴾))؛ اإلانبة هي‪ :‬الرجوع واألوبة إىل هللا تبارك وتعاىل‪ ،‬ومعناها أوسع من معىن التوبة‪ ،‬ألن اإلانبة‬
‫إىل هللا جل وعال هي توبة وزايدة‪ ،‬ألن التوبة‪ :‬الرجوع من الذنب‪ ،‬وتركه‪ ،‬وعدم العودة إليه‪ .‬واإلانبة‪ :‬رجوع عن‬
‫الذنب‪ ،‬وإقبال على هللا جل وعال‪ ،‬وعلى طاعته‪ ،‬وعلى ما يقرب إليه؛ فاملنيب‪ :‬الراجع إىل هللا‪ ،‬اآليب إىل هللا‪،‬‬
‫املقبل على هللا‪ ،‬اتركاً للذنوب‪ ،‬مقبالً على الطاعات والعبادات وأنواع القرابت‪.‬‬
‫قال‪﴿ :‬ﯜ ﯝ ﯞ﴾ أي لتكن اإلانبة منكم إىل هللا وحده؛ ألن اإلانبة عبادة‪ ،‬ال تكون إال هلل‪ ،‬وهلذا‬
‫أمر هبا‪ ،‬قال‪﴿ :‬ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾ أي أقبلوا على هللا‪ ،‬ارجعوا إىل هللا‪ ،‬أوبوا إىل هللا سبحانه وتعاىل‬
‫ابإلقبال على الطاعات‪ ،‬وترك الذنوب والتخلي عنها‪ ،‬وجماهدة النفس على فعل أنواع القرب‪ ،‬فاإلانبة عبادة ال‬
‫تكون إال هلل تبارك وتعاىل‪ .‬قال‪﴿ :‬ﯜ ﯝ ﯞ﴾ أي أقبلوا عليه طاعةً وذالً وخضوعاً وانكساراً‪ ،‬واجتناابً ملا‬
‫هنى عنه جل وعال‪.‬‬

‫ِ‬
‫االستعانة))؛ االستعانة‪ :‬طلب العون‪ ،‬والسني للطلب‪ ،‬عندما نقول‪ :‬االستعانة االستغاثة‬ ‫قال‪(( :‬ودليل‬
‫االستغفار‪ ،‬هذه كلها فيها معىن الطلب‪ ،‬والسني اليت يف أوهلا للطلب؛ فاالستعانة‪ :‬طلب العون‪ ،‬واالستغاثة‪:‬‬
‫طلب الغوث‪ ،‬واالستعاذة‪ :‬طلب العوذ‪ ،‬واالستسقاء‪ :‬طلب اإلغاثة وهكذا‪.‬‬
‫فاالستعانة عبادة‪ ،‬واملراد هبا‪ :‬طلب العون‪ ،‬وإذا أردت العون للقيام أبي مصلحة دينية أو دنيوية‪ ،‬وأردت‬
‫التسديد فيها فاطلب ذلك من هللا‪ ،‬ألن هللا عز وجل هو املعني وحده‪ ،‬وهو املستعان سبحانه وتعاىل ﴿ﮍ‬
‫ﮎ﴾[يوسف‪ ،]18:‬فهو وحده املستعان‪ ،‬هو الذي يطلب منه وحده العون‪ ،‬وهلذا قال النيب عليه الصالة والسالم‬
‫ملعاذ بن جبل‪(( :‬اي معاذ إين أحبك‪ ،‬فال تدعن دبر كل صالة أن تقول‪ :‬اللهم أعين على ذكرك وشكرك وحسن‬
‫عبادتك))‪ ،‬ومن الدعاء املأثور عن نبينا صلوات هللا وسالمه عليه‪(( :‬اللهم أعين وال تعن علي‪ ،‬وانصرين وال تنصر‬
‫‪52‬‬
‫علي‪ ،‬وامكر يل وال متكر علي‪ ،‬واهدين ويسر اهلدى يل‪ ،‬وانصرين على من بغى علي‪ ))..‬إىل آخر الدعاء‪ ،‬وهو‬
‫دعاء عظيم بدأه بقوله‪« :‬اللهم أعين وال تعن علي» فالعون بيد هللا وهللا هو املستعان‪ ,‬فالذي يريد العون يف‬
‫حاجاته الدنيوية‪ ،‬أرزاقه‪ ،‬معاشه‪ ،‬متاعه‪ ،‬ويطلب العون يف عباداته وطاعاته وقرابته‪ ،‬ال يطلب ذلك إال من ربه‬
‫سبحانه وتعاىل‪ ،‬الذي بيده أزمة األمور‪ ،‬فطلب العون االستعانة عبادة ال تصرف إال هلل جل وعال‪ ،‬ما الدليل؟‬
‫قال‪﴿ :‬ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾؛ ﴿ﭢ ﭣ﴾ أي نعبدك اي هللا وال نعبد غريك‪﴿ ،‬ﭤ ﭥ‬
‫ﭦ﴾؛ أي نطلب منك العون اي هللا وال نطلبه من غريك‪ .‬فاألسلوب هنا أسلوب حصر؛ ﴿ﭢ ﭣ ﭤ‬
‫ﭥ ﭦ﴾ هذا من أساليب احلصر يف اللغة العربية‪ ،‬ألن تقدمي املعمول على العامل يفيد احلصر‪ ،‬أصل‬
‫اجلملة‪ :‬نعبدك‪ ،‬نستعني بك؛ فقدم املعمول على العامل‪ ،‬قال‪﴿ :‬ﭢ ﭣ﴾ فحصر العبادة أبهنا هلل وحده‪،‬‬
‫﴿ﭤ ﭥ ﭦ﴾ حصر طلب العون ابهلل وحده‪ ،‬فأفادت هذه اجلملة وهي قوله ﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬
‫ﭦ﴾ أفادت يف قوهتا وداللتها إفادة قولك «نعبدك وال نعبد غريك‪ ،‬ونستعني بك وال نستعني بغريك»‪ ،‬هذا معىن‬
‫﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾‪.‬‬
‫وهذا أيها األخ املوفق عهد بينك وبني هللا‪ ،‬تكرره كل يوم فرضاً واجباً عليك سبعة عشر مرة يف الصلوات‬
‫املكتوبة‪ ،‬وهو عهد بينك وبني هللا‪ ،‬تعاهد هللا‪ ،‬ماذا تقول يف عهدك مع هللا؟ ﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾‬
‫تعاهد هللا أنك تعبده وال تعبد غريه‪ ،‬وتستعني به وال تستعني بغريه‪ ،‬والواجب على كل مسلم أن يفي هبذا العهد‪،‬‬
‫وأن يفي ابلعهود عموماً‪ ،‬وأن يفي هبذا العهد الذي هو أعظم العهود ﴿ﯚ ﯛﯜ﴾[اإلسراء‪ ،]34:‬هذا عهد بينك‬
‫وبني هللا‪ ،‬وهو أعظم عهد جيب أن تفي به‪ ،‬وأن تؤديه على التمام‪ ،‬ألنك تعاهد هللا رب العاملني أن تعبده وال‬
‫تعبد غريه‪ ،‬وأن تستعني به وال تستعني بغريه‪.‬‬
‫فيا من يقول كل يوم سبع عشرة مرة‪﴿ :‬ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾ ال تعبد إال هللا‪ ،‬ال تدع إال هللا‪ ،‬ال‬
‫تستغيث إال ابهلل‪ ،‬ال ترج إال هللا‪ ،‬ال تطمع إال فيما عند هللا‪ ،‬ال تطلب العون واملدد والتوفيق والسداد إال من هللا‬
‫سبحانه وتعاىل‪ .‬ومن توجه لغري هللا قائالً‪ :‬مدد اي فالن‪ ،‬أو أغثين اي فالن‪ ،‬أو أدركين اي فالن‪ ،‬أو عونك‪ ،‬فيما ال‬
‫يقدر عليه إال هللا سبحانه وتعاىل فهذا نقض عهده ﴿ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ‬
‫ﮚ ﮛﮜ﴾[النحل‪﴿ ،]91:‬ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾[النحل‪ .]92:‬فالواجب على من‬
‫عاهد هللا سبحانه وتعاىل هذا العهد العظيم‪ ،‬وتكرر منه عهده هذا مرات وكرات أن يفي به‪ ،‬فال يصرف شيئاً من‬
‫العبادة إال هلل تبارك وتعاىل ﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾؛ ﴿ﭢ ﭣ﴾ فيه إعالن إخالص العبادة هلل‪﴿ ،‬ﭤ‬
‫ﭥ ﭦ﴾ فيه إخالص طلب العون من هللا‪ ،‬العبادة غاية‪ ،‬واالستعانة وسيلة‪ ،‬فالغاية اليت هي العبادة هلل‬

‫‪53‬‬
‫وحده‪ ،‬والوسيلة ألداء هذه الغاية ال تطلب إال من هللا جل وعال وحده‪ .‬وقد قدم جل وعز العبادة على‬
‫االستعانة‪ ،‬لكون العبادة هي الغاية اليت خلق اخللق ألجلها‪ ،‬وأوجدوا لتحقيقها‪ ،‬واالستعانة وسيلة ألداء هذه‬
‫الغاية؛ أنت خلقت ألجل ماذا؟ ألجل عبادة هللا‪ ،‬هذه الغاية اليت خلقت ألجلها‪ ،‬لكن هذه العبادة هل تستطيع‬
‫أن تؤدي شيئاً منها إذ مل يعنك هللا؟ إذا مل يكن لك عون من هللا ال تستطيع أن تصلي‪ ،‬وال تستطيع أن حتج‪ ،‬وال‬
‫تستطيع أن تصوم‪ ،‬وال تستطيع أن تؤدي أي شيء ﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬
‫ﭰ ﭱ ﭲﭳ﴾[النور‪ ]21:‬األمر بيده جل وعال‪ ،‬والتوفيق بيده‪ ،‬العون بيده‪ ،‬فالعبادة غاية واالستعانة وسيلة‪.‬‬
‫قولك‪﴿ :‬ﭢ ﭣ﴾ هذا حتقيق لـ «ال إله إال هللا»‪ ،‬وهذا هو معىن «ال إله إال هللا»‪ ،‬وقولك‪﴿ :‬ﭤ‬
‫ﭥ ﭦ﴾ هذا حتقيق لـ «ال حول وال قوة إال ابهلل»‪ ،‬ألن «ال إله إال هللا» كلمة توحيد‪ ،‬و «ال حول وال قوة‬
‫إال ابهلل» كلمة استعانة‪« ،‬ال إله إال هللا» معناها نعبدك وال نعبد غريك‪ ،‬و «ال حول وال قوة إال ابهلل» معناها‬
‫نستعني بك وال نستعني بغريك‪« ،‬ال حول وال قوة إال ابهلل» هذه كلمة تربأ فيها أنت من حول نفسك وقوهتا‪،‬‬
‫تقول‪ :‬ال حول وال قوة إال ابهلل‪ :‬أي أن ما عندي من حيلة وما عندي من قوة ال أستطيع أن أصنع هبا شيئاً إال‬
‫ابهلل؛ أي إال إذا أعانين هللا ووفقين‪ ،‬فمعىن قولك «ال حول وال قوة إال ابهلل»‪ :‬أي ال حتول من حال إىل حال‪ ،‬من‬
‫ضالل إىل هدى‪ ،‬من فقر إىل غىن‪ ،‬ومن مرض إىل صحة‪ ،‬من ضعف إىل قوة إىل غري ذلك‪ ،‬ال ميكن أن يكون‬
‫حتول من شيء إىل شيء إال مبن؟ إال ابهلل‪ ،‬ال ميكن أن يكون يف قوة أابشر هبا أعمايل‪ ،‬وأحقق هبا مصاحلي‬
‫وغااييت‪ ،‬إال إذا أمدين هللا جل وعال بقوة منه‪ ،‬وعون منه سبحانه وتعاىل‪ .‬فـ «ال إله إال هللا» حتقيقها ﴿ﭢ‬
‫ﭣ﴾‪ ،‬و «ال حول وال قوة إال ابهلل» حتقيقها ﴿ﭤ ﭥ ﭦ﴾‪.‬‬
‫وقد قال العلماء رمحهم هللا‪ :‬األذكار الشرعية ال يستفيد منها العبد إال إذا عرف معناها وحقق مقتضاها‪.‬‬
‫النيب عليه الصالة والسالم قال‪(( :‬أكثروا من ال حول وال قوة إال ابهلل))‪ ،‬وقال‪(( :‬إهنا من كنز حتت العرش))‪،‬‬
‫كلمة عظيمة جداً‪ ،‬وحيتاج املسلم أن يكررها دائماً‪ ،‬وأن تكون بني يدي مصاحله‪ ،‬مثل ما أرشد عليه الصالة‬
‫والسالم من خرج من بيته أن يقول‪« :‬ابسم هللا‪ ،‬توكلت على هللا‪ ،‬ال حول وال قوة إال ابهلل» قال عليه الصالة‬
‫والسالم‪(( :‬من قال ذلك هدي وكفي ووقي))‪ ،‬وقال الشيطان لشيطان آخر‪« :‬كيف لك السبيل مبن هدي وكفي‬
‫ووقي»‪ ،‬ومعىن ذلك أن اإلنسان كل مرة خيرج من بيته فيه أكثر من شيطان ينتظرونه إلغوائه وصده‪ ،‬فإذا قال‪:‬‬
‫«ابسم هللا‪ ،‬توكلت على هللا‪ ،‬ال حول وال قوة إال ابهلل» رجعت الشياطني خاسئة‪ ،‬وال جتد عليه سبيالً‪ ،‬قال هللا‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ‬
‫ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾[اإلسراء‪ ،]65-64:‬قال بعض املفسرين يف معىن اآلية‪:‬‬

‫‪54‬‬
‫إن عبادي الذاكرين هلل جل وعال ليس للشيطان عليهم سبيل‪ ،‬إمنا سبيله على الغافلني عن ذكر هللا ﴿ﭦ ﭧ‬
‫ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ﴾[الزخرف‪.]36:‬‬
‫الشاهد أن قوله جل وعال‪﴿ :‬ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾ كلمتان عظيمتان ال غىن للعبد عنهما أبداً‪،‬‬
‫وهذا من احلكمة اليت ألجلها تتكرر هذه الكلمات يف حياتنا‪ ،‬ومتضي يف ليالينا وأايمنا؛ ﴿ﭢ ﭣ ﭤ‬
‫ﭥ ﭦ﴾ نكررها مستحضرين معناها‪ ،‬متدبرين يف مدلوهلا‪ ،‬جمتهدين يف حتقيق ذلك؛ ﴿ﭢ ﭣ﴾ أي‬
‫نعبدك اي هللا وال نعبد غريك‪﴿ ،‬ﭤ ﭥ ﭦ﴾ أي نطلب منك العون اي هللا وحدك وال نطلبه من غريك‪.‬‬
‫ت فَاست ِعن ِ‬
‫ابهلل»))؛ «يف احلديث» هذا قاله النيب عليه الصالة والسالم‬ ‫ِ‬
‫استَ َع ْن َ ْ َ ْ‬
‫احلديث‪« :‬إ َذا ْ‬ ‫قال‪(( :‬ويف‬
‫استع ْن ابهلل))‪ ،‬وإذا أردت‬
‫استـعْنت ف ْ‬
‫يف مجل عديدة قاهلا البن عباس رضي هللا عنهما‪ ،‬من ضمنها قال‪(( :‬إذا ْ‬
‫لنفسك ما يعينك على حتقيق هذا املطلب‪ ،‬وتتميم هذا املقصد‪ ،‬فأحضر ما بينه النيب ‪ ‬بعد هذه اجلملة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫((وإذا استعنت فاستعن ابهلل‪ ،‬واعلم أن األمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إال بشيء كتبه لك‪،‬‬
‫ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إال بشيء كتبه هللا عليك‪ ،‬رفعت األقالم وجفت الصحف))‪،‬‬
‫فاألمر كله بيد هللا جل وعال؛ فال يطلب العون إال منه‪ ،‬ال تطلب اهلداية إال منه‪ ،‬ال يطلب التوفيق إال منه‪ ،‬ال‬
‫يطلب الغىن إال منه‪ ،‬ال يطلب السداد إال منه‪ ،‬ال تطلب الذرية إال منه‪ ،‬ال تطلب أي مصلحة دينية ودنيوية إال‬
‫منه؛ ألن األمر كله بيده جل وعال‪.‬‬
‫ت فَ ِ ِ‬
‫استـعْنت» ما معناها؟ أي إذا طلبت عوانً؛ على ماذا؟ على أي‬ ‫استَع ْن ابهلل))؛ «إذا ْ‬
‫استَ َع ْن َ ْ‬
‫قال‪(( :‬إ َذا ْ‬
‫استع ْن ابهلل» أي اطلب العون يف حتقيق مصاحلك ونيل حاجاتك ومطالبك من هللا‬ ‫مصلحة دينية أو دنيوية «ف ْ‬
‫استع ْن ابهلل)) أي ليكن طلبك للعون من هللا سبحانه وتعاىل وحده‪.‬‬‫استـعْنت ف ْ‬‫جل وعال‪(( ،‬إذا ْ‬
‫يقول ابن تيمية رمحة هللا عليه‪« :‬أتملت أنفع الدعاء» يعين أخذت يوم أأتمل يف األدعية أريد أن أصل إىل‬
‫ما هو أنفع دعاء للمسلم؟ يقول‪« :‬أتملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال هللا العون على مرضاته‪ ،‬مث رأيته يف الفاحتة‪:‬‬
‫﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾»؛ انتبه لكالمه رمحه هللا فإنه أمثن ما يكون‪ ،‬قال‪« :‬إذا هو سؤال هللا العون على‬
‫مرضاته»‪ ،‬هللا سبحانه وتعاىل رضي لك أن تكون عبداً له ذليالً‪ ،‬تؤدي العبودية اليت خلقك ألجلها‪ ،‬وأوجدك‬
‫لتحقيقها ﴿ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ﴾[املائدة‪﴿ ]3:‬ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ﴾[الزمر‪]7:‬؛ فطلب العون منه على هذا املقصد‬
‫الذي خلقت ألجله هذا أفضل الدعاء‪ ،‬مهما حبثت فأفضل وأنفع شيء تطلبه من هللا سبحانه وتعاىل هو طلب‬
‫العون على مرضاته؛ أن يعينك على ما خلقك ألجله‪ ،‬وأوجدك سبحانه وتعاىل لتحقيقه‪.‬‬
‫مث قال رمحه هللا‪(( :‬ودليل االستعاذةِ))؛ االستعاذة‪ :‬طلب العوذ‪ ،‬أي أن يعيذك من شيء ختافه‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫االستعاذة‪ :‬هي االعتصام وااللتجاء إىل من تطلب منه أن يعيذك من هذا الذي ختافه‪ ،‬فاالستعاذة هي‪:‬‬
‫طلب العوذ‪ ،‬وهي هرب من شيء ختافه إىل من خيلصك وينجيك وحيميك‪ ،‬وامللجأ دائماً وأبداً إىل من؟ واملفزع‬
‫دائماً إىل من؟ واالعتصام مبن؟ فاملسلم دائماً يفزع ويلجأ ويعتصم ابهلل ﴿ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ‬
‫ﭣ﴾[آل عمران‪.]101:‬‬
‫فاالستعاذة اليت هي طلب العوذ عبادة؛ من كل شيء ختافه ليكن طلبك العوذ من هللا وحده‪ ،‬ألنه جل‬
‫وعال القدير على كل شيء‪ ،‬ونواصي الدواب واملخلوقات كلها بيده‪ .‬كان نبينا عليه الصالة والسالم يقول يف‬
‫دعائه‪« :‬اللهم رب السماوات السبع ورب األرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء ومليكه‪ ،‬فالق احلب‬
‫والنوى‪ ،‬منزلة التوراة واإلجنيل والفرقان؛ أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها»‪ ،‬ويف القرآن‪﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ‬
‫ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ﴾[هود‪ ،]56:‬الدواب كلها والنواصي كلها هللا سبحانه وتعاىل آخذ هبا‪ ،‬وهي بيده‪ ،‬وطوع تصريفه‬
‫وتدبريه جل وعال‪ .‬وهلذا املسلم دائماً يف خوفه من كل من خيافه وكل من خيشاه يلجأ إىل هللا‪.‬‬
‫نبينا عليه الصالة والسالم ثبت يف احلديث أنه كان إذا خاف من قوم قال‪« :‬اللهم إان جنعلك يف حنورهم‬
‫ونعوذ بك من شرورهم»‪.‬‬
‫فاملسلم إذا خاف من عدو‪ ،‬خاف من شيطان ﴿ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ﴾[األعراف‪،]200:‬‬
‫﴿ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ‬
‫ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﭪ ﭫ ﭬ﴾[سورة الناس]‪ ،‬الشيطان وسواس خناس؛ إذا غفل اإلنسان عن‬
‫ذكر هللا وسوس‪ ،‬وإذا ذكر املسلم ربه خنس؛ أي ذهب وانطرد وابتعد عن اإلنسان‪ .‬وهلذا يكون املسلم دائماً‬
‫مستعيذاً ابهلل‪ ،‬ال يستعيذ إال ابهلل ﴿ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ﴾[املؤمنون‪.]97:‬‬
‫فالتعوذ عبادة ال تكون إال ابهلل؛ تتعوذ ابهلل من الشيطان‪ ،‬تتعوذ ابهلل من شر نفسك‪ ،‬تتعوذ ابهلل من شر‬
‫مسعك‪ ،‬من شر بصرك‪ ،‬تتعوذ ابهلل تبارك وتعاىل من شر الشياطني‪ ،‬تتعوذ ابهلل جل وعال من كل دابة هو جل‬
‫وعال آخذ بناصيتها‪ ،‬االستعاذة ابب عظيم من أبواب العبادة‪ ،‬وهي عبادة ال تصرف إال هلل‪ ،‬ويف كتاب النسائي‬
‫رمحه هللا «السنن» كتاب عظيم جداً مساه «االستعاذة»‪ ،‬ومجع فيه األحاديث الواردة يف االستعاذة مجعاً انفعاً‬
‫ومفيداً‪ ،‬وفيه التعوذات‪« :‬اللهم إين أعوذ بك من العجز‪ ،‬وأعوذ بك من الكسل‪ ،‬وأعوذ بك من اجلنب‪ ،‬وأعوذ بك‬
‫من اهلم‪ ،‬وأعوذ بك من احلزن»‪« ،‬اللهم إين أعوذ بك من دعاء ال يسمع»‪« ،‬اللهم إين أعوذ بك من قلب ال‬
‫خيشع» كل شيء ال تريده‪ ،‬كل شيء ختافه تعوذ ابهلل‪ ،‬استعذ ابهلل‪ ،‬اطلب من هللا أن يعيذك منه‪ ،‬أي شيء‬
‫ختشاه‪ ،‬أي شيء ال تريده‪ ،‬أي شيء ختاف أن يضرك‪ ،‬أي شيء ختاف أن أيتيك مبا يسوؤك‪ ،‬اطلب العوذ من‬

‫‪56‬‬
‫هللا؛ فإذا استعذت ابهلل أعانك‪ ،‬فهو جل وعال املستعاذ وإليه امللجأ‪ ،‬ال ملجأ إال إىل هللا‪ ،‬وال مفر إال إىل هللا‬
‫﴿ﰃ ﰄ ﰅﰆ﴾[الذارايت‪ .]50:‬فاالستعاذة عبادة عظيمة‪ ،‬ال جيوز أن تصرف إال هلل‪.‬‬
‫وأورد املصنف رمحة هللا عليه آيتني من خواتيم كتاب هللا جل وعال؛ أول سورة الفلق وأول سورة الناس ﴿ﭤ‬
‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾ و ﴿ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾‪ ،‬وقد جاء عن النيب ‪ ‬أنه «ما تعوذ متعوذ مبثلهما»‪،‬‬
‫فهما أعظم ما يتعوذ به اإلنسان من الشرور كلها‪ ،‬وهلذا املسلم حيافظ على هذه التعوذات‪﴿ :‬ﭤ ﭥ ﭦ‬
‫ﭧ ﭨ﴾ إىل متام السورة‪﴿ ،‬ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾ حيافظ عليها إىل متام السورة‪ ،‬دبر كل صالة مكتوبة‪،‬‬
‫وأيضاً يف صباحه ويف مسائه ثالث مرات؛ ثالاثً إذا أصبح وثالاثً إذا أمسى‪ ،‬وال يضره شيء‪ ،‬يكون حمصن‪،‬‬
‫حمفوظ‪ ،‬حممي حبماية هللا تبارك وتعاىل‪ ،‬ويكون يف حصن حصني‪ ،‬ويف حرز مكني ال يقربه شيطان رجيم‪ ،‬يعيذه‬
‫هللا سبحانه وتعاىل من الشياطني‪ ،‬ومن السحرة‪ ،‬ومن الشرور اليت خيافها‪ ،‬ألنه جلأ إىل هللا‪ ،‬واعتصم ابهلل‪ ،‬واحتمى‬
‫ابهلل جل وعال‪ ،‬وطلب من هللا ﴿ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ﴾[يوسف‪.]64:‬‬
‫قال‪(( :‬ودليل االستعاذة قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾[الفلق‪﴿ ،]1:‬ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ‬
‫ﮄ﴾[الناس‪ ))]1:‬عرفنا معىن االستعاذة وهي مما يكرهه اإلنسان‪ ،‬يعين الطلب إذا كان يف جانب يكرهه اإلنسان‬
‫يسمى «استعاذة»‪ ،‬وإذا كان الطلب يف جانب يريده اإلنسان يسمى «لياذة»؛ وهلذا يفرقون بني العوذ واللوذ‪ :‬أن‬
‫العوذ مما تكره‪ ،‬واللوذ فيما حتب وترغب فيه‪ ،‬مثلما قال القائل‪ :‬اي من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به فيما أحاذره‬
‫يعين إن كان الطلب يف شيء ختشى منه وحتاذره هذا استعاذة‪ ،‬وإن كان يف شيء تؤمله وترجوه فهذا لوذ‪.‬‬
‫ِ‬
‫االستغاثة))؛ االستغاثة‪ :‬طلب الغوث‪.‬‬ ‫قال رمحه هللا تعاىل‪(( :‬ودليل‬
‫كان نبينا عليه الصالة والسالم خيطب الناس يوم اجلمعة‪ ،‬فدخل أعرايب وأخذ يصف القحط الذي يف‬
‫البالد والذي يف األرض‪ ،‬مث قال‪ :‬ادع هللا أن يسقينا‪ ،‬فمد عليه الصالة والسالم يديه هلل وأخذ يسأله‪« :‬اللهم‬
‫أغثنا‪ ،‬اللهم أغثنا» يطلب الغوث من هللا؛ فاالستغاثة اليت هي طلب الغوث من هللا‪ ،‬إما طلب الغوث بنزول‬
‫املطر‪ ،‬أو طلب الغوث مبجيء املدد والعون من هللا لينتصر العبد على العدو‪ ،‬فاالستغاثة ال تكون إال من هللا‬
‫سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫يف معركة بدر ملا تالقى اجليشان؛ جيش املسلمني وهم يف قلة من العدد والعتاد والسالح‪ ،‬وجيش املشركني‬
‫وهم يف كثرة‪ ،‬ملا تالقى اجليشان وتالحم الصفان‪ ،‬توجه النيب الكرمي عليه الصالة والسالم مستغيثاً ابهلل؛ يطلب‬
‫الغوث من هللا‪ ،‬يطلب النصر من هللا‪ ،‬ألن الغوث بيد هللا‪ ،‬والنصر بيد هللا‪ ،‬فاستغاث ابهلل؛ أي طلب من هللا‬
‫سبحانه وتعاىل أن يغيثه‪ ،‬أبن ينصره على هؤالء األعداء‪ ،‬فأغاثه‪ ،‬وأنزل هللا تبارك وتعاىل يف ذلك وحياً يتلى‪ ،‬عربةً‬
‫للعباد‪ ،‬وعظة وتبصرة‪ ،‬قال جل وعال‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ﴾[األنفال‪]9:‬؛ ﴿ﭑ ﭒ ﭓ﴾‬

‫‪57‬‬
‫أي تطلبون منه الغوث فيما حصل لكم من شدة عند مالقاة األعداء يوم بدر ﴿ﭔ ﭕ﴾ فاستجاب‬
‫لكم أبن أدرككم رب العاملني بغوثه ومدده وعونه ونصره‪ ،‬فأجاب الدعاء‪ ،‬وأنزل تبارك وتعاىل جنوداً من جنوده‪،‬‬
‫وكان النصر ألهل اإلميان‪ .‬فهذا دليل على أن االستغاثة ال تكون إال ابهلل‪.‬‬
‫نبينا عليه الصالة والسالم عبد يستغيث ابهلل وال يستغاث به‪ ،‬عبد يستغيث ابهلل‪ ،‬يطلب غوثه من هللا‪ ،‬وال‬
‫يستغاث به عليه الصالة والسالم‪ ،‬الغوث ال يطلب إال من هللا‪ .‬بعض الضالل ينادي يف دعائه النيب عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬ويقول‪" :‬اي غياث املستغيثني‪ ،‬اي جمري املستجريين‪ ،‬اي ملجأ املضطرين" خياطب النيب عليه الصالة‬
‫والسالم!! النيب ‪ ‬عبد يستغيث بربه‪ ،‬وهذه عبوديته هلل يف ابب االستغاثة ﴿ﭑ ﭒ ﭓ﴾ يطلب من هللا‬
‫الغوث؛ الغوث ابلنصر على األعداء‪ ،‬الغوث بنزول املطر‪ ،‬ال يطلبه عليه الصالة والسالم إال من هللا‪ ،‬والعبد ال‬
‫يعبد‪ ،‬فهو عليه الصالة والسالم عبد يستغيث ابهلل‪ ،‬يطلب غوثه من هللا‪ ،‬وال يطلب منه الغوث‪ ،‬غياث املستغيثني‬
‫من؟ جميب املضطرين من؟ كاشف الكرابت من؟ ﴿ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ‬
‫ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾[النمل‪ .]62:‬فهذا ابب تزل به أقدام‪ ،‬وتضيع فيه أفهام‪ ،‬ويقع‬
‫فيه أقوام يف الردى واهللكة –والعياذ ابهلل – بعدم البصرية ابلتوحيد‪ ،‬وعدم البصرية بضده‪.‬‬
‫االستغاثة قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ﴾))؛ دلت اآلية داللة واضحة‬ ‫ِ‬ ‫قال‪(( :‬ودليل‬
‫أن االستغاثة عبادة ال تطلب إال من هللا‪ ،‬ومن طلبها من غري هللا تباك وتعاىل فقد أشرك‪.‬‬
‫أييت بعض الناس ويلتبس عليه هذا التوحيد الذي تدل عليه اآلية‪ ،‬فيفهم أن الطلب عندما يقال أن طلب‬
‫الغوث من املخلوقني شرك‪ ،‬فيأيت ويريد أن يناقض هذا التوحيد اخلالص‪ ،‬فيأيت آبايت أو نصوص تتعلق ابستغاثة‬
‫من خملوق مبخلوق فيما يقدر عليه املخلوق‪ ،‬وينبغي أن يفرق بني هذا اجلائز املباح؛ عندما يكون اإلنسان مثالً‬
‫يريد أن يغرق‪ ،‬وإىل جنبه شخص ويقول‪ :‬أغثين‪ ،‬ساعدين‪ ،‬عاوين؛ هذا ما هو؟ هذا جائز‪ ،‬ألنك تطلب من‬
‫خملوق قادر حاضر‪ ،‬تقول‪ :‬أغثين‪ ،‬وهلذا جاء يف القرآن‪﴿ :‬ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ‬
‫ﭹ ﭺﭻ﴾[القصص‪ ]15:‬هذا أمر جائز‪ ،‬عندما يستغيث خملوق مبخلوق حي حاضر قادر‪ ،‬انتبه هلذا الكلمات الثالث‬
‫مهمة‪:‬‬
‫«حي»‪ :‬ليس مبيت‪ ،‬إن طلب من ميت فهذا جلوء إىل غري هللا‪ ،‬وتعلق بغري هللا تبارك وتعاىل‪،‬‬ ‫▪‬
‫فيكون قد وقع يف الشرك‪.‬‬
‫إن طلب من غائب فهذا أيضاً فزع وجلوء إىل غري هللا تبارك وتعاىل‪.‬‬ ‫▪‬

‫‪58‬‬
‫إن طلب من حي حاضر فيما ال يقدر عليه‪ ،‬مثل –والعياذ ابهلل – لو قال شخص آلخر‪ :‬أرجوك‬ ‫▪‬
‫أن تنقذين من النار‪ ،‬أن جتريين من النار‪ ،‬أو شيء من هذه األمور اليت ال يقدر عليها‪ ،‬أن تثبت قليب‪ ،‬أو حنو ذلك‬
‫فيما ال يقدر عليه إال هللا‪ ،‬حىت لو كان حاضر حي أمامه‪ ،‬فيكون بذلك مشركاً ابهلل الشرك الناقل من امللة‪.‬‬
‫فينتبه هلذه املعاين؛ ألن بعض الناس يلبس‪ ،‬وأييت إىل العوام يقول‪ :‬ماذا فيه لو استغثنا بغري هللا؟ أليس هللا‬
‫يقول يف القرآن‪﴿ :‬ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾؟ ماذا يف هذا؟ فيخلطون بني اجلائز وبني‬
‫الشرك‪ ،‬خيلطون بني اجلائز وهو االستغاثة ابملخلوق احلي احلاضر فيما يقدر عليه‪ ،‬ويريدون أن ينزلوا ذلك يف ماذا؟‬
‫يف دعاء امليت أو دعاء الغائب أو دعاء احلاضر فيما ال يقدر عليه إال هللا سبحانه وتعاىل‪ .‬ومن دعا ميتاً أو دعا‬
‫غائباً أو دعا حاضراً فيما ال يقدر عليه إال هللا جل وعال فقد اختذه نداً وشريكاً مع هللا سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫مشكلة دعاة الضالل من القدمي هي هذه؛ يلبسون احلق ابلباطل‪ ،‬ويكتمون احلق‪ ،‬فيضل العوام على‬
‫أيديهم‪ ،‬وهلذا قال نبينا عليه الصالة والسالم‪(( :‬إن أخوف ما أخاف على أميت األئمة املضلني))‪.‬‬

‫قال رمحه هللا تعاىل‪(( :‬ودليل َّ‬


‫الذبْ ِح قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫ﯜ﴾))؛ الذبح هو‪ :‬القرابن الذي يذبح من هبيمة األنعام‪ ،‬تقرابً هلل‪ ،‬من الضحااي واهلدااي وما يقدمه اإلنسان‬
‫منها شكراً هلل‪ ،‬مثلها كذلك العقيقة وحنو ذلك‪ ،‬فهذه عبادة‪.‬‬
‫والعبودية يف الذبح من جهتني‪:‬‬
‫من جهة التقرب ابلذبيحة؛ فالتقرب ابلذبيحة والنسك ال يكون إال ملن؟ إال هلل؛ كما أنك ال‬ ‫‪.1‬‬
‫تصلي إال هلل‪ ،‬فأيضاً ال تذبح متقرابً إال هلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬فالذبح قربة ال يتقرب هبا إال إىل هللا سبحانه وتعاىل‪،‬‬
‫هذا جانب‪.‬‬
‫ومن جهة أيضاً االستعانة؛ فال يستعني يف ذحبها هلا إال ابهلل‪ ،‬وهلذا شرع للمسلم عندما يذبح‬ ‫‪.2‬‬
‫يقول مباذا؟ ابسم هللا‪ ،‬وهذا طلب عون‪.‬‬
‫وهلذا الشرك يف الذبح يكون من اجلهتني‪ :‬إما بذحبها لغري هللا‪ ،‬متقرابً هبا إىل غري هللا‪ ،‬أو يطلب العون من‬
‫غريه‪ ،‬فيذحبها ابسم غري هللا‪ ،‬يسمي غري هللا عند ذحبها ﴿ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾[األنعام‪.]121:‬‬
‫أي لربك؛ فكما أن الصالة‬ ‫فالذبح هذه عبادة؛ وهلذا الحظ قال هللا‪﴿ :‬ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾‬
‫[الكوثر‪]2:‬‬

‫عبادة يتقرب هبا إىل هللا‪ ،‬فالذبح أيضاً عبادة ال يتقرب هبا إال إىل هللا‪ ،‬ويف القرآن قال هللا تعاىل‪﴿ :‬ﯓ ﯔ ﯕ‬
‫ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ﴾؛ ﴿ﯕ﴾؛ الصالة معروفة أي صلوايت‪﴿ ،‬ﯖ﴾‬
‫املراد ابلنسك‪ :‬الذبح؛ فصاليت ونسكي أي ذحبي هلل‪ ،‬كما أين ال أصلي إال هلل‪ ،‬أيضاً ال أذبح إال هلل‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫إذا كان الذبح هلل توحيد وعبادة يتقرب هبا إىل هللا‪ ،‬حيبها هللا سبحانه وتعاىل ويرضاها من عباده‪ ،‬فصرفها‬
‫إىل غريه ماذا يكون؟ شرك ابهلل‪ ،‬ألن صرف العبادة لغري هللا شرك‪ ،‬اآلية دليل صريح على أن النسك عبادة ﴿ﯓ‬
‫ﯔ ﯕ ﯖ﴾ ملن؟ ﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﯝ ﯞ ﯟﯠ﴾؛ فمن جعل نسيكته هلل هذه عبادة تقربه من‬
‫هللا‪ ،‬ومن جعلها لغريه فهذا شرك خيرجه من دائرة اإلسالم؛ وهلذا أورد املصنف رمحه هللا تعاىل حديثاً اثبتاً عن نبينا‬
‫عليه الصالة والسالم يف صحيح مسلم وغريه‪ ،‬عن علي رضي هللا عنه‪ ،‬أن النيب ‪ ‬قال‪(( :‬لعن هللا من ذبح لغري‬
‫هللا))؛ اللعن‪ :‬هو الطرد واإلبعاد من رمحة هللا‪ ،‬وامللعون‪ :‬املطرود املبعد من رمحة هللا‪ ،‬والنيب عليه الصالة والسالم‬
‫يقول‪(( :‬لعن هللا من ذبح لغري هللا)) وهذا دعاء ابلطرد واإلبعاد من رمحة هللا ملن ذبح لغري هللا‪ ،‬أن يطرده هللا‪ ،‬وأن‬
‫يبعده من رمحته «من ذبح لغري هللا» ألن الذبح عبادة‪ ،‬وصرفها لغري هللا موجب للعنة والطرد من رمحة هللا‪ ،‬والوقوع‬
‫يف سخطه وعقابه جل وعال؛ وهلذا قال‪(( :‬لعن هللا من ذبح لغري هللا))‪.‬‬
‫جاء يف حديث يرفع إىل نبينا عليه الصالة والسالم مبيناً هذا األمر قال‪(( :‬دخل الرجل اجلنة يف ذابب‪،‬‬
‫ودخل رجل النار يف ذابب)) تعجب الصحابة؛ ذابب! الذابب معروف أبنه طائر حقري‪ ،‬من أخس احليوان‪ ،‬ومن‬
‫أحقر احليوان‪ ،‬ويقول عليه الصالة والسالم‪(( :‬دخل الرجل اجلنة يف ذابب‪ ،‬ودخل رجل النار يف ذابب)) عجيب‬
‫هذا‪ ،‬قالوا‪ :‬وكيف ذلك اي رسول هللا؟ قال‪(( :‬مر رجالن ‪ -‬أي ممن كانوا قبلنا ‪ -‬على قوم عندهم صنم‪ ،‬وال‬
‫أيذنون ألحد مير حىت يقرب للصنم شيء)) ما يسمحون ألحد مير من جهتهم حىت يقرب للصنم شيء‪ ،‬إن قرب‬
‫للصنم شيء جعلوه مير‪ ،‬وإن مل يقرب للصنم ذحبوه‪(( ،‬مر رجالن على قوم عندهم صنم‪ ،‬ال جياوزه أحد حىت يقولوا‬
‫له قرب)) يعين قدم قرابانً هلذا الصنم‪(( ،‬فقالوا ألحدمها‪ :‬قرب)) قدم قرابانً هلذا الصنم‪ ،‬قال‪« :‬ما كنت ألقرب‬
‫ألحد غري هللا‪ ،‬فقتلوه ودخل اجلنة» قتل صابراً على التوحيد‪ ،‬حمتسباً أجره وثوابه عند هللا سبحانه وتعاىل‪ ،‬فدخل‬
‫ذاباب فقتلوه‪ ،‬قال فدخل اجلنة‪(( ،‬قالوا لآلخر‪ :‬قرب‪ ،‬قال‪ :‬ما عندي ما أقرب)) يعين كأنه‬
‫اجلنة‪ ،‬امتنع أن يقرب ً‬
‫يقول‪ :‬مستعد لكن مثل ما ترون ما عندي شيء أقربه‪ ،‬قالوا‪« :‬قرب ولو ذابب» املهم ما متر إال وتقرب شيئاً‪،‬‬
‫تذبح شيء تقرابً هلذا الصنم «قرب ولو ذابب»‪ ،‬فأخذ يبحث عن ذابب يطري وصاده وجاء وقطع رأسه قرابانً هلذا‬
‫الصنم؛ فمات فدخل النار‪.‬‬
‫ذبح ذابابً لصنم‪ ،‬متقرابً به للصنم‪ ،‬فدخل به النار‪ ،‬ذابب! فكيف مبن يذهب إىل السوق‪ ،‬ويشرتي أفضل‬
‫الشاة‪ ،‬أو يشرتي أفضل البقر‪ ،‬أو يشرتي أمسن اإلبل‪ ،‬ويسوقها إىل حيث من يريد أن يتقرب إليهم من األحجار‬
‫أو من املقبورين أو غريهم‪ ،‬مث يذبح نسيكته وقرابنه متقرابً به إىل غري هللا؟! ذبح ذابابً فدخل النار‪ ،‬فكيف مبن‬
‫يذبح شاة مسينة‪ ،‬أو بقرة‪ ،‬أو انقة‪ ،‬متقرابً هبا إىل غري هللا سبحانه وتعاىل؟! فالذبح عبادة ال تصرف إال هلل‪ ،‬وال‬
‫يستعان بذحبها إال ابهلل‪ ،‬فتذبح هلل‪ ،‬متقرابً بذبيحتك له وحده‪ ،‬وتسمي هللا جل وعال‪ ،‬تذكر امسه عليها قائالً‪:‬‬
‫«بسم هللا»‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫ذكر يل أحد األشخاص من إحدى الدول قال‪ :‬إن عميت أوقال خاليت كانت مريضة‪ ،‬وأتعبها املرض‪،‬‬
‫فوصفوا هلا رجل‪ ،‬قالوا‪ :‬اذهيب له وعنده عالج‪ ،‬ذهبت إليه وقال هلا‪ :‬تشرتين ديكاً لونه كذا –حدد هلا لون‬
‫الديك– وتذحبينه‪ ،‬وعندما تذحبينه ال تنطقني وال بكلمة مطلقاً‪ ،‬ال يريد أن يقول هلا‪ :‬ال تقويل بسم هللا‪ ،‬ما يريد‬
‫أن يقول هلا ال تسمي هللا‪ ،‬ال تذكري هللا‪ ،‬قال‪ :‬اذحبيه وال تنطقي أبي كلمة مطلقاً‪ ،‬إذا نطقت بكلمة يلتغي‬
‫العالج‪ ،‬ما تستفيدين‪ ،‬ال تنطقي أبي كلمة‪ ،‬مث ماذا؟ مث قال‪ :‬إذا ذحبتيه تطبخينه‪ ،‬وكلي منه قدر حاجتك فقط‪,‬‬
‫مث خذيه واذهيب إىل الوادي الفالين وضعيه يف ذلك الوادي‪ ،‬ملن؟ للشياطني‪ ،‬ما قال‪ :‬كليه‪ ،‬ومسي هللا عليه‪،‬‬
‫وتصدقي به على الفقراء لعل هللا بصدقتك يشفيك ويعافيك‪ ،‬ال‪ ،‬قال‪ :‬ال تسمني‪ ،‬ال تذكري اسم هللا‪ ،‬مث أمرها‬
‫أن تقدمه قرابانً للشياطني؛ لكن كل ذلك بطريقة ملتوية‪ ،‬مل يقل هلا ال تسمي‪ ،‬ومل يقل هلا تقريب للشياطني‪ ،‬لكنه‬
‫ساقها لفعل هذا األمر دون أن تنتبه له‪.‬‬
‫وهكذا يعبث ابلعوام واجلهال من دعاة الضالل وأكلة أموال الناس ابلباطل‪ ،‬يعبثون هبم‪ ،‬ويوقعوهنم يف‬
‫الشرك واالحنراف عن دين هللا تبارك وتعاىل ويغيبوهنم عن القرآن؛ ﴿ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾‪﴿ ،‬ﯓ ﯔ ﯕ‬
‫ﯖ﴾ «لعن هللا من ذبح لغري هللا» هذه كلها‪ ،‬يغيبوهنم عن هذه املعاين‪ ،‬ويوقعوهنم يف التعلق بغري هللا‪ ،‬والتقرب‬
‫للشياطني‪ ،‬والبعد عن ذكر اسم هللا تبارك وتعاىل‪ ،‬فينصرف العوام واجلهال إىل الشرك‪ ،‬وينصرفون عن التوحيد‬
‫الذي خلقوا ألجله‪ ،‬وأوجدوا لتحقيقه‪ .‬إذاً الذبح عبادة وقربة ال يتقرب هبا إال هللا سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫مث ختم رمحه هللا ذكر هذه العبادات بعبادة النذر؛ والنذر‪ :‬هو اإلجياب؛ يعين أن توجب على نفسك ما مل‬
‫يوجبه هللا عليك‪ .‬مثالً لو قال قائل‪" :‬إن شفى هللا مريضي فلله علي أن أذبح شاة"‪ ،‬يف األصل عندما يشفى‬
‫مريضه هل جيب عليه أن يذبح شاة؟ ال‪ ،‬ال جيب عليه؛ إن ذحبها شكراً هلل‪ ،‬أو فعل غري ذلك من األعمال شكراً‬
‫هلل‪ ،‬له ذلك‪ ،‬لكن عندما يقول‪" :‬إن شفى هللا مريضي فلله علي أن أذبح شاة" أصبحت الشاة واجب عليه ذحبها‬
‫إذا شفي مريضه‪ ،‬ومن الذي أوجبها عليه؟ هو الذي أوجبها على نفسه‪.‬‬
‫إذاً النذر‪ :‬هو اإلجياب‪ ،‬أن يوجب على نفسه ما مل يوجبه هللا عليه‪ .‬وقد قال النيب عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫((النذر ال أييت خبري))؛ انتبه هلذه الكلمة تفيدك جداً يف هذا الباب‪ ،‬قال‪(( :‬النذر ال أييت خبري))؛ شفاء املريض‪،‬‬
‫حصول الغىن‪ ،‬زوال املصيبة‪ ،‬هذا اخلري حيصل ممن؟ حيصل من هللا فضالً ومناً‪ ،‬ليس الشاة اليت أوجبتها على‬
‫نفسك‪ ،‬أو العمل الذي أوجبته على نفسك هو الذي تنال به هذا األمر‪ ،‬قال‪( :‬النذر ال أييت خبري)) يعين لن‬
‫أيتيك خري؛ صحة عافية مال من نذرك‪ ،‬والنذر كما قال عليه الصالة والسالم‪« :‬إمنا يستخرج به من البخيل»‪،‬‬
‫فبعض الناس يفعل ذلك بناء على خطأ يف الفهم؛ يقول‪" :‬إن شفى هللا مريضي أذبح كذا"‪ ,‬كأنه يظن ويتوهم أن‬
‫قوله‪" :‬أذبح كذا" هي اليت جتلب له شفاء املريض؛ وهلذا أزال النيب ‪ ‬هذا الفهم قال‪(( :‬النذر ال أييت خبري))؛‬
‫«خري» هنا نكرة يف سياق النفي تفيد العموم‪ ،‬يعين‪ :‬شفاء‪ ،‬صحة‪ ،‬غىن‪ ،‬صالح‪ ،‬إىل غري ذلك‪ ،‬كل ذلك لن‬
‫‪61‬‬
‫أيتيك بسبب النذر‪« ،‬النذر ال أييت خبري» قاعدة يف الباب افهمها واعنت هبا‪ ،‬أرشدك إليها نبيك عليه الصالة‬
‫والسالم‪.‬‬
‫اخلري أييت من هللا؛ إذا أردت الشفاء‪ ،‬أردت أي مصلحة من املصاحل‪ ،‬ال توجب على نفسك ما مل يوجبه هللا‬
‫عليك‪ ،‬واطلبه من هللا سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫فالنذر عبادة‪ ،‬وهو أمر مكروه؛ وهلذا جاءت األحاديث تدل على مثل ذلك‪ ،‬قال عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫((إمنا يستخرج به من البخيل))‪ ،‬وجاء عنه أحاديث يف هذا املعىن تفيد الكراهة‪ .‬وهلذا النذر امتدح هللا سبحانه‬
‫وتعاىل الوفاء به‪ ،‬ألنه إذا أوجبته على نفسك أصبحت عبادة أوجبتها على نفسك‪ ،‬فوفاؤك هبا قربة هلل‪ ،‬مدح هللا‬
‫املوفني ابلنذر‪ ،‬قال‪﴿ :‬ﭙ ﭚ﴾‪ ،‬فالنذر عبادة‪ ،‬ال جيوز التقرب هبا لغري هللا‪ ،‬ودل على كونه عبادة وقربة قوله‬
‫أي فاشياً ومنتشراً وعاما إال من رمحه هللا‬ ‫سبحانه وتعاىل‪﴿ :‬ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾‬
‫[اإلنسان‪]7:‬‬

‫سبحانه وتعاىل؛ وهم أهل اإلميان‪.‬‬


‫قال‪﴿ :‬ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾ ما هو هذا اليوم؟ يوم القيامة‪ ،‬وهللا سبحانه وتعاىل ميدح‬
‫يف هذه اآلية من خياف يوماً كان شره مستطرياً‪ ،‬إذا كنت ختاف هذا اليوم فإنك سوف تستعد له‪ ،‬وإذا استعددت‬
‫له ابألعمال الصاحلة جنوت يوم القيامة‪ ،‬وهلذا الناجون يوم القيامة ماذا يقولون؟ ﴿ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ‬
‫ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾[احلاقة‪ ]20-19:‬يعين كنت أعتقد أنين سألقى هللا‪ ،‬فالذي يعتقد أنه‬
‫سيلقى هللا‪ ،‬وأن هللا سيحاسبه‪ ،‬وأنه سيقف بني يدي هللا‪ ،‬وخياف ذلك اليوم‪ ،‬سيعد له عدته ابألعمال الصاحلة‪،‬‬
‫والطاعات الزاكية‪ ،‬املقربة إىل هللا سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫أهنى إىل هنا املصنف رمحه هللا تعاىل ذكر األمثلة على العبادات املقربة إىل هللا‪ ،‬ومراده من ذلك‪ :‬أن يتنبه‬
‫املسلم يف هذه العبادات ويف غريها إىل أمرين‪ ،‬البد من التأكيد عليهما واستحضارمها دائماً‪ ،‬أراد من ذلك التأكيد‬
‫على أمرين ما مها؟‬
‫أن تصرف هذه العبادات وغريها من العبادات هلل وحده ﴿ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬ ‫‪.1‬‬
‫ﭿ﴾[اجلن‪.]18:‬‬
‫واألمر الثاين‪ :‬لكي ال يصرف شيء منها لغري هللا تبارك وتعاىل ﴿ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ‬ ‫‪.2‬‬
‫ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾[املؤمنون‪.]117:‬‬
‫وهبذا يكون قد أهنى رمحه هللا تعاىل الكالم على األصل األول من هذه األصول الثالثة العظيمة‪.‬‬
‫وهللا تعاىل أعلم‪ ،‬وصلى هللا وسلم على عبده ورسوله نبينا حممد وآله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫‪62‬‬

You might also like