Professional Documents
Culture Documents
شرح الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر حفظهما الل تعاىل
1
الدرس السادس
بسم هللا الرمحن الرحيم
احلمد هلل رب العاملني ،والعاقبة للمتقني ،وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له ،وأشهد أن حممداً
عبده ورسوله صلى هللا وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أمجعني .أما بعد:
قال شيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب رمحه هللا تعاىل وغفر له وللشارح والسامعني يف كتابه «األصول
الثالثة»:
ِ
خملصا له الدين ،وبذلك أ ََم َر هللاُ
اهيم أ ْن تعب َد هللاَ وح َدهُ ً ِ َّ اعلَ ْم أرش َد َك هللاُ لطاعتِه َّ
أن احلنيفيةَ ملةَ إبر َ
مجيع الناس وخلَقهم هلا ،كما قال هللا تعاىل﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾[الذارايت ،]56:ومعىن َ
الشرك؛ وهو أعظم ما هنى عنه دون ،وأعظم ما أَمر هللا به التوحي َد وهو :إفر ُ ِ ﴿ﭚ﴾ ِ
يوح ِ
ُ اد هللا ابلعبادة ،و ُ َ ُ ُ
دعوةُ غريه معهُ ،والدليل قوله تعاىل﴿ :ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾[النساء.]36 :
ِ
************
فهذه الرسالة الثالثة من الرسائل القيمة اليت صدرت هبا األصول الثالثة ،وبدأها املصنف رمحه هللا تعاىل هبذه
الدعوة؛ بقوله(( :اعلَ ْم أرش َد َك هللاُ لطاعتِه)) ،وعرفنا أن هذا من نصحه رمحه هللا؛ حيث كان حريصاً على بيان
يصا على الدعاء للناس ابلرمحة واخلري واملغفرة والرشاد والسداد ،فكثرياً ما أييت
اخلري وإيضاحه ،ويف الوقت نفسه حر ً
يف رسائله رمحه هللا عموم الدعاء للناس ،ملن يبصرون ويرشدون ويوجهون ،يدعو هلم مبثل هذه الدعوات ،الدالة
على نصحه وحرصه رمحه هللا تعاىل.
أن احلنيفيةَ ِملَّةَ إبراهيم))؛ هذا عنوان هذه الرسالة ،وبيان ملفادها وفحواها ،فهي رسالة خمتصرة قالَّ (( :
قصد هبا رمحه هللا تعاىل أن يبني احلنيفية اليت هي ملة إبراهيم ،وهللا جل وعال قد وصف نبيه ورسوله وخليله إبراهيم
عليه السالم أبنه كان حنيفاً ،وذلك يف قوله جل وعال﴿ :ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰ﴾[النحل]120:؛ نعته هبذه النعوت ،ومن بينها أنه عليه السالم كان حنيفاً ،ومعىن «حنيفاً» :أي مائالً إىل حب هللا
وتوحيده ،وإخالص الدين له ،واإلقبال عليه ذالً ورجاء ورغباً ورهباً ،بعيداً عن الشرك جمانباً له .إذ احلنيف أصل
معناه :املائل ،واحلنف :امليل ،ومعىن كونه عليه صلوات هللا وسالمه عليه حنيفاً :أي مائالً عن الشرك إىل التوحيد،
وعن املعصية إىل الطاعة ،فكان شأنه عليه الصالة والسالم هو هذا كما نعته بذلك ربه .مث بعد هذه اآلية آبايت
قال هللا عز وجل خماطباً نبيه حممداً ﴿ :ﮅ ﮆ ﮇ﴾ أي أيها النيب﴿ ،ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ﴾
[النحل]123:؛
فأمره جل وعال أن يتبع ملة إبراهيم احلنيفية السمحة ،وهي اإلخالص هلل تبارك وتعاىل وإفراده ابلعبادة والرباءة من
الشرك -كما سيأيت بيان ذلك وإيضاحه ،-وقال هللا جل وعال يف موضع آخر من القرآن﴿ :ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ
2
ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ﴾[البقرة]130:؛ أي أن هذه امللة احلنيفية السمحة -ملة إبراهيم -ال يرغب عنها أي ال يعدل
عنها ويرتكها ويذهب إىل غريها من امللل والنحل إال من حكم على نفسه ابلسفه والغي.
أن احلنيفيةَ ِملَّةَ إبراهيم))؛ «ملة» بدل من احلنيفية ،واخلرب -خرب أن -هو قوله رمحه هللا(( :أ ْن تعب َد
قالَّ (( :
الدين))؛ فاحلنيفية اليت هي ملة إبراهيم اخلليل عليه السالم هي أن تعبد هللا خملصاً له الدين ،هذههللا وح َد ُه خملصا له ِ
ً َ
هي احلنيفية .لو قال قائل :ما احلنيفية؟ ملة إبراهيم اليت أمر نبينا عليه الصالة والسالم ابتباعها ،وأمرت أمته بذلك.
اجلواب :احلنيفية ملة إبراهيم ،هي :أن تعبد هللا خملصاً له الدين؛ هذه هي احلنيفية ،أن تعبد هللا خملصاً له الدين ،أن
تصرف العبادة كلها جبميع أنواعها هلل وحده ،وال جتعل معه تبارك وتعاىل شريكاً يف شيء منها.
الدين))؛ العبادة هي غاية الذل مع غاية احلب واخلضوع ،وهي حق هلل قال(( :أ ْن تعب َد هللا وح َد ُه خملصا له ِ
ً َ
تبارك وتعاىل ،ليس ألحد شركة يف شيء من ذلك ،فهذا التذلل واخلضوع واحملبة واالنكسار وحنو ذلك من العبودية
هذا كله حق هلل جل وعال ،ال شركة ألحد فيه ،وسيأيت ذكر الدليل على ذلك عند املصنف رمحه هللا تعاىل.
الدين))؛ أ ْن تعبد هللا :أي أن تفرده وتوحده ابلعبادة ،وسيأيت معنا أن األمر قال(( :أ ْن تعب َد هللا خملصا له ِ
َ ً
ابلعبادة يف القرآن والسنة أمر ابلتوحيد ،فمعىن أن تعبد هللا :أي أن تفرده تبارك وتعاىل ابلعبادة فال جتعل معه
شريكاً يف شيء منها .ولكي حيقق املرء ذلك البد أن يعرف العبادة ،ما حقيقتها؟ ليجعلها كلها هلل خالصة،
والعبادة أمجع ما قيل يف معناها وبيان حقيقتها :أهنا اسم جامع لكل ما حيبه هللا ويرضاه ،من األقوال واألعمال
الظاهرة والباطنة .وهبذا يعلم أن من العبادة ما يكون ابلقلب ،مثل :الرجاء واحملبة واخلوف والتوكل واالستعانة،
ومنها ما يكون ابللسان ،مثل :الذكر والدعاء وتالوة القرآن واألمر ابملعروف والنهي عن املنكر ،هذه كلها
عبادات ،ومنها ما يكون ابجلوارح ،مثل :الصالة والصيام واحلج والرب وحنو ذلك من األمور اليت أمر هللا سبحانه
وتعاىل عباده هبا ،وحيبها منهم ويرضاها .فالعبادة :اسم جامع لكل ما حيبه هللا ويرضاه ،من األقوال واألعمال
الظاهرة والباطنة.
الدين))؛ أي أن تقع منك العبادة خالصةً هلل ،كما قال هللا تعاىل﴿ :ﮆ ﮇ ﮈ قال((:خملصا له ِ
ً
ﮉﮊ﴾[الزمر ]3:وكما قال جل وعال﴿ :ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾[البينة .]5:فقوله رمحه هللاً « :
خملصا له
الدين» أي أن أتيت ابلعبادة صافية نقية ،ألن اخلالص هو الصايف النقي .ومعىن أن تكون العبادة خالصةً :أي أن ِ
تكون صافية نقية ،ليس فيها شائبة شرك أو رايء أو مسعة أو إرادة للدنيا ابلعمل ،بل هي صافية نقية ،مل يرد هبا إال
هللا جل وعال.
واخلالص يف اللغة :هو الصايف النقي ،واقرؤوا يف معرفة معىن اخلالص لغةً قول هللا سبحانه وتعاىل يف سورة
النحل -سورة النعم﴿ :-ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ
3
ﭵ﴾[النحل]66:؛ فهذه تبني لك معىن اخلالص لغة .اخلالص لغة :الصايف النقي ،وانظر يف معرفة مدلول هذه اللفظة
لغةً إىل اللنب الذي خيرج من هبيمة األنعام؛ فقد وصفه هللا أبنه خيرج من ينب فرث ودم ،حىت إن بعض أهل اخلربة
يقولون إن خروجه من بني الفرث والدم هو وقت احللب ،يعين خيرج لتوه من بني الفرث والدم ،والدم معروف،
والفرث أيضاً معروف ،واحلليب أو اللنب الذي خيرج من هبيمة األنعام خيرج حني خيرج من بني فرث ودم ،لكنك
ماذا تراه؟ هل ترى فيه قطرة دم؟ ولون الدم معروف ،واحلليب لونه معروف ،هل ترى فيه قطرة دم؟ أو ترى فيه
قطعة من فرث؟ اجلواب :ال ،اجلواب :تراه صافياً نقياً؛ وهلذا قال هللا تعاىل﴿ :ﭲ﴾ أي صافياً نقياً ،مع أنه
خرج للتو من بني فرث ودم ،ال ترى فيه نقطة دم ،وال ترى فيه قطعة فرث!! وهذه آية من آايت هللا وعربة من
العرب ،وهلذا صدر هللا سبحانه اآلية بقوله﴿ :ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ﴾ ،ومن العربة والعظة يف األنعام هذه اآلية من
آايت هللا؛ أن خيرج اللنب من بني الفرث والدم خالصاً .مث ماذا؟ قال﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ﴾؛ أي مع علم الناس
مبصدره وخمرجه ومنبعه فإهنم يستسيغونه ،ال تنفر نفوسهم منه لكونه خرج من هذا املكان ،بل يستسيغونه
ويستلذونه ،وجيدون له طعماً لذيذاً هنيئاً؛ ﴿ﭳ ﭴ ﭵ﴾ أي ملن يشربه.
فهذه آية من آايت هللا سبحانه وتعاىل ،وهذه اآلية تبني لنا معىن اخلالص لغةً؛ أي الصايف النقي.
وقوله جل وعز﴿ :ﮆ ﮇ ﮈ فإذاً قول ربنا جل وعز﴿ :ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾
[البينة]5:
ﮉﮊ﴾[الزمر ]3:ما معىن اخلالص؟ عرفنا معىن اخلالص ومدلوهلا؛ اخلالص :أي الصايف النقي ﴿ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ﴾
أي له الدين الصايف النقي؛ مبعىن أن تقبل بكليتك وبقلبك وبنيتك وبقصدك وحبك ورجائك وذلك تقبل على هللا
وحده ،ال جتعل مع هللا شريكاً يف ذلك ،ألنك إن جعلت مع هللا شريكاً يف ذلك أخللت ابإلخالص ،مل تكن
عبادتك صافية ،إن دعا أحد هللا ودعا معه غريه خدش دعاؤه لغري هللا مع هللا إبخالصه ،مل يصبح خملصاً بل
أصبح مشركاً ،ألن املخلص :هو الذي أييت ابلعبادة صافية نقية هلل وحده ،ال جيعل مع هللا سبحانه وتعاىل شريكاً
وجعل غري هللا نداً
فيها ،واملشرك :هو الذي جيعل مع هللا شريكاً يف العبادة؛ ألن الشرك :هو تسوية غري هللا ابهللْ ،
هلل وعدالً له تبارك وتعاىل ،يصرف له من احلقوق ما يصرف هلل تبارك وتعاىل.
الدين)) أي أن يكون دينك وعبادتك وطاعتك وذلك وخضوعك كل فإذاً قوله رمحه هللا(( :خملصا له ِ
ً
ذلكم يكون خالصاً هلل ﴿ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ﴾[األنعام-162:
]163أي أمرت ابإلخالص؛ أن تكون هذه األعمال كلها هلل تبارك وتعاىل خالصة ،ليس ألحد فيها مع هللا سبحانه
وتعاىل مشاركة.
مجيع الناس)) مر معنا اآلية قال﴿ :ﯡ ﯢ﴾ فاهلل سبحانه ِ
خملصا له الدين وبذلك أ ََم َر هللاُ َ
قالً (( :
وتعاىل أمر مجيع الناس بذلك ،وقال يف أول أمر ورد يف القرآن﴿ :ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ
4
ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾[البقرة ]21:فهذا أول أمر يف القرآن ،وأول هني يف القرآن هو قوله﴿ :ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ﴾[البقرة]22:؛ فأول أمر يف القرآن أمر ابلعبادة والتوحيد واإلخالص ،وأول هني يف القرآن هني عن
الشرك والتنديد واختاذ الشركاء مع هللا سبحانه وتعاىل.
مجيع الناس))﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾.
قال(( :وبذلك أ ََم َر هللاُ َ
((وخلَقهم هلا))؛ أي هلذه الغاية خلقهم وأوجدهم؛ فهو تبارك وتعاىل خلقهم وأوجدهم حلكمة عظيمة،
وغاية نبيلة ،وهدف جليل ،وهو أن يعبدوا هللا سبحانه وتعاىل خملصني له الدين.
((والدليل على ذلك قول هللا سبحانه يف سورة الذارايت﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾))
أي إال لغاية وهي عباديت ،ومعىن ﴿ﭷ ﭸ ﭹ﴾ أي إال ليوحدون ،كما جاء عن ابن عباس رضي هللا عنهما
أنه قال« :كل أمر ابلعبادة يف القرآن أمر ابلتوحيد» .فقوله ﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾ أي وحدوا ربكم
ابلعبادة ،فأخلصوها له ،قوله﴿ :ﭷ ﭸ ﭹ﴾ أي إال ليوحدون؛ أي إال ليفردوين وحدي ابلعبادة ،وخيلصوا
الدين يل دون شريك.
﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾ أخرب جل وعال يف هذه اآلية أنه تفرد ابخللق ﴿ﭳ ﭴ﴾
تفرد جل وعال ابخللق واإلجياد واإلنعام ،أخرب أنه تفرد بذلك ،وأوجد اإلنسان وخلقه ،أوجد الثقلني ،وحدد الغاية
اليت ألجلها خلقهم؛ قال﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾ فأخرب تعاىل أنه فعل األول وهو اخللق
﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾ ليفعلوا هم الثاين وهو العبادة ﴿ﭷ ﭸ ﭹ﴾؛ أي إال ليقوموا بعباديت وتوحيدي.
فماذا كان حاهلم مع هذا الذي خلقهم هللا ألجله وأوجدهم لتحقيقه؟ انقسموا إىل فريقني﴿ :ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ﴾[النحل]36:؛ فمنهم من هدى هللا فقام هبذه الغاية ،ووحد هللا وأفرده تبارك وتعاىل
ابلعباد،ة ومل يصرف شيئاً من العبادة لغريه ،ومنهم من حقت عليه الضاللة ،فوقع يف الشرك والكفر ابهلل سبحانه
وتعاىل .قال هللا تعاىل﴿ :ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ﴾[النحل.]36:
قال(( :كما قال تعاىل﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾ ،ومعىن ﴿ﭚ﴾ أيِ :
يوح ِ
دون))؛
معىن ﴿ﭚ﴾ الذي خلق جل وعال اخللق ألجله أي :يوحدون .فالعبادة ال تكون عبادةً إال ابلتوحيد ،كما أن
الصالة ال تكون صالةً إال ابلطهارة؛ أرأيتم لو أن شخصاً صلى وأخرب عن نفسه بذلك ،قال "صليت بغري
طهارة"؛ يصح أن يقال له :ما صليت ،ألن من شروط صحة الصالة الطهارة ،فالصالة بدون طهارة كأهنا مل
تكن ،ويقال ملن صلى بغري طهارة :ما صليت .ومن عبد هللا بدون توحيد شأنه كذلك؛ مل يعبد هللا ،من عبد هللا
5
بغري توحيد هو يف احلقيقة مل يعبد هللا ،ألن عبادة هللا ال تكون عبادة مقبولةً مشكورةً مرضية عند هللا إال ابلتوحيد،
فإذا فقدت العبادة التوحيد فقدت أساس القبول ،وهلذا قال ربنا جل وعال يف احلديث القدسي(( :أان أغىن
الشركاء عن الشرك ،من عمل عمالً أشرك معي فيه غريي تركته وشركه)) ،فالعبادة مع الشرك ال تكون عبادةً ،بل
ترد على صاحبها وال تقبل منه ،وإن مات على ذلك عاقبه هللا سبحانه وتعاىل يوم القيامة أشد العقاب ،وأحل به
أشد النكال ﴿ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ﴾[النساء.]48:
وهلذا وجب على كل إنسان أن يهتم هبذا األمر ومبعرفته أشد االهتمام ،ألنه أساس عظيم وأصل متني خلق
ألجله ،وأوجد لتحقيقه ،وهو يف الوقت نفسه ألذ شيء يف هذه احلياة الدنيا؛ ألذ شيء يف هذه احلياة الدنيا
التوحيد ،ومن عاش هذه احلياة الدنيا وخرج منها بدون التوحيد خرج منها ومل يذق ألذ شيء فيها ،ألذ شيء يف
هذه احلياة الدنيا توحيد هللا؛ فهو احلالوة واللذة وقرة العني وهناءة العيش ﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ
ﮑ﴾ أي موحد هلل ﴿ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾
[النحل]97:
فبالتوحيد تكون احلياة اهلنيئة ،والعيش الطيب ،والسعادة ،واللذة ،والراحة ،وقرة العني ،وبدونه تفقد اخلريات يف
الدنيا واآلخرة ،وحتل على اإلنسان الشرور تلو الشرور .وهلذا ينبغي أن يكون اهتمام العبد ابلتوحيد أشد االهتمام،
وأن تكون عنايته به أعظم العناية ،أعظم من عنايته بطعامه وشرابه ولباسه وسائر شؤونه .قال(( :ومعىن
﴿ﭚ﴾ :يوحدون)).
َمر هللاُ به التوحي َد))؛ أي أعظم شيء أمر هللا العباد به التوحيد .ويدل لذلك دالئل ال حصر
وأعظم ما أ َ
(( ُ
هلا ،وشواهد ال عد هلا
منها:أنه املقصود ابخللق؛﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾. ▪
ومنها :أنه الغاية من بعثة الرسل ﴿ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ▪
ﭾﭿ﴾.
ومنها :أنه أول أمر يف القرآن ﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾. ▪
ومنها :أنه أول األوامر يف القرآن؛ عندما أتيت آايت األوامر والنواهي يف القرآن تبدأ ابألمر ▪
ابلتوحيد.
ومنها :أنه أساس السعادة والفالح يف الدنيا واآلخرة؛ فإذا فقد فقدت السعادة وفقد الفالح. ▪
وأنه أساس قبول األعمال؛ فال تقبل األعمال إال ابلتوحيد ،فإذا فقدت التوحيد ردت على ▪
العامل ،ومل تقبل منه.
6
إىل غري ذلك من األمور الدالة على أن التوحيد هو أعظم شيء أمر هللا سبحانه وتعاىل عباده به .ومعىن هذا
أن هللا أمر عباده أبوامر كثرية جاءت يف الكتاب والسنة ،أعظم هذه األوامر توحيد هللا جل وعال.
َمر هللاُ سبحانه وتعاىل به التوحيد)) ما هو التوحيد الذي هو أعظم شيء أمر هللا وأعظم ما أ َ
قالُ (( :
سبحانه وتعاىل عباده به؟ هذه الكلمة «التوحيد» مصدر للفعل وحد يوحد توحيداً ،وهو أصل يدل على اإلفراد،
التوحيد هو اإلفراد ،ودين اإلسالم مسي توحيداً :ألن مبناه على اإلميان بوحدانية هللا ،وهللا جل وعال من أمسائه
احلسىن «األحد» ،ومن أمسائه احلسىن «الواحد» ،فدين اإلسالم مسي توحيداً ألنه مبناه على اإلميان بوحدانية هللا،
وحدانية هللا يف ماذا؟ يف ربوبيته جل وعال ،ويف أمسائه وصفاته ،ويف ألوهيته.
يف ربوبيته :أبن يعتقد أبنه وحده سبحانه وتعاىل اخلالق املالك الرازق املنعم املتصرف ال شريك له. •
وحدانيته يف أمسائه وصفاته :أبن تثبت له األمساء احلسىن والصفات العال ،دون تعطيل أو حتريف، •
ودون تكييف أو متثيل ﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ﴾[األعراف.]180:
ووحدانيته يف ألوهيته :أبن يفرد جل وعالوحده ابلعبادة ،وأن خيلص له الدين. •
وهلذا قال العلماء :التوحيد أنواع ثالثة :توحيد الربوبية ،وتوحيد األمساء والصفات ،وتوحيد األلوهية .وكل
من توحيد الربوبية وتوحيد األمساء والصفات مستلزم لتوحيد العبادة؛ مبعىن أن من عرف أن هللا جل وعال متفرد
ابلربوبية ،وآمن أبمسائه وصفاته ،لزمه أن يفرده ابلعبادة ،وهلذا ترى آايت كثرية يف القرآن فيها الدعوة إىل إفراد هللا
ابلعبادة من خالل هذين األمرين؛ من خالل اإلقرار ابلربوبية ﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾[األنبياء ،]92:ومن
خالل اإلميان ابألمساء والصفات ﴿ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ﴾[يوسف﴿ ،]39:ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ
ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ﴾[احلشر]22:؛ فيأيت يف القرآن آايت كثرية فيها الدعوة إىل إفراد
هللا ابلعبادة ،من خالل إلزام من أقر ابلربوبية وأقر ابألمساء والصفات أن يفرده ابلعبادة؛ أي كما أنك تقر أبنه
وحده تفرد ابخللق والرزق واإلنعام ال شريك له ،وتقر أبن له األمساء احلسىن والصفات العال ،الدالة على كماله
وجالله وعظمته فأفرده وحده ابلعبادة ،ال جتعل معه شريكاً يف العبادة ،ال تدعو إال هو ،وال تسأل إال هو ،وال
تذل إال له ،وال ختضع إال له ،وال تصرف شيئاً من العبادة إال له جل وعال؛ كما أنه تفرد ابخللق والرزق واإلنعام ال
شريك له ،فيجب أن يفرد جل وعال وحده ابلعبادة ،فال جيعل معه شريكاً فيها.
هللا ابلعبادة)) فسر هنا توحيد األلوهية ،ألن توحيد األلوهية اد ِهنا قال رمحه هللا(( :التوحي َد وهو :إفر ُ
متضمن لنوعي التوحيد اآلخرين -أعين الربوبية واألمساء والصفات -فتوحيد األلوهية متضمن للنوعني اآلخرين ،أما
النوعان اآلخران فهما مستلزمان لتوحيد األلوهية كما سبق إيضاحه ،أما توحيد األلوهية فهو متضمن هلما ،مبعىن:
7
أن من وحد هللا فتوحيده هلل تبارك وتعاىل فرع عن إقراره بربوبيته وإميانه أبمسائه وصفاته ،ألن عبوديته وذله له
وخضوعه وانكساره له هو فرع عن إقراره أبنه الرب اخلالق الرازق ،وعن إقراره أبمسائه وصفاته.
وهذا هو الذي حصل فيه اخلصومة بني األنبياء وأقوامهم؛ فاألنبياء ملا قالوا لألقوام﴿ :ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ
ﭱ ﭲ﴾ وقعت اخلصومة بينهم وبني األقوام ،ألن األمم كانت تقر -يف الغالب األعم -أبن هللا هو الرب ،وأنه
اخلالق الرازق ،لكنهم جعلوا معه شركاء ووسطاء وأنداد ،بزعمهم تقرهبم إىل هللا ﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ﴾[الزمر﴿ ،]3:ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ﴾[يونس ،]18:فاختذوا مع هللا األنداد اليت هي بزعمهم تقرهبم إىل
هللا ،ويعتقدون يف األنداد أهنا ليست خالقة وال رازقة وال مالكة وال متصرفة ،بل يعتقدون فيها أن هلا مكانة عند
هللا ،فتشفع هلم عند هللا ،وتكون واسطة هلم عند هللا؛ وهلذا قالوا﴿ :ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾ ما قالوا :ما
نعبدهم إال لكوهنم خيلقون ويرزقون ،ما قالوا ذلك ،بل يعتقدون أن اخلالق الرازق املنعم املتصرف هللا ،وجاء يف
القرآن آايت كثرية تدل على هذا املعىن ،وتدل على أن احنراف هؤالء وزيغهم يف اختاذ األنداد هو جبعل األنداد
شركاء هلل يف العبادة.
فإذاً هذا األمر هو الذي وقعت فيه اخلصومة بني األنبياء وأقوامهم؛ ملا قال النيب عليه الصالة والسالم لقومه:
((قولوا ال إله إال هللا تفلحوا)) ماذا قالوا؟ عرفوا املعىن ،وعرفوا املدلول ،وعرفوا املراد قالوا﴿ :ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ
ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ﴾[ص﴿ ]5:ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ﴾ أي جعل املعبودات معبوداً واحداً؟! ألن اإلله معناه يف اللغة:
املعبود﴿ ،ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ﴾ يعين جعل املعبودات اليت تقصد ويلجأ إليها ويطلب منها وخيضع هلا
واحدة؟﴿ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ﴾ أمر عجيب وغريب ﴿ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ﴾ مث أيضاً تواصوا
بينهم أن ال يطيعوه يف هذا األمر العجاب بزعمهم ﴿ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ﴾[ص ]6:يعين تواصوا
ابلصرب على اختاذ اآلهلة أنداداً وشركاء يعبدوهنا مع هللا .وإذا قيل هلم :هل هذه األنداد اليت تتخذوهنا شركاء مع هللا
هل ختلق؟ هل ترزق؟ هل متلك؟ ماذا يقولون؟ ال .إ ًذا مل تعبدوهنا؟ قالوا﴿ :ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾.
وهلذا كانوا يلبون عندما حيجون البيت ،ويقولون يف تلبيتهم« :لبيك ال شريك لك ،إال شريكاً هو لك،
متلكه وما ملك»؛ يعين حنن ال نتخذ معك شريكاً إال شريكاً هو لك متلكه ،ماذا يعنون؟ يعين هذه األصنام
واألنداد اليت يعبدوهنا هي ال متلك – يقولون -وهللا ميلكها ،وهلذا يقولون يف تلبيتهم« :لبيك ال شريك لك ،إال
شريكاً هو لك ،متلكه وما ملك» ،وهلذا ملا وصف جابر رضي هللا عنه حجة النيب عليه الصالة والسالم قال:
«فأهل النيب ابلتوحيد» ،أولئك كانوا يهلون مباذا؟ كانوا يهلون ابلتنديد ،فأهل نبينا عليه الصالة والسالم
ابلتوحيد قال« :لبيك اللهم لبيك ،لبيك ال شريك لك لبيك ،إن احلمد والنعمة لك وامللك ،ال شريك لك» أي
8
كما أنك اي ربنا تفردت ابلنعمة وامللك واحلمد ال شريك لك يف ذلك ،فأنت تفرد ابلعبادة ال ند لك ،تفرد
ابلطاعة ال ند لك؛ «لبيك اللهم لبيك» هذه كلمات توحيد وإخالص هلل تبارك وتعاىل؛ وهلذا ينبغي على كل
حاج أن يردد هذه الكلمات يف حجه كثرياً،مستشعراً ما دلت عليه من التوحيد واإلخالص هلل ،والرباءة من
الشرك ،وهي دلت على التوحيد بنوعيه :العلمي والعملي؛ العلمي يف قوله« :لبيك اللهم لبيك ،لبيك ال شريك
لك لبيك» ،والعملي يف قوله« :إن احلمد والنعمة لك وامللك» النعمة لك ،وامللك لك :هذا توحيد علمي.
اد ِ
هللا ابلعبادة)) هذا تعريف توحيد األلوهية ،وهو متضمن فالشاهد أن قول املصنف(( :التوحي َد وهو :إفر ُ
لنوعي التوحيد اآلخرين؛ أعين توحيد الربوبية ،وتوحيد األمساء والصفات.
اد ِ
هللا ابلعبادة))؛ إفراده ما معناها؟ عرف رمحه هللا توحيد األلوهية هبذا التعريف املختصر اجلامع قال(( :إفر ُ
أي أن تكون العبادة له وحده ،هذا معىن إفراده :أن تكون العبادة له وحده ،ال جيعل معه شريك فيها.
والعبادة عرفنا معناها؛ الصالة عبادة ،الصيام عبادة ،الدعاء عبادة ،الذبح عبادة ،النذر عبادة ،التوكل
عبادة ،االستعانة عبادة ،هذه كلها عبادات؛ فالتوحيد هو أن يفرد هللا أبنواع العبادات ،ال جيعل معه شريك فيها،
يفرد ابلعبادة كلها ،املوحد هو الذي ال يدعو إال هللا ،وال يستغيث إال ابهلل ،وال يذبح إال هلل ،وال ينذر إال هلل ،وال
يتوكل إال على هللا ،وال يصرف شيئاً من العبادة إال هلل تبارك وتعاىل وحده؛ فمن نذر لغري هللا ،أو ذبح لغري هللا،
أو توكل على غري هللا ،أو صرف شيئاً من العبادة لغري هللا صار مشركاً ،وفارق بذلك التوحيد ،وخرج منه ،ومل يكن
من أهله ،ألنه ال يكون من أهل التوحيد إال إذا أفرد العبادة كلها هلل ،مل جيعل مع هللا سبحانه وتعاىل شريكاً يف
شيء منها.
والشرك من أعفن األشياء وأقبحها وأخسها ،وإذا دخل الشرك يف العمل أفسده برمته ،أفسده كامالً؛ فمثالً
لو أن شخصاً أخلص يف صالته ،أخلص يف صيامه ،أخلص يف حجه ،أشرك يف دعائه؛ شركه يف الدعاء يفسد
كل شيء ،ويدمر كل شيء ،وخيرب كل شيء ،فالشرك من أخس األشياء وأعفنها وأخطرها؛ حمبط لألعمال كلها
﴿ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾[الزمر« ]65:عمل» مفرد مضاف ،فيعم كل عمل ،أي
حلبطت أعمالك كلها ،وفسدت مجيعها.
الشرك خطري جداً ،حيبط كل عمل ،ويفسد كل عمل؛ وهلذا من لقي هللا سبحانه وتعاىل مشركاً به ،تبطل
أعماله كلها ،وتذهب هباء ،وتضيع سدى ﴿ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ﴾[الفرقان ،]23:وهلذا
قال العلماء انصحني :جيب على كل إنسان أن يكون خوفه من الشرك أشد اخلوف ،وأن يكون دائماً خائفاً
حذراً من الشرك أشد من خوفه من أي أمر آخر .مر النيب عليه الصالة والسالم مرةً على الصحابة رضي هللا عنهم
وهم يتذاكرون فتنة املسيح الدجال ،اليت أخرب النيب عليه الصالة والسالم أهنا من أشد الفنت ،فقال هلم عليه
الصالة والسالم(( :أال أخربكم مبا هو أخوف عليكم عندي من فتنة املسيح الدجال؟)) قالوا :بلى اي رسول هللا،
9
قال(( :الشرك اخلفي)) أخوف عليكم عندي من فتنة املسيح الدجال ،فتنة املسيح الدجال فتنة عظمى ،وبلية
كربى ،وخاف النيب على أمته من الشرك أشد من خوفه عليهم من فتنة املسيح الدجال ،اليت هي من أشد
الفنت وأعظمها.
إمام احلنفاء عليه صلوات هللا وسالمه الذي حطم األصنام بيده ،قال يف دعائه﴿ :ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ
ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ﴾[إبراهيم ]36-35:كثرياً من الناس أضلتهم األصنام ،أكثر الناس على غري
أكثر الناس على غري التوحيد ،وآايت يف التوحيد ﴿ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ﴾
[يوسف]103:
القرآن تقرر هذا كثرياً ،ومن ذلك قوله﴿ :ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾[يوسف ]106:يؤمنون ابهلل رابً
خالقاً رازقاً منعماً ،لكنهم يشركون معه غريه يف العبادة ،جيعلون معه الشركاء إما يف الدعاء؛ جتد أحدهم إذا مسه
الضراء ،ونزل به البالء ،وأصيب ابملرض والألواء ،فزع إىل غري هللا!! "مدد اي فالن ،أدركين اي فالن ,أحلقين اي
فالن ،إن مل تدركين من الذي يدركين؟ وإن مل أتخذ بيدي من الذي أيخذ بيدي؟ أان الئذ جبنابك ،وأان عائذ
أبعتابك" ،وبعضهم يقول" :وأان عبدك الكسري بني يديك" يناجي خملوقاً مثله ،سبحان هللا! أين عقول هؤالء؟!
أين عقوهلم عن هذه الغاية اليت خلقوا ألجلها؟! أين إمياهنم ابهلل ،رهبم جل وعال الذي خلقهم وأوجدهم ،يلجأ إىل
خملوق مثله ،ال ميلك لنفسه نفعاً وال ضراً ،وال عطاء وال منعاً وال خفضاً ،مث يقول مستغيثاً به" :مدد؟! أدركين؟!
الشفاء؟! العافية؟! إن مل تدركين من الذي يدركين" ،أين عقول هؤالء؟! أين عقول هؤالء عن الغاية اليت خلقهم هللا
سبحانه وتعاىل وأوجدهم ألجلها؟!
الشرك))؛ والشرك أقسامه ثالثة ،كما أن التوحيد أقسامه ثالثة.
ُ وأعظم ما هنى عنه
مث قال رمحه هللاُ (( :
عرفنا أن التوحيد :توحيد الربوبية ،واألمساء والصفات ،واأللوهية ،وكذلك الشرك أقسامه ثالثة :شرك يف
الربوبية ،وشرك يف األمساء والصفات ،وشرك يف األلوهية.
وعرف هنا رمحه هللا الشرك يف األلوهية؛ ألنه هو الذي فيه املعرتك واخلصومة؛ قال(( :الشرك وهو دعوة غريه
معه)) هذا هو الشرك :دعوة غريه معه ،سئل نبينا عليه الصالة والسالم أي الذنب أعظم؟ قال(( :أن جتعل هلل نداً
وهو خلقك)) هذا هو تعريف الشرك ،وهو أعظم الذنوب؛ أن جتعل هلل نداً وهو خلقك .لو قال قائل :ما الشرك؟
وقلت له هذه الكلمة اليت قاهلا نبيك عليه الصالة والسالم« :أن جتعل هلل نداً وهو خلقك» ،ضم إليها احلديث
اآلخر(( :أال أنبئكم أبكرب الكبائر؟ قلنا :بلى اي رسول هللا ،قال :اإلشراك ابهلل)) ،ما هو اإلشراك ابهلل؟ يفسره
احلديث اآلخر ((أن جتعل هلل نداً وهو خلقك)) .فالشرك :اختاذ األنداد؛ أن جيعل مع هللا ند يف حقوقه سبحانه،
والعبادة حق هلل ((أتدري ما حق هللا على العباد؟)) مث قال(( :أن يعبدوه وال يشركوا به شيئاً)) العبادة حق هلل
وحده سبحانه وتعاىل .فهنا فسر رمحه هللا الشرك هبذا ،قال(( :هو دعوة غري هللا معه)).
10
وأصل هذه الكلمة «الشرك» :التسوية .واملعىن هنا :تسوية غري هللا ابهلل يف شيء من حقوقه أو شيء من
خصائصه ،وهلذا املشركون إذا دخلوا يوم القيامة انر جهنم ماذا يقولون؟ ﴿ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ
هكذا يقول املشركون إذا دخلوا النار يوم القيامة ،يقولون﴿ :ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾
[الشعراء]80-79:
ﮡ ﮢ ﮣ﴾ حيلفون ابهلل أهنم كانوا يف ضالل ،ما الضالل الذي كانوا فيه؟ قالوا﴿ :ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ
ﮨ﴾ الشرك :التسوية؛ أن يسوى غري هللا ابهلل يف شيء من حقوق هللا أو خصائصه سبحانه وتعاىل.
والدعاء أعظم أنواع العبادة وأجلها ،وهلذا قال نبينا عليه الصالة والسالم(( :الدعاء هو العبادة)) وتال قول
هللا تعاىل﴿ :ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫ﴾[غافر ]60:مسى الدعاء عبادةً ،فالدعاء أعظم أنواع العبادة وأجلها .فمن جعل مع هللا شريكاً يف الدعاء ،كأن
يدعو ميتاً أو غائباً أو حجراً أو شجراً أو غري ذلك أبي حاجة أو مطلب ،مثل أن يقول" :مدد" أو أن يقول:
"أدركين ،أو :أسألك الشفاء ،أو :احلقين ،أو أان مريض فعافين ،أو أان ضال فاهدين" أو حنو ذلك فقد أشرك ابهلل
وقال جل وعال: العظيم ،قال هللا تعاىل﴿ :ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ﴾
[فاطر]13:
11
أو يطلب من امليت أن يعطيه ولداً؟ أو يطلب من امليت أن يهديه؟ هذا امليت لو كان حياً مل ميلك لنفسه هو
شفاءً ،ومل ميلك لنفسه هو ولداً ،ومل ميلك لنفسه هدايةً؛ هذا كله بيد هللا جل وعال فكيف يطلب من غريه؟!
كيف يلتجأ فيه إىل غريه؟! أييت أشخاص إىل قبور أو قباب أو أضرحة أو حنو ذلك مث يقف أمامها منكسراً،
خاضعاً ،ذليالً ،طامعاً ،راجياً ،ابكياً "احلقين ..أدركين ..أعطين ..أريد كذا ..أريد كذا ..أريد كذا" اي سبحان هللا!
ال إله إال هللا ،وهللا يقول﴿ :ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ
ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾[الزمر ،]67:أين عقول هؤالء عن التوحيد الذي خلقوا ألجله ،واإلخالص
الذي أوجدهم هللا لتحقيقه؟ يذهبون هذه املذاهب ،وينحرفون هذه االحنرافات ،ويقعون يف الشرك العظيم.
والشرك أظلم الظلم ،وأكرب اإلمث ،وعرفنا ذلك يف احلديث(( :أال أنبئكم أبكرب الكبائر؟ قلنا :بلى ،قال:
اإلشراك ابهلل)) ،فالشرك أظلم الظلم على اإلطالق ،وأبطل الباطل ،وهو هضم للربوبية ،وتنقص لأللوهية ،وسوء
ظن برب العاملني ،املشرك سيء الظن بربه ،وإال لو كان حسن الظن ابهلل ملا جلأ إال إليه وحده ،وملا دعا غريه،
فاملشرك سيء الظن ﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ﴾[الفتح ]6:املشرك سيء الظن ابهلل ،لو كان حسن
الظن ابهلل تبارك وتعاىل ملا جلأ إال إىل هللا ،وملا توكل إال على هللا ،وملا صرف ذله وانكساره وخضوعه إال هلل
سبحانه وتعاىل؛ ألن هذا حقه سبحانه ،فاملشرك هضم ذلك كله ،وتلوث هبذا التلوث الذي هو أشر وأشد ما
يكون ضرراً على اإلنسان.
الشرك وهو دعوةُ غريهِ معهُ))؛ دعوة غريه أايً كان املدعو ،ألان عرفنا أن العبادة حق هلل وحده،
قالُ (( :
فمقام اإلنسان والشخص ومكانته عند هللا ليست مسوغاً أن جيعل شريكاً هلل ،الشخص إذا كان له مكانة عند هللا
مكانته حتفظ ،ويقر هبا ويعرتف ،لكن مكانته عند هللا ليست مسوغاً أن جيعل شريكاً مع هللا جل وعال ،يدعى،
ويستغاث به ،ويلتجأ إليه ،وتصرف له أنواع العبادة؛ ألن العبادة حق هلل تبارك وتعاىل ،ال جيوز أن جيعل مع هللا
فيها شريك أايً كان ،ال ملك مقرب وال نيب مرسل ،فضالً عن غريمها ،كما أييت دليل ذلك يف اآلية اليت ساقها
املصنف ،وهي قول هللا تعاىل﴿ :ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾.
هذه اآلية مجعت دالئل عديدة ملا سبق ذكره عند املصنف ،وليكن حاضراً يف ذهنك األمور العديدة اليت
قررها:
قرر رمحه هللا أن التوحيد أعظم ما أمر هللا به ،وأنه إفراد هللا ابلعبادة ،وأن الشرك أعظم شيء هنى هللا عنه؛
وأنه دعوة غري هللا معه .وهذا كله اجتمعت الداللة عليه يف هذه اآلية الكرمية ﴿ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾؛
هذه اآلية جاءت يف سورة النساء ،وتعرف عند بعض أهل العلم آبية احلقوق العشرة ،ألن هللا سبحانه وتعاىل ذكر
فيها عشرة حقوق ،قال جل وعال﴿ :ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ
12
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ﴾
[النساء]36:
كم هذه؟ عشرة ،عشرة حقوق ذكرها هللا سبحانه وتعاىل يف هذه اآلية مب بدأها؟ بدأها أبعظم احلقوق وأمهها
وأكربها على اإلطالق ،وهو قوله﴿ :ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾.
وهلذا ملا تتبع القرآن يف آايت األوامر والنواهي ،وأييت يف القرآن يف مواضع عديدة ذكر األوامر والنواهي
متوالية يف موضع واحد ،جتدها يف مجيع املواضع مبدوءة مباذا؟ مبدوءة هبذا األمر العظيم .مثلها متاماً قول هللا
سبحانه يف سورة اإلسراء قال﴿ :ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ
مث ذكر حق القرابة ،وهنى عن التبذير ،هنى عن الزان ،هنى عن القتل ،هنى عن ﮜ ﮝ ﮞﮟ﴾
[اإلسراء]23-22:
أشياء كثرية ،لكنه صدر هذه األوامر والنواهي ابلنهي عن الشرك واألمر ابلتوحيد .ومثلها أيضاً قول هللا سبحانه
وتعاىل﴿ :ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ﴾[األنعام .]151:أيضاً مثلها
قول هللا تعاىل يف صفات عباد الرمحن قال﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭡﭢ﴾[الفرقان .]68:فرتى هذا يف آي القرآن عندما تذكر األوامر والنواهي تبدأ ابألمر ابلتوحيد الذي هو
أعظم األوامر ،وابلنهي عن الشرك الذي هو أخطر النواهي.
وقوله﴿ :ﮖ ﮗ﴾ هذا أمر ابلتوحيد ،ومر معنا قول ابن عباس رضي هللا عنهما« :كل أمر ابلعبادة يف
القرآن أمر ابلتوحيد»؛ فمعىن قوله﴿ :ﮖ ﮗ﴾ أي وحدوا هللا ،أي أفردوا هللا ابلعبادة.
﴿ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾؛ وال ت ْشركوا :أي ال تسووا ابهلل غريه .الشرك :التسوية ،والشرك :العدل ﴿ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾[األنعام ]1:أي يعدلون به غريه ،يسوون به غريه.
﴿ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾«شْيئاً» جاءت يف هذا السياق نكرةً ،والسياق سياق هني فتفيد العموم ﴿ﮘ ﮙ
ﮚ ﮛ﴾ أي أي شيء .مثلها مثل ما مر معنا ﴿ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾[اجلن ]18:أي أي أحد
كان ال ملك مقرب وال نيب مرسل وال غريمها ممن هو دوهنما ،فالعبادة حق هلل تبارك وتعاىل ،ال جيوز أن جيعل مع
هللا سبحانه وتعاىل شريك فيها.
هذه املسألة اليت تضمنتها هذه الرسالة العظيمة هي يف بيان احلنيفية ملة إبراهيم ،وهذه املعاين واملضامني اليت
مسعتها -أيها األخ املوفق ابرك هللا فيك -هذه املضامني لتكن منك دوماً حاضرة ،يومياً استذكرها ،يومياً راجعها،
ال تفوت يوماً إال وأنت تراجع هذه احلنيفية ،وليكن مراجعتك هلا واستذكارك هلا يف الصباح الباكر ،يف أذكار
الصباح ،كما كان نبينا عليه الصالة والسالم يقول يف حديث عبد الرمحن بن أبزى يف املسند ويف غريه بسند
13
اثبت؛ قال كان النيب إذا أصبح قال« :أصبحنا على فطرة اإلسالم ،وعلى كلمة اإلخالص ،وعلى دين نبينا
حممد ،وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من املشركني».
كل يوم يف الصباح يصبح اإلنسان ويبدأ يومه ابستحضار احلنيفية ،التوحيد ،الفطرة ،اإلخالص هلل تبارك
وتعاىل ،ويبدأ يومه يف عهد مع هللا أبن ميضي يومه ابلتوحيد« ،أصبحنا» على ماذا؟ على ماذا أصبحنا؟ جتد بعض
الناس – نسأل هللا العافية والسالمة – يصبح على ماذا؟ على التوجه للقبور ،على التوجه لألضرحة ،على التوجه
هنا وهناك ،يسأل ويستغيث ،ويهيئ نفسه من الليل ليذهب إىل هنا وهناك ،ليسأل غري هللا ،ويصرف العبادة
لغريه ،فاملسلم احلق املوحد الصادق كل يوم يصبح على التوحيد ،على الفطرة ،على اإلخالص ،على احلنيفية،
على إفراد هللا تبارك وتعاىل وحده ابلعبادة.
وهلذا حيفظ هذا الدعاء ،وهذا الذكر املبارك ،ويردده املسلم ،أييت به يف الصباح الباكر ،كل يوم يف مجلة
أذكار الصباح.
«أصبحنا على فطرة اإلسالم ،وعلى كلمة اإلخالص ،وعلى دين نبينا حممد ،وعلى ملة أبينا إبراهيم
حنيفاً مسلماً ،وما كان من املشركني».
هذه إن شاء هللا من الصباح غداً نواظب عليها مجيعنا ،وال تكون املواظبة عليها كالم يردد ال ندري ما هو،
وإمنا نواظب عليها ،ونستحضر هذه املعاين العظيمة اليت هي احلنيفية ،اليت هي ملة إبراهيم.
وأقول :يوم تشرق عليك مشسه وأنت صحيح معاف ،تصبح ذلك اليوم إبعالن التوحيد والبقاء على الفطرة،
البقاء على احلنيفية ،على ملة أبينا إبراهيم؛ يوم أنعم به وأكرم ،يوم مبارك عليك ،تصبح وأنت تعلن هذا اإلعالن،
وتردد هذا الكالم معلناً بقاءك ،يف الناس ويف العاملني من غري ومن بدل تبديالً ،ومن تلوث أبنواع من اللواثت،
وأنت يكرمك هللا ،وينعم عليك ،وتصبح هذا الصباح الكرمي ،تعلن يف صباحك« :أصبحنا على فطرة اإلسالم،
وعلى كلمة اإلخالص ،وعلى دين نبينا حممد ،وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً ،وما كان من املشركني»،
وتبدأ يومك من صباحه الباكر وأنت على هذه الفطرة ،وعلى هذا التوحيد ،وعلى هذا الدين القومي ،وعلى هذه
امللة احلنيفية السمحة ،ومتضي يومك كذلك يف عهد مع هللا ،ويف أمن وأمان وحفظ من هللا ﴿ﭑ ﭒ ﭓ
ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ﴾[األنعام]82:؛ أمن واهتداء يف الدنيا واآلخرة.
هبذا انتهت الرسائل الثالث اليت جاءت يف مقدمة األصول الثالثة ،واألصول الثالثة اآليت عرضها يظهر -
وهللا تعاىل أعلم -أهنا رسالة مستقلة مفردة ،وبعض طالب الشيخ رمحه هللا وتالميذه وضع هذه الرسائل اليت هي
للشيخ نفسه رمحه هللا ،وضعها بني يدي دراسة هذه األصول الثالثة؛ تتميماً للفائدة ،وإكماالً للنفع ،ومجعاً هلذه
املسائل العظام يف موضع واحد ،وإىل مثل هذا املعىن أشار الشيخ عبد الرمحن بن قاسم رمحه هللا تعاىل يف تعليقه
على األصول الثالثة ،حيث ملا بدأ بشرحها قال« :وما تقدمها من املسائل – أي يف الرسائل الثالث – فلعل
14
بعض تالميذه قرهنا هبا» ،أي بعض تالميذ الشيخ رمحه هللا قرهنا هبا؛ أي ابألصول الثالثة ،وذلك تتميماً للفائدة،
ومجعاً هلذا اخلري العظيم يف موضع واحد ،ليعظم انتفاع طالب العلم هبذا اجملموع املختصر ،النافع اجلامع.
وهللا تعاىل أعلم ،وصلى هللا وسلم على عبد هللا ورسوله نبينا حممد وآله وصحبه أمجعني.
15
الدرس السابع
بسم هللا الرمحن الرحيم
احلمد هلل رب العاملني ،والعاقبة للمتقني ،وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له ،وأشهد أن حممداً
عبده ورسوله؛ صلى هللا وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أمجعني ،أما بعد:
قال شيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب رمحه هللا تعاىل وغفر له وللشارح والسامعني:
اإلنسان معرفتُها؟ ف ُقل :مع ِرفةُ ِ
العبد َربَّهُ ،ودينَهُ ،ونبيَّهُ ِ جيب على ِ ِ
ْ ول الثالثةُ اليت ُ
ُص ُ َكَ :ما األ ُ يل ل َ
فَإذَا ق َ
حمم ًدا .
بنعم ِه ،وهو معبودي ليس يل العاملني ِ
َ مجيع
ورََّّب َ ريب هللاُ الذي رابين َ
فقلَّ :
ك؟ ْ لكَ :م ْن َربُّ َقيل َ
فإن َ
ذلك
هللا عا َلٌ ،وأان واح ٌد من َ كل ما ِسوى ِ والدليل قوله تعاىل﴿ :ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ و ُّ معبو ٌد سواهُ،
َ ُ
العاَِل.
ومن آايتِه الليل والنهار والشمس والقمرِ ،
وم ْن ِ ِ ِ لكِِ :بَ عرفْ َ
ُ ُ ُ ُ ت ربَّك؟ ف ُقل :آبايته وخملوقاته؛ ْ قيل َ
فإذَا َ
ىل﴿ :ﯗ ﯘ ﯙ والدليل قولُه تَ َعا ٰ
ُ فيهن وما بينهما،
وم ْن َّ السبع َ
ضو َن َّ
س ْب ُع واأل ََر ُ وات ال َّ خملوقاتِه ٰ
السم ُ
ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ
ﯫ﴾[فصلت ،]37:وقولُهُ تعاىل﴿ :ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ
دليل قولُه تعاىل﴿ :ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ
املعبود ،وال ُ
ُ ب هو ﮧ﴾[األعرافَّ .]54:
والر ُّ
ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ
رِحه هللا تعاىل« :اخلالق هلٰذه األ ِ
شياء هو ِ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ﴾[البقرةَ ،]22-21:
ُ ابن كثري َ ُ ُ
قال ُ
املستحق للعبادةِ».
ُّ
***********
بدأ رمحه هللا ابلكالم على األصول الثالثة العظيمة وهي :معرفة العبد ربه ودينه ونبيه حممداً ،وهذه
األصول ينبغي وجيب على كل مسلم أن يدرك إدراكاً اتماً عظمتها وأمهيتها ،وحاجته امللحة إىل معرفتها ،وضرورته
الشديدة إىل الدراية هبا ،والعمل هبا وحتقيقها؛ إذ إن سعادة العبد يف دنياه وأخراه وجناته ال تتحقق إال بتحقيق
هذه األصول الثالثة ،وقد صح يف احلديث عن نبينا صلوات هللا وسالمه عليه من حديث الرباء وغريه أن امليت إذا
16
أدخل القرب أاته ملكان ،وسأاله عن هذه األصول الثالثة «من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟» ،كل من مات
وأدرج القرب وجهت له هذه األسئلة الثالثة :من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
وجاء عن نبينا أنه قال(( :ذاق طعم اإلميان من رضي ابهلل رابً ،وابإلسالم ديناً ،ومبحمد رسوالً))،
وطعم اإلميان :أي لذة اإلميان وحالوته ،فاإلميان له حالوة ال ميكن أن يذوقها القلب إال ابلرضا هبذه األصول،
والرضا هبذه األصول الثالثة يكون :ابلعلم هبا ،وابعتقاد ما دلت عليه ،وابلعمل هبا .فهذه حقيقة الرضا ابهلل رابً
وابإلسالم ديناً ومبحمد رسوالً؛ حقيقة الرضا بذلك أن يتعلم هذه األصول تعلماً صحيحاً وأن يفهمها فهماً
اعتقادا راسخاً ويؤمن به إمياانً جازماً ،وأن يعمل مبوجبات ذلك ومقتضياته؛ فهذه حقيقة
ً سليماً ،وأن يعتقد ذلك
الرضا ابهلل رابً ،وابإلسالم ديناً ،ومبحمد رسوالً.
ومن عناية نبينا عليه الصالة والسالم هبذه األصول توجيهه املسلم عند مساع اآلذان ،عندما يقول
املؤذن« :أشهد أن ال إله إال هللا ،أشهد أن حممداً رسول هللا» يشرع للمسلم أن يقول« :وأان أشهد أن ال إله إال
هللا وأن حممداً رسول هللا ،رضيت ابهلل رابً ،وابإلسالم ديناً ،ومبحمد رسوالً» .وورد أيضاً قول ذلك يف أذكار
الصباح واملساء أن يقول إذا أصبح ثالاثً« :رضيت ابهلل رابً وابإلسالم ديناً ومبحمد رسوالً» وثالاثً إذا أمسى،
على خالف بني أهل العلم يف حتسني احلديث الذي ورد يف ذلك أو تضعيفه.
كل ذلكم يؤكد املكانة العظيمة هلذه األصول الثالثة ،ىوحاجة املسلم إليها ،واستذكارها ،وحتقيق مضامينها،
وترسيخ اإلميان هبا ،وجتديد ذلك كل يوم؛ يف أذكارك ،وعند مساعك لآلذان ،وأنت تستحضر هذه األصول الثالثة
مستذكراً هلا ،جمدداً اإلميان هبا ،حريصاً على تتميمها وتكميلها؛ كل ذلكم يؤكد على أمهية هذه األصول الثالثة
وعظم شأهنا وحاجة كل مسلم إىل دراستها ومذاكرهتا.
وشيخ اإلسالم رمحه هللا تعاىل أكرمه هللا جل وعال ومن عليه أبن أفرد هذه األصول الثالثة يف رسائل؛كتبها
بصيغ تناسب طالب العلم ،وكتبها أيضاً بصيغة تناسب العوام -عوام الناس ،-وأيضاً من هللا سبحانه وتعاىل أبن
نفع هبذه األصول نفعاً عظيماً واعتىن هبا الناس عناية ابلغة؛ تدريساً ودراسة ومذاكرة وحفظاً .وعاش على هذه
األصول أقوام أكرمهم هللا سبحانه وتعاىل وماتوا عليها غري مغريين وال مبدلني ،وهذا فضل هللا عز وجل يؤتيه من
يشاء وهللا ذو الفضل العظيم.
فينبغي على كل إنسان أن يغنم حياته يف معرفة هذه األصول ،الواجب على كل مسلم أن يتعلمها ،وأن
يعتين بدراسة هذه األصول ،وأن يكثر من قراءهتا ومطالعتها ومراجعتها ،وأن يسعى يف نشرها بني أهله وأوالده
وقرابته وجريانه؛ نشراً للخري ،وتعميماً للفائدة ،فإن الدال على اخلري كفاعله(( ،ومن دعا إىل هدى كان له من
األجر مثل أجور من تبعه ،ال ينقص ذلك من أجورهم شيئاً))؛ وهلذا من أعظم ما يكون هديةً يقدمها احلاج
17
ألقاربه وزمالئه هذه األصول اليت سيمتحنون عليها عندما يدخلون يف قبورهم ،حيث كل واحد منهم يقال له:
«من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟».
والشيخ رمحه هللا تعاىل أكرمه هللا ومن عليه أبن مجع خالصات عظيمة وزبد مفيدة تتعلق هبذه األصول
الثالثة ،مجعها من كتاب هللا تبارك وتعاىل .والشيخ كما يعلمه كل من اطلع على مؤلفاته ورأى مصنفاته هذا دأبه؛
يذكر املسألة مضموماً إليها دليلها "يشرع كذا والدليل :قال هللا تعاىل كذا" ،فيذكر املسألة مضموماً إليها دليها من
كتاب هللا أو سنة النيب الكرمي عليه الصالة والسالم ،وهلذا هذا الكتاب «األصول الثالثة» هو عبارة عن مسائل
عظيمة ومهمة للغاية يف هذه األصول الثالثة ،مضموماً إىل كل مسألة دليلها من كتاب هللا تبارك وتعاىل أو سنة
النيب الكرمي عليه الصالة والسالم؛ وهلذا أقول :إن هذه األصول الثالثة خري زاد ليوم املعاد ،وجدير بكل مسلم أن
تكون عنايته هبذه األصول واهتمامه هبا أعظم من اهتمامه أبي أمر آخر؛ ألهنا أساس السعادة ،وسبيل الفوز
والفالح يف الدنيا واآلخرة.
مث إن الشيخ رمحه هللا ملا أفرد هذه األصول الثالثة ابلتأليف حرص أن يكتبها رمحه هللا على صيغة سؤال
وجواب ،تيسرياً للفائدة ،وتقريباً للمنفعة ،جعلها على صيغة سؤال وجواب؛ إذا قيل لك كذا فقل كذا ,وإذا قيل
لك كذا فقل كذا..إىل آخر الرسالة .فكتبها على صيغة السؤال واجلواب ألن هذه الصيغة من الصيغ البليغة القوية
يف متكني الفائدة لدى املتلقي ،وكثرياً ما أتيت هذه الصيغة يف أحاديث النيب عليه الصالة والسالم؛ مثل قول النيب
ملعاذ رضي هللا عنه(( :أتدري ما حق هللا على العباد وما حق العباد على هللا؟)) ،ومثل قوله(( :أال أنبئكم
أبكرب الكبائر؟)) ،وهلذا نظائر كثرية يف أحاديثه عليه الصالة والسالم؛ يطرح سؤاالً وجييب عليه ،ويطرح سؤاالً
آخر وجييب عليه؛ فهذا يكون أبلغ ،ومن ذلكم قول هللا سبحانه وتعاىل يف آايت عديدة يف القرآن﴿ :ﮠ
ﮡ ﮢﮣ﴾[البقرة﴿ ،]222:ﮭﮮ ﮯ ﮰﮱ﴾[البقرة﴿ ،]189:ﭕ ﭖ ﭗﭘ﴾[البقرة ]220:وأييت البيان.
فالشاهد أن الشيخ رمحه هللا تعاىل حرص على كتابة هذه األصول الثالثة بصيغة السؤال واجلواب ،وملا كتبها
يف رسالة أخرى غري هذه الرسالة ،ملا كتبها للعوام أيضاً كتبها بصيغة سؤال وجواب ،واختصر فيها املعلومات،
وصاغها أبسلوب قريب من أساليب العامة يف احلديث واللهجة؛ كل ذلكم من حرصه رمحه هللا تعاىل .واليت كتبت
للعوام مشهورة بـ«األصول الثالثة» ،وهذه مشهورة بـ«ثالثة األصول»؛ تفريقاً بني الرسالتني.
ِ
اإلنسان معرفتُها؟))؛ قوله «اليت جيب على ِ ِ
ول الثالثةُ اليت ُُص ُ
كَ :ما األ ُ
يل لَ َ
قال رمحه هللا تعاىل(( :فَإذَا ق َ
جيب على اإلنسان» أي على كل مكلف ،صغري أو كبري ،ذكر أو أنثى .قوله« :معرفتها» أي :معرفتها ،واعتقاد
ما دلت عليه ،والعمل هبا .املراد بقوله «معرفتها» :أي العلم هبا ،واعتقاد ذلك ،والعمل به.
18
((ف ُقل :مع ِرفةُ ِ
العبد َربَّهُ ،ودينَهُ ،ونبيَّهُ حمم ًدا ))؛ وهنا بدأ كتابه «الثالثة أصول» بذكر األصول الثالثة ْ
جمملة ،مث شرع بعد ذلك يف تفصيلها أصالً أصالً ،وكل أصل يذكر مجلةً من التفاصيل املتعلقة به ،مع شيء من
الدالئل من كتاب هللا أو سنة رسول هللا .
قال(( :ف ُقل :مع ِرفةُ ِ
العبد َربَّهُ ،ودينَهُ ،ونبيَّهُ حمم ًدا ))؛ قال الشيخ عبد الرمحن بن قاسم« :ذكر املصنف ْ
رمحه هللا هذه األصول الثالثة جمملةً ،مث ذكرها بعد مفصلة أصالً أصالً ،تتميماً للفائدة ،وتنشيطاً للقارئ؛ فإنه إذا
عرفها جمملة ،وعرف ألفاظها وضبطها ،بقي متشوقاً إىل معرفة معانيها ،وهي املقصود هبذه النبذة».
ك؟))؛ هنا شرع يف التفصيل يف بيان األصل األول من األصول لكَ :م ْن َربُّ َ
قيل َ
قال رمحه هللا(( :فإذا َ
الثالثة ،وهو معرفة العبد ربه؛ إذا قيل لك من ربك؟ ماذا تقول؟ إذا قيل لك من ربك؟ أي من خالقك؟ من
رازقك؟ من املنعم عليك؟ من املتفضل عليك؟ من الرب الذي تعبده وختضع له ،وتسجد له وتركع،وتتقرب إليه
أبنواع القرابت ،وتصرف له أنواع الطاعات والعبادات ،وختلص له دينك؟ من هو هذا الرب؟
بنعم ِه ،وهو معبودي ليس يل ني ِ مجيع العامل َ
ورََّّب َ
ريب هللاُ الذي رابين َ
فقلَّ :ك؟ ْ لكَ :م ْن َربُّ َ
قيل َ
((إذا َ
معبو ٌد سواهُ))؛ هذا هو جواب هذا السؤال «من ربك؟» ،من ربك الذي خلقك ورزقك ،وتفضل عليك أبنواع
قل :ريب هللا الذي رابين ورَّب مجيع العاملني بنعمه.
النعم ،وتقصده أبنواع العبادة ،وختلص له الدين؟ من هو؟ ْ
ريب))؛ الرب معناه :امللك اخلالق الرازق املتصرف السيد ،الذي له التدبري ،ال شريك له يف ذلك.
قلَّ :
(( ْ
قل :ريب هللا))؛ و«هللا» هذا اسم علم على هللا جل وعال ،وهو دال على ألوهيته وعبوديته سبحانه؛ أنه (( ْ
ذو األلوهية والعبودية على خلقه أمجعني .دال على ألوهيته؛ أي على كماله وجالله وعظمته ،وأنه سبحانه له
األمساء احلسىن والصفات العال ،ودال على أنه ذو العبودية على خلقه أمجعني؛ أي جيب عليهم أمجعني أن يذلوا له
وحده ،وأن خيضعوا له وحده ،وأن يصرفوا له وحده مجيع أنواع العبادة دون سواه.
ريب هللاُ الذي رابين)) وهذا من معاين الربوبية ،من معاين الربوبية الرتبية ،والرتبية هي عامة
قلَّ :
قالْ (( :
وخاصة.
عامة جلميع املخلوقات؛ ابإلنعام وابلصحة وابلطعام وابلشراب وابلغذاء وغري ذلك ،فاهلل جل ❖
وعال رب العاملني ،فكل ما يكون يف املخلوقات من إنعام وآالء وعطااي ومنن إىل غري ذلك ،كله من هللا سبحانه
وتعاىل ،فهو رب العاملني ،رَّب مجيع العاملني بنعمه ﴿ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ﴾[النحل﴿ ،]53:ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜﭝ﴾[النحل.]18:
وتربية خاصة؛ وهي خاصة أبنبيائه وأوليائه وعباده الصاحلني ،أبن رابهم على اإلميان ،ووفقهم هلذا ❖
الدين ،وهداهم لصراطه املستقيم ،فهذه منة هللا عليهم ﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ
19
ﭰ ﭱ ﭲﭳ﴾[النور ،]21:وقال جل وعال﴿ :ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ
ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ﴾[احلجرات ،]8-7:وقال تعاىل﴿ :ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ
ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ﴾[احلجرات .]17:فإذاً التوفيق لإلميان ،واهلداية
لإلسالم ،واإلعانة على طاعة هللا تبارك وتعاىل ،والسري على صراطه املستقيم ،هذه تربية خاصة يتفضل هللا سبحانه
وتعاىل هبا على من شاء من عباده ،والفضل بيد هللا يؤتيه من يشاء وهللا ذو الفضل العظيم.
بنعم ِه)) املراد ابلربوبية هنا العامة ،ألنه قال« :مجيع العاملني»،
العاملني ِ
َ مجيع
ورََّّب َ
وقوله هنا(( :الذي رابين َ
أما الرتبية اخلاصة ليست جلميع العاملني ،الرتبية اخلاصة على اإلميان والطاعة والتوحيد واإلخالص هلل تبارك وتعاىل،
هذه الرتبية على من خيتصهم جل وعال بكرامته ،وجيتبيهم لصراطه املستقيم ،ويتفضل عليهم ابهلداية لدينه القومي.
بنعم ِه))؛ أي بنعمه وآالئه ومننه الظاهرة والباطنة ،وكل نعمة ابلعباد
العاملني ِ
َ مجيع
ورََّّب َ
قال(( :الذي رابين َ
فهي من هللا؛ فهو املان واملنعم واملتفضل ال شريك له ،الفضل فضل هللا ،واإلنعام إنعامه ،واألمر بيده تبارك
وتعاىل؛ خيفض ويرفع ،ويعطي ومينع ،ويقبض ويبسط ،وحييي ومييت ،ويعز ويذل ،يتصرف يف ملكه كيف يشاء،
ويقضي فيه مبا يريد ،ال معقب حلكمه وال راد لقضائه ،ما شاء كان ،وما مل يشأ مل يكن ،وال حول وال قوة إال ابهلل
العلي العظيم.
قال(( :وهو معبودي))؛ أي هذا الرب العظيم الذي رابين ورَّب مجيع العاملني بنعمته هو معبودي ،أي هو
الذي أقصده وحده بعباديت؛ ذيل وخضوعي ورجائي ورغيب ورهيب ودعائي وذحبي ونذري وصاليت ونسكي وغري
ذلك من أنواع العبادة ،كل ذلكم أخصه جل وعال به ،وال أجعل معه شريكاً يف ذلك؛ ألنه وحده الذي خلقين،
ال شريك له يف اخللق ،وهو وحده جل وعال الذي رابين ورَّب مجيع العاملني بنعمه ((فهو معبودي ليس يل معبود
سواه)) ال أعبد إال إايه ،كما أنه سبحانه وتعاىل تفرد ابخللق والرزق واإلنعام وحده ،فأان أفرده وحده ابلعبادة ،وال
أصرف شيئاً من العبادة إال له(( .ليس يل معبو ٌد سواهُ)) أايً كان ،سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً أو غري ذلك
(ليس يل معبود سواه)؛ أي سوى هللا ،ال أدعو إال هللا ،وال أذبح إال هلل ،وال أنذر إال هلل ،وال أصلي إال هلل ،وال
أصرف شيئاً من العبادة إال له ﴿ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ﴾[األنعام.]163-162:
قال(( :وهو معبودي ليس يل معبو ٌد سواهُ)) ما الدليل على ذلك؟ األدلة على ذلك كثرية جداً ،لكن
الشيخ رمحه هللا يف هذه الرسالة يذكر املسألة ودليالً واحداً عليها.
ذلك كل من ِسوى ِ
هللا عا َلٌ وأان واح ٌد من َ والدليل قوله تعاىل﴿ :ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ و ُّ قال(( :
َ ُ
العاَِل)) هذا هو الدليل ،الدليل﴿ :ﭖ﴾؛ واحلمد :هو الثناء على هللا سبحانه وتعاىل مع حبه سبحانه ،محداً له
على نعمائه وفضله وعطائه ،ومحداً له على أمسائه احلسىن وصفاته العليا وأفعاله العظيمة سبحانه وتعاىل.
20
قال﴿ :ﭖ﴾«هلل» عرفنا معىن هذا االسم وداللته؛ قد قال ابن عباس رضي هللا عنهما« :هللا :أي ذو
األلوهية والعبودية على خلقه أمجعني».
﴿ﭗ ﭘ ﭙ﴾ عرفنا يف كالم الشيخ قال(( :وكل من سوى هللا عامل))؛ ﴿ﭗ ﭘ ﭙ﴾؛
العامل :من سوى هللا ،وهللا رب العامل كله ،ومعىن كونه جل وعال رب العاملني :أي أنه مالكهم ﴿ﮇ ﮈ ﮉ
ﮊ﴾[آل عمران ،]26:أيضاً معناه أنه خالقهم ﴿ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ﴾[فاطر ،]3:معىن ذلك أنه تبارك وتعاىل
سيدهم وموالهم املتصرف فيهم؛ خفضاً ورفعاً ،حياة ومواتً ،عزاً وذالً ،ليس ألحد غري هللا تبارك وتعاىل ذلك ،هو
وحده املتصرف يف هذا الكون ،ال شريك له ،هو النافع الضار ،هو املعطي املانع ،هو القابض الباسط ،هو املعز
املذل ،هو كما قال﴿ :ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ﴾[النجم ،]44-43:هو املتصرف يف هذا العامل
كله ،ال شريك له يف شيء من ذلك.
﴿ﭗ ﭘ ﭙ﴾ أي مالكهم﴿ ،ﭗ ﭘ ﭙ﴾ أي خالقهم وموجدهم من العدم﴿ ،ﭗ ﭘ
ﭙ﴾ أي املتصرف فيهم واملدبر لشؤوهنم ،واملخلوقات كلها طوع تصريفه ﴿ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾[يس ،]82:وإذا حكم بشيء وقضى بشيء كان ،ال معقب حلكمه وال راد لقضائه ،امللك
ملكه سبحانه وتعاىل ،واخللق خلقه ،والعبيد عبيده ،ونواصي العباد بيده جل وعز ﴿ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾
[الرمحن]29:
يف ملكه سبحانه وتعاىل ،كل يوم هو يف شأن ،حييي ومييت ،يعزو يذل ،يعطي ومينع ،خيفض ويرفع ،األمر هلل
سبحانه وتعاىل أوالً وآخراً ،ظاهراً وابطناً ،وليس ألحد من األمر شيء ،ويف القرآن قال هللا سبحانه لنبيه حممد
،سيد ولد آدم﴿ :ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾[آل عمران ]128:األمر هلل ،وامللك هلل ،واخللق تصريفهم بيد هللا جل وعال.
﴿ﭗ ﭘ ﭙ﴾ وهنا أيضاً وأنت تقرأ هذه اآلية؛ وهي أول آية تواجهك يف القرآن بعد البسملة ،وهي
دعاء أهل اجلنة إذا دخلوا جنات النعيم -نسأل هللا عز وجل أن يكرمنا أمجعني بذلك﴿ -ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾[يونس ،]10:فأنت عندما تقرأ ﴿ﭖ ﭗ
ﭘ ﭙ﴾ وتتأمل فيها وتتدبر داللتها تعرف نفسك ،إذا قرأت ﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ مث تساءلت
يف ضوء هذه اآلية :من أان؟ ماذا أكون؟ ﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ العامل :كل من سوى هللا .الوجود وجودان:
وجود هللا سبحانه وتعاىل ،ووجود من سواه ،وهو جل وعال وجوده أول بال ابتداء وآخر بال انتهاء ،ووجود
املخلوقات إبجياده سبحانه وتعاىل ،العامل كله وجد إبجياد هللا ،واإلنسان كان عدم ﴿ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ
ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾[اإلنسان ،]1:خلقه هللا ،وجعل له السمع والبصر واحلواس والقوى ،ومن عليه ابللباس والغذاء
والطعام .فإذا قرأت ﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ مث يف ضوء ذلك أتملت وقلت :من أان؟ ماذا أكون؟ العامل :من
21
سوى هللا ،وأان واحد من هذا العامل ،أان فرد من ماليني وباليني املخلوقات اليت هي خلق هللا جل وعال ،ومجيع
هذه املخلوقات كلها رب العاملني مطلع عليها ،وهي خملوقات ابملاليني والباليني ،ال حيصي خلق هللا إال هللا جل
وعال ،ال حيصيهم إال الذي خلقهم سبحانه ﴿ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ﴾[اجلن ،]28:مجيع هذه املخلوقات من أانس،
من هبائم ،من حشرات ،من غري ذلك ،مجيعها رب العاملني يعلم هبا ،وحييط هبا ،ويرى حركاهتا وسكناهتا ،وال
ختفى عليه منها خافية ،وأنت واحد من هذا العامل ،خملوق هلل مربوب ،أوجدك هللا سبحانه وتعاىل من العدم.
مث سبحان هللا عجيب حال بعض الناس! عندما ينسى نفسه ،ينسى أنه خلق من نطفة ،وينسى أنه حيمل
دوماً يف بطنه العذرة ،وينسى أنه سيكون يوماً يف حفرة أتكله الديدان ،ينسى أنه خرج من خمرج البول مرتني؛ من
أبيه وأمه ،ينسى ذلك ،مث ميشي على األرض متكرباً متعالياً خمتاالً!! حىت يوجد يف بعض الناس من يقول :أان
ربكم األعلى ،ويقول :ما علمت لكم من إله غريي ،ويقول ،ويقول ،ويقول ،كل هؤالء ما عرفوا أنفسهم ،ما عرفوا
إال الشيطان؛ صاروا عبيداً له ،مطيعني له يف كل ما أيمرهم به وما يدعوهم إليه .وهلذا حقيقةً ال يعرف نفسه
حقيقة إال املسلم ،الذي يعرف ربه سبحانه وتعاىل الذي أوجده ،ويعرف مل أوجده سبحانه وتعاىل ،وجياهد نفسه
ليذل له جل وعال وينكسر بني يديه ،وخيضع جلنابه سبحانه؛ يركع له ويسجد ،ويناجيه سبحانه ،ويبكي بني
يديه ،ويرجو رمحته سبحانه ،وخياف عذابه ،وجياهد نفسه يف حياته كلها على حتقيق طاعته ،والذل والعبودية له
سبحانه وتعاىل .فال يعرف نفسه حقيقة إال املسلم الذي من هللا عليه ابإلسالم ،وهداه هلذا الدين العظيم والصراط
ذلك العاَِل)). كل ما ِسوى ِ
هللا عا َلٌ ،وأان واح ٌد من َ املستقيم .قال(( :و ُّ
َ
ت ربَّك؟))؛ ما اآلايت وما الدالالت وما الرباهني اليت هبا عرفت ربك لكِِ :بَ عرفْ َ
قيل َقال(( :فإ َذا َ
سبحانه وتعاىل؟ (مب عرفْت ربك؟) ،إذا قيل لك :مب عرفت ربك؟ ماذا تقول؟
قال(( :ف ُقل :آبايتِه وخملوقاتِه))؛ اآلايت مجع آية ،واآلية :العالمة والداللة والربهان واحلجة .واملخلوقات:
مجع خملوق وهو :ما أوجد بعد العدم.
((إذا قيل لك :مباذا عرفت ربك؟ فقل :آبايته وخملوقاته)) ،وقل يف تتميمك اجلواب على هذا السؤال:
فيهن وما
وم ْن َّ ومن آايتِه الليل والنهار والشمس والقمرِ ،
وم ْن خملوقاتِه ٰ ِ
السبع َ
ضو َن َّ
الس ْب ُع واأل ََر ُ
وات َّ
السم ُ ُ ُ ُ ُ (( ْ
بينهما))؛ أعرايب قيل له هذا السؤال ،قيل له :مب عرفت ربك؟ قال« :سبحان هللا! أرض ذات فجاج ،وحبار ذات
أمواج ،ومساء ذات أبراج؛ أال يدل ذلك على اللطيف اخلبري؟!» ،أي هذه املخلوقات وهذه اآلايت العظيمة
العجيبة ،هذه برهان ودليل على أنه سبحانه وتعاىل الرب املدبر املالك املتصرف ،الذي ال شريك له سبحانه
وتعاىل يف شيء من ذلك (( ِ
وم ْن آايتِه)).
22
مث قالِ (( :
وم ْن خملوقاتِه)) ،و«م ْن» هنا للتبعيض؛ إشارة إىل بعض اآلايت العظيمة ،وإال حقيقة األمر كما
قال القائل :ويف كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
مجيع ما تراه من املخلوقات دليل على خالقها ومبدعها ﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ﴾[الطور ،]36-35:فاخلالق هلذه ملخلوقات واملوجد هلذه الكائنات هبذا االنتظام البديع
واخللق العجيب والتصريف والتدبري؛ هذه آايت ابهرات ،وحجج ساطعات ،ودالئل بينات على أنه تبارك وتعاىل
الرب الذي ال إله إال هو ،وال معبود حبق سواه.
والنهار))؛ الليل والنهار آية من آايت هللا العجيبة ،حيث إنه سبحانه وتعاىل جعل الليل ِ ِ
ُ قال(( :وم ْن آايته ُ
هذه اآلية العظيمة متر على الناس مبر األايم والليايل؛ ليل وهنار ومشس وقمر ،ومتشي ابنتظام ودقة عجيبة كما أمرها
هللا سبحانه وتعاىل ﴿ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ﴾[يس ]40:كل منهما يسري ابنتظام عجيب ،ليس أحد منهما يسبق اآلخر،
وميشيان ابنتظام عجيب ﴿ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾[األعراف ،]54:فهذه من آايت هللا العجيبة؛ تصبح ومتسي وأنت
ترى هذه اآلية الدالة على كمال اخلالق ،وعظمة املبدع سبحانه وتعاىل.
والقمر)) كل منهما جيري حبسبان ،وأبمر الرمحن سبحانه ﴿ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ
ُ والشمس
ُ ((
ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ﴾[يس ،]40:هذه آايت من آايت هللا العظيمة ،جعلها أمام العباد
يشاهدوهنا ويروهنا مع تكرر األايم والليايل ﴿ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ
ﮰ﴾[الفرقان.]62:
السبع))؛ هذه خملوقات عجيبة هلل سبحانه وتعاىل ،دالة
ضو َن َّالس ْب ُع واأل ََر ُ
وات َّ
السم ُ قالِ (( :
وم ْن خملوقاتِه ٰ
على كمال ربوبيته وعظمته جل وعال؛ األرضون السبع وما أودع فيها من جبال وأهنار وأشجار وأودية وخملوقات،
والسماوات وما جعل فيها من العرب والعظات واآلايت.
فيهن وما بينهما))؛ «وما فيهن» أي السماوات واألرضني« ،وما بينهما» أي ما بني السماءوما َّ
قالَ (( :
واألرض من هواء وسحاب وحنو ذلك؛ فهذا كله من خلق هللا جل وعال الدال على أنه الرب املعبود حبق ،وأنه ال
معبود حبق سواه.
ىل)) هذا الدليل على األول وهو اآلايت ﴿ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ
والدليل قولُه تَ َعا ٰ
ُ قال(( :
ﯜﯝ﴾ هذه آايت من آايت هللا سبحانه وتعاىل الدالة على وحدانيته.
قال﴿ :ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ﴾ نعم هذه آية عظيمة تشد القلوب واألبصار ،وحركتها عجيبة،
وانتظامها عجيب؛ لكن كل ما ترونه يف هذا الكون من أمور عجيبة أو عظيمة أو مجيلة كل ذلكم ال شيء منه
23
يستحق شيء من العبادة ،ألهنا كلها خملوقات هلل تبارك وتعاىل ،واملخلوق أايً كان ومهما بلغ يف العظمة واحلسن
واجلمال والقدرة وحنو ذلك ال يستحق من العبادة شيء ،العبادة ملن خلقه وأوجده ،أما املخلوق ال يستحق من
العبادة وال شيء يسري.
قال﴿ :ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾؛ وهذه
قاعدة يستفيدها املسلم يف هذا الباب؛ يعين مهما ترى يف هذه املخلوقات من األشياء العظيمة ،إما يف حسنها
ومجاهلا ،أو يف قدرهتا وقوهتا ،أو يف مكانتها ومنزلتها ،أو حنو ذلك كل ما تراه ال يستحق من العبادة .الذي
يستحق العبادة اخلالق هلذه األشياء ،املوجد هلا من العدم.
قال﴿ :ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ فهذه قاعدة وأصل عظيم يف هذا
الباب؛ أن العبادة ال تكون ألحد أايً كان ومهما كان ،إال للخالق العظيم الرب اجلليل ،املوجد هلذه الكائنات،
املبدع هلذه املخلوقات ،الذي ال شريك له يف شيء من ذلك ﴿ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ
ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾[الزمر.]67:
قال(( :وقولُهُ تعاىل))؛ هذا الدليل الثاين لقوله« :وم ْن خملوقاته ٰ
السموات السْبع..اخل».
قال(( :وقولُهُ تعاىل﴿ :ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾))؛
فهذه خملوقات عظيمة وكبرية دالة على أن خالقها ومبدعها هو املستحق للعبادة دون سواه جل وعال.
﴿ﮅ ﮆ ﮇ﴾ مث ذكر خملوقاته الدالة عليه؛ ذكر أوالً :خلق السماوات واألرض يف ستة أايم ،وخلق
السماوات واألرض هبذه اهليئة العجيبة والصفة العظيمة آية من آايت هللا ،الدالة على وحدانيته وفردانيته سبحانه
وتعاىل.
﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾ العرش اجمليد العظيم الكرمي أيضاً هذا من خملوقات هللا العظيمة ،والعرش سقف
املخلوقات وأعالها ،وقد وصفه هللا يف القرآن أبنه عرش جميد ،وأنه عرش عظيم ،وأنه عرش كرمي حلسنه وهبائه.
وصفه هللا جل وعالهبذه الصفات ،قال نبينا عليه الصالة والسالم(( :إذا سألتم هللا اجلنة فاسألوه الفردوس األعلى؛
فإنه أعلى اجلنة ووسط اجلنة وفوقه عرش الرمحن)) ،فعرش الرمحن جل وعال هو أكرب املخلوقات ،وأوسعها،
واجمليد معناه :الواسع .فالعرش أكرب وأعظمها ،وهلذا وصفه هللا ابجمليد قال﴿ :ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ﴾
[الربوج،]15:
املخلوقات وأوسع املخلوقات؛ وهذا من آايت هللا العظيمة ،ومن خملوقاته الكبرية الدالة على عظمة اخلالق سبحانه
وتعاىل.
24
وحىت نتفكر قليالً ونتدبر يف هذا األمر نستذكر حديث أيب ذر رضي هللا عنه قال :أتيت النيب عليه الصالة
والسالم وهو جالس يف املسجد احلرام وسألته عن الكرسي؛ قول هللا سبحانه وتعاىل يف آية الكرسي﴿ :ﯲ
ﯳ ﯴ ﯵﯶ﴾[البقرة ،]255:فقال النيب عليه الصالة والسالم(( :ما الكرسي يف العرش إال كحلقة ألقيت يف
فالة)) يعين قطعة من حديد صغرية ألقيت يف صحراء؛ ماذا تكون نسبة احللقة الصغرية من احلديد اليت ألقيت يف
صحراء واسعة؟! قال(( :ما الكرسي يف العرش إال كحلقة ألقيت يف فالة ،وما السماوات السبع واألرضون السبع
يف الكرسي إال مثل ذلك)) السماوات السبع واألرضون السبع ابلنسبة للكرسي كحلقة ألقيت يف فالة ،والكرسي
ابلنسبة للعرش كحلقة ألقيت يف فالة ،األرض اليت أنت عليها ما نسبتها لعموم األرض؟ وما نسبتها لألرضني
السبع؟ وما نسبتها للسماوات احمليطة ابألرضني؟ كل هذه نسبتها للكرسي كحلقة حديد صغرية ملقاة يف صحراء،
هكذا قال عليه الصالة والسالم ،والكرسي نسبته للعرش كحلقة من حديد صغرية ألقيت يف صحراء.
هذه آايت عظيمات تدل على هللا سبحانه وتعاىل ،وهلذا جاء ذكر الكرسي يف آية الكرسي متهيداً لذكر
عظمة هللا ،ألنه قال﴿ :ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ﴾ ،فذكر الكرسي
متهيداً لذكر عظمته سبحانه .الكرسي حميط ابلسماوات واألرضون ﴿ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ﴾ ،وهذا
الكرسي العظيم نسبته إىل العرش كحلقة ألقيت يف فالة ،والرب جل وعز عظم شأنه وتعاىل جده وال إله غريه
أخرب عن نفسه يف سبع آايت من القرآن الكرمي أنه استوى على العرش؛ أي عال وارتفع عليه .وحنن نؤمن مبا أخرب
به ربنا عن نفسه ومبا أخرب عنه رسوله عليه الصالة والسالم ،ونقول كما قال هللا﴿ :ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾[األعراف،]54:
نقول كما قال هللا﴿ :ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾[طه .]5:ولو قال لنا قائل :أين هللا؟ نقول﴿ :ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌ ﮍ﴾ ،اجلواب ما هو اي إخوان عندما يسألك سائل ويقول لك :أين هللا؟ وتقول ﴿ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌ ﮍ﴾ اجلواب هذا ما هو؟ آية تتلى يف القرآن الكرمي يف سورة طه .فإذا قيل لك :أين هللا؟ اتل هذه اآلية:
﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾؛ أي عال وارتفع جل وعال .ودعك من أقاويل املبطلني ،وكلمات الضالني
املنحرفني الزائغني ،أجب بكالم هللا وبكالم رسول هللا ،وإايك أن تؤخذ هنا وهناك ،بعيداً عن القرآن الكرمي
وبعيداً عن سنة النيب صلوات هللا وسالمه عليه.
﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾ أي عال وارتفع عليه ،االستواء معناه يف اللغة :العلو واالرتفاع﴿ ،ﮐ ﮑ ﮒ﴾
أي عال وارتفع عليه .فإذا قال لك قائل :كيف استوى على العرش؟ ماذا تقول له؟ هللا جل وعال أخربان يف القرآن
أنه استوى ،ومل خيربان كيف استوى ،فالذي أخربان هللا سبحانه وتعاىل به نقوله ونؤمن به ونعتقده ونعلن اعتقادان
له ،والذي مل خيربان هللا سبحانه وتعاىل به ال خنوض فيه وال نتكلم فيه حبرف واحد .وهلذا ملا قال رجل لإلمام مالك
25
بن أنس إمام دار اهلجرة رمحه هللا ،ملا قال له﴿ :ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾ كيف استوى؟ غضب رمحه هللا
غضباً شديداً حىت إن جسمه تصبب عرقاً تعظيماً هلل سبحانه وتعاىل؛ علته الرحضاء؛ أي تصبب عرقاً ،وقال
كلمته العظيمة املشهورة؛ قال« :االستواء معلوم ،والكيف جمهول ،واإلميان به واجب ،والسؤال عنه بدعة»،
«االستواء معلوم» أي معناه معلوم أي :عال وارتفع« ،والكيف جمهول» ألان مل خنرب ابلكيفية ،أخربان ابالستواء ومل
خنرب بكيفيته ،فال خنوض يف ذلك؛ وهلذا طريقة السلف يف الصفات هي« :أمروها كما جاءت بال كيف» يعين ال
ختض ابلتكييف ،التكييف ابطل ،التكييف قول على هللا بال علم ،وهللا يقول﴿ :ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ
ويقول( :وال تقف ما ليس لك به علم) ﴿ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰄ﴾
[األعراف،]33:
ﰀ﴾[اإلسراء.]36:
قال﴿ :ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾؛ هو جل وعال مستو على عرشه العظيم اجمليد الكرمي ،ويدبر خملوقاته،
ويتصرف يف الكائنات كيف يشاء ،وتنزل تدابريه وأوامره وأحكامه وقضاؤه سبحانه ،وال يتخلف شيء مما قضاه
وقدره جل وعال.
وهلذا ينبغي على املؤمن أن يقوي هذه اإلميانيات يف نفسه لتقوى صلته بربه .زينب رضي هللا عنها ماذا
كانت تقول يف قصة زواجها؟ كانت تقول ألزواج النيب عليه الصالة والسالم« :زوجكن أهاليكن ،وزوجين هللا من
زوجها هللا سبحانه وتعاىل من فوق سبع فوق سبع مساوات»؛ ﴿ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾
[األحزاب]37:
مساوات ،فكانت تفخر بذلك؛ فانظر إىل هذا اإلميان ابهلل جل وعال وأنه من فوق سبع مساوات يقضي وحيكم
ويدبر ويسخر ويعطي ومينع وخيفض ويرفع عز وجل سبحانه .وهلذا عندما يكون العبد ساجداً يذكر هذه العقيدة
العظيمة ،ويسبح الرب األعلى يف سجوده قائالً« :سبحان ريب األعلى» ،وأقرب ما يكون العبد من ربه جل وعال
وهو ساجد.
قال﴿ :ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾«يـ ْغشي اللْيل النـهار» :أي يغطي الليل النهار« ،يطْلبه حثيثًا» أي
يطلبه سريعاً.
﴿ﮘ ﮙ ﮚ﴾ كل هذه املخلوقات ﴿ﮛ ﮜﮝ﴾ أي تسري وتتحرك بتسخريه وتدبريه
سبحانه وتعاىل ،ليس هلا من األمر شيء ،األمر ملالكها وخالقها ومسخرها سبحانه وتعاىل.
﴿ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ﴾؛ له اخللق وله األمر ،أي هو متفرد ابخللق واألمر .واخللق عرفناه وهو :إجياد هذه
الكائنات .واألمر :هو أوامره سبحانه وتعاىل ﴿ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾[يس ،]82:وأمره:
كلماته سبحانه وتعاىل ،وكلماته نوعان :كلمات كونية قدرية ،وكلمات شرعية دينية .فاخللق هلل ،واألمر هلل،
26
وفرق سبحانه وتعاىل بني اخللق واألمر؛ وهذا فيه داللة على أن القرآن وهو من كالم هللا سبحانه وتعاىل
ليس خملوقاً ،ألن هللا فرق بني اخللق وبني األمر جل وعال.
قال﴿ :ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾ تـبارك :أي تعاظم وجل وعز شأنه سبحانه وعظم؛
وهذا ال يطلق إال على هللا« ،تـبارك» هذه الكلمة ال جيوز أن تطلق إال على هللا ،ال جيوز أن يقال يف أي خملوق
«تبارك» ،هذا أمر ال يطلق إال على هللا ،ميكن أن يقال« :مبارك» ﴿ﮒ ﮓ﴾[مرمي ،]31:وميكن أن يقال:
"ابرك هللا فيك" أو حنو ذلك ،أما «تبارك» هذه كلمة ال تطلق إال على هللا سبحانه .قال﴿ :ﮣ ﮤ ﮥ
ﮦ ﮧ﴾.
املعبود))؛ أي الرب الذي خلق هذه املخلوقات ،وأوجد هذه الكائنات ،وأبدعهاُ ب هووالر ُّ
قالَّ (( :
سبحانه وتعاىل ،وأوجدها بعد أن مل تكن هو املعبود؛ أي الذي ال معبود حبق سواه ،له العبادة وله الذل وله
اخلضوع كما قال﴿ :ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾[األنبياء ،]92:وقال﴿ :ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾[البقرة.]21:
املعبود)) أي الذي جيب أن تصرف له العبادة وحده دون سواه.
ُ ب هو
والر ُّ
قالَّ (( :
والدليل قولُه تعاىل﴿ :ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ
ُ ((
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ
ﯠ ﯡ﴾))؛ هااتن اآليتان الكرميتان مها أول آيتني وردات يف القرآن يف ابب األمر والنهي ،فأول ما تقرأ يف
األوامر يف القرآن﴿ :ﮞ ﮟ﴾ ،وأول ما تقرأ يف النواهي يف القرآن﴿ :ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ﴾ ،فأول أمر يف
القرآن أمر ابلتوحيد ،وأول هني يف القرآن هني عن الشرك والتنديد.
قال﴿ :ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾ فهذا نداء جلميع الناس
أن يفردوا هللا سبحانه وتعاىل ابلعبادة ﴿ﮞ ﮟ﴾ ،وعرفنا قول ابن عباس رضي هللا عنهما« :كل أمر يف
القرآن ابلعبادة أمر ابلتوحيد»﴿ ،ﮞ ﮟ﴾ أي أفردوه ابلعبادة ،وحدوه سبحانه وتعاىل
﴿ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾ أي الذي تفرد خبلقكم وخ ْلق من قبلكم ،أي كما أنه سبحانه تفرد ابخللق
للعاملني ال شريك له يف ذلك ،فيجب أن يفرد وحده ابلعبادة ،ال أن يكون هو اخلالق والعبادة تصرف لغريه ،وهذا
من النبأ العظيم واألمر الغريب يف حال كثري من الناس؛ تفرد رب العاملني خبلقهم ورزقهم والتصرف فيهم ،مث
يفزعون إىل غريه ويلجؤون إىل من سواه!! إذا أراد حاجة ومطلباً ورغبة فزع إىل غري هللا من شجر أو حجر أو
ميت أو غري ذلك ،يفزع إليهم يف حاجاته ورغباته ،فهذا من األمر العجيب يف حال بعض الناس ،وهللا يقول:
﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾ أي أفردوه – جل وعال – ابلعبادة وال جتعلوا معه شريكاً يف ذلك.
27
مث ذكر جل وعال من آايته ومن خملوقاته الدالة على وجوب إفراده سبحانه وتعاىل ابلعبادة قال﴿ :ﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ﴾ أي مفروشة ممتدة﴿ ،ﮭ ﮮ﴾ قال هللا تعاىل﴿ :ﯰ ﯱ ﯲ﴾
[الذارايت.]47:
29
الدرس الثامن
بسم هللا الرمحن الرحيم
احلمد هلل رب العاملني ،والعاقبة للمتقني ،وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له ،وأشهد أن حممداً
عبده ورسوله؛ صلى هللا وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أمجعني ،أما بعد:
قال شيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب رمحه هللا تعاىل وغفر له وللشارح والسامعني:
واخلوف ،والرجاءُ، ِ
واإلحسان؛ ومنهُ الدعاءُ، ِ
واإلميان، ِ
اإلسالم، مثل ِ
ُ وأنواع العبادة اليت أ ََم َر هللاُ هباُ :
ُ
واخلشوع ،واخلَشيةُ ،واإلانبةُ ،واالستعانةُ ،واالستعاذةُ ،واالستغاثةُ ،و َّ
الذبْ ُح، كل ،والرغبةُ ،والرهبةُ،
ُ والتو ُ
والدليل قوله تعاىل﴿ :ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ َمر هللاُ هبا ،كلُّها هلل تعاىل، ِ
ُ وغري ذلك من أنواع العبادة اليت أ َ والنذرُ ،
ُ
والدليل قوله تعاىل﴿ :ﯥ
ُ ف منها شيئًا لغري هللا فهو مش ِر ٌك ٌ
كافر، ص َر َ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾[اجلنَ .]18:
فم ْن َ
ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾[املؤمنون.]117:
والدليل قوله تعاىل﴿ :ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ الد َعاء م ُّخ ِ ِ
ُ ادة»
العبَ َ ويف احلديث « ُّ ُ ُ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾[غافر.]60:
ِ
اخلوف قوله تعاىل﴿ :ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾[آل عمران.]175: ودليل
ُ
جاء قوله تعاىل﴿ :ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ﴾[الكهف.]110: الر ِ
ودليل َّ
ُ
ودليل التَّوُّك ِل قوله تعاىل﴿ :ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ﴾[املائدة ،]23:وقوله﴿ :ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ
ُ
ﮫ ﮬﮭ﴾[الطالق.]3:
شوع قولُه تعاىل﴿ :ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ والرهبَ ِة واخلُ ِ
الر ْغبَ ِة َّ
ودليل َّ
ُ
ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾[األنبياء.]90:
شية قوله تعاىل﴿ :ﮭ ﮮ ﮯ﴾[البقرة.]150: ودليل اخلَ ِ
ُ
اإلانبة قوله تعاىل﴿ :ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾[الزمر.]54: ِ ودليل
استَ ِع ْن ِ االستعانة قوله تعاىل﴿ :ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾[الفاحتة ،]5:ويف ِ
ت فَ ْ
استَ َع ْن َ
احلديث« :إ َذا ْ ودليل
ِ
ابهلل».
ودليل االستعاذةِ قوله تعاىل﴿ :ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾[الفلق ،]1:و ﴿ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾[الناس.]1:
30
ِ
االستغاثة قوله تعاىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ﴾[األنفال.]9: ودليل
ودليل َّ
الذبْ ِح قوله تعاىل﴿ :ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ
السن َِّة« :لَعن هللا من ذَبح لِغَ ِْري ِ
هللا». ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ﴾[األنعامِ ،]163-162:
وم َن ُّ
ََ َُْ ََ
ودليل النَّ ْذ ِر قوله تعاىل﴿ :ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾[اإلنسان.]7:
ُ
*************
هنا ذكر اإلمام رمحه هللا تعاىل مجلةً من أنواع العبادة ،بياانً هلا ،وتذكرياً هبا ،وداللةً هبا على ما سواها من
أنواع العبادة مما مل يذكره ،والذي ذكره رمحه هللا هنا وهو سبعة عشر نوعاً من أنواع العبادة ،ذكرها على سبيل املثال
ال على سبيل احلصر ،مبيناً يف كل نوع من هذه األنواع وفرد من هذه األفراد دليله من كتاب هللا جل وعال ،وعرفنا
فيما سبق أن الدين كله مسائل ودالئل ،الدين كله مسائل تذكر مع دالئلها من كتاب هللا جل وعال؛ فاملسائل
اليت ال تقوم على دليل من كتاب هللا وسنة رسوله ،وليس هلا مستند من كتاب هللا جل وعال وسنة نبيه
فهي مردودة ،فالدين مسائل ودالئل ،وهلذا نرى الشيخ رمحه هللا على طريقة أهل العلم وجادة السلف -أهل
السنة -يذكرون املسألة مضموماً إليها دليلها ،إما من كتاب هللا جل وعال أو سنة نبيه صلوات هللا وسالمه عليه،
فهم ال أيتون بشيء من عند أنفسهم ،وال خيرتعون -وحاشاهم ذلك -بل يبنون كل ما يقررونه على الدالئل
البينات ،واحلجج الواضحات ،والرباهني الساطعات من كتاب هللا وسنة نبيه عليه الصالة والسالم ،فهم أئمة
هدى ،ودعاة حق إىل كتاب هللا وسنة نبيه ،وإىل صراط هللا املستقيم.
وكان رمحه هللا ذكر يف األصل األول -الذي هو معرفة العبد ربه -أن معرفة العبد ربه تكون ابعتقاد أن الرب
الذي تفرد ابخللق والرزق والذي يعرف آبايته وخملوقاته ال يعبد إال هو ،كما مر كالمه رمحه هللا(( :والرب هو
املعبود)) ،وتال قول هللا سبحانه﴿ :ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ
ﮧ﴾[البقرة ،]21:ونقل كالم اإلمام املفسر ابن كثري رمحه هللا قال« :اخلالق هلذه األشياء هو املستحق للعبادة»؛ فإذا
تقرر ذلك وجب على املسلم أن يعرف العبادة ،وأن يعرف أنواعها ،وجيتهد يف معرفة أفرادها ليصرفها كلها هلل،
ولكي ال جيعل مع هللا سبحانه وتعاىل شريكاً يف شيء منها .وهلذا أخذ يعدد املصنف رمحه هللا أنواعاً من العبادة،
مستدالً على كل نوع من هذه األنواع بدليله من كتاب هللا وسنة نبيه .
وأنواع العبادةِ اليت أ ََم َر هللاُ هبا)) ،ولننتبه إىل قوله رمحه هللا« :اليت أمر هللا هبا»؛ ألن العبادة
وهلذا قالُ (( :
هي شرع هللا الذي أذن هو جل وعال لعباده أن يتقربوا به إليه كما قال﴿ :ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ﴾[املائدة ]3:قال
جل وعال﴿ :ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ﴾[الشورى ،]21:فالدين هو ما أذن هللا به،
ورضيه لعباده ،وأمرهم به يف كتابه أو يف سنة رسوله صلوات هللا وسالمه عليه.
31
ِ
واإلحسان)) وهذه األمور الثالثة اليت بدأ هبا رمحه هللا هي الدين كله ،كما ِ
واإلميان، ِ
اإلسالم، مثل
قالُ (( :
هو مبني يف حديث جربيل املشهور ملا سأل النيب عليه الصالة والسالم عن اإلسالم ،مث سأله عن اإلميان ،مث سأله
عن اإلحسان ،مث قال عليه الصالة والسالم يف متام احلديث(( :هذا جربيل أاتكم يعلمكم دينكم))؛ فالدين جيمعه
هذه املراتب الثالث :اإلسالم واإلميان واإلحسان؛ هذه مراتب الدين .وأعلى هذه املراتب اإلحسان؛ وهو أن يعبد
املسلم ربه جل وعال كأنه يراه ،كما قال عليه الصالة والسالم(( :أن تعبد هللا كأنك تراه ،فإن مل تكن تراه فإنه
يراك)) .مث يلي هذه املرتبة مرتبة اإلميان ،وقد فسر النيب عليه الصالة والسالم اإلميان بذكر أصوله اليت عليها يبىن،
قال(( :أن تؤمن ابهلل ،ومالئكته ،وكتبه ،ورسله ،واليوم اآلخر ،وأن تؤمن ابلقدر خريه وشره)) .مث يلي هذه املرتبة
مرتبة اإلسالم ،وفسره النيب عليه الصالة والسالم بقوله(( :أن تشهد أن ال إله إال هللا وأن حممداً رسول هللا ،وتقيم
الصالة ،وتؤيت الزكاة ،وتصوم رمضان ،وحتج البيت احلرام إن استطعت إليه سبيالً)).
فهذه الثالثة هي الدين؛ الدين إسالم وإميان وإحسان ،وكل من هذه األمساء -اإلسالم واإلميان واإلحسان-
جاء بياهنا جممالً ومفصالً يف كتاب هللا جل وعال؛ وهلذا من العبادة ومن الدين الذي نتقرب إىل هللا سبحانه
وتعاىل به أن حنقق العلم هبذه املراتب الثالث ،وجنتهد يف حتقيق ذلك ،وأن حنقق أيضاً العمل هبذه املراتب ،وما
تقتضيه من ذل وعبودية وخضوع هلل تبارك وتعاىل .فهذا من العبادة؛ اإلسالم واإلميان واإلحسان ،وهو من أعظم
ما يتقرب به العبد إىل هللا جل وعال بل هو الدين كله؛ الدين كله جيتمع يف هذه الكلمات الثالث :اإلسالم
واإلميان واإلحسان .وسيأيت ذكر الدليل على هذه املراتب الثالث عند املصنف رمحه هللا تعاىل الحقاً.
قال(( :ومنهُ الدعاءُ))؛ من العبادة اليت يتقرب هبا إىل هللا سبحانه وتعاىل ،ويفرد به ،وختلص له سبحانه
وتعاىل ،وال جيعل معه شريك فيها :الدعاء؛ بل إن الدعاء هو أعظم العبادة وأجلها ،وسيأيت ذكر الدليل عليه،
اخلوف،
وكذلك ذكر الدليل على بقية العبادات اليت ساقها رمحه هللا تعاىل؛ فذكر رمحه هللا من العبادة« :الدعاءُ ،و ُ
واخلشوع ،واخلَشيةُ ،واإلانبةُ ،واالستعانةُ ،واالستعاذةُ ،واالستغاثةُ،
ُ كل ،والرغبةُ ،والرهبةُ،
والرجاءُ ،والتو ُ
والنذر»؛ قال« :وغري ذلك من أنواع العبادة» ،وسيأيت الكالم على هذه العبادات واحداً واحداً ،مع ُ َّ
والذبْ ُح،
ذكر الدليل الذي ساقه املصنف رمحه هللا على هذه العبادات.
َمر هللاُ هبا،كلُّها هلل)) قال «كلها» أي ما ذكره رمحه هللا من ِ
وغري ذلك من أنواع العبادة اليت أ َ
قالُ (( :
العبادة وما مل يذكره ،ألن الذي ذكره ذكره على سبيل املثال ،فما ذكره من العبادة :الدعاء ،والذبح ،والنذر،
واالستغاثة ،واالستعانة ،وغريها ،هذه كلها وغريها أيضاً مما مل يذكره ،العبادة كلها حق هلل جل وعال ،العبادة اليت
هي غاية الذل مع اخلضوع واحلب هلل هذه هلل ،ال يكون ذل اإلنسان وخضوعه وانكساره وإتيانه هبذه العبودايت
إال للذي خلقه جل وعال ،وأوجده من العدم ،ومن عليه بصنوف النعم وأنوع املنن؛ فال يدعو إال هللا ،وال خياف
إال هللا ،وال يرجو إال هللا ،وال يتوكل إال على هللا ،وال يرغب إال إليه ،وال يرهب إال منه ،وال يصرف شيئاً من هذه
32
العبادات وال غريها إال هلل تبارك وتعاىل ،فإن العبادة حق له ،ال شريك له يف شيء منها ،ال ملك مقرب ،وال نيب
مرسل ،فضالً عن غريمها.
والدليل)) أي والدليل على أن هذه العبادات كلها هلل ،وأن أحداً ليس له شركة مع هللا سبحانه
ُ قال(( :
وتعاىل يف شيء منها ،الدليل على ذلك:
((قول هللا تعاىل﴿ :ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾)) أي ال تعبدوا مع هللا أحداً ،العبادة حق هلل
تبارك وتعاىل؛ ال ت ْدعوا مع اَّلل أح ًدا دعاء مسألة ،من سؤال وطلب ورغبة ،وال تدعوا مع هللا أحداً دعاء عبادة؛
فال تذلوا وختضعوا وتصرفوا العبادة إال هلل تبارك وتعاىل ،فالعبادة حق له وحده.
وقوله جل وعال يف هذه اآلية﴿ :ﭷ ﭸ ﭹ﴾؛ «الْمساجد» حتتمل أحد معنيني:
حتتمل املساجد أي مواضع السجود؛ ﴿ﭷ ﭸ ﭹ﴾ أي مواضع السجود ،واألماكن املبنية .1
للصالة والسجود والعبادة هلل تبارك وتعاىل ،ويكون املعىن ﴿ﭷ ﭸ ﭹ﴾ :أي مواضع السجود ،وأمكنة
السجود هلل ،فال يعبد فيها إال هللا ،ألهنا بيوت هللا ،وهي أحب األماكن إىل هللا سبحانه وتعاىل ﴿ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ
ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ﴾[النور ،]36:فهي أماكن لعبادة هللا تبارك وتعاىل ،فال يعبد فيها إال هللا(( ،جعلت يل
األرض مسجداً وطهوراً)).
واملعىن الثاين﴿ :ﭷ ﭸ﴾ أي أعضاء السجود ،وهي :الوجه اجلبهة واألنف ،والكفني، .2
والركبتني ،وأطراف القدمني ﴿ﭖ﴾ أي ال يسجد هبا إال هلل؛ فال يكون من العبد سجود وركوع وخضوع وذل
إال هلل تبارك وتعاىل.
﴿ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾«أح ًدا» نكرة جاءت يف سياق النهي فتفيد العموم؛ أي أي
أحد كان ،ال من األنبياء املرسلني ،وال من املالئكة املقربني ،وال من األولياء الصاحلني ،وال من غريهم؛ ال ت ْدعوا
مع اَّلل أح ًدا :أي أي أحد كان ،فكل أحد مهما عال قدره وعلت منزلته وعظم جاهه ليس له أحقية يف العبادة،
وليس له مشاركة يف العبادة ،العبادة ليست إال هلل وحده ،الذي تفرد ابخللق والرزق واإلحياء واإلماتة والعطاء واملنع
والتدبري ،العبادة له جل وعال وحده ،فال يصرف شيء منها ألحد سواه.
قال﴿ :ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾ هذا دليل صريح على أن العبادة كلها هلل؛ من دعاء أو
ذبح أو نذر أو استغاثة أو رجاء أو توكل أو غري ذلك ،كل ذلك هلل ،ال يصرف شيء منه إال هلل سبحانه وتعاىل.
ف منها شيئًا لغري هللا فهو مش ِر ٌك ٌ
كافر))؛ م ْن صرف منها أي من العبادات لغري هللا فهو ص َر َ
فم ْن َ
قالَ (( :
مشرك كافر؛ مشرك :أي متخذ األنداد مع هللا ،وكافر ابهلل العظيم ،وكل مشرك كافر ابهلل سبحانه وتعاىل؛ الذي
يتخذ األنداد والشركاء مع هللا هو كافر ابهلل ،غري مؤمن به ،ألنه ال يكون اإلميان ابهلل إال بتوحيده ،وإخالص
33
الدين له ،فمن مل خيلص الدين هلل جل وعال فهو كافر ابهلل ،ومن كان كافراً ابهلل فأعماله كلها حابطة ﴿ﯽ ﯾ
ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾[املائدة ،]5:وقال جل وعال﴿ :ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
فجعل الشركاء مع هللا تبارك وتعاىل مبطل لألعمال حمبط هلا ،ومن جعل مع هللا الشركاء فهو ﯙ﴾[الزمر]65:؛ ْ
مشرك كافر ابهلل تبارك وتعاىل.
ف منها شيئًا لغري هللا فهو مش ِر ٌك ٌ
كافر)) ما الدليل؟ ص َر َ
فم ْن َ
قالَ (( :
الدليل قوله تعاىل﴿ :ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ قالُ (( :
ﯷ ﯸ﴾))؛ فسمى جل وعال من يدعو غريه ويعبد غريه كافراً ابهلل ،والكافر أعماله كلها ابطلة ،وعباداته
كلها حابطة ،وال يقبل هللا سبحانه وتعاىل منها شيء ،وإن مات على كفره ابهلل أدخله هللا يوم القيامة انر جهنم
خملداً فيها أبد اآلابد ،ال يقضى عليه فيموت ،وال خيفف عنه من عذاهبا ،كما قال جل وعال﴿ :ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾[فاطر ]36:فكل كفور
هذا مآله ،وهذا مصريه ،دخول النار يوم القيامة واخللود فيها أبد اآلابد.
قال﴿ :ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾ أي من جيعل مع هللا آهلة أخرى ،أنداداً مع هللا ،وشركاء مع هللا،
يدعوهم كما يدعو هللا ،ويذبح هلم كما يذبح هلل ،وينذر هلم ،ويستغيث هبم ،ويلتجئ إليهم ،ويتوكل عليهم،
ويرجوهم ،وخيافهم ،ويصرف هلم أنواع العبادة ،فهو كافر ابهلل تبارك وتعاىل.
قال﴿ :ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾«ال بـ ْرهان» :أي ال حجة وال سلطان ،وهذا كما بني
العلماء رمحهم هللا وصف الزم ال ينفك؛ فكل من دعا مع هللا إهلاً آخر ال برهان له ،فهذا وصف الزم ال ينفك
عن كل من دعا مع هللا تبارك وتعاىل إهلاً آخر.
﴿ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ﴾ أي عقوبته وجزاؤه على شركه وكفره ابهلل
حسابه عند ربه ،يوم يلقى هللا جل وعال؛ فال يغفر هللا له ﴿ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾[النساء ،]48:ويدخله النار
خملداً فيها أبد اآلابد.
قال﴿ :ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾ أي ال سبيل ملن مات على الكفر ابهلل أن حيصل فالحاً ،وال مطمع
له يف مغفرة هللا والفوز برمحته ،ألن هللا توعد سبحانه وتعاىل أن من مات على الشرك ابهلل ال يغفر هللا له ﴿ﮢ ﮣ
ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ﴾[النساء ،]48:فالذي ميوت على الشرك ال مطمع له يف فالح ،وال سبيل
له لنيل رمحة هللا سبحانه وتعاىل؛ وهلذا فإن الكافر يوم القيامة يطالب أبمور ال حيصل شيئاً منها:
يطالب أبن يعاد مرة اثنية للحياة الدنيا ،ليعمل صاحلاً غري الذي كان يعمل ،فال يستجاب له. •
34
يطالب أن خيفف عنه العذاب يف النار ،وأن ختف عليه شدة العذاب ،فال يستجاب له. •
يطالب ويتمىن أن يكون تراابً ،يقضى عليه فيموت ،فال يستجاب له. •
بل أيتيه كالم يسمعه هو أشد كالم يسمعه أهل النار يف النار؛ وهو ما جاء يف قوله سبحانه وتعاىل:
﴿ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾[النبأ ]30:يعين ليس هناك موت ،وليس هناك ختفيف ،وليس هناك عودة للحياة
الدنيا ،بل ليس أمامكم إال زايدة العذاب ﴿ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾؛ فهذه حال من يكفر ابهلل ،ويشرك
ابهلل ،وجيعل مع هللا تبارك وتعاىل األنداد .قال﴿ :ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ
ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾.
ملا ذكر رمحه هللا هذين الدليلني:
الدليل األول :على أن العبادة كلها هلل سبحانه وتعاىل. ❖
والدليل الثاين :على أن من صرف شيئاً من العبادة لغري هللا فهو كافر مشرك. ❖
ملا ذكر الدليلني على ذلك؛ بدأ رمحه هللا يذكر األدلة دليال دليالً على ما ذكره من أفراد العبادة .سبق أن
ذكر الدعاء واخلوف والرجاء والتوكل..اخل ،فبدأ رمحه هللا يذكر األدلة من كتاب هللا جل وعال ومن السنة ،الدالة
على أن هذه عبادات ،وأهنا حق هلل ،وأنه ال جيوز صرف شيء منها وال من غريها من العبادات لغريه سبحانه
وتعاىل.
فبدأ ابلدعاء؛ وبدؤه ابلدعاء :ألنه أعظم أنواع العبادة ،وهلذا بدأ ابحلديث الدال على ذلك قال(( :ويف
الد َعاء م ُّخ ِ ِ
ادة»)) ومعىن «مخ العبادة» :أي خالص العبادة ،ولب العبادة ،وصفو العبادة .فهذا العبَ َ احلديث « ُّ ُ ُ
فيه داللة على أمهية الدعاء ،وقد ثبت عن النيب أنه قال يف احلديث اآلخر(( :الدعاء هو العبادة)) ،وهذا فيه
أن الدعاء أعظم أنواع العبادة؛ ألن النيب عليه الصالة والسالم أتى هبذه الصيغة بضمري الفصل ،واخلرب املعرف
ابأللف والالم ،ليدل على احلصر ،وهذا فيه الداللة على عظم مكانة الدعاء يف العبادة ،وأن له املكانة العلية
واملنزلة الرفيعة .نظريه قوله عليه الصالة والسالم(( :الدين النصيحة)) وقوله(( :احلج عرفة)) وحنو ذلك من
األحاديث.
فالدعاء عبادة عظيمة ،وطاعة جليلة ،ال تصرف إال هلل ،وهلذا قال النيب عليه الصالة والسالم البن عباس
رضي هللا عنهما(( :إذا سألت فاسأل هللا))؛أي ال تسأل غري هللا ،ال تتوجه يف سؤالك وطلبك ورغباتك
وحاجاتك إال هلل تبارك وتعاىل ،ألنه وحده الذي بيده العطاء واملنع ،واخلفض والرفع ،والقبض والبسط ،والعز
والذل؛ كل ذلك بيده ،هو مالك امللك ،وهو جل وعال مدبر األمر ،وهو املعطي املانع ،اخلافض الرافع ،القابض
الباسط ،فال يدعى إال هللا سبحانه وتعاىل .والنيب ملا قال(( :الدعاء هو العبادة)) تال قول هللا تعاىل﴿ :ﭝ
35
ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾[غافر ]60:أي حقريين
صاغرين ذليلني .فالدعاء عبادة ،والعبادة حق هلل تبارك وتعاىل ،واألنبياء كلهم بعثوا ابلدعوة إىل دعاء هللا وحده،
وصرف العبادة كلها هلل جل وعال ،دون أن جيعل معه شريك يف شيء من ذلك.
والدليل)) على أن الدعاء عبادة قول هللا تعاىل﴿ :ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ُ قال(( :
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾ وهذه اآلية تالها النيب عليه الصالة والسالم عندما قال:
((الدعاء هو العبادة)) ،وهي نص صريح يف أن الدعاء عبادة ،ألن هللا قال﴿ :ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧ﴾؛ فسمى جل وعال من يستكرب عن الدعاء مستكرباً عن العبادة ،فالدعاء عبادة ،والعبادة حق هلل:
﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾[الذارايت﴿ ،]56:ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾[البينة﴿ ،]5:ﮖﮗ
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾[اإلسراء﴿ ،]23:ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾[النساء]36:؛ فالدعاء هو من مجلة العبادات ،بل
هو من أعظم العبادات اليت يتقرب هبا إىل هللا سبحانه وتعاىل.
وهلذا من دعا غري هللا من ميت أو غائب أو شجر أو حجر ،وسأله وطلبه ،وعرض عليه حاجاته ،فقد
أشرك ابهلل العظيم ،ألن الدعاء عبادة ال تصرف إال هلل ،وال يتوجه فيه إال إىل هللا سبحانه وتعاىل.
واملصنف رمحه هللا ليس املقام عنده يف هذه الرسالة مقام بسط األدلة ،وهلذا يكتفي يف كل ما يذكره بذكر
دليل واحد على ذلك من كتاب هللا وسنة نبيه ،وإال لو تطالع القرآن يف موضوع الدعاء خاصة جتد األدلة
على وجوب إخالص الدعاء هلل ،وبيان أن من دعا غري هللا تبارك وتعاىل أبنه مشرك ابهلل ،كثرية جداً يف القرآن
الكرمي ،ومع كثرهتا وصراحتها ووضوحها فإن الدعاء أكثر العبادات اليت تصرف لغري هللا!! وكثري من الناس والسيما
عند الضراء ،وعند نزول البالء ،وعند حلول األمراض واألسقام ،وعند اشتداد احلاجات والطلبات ،يفزعون إىل
غري هللا سبحانه وتعاىل ،ويلجؤون إىل غري هللا ،ممن ال ميلك له ،ال ميلك لنفسه فضالً أن ميلك لغريه.
وهلذا جيب على املسلم أن يدرك هذه احلقيقة ،وأن يعلم هذا األمر جلياً؛ فال يصرف دعاءه إال هلل سبحانه
وتعاىل؛ ال يدعو ملكاً ،ال يقول يف دعائه وحاجته" :اي جربيل ،أو اي إسرافيل ،أو اي ميكائيل ،أو اي مالئكة هللا"
ال يقول ذلك ،املالئكة هلم مكانة عظيمة ومنزلة علية ،لكن مع مكانتهم ومنزلتهم ما جيوز أن جيعلوا آهلة مع هللا،
يدعون وتصرف هلم العبادة اليت هي حق هلل .وكذلك ال جيوز دعاء األنبياء ،ال يقول" :اي أنبياء هللا أدركوين ،أو
احلقوين ،أو أان عائذ بكم ،أو الئذ جبنابكم ،أو مستجري بكم" ،وال يقول" :اي نيب هللا ،أو اي رسول هللا احلقين،
أدركين ،أنقذين" .وال يقول" :اي أولياء هللا ،أو اي سيدي فالن ،أو اي شيخ فالن احلقين ،أدركين"؛ ال يقول ذلك،
ألن هذا دعاء والدعاء هلل ﴿ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾﴿ ،ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ﴾ ،نبينا عليه
الصالة والسالم يقول(( :إذا سألت فاسأل هللا)).
36
أذكر مرة كان إىل جنيب رجل من الزائرين ـ وكنت أقرأ القرآن ،وكان ماداً يديه يدعو ،ويبكي يف دعائه ،مث
رفع صوته قليالً يف الدعاء ،وإذا به يف دعائه وخشوعه وبكائه ومناجاته ينادي ويستغيث برسول هللا ،ويقول:
"اي رسول هللا احلقين" ،ينادي ،يستغيث ابلرسول عليه الصالة والسالم ،ويطلب أن يكشف كربه من الرسول عليه
الصالة والسالم!! وهللا يقول﴿ :ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ
ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾[النمل ]62:فأخذت أحتدث معه قليالً قليال يف مكانة الدعاء أوالً ،وفضل الدعاء
ومنزلته من الدين ،وفضل اخلشوع يف الدعاء ،واإلحلاح يف الدعاء ،وذكرت له بعض اآلايت واألحاديث يف ذلك،
مث أخذت أذكر له اآلايت اخلاصة ابلدعاء ،وأنه عبادة ال تصرف إال هلل ،مثل قول هللا تعاىل﴿ :ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭡﭢ﴾ ،وقوله تعاىل﴿ :ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ﴾
[البقرة]186:
37
يفهم؟ هل استوعب الكالم أم مل يستوعب؟ فقلت له :ما رأيك يف هذا الكالم الذي مسعته؟ فقال الرجل يل كلمة
عظيمة جداً؛ قال يل" :تقول يل ما رأيك ،وأنت تقرأ علي آايت وأحاديث؟!" يعين ما يف رأي إذا جاءت اآلايت
واألحاديث ،ما يف رأي ألحد ،وصدق ،إذا جاءت اآلايت وجاءت األحاديث فليس هناك رأي ألحد ،من الذي
يقدم رأيه على كالم هللا وكالم رسوله عليه الصالة والسالم؟ وهذه من فطنة ذلك الرجل ونباهته؛ قال يل" :تقول
ما رأيك ،وأنت تقرأ علي أحاديث وآايت؟!" أي ليس يل رأي ،هذا كالم هللا وكالم رسوله عليه الصالة والسالم،
وإذا جاء هنر هللا بطل هنر عمرو وزيد ،هللا يقول﴿ :ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ﴾[احلجرات .]1:قال يل:
"تقول يل ما رأيك ،وأنت تقرأ علي آايت وأحاديث؟!" فما زلت مصراً أن أطمئن أن الرجل فهم واستوعب أم مل
يستوعب؟ فقلت له :أان مسعتك تقول يف دعائك :اي رسول هللا أدركين ،وهلذا أقول لك ما رأيك؟ فماذا قال؟ قال
يل " :أان من بلد كذا -مسى يل بلده -ما أحد قال يل الكالم هذا" يعين ما أحد تال علي هذه اآلايت وهذه
األحاديث من كتاب هللا ،ما أحد فهمه أن الدعاء عبادة ال تصرف إال هلل.
وكثري من الناس يبتلى يف بلده أن دعاة الضالل يفهمونه أن دعاء غري هللا واالستغاثة بغري هللا توسل،
ويقولون :هذا واسطة بيننا وبني هللا ،هذا واسطة وشفيع لنا عند هللا سبحانه وتعاىل؛ فيدعون غري هللا ،ويستغيثون
بغري هللا ،ويصرفون هذه العبادة اليت هي حق هلل لغريه ،بزعم أنه واسطة يقرهبم إىل هللا ،وهذا نظري ما جاء يف
يف اآلية األخرى﴿ :ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ القرآن﴿ :ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾
[الزمر]3:
ﮯﮰ﴾[يونس]18:؛ أي وسطاء لنا عند هللا .من الذي قال لك اختذ يف ابب الدعاء بينك وبني هللا واسطة؟ هللا يقول:
من ﴿ﭝ ﭞ﴾ ماذا؟ ﴿ﭟ﴾ اجتهوا إيل ،التجؤوا إيل﴿ ،ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ﴾
[غافر]60:
الذي قال لك اختذ وسطاء بينك وبني هللا؟ األنبياء واسطة بيننا وبني هللا يف إبالغ الدين ،يبلغوننا دين هللا ،لكن
العبادة ليس بني هللا وبني خلقه واسطة فيها؛ يعبد هللا مباشرة ،يتجه إىل هللا سبحانه وتعاىل مباشرة ،ال جيعل العبد
بينه وبني هللا واسطة يف دعائه ،أو يف عبادته ،أو يف سجوده ،أو يف ذله ،أو يف خضوعه ،فالذي يتخذ الوسطاء
والشفعاء تكون حاله كحال من قال هللا عنهم﴿ :ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ﴾.
فالشاهد أن الدعاء نظري سائر العبادات ،بل هو أهم العبادات ،ال يصرف إال هلل؛ فال يدعى إال هللا ،وال
يستغيث العبد إال ابهلل ،وال ينزل حاجاته ورغباته إال ابهلل .بعض الناس خياطب خملوقني ،ويقول يف خماطبته
ملخلوق" :إن مل تدركين من الذي يدركين؟ إن مل أتخذ بيدي من الذي أيخذ بيدي؟" ،ويقول بعضهم لبعض
املخلوقني مستغيثاً به" :أان عبدك الالئذ جبنابك ,املنكسر عند اببك ,الواقف أبعتابك ،يرجوك ويطمع يف نوالك"
ويبدأ يلح ويسأل ﴿ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ﴾[األعراف ،]194:العبد ال يعبد مهما كانت
مكانته ،ومهما علت منزلته ،العبد ال يعبد ،العبادة حق هلل سبحانه وتعاىل ،العبد مهما عظمت مكانته وعلت
38
منزلته ال يعبد ،ال يعطى شيئاً من العبادة ،نبينا عليه الصالة والسالم قال يف احلديث الصحيح(( :ما أحب أن
تنزلوين فوق منزليت اليت أنزلين هللا إايها)) منزلة العبودية والرسالة.
فالشاهد أن الدعاء عبادة وهي حق هلل سبحانه وتعاىل وال جيوز صرفها لغريه ،والدليل على ذلك قول هللا
تعاىل﴿ :ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾.
اخلوف قول هللا تعاىل﴿ :ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾))؛ اخلوف عبادة قلبية، ِ ودليل
قالُ (( :
مكاهنا القلب؛ وهو فزع القلب ووجله ،وهو عبادة ال تصرف إال هلل جل وعال ،واملراد ابخلوف الذي هو عبادة وال
جيوز صرفه لغري هللا :خوف السر ،اخلوف الباطن الذي يف القلب؛ الذي يكون يف قلب اإلنسان ،حبيث خياف يف
قلبه من شخص ما أبن يدعي فيه أبنه عنده قدرة مثالً على زيغ القلوب ،أو على قبض األرواح ،أو يعتقد فيه أنه
عنده قدرة على إنزال الضر به ،أو حنو ذلك؛ فيخافه خوف السر الذي ال يكون إال هلل جل وعال .فاملراد ابخلوف
هنا خوف السر؛ حبيث خياف من شخص ما ،ويعتقد فيه أن عنده قدرة على أن يزيغ قلبه ،أو أن يقبض روحه،
أو حنو ذلك من االعتقادات والظنون واملخاوف اليت قد ينزهلا بعض الناس بغري هللا جل وعال.
مثال ذلك :أن خياف بعض الناس من املقبورين؛ فيكون خائفاً من صاحب القرب ،وجتده يرتك بعض
األعمال ال يفعلها خوفاً من صاحب القرب .أحدهم قيل له :احلف ابهلل -وكان كاذابً -فحلف ،فقيل له:
احلف ابلويل فالن؛ فامتنع ،خاف يف ابطنه وقلبه من الويل أشد من خوفه من هللا سبحانه وتعاىل ،ملا حلفوه ابهلل
حلف ،وملا حلفوه ابلويل امتنع؛ هذا خوف السر ،خياف من الويل أن يصيبه ،خوف سر يف ابطنه أشد من خوفه
من هللا؛ هذا شرك ابهلل.
قال يل مرة أحد التجار يف إحدى الدول ،صاحب أموال ،وجاهل يف الدين ،وانصحته فيما قال يل ،قال
يل :أان أبيع على الناس حاجات ،وأحياانً أبيع ابلدين ،يعين أيخذون مين ابلدين ،ويوفون فيما بعد ،قال :فبعضهم
جيحد أحياانً أن يل عنده شيء ،يقول :جربت إذا حلفتهم ابهلل حيلفون ،وإذا حلفتهم ابلشيخ فالن ما حيلفون،
ويقول :أان دائماً ما أحلفهم ابهلل ،أحلفهم ابلشيخ؛ ألهنم أبداً إذا حلفتهم ابلشيخ ما جيحد ،خياف من الشيخ،
من الويل خوف سر ،ورب العاملني ال خياف منه هذا اخلوف الذي خيافه من الشيخ! .هذا العمل ما هو؟ هذا
شرك ابهلل ،خوف السر عبادة ال تصرف إال هلل سبحانه وتعاىل .أحد هؤالء قيل له :احلف ابهلل فحلف ،قيل له:
احلف ابلويل الفالين فحلف ،فغضب صاحبه ،أان ملا قرأت هذه الكلمة «فغضب صاحبه» ،ظننت أنه غضب
للشرك ((من حلف بغري هللا فقد كفر أو أشرك)) ظننت أنه غضب للشرك ،قال" :فغضب صاحبه ،وقال :حتلف
ابلويل الفالين ،وأنت تعلم أنه يعلم أنك كاذب؟!" الويل ميت يف قربه ،وملا حلف ابهلل ما قال له :حتلف ابهلل،
وأنت تعلم أن هللا يعلم أنك كاذب ،ما قال له هذه الكلمة ،لكن ملا حلف ابلويل غضب ،وملا حلف ابهلل مل
يغضب!.
39
فمثل هذا التعلق -تعلق القلوب -ابألولياء واملقبورين ،وأن خياف منهم ،هذا شرك ابهلل سبحانه وتعاىل،
بعضهم ميتنع من أعمال مثل أن ميتنع من زان أو ،..خيوفونه ابلويل ،ما خيوفونه ابهلل ،فيكون هذا اخلوف الذي وقع
يف قلبه ومنعه من الفاحشة شرك ابهلل سبحانه وتعاىل ،انقل من امللة ،الزان ما ينقل من امللة ،والسرقة ما تنقل من
امللة ،لكن الشرك ابهلل ينقل من امللة ،خيرج من الدين ﴿ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ
ﯚ﴾[الزمر]65:؛ الشرك حمبط لألعمال كلها.
ابن مسعود رضي هللا عنه قال« :ألن أحلف ابهلل كاذابً أحب إيل من أحلف بغريه صادقاً»؛ ألن احللف
ابهلل كاذابً ما هو؟ كبرية وليس شركاً ،واحللف بغريه صادقاً شرك ابهلل سبحانه وتعاىل ،وعندما توازن بني الكلمتني
تدرك فقه الصحابة؛ يقول رضي هللا عنه« :ألن أحلف ابهلل كاذابً أحب إيل من أحلف بغريه صادقاً» ،ويف كل
من األمرين حسنة وسيئة:
األمر األول :احللف ابهلل فيه حسنة :حسنة التوحيد ،وفيه سيئة :سيئة الكذب. ❖
واألمر الثاين :فيه حسنة الصدق ،وفيه سيئة الشرك. ❖
فإذا وازنت تدرك فقه الصحابة رضي هللا عنهم ،وهلذا قال رضي هللا عنه« :ألن أحلف ابهلل كاذابً أحب إيل
من أحلف بغريه صادقاً»؛ ألن احللف ابهلل كاذابً كبرية ،واحللف بغريه صادقاً شرك ابهلل جل وعال ،كما قال نبينا
عليه الصالة والسالم(( :من حلف بغري هللا فقد كفر أو أشرك)).
الشاهد أن خوف السر عبادة ،ال جيوز صرفه لغري هللا ،وخوف السر عرفنا معناه ،وهو أن خياف من غري هللا
من ميت أو غائب أو حنو ذلك ،خياف أن يقبض روحه ،خياف أن يطلع على عمله ،يرتك احملرمات خوفاً منه،
يفعل الواجبات خوفاً منه أو حنو ذلك؛ هذا يسمى خوف السر ،وهو عبادة ال جيوز أن تصرف إال هلل رب
العاملني ،وسيأيت الدليل على ذلك عند املصنف رمحه هللا تعاىل.
أما اخلوف الطبيعي؛ خوف اإلنسان من عقرب أمامه ،أو من حية ،أو من انر مشتعلة ،أو من عدو أمامه؛
هذا خوف طبيعي ،جاء يف احلديث« :كان النيب عليه الصالة والسالم إذا خاف من قوم قال :اللهم إننا جنعلك
يف حنورهم ،ونعوذ بك اللهم من شرورهم» ،ويف القرآن﴿ :ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾ ملا ألقى السحرة
بعصيهم ،وأصبحت حيات تسعى ﴿ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ﴾[طه]68-67:؛ فهذا خوف طبيعي،
يعين أمام اإلنسان أسد أو عقرب أو حية أو انر مشتعلة أو عدو متسلط فيخاف منه ،هذا خوف طبيعي ،وال
شيء على اإلنسان فيه ،لكن اخلوف الذي هو عبادة هو خوف السر؛ كأن خياف غائباً أو خياف ميتاً أو حنو
ذلك ،فيرتك مثالً احملرم خوفاً منه ،أو يفعل الواجب خوفاً منه أو حنو ذلك؛ هذا خوف سر ال يكون إال هلل تبارك
وتعاىل ،ومن صرفه لغري هللا فقد أشرك.
40
واخلوف من هللا هو عبادة قلبية عظيمة تسوق اإلنسان إىل فعل الطاعات واجتناب احملرمات ،ألن العبد
كلما كان من هللا أخوف كان لعبادته أطلب ،وقد قيل« :كل شيء ختاف منه تفر منه؛ إال هللا سبحانه وتعاىل
إذا خفته فررت إليه»﴿ ،ﰃ ﰄ ﰅﰆ﴾[الذارايت ]50:ال ملجأ من هللا إال إليه ،ليس لك ملجأ ﴿ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ﴾
[القيامة]11:
ال مفر لك وال ملجأ إليك إال إىل هللا سبحانه وتعاىل؛ فالعبد إذا خاف هللا سبحانه وتعاىل يف قلبه ترك احملرمات،
وابتعد عن اآلاثم وعن املعاصي خوفاً من هللا .فاخلوف عبادة قلبية عظيمة ،والعلماء رمحهم هللا يقولون :العبادات
عموماً تقوم على أركان ثالثة يف القلب ،وهي :احملبة والرجاء واخلوف ،وسيأيت ذكر الرجاء عند املصنف.
فاحملبة عبادة ،والرجاء عبادة ،واخلوف عبادة؛ وهي للعبادات كلها مبثابة األركان ،تقوم العبادات كلها على
هذه األركان الثالثة :احلب والرجاء واخلوف .إذا قيل لك مثالً ملاذا تصلي؟ ملاذا تصوم؟ ملاذا حتج؟ تقول :أان أؤدي
هذه الطاعات حباً هلل ،ورجاء لثوابه ،وخوفاً من عقابه ،كما قال هللا سبحانه وتعاىل﴿ :ﯥ ﯦ ﯧ
فهذا شأن أهل اإلميان وأهل ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾
[اإلسراء]57:
الطاعات ،يتقربون إىل هللا سبحانه وتعاىل أبنواع القرب وأنواع العبادات ،حباً هلل ،ورجاءً لثواب هللا ،وخوفاً من
عقاب هللا سبحانه وتعاىل .وهبذا يعلم أن هذه الثالث -احلب والرجاء واخلوف -أركان قلبية للعبادات كلها ،وهبا
أيضاً يعلم مكانة اخلوف من الدين؛ اخلوف من هللا سبحانه وتعاىل.
اخلوف قوله تعاىل﴿ :ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾))؛ أول اآلية﴿ :ﭢ ﭣ ِ ودليل
قالُ (( :
ﭤ ﭥ ﭦ﴾[آل عمران]175:؛ أي خيوفكم أبوليائه ،قال﴿ :ﭧ ﭨ﴾ يعين ال ختافوا أولياء الشيطان،
﴿ﭩ﴾ أي ليكن خوفكم من هللا وحده ﴿ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾ أي ابهلل سبحانه وتعاىل ،ومبا أمركم جل
وعال ابإلميان به؛ فال ختافوا إال هللا ،ال ختافوا الشيطان ،وال ختافوا أولياء الشيطان ،ال ختافوا إال هللا جل وعال.
قال﴿ :ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾ جعل اخلوف شرطاً يف صحة اإلميان ،قال﴿ :ﮧ ﮨ
ﮩ ﮪ﴾؛ فكما أنه إذا دعا غري هللا أو سأل غري هللا انتفى عنه اإلميان ،فكذلك إذا خاف غري هللا خوف
السر ،مثل أن خياف أن يفعل به شيئاً بسره ،فإن اخلوف أنواع منه خوف السر ،فإذا خاف من غري هللا فيما ال
يقدر عليه إال هللا فهو مشرك كافر ابهلل سبحانه وتعاىل .وهذا له أمثلة أشرت إىل بعضها ،مثل لو خاف من أحد
غائب أو ميت أو حنو ذلك أن يزيغ قلبه ،أو أن يضله ،أو أن يقبض روحه أو حنو ذلك؛ هذا كله خوف سر،
وهو شرك ابهلل سبحانه وتعاىل.
41
الر ِ
جاء)) والرجاء عبادة قلبية من أجل العبادات ،والرجاء :هو الطمع واألمل؛ طمع القلبودليل َّ
قالُ (( :
وأمله ابهلل سبحانه وتعاىل ومبا عنده ،وطمعه يف رمحة هللا ﴿ﯮ ﯯ﴾[اإلسراء ،]57:وهو عبادة ال تصرف إال هلل
جل وعال ،قال هللا تعاىل﴿ :ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ﴾[الكهف ،]110:ومر معنا ﴿ﯮ ﯯ﴾؛ فالرجاء عبادة.
قال﴿ :ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ﴾ األعمال الصاحلات والطاعات الزاكيات يقدمها املسلم يف
هذه احلياة ،يرجو هبا لقاء هللا على خري حال .فالرجاء عبادة وهي عبادة قلبية ،عبادة مكاهنا القلب ،بل هو من
أركان التعبد القلبية وهي :الرجاء واخلوف واحملبة.
قال﴿ :ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ﴾؛ «أح ًدا» نكرة يف سياق النهي
فتفيد العموم ،من كان يرجو لقاء هللا ،ويطمع يف ثوابه ،وخياف من عقابه ،ويعلم أنه سيقف يوماً بني يديه حياسبه
وجيازيه ﴿ﰕ ﰖ ﰗ﴾ أي ليتقرب إىل هللا ،وليكثر من األعمال الصاحلة املقربة إىل هللا ﴿ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ
ﰜ ﰝ﴾.
وهذه اآلية كما نبه العلماء مجعت بني شرطي قبول العمل ،فإن األعمال ال تقبل إال بشرطني :إخالص
للمعبود ،ومتابعة للرسول عليه الصالة والسالم؛ اإلخالص يف قوله﴿ :ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ﴾ ،واملتابعة يف
قوله﴿ :ﰕ ﰖ ﰗ﴾ ،ألن العمل الصاحل هو ما وافق السنة ،وهللا ال يقبل العمل إال إذا كان خالصاً
لوجهه ،صواابً على وفق هدي نبيه صلوات هللا وسالمه عليه .وهلذا جاء عن الفضيل بن عياض رمحه هللا أنه قال
قال« :أخلصه وأصوبه» قيل :اي أاب علي ،وما يف معىن قوله تعاىل﴿ :ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ﴾
[امللك]2:
أخلصه وأصوبه؟ قال« :إن العمل إذا كان خالصاً ومل يكن صواابً مل يقبل ،وإذا كان صواابً ومل يكن خالصاً مل
يقبل ،حىت يكون خالصاً صواابً ،واخلالص :ما كان هلل ،والصواب :ما كان على السنة».
ودليل التَّوُّك ِل))؛ والتوكل أيضاً عبادة قلبية ،عبادة مكاهنا القلب ،وهو التقويض واالعتماد ﴿ﮈ
قالُ (( :
ﮉ ﮊ ﮋﮌ﴾[غافر ]44:اعتماد القلب ،االعتماد والتفويض ال يكون إال على هللا سبحانه وتعاىل.
ودليل التَّوُّك ِل قوله تعاىل﴿ :ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ﴾)) إن كنتم مؤمنني فابرؤوا من
قالُ (( :
حول أنفسكم وقوهتا ،ومن حول الناس وقوهتم ،واعتمدوا يف أموركم وحاجاتكم ورغباتكم وشؤونكم كلها على هللا
وحده ،فوضوا األمور كلها إىل هللا ،اجلأوا فيها إىل هللا ،اعتمدوا فيها بقلوبكم على هللا سبحانه وتعاىل؛ أموركم
الدينية والدنيوية .وهلذا وجه نبينا عليه الصالة والسالم من خيرج من بيته أن يقول« :بسم هللا ،توكلت على هللا ،ال
حول وال قوة إال ابهلل» ،وهذه الكلمات الثالث كلها كلمات استعانة وتوكل «بسم هللا ،توكلت على هللا ،ال حول
وال قوة إال ابهلل» قال(( :فإذا قال ذلك قيل له :هديت ووقيت وكفيت)) أي هداك هللا ،ووقاك هللا ،وكفاك هللا،
42
ألنك متوكل على هللا ﴿ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ﴾[الطالق﴿ ]3:ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ﴾[الزمر ،]36:من توكل على هللا
لو كادته السماوات واألرض ومن فيها فاهلل سبحانه وتعاىل انصره ومؤيده وحافظه وكافيه(( ،واعلم أن األمة لو
اجتمعوا على أن يضروك بشيء ،لن يضروك إال بشيء كتبه هللا عليك)) .فالتوكل عبادة وال تكون هذه العبادة إال
على هللا سبحانه وتعاىل.
نبينا عليه الصالة والسالم مرةً كان قافالً مع أصحابه من غزوة ،فأدركهم التعب فناموا مجيعاً ،وانم عليه
الصالة والسالم وسيفه إىل جنبه ،فجاء رجل من األعداء ،وأراد أن يغتنم هذه الفرصة ،يريد قتل النيب عليه الصالة
والسالم ،فأخذ يتخطى هبدوء ،إىل أن جاء إىل النيب عليه الصالة والسالم ،وأخذ السيف ،وسله مصلتاً؛ ففتح
عليه الصالة والسالم عينيه ،وإذا هبذا العدو واقف ،وبيده السيف ،ويريد أن يهوي به على رسول اله عليه الصالة
والسالم؛ يد قوية ،وهبا سيف صلت ،ورافعاً له ،ما بقي إال أن يهوي به ،فقال الرجل خماطباً النيب عليه الصالة
والسالم" :من حيميك مين؟" فقال عليه الصالة والسالم بكل ثقة وتوكل على ربه جل وعال(( :هللا)) ،قال" :من
حيميك مين؟" يعين من خيلصك؟ من ينقذك؟ من ينجيك مين؟ قال النيب عليه الصالة والسالم(( :هللا)) ،فلما قال
عليه الصالة والسالم ((هللا)) تعطلت يد الرجل عن احلركة ،يده وساعده القوي املمسك ابلسيف بقوة ،أصبحت
يده معطلة ،ال حتسن تقبض على سيف ،وال حتسن أن تضرب بسيف ،ليس فيها قوة ،عطلها هللا سبحانه وتعاىل
عن ما فيها من القوة؛ فسقط السيف من يده ألن يده أصبحت ما تتحرك ،فقام عليه الصالة والسالم وأخذ
السيف ،وأمسك ابلسيف ،وقال له :من حيميك مين؟ فأخذ يرتجى :أنت كرمي ،وأنت ابن كرمي ،ويطلب من النيب
عليه الصالة والسالم أن يساحمه.
موسى عليه السالم ملا تراءى اجلمعان ماذا قال له قومه؟ قالوا «إان ملدركون»؛ يرون حقيقة مفزعة؛ البحر
أمامهم ،وفرعون جبيشه وعتاده وجنوده وقوته وصلوهم؛ قالوا إان ملدركون﴿ ،ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ
ﭘ ﭙ﴾[الشعراء]61:ماذا قال موسى؟ ﴿ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾[الشعراء ]62:هذا توكل على هللا ،واعتماد على
هللا سبحانه وتعاىل.
التوكل عبادة قلبية ال جيوز أن تصرف إال إىل هللا ،وهي عبادة تصحب املسلم يف كل أموره الدينية والدنيوية؛
إذا أردت أن تصلي ،تصوم ،حتج ،تتصدق ،تفعل أي طاعة ،فعليك أن تتوكل على هللا سبحانه وتعاىل فيها،
تعتمد فيها عليه سبحانه وتعاىل .وإذا أردت أيضاً حاجاتك الدنيوية من بيع وشراء وطعام وشراب ولباس وغري
ذلك أيضاً تتوكل على هللا.
وهلذا ينبغي أن يعلم أن التوكل عبادة قلبية تصحب املسلم يف حياته كلها ،يف أموره الدينية وأموره الدنيوية،
جيب على املسلم أن يكون شأنه يف أموره وأعماله وشؤونه وأحواله كلها متوكالً على هللا سبحانه وتعاىل ﴿ﮧ
43
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ﴾[الطالق ]3:أي كافيه ،ومن يتوكل على هللا ماذا يكون له؟ ((من تعلق شيئاً وكل إليه)) ،ومن
توكل على غري هللا وكل إىل اخلسران واحلرمان يف دنياه وأخراه .فالتوكل عبادة قلبية عظيمة ،ال جيوز أن تصرف إال
هلل سبحانه وتعاىل.
وال يعين التوكل ترك األسباب ،بل التوكل على هللا حق التوكل يكون مع فعل األسباب؛ وهلذا إمام املتوكلني
عليه الصالة والسالم كان يفعل األسباب ويباشرها ،األسباب يف األمور الدينية واألمور الدنيوية ،كان يباشر ذلك
عليه الصالة والسالم ،وأيمر بذلك؛ وهلذا جاء يف احلديث الصحيح عنه قال(( :لو توكلتم على هللا حق توكله،
لرزقكم كما يرزق الطري ،تغدو مخاصاً ،وتروح بطاانً)) ،قال« :تغدو» الطري ما جلست يف أوكارها تنتظر أن أيتيها
الطعام! بل متشي ،وتذهب املسافات ،تبحث عن الشراب وعن الطعام ،وهلذا التوكل البد فيه من فعل األسباب،
وهلذا قال نبينا عليه الصالة والسالم(( :احرص على ما ينفعك واستعن ابهلل)) قال« :احرص على ما ينفعك»
يعين افعل األمور اليت تنفعك ،واجتهد على فعلها ،وال تتوكل إال على هللا ،قال« :واستعن ابهلل» أي توكل على
هللا.
الصحايب الذي سأل النيب عليه الصالة والسالم عن انقته قال« :أعقلها وأتوكل ،أو أتركها وأتوكل؟» يعين
هل أعقل الناقة؟ أضع هلا عقال يف قدمها حىت ال تذهب ،وأتوكل على هللا؟ أو أتركها طليقة بدون عقال ،وأتوكل
على هللا؟ إىل ماذا أرشده عليه الصالة والسالم؟ أرشده إىل فعل السبب ،قال(( :اعقلها وتوكل)) يعين ضع يف
رجلها العقال ،وتوكل على هللا؛ أرشده عليه الصالة والسالم إىل فعل السبب.
عمر رضي هللا عنه ملا ذكر له طائفة من الناس جاءوا إىل احلج بدون زاد ،وقالوا :حنن املتوكلون ،قال« :بل
هم املتواكلون» ،املتوكل هو الذي يضع بذره ،ويتوكل على هللا ،البد أن يفعل السبب ،أما أن جيلس معطالً بدون
سبب ويريد أن حيصل!!
فالبد من فعل األسباب ،وال يعتمد على األسباب ،وإمنا يعتمد على هللا سبحانه وتعاىل؛ وهلذا لو أن
شخصاً قال" :إن كتب هللا يل أوالد يكون يل أوالد ،لكن أان لن أتزوج إىل أن أموت" ،أو شخص مثالً يقول:
"إن كتب هللا يل أن أكون من كبار العلماء احملققني سأكون ،لكن لن أطلب العلم يوماً ،ولن أذهب إىل عامل ،ولن
أقرأ كتاابً ،ولن أحفظ درساً ،ولن أتفقه" هذا ال يكون عاملاً .النيب عليه الصالة والسالم قال(( :إمنا العلم ابلتعلم،
وإمنا احللم ابلتحلم)) أرشد إىل فعل السبب .وهلذا قال من قال:
متنيت أن متسي فقهياً مناظراً بغري عناء واجلنون فنون
وليس اكتساب املال دون مشقة تلقيتها فالعلم كيف يكون
يعين العلم ال يكون إال بفعل السبب .فإذاً التوكل عبادة قلبية عظيمة جداً ،تصحب املسلم يف أموره كلها،
وشؤونه مجيعها ،الدينية والدنيوية ،وهي شرط يف اإلميان؛ قال﴿ :ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ﴾.
44
وقال تعاىل﴿ :ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ﴾ أي كافيه ،يف اآلية األخرى قال﴿ :ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ﴾
فمعىن ﴿ﮬﮭ﴾ أي كافيه ،احلسب هو الكايف؛ فالذي يتوكل على هللا يكون هللا سبحانه وتعاىل كافيه ،ومؤيده،
وانصره ،وحافظه .فهذا دليل التوكل ،ذكر رمحه هللا تعاىل على التوكل دليلني ،مث استمر رمحه هللا تعاىل يف سوق
األدلة على بقية العبادات اليت ذكرها ،وإىل هنا نقف.
وهللا تعاىل أعلم ،وصلى هللا وسلم على رسول هللا وعلى آله وصحبه أمجعني.
45
الدرس التاسع
بسم هللا الرمحن الرحيم
احلمد هلل رب العاملني والعاقبة للمتقني ،وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له وأشهد أن حممداً عبده
ورسوله ،صلى هللا وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أمجعني ،أما بعد:
قال شيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب رمحه هللا تعاىل وغفر له وللشارح والسامعني يف كتابه «األصول
الثالثة»:
شوع قولُه تعاىل﴿ :ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ والرهبَ ِة واخلُ ِ
ودليل ا َّلر ْغبَ ِة َّ
ُ
ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾[األنبياء.]90:
شية قوله تعاىل﴿ :ﮭ ﮮ ﮯ﴾[البقرة.]150: ودليل اخلَ ِ
ُ
اإلانبة قوله تعاىل﴿ :ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾[الزمر.]54: ِ ودليل
استَ ِع ْن ِ االستعانة قوله تعاىل﴿ :ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾[الفاحتة ،]5:ويف ِ
ت فَ ْاستَ َع ْن َ
احلديث« :إ َذا ْ ودليل
ِ
ابهلل».
ودليل االستعاذةِ قوله تعاىل﴿ :ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾[الفلق﴿ ،]1:ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾[الناس.]1:
ِ
االستغاثة قوله تعاىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ﴾[األنفال.]9: ودليل
ودليل َّ
الذبْ ِح قوله تعاىل﴿ :ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ﴾
[األنعام-162:
46
والعبادات منها ما هو يف القلب؛ مثل اخلشية واإلانبة والتوكل والرجاء واخلوف ،ومنها ما هو يف اللسان؛
كذكر هللا ،ودعائه ،وتالوة القرآن ،واألمر ابملعروف والنهي عن املنكر ،ومنها ما هو ابجلوارح؛ كالصالة ،والصيام،
واحلج وغري ذلك من العبادات املقربة إىل هللا سبحانه وتعاىل .والواجب على املسلم أن يعرف العبادة ما هي؛
ألمرين:
األمر األول :لكي يصرفها هلل وحده ،ذالً وخضوعاً وطاعةً وامتثاالً ،ولكي ال يصرف شيئاً منها •
لغريه؛ فصرفها هلل تبارك وتعاىل وحده توحيد ،وصرفها لغريه شرك .والتوحيد قوام األمر ،والشرك انقض للدين،
وقادح يف اإلميان ،وانقل من امللة؛ وهلذا كان متأكداً على كل مسلم أن يعرف العبادة لكي يصرفها كلها هلل،
يصلي هلل ،يصوم هلل ،يذبح هلل ،ينذر هلل ،يرجو رمحة هللا ،خياف عذاب هللا ،يتوكل على هللا ﴿ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ﴾[األنعام ،]162:جيعل ذلك كله هلل وحده سبحانه وتعاىل.
واألمر الثاين :لكي ال جيعل شيئاً منها لغريه ،ألنه إن جعل شيئاً منها لغري هللا تبارك وتعاىل صار •
بذلك مشركاً ،وإذا صار مشركاً انتقض دينه وحبط عمله وخرج من امللة ،قال هللا تعاىل﴿ :ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ
ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ﴾ أي وحده ﴿ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟ﴾[الزمر ]66-65:فالعبادة حق هلل وحده.
فإذاً مقام العبادة مقام عظيم ،وجيب على كل مسلم أن يعرف العبادة ما هي؛ لكي يصرفها أبنواعها
وأفرادها هلل جل وعال وحده ،حمققاً قوله﴿ :ﯟ ﯠ ﯡ﴾ ،ولكي ال يصرف شيئاً منها لغريه فيكون بذلك –
والعياذ ابهلل -من املشركني ،فينتقض عليه دينه وينتقل من امللة .وهلذا كان من نصح املصنف رمحه هللا تعاىل هنا أن
ذكر بعض العبادات على سبيل التمثيل ،من العبادات القلبية والعبادات البدنية والعبادات املالية؛ نوع رمحه هللا يف
ذكر العبادات ،حىت يفقه املسلم أنواع العبادة ،لكي يصرفها كلها هلل ﴿ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ
ﭿ﴾[اجلن ،]18:ولكي ال يصرف شيئاً منها لغري هللا تبارك وتعاىل.
وهلذا ينبغي أن يكون منا على ابل -وحنن نقرأ هذه العبادات مع دالئلها -أن يكون منا على ابل اآليتني
اللتني قدم رمحه هللا الكالم على هذه األنواع هبا؛ وهي قول هللا سبحانه وتعاىل﴿ :ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ
ﭾ ﭿ﴾ فهذه فيها الدليل على أن العبادات كلها هلل ،واآلية الثانية قول هللا تعاىل﴿ :ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ
47
والرهبَ ِة واخلُ ِ
شوع))؛ الرغبة والرهبة واخلشوع هذه ثالث عبادات ،جاءت الر ْغبَ ِة َّ
ودليل َّ
قال هنا رمحه هللاُ (( :
جمتمعةً يف آية واحدة ،وصفاً ألنبياء هللا ورسله عليهم صلوات هللا وسالمه ،ألن هللا سبحانه وتعاىل ذكر عدداً من
األنبياء ،وذكر شيئاً من خربهم ،وطرفاً من قصصهم ،مث ختم ذلك كله بقوله سبحانه﴿ :ﮞ﴾ أي هؤالء األنبياء
﴿ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾[األنبياء]90:؛ فوصفهم أبهنم
أي إليه راغبون إىل هللا ﴿ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾[التوبة﴿ ،]59:ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ﴾
[الشرح]8-7:
وحده دون سواه ،فوصفهم ابلرغبة إىل هللا جل وعال ،ووصفهم ابلرهبة منه؛ فهم إليه راغبون ،ومنه جل وعز
راهبون ،وختم اآلية أبهنم له جل وعال خاشعون؛ فذكر ثالث عبادات امتدح هبا األنبياء ،وأثىن عليهم هبا ،وهذا
مقام ثناء ومدح ،وهذا أيضاً دليل على أن هللا حيب هذه األعمال .وعرفنا ضابط العبادة اجلامع «اسم جامع لكل
ما حيبه هللا ويرضاه من األقوال واألعمال الظاهرة والباطنة»؛ فالرغبة والرهبة واخلشوع هذه كلها أعمال وطاعات
حيبها هللا ،إذاً فهي عبادات ال يتقرب هبا إال إىل هللا ،وال تصرف إال له سبحانه وتعاىل ،فال تكون الرغبة إال إىل
هللا ،وال تكون الرهبة إال من هللا ،وال يكون اخلشوع إال هلل .فهذه عبادات ال تصرف إال هلل هي حق له جل وعال
دون سواه ،صرفها له توحيد ،وصرفها لغريه شرك وتنديد .وهي عبادات قلبية؛ الرغبة والرهبة واخلشوع:
أما الرغبة ففيها معىن الطلب؛ فيها معىن طلب القلب لألعمال والطاعات والقرابت اليت تدين ❖
العبد من هللا سبحانه وتعاىل وتقربه منه ،ومر معنا قريباً ذكر الرجاء ،عبادة من العبادات املقربة إىل هللا ،وتال
املصنف رمحه هللا يف ذلك قول هللا تعاىل﴿ :ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ﴾[الكهف﴿ ،]110:ﯮ ﯯ﴾[اإلسراء ،]57:الرجاء
عبادة ،والرغبة عبادة ،ومعنامها متقارب ،لكن مثة فرق بينهما ،قال العالمة ابن القيم رمحه هللا تعاىل« :الفرق بني
الرغبة والرجاء :أن الرجاء طمع ،والرغبة طلب»؛ الرجاء طمع ،يعين طمع القلب وأمله فيما عند هللا سبحانه
وتعاىل من ثواب ومن جزاء ومن إنعام وفضل وإحسان ،والرغبة طلب ،فهي -أي الرغبة -مثرة الرجاء ،فإنه إذا رجا
الشيء طلبه ،يعين إذا وقع يف قلبه رجاء للشيء سعى قلبه يف طلب ذلك الشيء .فهذا يبني لنا الفرق بني الرجاء
والرغبة :أن الرجاء طمع ،والرغبة طلب ،وتكون بذلك الرغبة مثرة للرجاء ،مبعىن إذا وقع يف القلب رجاء أي طمع
فيما عند هللا عز وجل من الثواب واألجر ،وجدت الرغبة إىل هللا سبحانه وتعاىل ابجلد واالجتهاد فيما يقرب إليه
سبحانه ﴿ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾[التوبة﴿ ،]59:ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ﴾[الشرح.]8-7:
والرهبة :هي اإلمعان يف اهلرب من الشيء ،إذا كان اإلنسان راهب من شيء -يعين خائف منه- ❖
فإن هذا يعطي معىن خوف القلب ،وهلذا قال﴿ :ﯫ ﯬ ﯭﯮ﴾[األنبياء ]90:أي أهنم يف دعائهم هلل سبحانه
وتعاىل بني الرغب والرهب؛ الرغب فيما عند هللا من فضل وعطاء وخري وإنعام ،والرهب أيضاً من سخطه ،ومن
أن يرد على اإلنسان عمله ،أو ال يقبل دعاؤه ،فيكون راغباً راهباً.
48
وهذان األمران -الرغبة والرهبة -جيب على كل مسلم أن يستصحبهما يف كل طاعة ،حبيث يكون يف كل
طاعة أييت هبا وعبادة يتقرب إىل هللا سبحانه وتعاىل هبا أن يكون يف ذلك كله راغب وراهب؛ راغب فيما عند هللا،
وراهب أيضاً من سخط هللا جل وعال ،فتكون طاعاته بني الرغبة والرهبة ،وبني الرجاء واخلوف؛ ومها للعامل مبثابة
اجلناحني للطائر ،وهلذا قال ابن القيم رمحه هللا كلمة عظيمة تسطر ،قال« :الرغبة والرهبة مادات التوفيق» مبعىن أن
العبد مادام عنده رغبة ورهبة بتوازن ،وماضياً حياته كذلك على هذه احلال راغب وراهب ،هذه مادات التوفيق،
يعين متده إبذن هللا تبارك وتعاىل ليسري سرياً حثيثاً فيما يقرب إىل هللا سبحانه وتعاىل ويدين من رمحته ،فرغبته حتدوه
وتسوقه لفعل الصاحلات وأنواع الطاعات ،وخوفه ورهبته تزجره عن ارتكاب املعاصي واخلطيئات.
وهلذا قال بعض السلف عن الرجاء واخلوف والرغبة والرهبة« :الرجاء قائد ،واخلوف سائق» ،الرجاء يقود
اإلنسان إىل اخلريات ،واخلوف يسوقه من الوراء للتقدم واملضي يف اخلريات ،وأيضاً مينعه إذا أراد أن يلتفت إىل
شيء من احلرام ،أو أراد أن يدخل يف شيء من اآلاثم أيتيه اخلوف ومينعه –خوفا من هللا–؛ ميضي يف الطاعات
راجياً ثواب هللا ،مقبالً على هللا ،طامعاً يف ثواب هللا ،إذا التفتت نفسه إىل ابب من أبواب احلرام جاءه اخلوف
ومنعه ،وجاءته الرهبة وحجزته ،فيمتنع خوفاً من هللا.
وهلذا املؤمن كلما عظم خوفه من هللا ،ازداد بعده عن املعاصي والذنوب ،وكلما أحضر يف قلبه اخلوف من
هللا عندما تقبل نفسه عن املعصية ،امتنع منها ،ألن اخلوف مينع اإلنسان ،خوفه من هللا ،من عقابه ،من سخطه،
من بطشه ،مينعه.
وهلذا القرآن والسنة كالمها قائمان على الرتغيب والرتهيب؛ الرتغيب بذكر آايت الرجاء والثواب واإلنعام
والفضل واإلكرام ،والرتهيب بذكر العقاب والسخط واالنتقام والبطش والشدة ،وهلذا ترى يف القرآن اجلنة والنار
يذكران معاً ،الثواب والعقاب يذكران معاً ﴿ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ
﴿ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ﴾ هذا حيرك الرجاء﴿ ،ﯻ ﯼ ﯽ ﯿ ﰀ﴾
[احلجر]50-49:؛
فعندما يقرأ املسلم يف آايت الرجاء يقوى يف قلبه الرجاء ،وعندما يقرأ يف آايت اخلوف حتجزه عن املعاصي؛
واقرأ هذا يف السورة اليت تكررها فرضاً واجباً كل يوم وليلة سبع عشرة مرة-سورة الفاحتة ،-عندما تقرأ﴿ :ﭖ ﭗ
ﭘ ﭙ ﭓ ﭔ ﭕ﴾ وتتأمل يف هذين األمسني العظيمني ،وما دال عليه من ثبوت الرمحة الواسعة
والواصلة ،عندما تقرأ يف هذين االمسني متدبراً ،ما الذي يتحرك يف قلبك؟ ﴿ﯮ ﯯ﴾ ،فإذا انتقلت إىل
اآلية اليت بعدها ﴿ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ وذكرت أن يوم الدين يوم احلساب والعقاب ﴿ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ
ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ﴾[االنفطار ]19-17:فإذا قرأت﴿ :ﭞ ﭟ
49
ﭠ ﭡ﴾ دخل إىل قلبك ماذا؟ اخلوف؛ فتكون دائماً يف عباداتك راجي وخائف ،الصالة تؤديها حباً هلل،
وعندما تقول﴿ :ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ يتحرك يف قلبك احلب ،وعندما تقرأ﴿ :ﭓ ﭔ ﭕ﴾ يرتك الرجاء،
وعندما تقرأ﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ يتحرك اخلوف؛ وهبذه الثالثة تكون الصالة ،وهبا تكون كل الطاعات .وهلذا
قال العلماء رمحهم هللا« :احلب والرجاء واخلوف أركان قلبية للتعبد» مبعىن أهنا تكون مستصحبة يف كل العبادات،
حاضرة مع املسلم يف كل الطاعات ،يؤديها راجياً خائفاً ،راغباً راهباً ،وهبذين األمرين كما يقرر ابن القيم رمحه هللا
يتحقق التوفيق ،فهما مادات التوفيق؛ مادات التوفيق :أي لكل خري حيبه ويرضاه جل وعال ،والبعد عن املعاصي
واآلاثم .وقلة الطاعات والقصور فيها من ضعف الرغبة ،والوقوع يف املعاصي واآلاثم من ضعف الرهبة؛ فإذا قويت
الرغبة ،وقويت الرهبة ،وكانتا يف العبد متوازنتني ،مضى إبذن هللا تبارك وتعاىل يف طريق السداد والتوفيق .اللهم
اهدان وسددان.
قال﴿ :ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾ هذه العبادة الثالثة يف هذه اآلية ❖
﴿ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾ واخلشوع :هو السكون والطمأنينة ،وهي عبادة عظيمة ،مقربة إىل هللا جل وعال،
وهي يف معناها قريبة من اخلضوع ،إال أن اخلضوع يف البدن ،وأما اخلشوع فإنه يكون يف القلب ،قلب خاشع،
ويكون أيضاً يف البصر ﴿ﭑ ﭒ﴾[املعارج ]44:البصر خيشع ،ويكون أيضاً يف اللسان؛ فاخلشوع يف القلب واللسان
والبصر ،واخلضوع يف البدن ،خيضع أي عندما يركع هلل ويسجد هذا خضوع هلل جل وعال ،واخلشوع معىن أوسع
من ذلك ،يكون ابلبدن ،ويكون ابلقلب ،ويكون ابللسان ،ويكون ابجلوارح ،وهي عبادة حيبها هللا ويرضاها،
وامتدح أنبياءه هبا ،قال﴿ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾.
وهلذا ينبغي على املسلم أن يكون خاشعاً هلل يف صالته ،أن يكون خاشعاً هلل جل وعال يف دعائه ،ويف
طلبه ،ويف سؤاله ،فهي عبادة جليلة تصرف هلل ،وال جيوز صرفها لغريه سبحانه وتعاىل﴿.ﯖ﴾ :أي خاضعني
متذللني هلل جل وعال ،ءمسنكسرين جلنابه.
فدلت هذه اآلية على أن هذه الثالث :الرغبة والرهبة واخلشوع أهنا كلها عبادات مقربة إىل هللا جل وعال،
فال تكون إال له ،وال تصرف إال له سبحانه وتعاىل .فإذا وقف إنسان أمام ضريح من األضرحة ،أو موقع من
املواقع ،متجهاً إىل خملوق من املخلوقات ،وقامت فيه هذه األمور الثالثة ،متقرابً هبا من هذا املخلوق ،فجمع بني
الرغبة والرهبة واخلشوع ،عند ضريح أو عند مكان أحد األموات من األولياء أو غريهم ،فقام أمامه راغباً راهباً
خاشعاً ،تكون جوارحه فيها ذلك؛ قلبه فيه الرغبة وفيه الرهبة وفيه اخلشوع ،ويتحرك لسانه أمام ذلك املخلوق يف
الطمع والطلب ،وبعضهم يصرح منادايً خملوقاً من املخلوقات" :اي فالن أان راغب فيما عندك ،اي فالن أان خاشع
50
بني يديك" ،بعضهم هبذا اللفظ ينطق بلسانه ما قام يف قلبه ،من ذل وخضوع وانكسار وعبودية لغري هللا تبارك
وتعاىل!!
فإذا كانت الرغبة والرهبة واخلشوع عبادات حيبها هللا سبحانه وتعاىل ،ويرضاها لعباده ،وامتدحهم هبا يف
مواضع كثرية من القرآن؛ فإن صرفها لغري هللا شرك ابهلل ،أايً كان الذي صرفت له هذه العبادة ،سواء صرفت مللك،
أو صرفت لنيب ،أو صرفت لويل ،أو ألي أحد كان كائناً من كان.
أنبياء هللا وصفوة عباده مدحهم هللا أبهنم راغبون إىل هللا ،راهبون من هللا ،خاشعون هلل ،وأهنم دعوا أقوامهم
إىل ذلك ،وبينوا هلم ذلك ،فمن صرف هذه األعمال لغري هللا تبارك وتعاىل فإنه يكون بذلك مشركاً.
وبعض الناس ممن بلي هبذه املفاسد والعظائم ،رمبا عندما أييت إىل ضريح من األضرحة ،يقوم يف قلبه من
الرغبة والرهبة واخلشوع ما ال يقوم يف قلبه إذا قام يصلي بني يدي هللا تبارك وتعاىل!! وهذه مصيبة عظمى ،وبلية
كربى ،وكارثة من أشد الكوارث ،وعظيمة من أشد العظائم؛ وهلذا كان املقام مقاماً ينبغي أن يتفطن له املسلم،
وأن يعرف العبادات ،ألجل أن يصرفها كلها هلل تبارك وتعاىل ،وألجل أال جيعل لغري هللا سبحانه وتعاىل كائناً من
كان مشاركة هلل يف شيء منها.
قال:
شية قوله تعاىل﴿ :ﮭ ﮮ ﮯ﴾ ودليل اخلَ ِ
ُ
********
قال رمحه هللا(( :ودليل اخلشية)) اخلشية أيضاً عبادة قلبية ،اخلشية فعلة من خشيه أي خافه ،وهو مبعىن
اخلوف ،إال أنه أخص من اخلوف؛ ألن اخلشية عن معرفة ،والباعث إليها املعرفة مبن خيشاه ،قال هللا تعاىل﴿ :ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ﴾[فاطر ،]28:وهلذا العبد كلما ازداد معرفة ابهلل وأبمسائه احلسىن وصفاته العال ،ازداد خشية
من هللا ،وكلما عظمت فيه اخلشية من هللا سبحانه وتعاىل ،انكف عن احلرام ،وابتعد عن اآلاثم ،وهلذا قال ابن
القيم رمحه هللا ما معناه يف بعض كتبه« :من كان ابهلل أعرف ،كان منه أخوف ،ولعبادته أطلب ،وعن معصيته
أبعد»؛ فمعرفة هللا ،والعلم أبمسائه وصفاته سبحانه ،تورث حبه ،وتورث أيضاً خشيته جل وعال.
وإذا قامت يف قلب العبد اخلشية من هللا جل وعال ،كانت سائقاً له إىل كل خري وفضيلة ،وحاجزاً له عن
الوقوع يف كل سوء ورذيلة.
قال(( :ودليل اخلَ ِ
شية))؛ أي والدليل على أن اخلشية عبادة ال جيوز صرفها لغري هللا تبارك وتعاىل قول هللا ُ
جل وعال﴿ :ﮭ ﮮ ﮯ﴾))؛ قول هللا﴿ :ﮭ ﮮ﴾ أي الناس ﴿ﮯ﴾ أي اخشوين وحدي،
لتكن خشيتكم مين وحدي ،وال ختشوا الناس ،لتكن خشيتكم من هللا تبارك وتعاىل وحده.
51
قال﴿ :ﮭ ﮮ ﮯ﴾ أي ال ختافوا الناس ،وال ختشوا الناس ،ولتكن خشيتكم من هللا؛ ألن األمور
كلها بيده ،ونواصي العباد بيده ،وحكمه جل وعال ماض فيهم؛ فلتكن خشيتكم من هللا ،ألن العبد مهما أويت
من القوة والقدرة ،ال يستطيع أن يصل إليك أبي أذى إال شيء كتبه هللا عليك قال(( :واعلم أن األمة لو اجتمعوا
على أن يضروك بشيء مل يضروك إال بشيء كتبه هللا عليك)) ،إذاً امجع قلبك يف اخلشية ،ولتكن من هللا سبحانه
وتعاىل وحده؛ فهذه عبودية قلبية ،ال جيوز أن تصرف إال هلل لقوله تبارك وتعاىل﴿ :ﮭ ﮮ﴾ هذا هني
﴿ﮯ﴾ هذا أمر؛ هنى جل وعال عن خشية سواه ،وأمر جل وعز خبشيته جل وعال وحده ،فدل ذلك على
أن اخلشية عبادة من العبادات العظيمة ،وأن صرفها لغري هللا تبارك وتعاىل شرك ابهلل.
اإلانبة قوله تعاىل﴿ :ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ِ قال(( :ودليل
ﯨ ﯩ﴾))؛ اإلانبة هي :الرجوع واألوبة إىل هللا تبارك وتعاىل ،ومعناها أوسع من معىن التوبة ،ألن اإلانبة
إىل هللا جل وعال هي توبة وزايدة ،ألن التوبة :الرجوع من الذنب ،وتركه ،وعدم العودة إليه .واإلانبة :رجوع عن
الذنب ،وإقبال على هللا جل وعال ،وعلى طاعته ،وعلى ما يقرب إليه؛ فاملنيب :الراجع إىل هللا ،اآليب إىل هللا،
املقبل على هللا ،اتركاً للذنوب ،مقبالً على الطاعات والعبادات وأنواع القرابت.
قال﴿ :ﯜ ﯝ ﯞ﴾ أي لتكن اإلانبة منكم إىل هللا وحده؛ ألن اإلانبة عبادة ،ال تكون إال هلل ،وهلذا
أمر هبا ،قال﴿ :ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾ أي أقبلوا على هللا ،ارجعوا إىل هللا ،أوبوا إىل هللا سبحانه وتعاىل
ابإلقبال على الطاعات ،وترك الذنوب والتخلي عنها ،وجماهدة النفس على فعل أنواع القرب ،فاإلانبة عبادة ال
تكون إال هلل تبارك وتعاىل .قال﴿ :ﯜ ﯝ ﯞ﴾ أي أقبلوا عليه طاعةً وذالً وخضوعاً وانكساراً ،واجتناابً ملا
هنى عنه جل وعال.
ِ
االستعانة))؛ االستعانة :طلب العون ،والسني للطلب ،عندما نقول :االستعانة االستغاثة قال(( :ودليل
االستغفار ،هذه كلها فيها معىن الطلب ،والسني اليت يف أوهلا للطلب؛ فاالستعانة :طلب العون ،واالستغاثة:
طلب الغوث ،واالستعاذة :طلب العوذ ،واالستسقاء :طلب اإلغاثة وهكذا.
فاالستعانة عبادة ،واملراد هبا :طلب العون ،وإذا أردت العون للقيام أبي مصلحة دينية أو دنيوية ،وأردت
التسديد فيها فاطلب ذلك من هللا ،ألن هللا عز وجل هو املعني وحده ،وهو املستعان سبحانه وتعاىل ﴿ﮍ
ﮎ﴾[يوسف ،]18:فهو وحده املستعان ،هو الذي يطلب منه وحده العون ،وهلذا قال النيب عليه الصالة والسالم
ملعاذ بن جبل(( :اي معاذ إين أحبك ،فال تدعن دبر كل صالة أن تقول :اللهم أعين على ذكرك وشكرك وحسن
عبادتك)) ،ومن الدعاء املأثور عن نبينا صلوات هللا وسالمه عليه(( :اللهم أعين وال تعن علي ،وانصرين وال تنصر
52
علي ،وامكر يل وال متكر علي ،واهدين ويسر اهلدى يل ،وانصرين على من بغى علي ))..إىل آخر الدعاء ،وهو
دعاء عظيم بدأه بقوله« :اللهم أعين وال تعن علي» فالعون بيد هللا وهللا هو املستعان ,فالذي يريد العون يف
حاجاته الدنيوية ،أرزاقه ،معاشه ،متاعه ،ويطلب العون يف عباداته وطاعاته وقرابته ،ال يطلب ذلك إال من ربه
سبحانه وتعاىل ،الذي بيده أزمة األمور ،فطلب العون االستعانة عبادة ال تصرف إال هلل جل وعال ،ما الدليل؟
قال﴿ :ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾؛ ﴿ﭢ ﭣ﴾ أي نعبدك اي هللا وال نعبد غريك﴿ ،ﭤ ﭥ
ﭦ﴾؛ أي نطلب منك العون اي هللا وال نطلبه من غريك .فاألسلوب هنا أسلوب حصر؛ ﴿ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ﴾ هذا من أساليب احلصر يف اللغة العربية ،ألن تقدمي املعمول على العامل يفيد احلصر ،أصل
اجلملة :نعبدك ،نستعني بك؛ فقدم املعمول على العامل ،قال﴿ :ﭢ ﭣ﴾ فحصر العبادة أبهنا هلل وحده،
﴿ﭤ ﭥ ﭦ﴾ حصر طلب العون ابهلل وحده ،فأفادت هذه اجلملة وهي قوله ﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ﴾ أفادت يف قوهتا وداللتها إفادة قولك «نعبدك وال نعبد غريك ،ونستعني بك وال نستعني بغريك» ،هذا معىن
﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾.
وهذا أيها األخ املوفق عهد بينك وبني هللا ،تكرره كل يوم فرضاً واجباً عليك سبعة عشر مرة يف الصلوات
املكتوبة ،وهو عهد بينك وبني هللا ،تعاهد هللا ،ماذا تقول يف عهدك مع هللا؟ ﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾
تعاهد هللا أنك تعبده وال تعبد غريه ،وتستعني به وال تستعني بغريه ،والواجب على كل مسلم أن يفي هبذا العهد،
وأن يفي ابلعهود عموماً ،وأن يفي هبذا العهد الذي هو أعظم العهود ﴿ﯚ ﯛﯜ﴾[اإلسراء ،]34:هذا عهد بينك
وبني هللا ،وهو أعظم عهد جيب أن تفي به ،وأن تؤديه على التمام ،ألنك تعاهد هللا رب العاملني أن تعبده وال
تعبد غريه ،وأن تستعني به وال تستعني بغريه.
فيا من يقول كل يوم سبع عشرة مرة﴿ :ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾ ال تعبد إال هللا ،ال تدع إال هللا ،ال
تستغيث إال ابهلل ،ال ترج إال هللا ،ال تطمع إال فيما عند هللا ،ال تطلب العون واملدد والتوفيق والسداد إال من هللا
سبحانه وتعاىل .ومن توجه لغري هللا قائالً :مدد اي فالن ،أو أغثين اي فالن ،أو أدركين اي فالن ،أو عونك ،فيما ال
يقدر عليه إال هللا سبحانه وتعاىل فهذا نقض عهده ﴿ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ
ﮚ ﮛﮜ﴾[النحل﴿ ،]91:ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾[النحل .]92:فالواجب على من
عاهد هللا سبحانه وتعاىل هذا العهد العظيم ،وتكرر منه عهده هذا مرات وكرات أن يفي به ،فال يصرف شيئاً من
العبادة إال هلل تبارك وتعاىل ﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾؛ ﴿ﭢ ﭣ﴾ فيه إعالن إخالص العبادة هلل﴿ ،ﭤ
ﭥ ﭦ﴾ فيه إخالص طلب العون من هللا ،العبادة غاية ،واالستعانة وسيلة ،فالغاية اليت هي العبادة هلل
53
وحده ،والوسيلة ألداء هذه الغاية ال تطلب إال من هللا جل وعال وحده .وقد قدم جل وعز العبادة على
االستعانة ،لكون العبادة هي الغاية اليت خلق اخللق ألجلها ،وأوجدوا لتحقيقها ،واالستعانة وسيلة ألداء هذه
الغاية؛ أنت خلقت ألجل ماذا؟ ألجل عبادة هللا ،هذه الغاية اليت خلقت ألجلها ،لكن هذه العبادة هل تستطيع
أن تؤدي شيئاً منها إذ مل يعنك هللا؟ إذا مل يكن لك عون من هللا ال تستطيع أن تصلي ،وال تستطيع أن حتج ،وال
تستطيع أن تصوم ،وال تستطيع أن تؤدي أي شيء ﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰ ﭱ ﭲﭳ﴾[النور ]21:األمر بيده جل وعال ،والتوفيق بيده ،العون بيده ،فالعبادة غاية واالستعانة وسيلة.
قولك﴿ :ﭢ ﭣ﴾ هذا حتقيق لـ «ال إله إال هللا» ،وهذا هو معىن «ال إله إال هللا» ،وقولك﴿ :ﭤ
ﭥ ﭦ﴾ هذا حتقيق لـ «ال حول وال قوة إال ابهلل» ،ألن «ال إله إال هللا» كلمة توحيد ،و «ال حول وال قوة
إال ابهلل» كلمة استعانة« ،ال إله إال هللا» معناها نعبدك وال نعبد غريك ،و «ال حول وال قوة إال ابهلل» معناها
نستعني بك وال نستعني بغريك« ،ال حول وال قوة إال ابهلل» هذه كلمة تربأ فيها أنت من حول نفسك وقوهتا،
تقول :ال حول وال قوة إال ابهلل :أي أن ما عندي من حيلة وما عندي من قوة ال أستطيع أن أصنع هبا شيئاً إال
ابهلل؛ أي إال إذا أعانين هللا ووفقين ،فمعىن قولك «ال حول وال قوة إال ابهلل» :أي ال حتول من حال إىل حال ،من
ضالل إىل هدى ،من فقر إىل غىن ،ومن مرض إىل صحة ،من ضعف إىل قوة إىل غري ذلك ،ال ميكن أن يكون
حتول من شيء إىل شيء إال مبن؟ إال ابهلل ،ال ميكن أن يكون يف قوة أابشر هبا أعمايل ،وأحقق هبا مصاحلي
وغااييت ،إال إذا أمدين هللا جل وعال بقوة منه ،وعون منه سبحانه وتعاىل .فـ «ال إله إال هللا» حتقيقها ﴿ﭢ
ﭣ﴾ ،و «ال حول وال قوة إال ابهلل» حتقيقها ﴿ﭤ ﭥ ﭦ﴾.
وقد قال العلماء رمحهم هللا :األذكار الشرعية ال يستفيد منها العبد إال إذا عرف معناها وحقق مقتضاها.
النيب عليه الصالة والسالم قال(( :أكثروا من ال حول وال قوة إال ابهلل)) ،وقال(( :إهنا من كنز حتت العرش))،
كلمة عظيمة جداً ،وحيتاج املسلم أن يكررها دائماً ،وأن تكون بني يدي مصاحله ،مثل ما أرشد عليه الصالة
والسالم من خرج من بيته أن يقول« :ابسم هللا ،توكلت على هللا ،ال حول وال قوة إال ابهلل» قال عليه الصالة
والسالم(( :من قال ذلك هدي وكفي ووقي)) ،وقال الشيطان لشيطان آخر« :كيف لك السبيل مبن هدي وكفي
ووقي» ،ومعىن ذلك أن اإلنسان كل مرة خيرج من بيته فيه أكثر من شيطان ينتظرونه إلغوائه وصده ،فإذا قال:
«ابسم هللا ،توكلت على هللا ،ال حول وال قوة إال ابهلل» رجعت الشياطني خاسئة ،وال جتد عليه سبيالً ،قال هللا
تعاىل﴿ :ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾[اإلسراء ،]65-64:قال بعض املفسرين يف معىن اآلية:
54
إن عبادي الذاكرين هلل جل وعال ليس للشيطان عليهم سبيل ،إمنا سبيله على الغافلني عن ذكر هللا ﴿ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ﴾[الزخرف.]36:
الشاهد أن قوله جل وعال﴿ :ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾ كلمتان عظيمتان ال غىن للعبد عنهما أبداً،
وهذا من احلكمة اليت ألجلها تتكرر هذه الكلمات يف حياتنا ،ومتضي يف ليالينا وأايمنا؛ ﴿ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ﴾ نكررها مستحضرين معناها ،متدبرين يف مدلوهلا ،جمتهدين يف حتقيق ذلك؛ ﴿ﭢ ﭣ﴾ أي
نعبدك اي هللا وال نعبد غريك﴿ ،ﭤ ﭥ ﭦ﴾ أي نطلب منك العون اي هللا وحدك وال نطلبه من غريك.
ت فَاست ِعن ِ
ابهلل»))؛ «يف احلديث» هذا قاله النيب عليه الصالة والسالم ِ
استَ َع ْن َ ْ َ ْ
احلديث« :إ َذا ْ قال(( :ويف
استع ْن ابهلل)) ،وإذا أردت
استـعْنت ف ْ
يف مجل عديدة قاهلا البن عباس رضي هللا عنهما ،من ضمنها قال(( :إذا ْ
لنفسك ما يعينك على حتقيق هذا املطلب ،وتتميم هذا املقصد ،فأحضر ما بينه النيب بعد هذه اجلملة ،قال:
((وإذا استعنت فاستعن ابهلل ،واعلم أن األمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إال بشيء كتبه لك،
ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إال بشيء كتبه هللا عليك ،رفعت األقالم وجفت الصحف))،
فاألمر كله بيد هللا جل وعال؛ فال يطلب العون إال منه ،ال تطلب اهلداية إال منه ،ال يطلب التوفيق إال منه ،ال
يطلب الغىن إال منه ،ال يطلب السداد إال منه ،ال تطلب الذرية إال منه ،ال تطلب أي مصلحة دينية ودنيوية إال
منه؛ ألن األمر كله بيده جل وعال.
ت فَ ِ ِ
استـعْنت» ما معناها؟ أي إذا طلبت عوانً؛ على ماذا؟ على أي استَع ْن ابهلل))؛ «إذا ْ
استَ َع ْن َ ْ
قال(( :إ َذا ْ
استع ْن ابهلل» أي اطلب العون يف حتقيق مصاحلك ونيل حاجاتك ومطالبك من هللا مصلحة دينية أو دنيوية «ف ْ
استع ْن ابهلل)) أي ليكن طلبك للعون من هللا سبحانه وتعاىل وحده.استـعْنت ف ْجل وعال(( ،إذا ْ
يقول ابن تيمية رمحة هللا عليه« :أتملت أنفع الدعاء» يعين أخذت يوم أأتمل يف األدعية أريد أن أصل إىل
ما هو أنفع دعاء للمسلم؟ يقول« :أتملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال هللا العون على مرضاته ،مث رأيته يف الفاحتة:
﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾»؛ انتبه لكالمه رمحه هللا فإنه أمثن ما يكون ،قال« :إذا هو سؤال هللا العون على
مرضاته» ،هللا سبحانه وتعاىل رضي لك أن تكون عبداً له ذليالً ،تؤدي العبودية اليت خلقك ألجلها ،وأوجدك
لتحقيقها ﴿ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ﴾[املائدة﴿ ]3:ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ﴾[الزمر]7:؛ فطلب العون منه على هذا املقصد
الذي خلقت ألجله هذا أفضل الدعاء ،مهما حبثت فأفضل وأنفع شيء تطلبه من هللا سبحانه وتعاىل هو طلب
العون على مرضاته؛ أن يعينك على ما خلقك ألجله ،وأوجدك سبحانه وتعاىل لتحقيقه.
مث قال رمحه هللا(( :ودليل االستعاذةِ))؛ االستعاذة :طلب العوذ ،أي أن يعيذك من شيء ختافه.
55
االستعاذة :هي االعتصام وااللتجاء إىل من تطلب منه أن يعيذك من هذا الذي ختافه ،فاالستعاذة هي:
طلب العوذ ،وهي هرب من شيء ختافه إىل من خيلصك وينجيك وحيميك ،وامللجأ دائماً وأبداً إىل من؟ واملفزع
دائماً إىل من؟ واالعتصام مبن؟ فاملسلم دائماً يفزع ويلجأ ويعتصم ابهلل ﴿ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ
ﭣ﴾[آل عمران.]101:
فاالستعاذة اليت هي طلب العوذ عبادة؛ من كل شيء ختافه ليكن طلبك العوذ من هللا وحده ،ألنه جل
وعال القدير على كل شيء ،ونواصي الدواب واملخلوقات كلها بيده .كان نبينا عليه الصالة والسالم يقول يف
دعائه« :اللهم رب السماوات السبع ورب األرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء ومليكه ،فالق احلب
والنوى ،منزلة التوراة واإلجنيل والفرقان؛ أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها» ،ويف القرآن﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ﴾[هود ،]56:الدواب كلها والنواصي كلها هللا سبحانه وتعاىل آخذ هبا ،وهي بيده ،وطوع تصريفه
وتدبريه جل وعال .وهلذا املسلم دائماً يف خوفه من كل من خيافه وكل من خيشاه يلجأ إىل هللا.
نبينا عليه الصالة والسالم ثبت يف احلديث أنه كان إذا خاف من قوم قال« :اللهم إان جنعلك يف حنورهم
ونعوذ بك من شرورهم».
فاملسلم إذا خاف من عدو ،خاف من شيطان ﴿ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ﴾[األعراف،]200:
﴿ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ
ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﭪ ﭫ ﭬ﴾[سورة الناس] ،الشيطان وسواس خناس؛ إذا غفل اإلنسان عن
ذكر هللا وسوس ،وإذا ذكر املسلم ربه خنس؛ أي ذهب وانطرد وابتعد عن اإلنسان .وهلذا يكون املسلم دائماً
مستعيذاً ابهلل ،ال يستعيذ إال ابهلل ﴿ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ﴾[املؤمنون.]97:
فالتعوذ عبادة ال تكون إال ابهلل؛ تتعوذ ابهلل من الشيطان ،تتعوذ ابهلل من شر نفسك ،تتعوذ ابهلل من شر
مسعك ،من شر بصرك ،تتعوذ ابهلل تبارك وتعاىل من شر الشياطني ،تتعوذ ابهلل جل وعال من كل دابة هو جل
وعال آخذ بناصيتها ،االستعاذة ابب عظيم من أبواب العبادة ،وهي عبادة ال تصرف إال هلل ،ويف كتاب النسائي
رمحه هللا «السنن» كتاب عظيم جداً مساه «االستعاذة» ،ومجع فيه األحاديث الواردة يف االستعاذة مجعاً انفعاً
ومفيداً ،وفيه التعوذات« :اللهم إين أعوذ بك من العجز ،وأعوذ بك من الكسل ،وأعوذ بك من اجلنب ،وأعوذ بك
من اهلم ،وأعوذ بك من احلزن»« ،اللهم إين أعوذ بك من دعاء ال يسمع»« ،اللهم إين أعوذ بك من قلب ال
خيشع» كل شيء ال تريده ،كل شيء ختافه تعوذ ابهلل ،استعذ ابهلل ،اطلب من هللا أن يعيذك منه ،أي شيء
ختشاه ،أي شيء ال تريده ،أي شيء ختاف أن يضرك ،أي شيء ختاف أن أيتيك مبا يسوؤك ،اطلب العوذ من
56
هللا؛ فإذا استعذت ابهلل أعانك ،فهو جل وعال املستعاذ وإليه امللجأ ،ال ملجأ إال إىل هللا ،وال مفر إال إىل هللا
﴿ﰃ ﰄ ﰅﰆ﴾[الذارايت .]50:فاالستعاذة عبادة عظيمة ،ال جيوز أن تصرف إال هلل.
وأورد املصنف رمحة هللا عليه آيتني من خواتيم كتاب هللا جل وعال؛ أول سورة الفلق وأول سورة الناس ﴿ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾ و ﴿ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾ ،وقد جاء عن النيب أنه «ما تعوذ متعوذ مبثلهما»،
فهما أعظم ما يتعوذ به اإلنسان من الشرور كلها ،وهلذا املسلم حيافظ على هذه التعوذات﴿ :ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧ ﭨ﴾ إىل متام السورة﴿ ،ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾ حيافظ عليها إىل متام السورة ،دبر كل صالة مكتوبة،
وأيضاً يف صباحه ويف مسائه ثالث مرات؛ ثالاثً إذا أصبح وثالاثً إذا أمسى ،وال يضره شيء ،يكون حمصن،
حمفوظ ،حممي حبماية هللا تبارك وتعاىل ،ويكون يف حصن حصني ،ويف حرز مكني ال يقربه شيطان رجيم ،يعيذه
هللا سبحانه وتعاىل من الشياطني ،ومن السحرة ،ومن الشرور اليت خيافها ،ألنه جلأ إىل هللا ،واعتصم ابهلل ،واحتمى
ابهلل جل وعال ،وطلب من هللا ﴿ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ﴾[يوسف.]64:
قال(( :ودليل االستعاذة قوله تعاىل﴿ :ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾[الفلق﴿ ،]1:ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ﴾[الناس ))]1:عرفنا معىن االستعاذة وهي مما يكرهه اإلنسان ،يعين الطلب إذا كان يف جانب يكرهه اإلنسان
يسمى «استعاذة» ،وإذا كان الطلب يف جانب يريده اإلنسان يسمى «لياذة»؛ وهلذا يفرقون بني العوذ واللوذ :أن
العوذ مما تكره ،واللوذ فيما حتب وترغب فيه ،مثلما قال القائل :اي من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به فيما أحاذره
يعين إن كان الطلب يف شيء ختشى منه وحتاذره هذا استعاذة ،وإن كان يف شيء تؤمله وترجوه فهذا لوذ.
ِ
االستغاثة))؛ االستغاثة :طلب الغوث. قال رمحه هللا تعاىل(( :ودليل
كان نبينا عليه الصالة والسالم خيطب الناس يوم اجلمعة ،فدخل أعرايب وأخذ يصف القحط الذي يف
البالد والذي يف األرض ،مث قال :ادع هللا أن يسقينا ،فمد عليه الصالة والسالم يديه هلل وأخذ يسأله« :اللهم
أغثنا ،اللهم أغثنا» يطلب الغوث من هللا؛ فاالستغاثة اليت هي طلب الغوث من هللا ،إما طلب الغوث بنزول
املطر ،أو طلب الغوث مبجيء املدد والعون من هللا لينتصر العبد على العدو ،فاالستغاثة ال تكون إال من هللا
سبحانه وتعاىل.
يف معركة بدر ملا تالقى اجليشان؛ جيش املسلمني وهم يف قلة من العدد والعتاد والسالح ،وجيش املشركني
وهم يف كثرة ،ملا تالقى اجليشان وتالحم الصفان ،توجه النيب الكرمي عليه الصالة والسالم مستغيثاً ابهلل؛ يطلب
الغوث من هللا ،يطلب النصر من هللا ،ألن الغوث بيد هللا ،والنصر بيد هللا ،فاستغاث ابهلل؛ أي طلب من هللا
سبحانه وتعاىل أن يغيثه ،أبن ينصره على هؤالء األعداء ،فأغاثه ،وأنزل هللا تبارك وتعاىل يف ذلك وحياً يتلى ،عربةً
للعباد ،وعظة وتبصرة ،قال جل وعال﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ﴾[األنفال]9:؛ ﴿ﭑ ﭒ ﭓ﴾
57
أي تطلبون منه الغوث فيما حصل لكم من شدة عند مالقاة األعداء يوم بدر ﴿ﭔ ﭕ﴾ فاستجاب
لكم أبن أدرككم رب العاملني بغوثه ومدده وعونه ونصره ،فأجاب الدعاء ،وأنزل تبارك وتعاىل جنوداً من جنوده،
وكان النصر ألهل اإلميان .فهذا دليل على أن االستغاثة ال تكون إال ابهلل.
نبينا عليه الصالة والسالم عبد يستغيث ابهلل وال يستغاث به ،عبد يستغيث ابهلل ،يطلب غوثه من هللا ،وال
يستغاث به عليه الصالة والسالم ،الغوث ال يطلب إال من هللا .بعض الضالل ينادي يف دعائه النيب عليه الصالة
والسالم ،ويقول" :اي غياث املستغيثني ،اي جمري املستجريين ،اي ملجأ املضطرين" خياطب النيب عليه الصالة
والسالم!! النيب عبد يستغيث بربه ،وهذه عبوديته هلل يف ابب االستغاثة ﴿ﭑ ﭒ ﭓ﴾ يطلب من هللا
الغوث؛ الغوث ابلنصر على األعداء ،الغوث بنزول املطر ،ال يطلبه عليه الصالة والسالم إال من هللا ،والعبد ال
يعبد ،فهو عليه الصالة والسالم عبد يستغيث ابهلل ،يطلب غوثه من هللا ،وال يطلب منه الغوث ،غياث املستغيثني
من؟ جميب املضطرين من؟ كاشف الكرابت من؟ ﴿ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ
ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾[النمل .]62:فهذا ابب تزل به أقدام ،وتضيع فيه أفهام ،ويقع
فيه أقوام يف الردى واهللكة –والعياذ ابهلل – بعدم البصرية ابلتوحيد ،وعدم البصرية بضده.
االستغاثة قوله تعاىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ﴾))؛ دلت اآلية داللة واضحة ِ قال(( :ودليل
أن االستغاثة عبادة ال تطلب إال من هللا ،ومن طلبها من غري هللا تباك وتعاىل فقد أشرك.
أييت بعض الناس ويلتبس عليه هذا التوحيد الذي تدل عليه اآلية ،فيفهم أن الطلب عندما يقال أن طلب
الغوث من املخلوقني شرك ،فيأيت ويريد أن يناقض هذا التوحيد اخلالص ،فيأيت آبايت أو نصوص تتعلق ابستغاثة
من خملوق مبخلوق فيما يقدر عليه املخلوق ،وينبغي أن يفرق بني هذا اجلائز املباح؛ عندما يكون اإلنسان مثالً
يريد أن يغرق ،وإىل جنبه شخص ويقول :أغثين ،ساعدين ،عاوين؛ هذا ما هو؟ هذا جائز ،ألنك تطلب من
خملوق قادر حاضر ،تقول :أغثين ،وهلذا جاء يف القرآن﴿ :ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺﭻ﴾[القصص ]15:هذا أمر جائز ،عندما يستغيث خملوق مبخلوق حي حاضر قادر ،انتبه هلذا الكلمات الثالث
مهمة:
«حي» :ليس مبيت ،إن طلب من ميت فهذا جلوء إىل غري هللا ،وتعلق بغري هللا تبارك وتعاىل، ▪
فيكون قد وقع يف الشرك.
إن طلب من غائب فهذا أيضاً فزع وجلوء إىل غري هللا تبارك وتعاىل. ▪
58
إن طلب من حي حاضر فيما ال يقدر عليه ،مثل –والعياذ ابهلل – لو قال شخص آلخر :أرجوك ▪
أن تنقذين من النار ،أن جتريين من النار ،أو شيء من هذه األمور اليت ال يقدر عليها ،أن تثبت قليب ،أو حنو ذلك
فيما ال يقدر عليه إال هللا ،حىت لو كان حاضر حي أمامه ،فيكون بذلك مشركاً ابهلل الشرك الناقل من امللة.
فينتبه هلذه املعاين؛ ألن بعض الناس يلبس ،وأييت إىل العوام يقول :ماذا فيه لو استغثنا بغري هللا؟ أليس هللا
يقول يف القرآن﴿ :ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾؟ ماذا يف هذا؟ فيخلطون بني اجلائز وبني
الشرك ،خيلطون بني اجلائز وهو االستغاثة ابملخلوق احلي احلاضر فيما يقدر عليه ،ويريدون أن ينزلوا ذلك يف ماذا؟
يف دعاء امليت أو دعاء الغائب أو دعاء احلاضر فيما ال يقدر عليه إال هللا سبحانه وتعاىل .ومن دعا ميتاً أو دعا
غائباً أو دعا حاضراً فيما ال يقدر عليه إال هللا جل وعال فقد اختذه نداً وشريكاً مع هللا سبحانه وتعاىل.
مشكلة دعاة الضالل من القدمي هي هذه؛ يلبسون احلق ابلباطل ،ويكتمون احلق ،فيضل العوام على
أيديهم ،وهلذا قال نبينا عليه الصالة والسالم(( :إن أخوف ما أخاف على أميت األئمة املضلني)).
عبادة يتقرب هبا إىل هللا ،فالذبح أيضاً عبادة ال يتقرب هبا إال إىل هللا ،ويف القرآن قال هللا تعاىل﴿ :ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ﴾؛ ﴿ﯕ﴾؛ الصالة معروفة أي صلوايت﴿ ،ﯖ﴾
املراد ابلنسك :الذبح؛ فصاليت ونسكي أي ذحبي هلل ،كما أين ال أصلي إال هلل ،أيضاً ال أذبح إال هلل.
59
إذا كان الذبح هلل توحيد وعبادة يتقرب هبا إىل هللا ،حيبها هللا سبحانه وتعاىل ويرضاها من عباده ،فصرفها
إىل غريه ماذا يكون؟ شرك ابهلل ،ألن صرف العبادة لغري هللا شرك ،اآلية دليل صريح على أن النسك عبادة ﴿ﯓ
ﯔ ﯕ ﯖ﴾ ملن؟ ﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﯝ ﯞ ﯟﯠ﴾؛ فمن جعل نسيكته هلل هذه عبادة تقربه من
هللا ،ومن جعلها لغريه فهذا شرك خيرجه من دائرة اإلسالم؛ وهلذا أورد املصنف رمحه هللا تعاىل حديثاً اثبتاً عن نبينا
عليه الصالة والسالم يف صحيح مسلم وغريه ،عن علي رضي هللا عنه ،أن النيب قال(( :لعن هللا من ذبح لغري
هللا))؛ اللعن :هو الطرد واإلبعاد من رمحة هللا ،وامللعون :املطرود املبعد من رمحة هللا ،والنيب عليه الصالة والسالم
يقول(( :لعن هللا من ذبح لغري هللا)) وهذا دعاء ابلطرد واإلبعاد من رمحة هللا ملن ذبح لغري هللا ،أن يطرده هللا ،وأن
يبعده من رمحته «من ذبح لغري هللا» ألن الذبح عبادة ،وصرفها لغري هللا موجب للعنة والطرد من رمحة هللا ،والوقوع
يف سخطه وعقابه جل وعال؛ وهلذا قال(( :لعن هللا من ذبح لغري هللا)).
جاء يف حديث يرفع إىل نبينا عليه الصالة والسالم مبيناً هذا األمر قال(( :دخل الرجل اجلنة يف ذابب،
ودخل رجل النار يف ذابب)) تعجب الصحابة؛ ذابب! الذابب معروف أبنه طائر حقري ،من أخس احليوان ،ومن
أحقر احليوان ،ويقول عليه الصالة والسالم(( :دخل الرجل اجلنة يف ذابب ،ودخل رجل النار يف ذابب)) عجيب
هذا ،قالوا :وكيف ذلك اي رسول هللا؟ قال(( :مر رجالن -أي ممن كانوا قبلنا -على قوم عندهم صنم ،وال
أيذنون ألحد مير حىت يقرب للصنم شيء)) ما يسمحون ألحد مير من جهتهم حىت يقرب للصنم شيء ،إن قرب
للصنم شيء جعلوه مير ،وإن مل يقرب للصنم ذحبوه(( ،مر رجالن على قوم عندهم صنم ،ال جياوزه أحد حىت يقولوا
له قرب)) يعين قدم قرابانً هلذا الصنم(( ،فقالوا ألحدمها :قرب)) قدم قرابانً هلذا الصنم ،قال« :ما كنت ألقرب
ألحد غري هللا ،فقتلوه ودخل اجلنة» قتل صابراً على التوحيد ،حمتسباً أجره وثوابه عند هللا سبحانه وتعاىل ،فدخل
ذاباب فقتلوه ،قال فدخل اجلنة(( ،قالوا لآلخر :قرب ،قال :ما عندي ما أقرب)) يعين كأنه
اجلنة ،امتنع أن يقرب ً
يقول :مستعد لكن مثل ما ترون ما عندي شيء أقربه ،قالوا« :قرب ولو ذابب» املهم ما متر إال وتقرب شيئاً،
تذبح شيء تقرابً هلذا الصنم «قرب ولو ذابب» ،فأخذ يبحث عن ذابب يطري وصاده وجاء وقطع رأسه قرابانً هلذا
الصنم؛ فمات فدخل النار.
ذبح ذابابً لصنم ،متقرابً به للصنم ،فدخل به النار ،ذابب! فكيف مبن يذهب إىل السوق ،ويشرتي أفضل
الشاة ،أو يشرتي أفضل البقر ،أو يشرتي أمسن اإلبل ،ويسوقها إىل حيث من يريد أن يتقرب إليهم من األحجار
أو من املقبورين أو غريهم ،مث يذبح نسيكته وقرابنه متقرابً به إىل غري هللا؟! ذبح ذابابً فدخل النار ،فكيف مبن
يذبح شاة مسينة ،أو بقرة ،أو انقة ،متقرابً هبا إىل غري هللا سبحانه وتعاىل؟! فالذبح عبادة ال تصرف إال هلل ،وال
يستعان بذحبها إال ابهلل ،فتذبح هلل ،متقرابً بذبيحتك له وحده ،وتسمي هللا جل وعال ،تذكر امسه عليها قائالً:
«بسم هللا».
60
ذكر يل أحد األشخاص من إحدى الدول قال :إن عميت أوقال خاليت كانت مريضة ،وأتعبها املرض،
فوصفوا هلا رجل ،قالوا :اذهيب له وعنده عالج ،ذهبت إليه وقال هلا :تشرتين ديكاً لونه كذا –حدد هلا لون
الديك– وتذحبينه ،وعندما تذحبينه ال تنطقني وال بكلمة مطلقاً ،ال يريد أن يقول هلا :ال تقويل بسم هللا ،ما يريد
أن يقول هلا ال تسمي هللا ،ال تذكري هللا ،قال :اذحبيه وال تنطقي أبي كلمة مطلقاً ،إذا نطقت بكلمة يلتغي
العالج ،ما تستفيدين ،ال تنطقي أبي كلمة ،مث ماذا؟ مث قال :إذا ذحبتيه تطبخينه ،وكلي منه قدر حاجتك فقط,
مث خذيه واذهيب إىل الوادي الفالين وضعيه يف ذلك الوادي ،ملن؟ للشياطني ،ما قال :كليه ،ومسي هللا عليه،
وتصدقي به على الفقراء لعل هللا بصدقتك يشفيك ويعافيك ،ال ،قال :ال تسمني ،ال تذكري اسم هللا ،مث أمرها
أن تقدمه قرابانً للشياطني؛ لكن كل ذلك بطريقة ملتوية ،مل يقل هلا ال تسمي ،ومل يقل هلا تقريب للشياطني ،لكنه
ساقها لفعل هذا األمر دون أن تنتبه له.
وهكذا يعبث ابلعوام واجلهال من دعاة الضالل وأكلة أموال الناس ابلباطل ،يعبثون هبم ،ويوقعوهنم يف
الشرك واالحنراف عن دين هللا تبارك وتعاىل ويغيبوهنم عن القرآن؛ ﴿ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾﴿ ،ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ﴾ «لعن هللا من ذبح لغري هللا» هذه كلها ،يغيبوهنم عن هذه املعاين ،ويوقعوهنم يف التعلق بغري هللا ،والتقرب
للشياطني ،والبعد عن ذكر اسم هللا تبارك وتعاىل ،فينصرف العوام واجلهال إىل الشرك ،وينصرفون عن التوحيد
الذي خلقوا ألجله ،وأوجدوا لتحقيقه .إذاً الذبح عبادة وقربة ال يتقرب هبا إال هللا سبحانه وتعاىل.
مث ختم رمحه هللا ذكر هذه العبادات بعبادة النذر؛ والنذر :هو اإلجياب؛ يعين أن توجب على نفسك ما مل
يوجبه هللا عليك .مثالً لو قال قائل" :إن شفى هللا مريضي فلله علي أن أذبح شاة" ،يف األصل عندما يشفى
مريضه هل جيب عليه أن يذبح شاة؟ ال ،ال جيب عليه؛ إن ذحبها شكراً هلل ،أو فعل غري ذلك من األعمال شكراً
هلل ،له ذلك ،لكن عندما يقول" :إن شفى هللا مريضي فلله علي أن أذبح شاة" أصبحت الشاة واجب عليه ذحبها
إذا شفي مريضه ،ومن الذي أوجبها عليه؟ هو الذي أوجبها على نفسه.
إذاً النذر :هو اإلجياب ،أن يوجب على نفسه ما مل يوجبه هللا عليه .وقد قال النيب عليه الصالة والسالم:
((النذر ال أييت خبري))؛ انتبه هلذه الكلمة تفيدك جداً يف هذا الباب ،قال(( :النذر ال أييت خبري))؛ شفاء املريض،
حصول الغىن ،زوال املصيبة ،هذا اخلري حيصل ممن؟ حيصل من هللا فضالً ومناً ،ليس الشاة اليت أوجبتها على
نفسك ،أو العمل الذي أوجبته على نفسك هو الذي تنال به هذا األمر ،قال( :النذر ال أييت خبري)) يعين لن
أيتيك خري؛ صحة عافية مال من نذرك ،والنذر كما قال عليه الصالة والسالم« :إمنا يستخرج به من البخيل»،
فبعض الناس يفعل ذلك بناء على خطأ يف الفهم؛ يقول" :إن شفى هللا مريضي أذبح كذا" ,كأنه يظن ويتوهم أن
قوله" :أذبح كذا" هي اليت جتلب له شفاء املريض؛ وهلذا أزال النيب هذا الفهم قال(( :النذر ال أييت خبري))؛
«خري» هنا نكرة يف سياق النفي تفيد العموم ،يعين :شفاء ،صحة ،غىن ،صالح ،إىل غري ذلك ،كل ذلك لن
61
أيتيك بسبب النذر« ،النذر ال أييت خبري» قاعدة يف الباب افهمها واعنت هبا ،أرشدك إليها نبيك عليه الصالة
والسالم.
اخلري أييت من هللا؛ إذا أردت الشفاء ،أردت أي مصلحة من املصاحل ،ال توجب على نفسك ما مل يوجبه هللا
عليك ،واطلبه من هللا سبحانه وتعاىل.
فالنذر عبادة ،وهو أمر مكروه؛ وهلذا جاءت األحاديث تدل على مثل ذلك ،قال عليه الصالة والسالم:
((إمنا يستخرج به من البخيل)) ،وجاء عنه أحاديث يف هذا املعىن تفيد الكراهة .وهلذا النذر امتدح هللا سبحانه
وتعاىل الوفاء به ،ألنه إذا أوجبته على نفسك أصبحت عبادة أوجبتها على نفسك ،فوفاؤك هبا قربة هلل ،مدح هللا
املوفني ابلنذر ،قال﴿ :ﭙ ﭚ﴾ ،فالنذر عبادة ،ال جيوز التقرب هبا لغري هللا ،ودل على كونه عبادة وقربة قوله
أي فاشياً ومنتشراً وعاما إال من رمحه هللا سبحانه وتعاىل﴿ :ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾
[اإلنسان]7:
62