You are on page 1of 40

‫ان معنا ُه َما وما تستلزمه ُكل ِمنهما‬

‫الشَّها َدتَ ِ‬

‫تأليف‬
‫ْخ العالّم ِة‬ ‫َس َما َح ِة ال َّشي ِ‬
‫بن ِجب ِْري ٍْن‬‫بن َع ْب ِد الرَّحْ َم ِن ِ‬ ‫َع ْب ِد اللَّـ ِه ِ‬
‫ـ َسلَّ َمهُ اللَّـهُ تَ َعالَى ـ‬

‫سل َمانُ ْبنُ َع ْب ِد القَا ِد ِر أبُ ْو َز ْي ٍد‬


‫الرسالة ونشرها ‪َ :‬‬
‫قام بتنسيق ِّ‬
‫سلِ ِميْنَ ‪.‬‬
‫‪،‬ولج ِم ْي ِع ال ُم ْ‬
‫َ‬ ‫َغفَ َر اللَّـهُ لَهُ ‪،‬ولِ َوال َد ْي ِه ‪،‬ولِ َمشَاي ِخ ِه‬
‫‪‬‬ ‫« ُمقدّمة » ‪:‬‬
‫الحمد هلل المتفرد بالكمال‪ ،‬المتوحد بصفاتـ الجالل‪ ،‬وأشــهد أن ال إله إال هللا وحــده‬
‫ال شريك له‪ ،‬تعالى عن األنداد واألمثال‪ ،‬وأشهد أن محمدا عبــده ورســوله‪ ،‬الــذي فضــله‬
‫ربه لما تمــيز به من شــريف الخصــال‪ ،‬صــلى هللا عليه وســلم وعلى آله وصــحبه‪ ،‬أهل‬
‫االتباع واالمتثال‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫فحيث إن التلفظ بالشــــهادتين والعمل بمقتضــــاهما هو الــــركن األساسي للــــدين‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وحيث إن جماهير أمة الــدعوة يجهلــون ما يــراد بهمــا‪ ،‬ويعتقــدون أن المــراد‬
‫مجرد النطق بهما دون معرفة وعمل‪ ،‬وأن هناك من يفسرهما بما يخــالف معناهمــا‪ ،‬لــذا‬
‫فقد أحببت أن أكتب بحثا حول ذلك‪ ،‬ورجاء أن يستفيد منه من له قصد حســن‪ ،‬ممن أراد‬
‫هللا به خيرا‪ ،‬وذلك يتضمن مباحث ستة هي ‪:‬‬
‫المـبحث األول ‪ :‬في فضل الشهادتين‪.‬‬
‫المـبحث الثاني ‪ :‬القتال على الشهادتين‪ ،‬ووجوب اإلتيان بهما‪.‬‬
‫المـبحث الثالث ‪ :‬في معنى كلمة‪ :‬ال إله إال هللا‪.‬‬
‫المـبحث الرابع ‪ :‬في معنى‪( :‬شهادة أن محمدا رسول هللا)‪.‬‬
‫المـبحث الخامس ‪ :‬شروط الشهادتين‪.‬‬
‫المـبحث السادس ‪ :‬نواقض الشهادتين‪.‬‬
‫« المبحث األ ّول في فَ ِ‬
‫ضل الشَّها َدتَ ْي ِن » ‪:‬‬

‫يجد القارئ في كتب الحديث والسنة كثيرا وكثيرا من أقوال النبي ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وســلم‪ -‬تتضــمن فضل هــاتين الشــهادتين والبشــارة لمن أتى بهما بالجنة والرضــوان‪،‬‬
‫والسعادة والنجاة من عذاب هللا وسخطه(‪)1‬؛ فمن ذلك حــديث عبــادة بن الصــامتـ ‪-‬رضي‬
‫هللا عنه‪ -‬أن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬قال ‪:‬‬
‫« من شهد أن ال إله إال هللا وحـده ال شـريك لـه‪ ،‬وأن محمـدا عبـده ورسـوله‪ ،‬وأن‬
‫عيسى عبد هللا ورســوله وكلمته ألقاهاـ إلى مــريم وروح منــه‪ ،‬والجنة حق والنــار حــق؛‬
‫أدخله هللا الجنة على ما كـــــان من العمل »متفق عليه ‪ ،‬وفي رواية ‪ « :‬أدخله هللا من أي‬
‫أبواب الجنة الثمانية شاء »(‪ ،)2‬وفي صحيح مســلم وغــيره عن عثمــان ‪-‬رضي هللا عنــه‪-‬‬
‫مرفوعا ‪ « :‬من مــــات وهو يعلم أن ال إله إال هللا دخل الجنة »(‪ ، )3‬وعن أبي هريــــرة ‪-‬‬
‫رضي هللا عنه‪ -‬قال‪ :‬قال رســول هللا ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ « : -‬أشــهد أن ال إله إال هللا‬
‫وأني رسول هللا ال يلقى هللا بهما عبد غير شاك فيهما إال دخل الجنة »(‪ ،)4‬وعن عبادة بن‬
‫الصامت ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬قال ‪ :‬سمعت رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وســلم‪ -‬يقــول ‪ « :‬من‬
‫شــهد أن ال إله إال هللا‪ ،‬وأن محمــدا رســول هللا؛ حــرم هللا عليه النــار »(‪ ،)5‬وعن أنس بن‬
‫مالك ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬أن رســول هللا ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬قــال لمعــاذ بن جبل ‪ « :‬ما‬
‫من عبد يشهد أن ال إله إال هللا وأن محمــدا عبــده ورســوله إال حرمه هللا على النــار »(‪،)6‬‬
‫وعن عتبان بن مالك ‪-‬رضي هللا عنــه‪ -‬في حديثه الطويل أن رســول هللا ‪-‬صــلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ -‬قال ‪ « :‬فإن هللا حرم على النار من قال ال إله إال هللا يبتغي بذلك وجه هللا »(‪.)7‬‬
‫وكل هـــذه النصـــوص في الصـــحيحين أو أحـــدهما‪ ،‬وداللتها ظـــاهرة على فضل‬
‫اإلتيـــان بهـــاتين الكلمـــتين‪ ،‬حيث رتب على ذلك دخـــول الجنة وفتح أبوابها الثمانيـــة‪،‬‬
‫والتحريم على النار‪ ،‬وورد أيضا ترتب العتق من النار على ذلك؛ فقــال ‪-‬صــلى هللا عليه‬
‫وســلم‪ « : -‬من قــال حين يصــبح أو يمســي‪ :‬اللهم إني أصــبحتـ أشــهدك وأشــهد حملة‬
‫عرشك‪ ،‬وأنبياءك ومالئكتك وجميع خلقك بأنك أنت هللا ال إله إال أنت‪ ،‬وأن محمدا عبدك‬
‫ورسولك أعتق هللا ربعه من النار‪ ،‬فمن قالها مرتين أعتق هللا نصفه من النار‪ ،‬ومن قالها‬
‫ثالثا أعتق هللا ثالثة أرباعه من النــــــار‪ ،‬ومن قالها أربعا أعتقه هللا من النــــــار » رواه‬
‫الترمــــذي وأبو داود عن أنس رضي هللا عنه(‪ ،)8‬وورد أيضا في فضل هــــذه الكلمة أنها‬
‫تــرجح بالســـيئات‪ ،‬بل بجميع المخلوقــاتـ إال ما شـــاء هللا‪ ،‬فــروى ابن حبـــان والحـــاكم‬
‫وصححه عن أبي سعيد الخدري ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬عن رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وســلم‪-‬‬
‫قال ‪ « :‬قال موسى ‪ :‬يا رب‪ ،‬علمني شيئا أذكرك وأدعوك به‪ .‬قــال‪ :‬يا موســى‪ ،‬قل ال إله‬
‫‪ )?(1‬انظر في ذلك كتاب اإليمان أول صحيح مسلم‪ ،‬وكتاب التوحيد آخر صحيح البخاري وغيرهما‪.‬‬
‫اب ال تَ ْغلُوا ِفي‬
‫َأه َل ا ْل ِكتَ ِ‬
‫(?) رواه البخاري‪ ،‬كما في الفتح‪ 6/546 :‬برقم‪ ،)3435( :‬في أحاديث األنبياء‪ ،‬باب قوله تعالى ‪ُ ﴿ :‬ق ْل َيا ْ‬
‫‪2‬‬

‫ين ُك ْم‪ ﴾...‬اآلية [ سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪ ،] 77 :‬ومسلم‪ :‬برقم (‪ )28‬في اإليمان‪ ،‬باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا‪.‬‬ ‫ِد ِ‬
‫‪ )?(3‬رواه مسلم برقم (‪ )26‬في اإليمان‪ ،‬باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة مطلقا‪.‬‬
‫‪ )?(4‬رواه مسلم برقم (‪ )27‬في اإليمان‪ ،‬باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة مطلقا‪.‬‬
‫‪ )?(5‬رواه مسلم برقم (‪ )29‬في اإليمان‪ ،‬باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة مطلقا‪.‬‬
‫‪ )?(6‬رواه مسلم برقم (‪ )32‬في اإليمان‪ ،‬باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة مطلقا‪.‬‬
‫‪ )?(7‬رواه مسلم برقم‪ )657( :‬في المساجد‪ F‬ومواضع الصالة‪ ،‬باب الرخصة في التخلف عن الجماعة لعذر‪.‬‬
‫‪ )?(8‬رواه الترمذي برقم (‪ )3501‬في الدعوات‪ ،‬باب (‪ ،)79‬وأبو داود برقم‪ )5069( :‬في األدب‪ ،‬باب ما يقول إذا أصبح‪ .‬واللفظ له‪.‬‬
‫إال هللا‪ .‬قال‪ :‬يا رب‪ ،‬كل عبادك يقولــون هــذا‪ .‬وفي رواية قــال‪ :‬ال إله إال أنت‪ ،‬إنما أريد‬
‫شيئا تخصني به‪ .‬قال‪ :‬يا موسى‪ ،‬لو أن السموات الســبع وعــامرهن غــيري‪ ،‬واألرضــين‬
‫السبع في كفة‪ ،‬وال إله إال هللا في كفة مالت بهن ال إله إال هللا »(‪.)1‬‬
‫وروى اإلمام أحمد عن عبد هللا بن عمرو عن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وســلم‪ -‬قــال ‪:‬‬
‫« إن نوحا ‪ -‬عليه الســالم‪ -‬قــال البنه عند موته ‪ :‬آمــرك بال إله إال هللا‪ ،‬فــإن الســماوات‬
‫السبع واألرضين السبع لو وضــعت في كفة وال إله إال هللا في كفة رجحت بهن ال إله إال‬
‫هللا‪ ،‬ولو أن السماوات الســبع واألرضــين الســبع كن حلقة مبهمة لفصــمتهن ال إله إال هللا‬
‫»(‪ ،)2‬وروى الترمذي وغيره عن عبد هللا بن عمرو حديث صــاحب البطاقة الــذي يــدعى‬
‫يوم القيامة ‪ « :‬فينشر له تسعة وتســعون ســجال ‪-‬يعــني من الســيئات‪ -‬ثم يخــرج له بطاقة‬
‫فيهـــا‪ :‬أشـــهد أن ال إله إال هللا وأن محمـــدا عبـــده ورســـوله‪ ،‬فتوضع الســـجالت في كفة‬
‫والبطاقة في كفة‪ ،‬فطاشت السجالت وثقلت البطاقة »(‪.)3‬‬
‫فأنت ترى هذه النصوص الصــحيحة قد أفــادت النجــاة والفــوز ألهل هــذه الكلمــة‪،‬‬
‫ولكن ال بد من تحقيقها والعمل بمقتضــاها‪،‬ـ فــإن هــذه األدلة المطلقة تحمل على األخــرى‬
‫الــتي قيد فيها اإلتيــان بالشــهادتين بــاإلخالص والصــدق‪ ...‬إلخ؛ لتكــون بــذلك مــؤثرة في‬
‫العمل والسلوك‪.‬‬

‫« المبحث الثَّانِي القتال على الشَّهادتَ ْي ِن ووجوب اإلتيان بهما » ‪:‬‬

‫في الصحيحين عن أبي هريرة ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬عن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وســلم‪-‬‬
‫قال ‪ « :‬أمــرت أن أقاتل النــاس حــتى يقولــوا ال إله إال هللا‪ ،‬فمن قــال‪ :‬ال إله إال هللا عصم‬
‫مـــني ماله ونفسه إال بحقهما وحســـابه على هللا عز وجل وفي رواية لمســـلم ‪ « :‬حـــتى‬
‫يشهدوا أن ال إله إال هللا‪ ،‬ويؤمنــوا بي وبما جئت به »(‪ ،)4‬وفي الصــحيحين عن ابن عمر‬
‫‪-‬رضي هللا عنهما‪ -‬أن رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬قــال ‪ « :‬أمــرت أن أقاتل النــاس‬
‫حتى يشهدوا أن ال إله إال هللا وأن محمدا رسول هللا‪ ،‬ويقيموا الصالة ويؤتوا الزكاة‪ ،‬فــإذا‬
‫فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إال بحق اإلسالم وحســابهم على هللا »(‪ ، )5‬وفي‬

‫‪ )?(1‬رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده‪ ،‬رقم (‪ )1393‬وابن حبان برقم (‪ )2324‬الموارد‪ .‬والحاكم في المستدرك (‪ )1/528‬والبغوي في‬
‫شرح السنة‪ .55 ،5/54 :‬قال األرناؤط في تحقيق شرح السنة‪ 5/55 :‬إسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة‪.‬‬
‫‪ )?(2‬هو في مسند أحمد تحقيق‪ :‬أحمد شاكر برقم‪ ،)6583( :‬وكذا رواه الحاكم‪ ،1/48 :‬وصححه ووافقه الذهبي‪.‬‬
‫‪ )?(3‬رواه الترمذي برقم (‪ )2639‬في اإليمان‪ ،‬باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وكذا رواه أحمد في المسند‪ ،2/213 :‬وابن‬
‫ماجة برقم‪ )4300( :‬في الزهد‪ ،‬باب ما يرجى من رحمة اهلل يوم القيامة‪ ،‬بمعناه‪.‬‬
‫‪ )?(4‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 6/130 :‬برقم‪ )2946( :‬في الجهاد والسير‪ ،‬باب دعاء النبي صلى اهلل عليه وسلم الناس إلى اإلسالم‪ ...‬إلخ‪،‬‬
‫ومسلم برقم‪ )21( :‬في اإليمان باب األمر بقتال الناس حتى يقولوا ال إله إال اهلل‪ ...‬إلخ ‪.‬‬
‫‪ )?(5‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 1/94 :‬برقم‪ )25( :‬في األيمان‪ ،‬باب (فإن تابوا وأقاموا الصالة‪ ...‬اآلية)‪ ،‬ومسلم برقم‪ )21( :‬في اإليمان‪،‬‬
‫باب األمر بقتال الناس حتى يقولوا ال إله إال اهلل‪ ...‬إلخ ‪.‬‬
‫الصحيح عن أنس ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬عن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬قــال ‪ « :‬أمــرت أن‬
‫أقاتل الناس ‪-‬يعني المشركين‪ -‬حتى يشهدوا أن ال إله إال هللا وأن محمــدا عبــده ورســوله‪،‬‬
‫فــإذا شــهدوا أن ال إله إال هللا وأن محمــدا رســول هللا‪ ،‬وصــلوا صــالتنا واســتقبلوا قبلتنــا‪،‬‬
‫وأكلوا ذبيحتنا؛ فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إال بحقها »(‪.)1‬‬
‫واألحاديث في هذا كثيرة‪ ،‬وهكذا كان النبي ‪-‬صلى هللا عليه وســلم‪ -‬يتقبل كل فــرد‬
‫أســلم بعد أن يتكلم بالشــهادتين‪ ،‬فقد ذكر المؤرخــون في قصة إســالم أبي ذر الغفــاري ‪-‬‬
‫رضي هللا عنه‪ -‬أنه قال ‪ « :‬أتيت رسول هللا ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬فقلت‪ :‬الســالم عليك‬
‫يا رسول هللا‪ ،‬أشهد أن ال إله إال هللا وأن محمدا رســول هللا‪ ،‬قــال‪ :‬فــرأيت االستبشــار في‬
‫وجهه »(‪.)2‬‬
‫وذكروا عن خالد بن الوليد أنه قــدم المدينة لإلســالم‪ ،‬فــأتى النــبي ‪-‬صــلى هللا عليه‬
‫وســلم‪ -‬قــال ‪ « :‬فســلمت عليه وقلت‪ :‬إني أشــهد أن ال إله إال هللا وأنك رســول هللا‪ .‬فقــال‪:‬‬
‫الحمد هلل الذي هداك »(‪ ،)3‬وكذا قصة إسالم خالد بن ســعيد بن العــاص ‪-‬رضي هللا عنــه‪-‬‬
‫أنه لقي رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ « -‬فقال ‪ :‬إالم تدعو؟ قال‪ :‬أدعوك إلى هللا وحده‬
‫ال شريك له‪ ،‬وأن محمدا عبده ورسوله‪ ،‬وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر ال يسمع وال‬
‫يضر وال ينفع‪ ،‬وال يدري من َعبَ َدهُ ممن ال يعبده ‪ .‬قال خالد ‪ :‬فإني أشهد أن ال إله إال هللا‬
‫وأنك رسول هللا »(‪.)4‬‬
‫فهــذه القصص ونحوها تفيد أن النطق بالشــهادتين شــرط لقبــول اإلســالم فمن أتى‬
‫بهما دخل في هذا الدين‪ ،‬وعصم بذلك دمه وماله وحرم قتله‪ ،‬وقد أنكر النــبي ‪-‬صــلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ -‬على أسامة لما قتل من تلفظ بهذه الكلمة‪ ،‬ففي صــحيح مســلم وغــيره عنه أن‬
‫النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬بعثه في سرية قال ‪:‬‬
‫« فأدركت رجال فقال ‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬فطعنتــه‪ ،‬فقــال رســول هللا ‪-‬صــلى هللا عليه‬
‫وســلم‪ -‬أقـال ال إله إال هللا وقتلته ؟ قلت‪ :‬يا رسـول هللا‪ ،‬إنما قالها خوفا من السـالح‪ .‬قـال‪:‬‬
‫أفال شققت عن قلبه »(‪.)5‬‬
‫وفي حديث جندب البجلي في الصحيح « أن أسامة قــال ‪ :‬يا رســول هللا‪ ،‬أوجع في‬
‫المسلمين وقتل فالنا وفالنا‪ ،‬وإني حملت عليه‪ ،‬فلما رأى السيف قــال ال إله إال هللا‪ ،‬قــال‪:‬‬
‫فكيف تصنع بال إله إال هللا إذا جاءتـ يوم القيامة »(‪ ،)6‬وفي حديث ابن عباس أن النــبي ‪-‬‬
‫صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬لما بعث معــاذا إلى اليمن قــال له ‪ « :‬فليكن أول ما تــدعوهم إليه‬

‫‪ )?(1‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 1/592 :‬برقم‪ )392( :‬في الصالة‪ ،‬باب فضل استقبال القبلة‪ ،‬يستقبل بأطراف رجليه‪.‬‬
‫‪ )?(2‬ذكره ابن كثير في البداية والنهاية‪.3/34 :‬‬
‫‪ )?(3‬انظر سيرة ابن هشام مع الروض األنف‪ ،6/363 :‬والبداية والنهاية‪.4/238 :‬‬
‫‪ )?(4‬البداية والنهاية ‪.3/23‬‬
‫‪ )?(5‬رواه مسلم برقم‪ )96( :‬في اإليمان‪ ،‬باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال‪ :‬ال إله إال اهلل‪.‬‬
‫‪ )?(6‬رواه مسلم برقم‪ )97( :‬في اإليمان‪ ،‬باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال‪ :‬ال إله إال اهلل‪.‬‬
‫شهادة أن ال إله إال هللا وأني رسول هللا » متفق عليه(‪ ،)7‬وفي المعنى أحــاديث كثــيرة تفيد‬
‫أن نبي هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬كان يكتفي من أهل زمانه بهــاتين الشــهادتين‪ ،‬وأن من‬
‫أتى بهما وعمل بمدلولهما‪ ،‬والتزم بما تستلزمه كل منهما من الطاعة هلل ورسـوله وجميع‬
‫أنــواع العبــادة؛ فيوحد هللا ‪ -‬عز وجــل‪ -‬ويتخلى عن العــادات الشــركية‪ ،‬ويأخذ ذلك من‬
‫معــنى قوله ال إله إال هللا‪ ،‬كما يلــتزم طاعة رســول هللا ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬واتباعه‬
‫بمجرد قوله ‪ :‬محمد رسول هللا‪ ،‬وما ذاك إال أن القوم إذ ذاك كانوا عربا فصحاء يعرفون‬
‫ويفهمون معنى الشهادة‪ ،‬ومعنى اإلله ‪ ،‬وما في هذه الكلمة من النفي واإلثبات‪ ،‬فال جــرم‬
‫اقتصر على تلقينهم هذه الكلمة؛ وذلك أن من شرط نجاة من تلفظ بهذه الشــهادة أن يكــون‬
‫عالما بمعناها‪ ،‬عامال بمقتضاها ظاهرا وباطنا‪ ،‬قال هللا ‪-‬تعــالى‪ ﴿ : -‬فَ ا ْعلَ ْم َأنَّهُ ال ِإلَ هَ ِإال‬
‫ش ِه َد بِ ا ْل َح ِّ‬
‫ق َو ُه ْم‬ ‫هَّللا ُ ﴾[ ســـورة ُمح َّمد‪ ،‬اآلية ‪ ] 19 :‬وقـــال ‪ -‬عز وجـــل‪ِ ﴿ : -‬إالَّ َمنْ َ‬
‫ون﴾ [ سورة الزخــرف‪ ،‬اآلية ‪ ] 86 :‬ونحو ذلك من اآليــات الــتي تــبين أنه يشــترط‬ ‫يَ ْعلَ ُم َ‬
‫العلم بمعناهــا‪،‬ـ وعلى هــذا فيجب الكف عن من أتى بالشــهادتين ظــاهرا من المشــركين‪،‬‬
‫ويحقن بذلك دمه حتى يختبر وينظر في أمــره بعد ذلــك؛ فــإن اســتقام على الــدين والــتزم‬
‫بالتوحيد‪ ،‬وعمل بتعاليم اإلسالم‪ ،‬فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين‪ ،‬وإن‬
‫خـــالف مقتضى ما شـــهد بـــه‪ ،‬أو تـــرك بعض ما كلف به جحـــدا وإنكـــارا‪ ،‬أو اســـتباح‬
‫المحرمات المعلوم بالضرورة تحريمها‪ ،‬لم تعصمه هذه الكلمة‪.‬‬
‫وهذا هو الواقع في الكثير من أهل هذا الزمان من علماء وعامــة‪ ،‬جهلة أو مقلــدة‪،‬‬
‫حيث إن الكثير من العــوام في هــذه القــرون المتــأخرة قد فســدت عقائــدهم‪ ،‬ونشــأوا على‬
‫جهالة بالدين وبمدلول الشهادتين‪ ،‬بل معاني اللغة العربية كلها‪ ،‬فال جرم أصبح الجمهور‬
‫منهم ال يفهمون معنى الشهادتين‪ ،‬ويقعــون في ما يناقضــهما صــريحا‪ ،‬ويكتفــون بمجــرد‬
‫التلفظ بهما معتقــدين أن األجر والحســنات وعصــمة الــدم والمــال تحصل بترديد هــذه‬
‫األحرف الجوفاء‪،‬ـ دون معرفة لمعانيها وال عمل بمقتضاها؛ـ لذلك نحن بحاجة إلى الكالم‬
‫على معــاني هــاتين الشــهادتين إلقامة الحجة على من خــالف ذلك معــنى واكتفى بالتلفظ‬
‫بهما‪ ،‬وزعم أنه بذلك مسلم كامل التوحيد‪.‬‬

‫‪ )?(7‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 3/307 :‬برقم (‪ ،)1395‬في الزكاة‪ ،‬باب وجوب الزكاة‪ ،‬ومسلم برقم‪ )19( :‬في اإليمان‪ ،‬باب الدعاء إلى‬
‫الشهادتين وشرائع اإلسالم‪.‬‬
‫« المبحث الثَّالث في معنى كلم ِة ال إله إال اللَّـه » ‪:‬‬

‫لقد عني أئمة الدعوة ‪-‬رحمهم هللا‪ -‬ببيان معنى كلمة التوحيد‪ ،‬فأفردها الشيخ محمد‬
‫بن عبد الوهــاب برســالة في جــواب ســؤال‪ ،‬وتكلم عليها في كشف الشــبهات وغــيره‪،‬‬
‫وتعرض لها شراح كتاب التوحيد وغيرهم‪ ،‬وإليك ما ذكره الشيخ ســليمان بن عبد هللا في‬
‫تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد صفحة‪ 53 :‬حيث يقول ‪ :‬ومعــنى ال إله إال هللا‪:‬‬
‫أي ال معبــود بحق إال إله واحــد‪ ،‬وهو هللا وحــده ال شــريك لــه‪ ،‬كما قــال تعــالى‪َ ﴿ :‬و َما‬
‫ُون﴾ [ ســورة األنبيــاء‪،‬‬ ‫وحي ِإلَ ْي ِه َأنَّهُ اَل ِإلَهَ ِإاَّل َأنَا فَا ْعبُ د ِ‬
‫سو ٍل ِإاَّل نُ ِ‬ ‫َأ ْر َ‬
‫س ْلنَا ِمنْ قَ ْبلِكَ ِمنْ َر ُ‬
‫اآلية ‪.] 25 :‬‬
‫سواًل َأ ِن اُ ْعبُدُوا هَّللا َ َو ْ‬
‫اجتَنِبُ وا الطَّا ُغوتَ‬ ‫مع قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي ُك ِّل ُأ َّم ٍة َر ُ‬
‫﴾ [ سورة النحل‪،‬ـ اآلية ‪.] 36 :‬‬
‫فصح أن معنى اإلله هو المعبود‪ ،‬ولهذا لما قال النــبي ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪: -‬‬
‫« لكفار قريش‪ :‬قولوا‪ :‬ال إله إال هللا‪ .‬قالوا‪ :‬أجعل اآللهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب‬
‫ان يَ ْعبُ ُد آبَاُؤ نَا ﴾[ سورة األعــراف‪،‬‬ ‫» وقال قوم هود ‪َ ﴿ :‬أ ِجْئتَنَا لِنَ ْعبُ َد هَّللا َ َو ْح َدهُ َونَ َذ َر َما َك َ‬
‫اآلية ‪.] 70 :‬‬
‫وهو إنما دعاهم إلى‪ :‬ال إله إال هللا ‪ ،‬فهــذا هو معــنى ‪ :‬ال إله إال هللا وهو عبــادة هللا‬
‫وتــرك عبــادة ما ســواه‪ ،‬وهو الكفر بالطــاغوت واإليمــان باهلل‪ ،‬فتضــمنت هــذه الكلمة‬
‫العظيمة‪ :‬أن ما ســوى هللا ليس بإلــه‪ ،‬وأن إلهية ما ســواه من أبطل الباطــل‪ ،‬وإثباتها أظلم‬
‫الظلم‪ ،‬فال يستحق العبادة سواه‪ ،‬كما ال تصــلح اإللهية لغــيره‪ ،‬فتضــمنت نفي اإللهية عما‬
‫سواه‪ ،‬وإثباتها له وحده ال شريك له‪ ،‬وذلك يستلزم األمر باتخاذه إلها وحــده‪ ،‬والنهي عن‬
‫اتخاذ غيره معه إلها‪ ،‬وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي واإلثبــات‪ ،‬كما إذا رأيت رجال‬
‫يستفتي أو يستشهد من ليس أهال لذلك‪ ،‬ويدع من هو أهل له‪ ،‬فتقول‪ :‬هــذا ليس بمفت وال‬
‫شاهد‪ ،‬المفتي فالن والشاهد فالن‪ ،‬فإن هذا أمر منه ونهي‪.‬‬
‫وقد دخل في اإللهية جميع أنــــواع العبــــادة الصــــادرة عن تأله القلب هلل بــــالحبـ‬
‫والخضــوع‪ ،‬واالنقيــاد له وحــده ال شــريك لــه‪ ،‬فيجب إفــراد هللا تعــالى بهــا‪ :‬كالــدعاء‪،‬‬
‫والخوف‪ ،‬والمحبة‪ ،‬والتوكل واإلنابة‪ ،‬والتوبة‪ ،‬والذبح‪ ،‬والنذر‪ ،‬والسجود‪ ،‬وجميع أنــواع‬
‫العبادة‪ ،‬فيجب صرف جميع ذلك هلل وحده ال شريك له‪ ،‬فمن صــرف شــيئا مما ال يصــلح‬
‫إال هلل من العبادات لغير هللا فهو مشرك ولو نطق بـال إله إال هللا؛ إذ لم يعمل بما تقتضــيه‬
‫من التوحيد واإلخالص‪.‬‬

‫ذكر نصوص العلماء في معنى اإلله ‪:‬‬


‫قـــال ابن عبـــاس ‪-‬رضي هللا عنـــه‪ -‬هللا ذو األلوهية والعبودية على خلقه أجمعين‬
‫رواه ابن جرير وابن أبي حاتم(‪.)1‬‬
‫وقال الوزير أبو المظفر في اإلفصــاح‪:‬ـ قولــه‪ :‬شــهادة أن ال إله إال هللا‪ ،‬يقتضي أن‬
‫يكون الشاهد عالما بأن ال إله إال هللا‪ ،‬كما قال هللا ‪-‬عز وجل‪ ﴿ : -‬فَا ْعلَ ْم َأنَّهُ اَل ِإلَ هَ ِإاَّل هَّللا ُ‬
‫﴾ [ سورة ُمح َّمد‪ ،‬اآلية ‪.] 19 :‬‬
‫وينبغي أن يكون الناطق بها شاهدا فيهـا‪ ،‬فقد قـال هللا ‪-‬عز وجـل‪ -‬ما أوضح به أن‬
‫الشاهد بالحق إذا لم يكن عالما بما شهد به‪ ،‬فإنه غير بالغ من الصدق به مع من شــهد من‬
‫ون ﴾ [ ســورة الزخــرف‪،‬‬ ‫ش ِه َد بِ ا ْل َح ِّ‬
‫ق َو ُه ْم يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ذلك بما يعلمه في قوله تعالى‪ِ ﴿ :‬إاَّل َمنْ َ‬
‫اآلية ‪.] 86 :‬‬

‫قال‪ :‬واسم هللا تعالى مرتفع بعد (إال) من حيث إنه الواجبـ له اإللهية‪ ،‬فال يستحقها‬
‫غيره ‪-‬ســبحانه‪ -‬قــال‪ :‬واقتضى اإلقــرار بها أن تعلم أن كل ما فيه أمــارة للحــدث‪ ،‬فإنه ال‬
‫يكون إلها‪ ،‬فإذا قلت‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬فقد اشتمل نطقك هذا على أن ما ســوى هللا ليس بإلــه‪،‬‬
‫فيلزمك إفراده ‪-‬سبحانه‪ -‬بذلك وحده‪ .‬قــال‪ :‬وجملة الفائــدة في ذلك أن تعلم أن هــذه الكلمة‬
‫هي مشتملة على الكفر بالطــاغوت واإليمــان باهلل‪ ،‬فإنك لما نفيت اإللهية وأثبت اإليجــاب‬
‫هلل ‪-‬سبحانه‪ -‬كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن باهلل‪.‬‬
‫وقال أبو عبد هللا القرطبي في التفسير‪ :‬ال إله إال هو‪ ،‬إي‪ :‬ال معبود إال هو‪.‬‬
‫وقال الزمخشري‪ :‬اإلله من أسماء األجنــاس‪ ،‬كالرجل والفــرس‪ ،‬اسم يقع على كل‬
‫معبود بحق أو بباطل‪ ،‬ثم غلب على المعبود بحق‪.‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم‪ :‬اإلله هو المعبود المطاع‪.‬‬

‫‪ )?(1‬ذكره ابن كثير في التفسير‪ ،‬أول سورة الفاتحة‪.‬‬


‫وقال أيضا في ال إله إال هللا‪ :‬إثبات انفراده باإللهيــة‪ ،‬واإللهية تتضــمن كمــال علمه‬
‫وقدرته ورحمته وحكمته؛ ففيها إثبات إحسانه إلى العباد‪ ،‬فإن اإلله هو المــألوه‪ ،‬والمــألوه‬
‫هو الــذي يســتحق أن يعبــد‪ ،‬وكونه يســتحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصــفاتـ الــتي‬
‫تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب‪،‬ـ المخضوع له غاية الخضوع‪.‬‬
‫وقـــال ابن القيم ‪-‬رحمه هللا‪ : -‬اإلله هو الـــذي تألهه القلـــوب محبة وإجالال‪ ،‬وإنابة‬
‫وإكراما وتعظيما وذال وخضوعا‪ ،‬وخوفا ورجاء وتوكال‪.‬‬
‫وقــال ابن رجب ‪-‬رحمه هللا‪ : -‬اإلله هو الــذي يطــاع فال يعصــى‪ ،‬هيبة له وإجالال‬
‫ومحبة وخوفا ورجاء وتـوكال عليـه‪ ،‬وسـؤاال منه ودعـاء لــه‪ ،‬وال يصــلح ذلك كله إال هلل‬
‫عز وجل‪ ،‬فمن أشرك مخلوقا في شيء من هـذه األمـور الـتي هي من خصـائص اإللهية‬
‫كــان ذلك قــدحا في إخالصه في قــول‪ :‬ال إله إال هللا ونقصا في توحيــده‪ ،‬وكــان فيه من‬
‫عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك‪ ،‬وهذا كله من فروع الشرك‪.‬‬
‫وقال البقــاعي‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬أي‪ :‬انتفى انتفــاء عظيما أن يكــون معبــود بحق غــير‬
‫الملك األعظم‪ ،‬فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهــوال الســاعة‪ ،‬وإنما يكــون‬
‫علما إذا كان نافعا‪ ،‬وإنما يكون نافعا إذا كان اإلذعان والعمل بها تقتضيه‪ ،‬وإال فهو جهل‬
‫صرف‪.‬‬
‫وقال الطبي‪ :‬اإلله فعال بمعنى مفعــول‪ ،‬كالكتــاب بمعــنى المكتــوب‪ ،‬من أله إلهــة‪،‬‬
‫أي‪ :‬عبد عبادة‪ .‬وهذا كثيرا جدا في كالم العلماء‪،‬ـ وهو إجماع منهم أن اإلله هو المعبــود‪،‬‬
‫خالفا لما يعتقــده عبــاد القبــور وأشــباههم في معــنى اإلله أنه الخــالق‪،‬ـ أو القــادر على‬
‫االختراع‪ ،‬أو نحو هذه العبارات‪ ،‬ويظنون أنهم إذا قالوا بهذا المعنى فقد أتــوا من التوحيد‬
‫بالغاية القصوى‪ ،‬ولو فعلوا ما فعلوا من عبادة غير هللا‪ :‬كدعاء األموات‪ ،‬واالســتغاثة بهم‬
‫في الكربات‪ ،‬وسؤالهم قضاء الحاجات‪ ،‬والنذر لهم في الملمــات‪ ،‬وســؤالهم الشــفاعة عند‬
‫رب األرض والسموات‪ ،‬إلى غير ذلك من أنواع العبــادات‪ .‬وما شــعروا أن إخــوانهم من‬
‫كفــار العــرب يشــاركونهم في هــذا اإلقــرار‪ ،‬ويعرفــون أن هللا هو الخــالق القــادر على‬
‫االختراع‪ ،‬ويعبدونه بــأنواع من العبــادات‪ ،‬فليهن أبا جهل وأبا لهب ومن تبعهما اإلســالم‬
‫بحكم عباد القبور‪ ،‬وليهن أيضا إخوانهم عباد ود وسـواع ويغـوث ويعـوق ونسر إذ جعل‬
‫هؤالء دينهم هو اإلسالم المبرور‪ ،‬ولو كان معناها ما زعمه هــؤالء الجهــال‪،‬ـ لم يكن بين‬
‫الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسـلم ‪ -‬وبينهم نـزاع‪ ،‬بل كـانوا يبـادرون إلى إجابتـه‪ ،‬ويلبـون‬
‫دعوته‪ ،‬إذ يقول لهم قولوا‪ :‬ال إله إال هللا‪ .‬بمعنى أنه ال قادر على االختراع إال هللا‪ .‬فكانوا‬
‫س َأ ْلتَ ُه ْم َمنْ َخلَقَ ُه ْم لَيَقُ ولُنَّ هَّللا ُ ﴾ [ ســورة‬ ‫يقولون‪ :‬سمعنا وأطعنا‪ .‬قال هللا تعالى‪ ﴿ :‬ولئن َ‬
‫ض لَيَقُولُنَّ َخلَقَ ُهنَّ‬‫ت َواَأْل ْر َ‬ ‫س َما َوا ِ‬ ‫سَأ ْلتَ ُه ْم َمنْ َخلَ َ‬
‫ق ال َّ‬ ‫الزخرف‪ ،‬اآلية ‪] 87 :‬ـ ‪َ ﴿ ،‬ولَِئنْ َ‬
‫س َما ِء َواَأْل ْر ِ‬
‫ض‬ ‫ا ْل َع ِزي ُز ا ْل َعلِي ُم ﴾ [ سورة الزخرف‪ ،‬اآلية ‪] 9 :‬ـ ‪ ﴿ ،‬قُ ْل َمنْ يَ ْر ُزقُ ُك ْم ِم َن ال َّ‬
‫ص ا َر﴾ [ ســورة يــونس‪ ،‬اآلية ‪ ] 31 :‬اآليــة‪ .‬إلى غــير ذلك من‬ ‫الس ْم َع َواَأْل ْب َ‬
‫َأ َّمنْ يَ ْملِ ُك َّ‬
‫اآليات‪.‬‬
‫لكن القوم أهل اللسان العربي‪ ،‬فعلمــوا أنها تهــدم عليهم دعــاء األمــوات واألصــنام‬
‫من األساس‪ ،‬وتكب بناء سؤال الشفاعة من غير هللا وصرف اإللهية لغــيره‪ ،‬ألم الــرأس‪،‬‬
‫فقالوا‪َ ﴿ :‬ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإاَّل لِيُقَ ِّربُونَا ِإلَى هَّللا ِ ُز ْلفَى ﴾ [ سورة الزمر‪ ،‬اآلية ‪] 3 :‬ـ ‪َ ﴿ ،‬ه ُؤ اَل ِء‬
‫شفَ َعاُؤ نَا ِع ْن َد هَّللا ِ ﴾ [ سورة يونس‪ ،‬اآلية ‪، ] 18 :‬‬ ‫ُ‬
‫اب ﴾ [ سورة ص‪ ،‬اآلية ‪.] 5 :‬‬ ‫َي ٌء ع َُج ٌ‬ ‫اح ًدا ِإنَّ َه َذا لَش ْ‬ ‫﴿ َأ َج َع َل اآْل لِ َهةَ ِإلَ ًها َو ِ‬
‫فتبا لمن كــان أبو جهل ورأس الكفر من قــريش وغــيرهم أعلم منه بال إله إال هللا‪.‬‬
‫ون َأِئنَّا لَتَ ا ِر ُكو‬
‫ون * َويَقُولُ َ‬ ‫قال تعــالى ‪ِ ﴿ :‬إنَّ ُه ْم َك انُوا ِإ َذا قِي َل لَ ُه ْم اَل ِإلَ هَ ِإاَّل هَّللا ُ يَ ْ‬
‫س تَ ْكبِ ُر َ‬
‫ون ﴾ [ سورة الصافاتـ ‪ 35 :‬ـ ‪.] 36‬‬ ‫آلِ َهتِنَا لِشَا ِع ٍر َم ْجنُ ٍ‬
‫فعرفوا أنها تقتضي ترك عبادة ما سوى هللا‪ ،‬وإفراد هللا بالعبادة‪ ،‬وهكذا يقول عباد‬
‫القبــور إذا طلبت منهم إخالص الــدعوة والعبــادة هلل وحــده‪ :‬أنــترك ســادتنا وشــفعاءنا في‬
‫قضاء حوائجنا؟ فيقال لهم‪ :‬نعم وهذا الترك واإلخالص هو الحق‪ ،‬كما قــال تعــالى‪ ﴿ :‬بَ ْل‬
‫ين ﴾ [ سورة الصافات‪،‬ـ اآلية ‪.] 37 :‬‬ ‫سلِ َ‬ ‫ق ا ْل ُم ْر َ‬
‫ص َّد َ‬
‫ق َو َ‬ ‫َجا َء بِا ْل َح ِّ‬
‫فال إله إال هللا اشتملت على نفي وإثبات ‪:‬‬
‫فنفت اإللهية عن كل ما ســـوى هللا تعـــالى‪ ،‬فكل ما ســـواه من المالئكة واألنبيـــاء‬
‫فضال عن غيرهم فليس بإله‪ ،‬وال له من العبادة شيء‪.‬‬
‫وأثبتت اإللهية هلل وحــده‪ ،‬بمعــنى أن العبد ال يأله غــيره‪ ،‬أي ال يقصــده بشــيء من‬
‫التأله‪ ،‬وهو تعلق القلبـ الذي يوجب قصده بشــيء من أنــواع العبــادة‪ :‬كالــدعاء‪ ،‬والــذبح‪،‬‬
‫والنذر‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫وبالجملة‪ :‬فال يأله إال هللا‪ ،‬أي‪ :‬ال يعبد إال هو‪ .‬فمن قال هذه الكلمة عارفا لمعناهــا‪،‬‬
‫عامال بمقتضاها‪ :‬من نفي الشرك‪ ،‬وإثبات الوحدانية هلل‪ ،‬مع االعتقاد الجازم لما تضــمنته‬
‫من ذلك والعمل بــه‪ ،‬فهــذا هو المســلم حقــا‪ ،‬فــإن عمل به ظــاهرا من غــير اعتقــاد فهو‬
‫المنــافق‪ ،‬وإن عمل بخالفها من الشــرك فهو الكــافر ولو قالهــا‪ ،‬أال تــرى أن المنــافقين‬
‫يعملون بها ظاهرا وهم في الــدرك األســفل من النــار‪ ،‬واليهــود يقولونها وهم على ما هم‬
‫عليه من الشــرك والكفــر‪ ،‬فلم تنفعهم‪ ،‬وكــذلك من ارتد عن اإلســالم بإنكــار شــيء من‬
‫لوازمها وحقوقها فإنها ال تنفعــه‪ ،‬ولو قالها مائة ألــف‪ ،‬فكــذلك من يقولها ممن يصــرف‬
‫أنواع العبادة لغير هللا‪ ،‬كعبادة القبور واألصنام‪ ،‬فال تنفعهم وال يدخلون في الحديث الذي‬
‫جاء في فضلها‪ ،‬وما أشبهه من األحــاديث‪ ،‬وقد بين النــبي ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬ذلك‬
‫بقولــه‪ :‬وحــده ال شــريك لــه‪ .‬تنبيها على أن اإلنســان قد يقولها وهو مشــرك‪ :‬كــاليهود‪،‬‬
‫والمنافقين‪ ،‬وعباد القبور‪ .‬لما رأوا أن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬دعا قومه إلى قول ال‬
‫إله إال هللا‪ ،‬ظنـــوا أنه إنما دعـــاهم إلى النطق بها فقـــط‪ ،‬وهـــذا جهل عظيم‪ ،‬وهو ‪-‬عليه‬
‫السالم‪ -‬إنما دعاهم إليها ليقولوها ويعملوا بمعناها‪،‬ـ ويتركوا عبادة غير هللا‪ ،‬ولهـذا قـالوا‪:‬‬
‫ون﴾[ سـورة الصــافات‪ ،‬اآلية ‪ ] 36 :‬وقـالوا ‪َ ﴿ :‬أ َج َع َل‬
‫اع ٍر َم ْجنُ ٍ‬
‫ش ِ‬‫﴿ َأِئنَّا لَتَ ا ِر ُكو آلِ َهتِنَا لِ َ‬
‫اح ًدا ﴾[ سورة ص‪ ،‬اآلية ‪.]5 :‬‬ ‫اآْل لِ َهةَ ِإاَّل َو ِ‬

‫فلهذا أبوا عن النطق بها ‪ ،‬وإال فلو قالوها وبقوا على عبادة الالت والعزى ومناة ‪،‬‬
‫لم يكونوا مسلمين‪ ،‬ولقاتلهم ‪-‬عليه السالم‪ -‬حتى يخلعوا األنداد ويتركوا عبادتها‪ ،‬ويعبدوا‬
‫هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وهذا أمر معلوم باالضطرار من الكتاب والســنة واإلجمــاع‪ ،‬وأما‬
‫عباد القبور فلم يعرفوا معنى هذه الكلمة‪ ،‬وال عرفــوا اإللهية المنفية عن غــير هللا‪ ،‬الثابتة‬
‫له وحــده ال شــريك لــه‪ ،‬بل لم يعرفــوا من معنــاه إال ما أقر به المــؤمن والكــافر‪ ،‬واجتمع‬
‫عليه الخلق كلهم من أن معناها‪ :‬ال قادر على االختراع‪ ،‬أو أن معناهــا‪ :‬اإللــه‪ ،‬هو الغــني‬
‫عما سواه‪ ،‬الفقير إليه كل ما عــداه‪ ،‬ونحو ذلــك‪ .‬فهــذا حق وهو من لــوازم اإللهيــة‪ ،‬ولكن‬
‫ليس هو المراد بمعنى ال إله إال هللا‪ ،‬فإن هذا القدر قد عرفه الكفار‪ ،‬وأقروا به ولم يدعوا‬
‫في آلهتهم شيئا من ذلك‪ ،‬بل يقرون بفقرهم‪ ،‬وحاجتهم إلى هللا‪ ،‬وإنما كانوا يعبدونهم على‬
‫معنى أنهم وسائط وشفعاء عند هللا في تحصيل المطالب ونجاح المآرب‪ ،‬وإال فقد ســلموا‬
‫الخلق والملك والرزق واإلحياء واإلماتة واألمر كله هلل وحده ال شــريك لــه‪ ،‬وقد عرفــوا‬
‫معنى ال إله إال هللا‪ ،‬وأبــوا عن النطق والعمل بهــا‪ ،‬فلم ينفعهم توحيد الربوبية مع الشــرك‬
‫ون ﴾ [ ســورة‬ ‫في اإللهيــة‪ ،‬كما قــال تعــالى‪َ ﴿ :‬و َما يُ ْؤ ِمنُ َأ ْكثَ ُر ُه ْم بِاهَّلل ِ ِإاَّل َو ُه ْم ُم ْ‬
‫ش ِر ُك َ‬
‫يوسف‪ ،‬اآلية ‪.] 106 :‬‬

‫وعباد القبور نطقوا بها‪ ،‬وجهلوا معناها‪ ،‬وأبوا عن اإلتيان بــه‪ ،‬فصــاروا كــاليهود‬
‫الذين يقولونها وال يعرفون معناها وال يعملون به‪ ،‬فتجد أحــدهم يقولها وهو يأله غــير هللا‬
‫بالحب واإلجالل والتعظيم‪ ،‬والخوف والرجاء‪،‬ـ والتوكل والــدعاء عند الكــرب‪ ،‬ويقصــده‬
‫بـــأنواع العبـــادة الصـــادرة عن تأله قلبه لغـــير هللا‪ ،‬مما هو أعظم مما يفعله المشـــركون‬
‫األولون‪.‬‬
‫ولهــذا إذا تــوجهت على أحــدهم اليمين باهلل تعــالى‪ ،‬أعطــاك ما شــئت من األيمــان‬
‫صادقا أو كاذبا‪ ،‬ولو قيل له‪ :‬احلف بحياة الشيخ فالن‪ ،‬أو بتربته ونحو ذلك‪ ،‬لم يحلف إن‬
‫كــان كاذبــا‪ ،‬وما ذاك إال ألن المــدفون في الــتراب أعظم في قلبه من رب األربــاب‪،‬ـ وما‬
‫كان األولون هكذا‪ ،‬بل كانوا إذا أرادوا التشديد في اليمين حلفوا باهلل تعالى‪ ،‬كما في قصة‬
‫القسامة التي وقعت في الجاهلية‪ ،‬وهي في صحيح البخاري(‪.)1‬‬
‫وكثير منهم أو أكثرهم يرى أن االستغاثة بإلهه الذي يعبده عند قبره أو غــيره أنفع‬
‫وأنجح من االســتغاثة باهلل في المســجد‪ ،‬ويصــرحون بــذلك‪ ،‬والحكايــات عنهم بــذلك فيها‬
‫طــول‪ ،‬وهــذا أمر ما بلغ إليه شــرك األولين‪ .‬وهــؤالء إذا أصــابتهم الشــدائد أخلصــوا‬
‫‪ )?(1‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 7/190 :‬برقم‪ )3845( :‬في مناقب‪ F‬األنصار‪ ،‬باب القسامة في الجاهلية‪ .‬عن ابن عباس‪ ،‬وهي قصة أول‬
‫قسامة في الجاهلية في بني هاشم‪ ،‬لما قتل رجل منهم في عقال بعير فأنكر القاتل‪ ،‬فحلف من قومه ثمانية وأربعون رجال‪ ،‬فما حال الحول ومنهم‬
‫عين تطرف‪.‬‬
‫للمدفونين في التراب‪ .‬وهتفوا بأسمائهم ودعوهم ليكشفوا ضر المصاب‪ ،‬في الـبر والبحر‬
‫والســفر واإليــاب‪ ،‬وهــذا أمر ما فعله األولــون‪ ،‬بل هم في هــذه الحــال يخلصــون للكبــير‬
‫ِّين ﴾ [ سورة‬ ‫ين لَهُ الد َ‬ ‫المتعال‪ ،‬فاقرأ قوله تعالى‪ ﴿ :‬فَِإ َذا َر ِكبُوا فِي ا ْلفُ ْل ِك َد َع ُوا هَّللا َ ُم ْخلِ ِ‬
‫ص َ‬
‫العنكبوت‪ ،‬اآلية ‪.] 65 :‬‬
‫الض َّر َع ْن ُك ْم ِإ َذا فَ ِري ٌ‬
‫ق‬ ‫ف ُّ‬ ‫ش َ‬ ‫ون *ثُ َّم ِإ َذا َك َ‬ ‫الض ُّر فَِإلَ ْي ِه ت َْج َأ ُر َ‬ ‫وقوله‪ ﴿ :‬ثُ َّم ِإ َذا َم َّ‬
‫س ُك ُم ُّ‬
‫ون ﴾ [ سورة النحل ‪ 53 :‬ـ ‪.] 54‬‬ ‫ش ِر ُك َ‬ ‫ِم ْن ُك ْم بِ َربِّ ِه ْم يُ ْ‬
‫وكثير منهم قد عطلوا المساجد‪ ،‬وعمروا القبور والمشاهد‪ ،‬فإذا قصد أحدهم القــبر‬
‫الذي يعظمه‪ ،‬أخذ في دعاء صاحبه باكيا خاشــعا ذليال خاضــعا‪،‬ـ بحيث ال يحصل له ذلك‬
‫في الجمعة والجماعات‪ ،‬وقيام الليل وأدبار الصلوات‪ ،‬فيسألونهم مغفرة الذنوب‪ ،‬وتفريج‬
‫الكروب‪ ،‬والنجاة من النار‪ ،‬وأن يحطوا عنهم األوزار‪ ،‬فكيف يظن عاقل فضال عن عالم‬
‫أن التلفظ بال إله إال هللا مع هذه األمور تنفعهم؟! وهم قالوها بألسنتهم وخالفوها باعتقادهم‬
‫وأعمـــالهم‪ ،‬وال ريب أنه لو قالها أحد من المشـــركين‪ ،‬ونطق أيضا بشـــهادة أن محمـــدا‬
‫رسول هللا‪ ،‬ولم يعرف معنى اإلله وال معنى الرسول‪ ،‬وصلى وصام وحج وال يــدري ما‬
‫ذلك‪ ،‬إال أنه رأى الناس يفعلون فتابعهم‪ ،‬ولم يفعل شيئا من الشــرك‪ ،‬فإنه ال يشك أحد في‬
‫عدم إسالمه‪ ،‬وقد أفتى بذلك فقهاء المغرب كلهم في أول القرن الحــادي عشر أو قبله في‬
‫شــخص كــان كــذلك‪ ،‬كما ذكــره صــاحب (الــدر الثمين في شــرح المرشد المعين) من‬
‫المالكية‪ ،‬ثم قال شــارحه‪ :‬وهــذا الــذي أفتــوا به جلي في غاية الجالء‪ ،‬ال يمكن أن يختلف‬
‫فيه اثنان‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وال ريب أن عبادة القبور أشد من هذا؛ ألنهم اعتقدوا اإللهية في أرباب متفرقين‪.‬‬
‫فإن قيــل‪ :‬قد تــبين معــنى اإلله واإللهيــة‪ ،‬فما الجــواب عن قــول من قــال بــأن اإلله‬
‫القادر على االختراع‪ ،‬ونحو هذه العبارة ؟‬
‫قيل‪ :‬الجواب من وجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن هذا قــول مبتــدع‪ ،‬ال يعــرف أحد قاله من العلمــاء وال من أئمة اللغــة‪،‬‬
‫وكالم العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم‪ ،‬فيكون هذا القول باطال‪.‬‬
‫الثانـي ‪ :‬على تقدير تسليمه فهو تفسير بالالزم لإلله الحق‪ ،‬فإن الالزم له أن يكون‬
‫خالقا قادرا على االخــتراع‪ ،‬ومــتى لم يكن كــذلك‪ ،‬فليس بإله حق وإن ســمي إلهــا‪ ،‬وليس‬
‫مـــراده أن من عـــرف أن اإلله هو القـــادر على االخـــتراع فقد دخل في اإلســـالم‪ ،‬وأتى‬
‫بتحقيق المرام‪ ،‬من مفتاح دار السالم‪ ،‬فإن هذا ال يقوله أحد؛ ألنه يستلزم أن يكــون كفــار‬
‫العــرب مســلمين‪ ،‬ولو قــدر أن بعض المتــأخرين أرادوا ذلك فهم مخطئــون‪ ،‬يــرد عليهم‬
‫بالدالئل السمعية والعقلية‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫« المبحث ال َّرابع في معنى ‪ ( :‬شهادة أن ُمح َّم ًدا رسول اللَّـه ) » ‪:‬‬
‫لما كــانت كلمة الشــهادة علما على النطق بالشــهادتين معــا‪ ،‬وكانتا متالزمــتين ال‬
‫تنفك إحداهما عن األخرى‪ ،‬كان من الــواجب على من أتى بكل منهما أن يعــرف ما تــدل‬
‫عليه الكلمــة‪ ،‬ويعتقد ذلك المعــنى‪ ،‬ويطبقه في ســيرته ونهجــه‪ .‬فبعد أن عــرفت أن ليس‬
‫المراد من ال إله إال هللا مجرد التلفظ بها‪ ،‬فكذلك يقال في قرينتهــا‪ ،‬بل ال بد من التصــديق‬
‫بهــا‪ ،‬وااللــتزام بمعناها ومقتضــاها‪،‬ـ وهو االعتقــاد الجــازم بأنه ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪-‬‬
‫مرسل من ربه ‪-‬عز وجل‪ -‬قد حمله هللا هذه الشريعة كرســالة‪ ،‬وكلفه بتبليغها إلى األمــة‪،‬‬
‫وفرض على جميع األمة تقبل رســالته والســير على نهجــه‪ ،‬والبحث في ذلك يحتــاج إلى‬
‫معرفة أمور يحصل بها التأثر والتحقق ألداء هذه الشـهادة واالنتفـاع بهـا‪ ،‬وهـذه األمـور‬
‫هي‪:‬‬

‫األمر األول ‪ « :‬أهلية النبي صلى هللا عليه وسلم لهذه ال ّرسالة » ‪:‬‬
‫ق َما يَشَا ُء َويَ ْختَا ُر ﴾[ سورة القصص‪ ،‬اآلية ‪.] 68 :‬‬ ‫قال هللا تعالى‪َ ﴿ :‬و َربُّ َك يَ ْخلُ ُ‬
‫سالَتَهُ ﴾[ سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪.] 124 :‬‬ ‫ث يَ ْج َع ُل ِر َ‬ ‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬هَّللا ُ َأ ْعلَ ُم َح ْي ُ‬
‫صطَفَ ْي َن اَأْل ْخيَا ِر ﴾[ سورة ص‪ ،‬اآلية ‪.] 47 :‬‬ ‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وِإنَّ ُه ْم ِع ْن َدنَا لَ ِم َن ا ْل ُم ْ‬
‫ونحو هذه اآليات التي تفيــدنا بــأن رسل هللا من البشر هم الــذين فضــلهم واجتبــاهم‬
‫وطهرهم‪ ،‬حتى أصبحوا أهال لحمل رســالته‪ ،‬وأمنــاء على شـرعه ودينـه‪ ،‬ووسـطاء بينه‬
‫وبين عباده‪.‬‬
‫ش ٌر‬‫وقد ذكر هللا عن بعض األمم المكذبة للرسل أنهم قالوا لرســلهم‪ِ ﴿ :‬إنْ َأ ْنتُ ْم ِإاَّل بَ َ‬
‫ش ٌر‬ ‫ِم ْثلُنَا ﴾ [ سورة إبـراهيم‪ ،‬اآلية ‪ ] 10 :‬فكــان جـواب الرسل أن قــالوا‪ِ ﴿ :‬إنْ نَ ْحنُ ِإاَّل بَ َ‬
‫ِم ْثلُ ُك ْم َولَ ِكنَّ هَّللا َ يَ ُمنُّ َعلَى َمنْ يَشَا ُء ِمنْ ِعبَا ِد ِه ﴾ [ سورة إبراهيم‪ ،‬اآلية ‪.] 11 :‬‬
‫وحيث إن نبينا محمــدا ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬هو خــاتم الرسل وأفضــلهم‪ ،‬وقد‬
‫خصه بما لم يحصل لغيره ممن قبله‪ ،‬فإنه بال شك على جــانب كبــير من هــذا االصــطفاء‬
‫واالختيار الذي أصبح به مرسال إلى عمــوم الخلق من الجن واإلنس‪ ،‬وقد قــال هللا تعــالى‬
‫يم ﴾ [ سورة القلم‪،‬ـ اآلية ‪.]4 :‬‬ ‫ق َع ِظ ٍ‬ ‫له‪َ ﴿ :‬وِإنَّكَ لَ َعلى ُخلُ ٍ‬
‫(‪)1‬‬
‫وفي صحيح مســلم عن عائشة ‪-‬رضي هللا عنهــا‪ -‬قــالت‪ « :‬كــان خلقه القــرآن »‬
‫تعـــني أنه يطبق ما فيه من مكـــارم األخالق‪ ،‬ومحاسن األعمـــال الـــتي يشـــهد بحســـنها‬
‫ومالءمتها كل عاقــل‪ ،‬فلقد كــان قبل نــزول الــوحي عليــه‪ ،‬على جــانب كبــير من األمانة‬
‫والصدق والوفاء والعفاف ونحوهـا‪ ،‬حــتى كـان أهل مكة يعرفونه بالصــادق األمين‪ ،‬وقد‬
‫تضــاعفت وتمكنت فيه تلك األخالق بعد النبــوة‪ ،‬فكــان يتحلى بــأعظم درجــات الكــرم‬
‫والجود والحلم والصبر‪ ،‬والمروءة والشكر‪ ،‬والعــدل والنزاهــة‪ ،‬والتواضع والشــجاعة‪...‬‬

‫‪ )?(1‬رواه مسلم برقم‪ ،)746( :‬في صالة المسافرين وقصرها‪ ،‬باب جامع صالة الليل‪ ،‬ومن نام عنه أو مرض‪ ،‬في حديث طويل‪.‬‬
‫إلخ‪ ،‬كما يوجد ذلك مدونا بأمثلة رائعة في كتب السيرة والتــأريخ وال يخــالف في ذلك إال‬
‫من أنكر المحسوسات‪.‬‬
‫وهكذا كان ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬مبرءا عن النقائص ومساوئ الخالق التي تزيل‬
‫الحشـــمة وتســـقط المـــروءة‪ ،‬وتلحق بفاعلها اإلزراء والخســـة‪ :‬كالبخل والشـــح‪ ،‬والظلم‬
‫والجور‪ ،‬والكبر والكذب والجبن والعجز والكسل‪ ،‬والسرقة والخيانة ونحوها‪.‬‬

‫األمر الثاني‪ « :‬عصمته من الخطايا » ‪:‬‬


‫اتفقت األمة على أن األنبيــاء معصــومون من كبــائر الــذنوب؛ لمنافاتها لالجتبــاء‬
‫واالصطفاء‪ ،‬وألن هللا حملهم رسالته إلى البشر‪ ،‬فال بد أن يكونــوا قــدوة ألممهم‪ ،‬وكلفهم‬
‫أن يحذروا الناس من مقارفة الكفر والذنوب‪ ،‬والفسوق والمعاصي‪ ،‬فلو وقع منهم ظاهرا‬
‫شيء من هذه الخطايــا‪،‬ـ لتســلط أعــداؤهم بــذلك على القــدح فيهم‪ ،‬والطعن في شــريعتهم‪،‬‬
‫وذلك ينـــافي حكمة هللا تعـــالى‪ ،‬فكـــان من رحمته أن حفظهم من فعل شـــيء من هـــذه‬
‫المخالفات‪،‬ـ وكلفهم بالنهي عنها‪ ،‬وبيان سوء مغبتها‪ ،‬كما جعلهم قدوة وأســوة في الزهــد‪،‬‬
‫والتقلل من شهوات الدنيا التي تشغل عن الدار اآلخرة‪ ،‬فأما صــغائر الــذنوب فقد تقع من‬
‫أحــدهم على وجه االجتهــاد‪ ،‬ولكن ال يقــرون عليهــا‪ ،‬فال تكــون قادحة في العدالــة‪ ،‬وال‬
‫منافية للنبوة‪ ،‬وإنما هي أمارة على أنهم بشر لم يصل أحــدهم إلى علم الغيب‪ ،‬وال يصــلح‬
‫أن يمنح شيئا من صفاتـ الربوبية‪.‬‬
‫وقد ذكر المفسرون وأهل العلم بعضا مما وقع من ذلك‪ ،‬كقوله تعالى‪َ ﴿ :‬واَل تَ ْط ُر ِد‬
‫ُون َو ْج َههُ ﴾[ سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪.] 52 :‬‬ ‫ش ِّي يُ ِريد َ‬‫ُون َربَّ ُه ْم بِا ْل َغ َدا ِة َوا ْل َع ِ‬ ‫الَّ ِذ َ‬
‫ين يَ ْدع َ‬
‫وقولــه‪َ ﴿ :‬وِإنْ َك ادُوا لَيَ ْفتِنُونَ كَ َع ِن الَّ ِذي َأ ْو َح ْينَا ِإلَ ْي َك لِتَ ْفتَ ِر َ‬
‫ي َعلَ ْينَا َغ ْي َرهُ َوِإ ًذا‬
‫ش ْيًئا قَلِياًل ﴾[ ســورة اإلســراء ‪:‬‬ ‫اَل تَّ َخ ُذوكَ َخلِياًل * َولَ ْواَل َأنْ ثَبَّ ْتنَا َك لَقَ ْد ِكدْتَ ت َْر َكـنُ ِإلَ ْي ِه ْم َ‬
‫‪ 73‬ـ ‪ .] 74‬ونحو تلك الوقائع التي فعلها اجتهادا لما يؤمله من مصلحة ظــاهرة‪ ،‬علم هللا‬
‫تعالى أنها ال تتحقق‪.‬‬
‫فأما المعاصي والــذنوب فــإن هللا تعــالى حمــاه من فعلها أو إقرارهــا؛ـ لمنافــاة ذلك‬
‫لصـــفات الرســـالة واالختيـــار‪ ،‬ولمخالفة ما ورد عنه من التحـــذير عن الكفر والفســـوق‬
‫والعصــيان‪ ،‬فأما تبليغ ما أوحي إليه من الشــرع فقد ذكر العلمــاء المحققــون اتفــاق األمة‬
‫على عصمته‪ ،‬بل وعصمة األنبياء فيما يبلغونه عن هللا تعالى من الــوحي والتشــريع‪ ،‬بل‬
‫إن هللا ‪-‬جل ذكره‪ -‬قد عصمه قبل النبوة عن الشرك والخنا ونحو ذلك‪.‬‬
‫فقد روي عنه ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬أنه قــال ‪ :‬ما هممت بشــيء مما كــان أهل‬
‫الجاهلية يعملون به‪ ،‬وما هممت بسوء حتى أكرمني هللا برسالته ‪ .‬ذكره القاضيـ عيــاض‬
‫في كتابه الشفا(‪ )1‬وغيره‪.‬‬

‫‪ )?(1‬انظر كتاب الشفاء‪. 1/100 :‬‬


‫وقال ابن إســحاق في الســيرة‪ :‬فشب رســول هللا ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬يكلــؤه هللا‬
‫ويحفظــه‪ ،‬ويحوطه من أقــذار الجاهلية ومعائبهــا؛ لما يريد به من كرامته ورســالته وهو‬
‫على دين قومه‪ ،‬حتى بلغ أن كــان رجال أفضل قومه مـروءة‪ ،‬وأحســنهم خلقــا‪ ،‬وأكــرمهم‬
‫مخالطــة‪ ،‬وأحســنهم جــوارا‪ ،‬وأعظمهم خلقــا‪ ،‬وأصــدقهم أمانــة‪ ،‬وأبعــدهم من الفحش‬
‫واألخالق التي تدنس الرجالـ تنزها وتكرما‪ ،‬حتى ما سمي في قومه إال األمين؛ لما جمع‬
‫هللا به في صغره وأمر جاهليته(‪.)1‬‬

‫األمر الثالث ‪ « :‬عموم رسالته صلى اللَّـه عليه وسلم » ‪:‬‬


‫اختص محمد ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬دون األنبياء بخصائص كثــيرة‪ ،‬ذكر بعضــها‬
‫في حــــديث جــــابر المتفق عليه بقوله ‪ « :‬أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي‪ :‬نصــــرت‬
‫بالرعب مسيرة شهر‪ ،‬وجعلت لي األرض مسجدا وطهــورا‪ ،‬وأحلت لي الغنــائم ولم تحل‬
‫ألحد قبلي‪ ،‬وأعطيت الشفاعة‪ ،‬وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة‬
‫»(‪ .)2‬وقال ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ « : -‬بعثت إلى األسود واألحمر » رواه مسلم(‪.)3‬‬
‫وعلى هــذا فــإن على جميع البشر أن يتبعــوه ويطيعــوه‪ ،‬فــإنهم جميعا من أمته أمة‬
‫شي ًرا َونَ ِذي ًرا ﴾[ سورة ســبأ‪،‬‬ ‫س بَ ِ‬ ‫الدعوة‪ ،‬وقد قال هللا تعالى‪َ ﴿ :‬و َما َأ ْر َ‬
‫س ْلنَاكَ ِإاَّل َكافَّةً لِلنَّا ِ‬
‫اآلية ‪ ] 28 :‬أي‪ :‬للناس كافة‪.‬‬
‫سو ُل هَّللا ِ ِإلَ ْي ُك ْم َج ِمي ًعا ﴾ [ ســورة األعــراف‪،‬‬ ‫اس ِإنِّي َر ُ‬ ‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬قُ ْل يَا َأيُّ َها النَّ ُ‬
‫اآلية ‪. ] 158 :‬‬
‫اس‬‫وقد وردت الخطابــات في القــرآن لعمــوم النــاس كقوله تعــالى ‪ ﴿ :‬يَا َأيُّ َها النَّ ُ‬
‫ا ْعبُدُوا َربَّ ُك ُم ﴾ [ سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪. ] 21 :‬‬
‫ق ِمنْ َربِّ ُك ْم فَ آ ِمنُوا َخ ْي ًرا لَ ُك ْم‬ ‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬يَا َأ ُّي َها النَّ ُ‬
‫اس قَ ْد َجا َء ُك ُم ال َّر ُ‬
‫سو ُل بِا ْل َح ِّ‬
‫﴾ [ سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.] 170 :‬‬
‫اس قَ ْد َجا َء ُك ْم بُ ْر َه انٌ ِمنْ َربِّ ُك ْم َوَأ ْن َز ْلنَا ِإلَ ْي ُك ْم نُ و ًرا ُمبِينًا‬ ‫وقال تعالى ‪ ﴿ :‬يَا َأ ُّي َها النَّ ُ‬
‫﴾ [ سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪ .] 174 :‬فاإلشارة إلى محمد ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وما جــاء به‬
‫من ربه‪.‬‬
‫فهذه النصوص تبين أن جميع البشر مكلفون باتبــاع رســالته‪ ،‬وملزمــون بطاعتــه‪.‬‬
‫وقد اشــتهر أيضا أنه ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬مبعــوث إلى الجن كما بعث إلى اإلنســن‪،‬‬
‫‪ )?(1‬من السيرة مع الروض األنف‪.2/219 :‬‬
‫‪ )?(2‬رواه البخاري كما في فتح‪ 1/59 :‬برقم‪ )335( :‬في التيمم‪ ،‬باب (‪ ،)1‬ومسلم‪ :‬برقم (‪ ،)521‬في المساجد‪ F‬ومواضع الصالة‪.‬‬
‫‪ )?(3‬رواه مسلم برقم (‪ ،)521‬في المساجد ومواضع الصالة‪.‬‬
‫آن فَلَ َّما‬
‫ون ا ْلقُ ْر َ‬‫س تَ ِم ُع َ‬ ‫ص َر ْفنَا ِإلَ ْي كَ نَفَ ًرا ِم َن ا ْل ِجنِّ يَ ْ‬ ‫واســتدل لــذلك بقوله تعــالى ‪َ ﴿ :‬وِإ ْذ َ‬
‫ين ﴾ [ سورة األحقــاف‪ ،‬اآلية ‪:‬‬ ‫ض َي َولَّ ْوا ِإلَى قَ ْو ِم ِه ْم ُم ْن ِذ ِر َ‬ ‫صتُوا فَلَ َّما قُ ِ‬ ‫ض ُروهُ قَالُوا َأ ْن ِ‬ ‫َح َ‬
‫‪ ] 29‬إلى قوله ‪ ﴿ :‬يَا قَ ْو َمنَا َأ ِجيبُوا َدا ِع َي هَّللا ِ َوآ ِمنُوا بِ ِه ﴾‬
‫[ سورة األحقاف‪ ،‬اآلية ‪.] 31 :‬‬
‫س ِم ْعنَا قُ ْرآنًا‬ ‫ستَ َم َع نَفَ ٌر ِم َن ا ْل ِجنِّ فَقَالُوا ِإنَّا َ‬ ‫وكذا قوله تعالى‪ ﴿ :‬قُ ْل ُأ ِ‬
‫وح َي ِإلَ َّي َأنَّهُ ا ْ‬
‫ش ِد فَآ َمنَّا بِ ِه ﴾ [ سورة الجن ‪ 1 :‬ـ ‪.] 2‬‬ ‫َع َجبًا *يَ ْه ِدي ِإلَى ُّ‬
‫الر ْ‬
‫وقد زعم اليهـود والنصــارى ‪-‬لعنهم هللا‪ -‬أن رســالة محمد ‪-‬صـلى هللا عليه وسـلم‪-‬‬
‫خاصة بــالعرب‪ ،‬وذلك بعد ان اطمــأنوا إلى صــحة رســالته‪ ،‬وما تأيد به من المعجــزات‪،‬‬
‫وما حصل له من األتباع‪ ،‬فلم يجدوا بدا من التصــديق بأنه مرسل من ربــه‪ ،‬ولكن حملهم‬
‫الكبر وحب المناصب والمكاسب على ترك اتباعــه‪ ،‬وقد اعــترفوا بــأن ما أنــزل إليه فهو‬
‫وحي من هللا تعـــالى لصـــدقه وصـــحة رســـالته‪ ،‬ومع ذلك لم يتقبلـــوا ما فيه من األوامر‬
‫ص ِّدقًا لِ َما َم َع ُك ْم َواَل تَ ُكونُ وا َأ َّو َل َك افِ ٍر‬ ‫الموجهة إليهم كقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وآ ِمنُوا بِ َما َأ ْن َز ْلتُ ُم َ‬
‫ق بِا ْلبَا ِط ِل َوتَ ْكتُ ُم وا‬
‫س وا ا ْل َح َّ‬ ‫ون * َواَل تَ ْلبِ ُ‬ ‫ي فَ اتَّقُ ِ‬ ‫َش تَ ُروا بِآيَ اتِي ثَ َمنًا قَلِياًل َوِإيَّا َ‬ ‫بِ ِه َواَل ت ْ‬
‫ون ﴾‬‫ق َوَأ ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم َ‬
‫ا ْل َح َّ‬
‫[ سورة البقرة ‪ 41 :‬ـ ‪ ] 42‬ونحو ذلك من اآليات‪.‬‬

‫األمر الرابع ‪ « :‬تبليغه الرسالة » ‪:‬‬


‫س و ُل بَلِّ ْغ َما ُأ ْن ِز َل ِإلَ ْي كَ ِمنْ َربِّكَ َوِإنْ لَ ْم تَ ْف َع ْل فَ َما‬
‫قــال هللا تعــالى ‪ ﴿ :‬يَا َأيُّ َها ال َّر ُ‬
‫سالَتَهُ ﴾‬‫بَلَّ ْغتَ ِر َ‬
‫[ سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.] 67 :‬‬
‫وهـــذا تكليف من ربه تعـــالى‪ ،‬فال بد من حصـــوله مع أن هـــذا هو وظيفة الرسل‬
‫عليهم الصالة والسالم‪ ،‬ومحمد ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬من جملتهم‪ ،‬وقد قال تعالى ‪ِ ﴿ :‬إنْ‬
‫ول ِإاَّل ا ْلبَاَل ُ‬
‫غ‬ ‫س ِ‬ ‫غ ﴾ [ سورة الشـورى‪ ،‬اآلية ‪ .] 48 :‬وقـال‪َ ﴿ :‬و َما َعلَى ال َّر ُ‬ ‫َعلَ ْيكَ ِإاَّل ا ْلبَاَل ُ‬
‫ا ْل ُمبِينُ ﴾ [ سورة النور‪ ،‬اآلية ‪.] 54 :‬‬
‫وقد شهد له صحابته ‪-‬رضي هللا عنهم‪ -‬بهذا البالغ والبيان‪ ،‬فيقــول أبو ذر ‪-‬رضي‬
‫هللا عنه‪ « : -‬توفي رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وما طائر يقلب جناحيه إال ذكر لنا‬
‫منه علما »(‪.)1‬‬
‫وروى أحمد بن ماجه عنه ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم – قال ‪ « :‬لقد تركتكم على مثل‬
‫البيضاء‪ ،‬ليلها كنهارها‪ ،‬ال يزيغ عنها بعدي إال هالك »(‪.)2‬‬
‫‪ )?(1‬ذكره شيخ اإلسالم ابن تيمية في أول الحموية‪ ،‬وهو في مسند أحمد‪ ،5/263 :‬وغيره‪.‬‬
‫‪ )?(2‬هو في سنن ابن ماجة برقم (‪ )5‬في المقدمة‪ ،‬باب اتباع سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬عن أبي الدرداء رضي اهلل عنه‪ .‬ومسند‬
‫أحمد‪ .4/126 :‬عن العرباض بن ساريه رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫وفي صحيح مسلم وغيره‪ :‬عن عبد هللا بن عمرو بن العاص ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬عن‬
‫النبي ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم – قــال ‪ « :‬إنه لم يكن نــبي قبلي إال كــان حقا عليه أن يــدل‬
‫أمته على خير ما يعلمه لهم‪ ،‬وينذرهم شر ما يعلمه لهم »(‪.)1‬‬
‫وقد اشــتهر أنه ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬بــدأ بــدعوة أهل بلــده وقومــه‪ ،‬ثم بــدعوة‬
‫العرب في أنحاء الجزيــرة‪ ،‬ثم بمن وراءهم‪ ،‬فكــان يرسل الرسل إلى القبائل في البــوادي‬
‫والقــرى للــدعوة إلى هللا‪ ،‬وقبــول هــذه الرســالة‪ ،‬ثم بعث الــدعاة إلى اليمن والبحــرين‬
‫وغيرهمــا‪ ،‬ثم بعث كتبا تتضــمن الــدعوة إلى هــذه الشــريعة إلى ملــوك الفــرس والــروم‬
‫وغيرهم‪ ،‬فما توفي حتى انتشرت دعوتــه‪ ،‬واشــتهر أمــره عند القــريب والبعيــد‪ ﴿ :‬فَ َم ْن ُه ْم‬
‫ضاَل لَةُ ﴾ [ سورة النحل‪ ،‬اآلية ‪.] 36 :‬‬
‫َمنْ َه َدى هَّللا ُ َو ِم ْن ُه ْم َمنْ َحقَّتْ َعلَ ْي ِه ال َّ‬
‫وهكذا قام صحابته من بعده بالدعوة إلى دينــه‪ ،‬وقتــال من أبى وامتنع من قبولهــا‪،‬‬
‫حتى يدخل في اإلسالم أو يعطي الجزية‪ ،‬ويلتزم الذل والصغار‪،‬ـ حتى بلغت هذه الــدعوة‬
‫أقطار األرض في أقصر مدة‪ ،‬كما ذكر في كتب التأريخ‪ ،‬ومع ذلك فإن من كان نائيا في‬
‫طرف البالد‪ ،‬وقدر أنه لم يسـمع بهذ الشـريعة أصال فـإن له حكم أهل الفـترات‪ ،‬وهو مع‬
‫ذلك مكلف بأن يبحث وينقب عن الدين الذي خلق له‪ ،‬وما يدين به الناس حوله‪.‬‬

‫األمر الخامس‪ « :‬ختم النبوة » ‪:‬‬


‫لما كانت هذه الشريعة لجميع الخلــق‪ ،‬وقد كلف بها جميع العبــاد في أقطــار البالد‪،‬‬
‫فإنما ذلك لكونها خاتمة الشــــرائع‪ ،‬وآخر الرســــاالت المنزلة من الســــماء‪ ،‬فيجب علينا‬
‫اإليمان بأن محمدا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬خاتم األنبيــاء وآخر الرسل قــال هللا تعــالى‪﴿ :‬‬
‫ين ﴾[ سورة األحــزاب‪،‬‬ ‫ان ُم َح َّم ٌد َأبَا َأ َح ٍد ِمنْ ِر َج الِ ُك ْم َولَ ِكنْ َر ُ‬
‫س و َل هَّللا ِ َو َخ اتَ َم النَّبِيِّ َ‬ ‫َما َك َ‬
‫اآلية ‪.] 40 :‬‬
‫وقد قرئ بفتح التاء وكســرها‪ ،‬وأصل الخــاتم ما يختم به ما قبلــه‪ ،‬ومنه ما تختم به‬
‫الرسائل حتى ال يضاف إليها شيء ليس منها‪ ،‬والمعنى أنه ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬آخر‬
‫األنبياء الذين أرسلهم هللا إلى الخلق‪ ،‬فيلزم من كونه خاتم األنبياء أن يكــون آخر الرســل‪،‬‬
‫وقد روى مسلم وغيره‪ ،‬عن أبي هريرة ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬أن رســول هللا ‪-‬صــلى هللا عليه‬
‫وســلم‪ -‬قــال ‪ « :‬مثلي ومثل األنبيــاء قبلي كمثل رجل بــنى بنيانــا‪ ،‬فأحســنه وأجمله إال‬
‫موضع لبنة من زاوية من زواياه‪ ،‬فجعل الناس يطوفون به وبعجبون لــه‪ ،‬ويقولــون‪ :‬هال‬
‫وضعت هذه اللبنة؟! قال‪ :‬فأنا اللبنـة وأنا خاتـم النبيين »(‪.)2‬‬

‫‪ )?(1‬رواه مسلم برقم (‪ ،)1844‬في اإلمارة‪ ،‬باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة األول فاألول‪.‬‬
‫‪ )?(2‬رواه مسلم برقم‪ ،)2286( :‬في الفضائل‪ ،‬باب ذكر كونه صلى اهلل عليه وسلم خاتم النبيين‪.‬‬
‫وروى مسلم أيضا‪ :‬عن جبير بن مطعم ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬أن رسول هللا ‪-‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ -‬قال ‪ « :‬إن لي أسـماء ‪ :‬أنا محمـد‪ ،‬وأنا المــاحي الـذي يمحو هللا بي الكفــر‪،‬‬
‫وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي‪ ،‬وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي »(‪.)1‬‬
‫وفي سنن أبي داود وغيره في حديث ثوبــان الطويــل‪ :‬قــال النــبي ‪-‬صــلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ « : -‬وأنه سيكون في أمتي كذابون ثالثون‪ ،‬كلهم يزعم أنه نبي‪ ،‬وأنا خــاتم النبــيين‬
‫ال نبي بعدي »(‪.)2‬‬
‫فيجب اإليمان بأنه ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬آخر األنبياء‪ ،‬وأن من ادعى النبوة بعــده‬
‫فهو كــاذب‪ ،‬وأن عيسى بن مــريم ‪-‬عليه الســالم‪ -‬حين يــنزل في آخر الزمــان‪ ،‬إنما يحكم‬
‫بشريعة محمد ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬فهو كفرد من أفراد هذه األمة‪ ،‬وإن كان ينزل عليه‬
‫الحي‪ ،‬لكنه ال يخرج عن هذا الشرع الشــريف‪ .‬وعلى هــذا فكل من زعم النبــوة أو ادعى‬
‫الرسالة في هذه األمة‪ ،‬فهو كذاب أفـاك‪ ،‬ضـال مضـل‪ ،‬ولو أتى بمخرقة أو شـعوذة‪ ،‬ولو‬
‫سحر أعين النــاس بــأنواع من الســحر والبهــرج‪ ،‬الـذي يــروج على الرعـاع والجهلة من‬
‫العوام‪ ،‬كما جرى على يــدي األســود العنسي ومســيلمة الكــذاب من األحــوال الشــيطانية‪،‬‬
‫والترهات الباطلة التي يعلم كذبها كل ذي عقل ســليم‪ ،‬وكــذلك غيرهما ممن ادعى النبــوة‬
‫وحصل له أتباع وشوكة‪ ،‬وفتن به بعض الناس‪ ،‬ومن آخرهم غالم أحمد القاديــاني الــذي‬
‫انتشر شــره‪ ،‬وفتن بشــبهته طوائف وأمم في الهند والســند وكثــير من البالد‪ ،‬وهكــذا كل‬
‫مدع للنبوة إلى يوم القيامة‪ ،‬وآخرهم الدجال الكذاب الذي وردت السنة بأمره وبيــان فتنته‬
‫اطينُ *تَنَ َّز ُل َعلَى ُك ِّل‬ ‫والتحذير من شره‪ ،‬وقد قال تعالى‪َ ﴿ :‬ه ْل ُأنَبُِّئ ُك ْم َعلَى َمنْ تَنَ َّز ُل ال َّ‬
‫شي َ ِ‬
‫يم ﴾ [ سورة الشعراء‪ 221 :‬ـ ‪.] 222‬‬ ‫اك َأثِ ٍ‬
‫َأفَّ ٍ‬
‫فهذا يدل على أن أولئك الكذابين تنزل عليهم الشــياطين‪ ،‬وتخيل إليهم أن ما يــأتيهم‬
‫وحي من هللا‪ ،‬ولكن ســـــنة هللا في خلقه أن يجعل على الحق نـــــورا‪ ،‬وأن الخرافـــــات‬
‫واألكاذيب ال بد وأن ينكشف أمرها‪ ،‬ويتجلى ألولي األلباب‪.‬‬

‫األمر السادس‪ « :‬واجب األمة نحوه » ‪:‬‬


‫وبعد أن عرفنا صــدقه ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬فيما جــاء بــه‪ ،‬وصــحة رســالته‪،‬‬
‫ووجوب تصديقه‪ ،‬وذلك هو مدلول شهادة أن محمدا رسول هللا‪ ،‬التي تستلزم تصــديقه ثم‬
‫التعبد باتباعه‪ ،‬واإليمان بما يــترتب على ذلك من الثــواب‪،‬ـ وعلى تركه من العقــاب‪،‬ـ فــإن‬
‫من واجبنا أن نقــوم بتحقيق ذلك وتطبيقه في واقع الحيـــاة‪ ،‬وذلك يتمثل في أوامر وردت‬
‫أدلتها في الكتاب والسنة وهي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬اإليمان به صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬


‫‪ )?(1‬رواه مسلم برقم‪ ،)2354( :‬في الفضائل‪ ،‬باب في أسمائه صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ )?(2‬انظر سنن أبي داود برقم‪ ،)4252( :‬في الفتن والمالحم‪ ،‬باب ذكر الفتن ودالئلها‪.‬‬
‫فقد أمر هللا بــذلك كما أمر باإليمــان باهلل والمالئكة والكتب‪ ،‬ورتب هللا تعــالى على‬
‫ذلك جزيل الثواب‪،‬ـ وعلى تركه أليم العقاب‪.‬ـ‬
‫ب الَّ ِذي نَ َّز َل‬ ‫س ولِ ِه َوا ْل ِكتَ ا ِ‬ ‫ين آ َمنُ وا آ ِمنُ وا بِاهَّلل ِ َو َر ُ‬ ‫قال هللا ‪-‬تعــالى‪ ﴿ : -‬يَا َأ ُّي َها الَّ ِذ َ‬
‫سلِ ِه َوا ْليَ ْو ِم‬ ‫ب الَّ ِذي َأ ْن َز َل ِمنْ قَ ْب ُل َو َمنْ يَ ْكفُ ْر بِاهَّلل ِ َو َماَل ِئ َكتِ ِه َو ُكتُبِ ِه َو ُر ُ‬ ‫سولِ ِه َوا ْل ِكتَا ِ‬ ‫َعلَى َر ُ‬
‫ضاَل اًل بَ ِعي ًدا ﴾ [ سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.] 136 :‬‬ ‫ض َّل َ‬ ‫اآْل ِخ ِر فَقَ ْد َ‬
‫س ولِ ِه يُ ْؤ تِ ُك ْم ِك ْفلَ ْي ِن ِمنْ‬
‫ين آ َمنُوا اتَّقُ وا هَّللا َ َوآ ِمنُ وا بِ َر ُ‬ ‫وقال ‪-‬تعالى‪ ﴿ : -‬يَا َأ ُّي َها الَّ ِذ َ‬
‫ـر لَ ُك ْم ﴾ [ سورة الحديد‪ ،‬اآلية ‪.] 28 :‬‬ ‫ُون بِ ِه َويَ ْغفِ ْ‬‫َر ْح َمتِ ِه َويَ ْج َع ْل لَ ُك ْم نُو ًرا تَ ْمش َ‬
‫س ولِ ِه َوالنُّو ِر الَّ ِذي َأ ْن َز ْلنَا ﴾ [ ســورة التغــابن‪،‬‬ ‫وقال ‪-‬ســبحانه‪ ﴿ : -‬فَ آ ِمنُوا بِاهَّلل ِ َو َر ُ‬
‫اآلية ‪.] 8 :‬‬
‫س ولِ ِه النَّبِ ِّي اُأْل ِّم ِّي الَّ ِذي يُ ْؤ ِمنُ بِاهَّلل ِ َو َكلِ َماتِ ِه ﴾‬ ‫وقال ‪-‬تعــالى‪ ﴿ : -‬فَ آ ِمنُوا بِاهَّلل ِ َو َر ُ‬
‫[ سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.] 158 :‬‬
‫ين‬‫س ولِ ِه فَِإنَّا َأ ْعتَ ْدنَا لِ ْل َك افِ ِر َ‬ ‫وقــال ‪-‬ســبحانه وتعــالى‪َ ﴿ : -‬و َمنْ لَ ْم يُ ْؤ ِمنْ بِاهَّلل ِ َو َر ُ‬
‫س ِعي ًرا ﴾ [ سورة الفتح‪ ،‬اآلية ‪ ] 13 :‬وغيرها من اآليات في هذا المعنى‪.‬‬ ‫َ‬
‫وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬قال‪ :‬قال رســول هللا ‪-‬صــلى‬
‫هللا عليه وسلم‪: -‬‬
‫« أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ال إله إال هللا‪ ،‬ويؤمنوا بي وبما جئت به‬
‫»(‪.)1‬‬
‫وفسر ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬اإليمان في حــديث جبريل المشــهور بقوله ‪ « :‬أن‬
‫تؤمن باهلل ومالئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم اآلخر‪ ،‬وبالقدر‪ :‬خيره وشره »(‪.)2‬‬
‫وال شك أن اإليمــان به ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬يســتلزم تصــديقه فيما جــاء بــه‪،‬‬
‫واعتقاد صــحة رســالته؛ ذلك أن أصل اإليمــان يقين القلب واطمئنانه بصــحة الشــيء‪ ،‬ثم‬
‫التكلم به عن معرفة وإيمان‪ ،‬ثم تطبيق ذلك بالعمل بمقتضــاه فباجتمــاع ذلك يتم اإليمــان‪،‬‬
‫ويعتبر وســيلة للنجــاة‪ .‬وبتخلف تصــديق القلبـ يبطل أثر الشــهادة وال تنفع قائلهــا‪ .‬ولهــذا‬
‫س و ُل هَّللا ِ َوهَّللا ُ يَ ْعلَ ُم‬‫ش َه ُد ِإنَّكَ لَ َر ُ‬ ‫ون قَ الُوا نَ ْ‬ ‫كذب هللا المنافقين بقوله ‪ِ ﴿ :‬إ َذا َجا َءكَ ا ْل ُمنَ افِقُ َ‬
‫ون ﴾ [ سورة المنافقون‪ ،‬اآلية ‪.]1 :‬‬ ‫ين لَ َكا ِذبُ َ‬ ‫ش َه ُد ِإنَّ ا ْل ُمنَافِقِ َ‬‫سولُهُ َوهَّللا ُ يَ ْ‬ ‫ِإنَّ َك لَ َر ُ‬
‫ثانيا ‪ :‬األمر بطاعته ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬والتحذير من معصيته‪.‬‬

‫‪ )?(1‬رواه مسلم برقم (‪ ،)21‬في اإليمان‪ ،‬باب األمر بقتال الناس حتى يقولوا ال إله إال اهلل‪ ...‬إلخ ‪.‬‬
‫‪ )?(2‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 1/140 :‬برقم (‪ ،)50‬في اإليمان‪ ،‬باب سؤال جبريل النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ...‬إلخ ‪ .‬عن أبي هريرة‬
‫رضي اهلل عنه‪ .‬ومسلم برقم (‪ ،)8‬في اإليمان‪ ،‬باب بيان اإليمان واإلسالم واإلحسان‪ ...‬إلخ ‪ .‬عن عمر رضي اهلل عنه‪ ،‬ورواه مسلم عن أبي‬
‫هريرة رضي اهلل عنه برقم (‪.)9‬‬
‫وال شك أن طاعته من عالمات اإليمان به‪ ،‬فإن التصديق الجــازم بصــدقه يســتلزم‬
‫طاعته فيما بلغه عن هللا تعالى‪ ،‬فمن خالفه في ذلك أو شيء منه عنادا أو تهاونا ‪ ،‬لم يكن‬
‫صادقا في شهادته بالرسالة‪ ،‬ولقد أمر هللا تعالى بطاعة الرســول ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪-‬‬
‫ين آ َمنُ وا َأ ِطي ُع وا هَّللا َ َوَأ ِطي ُع وا‬ ‫في مواضع كثيرة من القرآن‪ ،‬قال هللا تعالى‪ ﴿ :‬يَا َأيُّ َها الَّ ِذ َ‬
‫س و ِل ِإنْ ُك ْنتُ ْم‬ ‫ش ْي ٍء فَ ُردُّوهُ ِإلَى هَّللا ِ َوال َّر ُ‬ ‫از ْعتُ ْم فِي َ‬ ‫س و َل َوُأولِي اَأْل ْم ِر ِم ْن ُك ْم فَ ِإنْ تَنَ َ‬ ‫ال َّر ُ‬
‫ون بِاهَّلل ِ َوا ْليَ ْو ِم اآْل ِخ ِر ﴾ [ سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.] 59 :‬‬ ‫تُْؤ ِمنُ َ‬
‫اح َذ ُروا فَ ِإنْ تَ َولَّ ْيتُ ْم فَ ا ْعلَ ُموا َأنَّ َما‬ ‫سو َل َو ْ‬ ‫وقال تعالى ‪َ ﴿ :‬وَأ ِطي ُعوا هَّللا َ َوَأ ِطي ُعوا ال َّر ُ‬
‫غ ا ْل ُمبِينُ ﴾ [ سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.] 92 :‬‬ ‫سولِنَا ا ْلبَاَل ُ‬ ‫َعلَى َر ُ‬
‫سو َل فَ ِإنْ ت ََولَّ ْوا فَِإنَّ َما َعلَ ْي ِه‬ ‫وقال ‪-‬سبحانه وتعالى‪ ﴿ : -‬قُ ْل َأ ِطي ُعوا هَّللا َ َوَأ ِطي ُعوا ال َّر ُ‬
‫َما ُح ِّم َل َو َعلَ ْي ُك ْم َما ُح ِّم ْلتُ ْم َوِإنْ تُ ِطي ُعوهُ تَ ْهتَدُوا ﴾ [ سورة النور‪ ،‬اآلية ‪. ] 54 :‬‬
‫سو ُل فَ ُخ ُذوهُ َو َما نَ َها ُك ْم َع ْن هُ فَ ا ْنتَ ُهوا‬ ‫ومثل معنى ذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َما آتَا ُك ُم ال َّر ُ‬
‫﴾[ سورة الحشر‪ ،‬اآلية ‪.] 7 :‬‬
‫بل قد رتب على طاعته صلى هللا عليه وسلم جزيل الثواب فقال تعالى‪َ ﴿ :‬وَأ ِطي ُعوا‬
‫ون ﴾ [ سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.] 132 :‬‬ ‫سو َل لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْر َح ُم َ‬ ‫ال َّر ُ‬
‫س ولَهُ فَقَ ْد فَ ا َز فَ ْو ًزا َع ِظي ًما ﴾ [ ســورة‬ ‫وقــال هللا تعــالى‪َ ﴿ :‬و َمنْ يُ ِط ِع هَّللا َ َو َر ُ‬
‫األحزاب‪ ،‬اآلية ‪. ] 71 :‬‬
‫س ولَهُ يُ ْد ِخ ْل هُ‬ ‫وهكــذا توعد على معصــيته بالعقوبة الشــديدة‪َ ﴿ :‬و َمنْ يُ ِط ِع هَّللا َ َو َر ُ‬
‫ص هَّللا َ‬‫ين فِي َها َو َذلِ كَ ا ْلفَ ْو ُز ا ْل َع ِظي ُم * َو َمنْ يَ ْع ِ‬ ‫ت ت َْج ِري ِمنْ ت َْحتِ َها اَأْل ْن َه ا ُر َخالِ ِد َ‬ ‫َجنَّا ٍ‬
‫اب ُم ِهينٌ ﴾ [ سورة النســاء ‪ 13 :‬ـ ـ‬ ‫سولَهُ َويَتَ َع َّد ُحدُو َدهُ يُد ِْخ ْلهُ نَا ًرا َخالِ ًدا فِي َها َولَهُ َع َذ ٌ‬ ‫َو َر ُ‬
‫‪.] 14‬‬
‫س و َل ﴾ [ ســـورة‬ ‫وحكى عن أهل النـــار قـــولهم ‪ ﴿ :‬يَا لَ ْيتَنَا َأطَ ْعنَا هَّللا َ َوَأطَ ْعنَا ال َّر ُ‬
‫األحزاب‪ ،‬اآلية ‪.] 66 :‬‬
‫وورد في الصحيح عن أبي هريرة ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬قـال‪ :‬قـال رسـول هللا ‪-‬صـلى‬
‫هللا عليه وسلم‪: -‬‬
‫« من أطاعني فقد أطاع هللا‪ ،‬ومن عصاني فقد عصى هللا »(‪.)1‬‬

‫ومعنىهذا أنه ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬إنما يــأمر بما أوحى إليــه‪ ،‬فطاعته في ذلك‬
‫س و َل فَقَ ْد َأطَ ا َع هَّللا َ َو َمنْ تَ َولَّى فَ َما َأ ْر َ‬
‫س ْلنَا َك‬ ‫طاعة لربه‪ ،‬قال هللا تعالى‪َ ﴿ :‬منْ يُ ِط ِع ال َّر ُ‬
‫َعلَ ْي ِه ْم َحفِيظًا ﴾ [ سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.] 80 :‬‬

‫‪ )?(1‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 13/119 :‬برقم‪ )7137( :‬في األحكام‪ ،‬باب قول اهلل تعالى‪ ﴿ :‬وأطيعوا اهلل وأطيعوا الرسول‪ ﴾ ...‬اآلية‪.‬‬
‫وروى البخاري عن أبي هريرة ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬قال‪ :‬قال رســول هللا ‪-‬صــلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ « : -‬كل الناس يدخل الجنة إال من أبى قالوا‪ :‬يا رسول هللا وكيف يأبى؟ قــال‪:‬‬
‫من أطاعني دخل الجنة‪ ،‬ومن عصاني فقد أبى »(‪.)1‬‬
‫وال شك أن طاعته هي فعل ما أمر به‪ ،‬وتجنب ما نهى عنـه‪ ،‬والتسـليم مع ذلك لما‬
‫جاء به‪ ،‬والرضا بحكمه وترك االعتراض على شرعه أو التعقب واالنتقاد لحكمه‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬أمر األمة باتباعه واالقتداء بسنته‪.‬‬


‫وقد رتب هللا على ذلك االهتــداء والمغفــرة‪ ،‬وجعله عالمة على صــدق المحبة هلل‬
‫تعالى‪ ،‬قال ‪-‬عز وجل‪:-‬‬
‫ُون ﴾[ سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.] 158 :‬‬ ‫﴿ َواتَّبِ ُعوهُ لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْهتَد َ‬
‫ولما ادعى اليهود والنصارى أنهم أبناء هللا وأحبــاؤه أنــزل آية المحنــة‪ ،‬وهي قوله‬
‫ون هَّللا َ فَ اتَّبِ ُعونِي يُ ْحبِ ْب ُك ُم هَّللا ُ َويَ ْغفِ ْر لَ ُك ْم ُذنُ وبَ ُك ْم َوهَّللا ُ َغفُ و ٌر‬
‫تعــالى‪ ﴿ :‬قُ ْل ِإنْ ُك ْنتُ ْم تُ ِحبُّ َ‬
‫ين ﴾ [ ســورة آل‬ ‫س و َل فَ ِإنْ تَ َولَّ ْوا فَ ِإنَّ هَّللا َ اَل يُ ِح ُّب ا ْل َك افِ ِر َ‬ ‫َر ِحي ٌم *قُ ْل َأ ِطي ُع وا هَّللا َ َوال َّر ُ‬
‫عمران ‪ 31 :‬ـ ‪.] 32‬‬
‫سنَةٌ لِ َمنْ َك َ‬
‫ان يَ ْر ُجو هَّللا َ َوا ْليَ ْو َم‬ ‫س َوةٌ َح َ‬ ‫ول هَّللا ِ ُأ ْ‬
‫س ِ‬ ‫ان لَ ُك ْم فِي َر ُ‬ ‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬لَقَ ْد َك َ‬
‫اآْل ِخ َر َو َذ َك َر هَّللا َ َكثِي ًرا ﴾ [ سورة األحزاب‪ ،‬اآلية ‪.] 21 :‬‬
‫وال شك أن مما يجب على العبـــــاد محبة ربهم الـــــذي خلقهم وأنعم عليهم‪ ،‬ولكن‬
‫حصول هذه المحبة وقبولها متوقف على اتباع هذا النبي الكريم ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪-‬؛‬
‫فقد جعل هللا من ثواب اتباعه محبة هللا تعالى لمن اتبعــه‪ ،‬ومغفرته لــه‪ ،‬ولكن عالمة هــذا‬
‫االتبــاع‪ ،‬تقليــده ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬والســير على نهجــه‪ ،‬واالقتــداء به في ســيرته‬
‫وأعماله وقرباته‪ ،‬وتجنب كل ما نهى عنــه‪ ،‬والحــذر من مخالفتــه‪ ،‬الــتي نهايتها الخــروج‬
‫عن التأسي به‪ ،‬كما في الصحيح عنه ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬أنه قــال‪ « :‬فمن رغب عن‬
‫سنتي فليس مني»(‪.)2‬‬

‫رابعا ‪ :‬محبته الصادقة بالقلبـ والقالب‪.‬‬


‫ان آبَاُؤ ُك ْم َوَأ ْبنَاُؤ ُك ْم َوِإ ْخ َوانُ ُك ْم‬
‫بل تقديمها على ما سواها‪ .‬قال هللا تعالى ‪ ﴿ :‬قُ ْل ِإنْ َك َ‬
‫ض ْونَ َها‬ ‫س ا ِكنُ ت َْر َ‬ ‫سا َد َها َو َم َ‬ ‫يرتُ ُك ْم َوَأ ْم َوا ٌل ا ْقت ََر ْفتُ ُمو َها َوتِ َج َ‬
‫ارةٌ ت َْخش َْو َن َك َ‬ ‫ش َ‬ ‫َوَأ ْز َو ُ‬
‫اج ُك ْم َو َع ِ‬

‫‪ )?(1‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 13/263 :‬برقم‪ )7280( :‬في االعتصام‪ ،‬باب االقتداء بسنن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ...‬إلخ ‪.‬‬
‫‪ )?(2‬قطعة من حديث رواه البخاري كما في الفتح‪ 9/5 :‬برقم‪ )5063( :‬في النكاح‪ ،‬باب الترغيب في النكاح عن أنس بن مالك رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫ص وا َحتَّى يَ ْأتِ َي هَّللا ُ بِ َأ ْم ِر ِه َوهَّللا ُ اَل‬‫س بِيلِ ِه فَتَ َربَّ ُ‬ ‫َأ َح َّ‬
‫ب ِإلَ ْي ُك ْم ِم َن هَّللا ِ َو َر ُ‬
‫س ولِ ِه َو ِج َه ا ٍد فِي َ‬
‫ين ﴾ [ سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.] 24 :‬‬ ‫يَ ْه ِدي ا ْلقَ ْو َم ا ْلفَ ِ‬
‫اسقِ َ‬
‫فانظر كيف وبخهم على تقديم شــيء من هــذه األصــناف الثمانيــة‪ ،‬الــتي تميل إليها‬
‫النفس عـــادة‪ ،‬وتـــؤثر الحيـــاة ألجلها على محبة هللا ومحبة رســـوله‪ ،‬وتوعـــدهم بقوله‬
‫فَتَ َربَّصُوا إلخ ‪ ،‬أي ‪ :‬انتظروا أمر هللا وهو أثر سخطه وغضــبه‪ ،‬بما يــنزل من العقوبــة‪،‬‬
‫وفي ذلك أبلغ دليل على وجوب محبة هللا تعالى‪ ،‬ومحبة رســوله ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪-‬‬
‫وقد أكد ذلك النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬في سنته‪ ،‬كقوله ‪ -‬صلى هللا عليه وســلم ‪ -‬في‬
‫حــديث أنس ‪ « :‬ثالث من كن فيه وجد بهن حالوة اإليمــان‪ :‬أن يكـون هللا ورسـوله أحب‬
‫إليه مما ســواهما‪ ،‬وأن يحب المــرء ال يحبه إال هللا‪ ،‬وأن يكــره أن يعــود في الكفر بعد إن‬
‫أنقذه هللا منه‪ ،‬كما يكره أن يقذف في النــار »(‪ )1‬متفق عليه وفي الصــحيحين أيضا ‪ :‬عن‬
‫أنس ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬قال‪ :‬قــال رسـول هللا ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ « : -‬ال يـؤمن أحـدكم‬
‫حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين »(‪.)2‬‬
‫ولما قـــال عمر بن الخطـــاب ‪-‬رضي هللا عنـــه‪ « : -‬وهللا ألنت أحب إلي من كل‬
‫شيء‪ ،‬إال من نفسي قال‪:‬‬
‫ال يا عمــر‪ ،‬حــتى أكــون أحب إليك من نفســك‪ ،‬فقــال رضي هللا عنه ‪ :‬وهللا ألنت‬
‫أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي‪ .‬فقال‪ :‬اآلن يا عمر » رواه البخاري(‪.)3‬‬
‫وقد ورد في الحديث أن من ثواب محبته ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬االجتماع معه في‬
‫اآلخرة‪ ،‬وذلك لما سأله رجل عن الساعة فقال ‪ « :‬ما أعددت لها؟ قال‪ :‬ما أعددت لها إال‬
‫حب هللا ورسوله‪ .‬فقال‪ :‬أنت مع من أحببت »(‪.)4‬‬
‫وفي الصــحيحين‪ :‬عن ابن مســعود ‪-‬رضي هللا عنــه‪ -‬عن النــبي ‪ -‬صــلى هللا عليه‬
‫وســلم ‪ -‬قــال ‪ « :‬المــرء مع من أحب »(‪ )5‬وكفى بــذلك ثوابا وأجــرا لهــذه المحبــة‪ ،‬ولكن‬
‫المحبة الصــادقة تســتلزم االقتــداء به والتــأدب بآدابــه‪ ،‬وتقــديم سـنته على رضا كل أحــد‪،‬‬
‫وتســتلزم أيضا محبة من يحبه ويواليــه‪ ،‬وبغض من يبغضه ويعاديــه‪ ،‬ولو كــان أقــرب‬
‫قريب‪ ،‬فمن اسـتكمل ذلك فقد صـدق في هـذه المحبـة‪ ،‬ومن خالفه أو نقص شـيئا من ذلك‬
‫نقصت محبته بقدر ذلك‪.‬‬

‫‪ )?(1‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 1/77 :‬برقم (‪ ،)16‬في اإليمان‪ ،‬باب حالوة اإليمان‪ .‬ومسلم برقم (‪ ،)43‬في اإليمان‪ ،‬باب بيان خصال من‬
‫اتصف بهن وجد حالوة اإليمان‪.‬‬
‫‪ )?(2‬رواه البخاري كما في التفح‪ 1/75 :‬برقم (‪ ،)15‬في اإليمان‪ ،‬باب (حب الرسول صلى اهلل عليه وسلم من اإليمان‪ ،‬ومسلم برقم (‪ ،)44‬في‬
‫اإليمان‪ ،‬باب وجوب محبة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ..‬إلخ ‪.‬‬
‫‪ )?(3‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 11/532 :‬برقم‪ ،)6632( :‬في اإليمان والنذور‪ ،‬باب (كيف كانت يمين النبي صلى اهلل عليه وسلم)‪.‬‬
‫‪ )?(4‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 13/140 :‬برقم‪ )7153( :‬في األحكام‪ ،‬باب القضاء والفتيا في الطريق‪ ،‬عن أنس رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫‪ )?(5‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 10/573 :‬برقم‪ )6168( :‬في األدب‪ ،‬باب عالمة الحب في اهلل‪ .‬ومسلم برقم‪ ،)2640( :‬في البر والصلة‪،‬‬
‫باب المرء مع من أحب‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬احترامه صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وتوقيره‪ ،‬وتعزيره‬
‫س ولِ ِه َوتُ َع ِّز ُروهُ َوتُ َوقِّ ُروهُ ﴾ [ سورة‬ ‫كما ذكر في قوله تعالى‪ ﴿ :‬لِتُْؤ ِمنُ وا بِاهَّلل ِ َو َر ُ‬
‫الفتح‪ ،‬اآلية ‪.] 9 :‬‬
‫سولِ ِه َواتَّقُ وا هَّللا َ ِإنَّ‬ ‫ي هَّللا ِ َو َر ُ‬ ‫ين آ َمنُوا اَل تُقَ ِّد ُموا بَ ْي َن يَ َد ِ‬ ‫وقوله تعالى‪ ﴿ :‬يَا َأيُّ َها الَّ ِذ َ‬
‫ت النَّبِ ِّي َواَل ت َْج َه ُروا‬ ‫ص ْو ِ‬ ‫ق َ‬ ‫ص َواتَ ُك ْم فَ ْو َ‬ ‫ين آ َمنُوا اَل ت َْرفَ ُعوا َأ ْ‬ ‫س ِمي ٌع َعلِي ٌم *يَا َأيُّ َها الَّ ِذ َ‬ ‫هَّللا َ َ‬
‫ون‬ ‫ض َ‬ ‫ين يَ ُغ ُّ‬‫ون *ِإنَّ الَّ ِذ َ‬‫ش ُع ُر َ‬ ‫ض َأنْ ت َْحبَطَ َأ ْع َمالُ ُك ْم َوَأ ْنتُ ْم اَل تَ ْ‬‫ض ُك ْم لِبَ ْع ٍ‬ ‫لَهُ بِا ْلقَ ْو ِل َك َج ْه ِر بَ ْع ِ‬
‫ين ا ْمت ََح َن هَّللا ُ قُلُوبَ ُه ْم لِلتَّ ْق َوى لَ ُه ْم َم ْغفِ َرةٌ َوَأ ْج ٌر َع ِظي ٌم‬ ‫ول هَّللا ِ ُأولَِئ َك الَّ ِذ َ‬‫س ِ‬ ‫ص َواتَ ُه ْم ِع ْن َد َر ُ‬‫َأ ْ‬
‫﴾[ سورة الحجرات ‪ 1 :‬ـ ‪ ] 3‬فنهاهم عن التقدم بين يديه بــرأي‪ ،‬أو نظر يخــالف ما جــاء‬
‫به‪ ،‬ونهاهم عن رفع الصوت بحضرته‪ ،‬أو الجهر له بالقول بدون مبرر‪ ،‬وتوعــدهم على‬
‫ضا﴾‬ ‫ض ُك ْم بَ ْع ً‬‫ول بَ ْينَ ُك ْم َك ُد َعا ِء بَ ْع ِ‬
‫س ِ‬ ‫ذلك بحبوط العمل‪ ،‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬اَل ت َْج َعلُوا ُد َعا َء ال َّر ُ‬
‫[ ســورة النــور‪ ،‬اآلية ‪ ] 63 :‬أي ال تنــادوه باســمه العلم كما يــدعو أحــدكم اآلخــر‪ ،‬ولكن‬
‫ادعوه بما تميز به بأن تقولوا‪ :‬يا نــبي هللا‪ ،‬أو يا رســول هللا‪ ،‬وما ذاك إال لما خصه هللا به‬
‫من الفضلـ والرفعة‪.‬‬
‫وفي تعزيره وتوقيره واحترامه تعظيم لسنته‪ ،‬ورفع لقدرها في نفوس أتباعــه‪ ،‬مما‬
‫يحصل به اتباعه وامتثال أمره وتجنب نهيه‪.‬‬

‫سادسا ‪ :‬وجوب التحاكم إليه والرضا بحكمه‪ ،‬ومنع االعتراض عليه‪.‬‬


‫س و ِل ﴾ [ ســورة النســاء‪،‬‬ ‫َي ٍء فَ ُردُّوهُ ِإلَى هَّللا ِ َوال َّر ُ‬
‫از ْعتُ ْم فِي ش ْ‬ ‫قال تعالى ‪ ﴿ :‬فَِإنْ تَنَ َ‬
‫اآلية ‪.] 59 :‬‬
‫ص يبَ ُه ْم فِ ْتنَ ةٌ َأ ْو يُ ِ‬
‫ص يبَ ُه ْم‬ ‫ون عَنْ َأ ْم ِر ِه َأنْ تُ ِ‬ ‫وقال تعــالى ‪ ﴿ :‬فَ ْليَ ْح َذ ْر الَّ ِذ َ‬
‫ين يُ َخ الِفُ َ‬
‫اب َألِي ٌم ﴾ [ سورة النور‪ ،‬اآلية ‪.] 63 :‬‬ ‫َع َذ ٌ‬
‫وأجمعت األمة على أن الرد والتحاكم بعده يكون إلى سنته ففي هــذه اآليــات أعظم‬
‫برهان على تحريم مخالفته‪ ،‬ومنع االستبدال بسنته‪ ،‬فانظر كيف حذر الذين يخــالفون عن‬
‫أمره بالفتنة وهي الشرك أو الزيغ‪ ،‬وبالعذاب األليم‪ ،‬وكيف أقسم على نفي اإليمــان عنهم‬
‫حتى يحكموه في كل نزاع يحدث بينهم‪ ،‬ويسلموا لقضائه‪ ،‬وال يبقى في نفوسهم أي حرج‬
‫أو تعنت مما قضى به بينهم‪ ،‬وكفى بـــذلك وعيـــدا وتهديـــدا لمن تـــرك ســـنته بعد معرفة‬
‫حكمها تهاونا واستخفافا‪،‬ـ واعتاض عنها بالعادات واآلراء والقوانين الوضعية ونحوها‪.‬‬

‫األمر السابع ‪ « :‬االقتصاد والتوسط في حقه صلى هللا عليه وسلم » ‪:‬‬
‫جــرت ســنة هللا في خلقه بوقــوع اإلفــراط أو التفريــط‪ ،‬وأن كل أمة يقع منهم في‬
‫الغالب غلو أو تقصير؛ لذلك حذر النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أمته المتبعين له من الغلو‬
‫في حقه وإعطائه شيئا من خالص حق هللا تعالى‪ ،‬ويتبين ذلك بما يأتي‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬أنه ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬لم يخرج عن كونه بشرا ‪:‬‬
‫وحى ِإلَ َّي ﴾[ ســورة الكهــف‪ ،‬اآلية ‪:‬‬ ‫ش ٌر ِم ْثلُ ُك ْم يُ َ‬ ‫قــال هللا تعــالى‪ ﴿ :‬قُ ْل ِإنَّ َما َأنَا بَ َ‬
‫‪ ] 110‬فبين أنه اختص بالوحي إليه فقط‪.‬‬
‫سواًل ﴾ [ سورة اإلســراء‪ ،‬اآلية‬ ‫ش ًرا َر ُ‬ ‫ان َربِّي َه ْل ُك ْنتُ ِإاَّل بَ َ‬ ‫س ْب َح َ‬‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬قُ ْل ُ‬
‫‪ ] 93 :‬وذلك لما طلب منه المشركون أن يفجر األرض‪ ،‬أو يسقط الســماء عليهم كســفا‪..‬‬
‫إلخ‪ ،‬فبين لهم أن الذي يملك ذلك هو ربه وحده ‪ ،‬فأما هو فإنما تميز بالرســالة الــتي حمله‬
‫هللا إياها‪.‬‬
‫وقد حكى هللا عن األمم السابقة طعنهم في رسالة الرسل بــأنهم بشــر‪ ،‬كما في قوله‬
‫ب ِم َّما‬ ‫ش َر ُ‬ ‫ون ِم ْنهُ َويَ ْ‬ ‫ش ٌر ِم ْثلُ ُك ْم يَْأ ُك ُل ِم َّما تَْأ ُكلُ َ‬‫تعالى عن قوم هود أو صالح‪َ ﴿ :‬ما َه َذا ِإاَّل بَ َ‬
‫ون ﴾ [ سورة المؤمنون‪ ،‬اآلية ‪ 33 :‬ــ‬ ‫س ُر َ‬ ‫ش ًرا ِم ْثلَ ُك ْم ِإنَّ ُك ْم ِإ ًذا لَ َخا ِ‬ ‫ون * َولَِئنْ َأطَ ْعتُ ْم بَ َ‬ ‫ش َربُ َ‬ ‫تَ ْ‬
‫‪.] 34‬‬
‫ول‬‫س ِ‬ ‫وحكى عن المكذبين لمحمد ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أنهم قالوا‪َ ﴿ :‬ما ِل َه َذا ال َّر ُ‬
‫اق ﴾ [ ســورة الفرقــان‪،‬ـ اآلية ‪ ] 7 :‬أي يســعى للتكسب‬ ‫س َو ِ‬ ‫ش ي فِي اَأْل ْ‬ ‫يَْأ ُك ُل الطَّ َع ا َم َويَ ْم ِ‬
‫ين ِإاَّل ِإنَّ ُه ْم‬
‫س لِ َ‬ ‫س ْلنَا قَ ْبلَ كَ ِم َن ا ْل ُم ْر َ‬ ‫وطلب الــرزق ‪ ،‬فأجــابـ عن ذلك بقولــه‪َ ﴿ :‬و َما َأ ْر َ‬
‫اق ﴾‬ ‫س َو ِ‬ ‫ُون فِي اَأْل ْ‬ ‫ون الطَّ َعا َم َويَ ْمش َ‬ ‫لَيَْأ ُكلُ َ‬
‫[ سورة الفرقان‪ ،‬اآلية ‪ ] 20 :‬أي ليسوا مالئكة؛ فــإن البشر ال يتمكنــون عــادة من‬
‫رؤية المالئكــة‪ ،‬بل لو أرسل هللا ملكا لما تمكنــوا من مشــاهدته حــتى يتمثل في صــورة‬
‫س نَا َعلَ ْي ِه ْم َما‬ ‫إنسان فيقع االشــتباه ‪ ،‬قــال تعــالى‪َ ﴿ :‬ولَ ْو َج َع ْلنَ اهُ َملَ ًكا لَ َج َع ْلنَ اهُ َر ُجاًل َولَلَبَ ْ‬
‫ون ﴾ [ سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪.] 9 :‬‬ ‫س َ‬ ‫يَ ْلبِ ُ‬
‫ولما وقع منه ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬السهو في الصــالة‪ ،‬ولم يــذكروه ظنا منهم أن‬
‫الصالة قد قصرت فقال ‪ « :‬إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون‪ ،‬فإذا نسيت فذكروني »‬
‫متفق عليه(‪.)1‬‬
‫ومتى كان الرسل بشرا فال يناسب إعطاؤم شيئا من حق هللا من صفة أو عمل‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬أنه ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬ال يعلم الغيب ‪:‬‬
‫وإنما يخبر بما أخبره هللا به وأوحاه إليه‪ ،‬قال هللا تعالى‪ ﴿ :‬قُ ْل اَل َأقُ و ُل لَ ُك ْم ِع ْن ِدي‬
‫وحى ِإلَ َّي ﴾[ ســورة‬ ‫ب َواَل َأقُ و ُل لَ ُك ْم ِإنِّي َملَ ٌك ِإنْ َأتَّبِ ُع ِإاَّل َما يُ َ‬
‫َخ َزاِئنُ هَّللا ِ َواَل َأ ْعلَ ُم ا ْل َغ ْي َ‬
‫األنعام‪ ،‬اآلية ‪.] 50 :‬‬

‫‪ )?(1‬رواه البخاري كما في الفتح‪- 1/600 :‬برقم‪ ،)401( :‬في الصالة‪ ،‬باب التوجه نحو القبلة حيث كان‪ ،‬ومسلم برقم‪ ،)572( :‬في المساجد‪F،‬‬
‫باب السهو في الصالة والسجود له‪ .‬عن ابن مسعود‪.‬‬
‫س ِل َو َما َأ ْد ِري َما يُ ْف َع ُل بِي َواَل بِ ُك ْم ﴾‬ ‫وقــال تعــالى‪ ﴿ :‬قُ ْل َما ُك ْنتُ بِ ْد ًعا ِم َن ُّ‬
‫الر ُ‬
‫[ سورة األحقاف‪ ،‬اآلية ‪.] 9 :‬‬
‫الس و ُء ﴾‬‫س نِ َي ُّ‬ ‫س تَ ْكثَ ْرتُ ِم َن ا ْل َخ ْي ِر َو َما َم َّ‬ ‫وقال تعــالى‪َ ﴿ :‬ولَ ْو ُك ْنتُ َأ ْعلَ ُم ا ْل َغ ْي َ‬
‫ب اَل ْ‬
‫[ سورة ألعراف‪ ،‬اآلية ‪.] 188 :‬‬
‫فــــالغيب ال يعلمه إال هللا تعــــالى ‪ ،‬وإنما يظهر بعض خلقه على شــــيء من ذلك‬
‫ب فَاَل يُ ْظ ِه ُر َعلَى َغ ْيبِ ِه َأ َح ًدا‬ ‫كمعجزة وبرهان على صدقه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ع الِ ُم ا ْل َغ ْي ِ‬
‫ص ًدا ﴾ [ ســورة الجن ‪:‬‬ ‫سلُ ُك ِمنْ بَ ْي ِن يَ َد ْي ِه َو ِمنْ َخ ْلفِ ِه َر َ‬ ‫ول فَِإنَّهُ يَ ْ‬
‫س ٍ‬‫َضى ِمنْ َر ُ‬ ‫*ِإاَّل َم ِن ْ‬
‫ارت َ‬
‫‪ 26‬ـ ‪.] 27‬‬

‫أي أنه تعــالى يطلع من ارتضــاه‪ ،‬وهم رســله‪ ،‬على أمــور من الغيب مما ســبق أو‬
‫ب ِإاَّل‬ ‫ت َواَأْل ْر ِ‬
‫ض ا ْل َغ ْي َ‬ ‫مما يأتي‪ ،‬وال ينافي ذلك قوله تعالى ‪ ﴿ :‬قُ ْل اَل يَ ْعلَ ُم َمنْ فِي َّ‬
‫الس َما َوا ِ‬
‫ون ﴾[ سورة النمل‪ ،‬اآلية ‪.] 65 :‬‬ ‫ون َأيَّ َ‬
‫ان يُ ْب َعثُ َ‬ ‫هَّللا ُ َو َما يَ ْ‬
‫ش ُع ُر َ‬
‫فإن ما وقع من اإلخبار في األحاديث عن األمور المســتقبلة‪ ،‬هو من الــوحي الــذي‬
‫أطلع هللا عليه رسوله ‪ -‬صلى هللا عليه وســلم ‪ -‬بواســطة الرســول الملكي‪ ،‬أو بما فتح هللا‬
‫عليه وألهمه‪ ،‬ومتى كان هذا وصف النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬ومن قبله من الرسل‪،‬‬
‫لم يصلح أن يصرف لهم شــيء من حق هللا الــذي هو عبادته وحــده‪ ،‬وال أن يوصــفوا بما‬
‫اختص به الــرب تعــالى‪ ،‬فقد أنكر ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬على الجــاريتين اللــتين عند‬
‫الربيع بنت معوذ قولهما‪ « :‬وفينا نبي يعلم ما في غد » رواه الترمذي(‪.)1‬‬
‫وقالت عائشة ‪-‬رضي هللا عنها‪ « : -‬من حدثك أن محمدا يعلم ما غد فال تصدقه »‬
‫رواه البخاري(‪.)2‬‬
‫وورد في حديث جبريل ‪-‬عليه السالم‪ -‬لما سأل عن الساعة‪ ،‬قال النــبي ‪-‬صــلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ « : -‬ما المســئول عنها بــأعلم من الســائل وســأحدثك عن أماراتهــا‪ :‬إذا ولــدت‬
‫األمة ربهــا‪ ،‬وإذا رأيت الحفــاةـ العــراة رعــاء الشــاء يتطــاولون في البنيــان‪ ،‬في خمس ال‬
‫يعلمهن إال هللا ثم قرأ‪ :‬إن هللا عنــده علم الســاعة ويــنزل الغيث ويعلم ما في األرحــام وما‬
‫تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت » متفق عليه ‪.‬‬
‫ب اَل‬ ‫وهذه الخمس هي مفاتح الغيب المذكورة في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و ِع ْن َدهُ َمفَ اتِ ُح ا ْل َغ ْي ِ‬
‫يَ ْعلَ ُم َها ِإاَّل ُه َو ﴾‬
‫[ سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪] 59 :‬فمن ادعى العلم بشــيء منها أو نســبه إلى بشــر‪ ،‬فهو‬
‫كاذب‪.‬‬

‫‪ )?(1‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 9/109 :‬برقم (‪ )5147‬في النكاح‪ ،‬باب ضرب الدف في النكاح والوليمة‪ ،‬والترمذي برقم (‪3/399 )1090‬‬
‫في النكاح‪ ،‬باب ما جاء في إعالن النكاح‪ ،‬وقال هذا حديث حسن صحيح‪ .‬عن الربيع بنت معوذ‪.‬‬
‫‪ )?(2‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 8/472 :‬برقم‪ )4855( :‬في التفسير‪ ،‬باب ‪.1‬‬
‫ثالثا ‪ :‬أنه ‪ -‬ص لى هللا عليه وس لم ‪ -‬ال يملك الضر وال النفع لنفسه فضال عن‬
‫غيره ‪:‬‬
‫ض ًّرا ِإاَّل َما شَا َء هَّللا ُ ﴾[ سورة األعراف‪،‬‬ ‫سي نَ ْف ًعا َواَل َ‬ ‫قال تعالى ‪ ﴿ :‬قُ ْل اَل َأ ْملِ ُك لِنَ ْف ِ‬
‫اآلية ‪.] 188 :‬‬
‫ش ًدا ﴾[ سورة الجن‪ ،‬اآلية ‪.] 21 :‬‬ ‫ض ًّرا َواَل َر َ‬‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬قُ ْل ِإنِّي اَل َأ ْملِ ُك لَ ُك ْم َ‬
‫وما ذاك إال أن الملك هلل وحده‪ ،‬فهو الذي بيــده النفع والضر العطــاء والمنــع‪ ،‬وهو‬
‫مالك الملــك‪ ،‬ال راد لقضــائه وال معقب لحكمــه‪ ،‬أما الخلق كلهم بما فيهم األنبيــاء فــإنهم‬
‫ت َواَل فِي اَأْل ْر ِ‬
‫ض‬ ‫ون ِم ْثقَ ا َل َذ َّر ٍة فِي َّ‬
‫الس َما َوا ِ‬ ‫مملوكون‪ ،‬يعمهم قول هللا تعالى‪ ﴿ :‬اَل يَ ْملِ ُك َ‬
‫ش ْر ٍك َو َما لَهُ ِم ْن ُه ْم ِمنْ ظَ ِهي ٍر ﴾‬ ‫َو َما لَ ُه ْم فِي ِه َما ِمنْ ِ‬
‫[ سورة سبأ‪ ،‬اآلية ‪.] 22 :‬‬
‫يقــول شــيخ اإلســالم ابن تيمية بعد هــذه اآليــة‪ :‬نفى هللا عما ســواه كل ما يتعلق به‬
‫المشركون‪ ،‬فنفى أن يكون لغيره ملك‪ ،‬أو قسط منه‪ ،‬أو يكون عونا هلل‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫ش ْي ٌء ﴾‬‫س لَ َك ِم َن اَأْل ْم ِر َ‬
‫وقد قــال تعــالى لمحمد ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ ﴿ : -‬لَ ْي َ‬
‫[ ســورة آل عمــران‪ ،‬اآلية ‪ ] 128 :‬وذلك حين شج النــبي ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬في‬
‫وقعة أحد وكسرت رباعيته‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫« كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟! »(‪ )1‬أو كان ذلك لما قنت ‪-‬عليه الصالة والســالم‪-‬‬
‫يدعو على بعض المشركين بمكة‪ ،‬فأنكر هللا عليه‪ ،‬وأخبره بأن األمر كله هلل وحــده‪ ،‬ليس‬
‫له منه شيء(‪.)2‬‬
‫وثبت في الصحيح أنه ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬أنذر عشــيرته وأقاربه وقــال لهم ‪:‬‬
‫« أنقذوا أنفســكم من النــار‪ ،‬ال أغــني عنكم من هللا شــيئا »(‪ )3‬حــتى قــال ذلك لعمه وعمته‬
‫وابنته وفي رواية ‪ « :‬اشــتروا أنفســكم » أي بتوحيد هللا وإخالص العبــادة لــه‪ ،‬وطاعته‬
‫فيما أمر واالنتهــاء عما عنه زجــر‪ ،‬فــإن في ذلك انقــاذا من النــار‪ ،‬دون االعتمــاد على‬
‫النسب والقرابة‪ ،‬فدفع بذلك ما يتوهمه بعضهم من أنه يغني عن أقاربه ويشفع لهم‪ ،‬وهــذا‬
‫الوهم قد سرى وتمكن في نفوس الجم الغفير‪ ،‬فتراهم يعتمدون على مجرد االنتســاب إلى‬
‫قرابة النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬ويعدونه شرفا‪ ،‬ظــانين أن النجــاة والشــفاعة تحصل‬
‫لهم بــدون عمــل‪ ،‬بل إنهم يخــالفون ســنته‪ ،‬ويعصــون هللا ورســوله علنــا‪ ،‬كما أن هنــاك‬
‫آخرون يتعلقون بحبه المزعوم دون اتباعه وطاعته‪ ،‬ويعتقدون أنه يشفع لهم بمجــرد تلك‬
‫‪ )?(1‬رواه مسلم‪ :‬برقم (‪ ،)1791‬في الجهاد والسير‪ ،‬باب غزوة أحد‪ .‬عن أنس‪.‬‬
‫‪ )?(2‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 7/422 :‬برقم‪ )4069( :‬في اإليمان‪ ،‬باب ﴿ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا‪ ﴾ ...‬اآلية‪ .‬عن ابن‬
‫عمر رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫‪ )?(3‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 8/360 :‬برقم‪ )4771( :‬في التفسير‪ ،‬باب ﴿وأنذر عشيرتك األقربين﴾‪ ،.‬ومسلم برقم (‪ ،)204‬في اإليمان‪،‬‬
‫باب في قوله تعالى‪﴿ :‬وأنذر عشيرتك األقربين﴾‪.‬‬
‫المحبة الوهمية‪ ،‬رغم مخالفة مدلول المحبة من تقليده والسير على نهجه‪ ،‬فإذا كــان هو ‪-‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬ال يملك لنفسه نفعا وال ضرا وال يدفع الضر والعذاب عن نفسه لو‬
‫عصاه‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿ :‬قُ ْل ِإنِّي لَنْ يُ ِج ي َرنِي ِم َن هَّللا ِ َأ َح ٌد َولَنْ َأ ِج َد ِمنْ دُونِ ِه ُم ْلت ََح ًدا ﴾‬
‫[ سورة الجن‪ ،‬اآلية ‪.] 22 :‬‬
‫فكيف بغيره من قريب أو بعيد ؟!‬
‫وقد بين ‪ -‬عليه الصالة والســالم‪ -‬ألقاربه أنه ال ينجيهم من عــذاب هللا وال يــدخلهم‬
‫الجنة‪ ،‬وال يقربهم إلى هللا‪ ،‬وإنما أعمالهم هي التي تنقذهم من النار‪.‬‬
‫وثبت في الصحيح أنه ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬حــاول هداية عمه أبي طــالب فلم‬
‫يقــدر على ذلــك‪ ،‬فلما حضــرته الوفــاة جــاءه فقــال له ‪ « :‬يا عم‪ ،‬قــل‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬كلمة‬
‫أحــاج لك بها عند هللا »(‪ )1‬فلقنه جلســاء الســوء الحجة الشــيطانية‪ ،‬فكــان آخر كالمه هــو‪:‬‬
‫على ملة عبد المطلب‪ .‬ونــزل في ذلك قوله تعــالى‪ِ ﴿ :‬إنَّكَ اَل تَ ْه ِدي َمنْ َأ ْحبَ ْبتَ َولَ ِكنَّ هَّللا َ‬
‫يَ ْه ِدي َمنْ يَشَا ُء ﴾ [ سورة القصص‪ ،‬اآلية ‪.] 56 :‬‬
‫ففي هذه القصة أعظم ما يبطل شبهة المشركين الذين يغلون في حق النبي ‪-‬صــلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ -‬ويسألونه تفريج الكروب‪ ،‬وغفران الذنوب‪ ،‬ويهتفون باســمه عند الشــدائد‬
‫بقولهم‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫فــإذا كــان هو ‪-‬عليه الصــالة والســالم‪ -‬أفضل الخلق وأقــربهم من هللا‪ ،‬وأعظمهم‬
‫عنـــده جاهـــا‪ ،‬ومع ذلك حـــرص على هداية عمه أبي طـــالب في حياته وعند وفاته فلم‬
‫يستطع ذلك؛ ألن هللا تعالى كتب عليه الشقاء‪،‬ـ وقد عزم على االستغفار له‪ ،‬فنهــاه هللا عن‬
‫ين َولَ ْو َكانُوا ُأولِي قُ ْربَى‬ ‫ش ِر ِك َ‬ ‫ين آ َمنُوا َأنْ يَ ْ‬
‫ستَ ْغفِ ُروا لِ ْل ُم ْ‬ ‫ان لِلنَّبِ ِّي َوالَّ ِذ َ‬
‫ذلك بقولـه ‪َ ﴿ :‬ما َك َ‬
‫يم ﴾ [ سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.] 113 :‬‬ ‫اب ا ْل َج ِح ِ‬
‫ص َح ُ‬ ‫ِمنْ بَ ْع ِد َما تَبَيَّ َن لَ ُه ْم َأنَّ ُه ْم َأ ْ‬
‫ففي ذلك دليل على أنه ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬ال يملك لغــيره نفعا وال يــدفع عنه‬
‫ضرا‪ ،‬ولو دعاه ورجاه وهتف باسمه‪ ،‬ولو زعم أن يحبه حبا شديدا‪ ،‬فلو كــان عند النــبي‬
‫‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬شـيء من هداية القلــوب أو تفـريج الكربــات‪ ،‬لكــان أولى النـاس‬
‫بذلك عمه الكبير الذي كفله وحماه‪ ،‬وحال بينه وبين أذى المشــركين ‪ ،‬فــإذا لم يقــدر على‬
‫هدايته ونجاته‪ ،‬فغيره بطريق األولى‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬عبوديته ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬شرف وفضيلة ‪:‬‬
‫فقد ثبت في الصــحيحين ‪ :‬عن عمر ‪-‬رضي هللا عنــه‪ -‬أن رســول هللا ‪ -‬صــلى هللا‬
‫عليه وسلم – قال ‪ « :‬ال تطروني كما أطــرت النصــارى ابن مــريم‪ ،‬إنما أنا عبد فقولــوا‪:‬‬
‫عبد هللا ورسوله »(‪.)2‬‬

‫‪ )?(1‬رواه البخاري كما في الفتح‪- 3/263 :‬برقم (‪ )1360‬في الجنائز‪ ،‬باب إذا قال المشرك عند الموت‪ :‬ال إله إال اهلل‪ .‬ومسلم برقم (‪ )24‬في‬
‫اإليمان‪ ،‬باب الدليل على صحة إسالم من حضره الموت‪ ..،‬إلخ ‪ .‬عن المسيب رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫يقول الشــيخ ســليمان بن عبد هللا ‪-‬رحمه هللا‪ -‬على هــذا الحــديث في شــرح التوحيد‬
‫صفحة‪ 272 :‬قوله ‪ « :‬إنما أنا عبد فقولوا‪ :‬عبد هللا ورســوله »‪ .‬أي ال تمــدحوني فتغلــوا‬
‫في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الربوبية‪ ،‬وإنما أنا عبد هللا فصفوني‬
‫بذلك كما وصفني به ربي‪ ،‬وقولوا‪ :‬عبد هللا ورسوله‪ .‬فأبى عباد القبور إال مخالفة ألمــره‬
‫وارتكابا لنهيه‪ ،‬وناقضوه أعظم المناقضة‪ ،‬وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبد هللا ورسوله‪،‬‬
‫وأنه ال يدعى وال يستعان به‪ ،‬وال ينذر لــه‪ ،‬وال يطــاف بحجرتــه‪ ،‬وأنه ليس له من األمر‬
‫شيء‪ ،‬وال يعلم من الغيب إال ما علمه هللا‪ ،‬أن في ذلك هضــما لجنابــه‪ ،‬وغضا من قــدره‪،‬‬
‫فرفعوه فــوق منزلتــه‪ ،‬وادعــوا فيه ما ادعت النصــارى في عيسى أو قريبا منــه‪ ،‬فســألوه‬
‫مغفرة الذنوب وتفريج الكروب‪.‬‬
‫وقد ذكر شــيخ اإلســالم في كتــاب‪ :‬االســتغاثة عن بعض أهل زمانــه‪ ،‬أنه جــوز‬
‫االســتغاثة بالرســول ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬في كل ما يســتغاث فيه باهلل‪ ،‬وصــنف فيه‬
‫مصنفا ‪ ،‬وكان يقول‪ :‬إن النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬يعلم مفاتيح الغيب الــتي ال يعلمها‬
‫إال هللا‪.‬‬
‫وحكى عن آخر من جنسه يباشر التــدريس‪ ،‬وينسب إلى الفتيا أنه كــان يقــول‪ :‬إن‬
‫النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬يعلم ما يعلمه هللا‪ ،‬ويقدر على ما يقـدر هللا عليـه‪ ،‬وأن هـذا‬
‫السر انتقل بعده إلى الحسن ثم انتقل إلى ذرية الحسن إلى أبي الحسن الشاذلي‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬هذا مقام القطب الغوث الفــرد الجــامع‪ ،‬ومن هــؤالء من يقــول في قــول هللا‬
‫ص ياًل ﴾ [ سورة الفتح‪ ،‬اآلية ‪ ] 9 :‬إن الرســول ‪ -‬صــلى هللا‬‫س بِّ ُحوهُ بُ ْك َرةً َوَأ ِ‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬وتُ َ‬
‫عليه وسلم ‪ -‬هو الذي يسبح بكرة وأصيال‪.‬‬
‫ومنهم من يقول‪ :‬نحن نعبد هللا ورسوله‪ .‬فيجعلون الرسول معبودا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قال البوصيري ‪:‬‬
‫فإن من جودك الدنيا وضرتها * * * ومن علومك علم اللوح والقلم‬
‫فجعل الدنيا واآلخرة من جوده‪ ،‬وجزم بأنه يعلم ما في اللــوح المحفــوظ‪ ،‬وهــذا هو‬
‫الذي حكاه شيخ اإلسالم عن ذلك المدرس‪ ،‬وكل ذلك كفر صريح‪.‬‬
‫ومن العجب أن الشـــــيطان أظهر لهم ذلك في صـــــورة محبته ‪ -‬عليه الســـــالم‪-‬‬
‫وتعظيمه ومتابعتــه‪ ،‬وهــذا شــأن اللعين‪ ،‬إذ ال بد وأن يمــزج الحق بالباطل لــيروج على‬
‫أشباه األنعام أتباع كل ناعق‪ ،‬الذين لم يستضيئوا بنور العلم‪ ،‬ولم يلجئوا إلى ركن وثيــق؛‬
‫ألن هذا ليس بتعظيم‪ ،‬فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح‪،‬ـ وهم أبعد الناس منــه‪،‬‬
‫فــإن التعظيم بــالقلب‪ :‬ما يتبع اعتقــاد كونه عبــدا رســوال‪ ،‬من تقــديم محبته على النفس‬
‫والوالد والولد والناس أجمعين‪ ،‬ويصدق هذه المحبة أمران ‪:‬‬
‫‪ )?(2‬رواه البخاري كما في الفتح‪ 6/155 :‬برقم‪ )3445( :‬في أحاديث األنبياء‪ ،‬باب قول اهلل‪﴿ :‬واذكر في الكتاب مريم إذ‪ ﴾...‬اآلية)‪ .‬عن‬
‫عمر رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬تجريد التوحيــد‪ ،‬فإنه ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬كــان أحــرص الخلق على‬
‫تجريده‪ ،‬حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات‪،‬ـ حتى قال له رجل‪ :‬ما شاء‬
‫هللا وشــئت‪ .‬قــال ‪ « :‬أجعلتــني هلل نــدا؟! بل ما شــاء هللا وحــده » رواه أحمد(‪ .)1‬ونهى أن‬
‫يحلف بغــير هللا‪ ،‬وأخــبر أن ذلك شــرك‪ ،‬ونهى أن يصــلى إلى القــبر أو يتخذ مســجدا أو‬
‫عيدا‪ ،‬أو يوقد عليه سراج‪ ،‬بل مدار دينه على هــذا األصل الــذي هو قطب رحى النجــاة‪،‬‬
‫ولم يقــرر أحد ما قــرره ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬بقوله وفعله وسد الــذرائع المنافية لــه‪،‬‬
‫فتعظيمه ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬بموافقته على ذلك ال بمناقضته فيه‪.‬‬
‫الث اني‪ :‬تجريد متابعته وتحكيمه وحـــده في الـــدقيق والجليل من أصـــول الـــدين‬
‫وفروعه‪ ،‬والرضا بحكمه واالنقياد له‪ ،‬والتسليم واإلعراض عما خالفــه‪ ،‬وعــدم االلتفــاتـ‬
‫إلى ما خالفه‪ ،‬حتى يكون وحــده هو الحــاكم المتبع المقبــول قولــه‪ ،‬المــردود ما خالفه كما‬
‫كان ربه تعالى وحده هو المعبود المألوه المخلوق المستغاث به‪ ،‬المتوكل عليه الــذي إليه‬
‫الرغبة والرهبة‪ ،‬الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد ومغفرة الذنوب‪ ،‬الذي من جوده الــدنيا‬
‫واآلخرة‪ ،‬الذي خلق الخلق وحده‪ ،‬ورزقهم وحده‪ ،‬ويبعثهم وحده‪ ،‬ويغفر ويــرحم ويهــدي‬
‫ويضل‪ ،‬ويســعد ويشــقي وحــده‪ ،‬وليس لغــيره من األمر شــيء كائنا من كــان‪ ،‬ال النــبي ‪-‬‬
‫صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬وال جبريل ‪-‬عليه الســالم‪ -‬وال غيرهمــا‪ ،‬فهــذا هو التعظيم الحق‬
‫المطـــابق لحـــال المعظم‪ ،‬النـــافع للمعظم في معاشه ومعـــاده‪ ،‬والـــذي هو الزم إيمانه‬
‫وملزومــه‪ .‬وأما التعظيم باللســان فهو الثنــاء عليه بما هو أهله مما أثــنى به عليه ربــه‪،‬‬
‫وأثنى على نفسه من غير غلو وال تقصير‪ ،‬كما فعل عبـاد القبــور‪ ،‬فـإنهم غلـوا في مدحه‬
‫إلى الغاية‪ .‬وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته‪ ،‬والسعي في إظهــار دينــه‪ ،‬ونصر‬
‫ما جاء به‪ ،‬وجهاد من خالفه‪.‬‬
‫وبالجملة‪ :‬فالتعظيم النافع هو التصديق له فيما أخبر‪ ،‬وطاعته فيما أمر‪ ،‬واالنتهــاء‬
‫عما عنه نهى وزجــر‪ ،‬والمــواالة والمعــاداة والحب والبغض ألجلــه‪ ،‬وتحكيمه وحــده‪،‬‬
‫والرضا بحكمه‪ ،‬وأن ال يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقوالــه‪ ،‬فما وافقها من‬
‫قوله ‪-‬صـــلى هللا عليه وســـلم‪ -‬قبلـــه‪ ،‬وما خالفها رده أو تأوله أو أعـــرض عنـــه‪ ،‬وهللا ‪-‬‬
‫ســبحانه‪ -‬يشــهد ‪-‬وكفى به شــهيدا‪ -‬ومالئكته ورســله وأوليــاؤه أن عبــاد القبــور خصــوم‬
‫الموحدين ليسوا كذلك‪ ،‬وهللا المستعان‪.‬‬
‫هــذا كالم الشــيخ ‪-‬رحمه هللا‪ -‬وقد حكى ما شــاهده في زمانه وقبله من أقــوام جهلة‬
‫بالتوحيد‪ ،‬ادعوا محبة النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬فبالغوا في مدحه حتى وصــفوه بما ال‬
‫يستحقه إال هللا تعالى‪ ،‬من الملك والعلم والتصرف‪ ،‬وحــتى صــرفوا له خــالص حق هللا ‪-‬‬
‫عز وجل‪ -‬من الدعاء والرجاء وتفويض األمور إليه‪ ،‬واالعتمــاد عليــه‪ ،‬وقد ذكر ‪-‬رحمه‬
‫هللا‪ -‬في شــرح التوحيد صــفحة‪ 186 :‬وما بعــدها بعض ما قــال أهل الغلو واإلطــراء في‬
‫حقه ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وأورد أبياتا من قصيدة البردة للبوصيري‪ ،‬كقوله‪:‬‬

‫‪ )?(1‬كما في المسند‪ 282 ،1/214 :‬عن ابن عباس رضي اهلل عنهما وصححه المحقق‪.‬‬
‫يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به * * * سواك عند حلول الحادث العمم‬
‫وما بعده من األبيات‪ ،‬ثم بين ما فيها من الشــرك الصــريح‪ ،‬وذكر أيضا بعضا من‬
‫شـعر الـبرعي الــذي بـالغ فيه وغال‪ ،‬ووقع في عبــادة الرسـول ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪-‬‬
‫صريحا‪ ،‬ونسى ربه ‪-‬عز وجل‪ -‬وهكذا ذكر النعمي في (معارج األلبــاب) صــفحة‪169 :‬‬
‫وما بعــدها بعض أقــوال الغالة ومبــالغتهم في التعلق بــاألموات‪ ،‬ومن ذلك أبيــات شــعر‬
‫تتضمن الشرك الواضح بالنبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وأولها قوله‪:‬‬
‫يا سيدي يا صفي الدين يا سندي * * * يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري‬
‫أنت المالذ لمـا أخشى ضرورته * * * وأنت لي ملجـأ من حـادث الدهر‬
‫إلى آخر تلك األبيـــات الشـــركية‪ ،‬وعلق عليها ‪-‬رحمه هللا‪ -‬بقولـــه‪ :‬فال نـــدري أي‬
‫معنى اختص به الخالق بعد هذه المنزلة من كيفية مطلب‪ ،‬أو تحصيل مأرب؟!‪.‬‬
‫ومــاذا أبقى هــذا المشــرك الخــبيث من األمــر؟! فــإن المشــركين أهل األوثــان ما‬
‫يؤهلون كل ما عبدوه من دون هللا لشيء من هذا‪ ،‬وال لما هو أقل منه‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ولقد كان النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬يخــاف على أمته من هــذا الغلــو‪ ،‬ويحــذرهم‬
‫من أسبابه‪ ،‬فقد روى أبو داود بسند جيد‪ :‬عن عبد هللا بن الشخير ‪-‬رضي هللا عنــه‪ -‬قــال‪:‬‬
‫« انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول هللا ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬فقلنــا‪ :‬أنت ســيدنا‪.‬‬
‫فقال السيد هللا تبارك وتعالى قلنا‪ :‬وأفضلنا فضال وأعظمنا طوال‪ ،‬فقال‪ :‬قولــوا بقــولكم أو‬
‫بعض قولكم »(‪.)1‬‬
‫وعن أنس ‪-‬رضي هللا عنـــه‪ « : -‬أن أناسا قـــالوا ‪ :‬يا رســـول هللا‪ ،‬يا خيرنا وابن‬
‫خيرنا‪ ،‬وسيدنا وابن سيدنا‪ .‬فقال‪ :‬يا أيها الناس قولوا بقولكم وال يســتهوينكم الشــيطان‪ ،‬أنا‬
‫محمد عبد هللا ورسوله ما أحب أن ترفعــوني فــوق منزلــتي الــتي أنزلــني هللا عز وجل »‬
‫رواه النسائي بسند جيد(‪.)2‬‬
‫وهذا كثير في الســنة كقوله ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ « : -‬إنه ال يســتغاث بي‪ ،‬وإنما‬
‫يستغاث باهلل » رواه الطبراني(‪.)3‬‬
‫وتقــدم أنه ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬قــال له رجل ‪ « :‬ما شــاء هللا وشــئت‪ .‬فقــال‪:‬‬
‫أجعلتني هلل مثال‪ ،‬بل ما شاء هللا وحــده »‪ .‬فــالنبي ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬هو سـيد الخلق‬
‫وأفضلهم وخيرهم‪ ،‬لكنه يكره المدح سيما أمام الممدوح ‪ ،‬حتى قال‪ « :‬إذا لقيتم المداحين‬
‫فاحثوا في وجوههم التراب » رواه مســلم(‪ )4‬وما ذاك إال أن المــدح قد يوقع الممــدوح في‬
‫اإلعجاب والكبرياء‪ ،‬التي تحبط األعمال أو تنافي كمال التوحيد‪.‬‬
‫‪ )?(1‬رواه أبو داود برقم‪ )4806( :‬في األدب‪ ،‬باب في كراهية التمادح‪.‬‬
‫‪ )?(2‬رواه النسائي في عمل اليوم والليلة برقم‪ ،)249( :‬وكذا رواه أحمد‪ 3/249 :‬وغيره‪.‬‬
‫‪ )?(3‬ذكره في مجمع الزوائد‪ 10/159 :‬قال‪ :‬ورجاله رجال الصحيح‪ ،‬غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث‪.‬‬
‫‪ )?(4‬رواه مسلم برقم (‪ ،)3002‬في الزهد‪ ،‬باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط‪ ...،‬إلخ ‪ .‬عن المقداد رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫وقد افتخر ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬بالعبودية لربه‪ ،‬وهي الذل والتواضع له‪ ،‬وذلك‬
‫ب ِم َّما‬ ‫شــرف وفضــيلة‪ ،‬ولــذلك ذكــره هللا باسم العبد في قوله تعــالى ‪َ ﴿ :‬وِإنْ ُك ْنتُ ْم فِي َر ْي ٍ‬
‫س َرى‬ ‫ان الَّ ِذي َأ ْ‬
‫س ْب َح َ‬ ‫نَ َّز ْلنَا َعلَى َع ْب ِدنَا ﴾ [ ســورة البقــرة‪ ،‬اآلية ‪ .] 23 :‬وفي قولــه‪ُ ﴿ :‬‬
‫الح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي َأ ْن َز َل َعلَى َع ْب ِد ِه‬
‫بِ َع ْب ِد ِه ﴾ [ سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية ‪ .] 1 :‬وقولـه تعــالى‪َ ﴿ :‬‬
‫َاب ﴾ [ سورة الكهف‪ ،‬اآلية ‪ .] 1 :‬وقوله ‪َ ﴿ :‬وَأنَّهُ لَ َّما قَا َم َع ْب ُد هَّللا ِ يَ ْدعُوهُ ﴾ [ ســورة‬
‫ا ْل ِكت َ‬
‫الجن‪ ،‬اآلية ‪.] 19 :‬‬
‫فإن العبوديه هلل تعالى‪ ،‬تقتضي غاية الذل وغاية المحبة‪ ،‬فالتذلل هلل تعالى يستدعي‬
‫الخضوع والخشية واالستكانة هلل تعالى‪ ،‬وأن يرى نفسه حقيرا ذميما مقصرا في واجبــه‪،‬‬
‫فيرجع إلى نفسه بالمعاتبة‪ ،‬ويعترف لربه بالفضلـ واإلنعام‪ ،‬وكذلك الحبـ يستدعي محبة‬
‫ما يحبه هللا وكراهة ما يكرهه من األقوال واألفعال واإلرادات‪ ،‬فظهر بذلك كمــال صــفة‬
‫العبودية لرب األرباب‪.‬‬

‫خامسا ‪ :‬موته صلى هللا عليه وسلم كغيره من األنبياء والرسل قــال هللا تعــالى‪﴿ :‬‬
‫ش ٍر‬ ‫ون ﴾ [ سورة الزمر‪ ،‬اآلية ‪ ] 30 :‬وقــال تعــالى‪َ ﴿ :‬و َما َج َع ْلنَا لِبَ َ‬ ‫ِإنَّ َك َميِّتٌ َوِإنَّ ُه ْم َميِّتُ َ‬
‫ت ﴾ [ سورة األنبياء ‪ 34 :‬ـ‬ ‫س َذاِئقَةُ ا ْل َم ْو ِ‬ ‫ِمنْ قَ ْبلِكَ ا ْل ُخ ْل َد َأفَِإنْ ِمتَّ فَ ُه ُم ا ْل َخالِد َ‬
‫ُون * ُك ُّل نَ ْف ٍ‬
‫‪.] 35‬‬
‫ثم إن المسلمين يدينون جميعا بأن األنبياء قبل قديما قد مــاتوا‪ ،‬وانقضت أعمــارهم‬
‫التي كتب هللا لهم في الـدنيا‪ ،‬وأصـبحوا في عـالم الـبرزخ‪ ،‬وحيث ورد في النصـوص ما‬
‫يل هَّللا ِ َأ ْم َواتًا بَ ْل‬ ‫ين قُتِلُ وا فِي َ‬
‫س بِ ِ‬ ‫س بَنَّ الَّ ِذ َ‬
‫يقتضي حياة الشهداء‪ ،‬كقوله تعــالى‪َ ﴿ :‬واَل ت َْح َ‬
‫ون ﴾ [ سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.] 169 :‬‬ ‫َأ ْحيَا ٌء ِع ْن َد َربِّ ِه ْم يُ ْر َزقُ َ‬
‫فإن األنبياء أولى بهذه الحياة‪ ،‬ومعلوم أن الشهداء قد خرجوا من هذه الحياة الدنيا‪،‬‬
‫وقد قســمت أمــوالهم بين الورثــة‪ ،‬وحلت نســاؤهم لغــيرهم‪ ،‬فكــان ذلك أوضح دليل على‬
‫مــوتهم ‪ ،‬ولكن هللا تعــالى نهى أن نقــول لهم أمــوات في قوله ‪-‬عز وجــل‪َ ﴿ : -‬واَل تَقُولُ وا‬
‫ون ﴾[ ســورة البقــرة‪ ،‬اآلية ‪:‬‬ ‫َش ُع ُر َ‬ ‫يل هَّللا ِ َأ ْم َواتٌ بَ ْل َأ ْحيَ ا ٌء َولَ ِكنْ اَل ت ْ‬
‫س بِ ِ‬‫لِ َمنْ يُ ْقتَ ُل فِي َ‬
‫‪.] 154‬‬
‫وهــذه الحيــاة ال نعلم كيفيتها إال أنا نتحقق أن أرواحهم خــرجت من أبــدانهم‪ ،‬وأن‬
‫أعمارهم انقضــت‪ ،‬وأعمــالهم قد ختمت‪ ،‬وقد فســرت حيــاتهم في الحــديث الصــحيح بــأن‬
‫أرواحهم جعلت في أجـــواف طـــير خضر تعلق في شـــجر الجنة(‪ .)1‬وهـــذا يحقق أنها قد‬
‫فارقت أبدانهم‪ ،‬وإنما تميزوا بهذه الحياة الخاصة‪.‬‬
‫ومعلوم أن األنبياء والرسل أولى بهذه الحيــاة وبكل حــال فإنها ال تمكنهم من إجابة‬
‫من دعــاهم‪ ،‬أو إعطــاء من ســألهم‪ ،‬فنحن نعتقد أن نــبي هللا ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬في‬
‫حياة برزخية‪ ،‬أكمل من حيــاة الشــهداء‪ ،‬وقد تمــيز بحماية جســده عن البلى‪ ،‬كما ثبت في‬
‫‪ )?(1‬رواه مسلم‪ :‬برقم (‪ ،)1887‬في اإلمارة‪ ،‬باب بيان أن أرواهح الشهداء في الجنة‪ ...‬إلخ عن ابن مسعود رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫ســنن أبي داود عن أوس بن أوس عنه ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬أنه قــال‪ « :‬إن من خــير‬
‫أيامكم يوم الجمعة‪ ،‬فأكثروا من الصالة علي فيه‪ ،‬فــإن صــالتكم معروضة علي قــالوا‪ :‬يا‬
‫رسول هللا‪ ،‬كيف تعرض عليك وقد أرمت؟ قــال‪ :‬هللا حــرم على األرض أن تأكل أجســام‬
‫األنبياء »(‪ )1‬وهذا أوضح دليل على أن روحه قد خرجت من جســده‪ ،‬ورفعت إلى الرفيق‬
‫األعلى‪ ،‬كما كانت ذلك آخر طلبه من الدنيا‪.‬‬
‫وكذا قد ورد في الحديث‪ :‬عن أبي هريرة قوله ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ « : -‬ما من‬
‫مسلم يسلم علي إال رد هللا علي روحي حتى أرد عليه السالم » رواه أبو داود(‪.)2‬‬

‫وفي كيفية هذا الرد خالف وهللا أعلم بــذك‪ ،‬وقد روى أبو داود بإســناد حســن‪ :‬عن‬
‫أبي هريرة ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬قال‪ :‬قال رســول هللا ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ « : -‬ال تجعلــوا‬
‫بيوتكم قبورا‪ ،‬وال تجعلوا قبري عيدا‪ ،‬وصلوا علي فإن صالتكم تبلغني حيث كنتم »(‪.)3‬‬
‫وروى الحافظ الضـــياء في المختـــارة‪ ،‬وغـــيره‪ :‬عن علي بن الحســـين بن علي ‪-‬‬
‫رضي هللا عنــه‪ -‬أنه رأى رجال يجيء إلى فرجة كــانت عند قــبر النــبي ‪-‬صــلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ -‬فيدخل فيها فيدعو‪ ،‬فنهاه وقال‪ :‬أال أحــدثكم حــديثا ســمعته من أبي عن جــدي‪ .‬عن‬
‫رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬قال‪ « :‬ال تتخذوا قبري عيــدا‪ ،‬وال بيــوتكم قبــورا‪ ،‬فــإن‬
‫تسليمكم يبلغني أين كنتم »(‪.)4‬‬
‫وقال سعيد بن منصور حدثنا عبد العزيز بن محمد أخــبرني ســهيل بن أبي ســهيل‬
‫قال‪ :‬رآني الحسن بن الحسن بن علي ‪-‬رضي هللا عنهم‪ -‬عند القبر‪ ،‬فنــاداني فقــال‪ :‬مــالي‬
‫رأيتك عند القــبر؟ ؟فقلت‪ :‬ســلمت على النــبي ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬فقــال‪ :‬إذا دخلت‬
‫المسجد فســلم‪ .‬ثم قــال‪ :‬إن رســول هللا ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬قــال‪ « :‬ال تتخــذوا قــبري‬
‫عيدا‪ ،‬وال تتخذوا بيوتكم مقابر‪ ،‬وصلوا علي فإن صــالتكم تبلغــني حيث ما كنتم‪ ،‬لعن هللا‬
‫اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ما أنتم ومن باألندلس إال سواء »(‪.)5‬‬
‫فهذه اآلثــار تــدل على شــهرة ذلك عند الســلف ‪ ،‬وحرصــهم على حفظ هــذه الســنة‬
‫وتبليغها‪ ،‬ومعـنى قولـه‪ « :‬ال تجعلـوا بيـوتكم قبـورا »‪ .‬أي ال تعطلوها من الصـالة فيها‬
‫والدعاء والقراءة فتكــون بمنزلة القبــور الــتي ال تجــوز الصــالة عنــدها‪ ،‬والمــراد صــالة‬
‫التطوع‪ .‬وقوله‪ :‬وال تتخذوا قبري عيدا‪ .‬نهى ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬عن زيارة قبره على‬
‫وجه مخصوص واجتماع معهود‪ ،‬بحيث يكون كالعيد الذي يتكرر االجتماع فيه في زمن‬
‫محدد ويحصل به فرح واغتبــاط يعــود ويتكــرر كل عــام مــرة أو مــرارا‪ ،‬ثم أخبرنا بــأن‬

‫‪ )?(1‬رواه أبو داود برقم‪ ،)1047( :‬في الصالة‪ ،‬باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة‪.‬‬
‫‪ )?(2‬رواه أبو داود برقم‪ ،)2041( :‬في المناسك‪ ،‬باب زيارة القبور‪.‬‬
‫‪ )?(3‬رواه أبو داود برقم‪ ،)2042( :‬في المناسك‪ ،‬باب زيارة القبور‪.‬‬
‫‪ )?(4‬ذكره الهيثمي في الزوائد‪ 4/3 :‬وعزاه ألبي يعلى ووثق رجاله‪.‬‬
‫‪ )?(5‬ذكره شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ :‬في اقتضاء الصراط المستقيم‪ ،‬صفحة‪ ،322 :‬وساقه بإسناده‪.‬‬
‫صالتنا تبلغه أين ما كنا‪ ،‬يعني أن ما يناله من الصالة والسالم حاصل مع القرب والبعد‪،‬‬
‫فال مزية لمن صلى عليه أو سـلم عند القــبر‪ ،‬وهـذا معــنى قــول الحسن بن الحسن ما أنتم‬
‫ومن باألندلس إال سواء‪.‬‬
‫ومن قصد القبر للسالم فقط ‪ ،‬ولم يكن قصده المسجد فقد اتخــذه عيــدا كما فهم ذلك‬
‫الحسن بن الحسن رضي هللا عنه‪.‬‬
‫وقد كره اإلمام مالك ‪ -‬رحمه هللا ‪ -‬ألهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يــأتي‬
‫القبر النبوي؛ ألن السلف لم يكونوا يفعلون ذلـك‪ ،‬قـال‪ :‬ولن يصـلح آخر هـذه األمة إال ما‬
‫أصــلح أولهــا‪ .‬وقد كــان الصــحابة ‪-‬رضي هللا عنهم‪ -‬وكــذا كبــار التــابعين يصــلون في‬
‫المســجد النبــوي خلف الخلفــاءـ الراشــدين أغلب األوقــات‪ ،‬ثم ينصــرفون بعد الســالم‪ ،‬أو‬
‫يجلسون في قراءة أو عبادة‪ ،‬ولم يحفظ عنهم اإلتيان إلى القبر بعد كل صالة‪ ،‬بل يكتفون‬
‫بالصالة والسالم عليه في التشهد‪ ،‬وذلك أفضل من الوقوف أمام القبر لذلك‪ ،‬رغم تمكنهم‬
‫من الوصول إلى القبر في حياة عائشة وبعدها قبل بناء الحيطان دونــه‪ ،‬بعد أن أدخل في‬
‫توسعة المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك وبكل حال فإن الصحابة لم يكونــوا يعتــادون‬
‫الصالة والسالم عليه عند قبره‪ ،‬وإنما كان بعضهم يأتي من خارج إذا قدم من سفر فيسلم‬
‫عليه ثم ينصرف‪ ،‬كما نقل ذلك عن ابن عمر ولم يحفظ عن غيره من الصحابة‪ ،‬ولم يكن‬
‫يفعله دائما‪ ،‬فتكرار ذلك كل وقت بدعة ووسيلة إلى تعظيمه أو دعائه مع هللا‪.‬‬
‫وقد اتفق األئمة ‪-‬رحمهم هللا‪ -‬أن من سلم على النبي ‪-‬صلى هللا عليه وســلم‪ -‬وأراد‬
‫الدعاء لنفسه ال يستقبل القبر‪ ،‬وإنما يستقبل القبلة التي هي أفضل الجهات وأرجى لقبــول‬
‫الـــدعاء‪ ،‬وأما الحكاية عن مالك أنه قـــال للمنصـــور‪ :‬ولم تصـــرف وجهك عنـــه؟ ‪ ...‬بل‬
‫اســتقبله واستشــفع بــه‪ ...‬إلخ فهي حكاية موضــوعة مكذوبة عليه كما حقق ذلك العلمــاء‬
‫رحمهم هللا(‪.)1‬‬
‫سادسا ‪ :‬منع السفر لمجرد زيارة القبر النبوي‪.‬‬
‫ثبت في الصحاح والسنن والمسانيد عنه ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أنه قــال‪ « :‬ال تشد‬
‫الرحال إال إلى ثالثة مساجد‪ :‬المسجد الحرام‪،‬ـ ومسجدي هذا‪ ،‬والمسجد األقصى »(‪.)2‬‬
‫ومعــنى ذلــك‪ :‬النهي عن الســفر إلى بقعة أو موضع لقصد التعبد فيــه؛ العتقــاد أن‬
‫العمل فيه مضــاعف أو له مزية على غــيره من المواضــع‪ ،‬فــدخل في ذلك منع الســفر‬
‫لزيارة القبور ولو قبــور األنبيــاء‪ ،‬فإنه من اتخاذها أعيــادا‪ ،‬واالعتقــاد في المقبــورين بما‬
‫يكـون وسـيلة إلى عبــادتهم مع هللا تعـالى‪ ،‬كما هو الواقع من المشــركين في هــذا الزمـان‬
‫وقبلــه‪ ،‬حيث ينشــئون األســفار الطويلــة‪ ،‬إلى قبــور األوليــاء كما زعمــوا‪ ،‬أو يتجشــمون‬
‫‪ )?(1‬ذكر ذلك شيخ اإلسالم ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم‪ ،‬صفحة‪ ،395 :‬وغيره‪.‬‬
‫‪ )?(2‬رواه البخاري عن أبي هريرة كما في الفتح‪- 3/76 :‬برقم‪ ،)1189( :‬في فضل الصالة في مسجد مكة والمدينة‪ ،‬باب فضل الصالة في‬
‫مسجد مكة والمدينة ورواه أيضا عن أبي سعيد كما في الفتح‪ - 3/84 :‬برقم‪ ،)1197( :‬في فضل الصالة في مسجد مكة والمدينة‪ ،‬باب مسجد‬
‫بيت المقدس‪.‬‬
‫المشقات وينفقون األموال الطائلة‪ ،‬ومــتى وصــلوا إلى تلك المشــاهد كما اســموها حطــوا‬
‫رحالهم‪ ،‬وأخذوا في الهتاف والنداء ألولئك األمــوات‪ ،‬وعملــوا هنــاك ما ال يصــلح إال هلل‬
‫رب العالمين‪ ،‬من الطــواف بتلك األضــرحة والتمسح بترابها والــدعاء ألربابهــا‪ ،‬والــذبح‬
‫والنحر لها ونحو ذلك‪.‬‬
‫فهذا ما خافه ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬من منعه شد الرحالـ لغير المساجد الثالثة‪.‬‬
‫وقد كتب في ذلك شــيخ اإلســالم ابن تيمية ‪ -‬رحمه هللا ‪ -‬رســالة ذكر فيها اختالف‬
‫العلماء في حكم شد الرحالـ لمجرد زيارة قبور األنبياء والصالحين‪،‬ـ ورجح المنع‪ ،‬وذكر‬
‫أنه قول ابن بطة وأبي الوفاء بن عقيل والجويني والقاضي عياض وغيرهم‪ ،‬بل هو قول‬
‫الجمهور‪ ،‬ونص عليه مالك ولم يخالفه أحد من األئمة‪ ،‬لكن ليس المراد النهي عن زيارة‬
‫القبــور بــدون شد رحــل‪ ،‬فقد ورد الــترغيب فيها وأنها تــذكر اآلخــرة‪ ،‬وأن الزائر يــدعو‬
‫لألموات ويــترحم عليهم‪ ،‬وهــذا يحصل في أقــرب مقــبرة عنــده؛ فــإن كل بلد ال تخلو من‬
‫المقـــابر‪،‬ـ فأما إعمـــال المطي والســـفر إلى بلد بعيد ألجل بقعة أو قـــبر فإنما يكـــون ذلك‬
‫العتقــاد عظمة ذلك المقبــور‪ ،‬وأهليته أن يعظم ويــدعى ويــرجى‪ ،‬فيصــرف له خــالص‬
‫العبادة‪ ،‬فال جرم ورد النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثالثة‪.‬‬
‫وقد روى اإلمــام أحمد وغــيره عن ابن عمر وأبي ســعيد الخــدري أنهما منعا شد‬
‫الرحل إلى الطور ألجل الصالة فيه‪ ،‬واستدال بحديث النهي عن شد الرحال إال إلى ثالثة‬
‫مســاجد‪ ،‬مع أن هللا ذكر الطــور وســماه بــالوادي المقــدس والبقعة المباركــة‪ ،‬وكلم عبــده‬
‫موسى هناك‪.‬‬
‫وعلى هذا فمن سافر إلى المدينة قاصدا المســجد النبــوي الــذي تكــون الصــالة فيه‬
‫بــألف صــالة فســفره طاعة وقربــة‪ ،‬وله بعد الصــالة في المســجد أن يســلم على القــبر‬
‫الشريف ‪ ،‬وعلى قبور الصحابة والشهداء‪ ،‬ويدعو لهم‪.‬‬
‫فأما من أنشأ السفر ألجل القبر نفسـه‪ ،‬سـواء للســالم عليه أو للــدعاء عنـده فســفره‬
‫بدعة منكرة؛ حيث خالف حديث ‪ « :‬ال تتخذوا قــبري عيــدا‪ ،‬وصــلوا علي فــإن صــالتكم‬
‫تبلغني حيث كنتم »‪.‬‬
‫فأما األحــــاديث المروية في فضل الزيــــارة للقــــبر الشــــريف فكلها ضــــعيفة أو‬
‫موضوعة ‪ ،‬كما حقق ذلك العلماء‪ ،‬فليتنبه لذلك وهللا الموفق‪.‬‬

‫المبحث الخامس ‪ « :‬شروط الشهادتين » ‪:‬‬

‫ذكر العلماء لكلمة اإلخالص سبعة شروط‪ ،‬نظمها بعضهم بقوله ‪:‬‬
‫علم يقين وإخالص وصدقك مع * * * محبة وانقياد والقبول لها‬
‫وهذه الشروط مأخوذة باالســتقراء والتتبع لألدلة من الكتــاب والســنة‪ ،‬وقد أضــاف‬
‫بعضهم إليها شرطا ثامنا‪ ،‬ونظمه بقوله‪:‬‬
‫وزيد ثامنها الكفران منك بما * * * سوى اإلله من األنداد قد ألها‬
‫وأخذ هذا الشرط من قوله ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ « : -‬من قــال ال إله إال هللا‪ ،‬وكفر‬
‫بما يعبد من دون هللا حرم ماله ودمه » رواه مسلم(‪.)1‬‬
‫وذكــره الشـيخ محمد بن عبد الوهـاب في كتــاب التوحيــد‪ ،‬ثم قــال بعـده‪ :‬وهـذا من‬
‫أعظم ما يبين معــنى ال إله إال هللا‪ ،‬فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصــما للــدم والمــال‪ ،‬بل وال‬
‫معرفة معناها مع لفظهــا‪ ،‬بل وال اإلقــرار بــذلك‪ ،‬بل وال كونه ال يــدعو إال هللا وحــده ال‬
‫شريك له‪ ،‬بل ال يحرم ماله ودمه حتى يضــيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون هللا‪ ،‬فــإن‬
‫شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫ومعنى هذا الشرط أن يعتقد بطالن عبادة من سوى هللا‪ ،‬وأن كل من صــرف شــيئا‬
‫من خــالص حق هللا لغــيره فهو ضــال مشــرك‪ ،‬وأن كل المعبــودات ســوى هللا من قبــور‬
‫وقباب وبقاع وغيرها‪ ،‬نشــأت من جهل المشــركين وخرافــاتهم‪ ،‬فمن أقــرهم على ذلك أو‬
‫تــردد في صــوابهم أو شك في بطالن ما هم عليه فليس بموحــد‪ ،‬ولو قــال‪ :‬ال إله إال هللا‪.‬‬
‫ولو لم يعبد غير هللا‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن الشــروط الســبعة هي المشــهورة في كتب أئمة الــدعوة ‪-‬رحمهم هللا‪-‬‬
‫فنذكر عليها بعض األدلة للتوضيح ‪:‬‬
‫الشرط األول‪ :‬العلم‪ :‬ودليله قوله تعالى‪ ﴿ :‬فَا ْعلَ ْم َأنَّهُ اَل ِإلَهَ ِإاَّل هَّللا ُ ﴾[ سورة مح ّمد‪،‬‬
‫اآلية ‪.] 19 :‬‬
‫وروى مسلم عن عثمــان ‪-‬رضي هللا عنــه‪ -‬قــال‪ :‬قــال رســول هللا ‪-‬صــلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ « : -‬من مات وهو يعلم أن ال إله إال هللا دخل الجنة »‪.‬‬
‫والمراد‪ :‬العلم الحقيقي بمدلول الشــهادتين وما تســتلزمه كل منهما من العمل وضد‬
‫العلم الجهل‪،‬ـ وهو الــذي أوقع المشــركين من هــذه األمة في مخالفة معناهــا‪ ،‬حيث جهلــوا‬
‫معنى اإلله‪ ،‬ومدلول النفي واإلثبات‪ ،‬وفاتهم أن القصد من هذه الكلمة معناها‪ ،‬وهو الــذي‬
‫خالفه المشركون العالمون بما تدل عليه‪ ،‬حيث قالوا‪:‬‬
‫ش وا‬ ‫﴿ َأ َج َع َل اآْل لِ َه ةَ ِإلَ ًها َوا ِح ًدا ﴾ [ ســورة ص‪ ،‬اآلية ‪ ] 5 :‬وقـــالوا‪َ ﴿ :‬أ ِن ا ْم ُ‬
‫اصبِ ُروا َعلَى آلِ َهتِ ُك ْم ﴾ [ سورة ص‪ ،‬اآلية ‪.] 6 :‬‬
‫َو ْ‬
‫الشرط الثاني‪ :‬اليقين‪ :‬وضده الشك والتوقف‪ ،‬أو مجرد الظن والريب‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬أن من أتى بالشهادتين فال بد أن يـوقن بقلبه ويعتقد صـحة ما يقولـه‪ ،‬من‬
‫أحقية إلهية هللا تعالى‪ ،‬وصحة نبوة محمد ‪-‬صلى هللا عليه وســلم‪ -‬وبطالن إلهية غــير هللا‬
‫‪ )?(1‬رواه مسلم برقم (‪ ،)23‬في اإليمان‪ ،‬باب األمر بقتال الناس حتى يقولوا ال إله إال اهلل‪ ...‬إلخ ‪.‬‬
‫بأي نوع من التأله‪ ،‬وبطالن قول كل من ادعى النبــوة بعد محمد ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪-‬‬
‫فإن شك في صحة معناها أو توقف في بطالن عبادة غير هللا‪ ،‬لم تنفعه هاتان الشهادتان‪.‬‬
‫ودليل هــذا الشــرط ما رواه مســلم عن أبي هريــرة ‪-‬رضي هللا عنــه‪ -‬عن النــبي ‪-‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ -‬قــال في الشــهادتين ‪ « :‬ال يلقى هللا بهما عبد غــير شــاك فيهمــا‪ ،‬إال‬
‫دخل الجنة »‪.‬‬
‫وفي الصحيح عنه أيضا‪ ،‬أن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬قال له ‪ « :‬من لقيت من‬
‫وراء هذا الحائط يشهد أن ال إله إال هللا‪ ،‬مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة »(‪.)1‬‬
‫س ولِ ِه ثُ َّم‬ ‫ين آ َمنُوا بِاهَّلل ِ َو َر ُ‬‫ون الَّ ِذ َ‬‫وقد مدح هللا تعالى المؤمنين بقوله‪ِ ﴿ :‬إنَّ َما ا ْل ُمْؤ ِمنُ َ‬
‫لَ ْم يَ ْرتَابُوا ﴾‬
‫[ سورة الحجرات‪ ،‬اآلية ‪. ] 15 :‬‬
‫ُون ﴾[ ســورة التوبــة‪،‬‬ ‫ارتَابَتْ قُلُوبُ ُه ْم فَ ُه ْم فِي َر ْيبِ ِه ْم يَت ََر َّدد َ‬ ‫وذم المنافقين بقوله‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫اآلية ‪.] 45 :‬‬
‫وقد روي عن ابن مسعود ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬قال‪ « :‬الصبر نصف اإليمان‪ ،‬واليقين‬
‫اإليمان كله »(‪.)2‬‬
‫وال شك أن من كــان موقنا بمعــنى الشــهادتين‪ ،‬فــإن جوارحه تنبعث لعبــادة الــرب‬
‫وحده‪ ،‬ولطاعة الرسول عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬القبول المنافي للرد‪ :‬فإن هناك من يعلم معــنى الشــهادتين‪ ،‬ويــوقن‬
‫بمدلولهما ولكنه يردهما كبرا وحسدا‪ ،‬وهــذه حالة علمــاء اليهــود والنصــارى فقد شــهدوا‬
‫بإلهية هللا وحده‪ ،‬وعرفوا محمدا ‪-‬صلى هللا عليه وســلم‪ -‬كما يعرفــون أبنــاءهم‪ ،‬ومع ذلك‬
‫ق ﴾ [ ســورة البقــرة‪ ،‬اآلية ‪:‬‬ ‫س ِه ْم ِمنْ بَ ْع ِد َما تَبَيَّ َن لَ ُه ُم ا ْل َح ُّ‬‫س ًدا ِمنْ ِع ْن ِد َأ ْنفُ ِ‬
‫لم يقبلوه‪َ ﴿ :‬ح َ‬
‫‪.] 109‬‬
‫وهكذا كان المشركون يعرفون معنى ال إله إال هللا‪ ،‬وصدق محمد ‪-‬صــلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ -‬ولكنهم يستكبرون عن قبوله‪ ،‬كما قال تعــالى‪ِ ﴿ :‬إنَّ ُه ْم َك انُوا ِإ َذا قِي َل لَ ُه ْم اَل ِإلَ هَ ِإاَّل‬
‫ون ﴾ [ سورة الصافات‪ ،‬اآلية ‪ ] 35 :‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬فَ ِإنَّ ُه ْم اَل يُ َك ِّذبُونَ َك َولَ ِكنَّ‬ ‫هَّللا ُ يَ ْ‬
‫ستَ ْكبِ ُر َ‬
‫ُون ﴾‬‫ت هَّللا ِ يَ ْج َحد َ‬‫ين بِآيَا ِ‬‫الظَّالِ ِم َ‬
‫[ سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪. ] 33 :‬‬
‫الش رط الرابع‪ :‬االنقي اد‪ :‬ولعل الفــرق بينه وبين القبــول‪ ،‬أن االنقيــاد‪ :‬هو االتبــاع‬
‫باألفعال‪ ،‬والقبول‪ :‬إظهــار صــحة معــنى ذلك بــالقول‪ ،‬ويلــزم منهما جميعا االتبــاع ولكن‬
‫االنقيـاد هو االستسـالم واإلذعـان وعـدم التعقب لشـيء من أحكـام هللا‪ .‬قـال هللا تعـالى‪﴿ :‬‬

‫‪ )?(1‬رواه مسلم برقم (‪ ،)31‬في اإليمان‪ ،‬باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا‪.‬‬
‫‪ )?(2‬ذكره البخاري تعليقا كما في الفتح‪ ،1/60 :‬وقال الحافظ ‪ :‬وصله الطبراني بسند صحيح‪ ،‬وأبو نعيم في الحلية‪.‬‬
‫س نُ‬ ‫سلِ ُموا لَهُ ﴾ [ سورة الزمر‪ ،‬اآلية ‪ ] 54 :‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َمنْ َأ ْح َ‬ ‫َوَأنِيبُوا ِإلَى َربِّ ُك ْم َوَأ ْ‬
‫سنٌ ﴾ [ ســورة النســاء‪ ،‬اآلية ‪ ] 125 :‬وقــال تعــالى‪﴿ :‬‬ ‫سلَ َم َو ْج َههُ هَّلِل ِ َوه َُو ُم ْح ِ‬ ‫ِدينًا ِم َّمنْ َأ ْ‬
‫سكَ بِا ْل ُع ْر َو ِة ا ْل ُو ْثقَى ﴾‬
‫ستَ ْم َ‬ ‫سنٌ فَقَ ِد ا ْ‬ ‫سلِ ْم َو ْج َههُ ِإلَى هَّللا ِ َوه َُو ُم ْح ِ‬ ‫َو َمنْ يُ ْ‬
‫[ سورة لقمان‪ ،‬اآلية ‪.] 22 :‬‬
‫فهذا هو االنقياد هلل تعالى بعبادته وحده ‪ ،‬فأما االنقياد لنبي ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم‬
‫‪ -‬بقبــول ســنته‪ ،‬واتبــاع ما جــاء به والرضى بحكمــه‪ ،‬فقد ذكــره هللا تعــالى بقوله ‪ ﴿ :‬فَاَل‬
‫س ِه ْم َح َر ًجا ِم َّما‬ ‫ش َج َر بَ ْينَ ُه ْم ثُ َّم اَل يَ ِج دُوا فِي َأ ْنفُ ِ‬ ‫ون َحتَّى يُ َح ِّك ُم وكَ فِي َما َ‬ ‫َو َربِّكَ اَل يُْؤ ِمنُ َ‬
‫سلِي ًما ﴾ [ سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.] 65 :‬‬ ‫سلِّ ُموا تَ ْ‬ ‫ض ْيتَ َويُ َ‬ ‫قَ َ‬
‫فاشترط في صحة إيمانهم أن يسلموا تسليما لحكمه‪ ،‬أي ينقــادوا ويــذعنوا لما جــاء‬
‫من ربه‪.‬‬
‫الش رط الخ امس‪ :‬الص دق‪ :‬وضــده الكــذب‪ ،‬وقد ورد اشــتراط ذلك في الحــديث‬
‫الصــحيح‪ ،‬عنه ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ « : -‬من قــال ال إله إال هللا صــادقا من قلبه دخل‬
‫الجنة »(‪.)1‬‬
‫فأما من قالها بلســـــانه وأنكر مـــــدلولها بقلبه فإنها ال تنجيـــــه‪ ،‬كما حكى هللا عن‬
‫س و ُل هَّللا ِ ﴾ [ ســورة المنــافقون‪ ،‬اآلية ‪ ] 1 :‬وقــال‬ ‫ش َه ُد ِإنَّكَ لَ َر ُ‬‫المنــافقين أنهم قــالوا‪ ﴿ :‬نَ ْ‬
‫ون ﴾ [ ســورة المنــافقون‪،‬‬ ‫ين لَ َك ا ِذبُ َ‬ ‫ش َه ُد ِإنَّ ا ْل ُمنَافِقِ َ‬
‫سولُهُ َوهَّللا ُ يَ ْ‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬وهَّللا ُ يَ ْعلَ ُم ِإنَّ َك لَ َر ُ‬
‫اآلية ‪.] 1 :‬‬
‫س َمنْ يَقُ و ُل آ َمنَّا بِاهَّلل ِ َوبِ ا ْليَ ْو ِم اآْل ِخ ِر َو َما‬ ‫وهكذا كـذبهم بقوله تعـالى‪َ ﴿ :‬و ِم َن النَّا ِ‬
‫ين ﴾‬ ‫ُه ْم بِ ُمْؤ ِمنِ َ‬
‫[ سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.] 8 :‬‬
‫صا لَهُ‬ ‫الشرط السادس‪ :‬اإلخالص‪ :‬وضده الشرك‪ ،‬قال هللا تعالى‪ ﴿ :‬فَا ْعبُ ْد هَّللا َ ُم ْخلِ ً‬
‫ص ﴾ [ سورة الزمر ‪ 2 :‬ـ ‪ ] 3‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬قُ ْل ِإنِّي ُأ ِم ْرتُ َأنْ‬ ‫ِّين *َأاَل هَّلِل ِ الدِّينُ ا ْل َخالِ ُ‬ ‫الد َ‬
‫صا‬ ‫ِّين ﴾ [ سورة الزمر‪ ،‬اآلية ‪ ] 11 :‬وقــال‪ ﴿ :‬قُ ْل هَّللا َ َأ ْعبُ ُد ُم ْخلِ ً‬ ‫صا لَهُ الد َ‬ ‫َأ ْعبُ َد هَّللا َ ُم ْخلِ ً‬
‫لَهُ ِدينِي ﴾ [ سورة الزمر‪ ،‬اآلية ‪.] 14 :‬‬
‫وفي الصحيح‪ :‬عن أبي هريرة عن النــبي ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬قــال‪ « :‬أســعد‬
‫النــاس بشــفاعتي من قــال‪ :‬ال إله إال هللا خالصاـ من قلبه » وهو معــنى قوله ‪ -‬صــلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ -‬في حديث عتبان ‪ « :‬فإن هللا حـرم على النـار من قـال‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬يبتغي‬
‫بذلك وجه هللا »‪.‬‬
‫فاإلخالص‪ :‬أن تكون العبادة هلل وحده‪ ،‬دون أن يصرف منها شيء لغــيره‪ ،‬ال ملك‬
‫مقـــرب وال نـــبي مرســـل‪ ،‬وكـــذا اإلخالص في اتبـــاع محمد ‪-‬صـــلى هللا عليه وســـلم‪-‬‬

‫‪ )?(1‬رواه أحمد في المسند‪ ،4/61 :‬عن رفاعة الجهني‪ ،‬ورواه أحمد أيضا‪ ،4/402 :‬عن أبي موسى رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫باالقتصار على سنته‪ ،‬وتحكيمـه‪ ،‬وتـرك البـدع والمخالفـات‪ ،‬وكـذا تـرك التحـاكم إلى ما‬
‫وضع البشر من قوانين وعادات ابتكروها وهي مصادمة للشــريعة‪ ،‬فــإن من رضــيها أو‬
‫حكم بها لم يكن من المخلصين‪.‬‬
‫الشرط السابع‪ :‬المحبة‪ :‬المنافية لضدها من الكراهية والبغضاء؛ـ فيجب على العبد‬
‫محبة هللا ومحبة رسوله ومحبة كل ما يحبه من األعمــال واألقــوال‪ ،‬ومحبة أوليائه وأهل‬
‫طاعته‪ ،‬فهذه المحبة متى كانت صحيحة ظهرت آثارها على البدن‪ ،‬فترى العبد الصــادق‬
‫يطيع هللا ويتبع رســوله ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬ويعبد هللا حق عبادتــه‪ ،‬ويلتذ بطاعتــه‪،‬‬
‫ويســارع إلى كل ما يحبه مــواله من األقــوال واألعمــال‪ ،‬وتــراه يحــذر المعاصي ويبتعد‬
‫عنها‪ ،‬ويمقت أهلها ويبغضهم‪ ،‬ولو كانت تلك المعاصي محبوبة للنفس ولذيــذة في العــادة‬
‫لعلمه بأن النـار حفت بالشــهوات‪،‬ـ والجنة حفت بالمكـاره‪ ،‬فمــتى كـان كـذلك فهو صـادق‬
‫المحبة‪ ،‬ولهذا ســئل ذو النــون المصــري ‪-‬رحمه هللا‪ -‬مــتى أحب ربي؟ فقــال‪ :‬إذا كــان ما‬
‫يبغضه أمر عندك من الصبر(‪.)1‬‬
‫ويقول بعضهم‪ :‬من ادعى محبة هللا ولم يوافقه فدعواه باطلة‪.‬‬
‫وقد شرط هللا لعالمة محبته اتباع النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬في قوله تعــالى‪﴿ :‬‬
‫ون هَّللا َ فَ اتَّبِ ُعونِي يُ ْحبِ ْب ُك ُم هَّللا ُ َويَ ْغفِ ْر لَ ُك ْم ُذنُ وبَ ُك ْم ﴾ [ ســورة آل عمــران‪،‬‬
‫قُ ْل ِإنْ ُك ْنتُ ْم تُ ِح ُّب َ‬
‫اآلية ‪.] 31 :‬‬
‫وقد ســبق أن ذكرنا بعض األدلة على محبة النــبي ‪ -‬صــلى هللا عليه وســلم ‪ -‬وما‬
‫تستلزم من األعمال فكذلك محبة هللا تعالى‪.‬‬

‫المبحث السادس ‪ « :‬نواقض الشهادتين » ‪:‬‬

‫تكلم علماء اإلســالم في كل مــذهب على نــواقض اإلســالم‪ ،‬في كتب الفقه في حكم‬
‫المرتد‪ ،‬وما تحصل به الردة‪ ،‬وبالغ بعضهم في سرد األمثلة التي تحصل بها الردة نعــوذ‬
‫باهلل‪ ،‬وقد بلغت عددا من المئين ما بين فعل وتــرك‪ ،‬لكن الشــيخ محمد بن عبد الوهــاب ‪-‬‬
‫رحمه هللا تعالى‪ -‬لخصها في عشرة نواقض مذكورة في مجموعة التوحيد وغيرها‪.‬‬
‫وإنما يهمنا هنا أن نــذكر بعض الخصــالـ الــتي ينــافي فعلها كلمــتي التوحيــد‪ ،‬وال‬
‫يحصل األجر المرتب على فعلهما‪ ،‬والنطق بهما‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬
‫أوال‪ :‬إنكار خلق هللا تعالى لبعض الموجودات‪ :‬أو إسناد بعض التــدبير والتصــرف‬
‫إلى الطبيعة والصــدفة‪ ،‬فــإن ذلك طعن في الــرب تعــالى‪ ،‬وذلك ينــافي اعتقــاد المســلمين‬
‫إثبات كمال التصرف هلل وحده‪ ،‬وأنه لذلك هو المستحق للعبادة‪.‬‬

‫‪ )?(1‬ذكره أبو نعيم في الحلية‪ ،9/363 :‬بإسناده عنه‪.‬‬


‫ثانيا‪ :‬إنكار شــيء من صــفاتـ الكمــال هلل ‪-‬عز وجــل‪ -‬كــالعلم‪ ،‬والحيــاة‪ ،‬والقيومية‬
‫والجبروت‪ ،‬والسمع والبصر‪ ،‬فإن ذلك غاية التنقص الذي ينافي استحقاق الرب لإللهية‪،‬‬
‫وهكذا إثبات شــيء من النقــائص الــتي نــزه هللا نفسه عنهــا‪ :‬كالســنة‪ ،‬والنــوم‪ ،‬والنســيان‪،‬‬
‫والظلم‪ ،‬والولد‪ ،‬والشريك‪ ،‬ونحوها‪ ،‬فإن ذلك ينافي الكمال الذي استحق به تعالى العبــادة‬
‫من جميع الخلق‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬وصف بعض المخلوقاتـ بشيء من خصائص الخالق‪ :‬كعلم الغيب‪ ،‬وعمــوم‬
‫الملك‪ ،‬وكمال التصرف في الكــون‪ ،‬والقــدرة على الخلق واإليجــاد بــدون إرادة هللا‪ ،‬فــإن‬
‫هــذا تشــريك مع هللا لهــذا المخلــوق‪ ،‬ورفع له إلى مرتبة الخــالق‪،‬ـ وذلك غاية التنقص هلل‬
‫تعالى‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬نفي اســتحقاق الــرب ‪ -‬عز وجــل‪ -‬لكل العبــادات أو لبعضــها‪ :‬كاعتقــاد أنه‬
‫تعالى ال يخشى‪ ،‬وال يدعى‪ ،‬وال يستحق أن يستعان به‪ ،‬أو ال أهمية لذلك أو ال فائدة فيــه‪،‬‬
‫وهكذا حكم من سخر ببعض العبادات‪،‬ـ أو استهزأ بالمصلين أو المتمسكين بــأي نــوع من‬
‫أنواع الطاعة‪ ،‬فإن ذلك انتقاد للشرع‪ ،‬وهو ينافي الشهادتين‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬من اعتقد أن أحدا من الناس يسوغ له التشريع‪ ،‬والتقنين‪ ،‬ووضع األحكــام‬
‫التي تغير الشرع‪ :‬كإباحة الزنا أو الربا‪ ،‬وإبطال العقوبات الشرعية‪ :‬كقتل القاتــل‪،‬ـ وقطع‬
‫الســارق‪ ،‬وإبطــال الزكــاة‪ ،‬وتغيــير الفــرائض‪ ،‬أو أي نــوع من أنــواع العبــادات‪ ،‬وهكــذا‬
‫التحاكم إلى غير شرع هللا‪ ،‬والحكم بغير ما أنزل‪ ،‬فمن اعتقد ذلك أو نحــوه فقد اعــترض‬
‫على الــرب في شــرعه‪ ،‬وزعم أنه نــاقص أو غــير مالئم‪ ،‬أو أن غــير حكم هللا أحسن من‬
‫حكمه‪ ،‬وذلك غاية التنقص فال يجتمع مع التوحيد الخالص‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬صرف شيء من أنواع العبادة لغير هللا تعــالى‪ :‬وهو شــرك القبــوريين في‬
‫هذه األزمنة‪ ،‬فمن دعا ميتا‪ ،‬أو رجاه‪ ،‬أو علق قلبه به أو أحبه كحب هللا‪ ،‬أو انحنى له‪ ،‬أو‬
‫خشع وخضع عند القبر ونحوه‪ ،‬أو طاف به‪ ،‬أو ذبح لــه‪ ،‬أو نحو ذلك من أنــواع العبــادة‪،‬‬
‫فقد أبطل شــهادته‪ :‬أن ال إله إال هللا‪ ،‬وأن محمــدا رســول هللا‪ ،‬وقد ســبق شــيء مما يتعلق‬
‫بمعنى اإللهية والعبادة وما يدخل فيها‪.‬‬
‫سابعا‪ :‬مواالة أعداء هللا‪ :‬ومحبتهم وتقريبهم‪ ،‬ورفع مقامهم‪ ،‬واعتقاد أنهم على حق‬
‫أو أنهم أولى بالتبجيل واالحــترام من المســلمين‪ ،‬وســواء كــانوا من أهل الكتــابين أو من‬
‫الوثنيين أو الدهريين‪ ،‬فإن طاعتهم وتوقيرهم وإعزازهم يوحى بأنهم على صــواب‪ ،‬وأن‬
‫المســلمين المخــالفين لهم ضــالون خــاطئون‪ ،‬أو يــدل احــترامهم على تعظيم دنيــاهم أو‬
‫علومهم الدنيوية‪ ،‬وكل ذلك ينافي حقيقة الشهادة‪.‬‬
‫ثامنا‪ :‬الطعن في رسالة النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أو في شــريعته‪ ،‬أو تكذيبه أو‬
‫دعوى خيانته أو كتمانه لما أوحي إليــه‪ ،‬وكــذا إظهــار ســبه أو عيبه أو التهكم بســيرته أو‬
‫شــيء من أعماله أو أحواله أو تصــرفاته‪ ،‬ونحو ذلك مما يــدل على إنكــار رســالته في‬
‫الباطن‪ ،‬فــإن الطعن فيه طعن في الــرب تعــالى‪ ،‬فهو الــذي أرســله وحمله هــذه الرســالة‪،‬‬
‫وذلك يناقض كلمتي الشهادتين‪.‬‬
‫تاسعا‪ :‬الطعن في القرآن الذي هو كالم هللا تعالى‪ :‬كدعوى المشركين أنه سحر أو‬
‫شعر أو أســاطير األولين‪ ،‬أو أنه مفــتر مكــذوب‪ ،‬وكــذا من زعم أنه قــول البشــر‪ ،‬أو نفي‬
‫وإعجازه أو حاول معارضته بمثله‪ ،‬وأن ذلك ممكن أو كذب ببعض ما اشــتمل عليــه‪ ،‬أو‬
‫أنكر بعض السور أو اآليات المنقولة بالتواتر أو نحو ذلك‪ ،‬فإنه كافر مكذب هلل ورسوله‪،‬‬
‫وذلك يناقض كلمة التوحيد‪.‬‬
‫عاشرا‪ :‬إنكار شيء من األمور الغيبية الــتي أمر هللا باإليمــان بهــا‪ :‬وأخــبر بثبوتها‬
‫وأحقيتها في كتابــه‪ ،‬وعلى لســان رســوله ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪ -‬كالمالئكــة‪ ،‬والكتب‪،‬‬
‫والرسل‪ ،‬والبعث بعد الموت‪ ،‬وحشر األجساد والجنة والنار‪ ،‬وكذا عذاب القــبر ونعيمــه‪،‬‬
‫ونحو ذلك فإن من جحد منها شيئا‪ ،‬فقد كــذب هللا وكــذب رســوله ‪-‬صــلى هللا عليه وســلم‪-‬‬
‫وذلك أكبر الطعن في الرسالة‪ ،‬وما اشتملت عليه‪ ،‬فهو يخالف ما تستلزمه الشهادتان‪.‬‬

‫وأقتصر على هذا القدر مما يتعلق بالشهادتين وما يكــون به تحقيقهمــا‪ ،‬وذلك على‬
‫وجه االختصار‪،‬ـ ومن أراد التفصيل وجد ذلك في كتب أئمة الدعوة ‪ -‬رحمهم هللا ‪ -‬وكــذا‬
‫من سبقهم من علمــاء المســلمين‪ ،‬وهللا أعلم وأحكم‪ ،‬وصــلى هللا على محمد وآله وصــحبه‬
‫وسلم‪.‬‬

You might also like