You are on page 1of 39

‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫قال المؤلف شيخ اإلسالم‪:‬‬

‫من أعجب العجاب‪ ,‬وأكبر اآليات الدالة على ق درة الملك الغالب‬
‫واضحا للعوام فوق ما يظن الظانون‪ ,‬ثم‬
‫ً‬ ‫ستة أصول َبَّينَها اهلل تعالى بيانًا‬
‫بعد ه ذا غلط فيها كث ير من أذكي اء الع الم وعقالء ب ني آدم إال أقل‬
‫القليل‪.‬‬

‫الشــرح‬

‫قوله‪" :‬بسم اهلل"‪.‬‬


‫ابت دأ املؤلف ‪-‬رمحه اهلل تع اىل‪ -‬كتابه بالبس ملة اقت داءً بكت اب اهلل ‪،‬‬
‫فإنه مبدوء بالبسملة‪ ,‬واقتداءً برسول اهلل ‪ ،‬فإنه يبدأ كتبه ورسائله بالبسملة‪.‬‬
‫واجلار واجملرور متعلق بفعل حمذوف مؤخر مناسب للمقام تقديره هنا‪:‬‬
‫"بسم اهلل أكتب"‪.‬‬
‫وقدرناه فعالً‪ :‬ألن األصل يف العمل األفعال‪.‬‬
‫مؤخرا لفائدتين‪:‬‬
‫وقدرناه ً‬
‫األولى‪ :‬التربك بالبداءة باسم اهلل تعاىل‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إفادة احلصر؛ ألن تقدمي املتعلق به يفيد احلصر‪.‬‬
‫وقدرناه مناسبًا‪ :‬ألنه أدل على املراد‪ ،‬فلو قلنا مثالً عندما نريد أن نقرأ‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫كتابً ا‪ :‬بسم اهلل نبت دئ‪ .‬ما ي درى مباذا نبت دئ‪ ,‬لكن بسم اهلل نق رأ أدل على‬
‫املراد‪.‬‬
‫قوله‪" :‬اهلل"‪.‬‬
‫لفظ اجلاللة علم على الب اري ‪-‬جل وعال‪ ،-‬وهو االسم ال ذي تتبعه‬
‫َّاس ِم ْن‬
‫ِج الن َ‬
‫مجيع األمساء حىت إنه يف قوله تع اىل‪ :‬كِت اب َأنزلْنَ اهُ ِإلَي َ ِ‬
‫ك لتُ ْخ ر َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ٌ َ‬
‫اللَّ ِه الَّ ِذي لَ هُ َما فِي‬
‫ْح ِمي ِد‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الظُّلُ َم ات ِإلَى النُّو ِر بِ ِإ ْذن َربِّ ِه ْم ِإلَى ص َراط ال َْع ِزي ِز ال َ‬
‫ض‪[ ‬إبراهيم‪ .]2-1:‬ال نقول‪ :‬إن لفظ اجلاللة "اهلل" صفة‪.‬‬ ‫اَألر ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫الس َم َوات َو َما في ْ‬
‫تابعا تبعية النعت‬
‫بل نق ول‪ :‬هي عطف بي ان‪ .‬لئال يك ون لفظ اجلاللة ً‬
‫للمنعوت؛ ولهذا قال العلماء‪ :‬أعرف املعارف لفظ "اهلل"؛ ألنه ال يدل على‬
‫أحد سوى اهلل ‪.‬‬
‫قوله‪" :‬الرحمن"‪.‬‬
‫الرحمن‪ :‬اسم من األمساء املختصة باهلل ال يطلق على غريه‪.‬‬
‫ومعناه‪ :‬املتصف بالرمحة الواسعة‪.‬‬
‫قوله‪" :‬الرحيم"‪.‬‬
‫الرحيم‪ :‬اسم يطلق على اهلل ‪ ‬وعلى غريه‪.‬‬
‫ومعن اه‪ :‬ذو الرمحة الواص لة‪ ,‬ف الرحمن‪ :‬ذو الرمحة الواس عة‪ ,‬وال رحيم‪:‬‬
‫ذو الرمحة الواصلة‪ ،‬فإذا مجعا صار املراد بالرحيم‪ :‬املوصل رمحته إىل من يشاء‬
‫ب َم ْن يَ َش اءُ َو َي ْر َح ُم َم ْن يَ َش اءُ َوِإل َْي ِه ُت ْقلَبُ و َن‬
‫من عباده‪ ,‬كما قال اهلل تعاىل‪ُ  :‬ي َع ِّذ ُ‬
‫‪[ ‬العنكبوت‪ .]21:‬والمراد بالرحمن‪ :‬الواسع الرمحة‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫قوله‪" :‬من أعجب العجاب‪ ,‬وأكبر اآليات الدالة على قدرة الملك‬
‫الغالب ستة أصول…‪.‬إلخ"‪:‬‬
‫ش يخ اإلس الم حممد بن عبد الوه اب ‪-‬رمحه اهلل تع اىل‪ -‬له عناية بالرس ائل‬
‫املختصرة اليت يفهمها العامي وطالب العلم‪ ,‬ومن هذه الرسائل هذه الرسالة‬
‫"ستة أصول عظيمة" وهي‪:‬‬
‫األصل األول‪ :‬اإلخالص وبيان ضده وهو الشرك‪.‬‬
‫األصل الثاني‪ :‬االجتماع يف الدين‪ ,‬والنهي عن التفرق فيه‪.‬‬
‫األصل الثالث‪ :‬السمع والطاعة لوالة األمر‪.‬‬
‫األصل الراب ع‪ :‬بي ان العلم والعلم اء‪ ,‬والفقه والفقه اء‪ ،‬ومن تش به هِب م‬
‫وليس منهم‪.‬‬
‫األصل الخامس‪ :‬بيان من هم أولياء اهلل‪.‬‬
‫األصل السادس‪ :‬رد الشبهة اليت وضعها الشيطان يف ترك القرآن والسنة‪.‬‬
‫وهذه األصول أصول مهمة جديرة بالعناية‪ ,‬وحنن نستعني باهلل تعاىل يف‬
‫يسر اهلل‪.‬‬
‫شرحها والتعليق عليها مبا َّ‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫‪‬‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫األصـل األول‬

‫إخالص الدين هلل تعالى وحده ال شريك له‪ ,‬وبيان ضده الذي هو‬
‫الش رك باهلل‪ ,‬وك ون أك ثر الق رآن في بي ان ه ذا األصل من وج وه ش تى‬
‫بكالم يفهمه أبلد العام ة‪ ,‬ثم لما ص ار على أك ثر األمة ما ص ار أظهر لهم‬
‫الش يطان اإلخالص في ص ورة تنقص الص الحين‪ ،‬والتقص ير في حق وقهم‪,‬‬
‫وأظهر لهم الشرك باهلل في صورة محبة الصالحين وأتباعهم‪.‬‬

‫الشــرح‬

‫قوله‪" :‬إخالص الدين هلل تعالى وحده ال شريك له …‪.".‬‬


‫اإلخالص هلل معن اه‪" :‬أن يقصد املرء بعبادته التق رب إىل اهلل تع اىل‪,‬‬
‫خملص ا‬
‫خملص ا هلل تعاىل يف قصده‪ً ,‬‬ ‫والتوصل إىل دار كرامته"‪ .‬بأن يكون العبد ً‬
‫خملص ا هلل تع اىل يف ظ اهره‬ ‫خملص ا هلل تع اىل يف تعظيم ه‪ً ,‬‬ ‫هلل تع اىل يف حمبت ه‪ً ,‬‬
‫وباطن ه‪ ,‬ال يبتغي إال بعبادته وجه اهلل تع اىل‪ ,‬والوص ول إىل دار كرامت ه‪ ,‬كما‬
‫ين ال‬ ‫ِ‬
‫ب ال َْع الَم َ‬ ‫س ِكي َو َم ْحيَ اي َو َم َم اتِي لِلَّ ِه َر ِّ‬‫ص التي َونُ ُ‬
‫ِ‬
‫ق ال تع اىل‪ :‬قُ ْل ِإ َّن َ‬
‫ين‪[ ‬األنعام‪ .]163-162:‬وقوله تعاىل‪:‬‬ ‫ِِ‬ ‫ك ُِأم ْر ُ‬
‫ت َوَأنَا ََّأو ُل ال ُْم ْسلم َ‬ ‫يك لَهُ َوبِ َذلِ َ‬
‫َش ِر َ‬
‫اح ٌد ال ِإلَهَ ِإال‬ ‫‪‬وَأنِيبوا ِإلَى ربِّ ُكم وَأسلِموا لَه‪[ ‬الزمر‪ .]54:‬وقوله‪ :‬وِإلَه ُكم ِإلَهٌ و ِ‬
‫َ ُ ْ َ‬ ‫َ َْ ْ ُ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫َأسلِ ُموا‪[ ‬احلج‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫الرحمن َّ ِ‬
‫يم‪[ ‬البقرة‪ .]163:‬وقوله‪ :‬فَِإ ل َُه ُك ْم ِإلَهٌ َواح ٌد َفلَهُ ْ‬ ‫الرح ُ‬ ‫ُه َو َّ ْ َ ُ‬
‫‪ .]34‬وقد أرسل اهلل تعاىل مجيع الرسل بذلك‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ  :‬و َما َْأر َس لْنَا ِم ْن‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫ول ِإال نُ ِ‬
‫وحي ِإل َْي ِه َأنَّهُ ال ِإلَهَ ِإال َأنَا فَا ْعب ُد ِ‬
‫ون‪[ ‬األنبياء‪.]25:‬‬ ‫ك ِم ْن ر ُس ٍ‬
‫َق ْبلِ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وكما وضح اهلل ذلك يف كتاب ه‪ ،‬كما ق ال املؤل ف‪" :‬من وج وه ش تى‬
‫بكالم يفهمه أبلد العامة"‪ .‬فقد وض حه رس ول اهلل ‪ ،‬فقد ج اء ‪-‬عليه‬
‫الصالة السالم‪ -‬بتحقيق التوحيد وإخالصه وختليصه من كل شائبة‪ ,‬وسد كل‬
‫طريق ميكن أن يوصل إىل ثلم ه ذا التوحيد أو إض عافه‪ ,‬حىت إن رجالً ق ال‬
‫ندا‪ ,‬بل ما شاء اهلل‬ ‫للنيب ‪(( :‬ما شاء اهلل وشئت‪ .‬فقال النيب ‪ :‬أجعلتني هلل ًّ‬
‫وحده))(‪ .)1‬فأنكر النيب ‪ ‬على هذا الرجل أن يق رن مشيئته مبشيئة اهلل تع اىل‬
‫حبرف يقتضي التسوية بينهما‪ ,‬وجعل ذلك من اختاذ الند هلل ‪.‬‬
‫أيض ا أن النيب ‪ ‬ح َّرم احللف بغري اهلل‪ ,‬وجعل ذلك من‬ ‫ومن ذلك ً‬
‫الشرك باهلل‪ ,‬فقال‪(( :‬من حلف بغير اهلل فقد كفر أو أشرك))(‪ .)2‬وذلك ألن‬
‫احللف بغري اهلل تعظيم للمحل وف به مبا ال يس تحقه إال اهلل ‪ ,‬وحينما ق دم‬
‫عليه وفد‪ ،‬فقالوا‪(( :‬يا رسول اهلل‪ ,‬يا خرينا وابن خرينا‪ ,‬وسيدنا وابن سيدنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬يا أيها الناس قولوا بقولكم‪ ،‬وال يستهوينكم الشيطان‪ ,‬أنا محمد عبد‬
‫اهلل ورسوله‪ ,‬ما أحب أن ترفعوني فوق م ْنزلتي التي أنزلني اهلل ‪ .)3())‬وقد‬
‫عقد املصنف ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬لذلك بابًا يف "كتاب التوحيد" فقال‪" :‬باب ما جاء‬

‫(?) أخرجه البخاري يف "األدب املفرد"‪ .)783( :‬وصححه العالمة األلباين ‪-‬رمحه‬ ‫‪1‬‬

‫اهلل‪ -‬يف "السلسلة الصحيحة"‪.)139( :‬‬


‫(?) أخرجه أبو داود يف س ننه‪ .)3251( :‬والرتم ذي يف س ننه‪.)1540( :‬‬ ‫‪2‬‬

‫وصححه العالمة األلباين ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬يف صحيح أيب داود‪.)2787( :‬‬
‫(?) أخرجه البخاري يف "األدب املفرد"‪ .)875( :‬وصححه العالمة األلباين ‪-‬رمحه‬ ‫‪3‬‬

‫اهلل‪ -‬يف صحيح األدب املفرد"‪.‬‬


‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫يف محاية املصطفى ‪ ‬محى التوحيد‪ ,‬وسده طرق الشرك"‪.‬‬


‫وكما بنَّي اهلل تع اىل اإلخالص وأظه ره بنَّي ض ده وهو الش رك‪ ,‬فق ال‬
‫ك لِ َم ْن يَ َ‬
‫ش اءُ‪[ ‬النس اء‪:‬‬ ‫تع اىل‪ِ :‬إ َّن اللَّهَ ال َي ْغ ِف ُر َأ ْن يُ ْش َر َك بِ ِه َو َي ْغ ِف ُر َما ُدو َن َذلِ َ‬
‫‪ .]116‬وق ال تع اىل‪َ  :‬وا ْعبُ ُدوا اللَّهَ َوال تُ ْش ِر ُكوا بِ ِه َش ْيًئا‪[ ‬النس اء‪ .]36:‬وق ال‪:‬‬
‫اجتَنِبُ وا الطَّاغُ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫وت‪[ ‬النح ل‪.]36:‬‬ ‫‪َ ‬ولََق ْد َب َع ْثنَا في ُك ِّل َُّأمة َر ُس وال َأن ا ْعبُ ُدوا اللَّهَ َو ْ‬
‫واآلي ات يف ذلك كث رية‪ ,‬ويق ول النيب ‪(( :‬من لقي اهلل ال يش رك به ش يًئا‬
‫دخل الجن ة‪ ,‬ومن لقيه يش رك به ش يًئا دخل الن ار))(‪ .)1‬رواه مس لم من‬
‫حديث جابر‪.‬‬
‫والشرك على نوعين‪:‬‬
‫الن وع األول ش رك أك بر مخ رج عن الملة وهو‪" :‬كل ش رك أطلقه‬
‫الشارع‪ ،‬وهو مناف للتوحيد منافاة مطلقة"‪ .‬مثل أن يصرف شيًئا من أنواع‬
‫العب ادة لغري اهلل‪ :‬ب أن يص لي لغري اهلل‪ ,‬أو ي ذبح لغري اهلل‪ ,‬أو ين ذر لغري اهلل‪ ,‬أو‬
‫أن يدعو غري اهلل تعاىل مثل‪ :‬أن يدعو صاحب قرب‪ ,‬أو يدعو غائبًا إلنقاذه من‬
‫أمر ال يقدر عليه إال احلاضر‪ ,‬وأنواع الشرك معلومة فيما كتبه أهل العلم‪.‬‬
‫الن وع الث اني الش رك األص غر وهو‪" :‬كل عمل ق ويل أو فعلي أطلق‬
‫عليه الش ارع وصف الش رك‪ ,‬لكنه ال ين ايف التوحيد مناف اة مطلق ة"‪ .‬مثل‬
‫احللف بغري اهلل‪ ,‬فاحلالف بغري اهلل الذي ال يعتقد أن لغري اهلل تعاىل من العظمة‬
‫ما مياثل عظمة اهلل مشرك شر ًكا أصغر‪.‬‬

‫(?) أخرجه البخ اري يف ص حيحه‪ .)129( :‬ومس لم يف ص حيحه‪(-152[ :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.])93‬‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫ومثل الري اء وهو خط ري‪ ,‬ق ال فيه النيب ‪-‬ص لى اهلل عليه وعلى آله‬
‫وس لم‪(( :-‬أخ وف ما أخ اف عليكم الش رك األص غر‪ .‬فس ئل عن ه؟ فق ال‪:‬‬
‫الري اء))(‪ .)2‬وقد يصل الري اء إىل الش رك األك رب‪ .‬وقد مثَّل ابن القيم ‪-‬رمحه‬
‫اهلل‪ -‬للش رك األص غر بيسري الري اء‪ ,‬وه ذا ي دل على أن كثري الري اء قد يصل‬
‫إىل الشرك األكرب‪.‬‬
‫وقد ذهب بعض أهل العلم إىل أن قوله تع اىل‪ِ :‬إ َّن اللَّهَ ال َي ْغ ِف ُر َأ ْن‬
‫يُ ْش َر َك بِ ِه‪[ ‬النس اء‪ .]116:‬يشمل كل شرك ولو كان أصغر‪ ,‬فالواجب احلذر‬
‫من الش رك مطل ًق ا؛ ف إن عاقبته وخيم ة‪ ,‬ق ال تع اىل‪ :‬إنَّهُ َم ْن يُ ْش ِر ْك بِاللَّ ِه َف َق ْد‬
‫َأنص ا ٍر ‪[‬املائ دة‪ .]72:‬ف إذا‬ ‫ح َّرم اللَّه علَي ِه الْجنَّةَ وم ْأواه النَّار وما لِلظَّالِ ِم ِ‬
‫ين م ْن َ‬
‫َ‬ ‫َ ََ َ ُ ُ ََ‬ ‫َ َ ُ َْ‬
‫ح رمت اجلنة على املش رك ل زم أن يك ون خال ًدا يف الن ار أب ًدا‪ ,‬فاملش رك باهلل‬
‫خالدا‪ ,‬وخسر الدنيا؛ ألنه قامت‬ ‫تعاىل قد خسر اآلخرة ال ريب؛ ألنه يف النار ً‬
‫عليه احلجة‪ ،‬وجاءه النذير‪ ,‬ولكنه خسر‪ ,‬مل يستفد من الدنيا شيًئا‪ ,‬قال اهلل‬
‫ك ُه َو‬‫ين َخ ِس ُروا َأْن ُف َس ُه ْم َو َْأهلِي ِه ْم َي ْو َم ال ِْقيَ َام ِة َأال ذَلِ َ‬ ‫اس ِر َّ ِ‬
‫ِ‬
‫تعاىل‪ :‬قُ ْل ِإ َّن الْ َخ َ‬
‫ين الذ َ‬
‫ين‪[ ‬الزم ر‪ .]15:‬فخسر نفسه؛ ألنه مل يس تفد منها ش يًئا‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الْ ُخ ْس َرا ُن ال ُْمب ُ‬
‫وأوردها النار وبئس الورد املورود‪ ،‬وخسر أهله؛ ألهَّن م إن كانوا مؤمنني فهم‬
‫يف اجلن ة‪ ،‬فال يتمتع هِب م‪ ،‬وإن ك انوا يف الن ار فك ذلك؛ ألنه كلما دخلت َُّأمة‬
‫لعنت أختها‪.‬‬
‫واعلم أن الش رك خفي ج دًّا‪ ،‬وقد خافه خليل ال رمحن وإم ام احلنف اء‪,‬‬
‫اجنُْبنِي َوبَنِ َّي َأ ْن َن ْعبُ َد ْ‬
‫اَألص نَ َام‪[ ‬إب راهيم‪ .]35:‬وتأمل‬ ‫كما حكى اهلل عن ه‪َ  :‬و ْ‬
‫(?) صححه العالمة األلباين ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬يف "السلسلة الصحيحة"‪.)951( :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫اجنُْبنِي‪ .‬ومل يق ل‪" :‬وامنع ني"‪ .‬ألن معىن "اجنب ني"‪ :‬أي‪ :‬اجعلين يف‬
‫قول ه‪َ  :‬و ْ‬
‫جانب عبادة‪ ,‬واألصنام يف جانب‪ ,‬وهذا أبلغ من "امنعني"؛ ألنه إذا كان يف‬
‫جانب وهي يف جانب كان أبعد‪.‬‬
‫وق ال ابن أبي مليكة‪" :‬أدركت ثالثني من أص حاب رس ول اهلل ‪‬‬
‫كلهم خياف النفاق على نفسه"(‪.)1‬‬
‫وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ‪ ‬حلذيفة بن اليمان‪(( :‬أنشدك‬
‫باهلل هل مساين لك رسول اهلل ‪ ‬مع من مسى من املنافقني))‪ .‬مع أن الرسول ‪‬‬
‫بشره باجلنة‪ ,‬ولكنه خاف أن يكون ذلك ملا ظهر لرسول اهلل ‪ ‬من أفعاله يف‬
‫حياته‪ ,‬فال يأمن النفاق إال منافق‪ ,‬وال خياف النفاق إال مؤمن‪ ,‬فعلى العبد أن‬
‫حيرص على اإلخالص‪ ,‬وأن جياهد نفسه عليه‪.‬‬
‫ق ال بعض الس لف‪" :‬ما جاه دت نفسي على ش يء ما جاه دهُت ا على‬
‫اإلخالص"‪.‬‬
‫فالشرك أمره صعب جدًّا‪ ,‬ليس باهلني‪ ,‬ولكن اهلل ييسر اإلخالص على‬
‫العبد‪ ,‬وذلك بأن جيعل اهلل نصب عينيه ‪ ,‬فيقصد بعمله وجه اهلل‪.‬‬

‫(?) أخرجه البخاري يف صحيحه‪.)36( :‬‬ ‫‪1‬‬


‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫‪‬‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫األصل الثاني‬

‫أمر اهلل باالجتماع في الدين‪ ،‬ونَهى عن التفرق فيه‪ ،‬فبين اهلل هذا بيانًا‬
‫ش افيًا تفهمه الع وام‪ ،‬ونَهانا أن نك ون كال ذين تفرق وا واختلف وا قبلنا‬
‫فهلك وا‪ ،‬وذكر أنه أمر المس لمين باالجتم اع في ال دين‪ ،‬ونَه اهم عن‬
‫الس نَّة من العجب العجاب في‬ ‫وضوحا ما وردت به ُّ‬
‫ً‬ ‫التفرق فيه‪ ،‬ويزيده‬
‫ذلك‪ ،‬ثم صار األمر إلى أن االفتراق في أصول الدين وفروعه هو العلم‬
‫والفقه في ال دين‪ ،‬وص ار االجتم اع في ال دين ال يقوله إال زن ديق أو‬
‫مجنون‪.‬‬

‫الشرح‬

‫قوله‪" :‬أمر اهلل باالجتماع في الدين‪ ،‬ونَهى عن التفرق فيه‪ ...‬إخل"‪:‬‬


‫األصل الث اين من األص ول اليت س اقها الش يخ ‪-‬رمحه اهلل تع اىل‪:-‬‬
‫"االجتم اع يف ال دين‪ ،‬والنهي عن التف رق في ه"‪ .‬وه ذا األصل العظيم قد دل‬
‫وس نَّة رسوله ‪ ،‬وعمل الصحابة ‪ ،‬والسلف الصاحل‬ ‫عليه كتاب اهلل تعـاىل‪ُ ،‬‬
‫‪-‬رمحهم اهلل تعاىل‪:-‬‬
‫آمنُوا َّات ُق وا اللَّهَ َح َّق‬ ‫أما كتاب اهلل تعالى‪ :‬فقد قال اهلل ‪: ‬ي ُّ َّ ِ‬
‫ين َ‬
‫اَأي َها الذ َ‬‫َ‬
‫ص ُموا بِ َح ْب ِل اللَّ ِه َج ِم ًيعا َوال َت َف َّرقُ وا‬ ‫ُت َقاتِ ِه وال تَم وتُ َّن ِإال وَأْنتُم مس لِمو َن وا ْعتَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُْْ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫َأص بَ ْحتُ ْم بِنِ ْع َمتِ ِه‬
‫ف َب ْي َن ُقلُ وبِ ُك ْم فَ ْ‬‫اء فَ َألَّ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َواذْ ُك ُروا ن ْع َم ةَ اللَّه َعلَْي ُك ْم ِإ ْذ ُك ْنتُ ْم َأ ْع َد ً‬
‫ِإ ْخ َوانًا َو ُك ْنتُ ْم َعلَى َش َفا ُح ْف َر ٍة ِم ْن النَّا ِر فََأْن َق َذ ُك ْم ِم ْن َها َك َذلِ َ‬
‫ك ُيَبيِّ ُن اللَّهُ لَ ُك ْم آيَاتِ ِه‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫َّ ِ‬
‫ل ََعلَّ ُك ْم َت ْهتَ ُدو َن‪[ ‬آل عم ران‪ .]103-102:‬وق ال تع اىل‪َ  :‬وال تَ ُكونُ وا َكالذ َ‬
‫ين‬
‫يم‪[ ‬آل‬ ‫ِ‬ ‫ات َو ُْأولَِئ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب َعظ ٌ‬ ‫ك ل َُه ْم َع َذ ٌ‬ ‫اء ُه ْم الَْبِّينَ ُ‬
‫َت َف َّرقُ وا َوا ْخَتلَ ُف وا م ْن َب ْع د َما َج َ‬
‫يح ُك ْم‪[ ‬األنفال‪.]46:‬‬ ‫ب ِر ُ‬ ‫عمران‪ .]105:‬وقال تعاىل‪َ  :‬وال َتنَ َازعُوا َفَت ْف َشلُوا َوتَ ْذ َه َ‬
‫ت ِم ْن ُه ْم فِي َش ْي ٍء‪[ ‬األنعام‪:‬‬ ‫َس َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫وقال تعال‪ِ :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين َف َّرقُوا د َين ُه ْم َو َك انُوا ش َي ًعا ل ْ‬
‫وحا َوالَّ ِذي َْأو َح ْينَا ِإل َْي َ‬ ‫ع لَ ُكم ِمن الدِّي ِن ما و َّ ِ‬
‫ك‬ ‫ص ى بِ ه نُ ً‬ ‫َ َ‬ ‫‪ .]159‬وقال تعاىل‪َ  :‬ش َر َ ْ‬
‫يه‪[ ‬الشورى‪:‬‬ ‫صينَا بِ ِه ِإبر ِاهيم وموسى و ِعيسى َأ ْن َأقِيموا الدِّين وال َتَت َف َّرقُوا فِ ِ‬
‫ََ‬ ‫ُ‬ ‫َْ َ َ ُ َ َ َ‬ ‫َو َما َو َّ ْ‬
‫‪.]13‬‬
‫ففي ه ذه اآلي ات هَن ى اهلل تع اىل عن التف رق‪ ،‬وبني عواقبه الوخيمة على‬
‫الفرد واجملتمع واألمة بأسرها‪.‬‬
‫الس نَّة على ه ذا األصل العظيم‪ :‬فقد ق ال رس ول اهلل ‪:‬‬ ‫وأما داللة ُّ‬
‫((المسلم أخو المسلم‪ ،‬ال يظلمه‪ ،‬وال يخذله‪ ،‬وال يحقره‪ ،‬التقوى هاهنا‪،‬‬
‫التق وى هاهنا ‪-‬ويشري إىل ص دره‪ -‬بحسب ام رئ من الشر أن يحقر أخ اه‬
‫المس لم‪ ،‬كل المس لم على المس لم ح رام‪ :‬دمه‪ ،‬وعرضه‪ ،‬وماله))(‪ .)1‬ويف‬
‫رواي ة‪(( :‬ال تحاس دوا‪ ،‬وال تباغض وا‪ ،‬وال تجسس وا‪ ،‬وال تحسس وا‪ ،‬وال‬
‫تناجشوا‪ ،‬وكونوا عباد اهلل إخوانًا))(‪.)2‬‬
‫ويق ول ‪-‬عليه الص الة والس الم‪(( :-‬الم ؤمن للم ؤمن كالبني ان يشد‬

‫(?) أخرجه البخ اري يف ص حيحه‪ .)6951( :‬ومس لم يف ص حيحه‪(-32[ :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.])2564‬‬
‫(?) أخرجه البخ اري يف ص حيحه‪ .)6064( :‬ومس لم يف ص حيحه‪(-30[ :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.])2563‬‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫ضا))(‪.)1‬‬
‫بعضه بع ً‬
‫وقال ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬أليب أيوب ‪(( :‬أال أدلك على تجارة؟‬
‫قال‪ :‬بلى يا رسول اهلل‪ .‬قال‪ :‬تسعى في اإلصالح بين الناس إذا تفاسدوا‪،‬‬
‫وتقارب بينهم إذا تباعدوا))‪.‬‬
‫ويف مقابلة أمر النيب ‪ ‬املؤم نني بالتح اب والت آلف وحمبة اخلري والتع اون‬
‫على الرب والتقوى وفعل األسباب اليت تقوي ذلك وتنميه يف مقابلة ذلك هَن ى‬
‫النيب ‪ ‬عن كل ما ي وجب تف رق املس لمني وتباع دهم؛ وذلك ملا يف التف رق‬
‫والبغض اء من املفاسد العظيم ة‪ ،‬ف التفرق هو ق رة عني ش ياطني اجلن واإلنس؛‬
‫ألن شياطني اإلنس واجلن ال يودون من أهل اإلسالم أن جيتمعوا على شيء‪،‬‬
‫فهم يري دون أن يتفرق وا؛ ألهَّن م يعلم ون أن التف رق تفتت للق وة اليت حتصل‬
‫بااللتزام واالجتاه إىل اهلل ‪.‬‬
‫ف النيب ‪ ‬حث على الت آلف والتح اب بقوله وفعل ه‪ ،‬وهَن ى عن التف رق‬
‫واالختالف الذي يؤدي إىل تفريق الكلمة وذهاب الريح‪.‬‬
‫وأما عمل الص حابة‪ :‬فقد وقع بينهم ‪ ‬االختالف‪ ،‬لكن مل حيصل به‬
‫التف رق وال الع داوة وال البغض اء‪ ،‬فقد حصل اخلالف بينهم يف عهد رس ول‬
‫اهلل ‪ ‬ورس ول اهلل بني أظه رهم‪ ،‬فمن ذلك أن النيب ‪ ‬ملا ف رغ من غ زوة‬
‫األح زاب‪ ،‬وج اءه جربيل ي أمره أن خيرج إىل بين قريظة لنقض هم العه د‪ ،‬ق ال‬
‫النيب ‪ ‬ألص حابه‪(( :‬ال يص لين أحد منكم العصر إال في ب ني قريظة))(‪.)2‬‬

‫(?) أخرجه البخ اري يف ص حيحه‪ .)6026( :‬ومس لم يف ص حيحه‪(-30[ :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.])2563‬‬
‫(?) أخرجه البخ اري يف ص حيحه‪ .)946( :‬ومس لم يف ص حيحه‪(-69[ :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.])1770‬‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫فخرجوا من املدينة إىل بين قريظة‪ ،‬وحان وقت صالة العصر‪ ،‬فقال بعضهم‪:‬‬
‫ال نص لي إال يف بين قريظة ولو غ ابت الش مس؛ ألن النيب ‪ ‬ق ال‪(( :‬ال يص لين‬
‫أحد منكم العصر إال في بني قريظة))‪ .‬فنقول‪ :‬مسعنا وأطعنا‪.‬‬
‫ومنهم من ق ال‪ :‬نص لي يف ال وقت؛ ألن رس ول اهلل ‪ ‬أراد ب ذلك‬
‫املب ادرة واإلس راع إىل اخلروج‪ ،‬ومل ي رد منا تأخري الصالة‪ ،‬فبلغ ذلك النيب ‪‬‬
‫أحدا منهم ومل يوخبه على ما فهم‪ ،‬وهم بأنفسهم ‪ ‬مل يتفرقوا من‬ ‫فلم يعنف ً‬
‫أجل اختالف الرأي يف فهم حديث رسول اهلل ‪.‬‬
‫أما عمل الس لف الص الح‪ :‬ف إن من أص ول أهل الس نة واجلماعة يف‬
‫صادرا عن اجتهاد‪ ،‬وكان مما يسوغ‬ ‫املسائل اخلالفية أن ما كان اخلالف فيه ً‬
‫بعض ا باخلالف‪ ،‬وال حيمل بعضهم على بعض‬ ‫فيه االجتهاد‪ ،‬فإن بعضهم يعذر ً‬
‫حقدا‪ ،‬وال عداوة‪ ،‬وال بغضاء‪ ،‬بل يعتقدون أهَّن م إخوة حىت وإن حصل بينهم‬ ‫ً‬
‫ه ذا اخلالف‪ ،‬حىت إن الواحد منهم ليص لي خلف من ي رى أنه ليس على‬
‫وضوء‪ ،‬ويرى اإلمام أنه على وضوء‪ ،‬مثل أن يصلي خلف شخص أكل حلم‬
‫إب ل‪ ،‬وه ذا اإلم ام ي رى أنه ال ينقض الوض وء‪ ،‬واملأموم ي رى أنه ينقض‬
‫الوضوء‪ ،‬فريى أن الصالة خلف ذلك اإلمام صحيحة‪ ،‬وإن كان هو لو صالها‬
‫بنفسه لرأى أن صالته غري صحيحة‪.‬‬
‫كل ه ذا ألهَّن م ي رون أن اخلالف الناشئ عن اجته اد فيما يس وغ فيه‬
‫االجته اد ليس يف احلقيقة خبالف؛ ألن كل واحد من املختلفني قد اتبع ما‬
‫جيب عليه اتباعه من ال دليل ال ذي ال جيوز له الع دول عن ه‪ ،‬فهم ي رون أن‬
‫اتباعا لل دليل هو يف احلقيقة قد وافقهم؛ ألهَّن م‬
‫أخ اهم إذا خ الفهم يف عمل ما ً‬
‫يدعون إىل اتباع الدليل أينما كان‪ ،‬فإذا خالفهم موافقة لدليل عنده فهو يف‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫احلقيقة قد وافقهم؛ ألنه مَت َّش ى على ما ي دعون إليه ويه دون إليه من حتكيم‬
‫وسنَّة رسوله ‪.‬‬‫كتاب اهلل تعاىل ُ‬
‫أما ما ال يس وغ فيه اخلالف فهو ما ك ان خمال ًفا ملا ك ان عليه الص حابة‬
‫والت ابعون‪ ،‬كمس ائل العقائد اليت ضل فيها من ضل من الن اس‪ ،‬ومل حيصل‬
‫فيها اخلالف إال بعد الق رون املفض لة ‪-‬أي‪ :‬مل ينتشر اخلالف إال بعد الق رون‬
‫ودا يف عهد الص حابة‪ ،‬ولكن‬ ‫املفض لة‪ ،-‬وإن ك ان بعض اخلالف فيها موج ً‬
‫ليعلم أننا إذا قلنا‪ :‬قرن الصحابة‪ .‬ليس املعىن أنه البد أن ميوت كل الصحابة‪،‬‬
‫بل الق رن ما وجد فيه معظم أهل ه‪ ،‬ق ال ش يخ اإلس الم بن تيمية ‪-‬رمحه اهلل‪:-‬‬
‫"إن القرن حيكم بانقضائه إذا انقرض أكثر أهله"‪.‬‬
‫ف القرون املفض لة انقرض ت‪ ،‬ومل يوجد فيها ه ذا اخلالف ال ذي انتشر‬
‫بع دهم يف العقائ د‪ ،‬فمن خ الف ما ك ان عليه الص حابة والت ابعون فإنه علي ه‪،‬‬
‫وال يقبل خالفه‪.‬‬
‫أما املسائل اليت وجد فيها اخلالف يف عهد الصحابة‪ ،‬وكان فيها مساغ‬
‫لالجته اد‪ ،‬فالبد أن يك ون اخلالف فيها باقيً ا‪ ،‬ق ال النيب ‪(( :‬إذا حكم‬
‫الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران‪ ،‬وإن اجتهد فأخطأ فله أجر))(‪ .)1‬فهذا‬
‫هو الضابط‪.‬‬
‫مجيعا أن يكون وا أمة واح دة‪ ،‬وأن ال حيصل‬ ‫ف الواجب على املس لمني ً‬
‫بينهم تف رق وحتزب‪ ،‬حبيث يتن احرون فيما بينهم بأس نة األلس ن‪ ،‬ويتع ادون‬
‫ويتباغض ون من أجل اختالف يس وغ فيه االجته اد‪ ،‬ف إهَّن م وإن اختلف وا فيما‬
‫(?) أخرجه البخ اري يف ص حيحه‪ .)7352( :‬ومس لم يف ص حيحه‪(-15[ :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.])1716‬‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫خيتلفون فيه فيما تقتضيه النصوص حسب أفهامهم فإن هذا أمر فيه سعة وهلل‬
‫احلم د‪ ،‬واملهم ائتالف القل وب واحتاد الكلم ة‪ ،‬وال ريب أن أع داء املس لمني‬
‫حيب ون من املس لمني أن يتفرق وا س واءً ك انوا أع داءً يص رحون بالع داوة‪ ،‬أو‬
‫أعداء يتظاهرون بالوالية للمسلمني أو لإلسالم‪ ،‬وهم ليسوا كذلك‪.‬‬

‫‪‬‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫األصل الثالث‬

‫تأم َر علينا ولو كان عب ًدا‬


‫إن من تمام االجتماع السمع والطاعة لمن َّ‬
‫رعا‬
‫ائعا كافيًا بوج وه من أن واع البي ان ش ً‬
‫حبش يًّا‪ ،‬ف بيَّن اهلل ه ذا بيانًا ش ً‬
‫درا ثم ص ار ه ذا األصل ال يع رف عند أك ثر من ي َّدعي العلم فكيف‬ ‫وق ً‬
‫العمل به‪.‬‬

‫الشرح‬

‫قوله‪" :‬إن من تمام االجتماع السمع والطاعة‪...‬إلخ"‪.‬‬


‫ذكر املؤلف ‪-‬رمحه اهلل تع اىل‪ -‬أن من متام االجتم اع الس مع والطاعة‬
‫لوالة األمر بامتث ال ما أم روا ب ه‪ ،‬وت رك ما هَن وا عن ه‪ ،‬ولو ك ان من تأمر علينا‬
‫عبدا حبشيًّا‪.‬‬
‫ً‬
‫شائعا كافيًا‪ ...‬إلخ"‪.‬‬
‫قوله‪" :‬فبين اهلل هذا بيانًا ً‬
‫وسنَّة رسوله ‪:‬‬
‫شرعا‪ :‬ففي كتاب اهلل تعاىل ُ‬
‫أما بيانه ً‬
‫اَأيها الَّ ِذين آمنُ وا ِ‬
‫َأطيعُ وا‬ ‫َ َ‬ ‫فمن بيانه في كتاب اهلل تعالى‪ :‬قوله تعاىل‪ :‬يَ ُّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرس َ ِ‬ ‫ِ‬
‫اَألم ِر م ْن ُكم‪[ ‬النساء‪ ]59:‬اآلية‪ .‬وقوله‪َ  :‬وَأطيعُوا اللَّهَ‬
‫ول َو ُْأولي ْ‬ ‫اللَّهَ َوَأطيعُوا َّ ُ‬
‫ين‪‬‬ ‫اص بِروا ِإ َّن اللَّهَ َم َع َّ ِ‬ ‫ب ِر ُ‬
‫الص اب ِر َ‬ ‫يح ُك ْم َو ْ ُ‬ ‫َو َر ُس ولَهُ َوال َتنَ َازعُوا َفَت ْف َش لُوا َوتَ ْذ َه َ‬
‫[األنفال‪ .]46:‬وقوله‪َ  :‬وا ْعتَ ِص ُموا بِ َح ْب ِل اللَّ ِه َج ِم ًيعا َوال َت َف َّرقُوا‪[ ‬آل عمران‪.]103:‬‬
‫ومن بيانه في ُس نَّة رس ول اهلل ‪ :‬ما ثبت يف الص حيحني من ح ديث‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫عب ادة بن الص امت ‪ ‬ق ال‪(( :‬بايعنا رس ول اهلل ‪ ‬على الس مع والطاعة يف‬
‫منش طنا ومكرهن ا‪ ،‬وعس رنا ويس رنا‪ ،‬وأث رة علين ا‪ ،‬وأن ال نن ازع األمر أهله‬
‫بواحا عندكم من اهلل فيه برهان))(‪.)1‬‬
‫كفرا ً‬
‫قال‪ :‬إال أن تروا ً‬
‫وق ال ‪-‬عليه الص الة والس الم‪(( :-‬من رأى من أم يره ش يًئا فليص بر‪،‬‬
‫شبرا فمات فميتته جاهلية))(‪.)2‬‬
‫فإنه من فارق الجماعة ً‬
‫وقال ‪(( :‬من خلع ي ًدا من الطاعة لقي اهلل يوم القيامة ال حجة له))(‪.)3‬‬
‫وقال‪(( :‬اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي))(‪.)4‬‬
‫وقال ‪-‬عليه الصالة والسالم‪(( :-‬على المرء المسلم السمع والطاعة‬
‫فيما أحب وكره إال أن يؤمر بمعصية‪ ،‬فإذا أمر بمعصية فال سمع وال طاعة))‬

‫(‪ .)5‬متفق عليه‪.‬‬


‫وق ال عبداهلل بن عمر ‪-‬رضي اهلل عنهم ا‪(( :-‬كنا مع النيب ‪ ‬يف س فر‬
‫فنَزلنا مْن زالً فنادى منادي رسول اهلل ‪ :‬الصالة جامعة‪ .‬فاجتمعنا إىل رسول‬
‫حقا عليه أن ي دل أمته على‬ ‫اهلل ‪ ‬فق ال‪ :‬إنه ما من ن بي بعثه اهلل إال ك ان ًّ‬

‫(?) أخرجه البخ اري يف ص حيحه‪ .)7056( :‬ومس لم يف ص حيحه‪(-41[ :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.])1709‬‬
‫(?) أخرجه البخ اري يف ص حيحه‪ .)7054( :‬ومس لم يف ص حيحه‪(-55[ :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.])1849‬‬
‫(?) أخرجه مسلم يف صحيحه‪.])1851(-58[ :‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?) أخرجه البخاري يف صحيحه‪.)7142( :‬‬ ‫‪4‬‬

‫(?) أخرجه البخ اري يف ص حيحه‪ .)7144( :‬ومس لم يف ص حيحه‪(-38[ :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪.])1839‬‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫خ ير ما يعلمه لهم‪ ،‬وين ذرهم شر ما يعلمه لهم‪ ،‬وإن أمتكم ه ذه جعلت‬


‫عافيتها في أوله ا‪ ،‬وسيص يب آخرها بالء وأم ور تنكرونَه ا‪ ،‬وتجيء فتنة‬
‫ضا‪ ،‬تجيء الفتنة فيقول المؤمن‪ :‬هذه مهلكتي‪ .‬وتجيء الفتنة‬ ‫يرقق بعضها بع ً‬
‫فيق ول‪ :‬ه ذه ه ذه‪ .‬فمن أحب أن يزح زح عن الن ار وي دخل الجنة فلتأته‬
‫منيته وهو ي ؤمن باهلل والي وم اآلخ ر‪ ،‬ولي أت إلى الن اس ال ذي يحب أن‬
‫إماما فأعط اه ص فقة ي ده وثم رة قلبه فليطعه إن‬ ‫ي ؤتى إلي ه‪ ،‬ومن ب ايع ً‬
‫استطاع‪ ،‬فإن جاءه آخر ينازعه فاضربوا عنق اآلخر))(‪ )1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫درا‪ :‬فإنه ال خيفى ح ال األمة اإلس المية حني ك انت‬ ‫وأما بيانه ق ً‬
‫متمسكة ب دينها‪ ،‬جمتمعة علي ه‪ ،‬معظمة ل والة أموره ا‪ ،‬منق ادة هلم ب املعروف‪،‬‬
‫َّ ِ‬
‫آمنُوا‬ ‫كانت هلا السيادة والظهور يف األرض‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ  :‬و َع َد اللَّهُ الذ َ‬
‫ين َ‬
‫ين ِم ْن َق ْبلِ ِه ْم‬ ‫ض َكما اس تَ ْخلَ َ َّ ِ‬
‫ف الذ َ‬ ‫اَألر ِ َ ْ‬ ‫َّهم في ْ‬
‫ات لَيس تَ ْخلِ َفن ِ‬
‫ُ‬ ‫ِم ْن ُكم و َع ِملُ وا َّ ِ ِ‬
‫الص ال َح َ ْ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬
‫َّهم م ْن َب ْع ِد َخ ْوفِ ِه ْم َْأمنًا َي ْعبُ ُدونَنِي ال‬ ‫َولَيُ َم ِّكنَ َّن ل َُه ْم ِد َين ُهم الَّ ِذي ْارتَ َ‬
‫ضى ل َُه ْم َولَيُبَ ِّدلَن ُ‬
‫يُ ْش ِر ُكو َن بِي َش ْيًئا َو َم ْن َك َف َر َب ْع َد ذَلِ َك فَ ُْأولَِئ َك ُه ْم الْ َف ِاس ُقو َن‪[ ‬الن ور‪ .]55:‬وقال‬
‫َّاه ْم فِي‬ ‫ين ِإ ْن َم َّكن ُ‬
‫َّ ِ‬
‫ي َع ِزي ٌز الذ َ‬ ‫نص ُرهُ ِإ َّن اللَّهَ لََق ِو ٌّ‬ ‫نص َر َّن اللَّهُ َم ْن يَ ُ‬
‫تع اىل‪َ  :‬ولَيَ ُ‬
‫وف َو َن َه ْوا َعن ال ُْم ْن َك ِر َولِلَّ ِه‬
‫الز َك اةَ وَأم روا بِ الْمعر ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫ََُ‬ ‫الص الةَ َوآَت ْوا َّ‬ ‫ض َأقَ ُاموا َّ‬ ‫اَألر ِ‬
‫ْ‬
‫اُألمو ِر‪[ ‬احلج‪.]41-40:‬‬ ‫ِ‬
‫َعاقبَةُ ُ‬
‫وملا أح دثت األمة اإلس المية ما أح دثت‪ ،‬وفرق وا دينهم‪ ،‬ومتردوا على‬
‫أئمتهم‪ ،‬وخرج وا عليهم‪ ،‬وك انوا ش ًيعا‪ ،‬ن زعت املهابة من قل وب أع دائهم‪،‬‬
‫وتنازعوا ففشلوا وذهبت رحيهم‪ ،‬وتداعت عليهم األمم‪ ،‬وصاروا غثاء كغثاء‬
‫الس يل‪ ،‬وص ار ه ذا األصل ال يع رف عند أك ثر من ي دعي العلم والغ رية على‬

‫(?) أخرجه مسلم يف صحيحه‪.])1844(-46[ :‬‬ ‫‪1‬‬


‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫أمريا أو مِب ْنزلة‬‫دين اهلل‪ ،‬وترك العمل به‪ ،‬ورأى كل فرد من أفراد الرعية نفسه ً‬
‫األمري املنابذ لألمري‪.‬‬
‫مجيعا ‪-‬رع اة ورعي ة‪ -‬أن نق وم مِب ا أوجب اهلل علينا من‬ ‫ف الواجب علينا ً‬
‫التح اب‪ ،‬والتع اون على الرب والتق وى‪ ،‬واالجتم اع على املص احل؛ لنك ون من‬
‫الف ائزين‪ ،‬وعلينا أن جنتمع على احلق‪ ،‬ونتع اون علي ه‪ ،‬وأن خنلص يف مجيع‬
‫إصالحا دينيًّا ودنيويًّا‬‫ً‬ ‫أعمالنا‪ ،‬وأن نسعى هلدف واحد هو إصالح هذه األمة‬
‫بق در ما ميكن‪ ،‬ولن ميكن ذلك حىت تتفق كلمتن ا‪ ،‬ون رتك املنازع ات بيننا‬
‫موجودا‪.‬‬
‫ً‬ ‫مقصودا‪ ،‬وتعدم‬
‫ً‬ ‫واملعارضات اليت ال حتقق هدفًا‪ ،‬بل رمبا تفوت‬
‫إن الكلمة إذا تف رقت‪ ،‬والرعية إذا متردت‪ ،‬دخلت األه واء والض غائن‪،‬‬
‫وصار كل واحد يسعى لتنفيذ كلمته‪ ،‬وإن تبني أن احلق والعدل يف خالفها‪،‬‬
‫وخرجنا عن توجيه ات اهلل تع اىل حيث يق ول‪ :‬ي ُّ َّ ِ‬
‫آمنُ وا َّات ُق وا اللَّهَ‬
‫ين َ‬
‫اَأي َها الذ َ‬‫َ‬
‫ص ُموا بِ َح ْب ِل اللَّ ِه َج ِم ًيعا َوال‬ ‫ح َّق ُت َقاتِ ِه وال تَم وتُ َّن ِإال وَأْنتُم مس لِمو َن وا ْعتَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُْْ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ف َب ْي َن ُقلُ وبِ ُك ْم فَ ْ‬
‫َأص بَ ْحتُ ْم‬ ‫اء فَ َألَّ َ‬‫َت َف َّرقُ وا َواذْ ُك ُروا ن ْع َم ةَ اللَّه َعلَْي ُك ْم ِإ ْذ ُك ْنتُ ْم َأ ْع َد ً‬
‫بِنِ ْع َمتِ ِه ِإ ْخ َوانًا َو ُك ْنتُ ْم َعلَى َش َفا ُح ْف َر ٍة ِم ْن النَّا ِر فََأْن َق َذ ُك ْم ِم ْن َها َك َذلِ َ‬
‫ك ُيَبيِّ ُن اللَّهُ لَ ُك ْم‬
‫آيَاتِِه ل ََعلَّ ُك ْم َت ْهتَ ُدو َن‪[ ‬آل عمران‪.]103:‬‬
‫فإذا عرفت كل واحد ما له وما عليه‪ ،‬وقام به على وفق احلكمة‪ ،‬فإن‬
‫األمور العامة واخلاصة تسري على أحسن نظام وأكمله‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫‪‬‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫األصل الرابع‬

‫بي ان العلم والعلم اء‪ ،‬والفقه والفقه اء‪ ،‬وبي ان من تش به بِهم وليس‬
‫منهم‪ ،‬وقد بيَّن اهلل ه ذا األصل في أول س ورة البق رة من قول ه‪ :‬يَ ابَنِي‬
‫ُأوف بِ َع ْه ِد ُك ْم‪[ ‬البقرة‪:‬‬ ‫ت علَي ُكم وَأوفُوا بِعه ِدي ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِإ ِئ‬
‫َْ‬ ‫يل اذْ ُك ُروا ن ْع َمتي الَّتي َأْن َع ْم ُ َ ْ ْ َ ْ‬
‫ْس َرا َ‬
‫يل اذْ ُك ُروا نِ ْع َمتِي الَّتِي َأْن َع ْم ُ‬
‫ت َعلَْي ُك ْم َوَأنِّي فَ َّ‬
‫ضلْتُ ُك ْم‬ ‫ِ ِإ ِئ‬
‫‪ .]40‬إلى قوله‪ :‬يَابَني ْس َرا َ‬
‫الس نَّة في ه ذا‬ ‫وحا ما ص رحت به ُّ‬ ‫ِ‬
‫ين‪[ ‬البق رة‪ .]47:‬ويزي ده وض ً‬ ‫َعلَى ال َْع الَم َ‬
‫الكالم الكثير البين الواضح للعامي البليد‪ ،‬ثم صار هذا أغرب األشياء‪،‬‬
‫وص ار العلم والفقه هو الب دع والض الالت‪ ،‬وخي ار ما عن دهم لبس الحق‬
‫وم َد َحه ال يتف َّوه‬ ‫بالباطل‪ ،‬وصار العلم ال ذي فرضه اهلل تع الى على الخلق َ‬
‫به إال زنديق أو مجنون‪ ،‬وصار من أنكره وعاداه وص نَّف في التحذير منه‬
‫والنَّهي عنه هو الفقيه العالِم‪.‬‬

‫الشرح‬

‫قوله‪" :‬بيان العلم والعلماء‪ ،‬والفقه والفقهاء‪ ...‬إلخ"‪.‬‬


‫المراد بالعلم هنا‪ :‬العلم الشرعي‪ ،‬وهو‪" :‬علم ما أنزل اهلل على رسوله‬
‫من البينات واهلدى"‪.‬‬
‫والعلم ال ذي فيه الم دح والثن اء‪ :‬هو علم الش رع‪ ،‬علم ما أنزله اهلل‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫َّ ِ‬
‫على رس وله ‪ ‬من الكت اب واحلكم ة‪ ،‬ق ال اهلل تع اىل‪ :‬قُ ْل َه ْل يَ ْس تَ ِوي الذ َ‬
‫ين‬
‫اب‪[ ‬الزم ر‪ .]9:‬وقال النيب ‪:‬‬ ‫ين ال َي ْعلَ ُم و َن ِإنَّ َما َيتَ َذ َّكر ُْأولُوا اَأللْبَ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ُ‬ ‫َي ْعلَ ُم و َن َوالذ َ‬
‫((من ي رد اهلل به خ ًيرا يفقهه في ال دين))(‪ .)1‬وق ال النيب ‪(( :‬إن األنبي اء لم‬
‫درهم ا‪ ،‬إنما ورثوا العلم‪ ،‬فمن أخذه أخذ بحظ وافر))(‪.)2‬‬ ‫دينارا وال ً‬‫يورثوا ً‬
‫ومن املعل وم أن ال ذي ورثه األنبي اء إمنا هو علم الش ريعة‪ ،‬ومع ه ذا فنحن ال‬
‫ننكر أن يكون للعلوم األخرى فائدة‪ ،‬ولكنها فائدة ذات حدين‪ :‬إن أعانت‬
‫على طاعة اهلل‪ ،‬وعلى نصر دين اهلل‪ ،‬وانتفع هِب ا عب اد اهلل ك انت خ ًريا‬
‫ومصلحة‪ ،‬وقد ذكر بعض أهل العلم أن تعلم الصناعات فرض كفاية‪ ،‬وهذا‬
‫حمل نظر ونزاع‪.‬‬
‫وعلى كل حال فالعلم الذي ورد الثناء فيه وعلى طالبيه هو فقه كتاب‬
‫وس نَّة رس وله ‪ ،‬وما ع دا ذلك ف إن ك ان وس يلة إىل خري فهو خ ري‪ ،‬وإن‬ ‫اهلل ُ‬
‫كان وسيلة إىل شر فهو شر‪ ،‬وإن مل يكن وسيلة هلذا وهذا فهو ضياع وقت‬
‫ولغو‪.‬‬
‫والعلم له فضائل كثيرة‪:‬‬
‫منه ا‪ :‬أن اهلل يرفع أهل العلم يف اآلخ رة ويف ال دنيا‪ ،‬أما يف اآلخ رة ف إن‬
‫اهلل يرفعهم درجات حبسب ما قاموا به من الدعوة إىل اهلل والعمل مبا علموا‪،‬‬
‫ويف ال دنيا ي رفعهم اهلل بني عب اده حبسب ما ق اموا ب ه‪ ،‬ق ال اهلل تع اىل‪َ  :‬ي ْرفَع‬

‫(?) أخرجه البخ اري يف ص حيحه‪ .)71( :‬ومس لم يف ص حيحه‪(-175[ :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.])1923‬‬
‫(?) أخرجه الرتم ذي يف س ننه‪ .)2691( :‬وأخرجه أبو داود‪ .)3641( :‬أخرجه‬ ‫‪2‬‬

‫ابن ماجه‪ .)223( :‬وصححه العالمة األلباين يف "صحيح ابن ماجه"‪.)182( :‬‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫اللَّهُ الَّ ِذين آمنُوا ِم ْن ُكم والَّ ِذين ُأوتُوا ال ِْعلْم َدرج ٍ‬
‫ات‪[ ‬اجملادلة‪.]11:‬‬ ‫َ ََ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ َ‬
‫ومنه ا‪ :‬أنه إرث النيب ‪ ،‬كما ق ال النيب ‪(( :‬إن األنبي اء لم يورث وا‬
‫درهما‪ ،‬إنما ورثوا العلم‪ ،‬فمن أخذه أخذ بحظ وافر))(‪.)1‬‬ ‫دينارا وال ً‬ ‫ً‬
‫ومنها‪ :‬أنه مما يبقى لإلنسان بعد مماته‪ ،‬فقد ثبت يف احلديث أن النيب ‪‬‬
‫ق ال‪(( :‬إذا م ات العبد انقطع عمله إال من ثالث‪ :‬ص دقة جاري ة‪ ،‬أو علم‬
‫ينتفع به‪ ،‬أو ولد صالح))(‪.)2‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الرس ول ‪ ‬مل ي رغب أح ًدا أن يغبط أح ًدا على ش يء من‬
‫النعم إال على نعمتني مها‪:‬‬
‫‪ -1‬طلب العلم والعمل به‪.‬‬
‫‪ -2‬الغين الذي جعل ماله خدمة لإلسالم‪.‬‬
‫فعن عبداهلل بن مسعود ‪ ‬قال رسول اهلل ‪(( :‬ال حسد إال في اثنتين‪:‬‬
‫رجل آت اه اهلل م االً فس لطه على هلكته في الح ق‪ ،‬ورجل آت اه اهلل حكمة‬
‫فهو يقضي بِها ويعلمها))(‪.)3‬‬
‫ومنها‪ :‬أن العلم نور يستضيء به العبد فيعرف كيف يعبد ربه‪ ،‬وكيف‬
‫يعامل غريه‪ ،‬فتكون مسريته يف ذلك على علم وبصرية‪.‬‬
‫ومنه ا‪ :‬أن الع امل ن ور يهت دي به الن اس يف أم ور دينهم ودني اهم‪ ،‬وال‬

‫(?) التخريج السابق‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) أخرجه مسلم يف صحيحه‪.])1631(-14[ :‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?) أخرجه البخ اري يف ص حيحه‪ .)73( :‬ومس لم يف ص حيحه‪(-268[ :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪.])716‬‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫خيفى على كثري من الن اس قصة الرجل ال ذي من بين إس رائيل قتل تس ًعا‬
‫عابدا هل له من توبة‪ .‬فكأن العابد استعظم األمر‬ ‫نفسا‪ ،‬فسأل رجالً ً‬ ‫وتسعني ً‬
‫فق ال‪ :‬ال‪ .‬فقتله الس ائل ف أمت به املائ ة‪ ،‬مث ذهب إىل ع امل فس أله ف أخربه أن له‬
‫توب ة‪ ،‬وأنه ال ش يء حيول بينه وبني التوب ة‪ ،‬مث دله على بلد أهله ص احلون؛‬
‫ليخ رج إلي ه‪ ،‬فخ رج فأت اه املوت يف أثن اء الطري ق‪ ،‬والقصة مش هورة ف انظر‬
‫الفرق بني العامل واجلاهل‪.‬‬
‫إذا ت بني ذلك فالبد من معرفة من هم العلم اء حقًّا ‪-‬هم الرب انيون‬
‫الذين يربون الناس على شريعة رهِّب م‪ -‬حىت يتميز هؤالء الربانيون عمن تشبه‬
‫هِب م وليس منهم‪ ،‬يتش به هِب م يف املظهر واملنظر واملق ال والفع ال‪ ،‬لكنه ليس‬
‫منهم يف النصيحة للخلق وإرادة احلق‪ ،‬فخيار ما عنده أن يلبس احلق بالباطل‪،‬‬
‫ويصوغه بعبارات مزخرفة‪ ،‬حيسبه الظمآن ماء حىت إذا جاءه مل جيده شيًئا‪،‬‬
‫بل هو الب دع والض الالت ال ذي يظنه بعض الن اس هو العلم والفق ه‪ ،‬وأن ما‬
‫سواه ال يتفوه به إال زنديق أو جمنون‪.‬‬
‫ه ذا معىن كالم املؤلف ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬وكأنه يشري إىل أئمة أهل الب دع‬
‫الس نَّة مبا هم بريئ ون من ه؛ ليص دوا الن اس عن‬ ‫املض لني‪ ،‬ال ذين يلم زون أهل ُّ‬
‫األخذ منهم‪ ،‬وهذا إرث الذين طغوا من قبلهم‪ ،‬وكذبوا الرسل‪ ،‬كما قال اهلل‬
‫ول ِإال قَ الُوا َس ِاح ٌر َْأو َم ْجنُ و ٌن‪‬‬
‫ك َما َأتَى الَّ ِذين ِم ْن َق ْبلِ ِهم ِم ْن ر ُس ٍ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫تع اىل‪َ  :‬ك َذلِ َ‬
‫اص ْوا بِ ِه بَ ْل ُه ْم َق ْو ٌم طَاغُو َن‪[ ‬الذاريات‪.]53:‬‬
‫[الذاريات‪ .]52:‬قال اهلل تعاىل‪َ :‬أَت َو َ‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫‪‬‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫األصل الخامس‬

‫بيان اهلل سبحانه ألولياء اهلل‪ ،‬وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بِهم من‬
‫أع داء اهلل المن افقين والفج ار‪ ،‬ويكفي في ه ذا آية من س ورة آل عم ران‬
‫ِ‬
‫حبِ ْب ُكم اللَّهُ‪[ ‬آل عم ران‪]31:‬‬ ‫وهي قول ه‪ :‬قُ ْل ِإ ْن ُك ْنتُ ْم تُحبُّو َن اللَّهَ فَ اتَّبِعُونِي يُ ْ‬
‫آمنُ وا َم ْن َي ْرتَ َّد ِم ْن ُك ْم‬
‫ين َ‬
‫اآلية‪ .‬وآية في سورة المائدة‪ ،‬وهي قوله‪ :‬ي ُّ َّ ِ‬
‫اَأي َها الذ َ‬‫َ‬
‫ف يَ ْأتِي اللَّهُ بَِق ْوٍم يُ ِحُّب ُه ْم َويُ ِحبُّونَ هُ‪[ ‬املائ دة‪ ]54:‬اآلية‪ .‬وآية في‬ ‫َع ْن ِدينِ ِه فَ َس ْو َ‬
‫اء اللَّ ِه ال َخ ْو ٌ‬ ‫ِ‬
‫ف َعلَْي ِه ْم َوال ُه ْم يَ ْح َزنُ و َن‬ ‫ي ونس‪ ،‬وهي قول ه‪َ :‬أال ِإ َّن َْأوليَ َ‬
‫آمنُ وا َو َك انُوا َيَّت ُق و َن‪[ ‬ي ونس‪ .]63-62:‬ثم ص ار األمر عند أك ثر من‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َ‬ ‫الذ َ‬
‫ي دعي العلم‪ ،‬وأنه من ه داة الخلق وحف اظ الش رع إلى أن األولي اء البد‬
‫فيهم من ت رك اتب اع الرسل ومن تبعهم‪ ،‬فليس منهم والبد من ت رك‬
‫الجه اد‪ ،‬فمن جاهد فليس منهم‪ ،‬والبد من ت رك اإليْ َم ان والتق وى‪ ،‬فمن‬
‫تعهد باإليْم ان والتق وى فليس منهم‪ ،‬يا ربنا نس ألك العفو والعافية إنك‬
‫سميع الدعاء‪.‬‬

‫الشرح‬

‫قوله‪" :‬بيان اهلل سبحانه ألولياء اهلل‪ ...‬إلخ"‪.‬‬


‫أولياء اهلل تعالى‪ :‬هم الذين آمنوا به‪ ،‬واتقوه‪ ،‬واستقاموا على دينه‪ ،‬وهم‬
‫اء اللَّ ِه ال َخ ْو ٌ‬ ‫ِ‬
‫ف َعلَْي ِه ْم َوال ُه ْم يَ ْح َزنُو َن‬ ‫من وصفهم اهلل تعاىل بقوله‪َ :‬أال ِإ َّن َْأوليَ َ‬
‫آمنُ وا َو َك انُوا َيَّت ُق و َن‪[ ‬ي ونس‪ .]63-62:‬فليس كل من ي دعي الوالية‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َ‬
‫الذ َ‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫يك ون وليًّا‪ ،‬وإال لك ان كل واحد ي دعيها‪ ،‬ولكن ي وزن ه ذا املدعي للوالية‬


‫بعمل ه‪ ،‬إن ك ان عمله مبنيًّا على اإلمْيَان والتق وى فإنه ويل‪ ،‬وإال فليس ب ويل‪،‬‬
‫ويف دع واه الوالية تزكية لنفس ه‪ ،‬وذلك ين ايف تق وى اهلل ‪‬؛ ألن اهلل تع اىل‬
‫يقول‪ :‬فَال ُت َز ُّكوا َأن ُف َس ُك ْم ُه َو َأ ْعلَ ُم بِ َم ْن َّات َقى‪[ ‬النجم‪ .]32 :‬فإذا ادعى أنه من‬
‫واقعا يف معصية اهلل‪ ،‬وفيما هَن اه اهلل‬
‫أولياء اهلل فقد زكى نفسه‪ ،‬وحينئذ يكون ً‬
‫عنه‪ ،‬وهذا ينايف التقوى‪ ،‬فأولياء اهلل ال يزكون أنفسهم مبثل هذه الشهادة‪،‬‬
‫وإمنا هم يؤمن ون باهلل ويتقون ه‪ ،‬ويقوم ون بطاعته ‪ ‬على الوجه األكم ل‪ ،‬وال‬
‫يغرون الناس وخيدعوهَن م هِب ذه الدعوى حىت يضلوهم عن سبيل اهلل تعاىل‪.‬‬
‫يادا‪ ،‬وأحيانًا أولي اء‪ ،‬لو تأمل‬
‫فه ؤالء ال ذين ي دعون أنفس هم أحيانًا أس ً‬
‫اإلنس ان ما هم عليه لوج دهم أبعد ما يكون ون عن الوالية والس يادة‪ ،‬فنص يحيت‬
‫إلخ واين املس لمني أن ال يغ رتوا مبدعي الوالية حىت يقيس وا حاله مبا ج اء يف‬
‫النصوص يف أوصاف أولياء اهلل‪.‬‬
‫وقد أش ار الش يخ ‪-‬رمحه اهلل تع اىل‪ -‬إىل عالمة حمبة اهلل وواليته مبا س اقه‬
‫من اآليات‪:‬‬
‫اآلية األولى‪ :‬قوله تع اىل يف آل عم ران‪ :‬قُ ْل ِإ ْن ُكْنتُ ْم تُ ِحبُّو َن اللََّه فَ اتَِّب ُعونِي‬
‫يُ ْحِبْب ُك ْم اللَّهُ‪[ ‬آل عمران‪ .]31 :‬وهذه اآلية تسمى آية احملنة ‪-‬أي‪ :‬االمتحان‪ -‬حيث‬
‫ادعى ق وم حمبة اهلل تع اىل‪ ،‬ف أنزل اهلل ه ذه اآلي ة‪ ،‬فمن ادعى حمبة اهلل تع اىل نظرنا‬
‫متبعا لرس ول اهلل ‪-‬ص لى اهلل عليه وعلى آله وس لم‪ -‬فهو‬ ‫يف عمل ه‪ ،‬ف إن ك ان ً‬
‫صادق‪ ،‬وإال فهو كاذب‪.‬‬
‫آمنُوا َم ْن َيْرتَ َّد ِمْن ُك ْم َع ْن ِد ِين ِه‬ ‫َّ ِ‬
‫اآلية الثانية‪ :‬قوله تعاىل يف املائدة‪ :‬يَا َُّأيَها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫ف يَْأتِي اللَُّه بَِق ْوٍم يُ ِحُّبُه ْم َويُ ِحبُّونَ ُه‪[ ‬املائدة‪ ]54:‬اآليتني‪ .‬فوصفهم بأوصاف هي‬
‫فَ َسْو َ‬
‫عالمة احملبة ومثراهُت ا‪:‬‬
‫الوصف األول‪ :‬أهَّنم أذلة على املؤمنني فال حياربوهَن م‪ ،‬وال يقفون ضدهم‪،‬‬
‫وال ينابذوهَن م‪.‬‬
‫الوصف الث اني‪ :‬أهَّن م أع زة على الك افرين ‪-‬أي‪ :‬أقوي اء عليهم غ البون‬
‫هلم‪.-‬‬
‫الوصف الثالث‪ :‬أهَّن م جياهدون يف سبيل اهلل ‪-‬أي‪ :‬يبذلون اجلهد يف قتال‬
‫أعداء اهلل؛ لتكون كلمة اهلل هي العليا‪.-‬‬
‫الوصف الراب ع‪ :‬أهَّن م ال خيافون يف اهلل لومة الئم‪- .‬أي‪ :‬إذا المهم أحد‬
‫على ما قاموا به من دين اهلل مل خيافوا لومته‪ ،‬ومل مينعهم ذلك من القيام بدين اهلل‬
‫‪.-‬‬
‫اء اللَّ ِه ال َخ ْو ٌ‬ ‫ِ‬
‫ف َعلَْي ِه ْم َوال‬ ‫اآلية الثالثة‪ :‬قوله تعاىل يف يونس‪َ :‬أال ِإ َّن َْأوليَ َ‬
‫آمنُوا َو َكانُوا َيَّت ُقو َن‪[ ‬يونس‪ .]63-62:‬فبني اهلل تعاىل أن‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َ‬
‫الذ َ‬ ‫ُه ْم يَ ْح َزنُو َن‬
‫أولياء اهلل تعاىل هم الذين اتصفوا هِب ذين الوصفني‪ :‬اإلمْيَان‪ ،‬والتقوى‪ .‬فاإلمْيَان‬
‫ب القلب‪ ،‬والتق وى ب اجلوارح‪ ،‬فمن ادعى الوالية ومل يتصف هِب ذين الوص فني‬
‫فهو كاذب‪.‬‬
‫مث إن الشيخ ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬بني أن األمر صار على العكس عند أكثر من‬
‫ي دعي العلم‪ ،‬وأنه من ه داة اخللق وحف اظ الش رع‪ ،‬ف الويل عن ده من ال يتبع‬
‫الرسل‪ ،‬وال جياهد يف سبيل اهلل‪ ،‬وال يؤمن به‪ ،‬وال يتقيه‪.‬‬
‫وحيسن بنا أن ننقل هنا ما كتبه ش يخ اإلس الم بن تيمية ‪-‬رمحه اهلل‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫تع اىل‪ -‬يف رس الته‪" :‬الفرق ان بين أولي اء ال رحمن وأولي اء الش يطان" ونس وق ما‬
‫تيسر منها‪:‬‬
‫وس نَّة رس وله ‪ ‬أن هلل أولي اء من‬
‫ق ال ‪-‬رمحه اهلل‪" :-‬وقد بني ‪ ‬يف كتابه ُ‬
‫الناس‪ ،‬وللشيطان أولياء‪ ،‬ففرق بني أولياء الرمحن وأولياء الشيطان‪ ،‬فقال تعاىل‪َ :‬أال‬
‫ل َُه ْم‬ ‫آمنُوا َو َك انُوا َيَّتُق و َن‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫الذ َ‬ ‫ِإ َّن َْأولَِي َاء اللَِّه ال َخْو ٌ‬
‫ف َعَلْي ِه ْم َوال ُه ْم يَ ْحَزنُو َن‬
‫ات اللَِّه َذلِ َك ُه َو اْلَف ْو ُز الَْع ِظ ُيم‪‬‬ ‫اآلخ رِة ال َتْب ِديل لِ َكِلم ِ‬‫ِ ِ‬ ‫الْب ْش رى ِفي ال ِ‬
‫َ َ‬ ‫ْحَي اة ال ُّدْنَيا َوفي َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫اس َتِع ْذ بِاللَِّه‬
‫ت اْلُق ْرآ َن فَ ْ‬ ‫[يونس‪ .]64-62 :‬وذكر أولياء الشيطان‪ ،‬فقال تعاىل‪ :‬فَِإ َذا َق َرْأ َ‬
‫آمنُ وا َو َعَلى َربِِّه ْم َيَتَو َّكلُ و َن‬ ‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫س لَ ُه ُس ْلطَا ٌن َعَلى الذ َ‬ ‫نَُّه لَْي َ‬
‫ِإ‬ ‫ان ال َّر ِج ِيم‬ ‫ِمن َّ‬
‫الش ْيطَ ِ‬
‫ِإنََّما ُسْلطَانُُه َعَلى الَّ ِذ َين َيَتَولَّْونَُه َوالَّ ِذ َين ُه ْم بِِه ُم ْش ِر ُكو َن‪[ ‬النحل‪.]100-98:‬‬
‫فيجب أن يفرق بني هؤالء وهؤالء كما فرق اهلل ورسوله بينهما‪ ،‬فأولياء‬
‫اهلل هم املؤمن ون املتق ون‪ ...‬وهم ال ذين آمن وا به ووال وه‪ ،‬ف أحبوا ما حيب‪،‬‬
‫وأبغضوا ما يبغض‪ ،‬ورضوا مبا يرضى‪ ،‬وسخطوا مبا يسخط‪ ،‬وأمروا مبا يأمر‪،‬‬
‫وهَن وا عما هَن ى‪ ،‬وأعطوا من حيب أن يعطى‪ ،‬ومنعوا من حيب أن مينع‪..‬‬
‫وظاهرا‪ ،‬ومن‬ ‫ً‬ ‫باطنا‬
‫فال يكون وليًّا هلل إال من آمن به‪ ،‬ومبا جاء به‪ ،‬واتبعه ً‬
‫ادعى حمبة اهلل وواليته وهو مل يتبعه ‪-‬أي‪ :‬الرسول‪ -‬فليس من أولياء اهلل‪ ،‬بل من‬
‫خالفه كان من أعداء اهلل وأولياء الشيطان‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬قُ ْل ِإ ْن ُكْنتُ ْم تُ ِحبُّو َن اللََّه‬
‫فَاتَِّب ُعونِي يُ ْحِبْب ُكم اللَُّه‪[ ‬آل عمران‪.]31:‬‬
‫فالن اس متفاض لون يف والية اهلل ‪ ‬حبسب تفاض لهم يف اإلمْيَان والتق وى‪،‬‬
‫وك ذلك يتفاض لون يف ع داوة اهلل حبسب تفاض لهم يف الكفر والنف اق‪ ..‬وأولي اء‬
‫اهلل على طبق تني‪ :‬س ابقون مقرب ون‪ ،‬وأص حاب ميني مقتص دون‪ ،‬ذك رهم اهلل يف‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫ع دة مواضع من كتابه العزيز يف أول س ورة الواقعة وآخره ا‪ ،‬ويف اإلنس ان‪،‬‬
‫عظيما‪ ،‬وأولياء‬
‫ال ً‬ ‫واملطففني‪ ،‬ويف سورة فاطر‪ ....‬واجلنة درجات متفاضلة تفاض ً‬
‫اهلل املؤمنون املتقون يف تلك الدرجات حبسب إمْيَاهِن م وتقواهم‪.‬‬
‫فمن مل يتق رب إىل اهلل‪ ،‬ال يفعل احلس نات‪ ،‬وال ي رتك الس يئات‪ ،‬مل يكن‬
‫من أولي اء اهلل‪ ،‬فال جيوز ألحد أن يعتقد أنه ويل هلل‪ ،‬الس يما أن تك ون حمجته‬
‫على ذلك إما مكاش فة مسعها من ه‪ ،‬أو ن وع من تص رف‪ ...‬فال جيوز ألحد أن‬
‫يستدل مبجرد ذلك على كون الشخص وليًّا هلل وإن مل يعلم منه ما ينقص والية‬
‫اهلل‪ ،‬فكيف إذا علم منه ما يناقض والية اهلل؟! مثل أن يعلم أنه ال يعتقد وجوب‬
‫اهرا‪ ،‬بل يعتقد أنه يتبع الش رع الظ اهر دون احلقيقة‬ ‫اتب اع النيب ‪ً ‬‬
‫باطنا وظ ً‬
‫الباطن ة‪ ،‬أو يعتقد أن ألولي اء اهلل طريًقا إىل اهلل غري طريق األنبي اء ‪-‬عليهم‬
‫الس الم‪ ...-‬فعلى ه ذا فمن أظهر الوالية وهو ال ي ؤدي الف رائض‪ ،‬وال جيتنب‬
‫احملارم‪ ،‬بل قد ي أيت مبا ين اقض ذلك مل يكن ألحد أن يق ول‪ :‬ه ذا ويل هلل‪...‬‬
‫وليس ألولياء اهلل شيء يتميزون به عن الناس يف الظاهر من األمور املباحات‪...‬‬
‫معصوما ال يغلط وال خيطئ‪ ،‬بل جيوز‬‫ً‬ ‫وليس من شرط ويل اهلل أن يكون‬
‫أن خيفى عليه بعض علم الش ريعة‪ ،‬وجيوز أن يش تبه عليه بعض أم ور ال دين‪...‬‬
‫وهلذا ملا ك ان ويل اهلل جيوز أن يغلط مل جيب على الن اس اإلمْيَان جبميع ما يقوله‬
‫من هو ويل هلل؛ لئال يك ون نبيًّا‪ ...‬بل جيب أن يع رض ذلك مجيعه على ما ج اء‬
‫به حممد ‪ ،‬ف إن وافقه قبل ه‪ ،‬وإن خالفه مل يقبل ه‪ ،‬وإن مل يعلم أموافق هو أم‬
‫خمالف؟ توقف فيه‪.‬‬
‫والناس في هذا الباب ثالثة أصناف‪ :‬طرفان‪ ،‬ووسط‪.‬‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫فمنهم من إذا اعتقد يف ش خص أنه ويل هلل وافقه يف كل ما يظن أنه‬


‫حدث به قلبه عن ربه‪ ،‬وسلم إليه مجيع ما يفعله‪.‬‬
‫ومنهم من إذا رآه قد ق ال أو فعل ما ليس مبوافق للش رع أخرجه عن‬
‫جمتهدا خمطًئا‪.‬‬
‫والية اهلل بالكلية وإن كان ً‬
‫مأثوما إذا ك ان‬
‫وما وال ً‬‫وخي ار األم ور أوس اطها‪ :‬وهو أن ال جيعل معص ً‬
‫جمته ًدا خمطًئا‪ ،‬فال يتبع يف كل ما يقول ه‪ ،‬وال حيكم عليه ب الكفر والفسق مع‬
‫اجتهاده‪ ،‬والواجب على الناس اتباع ما بعث اهلل به رسوله‪...‬‬
‫وقد اتفق س لف األمة وأئمتها على أن كل واحد يؤخذ من قوله وي رتك‬
‫إال رسول اهلل ‪ ،‬وهذا من الفروق بني األنبياء وغريهم‪ ،‬فاألنبياء ‪-‬صلوات اهلل‬
‫عليهم وسالمه‪ -‬جيب هلم اإلمْي ان جبميع ما خيربون به عن اهلل ‪ ،‬وجتب طاعتهم‬
‫فيما ي أمرون ب ه‪ ،‬خبالف األولي اء ف إهَّن م ال جتب ط اعتهم يف كل ما ي أمرون ب ه‪،‬‬
‫والسنَّة‪،‬‬
‫وال اإلمْي ان جبميع ما خيربون به‪ ،‬بل يعرض أمرهم وخربهم على الكتاب ُّ‬
‫مردودا‪،‬‬
‫ً‬ ‫والسنَّة كان‬
‫والسنَّة وجب قبوله‪ ،‬وما خالف الكتاب ُّ‬ ‫فما وافق الكتاب ُّ‬
‫ذورا فيما قال ه‪ ،‬له أجر على‬
‫وإن ك ان ص احبه من أولي اء اهلل وك ان جمته ًدا مع ً‬
‫والسنَّة كان خمطًئا‪ ،‬وكان من اخلطأ املغفور إذا‬
‫اجتهاده‪ ،‬لكنه إذا خالف الكتاب ُّ‬
‫كان صاحبه قد اتقى اهلل ما استطاع‪...‬‬
‫وه ذا ال ذي ذكرته من أن أولي اء اهلل جيب عليهم االعتص ام بالكت اب‬
‫والسنَّة‪ ،‬وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغريه اتباع ما يقع يف قلبه من غري‬
‫ُّ‬
‫والسنَّة هو مما اتفق عليه أولياء اهلل ‪ ،‬ومن خالف يف هذا فليس‬
‫اعتبار بالكتاب ُّ‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫كافرا‪ ،‬وإما أن‬


‫من أولياء اهلل سبحانه الذين أمر اهلل باتباعهم‪ ،‬بل إما أن يكون ً‬
‫يكون مفرطًا يف اجلهل‪...‬‬
‫وكثري من الناس يغلط يف هذا املوضع فيظن يف شخص أنه ويل هلل‪ ،‬ويظن‬
‫أن ويل اهلل يقبل منه كل ما يقول ه‪ ،‬ويس لم إليه كل ما يقوله ويس لم إليه كل ما‬
‫والس نَّة‪ ،‬فيوافق ذلك ل ه‪ ،‬وخيالف ما بعث اهلل به‬ ‫يفعله وإن خ الف الكت اب ُّ‬
‫رس وله ال ذي ف رض اهلل على مجيع اخللق تص ديقه فيما أخ رب‪ ،‬وطاعته فيما أم ر‪،‬‬
‫وجعله الف ارق بني أوليائه وأعدائ ه‪ ،‬وبني أهل اجلنة وأهل الن ار‪ ،‬وبني الس عداء‬
‫واألشقياء‪ ،‬فمن اتبعه كان من أولياء اهلل املتقني وجنده املفلحني وعباده الصاحلني‪،‬‬
‫ومن مل يتبعه ك ان من أع داء اهلل اخلاس رين اجملرمني‪ ،‬فتج ره خمالفة الرس ول‬
‫وآخرا إىل الكفر والنفاق‪...‬‬
‫وموافقة ذلك الشخص أو ًال إىل البدعة والضالل‪ً ،‬‬
‫وجتد كث ًريا من ه ؤالء عم دهُت م يف اعتق اد كونه وليًّا هلل أنه قد ص در عنه‬
‫مكاش فة يف بعض األم ور‪ ،‬أو بعض التص رفات اخلارقة للع ادة‪ ..‬وليس يف ش يء‬
‫من هذه األمور ما يدل على أن صاحبها ويل هلل‪ ،‬بل قد اتفق أولياء اهلل على أن‬
‫الرجل لو ط ار يف اهلواء‪ ،‬أو مشى على املاء مل يغرت به حىت ينظر متابعته لرس ول‬
‫اهلل ‪ ،‬وموافقته ألمره وهَن يه‪ ..‬وكرامات أولياء اهلل تعاىل أعظم من هذه األمور‪.‬‬
‫عدوا‬
‫وهذه األمور اخلارقة للعادة وإن كان صاحبها وليًّا هلل‪ ،‬فقد يكون ًّ‬
‫هلل ف إن ه ذه اخلوارق تك ون لكثري من الكف ار واملش ركني وأهل الكت اب‬
‫واملن افقني‪ ،‬وتك ون ألهل الب دع‪ ،‬وتك ون من الش ياطني‪ ،‬فال جيوز أن يظن كل‬
‫من ك ان له ش يء من ه ذه األم ور أنه ويل هلل‪ ،‬بل يعترب أولي اء اهلل بص فاهِت م‬
‫والسنَّة‪ ،‬ويعرفون بنور اإلمْيَان والقرآن‬
‫وأفعاهلم وأحواهلم اليت دل عليها الكتاب ُّ‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫وحبقائق اإلمْي ان الباطنة وشرائع اإلسالم الظاهرة‪...‬‬


‫وقد اتفق س لف األمة وأئمتها وس ائر أولي اء اهلل تع اىل على أن األنبي اء‬
‫أفضل من األولياء الذين ليسوا بأنبياء‪ ،‬وقد رتب اهلل عباده السعداء املنعم عليهم‬
‫ين َأْنَع َم اللَّ ُه‬ ‫َّ ِ‬ ‫ول فَ ُْأولَِئ َ‬
‫ك َم َع الذ َ‬ ‫"أربع مراتب"‪ ،‬فقال اهلل تعاىل‪َ  :‬وَم ْن يُ ِطع اللََّه َو َّ‬
‫الر ُس َ‬
‫الص الِ ِح َين َو َح ُس َن ُْأولَِئ َك َرِفيًقا‪[ ‬النس اء‪...]69:‬‬ ‫الش َه َد ِاء َو َّ‬
‫ين َو ُّ‬ ‫َعَلي ِهم ِمن النَِّبيِّين و ِّ ِ‬
‫الص دِّيق َ‬ ‫ْ ْ ْ ََ‬
‫وهلم الكرامات اليت يكرم اهلل هِب ا أولياءه املتقني‪ ،‬وخيار أولياء اهلل كرام اهُت م حلجة‬
‫يف الدين‪ ،‬أو حلاجة باملسلمني كما كانت معجزات نبيهم ‪ ‬كذلك‪ ،‬وكرامات‬
‫أولي اء اهلل إمنا حص لت بربكة اتب اع رس ول اهلل ‪ ،‬فهي يف احلقيقة ت دخل يف‬
‫معجزات الرسول ‪...‬‬
‫ومما ينبغي أن يع رف أن الكرام ات قد تك ون حبسب حاجة الرج ل‪ ،‬ف إذا‬
‫احتاج إليها لضعف اإلمْيَان‪ ،‬أو احملتاج أتاه منها ما يقوى إمْيَانه‪ ،‬ويسد حاجته‪،‬‬
‫تغنيا عن ذل ك‪ ،‬فال يأتيه مثل ذلك لعلو‬
‫ويك ون من هو أكمل والية هلل منه مس ً‬
‫درجته وغناه عنها‪ ،‬ال لنقص واليته؛ وهلذا كانت هذه األمور يف التابعني أكثر‬
‫منها يف الص حابة‪ ،‬خبالف من جيري على يديه اخلوارق هلدى اخللق وحلاجتهم‪،‬‬
‫فهؤالء أعظم درجة‪...‬‬
‫والناس في خوارق العادات على ثالثة أقسام‪:‬‬
‫ال‪ ،‬وكذب ما‬
‫قسم يكذب بوجود ذلك لغري األنبياء‪ ،‬ورمبا صدق به جمم ً‬
‫يذكر له عن كثري من الناس؛ لكونه عنده ليس من األولياء‪.‬‬
‫ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان وليًّا هلل‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫وكال األم رين خط أ‪ ...‬وهلذا جتد أن ه ؤالء ي ذكرون أن للمش ركني وأهل‬
‫الكت اب نص راء يعين وهَن م على قت ال املس لمني‪ ،‬وأهَّن م من أولي اء اهلل‪ ،‬وأولئك‬
‫يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة‪.‬‬
‫والصواب القول الثالث‪ :‬وهو أن معهم من ينصرهم من جنسهم‪ ،‬ال‬
‫من أولياء اهلل ‪.‬‬
‫وفيما نقل كفاية إن ش اء اهلل تع اىل‪ ،‬ومن أراد املزيد فل ريجع إىل‬
‫األصل‪ ،‬واهلل املوفق‪.‬‬

‫‪‬‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫األصل السادس‬

‫والس نَّة واتب اع‬ ‫رد الش بهة ال تي وض عها الش يطان في ت رك الق رآن ُّ‬
‫والس نَّة ال يعرفهما‬ ‫اآلراء واأله واء المتفرقة المختلف ة‪ ،‬وهي أن الق رآن ُّ‬
‫إال المجتهد المطلق‪ ،‬والمجتهد هو الموصوف بكذا وكذا أوصافًا لعلها‬
‫ال توجد تامة في أبي بكر وعم ر‪ ،‬ف إن لم يكن اإلنس ان ك ذلك فليع رض‬
‫حتما ال شك وال إشكال فيه‪ ،‬ومن طلب الهدى منهما فهو‪:‬‬ ‫ضا ً‬‫عنهما فر ً‬
‫إما زن ديق‪ ،‬وإما مجن ون؛ ألجل ص عوبة فهمهم ا‪ ،‬فس بحان اهلل وبحم ده‬
‫درا‪ ،‬خل ًقا وأم ًرا في رد ه ذه الش بهة‬ ‫رعا وق ً‬ ‫كم بين اهلل س بحانه ش ً‬
‫الملعونة من وج وه ش تى بلغت إلى حد الض روريات العامة‪ ،‬ولكن أك ثر‬
‫الناس ال يعلمون‪ :‬لََق ْد َح َّق الْ َق ْو ُل َعلَى َأ ْكثَ ِر ِه ْم َف ُه ْم ال ُيْؤ ِمنُ و َن ِإنَّا َج َعلْنَا فِي‬
‫َو َج َعلْنَا ِم ْن َب ْي ِن َأيْ ِدي ِه ْم َس دًّا‬ ‫َأ ْعنَ اقِ ِهم َأ ْغالال فَ ِهي ِإلَى اَأل ْذقَ ِ‬
‫ان َف ُه ْم ُم ْق َم ُح و َن‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اه ْم َف ُه ْم ال ُي ْبص ُرو َن َو َس َواءٌ َعلَْي ِه ْم َأَأن َذ ْرَت ُه ْم َْأم ل ْ‬
‫َم‬ ‫َوم ْن َخلْف ِه ْم َس دًّا فََأ ْغ َش ْينَ ُ‬
‫ب َفبَ ِّش ْرهُ‬‫الر ْح َم َن بِ الْغَْي ِ‬ ‫الذ ْك َر َو َخ ِش َي َّ‬ ‫ِإنَّما تُ ِ‬
‫نذ ُر َم ْن َّاتبَ َع ِّ‬ ‫َ‬ ‫نذ ْر ُه ْم ال ُيْؤ ِمنُ و َن‬
‫تُ ِ‬
‫ِ ٍ‬
‫َأج ٍر َك ِر ٍيم‪[ ‬يس‪.]11-7:‬‬ ‫بِ َم ْغف َرة َو ْ‬
‫آخ ره والحمد هلل رب الع المين‪ ،‬وص لى اهلل على س يدنا محم د‪،‬‬
‫كثيرا إلى يوم الدين‪.‬‬
‫تسليما ً‬
‫ً‬ ‫وعلى آله وصحبه وسلم‬

‫الشرح‬
‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫قوله‪" :‬رد الشبهة التي وضعها الشيطان في ترك القرآن ُّ‬


‫والس نَّة واتباع‬
‫اآلراء واألهواء المتفرقة المختلفة‪ ...‬إلخ"‪.‬‬
‫االجتهاد لغة‪ :‬بذل اجلهد إلدراك أمر شاق‪.‬‬
‫واصطالحا‪ :‬بذل اجلهد إلدراك حكم شرعي‪.‬‬
‫ً‬
‫واالجتهاد له شروط منها‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يعلم من األدلة الش رعية ما حيت اج إليه يف اجته اده كآي ات‬
‫األحكام وأحاديثها‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يع رف ما يتعلق بص حة احلديث وض عفه كمعرفة اإلس ناد ورجاله‬
‫وغري ذلك‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يعرف الناسخ واملنسوخ ومواقع اإلمجاع حىت ال حيكم مبنسوخ‬
‫أو خمالف لإلمجاع‪.‬‬
‫‪ -4‬أن يع رف من األدلة ما خيتلف به احلكم من ختص يص أو تقييد أو‬
‫حنوه حىت ال حيكم مبا خيالف ذلك‪.‬‬
‫‪ -5‬أن يع رف من اللغة وأص ول الفقه ما يتعلق ب دالالت األلف اظ‬
‫كالع ام واخلاص‪ ،‬واملطلق واملقي د‪ ،‬واجململ واملبني وحنو ذل ك؛ ليحكم مبا‬
‫تقتضيه تلك الدالالت‪.‬‬
‫‪ -6‬أن يكون عنده قدرة يتمكن هِب ا من استنباط األحكام من أدلتها‪.‬‬
‫واالجتهاد يتجزأ فيكون يف باب واحد من أبواب العلم‪ ،‬أو يف مسألة‬
‫شـرح األصـول الستة‬
‫‪36‬‬

‫من مس ائله‪ ،‬واملهم أن اجملتهد يلزمه أن يب ذل جه ده يف معرفة احلق‪ ،‬مث حيكم‬


‫مبا يظهر ل ه‪ ،‬ف إن أص اب فله أج ران‪ :‬أجر على اجته اده‪ ،‬وأجر على إص ابة‬
‫احلق؛ ألن يف إص ابة احلق إظه ًارا له وعمالً ب ه‪ ،‬وإن أخطأ فله أجر واح د‪،‬‬
‫واخلطأ مغف ور ل ه؛ لقوله ‪(( :‬إذا حكم الح اكم فاجتهد ثم أص اب فله‬
‫أج ران‪ ،‬وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر))(‪ .)1‬وإن مل يظهر له احلكم‬
‫وجب عليه التوق ف‪ ،‬وج از التقليد حينئذ للض رورة؛ لقوله تع اىل‪ :‬فَ ْ‬
‫اس َألُوا‬
‫الذ ْك ِر ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ال َت ْعلَ ُمو َن‪[ ‬النحل‪.]43:‬‬
‫َْأهل ِّ‬
‫َ‬
‫ولهذا قال شيخ اإلسالم بن تيمية ‪-‬رمحه اهلل‪" :-‬إن التقليد مِب ْنزلة أكل‬
‫امليتة‪ ،‬فإذا استطاع أن يستخرج الدليل بنفسه فال حيل له التقليد"‪.‬‬
‫وقال ابن القيم ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬يف "النونية"‪:‬‬
‫ما ذاك والتقليد يستويان‬ ‫العلم معرفة الهدى بدليل‬
‫والتقليد يكون في موضعين‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن يك ون املقلد عاميًّا‪ ،‬ال يس تطيع معرفة احلكم بنفسه ففرضه‬
‫الذ ْك ِر ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ال َت ْعلَ ُمو َن‪[ ‬النح ل‪.]43:‬‬
‫اسَألُوا َْأهل ِّ‬
‫َ‬ ‫التقليد؛ لقوله تعاىل‪ :‬فَ ْ‬
‫وورعا‪ ،‬فإن تساوى عنده اثنان خري بينهما‪.‬‬ ‫علما ً‬ ‫ويقلد أفضل من جيده ً‬
‫الث اني‪ :‬أن يقع للمجتهد حادثة تقتضي الفوري ة‪ ،‬وال يتمكن من النظر‬
‫فيها‪ ،‬فيجوز له التقليد ٍ‬
‫حينئذ‪.‬‬

‫(?) سبق خترجيه‪ :‬ص ‪.17‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪5‬‬ ‫شـرح األصـول الستة‬

‫والتقليد نوعان‪ :‬عام‪ ،‬وخاص‪.‬‬


‫فالع ام‪ :‬أن يل تزم م ذهبًا معينًا يأخذ برخصه وعزائمه يف مجيع أم ور‬
‫دينه‪ ،‬وقد اختلف العلماء فيه‪:‬‬
‫فمنهم من حكى وجوبه لتعذر االجتهاد يف املتأخرين‪.‬‬
‫ومنهم من حكى حترميه ملا فيه من االلتزام املطلق التباع غري النيب ‪.‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم بن تيمية ‪-‬رمحه اهلل‪" :-‬إن يف القول بوجوب طاعة‬
‫غري النيب ‪ ‬يف كل أمره وهَن يه هو خالف اإلمجاع‪ ،‬وجوازه فيه ما فيه"‪.‬‬
‫والخاص‪ :‬أن يأخذ بقول معني يف قضية معينة فهذا جائز إذا عجز عن‬
‫عجزا حقيقيًّا‪ ،‬أو استطاع ذلك مع املشقة‬ ‫معرفة احلق باالجتهاد سواءً عجز ً‬
‫العظيمة‪.‬‬
‫وهِب ذا انتهت رس الة األص ول الس تة‪ ،‬فنس أل اهلل تع اىل أن ي ثيب مؤلفها‬
‫أحسن الثواب‪ ،‬وأن جيمعنا وإياه يف دار كرامته‪ ،‬إنه جواد كرمي‪.‬‬
‫واحلمد هلل رب العاملني‪ ،‬وصلى اهلل وسلم على نبينا حممد‪.‬‬

‫‪‬‬

You might also like