Professional Documents
Culture Documents
الشَّها َدتَ ِ
تأليف
ْخ العالّم ِة َس َما َح ِة ال َّشي ِ
بن ِجب ِْري ٍْنبن َع ْب ِد الرَّحْ َم ِن ِ َع ْب ِد اللَّـ ِه ِ
ـ َسلَّ َمهُ اللَّـهُ تَ َعالَى ـ
يجد القارئ في كتب الحديث والسنة كثيرا وكثيرا من أقوال النبي -صلى هللا عليه
وســلم -تتضــمن فضل هــاتين الشــهادتين والبشــارة لمن أتى بهما بالجنة والرضــوان،
والسعادة والنجاة من عذاب هللا وسخطه()1؛ فمن ذلك حــديث عبــادة بن الصــامتـ -رضي
هللا عنه -أن النبي -صلى هللا عليه وسلم -قال :
« من شهد أن ال إله إال هللا وحـده ال شـريك لـه ،وأن محمـدا عبـده ورسـوله ،وأن
عيسى عبد هللا ورســوله وكلمته ألقاهاـ إلى مــريم وروح منــه ،والجنة حق والنــار حــق؛
أدخله هللا الجنة على ما كـــــان من العمل »متفق عليه ،وفي رواية « :أدخله هللا من أي
أبواب الجنة الثمانية شاء »( ،)2وفي صحيح مســلم وغــيره عن عثمــان -رضي هللا عنــه-
مرفوعا « :من مــــات وهو يعلم أن ال إله إال هللا دخل الجنة »( ، )3وعن أبي هريــــرة -
رضي هللا عنه -قال :قال رســول هللا -صــلى هللا عليه وســلم « : -أشــهد أن ال إله إال هللا
وأني رسول هللا ال يلقى هللا بهما عبد غير شاك فيهما إال دخل الجنة »( ،)4وعن عبادة بن
الصامت -رضي هللا عنه -قال :سمعت رسول هللا -صلى هللا عليه وســلم -يقــول « :من
شــهد أن ال إله إال هللا ،وأن محمــدا رســول هللا؛ حــرم هللا عليه النــار »( ،)5وعن أنس بن
مالك -رضي هللا عنه -أن رســول هللا -صــلى هللا عليه وســلم -قــال لمعــاذ بن جبل « :ما
من عبد يشهد أن ال إله إال هللا وأن محمــدا عبــده ورســوله إال حرمه هللا على النــار »(،)6
وعن عتبان بن مالك -رضي هللا عنــه -في حديثه الطويل أن رســول هللا -صــلى هللا عليه
وسلم -قال « :فإن هللا حرم على النار من قال ال إله إال هللا يبتغي بذلك وجه هللا »(.)7
وكل هـــذه النصـــوص في الصـــحيحين أو أحـــدهما ،وداللتها ظـــاهرة على فضل
اإلتيـــان بهـــاتين الكلمـــتين ،حيث رتب على ذلك دخـــول الجنة وفتح أبوابها الثمانيـــة،
والتحريم على النار ،وورد أيضا ترتب العتق من النار على ذلك؛ فقــال -صــلى هللا عليه
وســلم « : -من قــال حين يصــبح أو يمســي :اللهم إني أصــبحتـ أشــهدك وأشــهد حملة
عرشك ،وأنبياءك ومالئكتك وجميع خلقك بأنك أنت هللا ال إله إال أنت ،وأن محمدا عبدك
ورسولك أعتق هللا ربعه من النار ،فمن قالها مرتين أعتق هللا نصفه من النار ،ومن قالها
ثالثا أعتق هللا ثالثة أرباعه من النــــــار ،ومن قالها أربعا أعتقه هللا من النــــــار » رواه
الترمــــذي وأبو داود عن أنس رضي هللا عنه( ،)8وورد أيضا في فضل هــــذه الكلمة أنها
تــرجح بالســـيئات ،بل بجميع المخلوقــاتـ إال ما شـــاء هللا ،فــروى ابن حبـــان والحـــاكم
وصححه عن أبي سعيد الخدري -رضي هللا عنه -عن رسول هللا -صلى هللا عليه وســلم-
قال « :قال موسى :يا رب ،علمني شيئا أذكرك وأدعوك به .قــال :يا موســى ،قل ال إله
)?(1انظر في ذلك كتاب اإليمان أول صحيح مسلم ،وكتاب التوحيد آخر صحيح البخاري وغيرهما.
اب ال تَ ْغلُوا ِفي
َأه َل ا ْل ِكتَ ِ
(?) رواه البخاري ،كما في الفتح 6/546 :برقم ،)3435( :في أحاديث األنبياء ،باب قوله تعالى ُ ﴿ :ق ْل َيا ْ
2
ين ُك ْم ﴾...اآلية [ سورة المائدة ،اآلية ،] 77 :ومسلم :برقم ( )28في اإليمان ،باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا. ِد ِ
)?(3رواه مسلم برقم ( )26في اإليمان ،باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة مطلقا.
)?(4رواه مسلم برقم ( )27في اإليمان ،باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة مطلقا.
)?(5رواه مسلم برقم ( )29في اإليمان ،باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة مطلقا.
)?(6رواه مسلم برقم ( )32في اإليمان ،باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة مطلقا.
)?(7رواه مسلم برقم )657( :في المساجد Fومواضع الصالة ،باب الرخصة في التخلف عن الجماعة لعذر.
)?(8رواه الترمذي برقم ( )3501في الدعوات ،باب ( ،)79وأبو داود برقم )5069( :في األدب ،باب ما يقول إذا أصبح .واللفظ له.
إال هللا .قال :يا رب ،كل عبادك يقولــون هــذا .وفي رواية قــال :ال إله إال أنت ،إنما أريد
شيئا تخصني به .قال :يا موسى ،لو أن السموات الســبع وعــامرهن غــيري ،واألرضــين
السبع في كفة ،وال إله إال هللا في كفة مالت بهن ال إله إال هللا »(.)1
وروى اإلمام أحمد عن عبد هللا بن عمرو عن النبي -صلى هللا عليه وســلم -قــال :
« إن نوحا -عليه الســالم -قــال البنه عند موته :آمــرك بال إله إال هللا ،فــإن الســماوات
السبع واألرضين السبع لو وضــعت في كفة وال إله إال هللا في كفة رجحت بهن ال إله إال
هللا ،ولو أن السماوات الســبع واألرضــين الســبع كن حلقة مبهمة لفصــمتهن ال إله إال هللا
»( ،)2وروى الترمذي وغيره عن عبد هللا بن عمرو حديث صــاحب البطاقة الــذي يــدعى
يوم القيامة « :فينشر له تسعة وتســعون ســجال -يعــني من الســيئات -ثم يخــرج له بطاقة
فيهـــا :أشـــهد أن ال إله إال هللا وأن محمـــدا عبـــده ورســـوله ،فتوضع الســـجالت في كفة
والبطاقة في كفة ،فطاشت السجالت وثقلت البطاقة »(.)3
فأنت ترى هذه النصوص الصــحيحة قد أفــادت النجــاة والفــوز ألهل هــذه الكلمــة،
ولكن ال بد من تحقيقها والعمل بمقتضــاها،ـ فــإن هــذه األدلة المطلقة تحمل على األخــرى
الــتي قيد فيها اإلتيــان بالشــهادتين بــاإلخالص والصــدق ...إلخ؛ لتكــون بــذلك مــؤثرة في
العمل والسلوك.
في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي هللا عنه -عن النبي -صلى هللا عليه وســلم-
قال « :أمــرت أن أقاتل النــاس حــتى يقولــوا ال إله إال هللا ،فمن قــال :ال إله إال هللا عصم
مـــني ماله ونفسه إال بحقهما وحســـابه على هللا عز وجل وفي رواية لمســـلم « :حـــتى
يشهدوا أن ال إله إال هللا ،ويؤمنــوا بي وبما جئت به »( ،)4وفي الصــحيحين عن ابن عمر
-رضي هللا عنهما -أن رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -قــال « :أمــرت أن أقاتل النــاس
حتى يشهدوا أن ال إله إال هللا وأن محمدا رسول هللا ،ويقيموا الصالة ويؤتوا الزكاة ،فــإذا
فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إال بحق اإلسالم وحســابهم على هللا »( ، )5وفي
)?(1رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده ،رقم ( )1393وابن حبان برقم ( )2324الموارد .والحاكم في المستدرك ( )1/528والبغوي في
شرح السنة .55 ،5/54 :قال األرناؤط في تحقيق شرح السنة 5/55 :إسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة.
)?(2هو في مسند أحمد تحقيق :أحمد شاكر برقم ،)6583( :وكذا رواه الحاكم ،1/48 :وصححه ووافقه الذهبي.
)?(3رواه الترمذي برقم ( )2639في اإليمان ،باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن ال إله إال اهلل ،وكذا رواه أحمد في المسند ،2/213 :وابن
ماجة برقم )4300( :في الزهد ،باب ما يرجى من رحمة اهلل يوم القيامة ،بمعناه.
)?(4رواه البخاري كما في الفتح 6/130 :برقم )2946( :في الجهاد والسير ،باب دعاء النبي صلى اهلل عليه وسلم الناس إلى اإلسالم ...إلخ،
ومسلم برقم )21( :في اإليمان باب األمر بقتال الناس حتى يقولوا ال إله إال اهلل ...إلخ .
)?(5رواه البخاري كما في الفتح 1/94 :برقم )25( :في األيمان ،باب (فإن تابوا وأقاموا الصالة ...اآلية) ،ومسلم برقم )21( :في اإليمان،
باب األمر بقتال الناس حتى يقولوا ال إله إال اهلل ...إلخ .
الصحيح عن أنس -رضي هللا عنه -عن النبي -صلى هللا عليه وسلم -قــال « :أمــرت أن
أقاتل الناس -يعني المشركين -حتى يشهدوا أن ال إله إال هللا وأن محمــدا عبــده ورســوله،
فــإذا شــهدوا أن ال إله إال هللا وأن محمــدا رســول هللا ،وصــلوا صــالتنا واســتقبلوا قبلتنــا،
وأكلوا ذبيحتنا؛ فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إال بحقها »(.)1
واألحاديث في هذا كثيرة ،وهكذا كان النبي -صلى هللا عليه وســلم -يتقبل كل فــرد
أســلم بعد أن يتكلم بالشــهادتين ،فقد ذكر المؤرخــون في قصة إســالم أبي ذر الغفــاري -
رضي هللا عنه -أنه قال « :أتيت رسول هللا -صــلى هللا عليه وســلم -فقلت :الســالم عليك
يا رسول هللا ،أشهد أن ال إله إال هللا وأن محمدا رســول هللا ،قــال :فــرأيت االستبشــار في
وجهه »(.)2
وذكروا عن خالد بن الوليد أنه قــدم المدينة لإلســالم ،فــأتى النــبي -صــلى هللا عليه
وســلم -قــال « :فســلمت عليه وقلت :إني أشــهد أن ال إله إال هللا وأنك رســول هللا .فقــال:
الحمد هلل الذي هداك »( ،)3وكذا قصة إسالم خالد بن ســعيد بن العــاص -رضي هللا عنــه-
أنه لقي رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم « -فقال :إالم تدعو؟ قال :أدعوك إلى هللا وحده
ال شريك له ،وأن محمدا عبده ورسوله ،وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر ال يسمع وال
يضر وال ينفع ،وال يدري من َعبَ َدهُ ممن ال يعبده .قال خالد :فإني أشهد أن ال إله إال هللا
وأنك رسول هللا »(.)4
فهــذه القصص ونحوها تفيد أن النطق بالشــهادتين شــرط لقبــول اإلســالم فمن أتى
بهما دخل في هذا الدين ،وعصم بذلك دمه وماله وحرم قتله ،وقد أنكر النــبي -صــلى هللا
عليه وسلم -على أسامة لما قتل من تلفظ بهذه الكلمة ،ففي صــحيح مســلم وغــيره عنه أن
النبي -صلى هللا عليه وسلم -بعثه في سرية قال :
« فأدركت رجال فقال :ال إله إال هللا ،فطعنتــه ،فقــال رســول هللا -صــلى هللا عليه
وســلم -أقـال ال إله إال هللا وقتلته ؟ قلت :يا رسـول هللا ،إنما قالها خوفا من السـالح .قـال:
أفال شققت عن قلبه »(.)5
وفي حديث جندب البجلي في الصحيح « أن أسامة قــال :يا رســول هللا ،أوجع في
المسلمين وقتل فالنا وفالنا ،وإني حملت عليه ،فلما رأى السيف قــال ال إله إال هللا ،قــال:
فكيف تصنع بال إله إال هللا إذا جاءتـ يوم القيامة »( ،)6وفي حديث ابن عباس أن النــبي -
صــلى هللا عليه وســلم -لما بعث معــاذا إلى اليمن قــال له « :فليكن أول ما تــدعوهم إليه
)?(1رواه البخاري كما في الفتح 1/592 :برقم )392( :في الصالة ،باب فضل استقبال القبلة ،يستقبل بأطراف رجليه.
)?(2ذكره ابن كثير في البداية والنهاية.3/34 :
)?(3انظر سيرة ابن هشام مع الروض األنف ،6/363 :والبداية والنهاية.4/238 :
)?(4البداية والنهاية .3/23
)?(5رواه مسلم برقم )96( :في اإليمان ،باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال :ال إله إال اهلل.
)?(6رواه مسلم برقم )97( :في اإليمان ،باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال :ال إله إال اهلل.
شهادة أن ال إله إال هللا وأني رسول هللا » متفق عليه( ،)7وفي المعنى أحــاديث كثــيرة تفيد
أن نبي هللا -صلى هللا عليه وسلم -كان يكتفي من أهل زمانه بهــاتين الشــهادتين ،وأن من
أتى بهما وعمل بمدلولهما ،والتزم بما تستلزمه كل منهما من الطاعة هلل ورسـوله وجميع
أنــواع العبــادة؛ فيوحد هللا -عز وجــل -ويتخلى عن العــادات الشــركية ،ويأخذ ذلك من
معــنى قوله ال إله إال هللا ،كما يلــتزم طاعة رســول هللا -صــلى هللا عليه وســلم -واتباعه
بمجرد قوله :محمد رسول هللا ،وما ذاك إال أن القوم إذ ذاك كانوا عربا فصحاء يعرفون
ويفهمون معنى الشهادة ،ومعنى اإلله ،وما في هذه الكلمة من النفي واإلثبات ،فال جــرم
اقتصر على تلقينهم هذه الكلمة؛ وذلك أن من شرط نجاة من تلفظ بهذه الشــهادة أن يكــون
عالما بمعناها ،عامال بمقتضاها ظاهرا وباطنا ،قال هللا -تعــالى ﴿ : -فَ ا ْعلَ ْم َأنَّهُ ال ِإلَ هَ ِإال
ش ِه َد بِ ا ْل َح ِّ
ق َو ُه ْم هَّللا ُ ﴾[ ســـورة ُمح َّمد ،اآلية ] 19 :وقـــال -عز وجـــلِ ﴿ : -إالَّ َمنْ َ
ون﴾ [ سورة الزخــرف ،اآلية ] 86 :ونحو ذلك من اآليــات الــتي تــبين أنه يشــترط يَ ْعلَ ُم َ
العلم بمعناهــا،ـ وعلى هــذا فيجب الكف عن من أتى بالشــهادتين ظــاهرا من المشــركين،
ويحقن بذلك دمه حتى يختبر وينظر في أمــره بعد ذلــك؛ فــإن اســتقام على الــدين والــتزم
بالتوحيد ،وعمل بتعاليم اإلسالم ،فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين ،وإن
خـــالف مقتضى ما شـــهد بـــه ،أو تـــرك بعض ما كلف به جحـــدا وإنكـــارا ،أو اســـتباح
المحرمات المعلوم بالضرورة تحريمها ،لم تعصمه هذه الكلمة.
وهذا هو الواقع في الكثير من أهل هذا الزمان من علماء وعامــة ،جهلة أو مقلــدة،
حيث إن الكثير من العــوام في هــذه القــرون المتــأخرة قد فســدت عقائــدهم ،ونشــأوا على
جهالة بالدين وبمدلول الشهادتين ،بل معاني اللغة العربية كلها ،فال جرم أصبح الجمهور
منهم ال يفهمون معنى الشهادتين ،ويقعــون في ما يناقضــهما صــريحا ،ويكتفــون بمجــرد
التلفظ بهما معتقــدين أن األجر والحســنات وعصــمة الــدم والمــال تحصل بترديد هــذه
األحرف الجوفاء،ـ دون معرفة لمعانيها وال عمل بمقتضاها؛ـ لذلك نحن بحاجة إلى الكالم
على معــاني هــاتين الشــهادتين إلقامة الحجة على من خــالف ذلك معــنى واكتفى بالتلفظ
بهما ،وزعم أنه بذلك مسلم كامل التوحيد.
)?(7رواه البخاري كما في الفتح 3/307 :برقم ( ،)1395في الزكاة ،باب وجوب الزكاة ،ومسلم برقم )19( :في اإليمان ،باب الدعاء إلى
الشهادتين وشرائع اإلسالم.
« المبحث الثَّالث في معنى كلم ِة ال إله إال اللَّـه » :
لقد عني أئمة الدعوة -رحمهم هللا -ببيان معنى كلمة التوحيد ،فأفردها الشيخ محمد
بن عبد الوهــاب برســالة في جــواب ســؤال ،وتكلم عليها في كشف الشــبهات وغــيره،
وتعرض لها شراح كتاب التوحيد وغيرهم ،وإليك ما ذكره الشيخ ســليمان بن عبد هللا في
تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد صفحة 53 :حيث يقول :ومعــنى ال إله إال هللا:
أي ال معبــود بحق إال إله واحــد ،وهو هللا وحــده ال شــريك لــه ،كما قــال تعــالىَ ﴿ :و َما
ُون﴾ [ ســورة األنبيــاء، وحي ِإلَ ْي ِه َأنَّهُ اَل ِإلَهَ ِإاَّل َأنَا فَا ْعبُ د ِ
سو ٍل ِإاَّل نُ ِ َأ ْر َ
س ْلنَا ِمنْ قَ ْبلِكَ ِمنْ َر ُ
اآلية .] 25 :
سواًل َأ ِن اُ ْعبُدُوا هَّللا َ َو ْ
اجتَنِبُ وا الطَّا ُغوتَ مع قوله تعالىَ ﴿ :ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي ُك ِّل ُأ َّم ٍة َر ُ
﴾ [ سورة النحل،ـ اآلية .] 36 :
فصح أن معنى اإلله هو المعبود ،ولهذا لما قال النــبي -صــلى هللا عليه وســلم : -
« لكفار قريش :قولوا :ال إله إال هللا .قالوا :أجعل اآللهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب
ان يَ ْعبُ ُد آبَاُؤ نَا ﴾[ سورة األعــراف، » وقال قوم هود َ ﴿ :أ ِجْئتَنَا لِنَ ْعبُ َد هَّللا َ َو ْح َدهُ َونَ َذ َر َما َك َ
اآلية .] 70 :
وهو إنما دعاهم إلى :ال إله إال هللا ،فهــذا هو معــنى :ال إله إال هللا وهو عبــادة هللا
وتــرك عبــادة ما ســواه ،وهو الكفر بالطــاغوت واإليمــان باهلل ،فتضــمنت هــذه الكلمة
العظيمة :أن ما ســوى هللا ليس بإلــه ،وأن إلهية ما ســواه من أبطل الباطــل ،وإثباتها أظلم
الظلم ،فال يستحق العبادة سواه ،كما ال تصــلح اإللهية لغــيره ،فتضــمنت نفي اإللهية عما
سواه ،وإثباتها له وحده ال شريك له ،وذلك يستلزم األمر باتخاذه إلها وحــده ،والنهي عن
اتخاذ غيره معه إلها ،وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي واإلثبــات ،كما إذا رأيت رجال
يستفتي أو يستشهد من ليس أهال لذلك ،ويدع من هو أهل له ،فتقول :هــذا ليس بمفت وال
شاهد ،المفتي فالن والشاهد فالن ،فإن هذا أمر منه ونهي.
وقد دخل في اإللهية جميع أنــــواع العبــــادة الصــــادرة عن تأله القلب هلل بــــالحبـ
والخضــوع ،واالنقيــاد له وحــده ال شــريك لــه ،فيجب إفــراد هللا تعــالى بهــا :كالــدعاء،
والخوف ،والمحبة ،والتوكل واإلنابة ،والتوبة ،والذبح ،والنذر ،والسجود ،وجميع أنــواع
العبادة ،فيجب صرف جميع ذلك هلل وحده ال شريك له ،فمن صــرف شــيئا مما ال يصــلح
إال هلل من العبادات لغير هللا فهو مشرك ولو نطق بـال إله إال هللا؛ إذ لم يعمل بما تقتضــيه
من التوحيد واإلخالص.
قال :واسم هللا تعالى مرتفع بعد (إال) من حيث إنه الواجبـ له اإللهية ،فال يستحقها
غيره -ســبحانه -قــال :واقتضى اإلقــرار بها أن تعلم أن كل ما فيه أمــارة للحــدث ،فإنه ال
يكون إلها ،فإذا قلت :ال إله إال هللا ،فقد اشتمل نطقك هذا على أن ما ســوى هللا ليس بإلــه،
فيلزمك إفراده -سبحانه -بذلك وحده .قــال :وجملة الفائــدة في ذلك أن تعلم أن هــذه الكلمة
هي مشتملة على الكفر بالطــاغوت واإليمــان باهلل ،فإنك لما نفيت اإللهية وأثبت اإليجــاب
هلل -سبحانه -كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن باهلل.
وقال أبو عبد هللا القرطبي في التفسير :ال إله إال هو ،إي :ال معبود إال هو.
وقال الزمخشري :اإلله من أسماء األجنــاس ،كالرجل والفــرس ،اسم يقع على كل
معبود بحق أو بباطل ،ثم غلب على المعبود بحق.
وقال شيخ اإلسالم :اإلله هو المعبود المطاع.
فلهذا أبوا عن النطق بها ،وإال فلو قالوها وبقوا على عبادة الالت والعزى ومناة ،
لم يكونوا مسلمين ،ولقاتلهم -عليه السالم -حتى يخلعوا األنداد ويتركوا عبادتها ،ويعبدوا
هللا وحده ال شريك له ،وهذا أمر معلوم باالضطرار من الكتاب والســنة واإلجمــاع ،وأما
عباد القبور فلم يعرفوا معنى هذه الكلمة ،وال عرفــوا اإللهية المنفية عن غــير هللا ،الثابتة
له وحــده ال شــريك لــه ،بل لم يعرفــوا من معنــاه إال ما أقر به المــؤمن والكــافر ،واجتمع
عليه الخلق كلهم من أن معناها :ال قادر على االختراع ،أو أن معناهــا :اإللــه ،هو الغــني
عما سواه ،الفقير إليه كل ما عــداه ،ونحو ذلــك .فهــذا حق وهو من لــوازم اإللهيــة ،ولكن
ليس هو المراد بمعنى ال إله إال هللا ،فإن هذا القدر قد عرفه الكفار ،وأقروا به ولم يدعوا
في آلهتهم شيئا من ذلك ،بل يقرون بفقرهم ،وحاجتهم إلى هللا ،وإنما كانوا يعبدونهم على
معنى أنهم وسائط وشفعاء عند هللا في تحصيل المطالب ونجاح المآرب ،وإال فقد ســلموا
الخلق والملك والرزق واإلحياء واإلماتة واألمر كله هلل وحده ال شــريك لــه ،وقد عرفــوا
معنى ال إله إال هللا ،وأبــوا عن النطق والعمل بهــا ،فلم ينفعهم توحيد الربوبية مع الشــرك
ون ﴾ [ ســورة في اإللهيــة ،كما قــال تعــالىَ ﴿ :و َما يُ ْؤ ِمنُ َأ ْكثَ ُر ُه ْم بِاهَّلل ِ ِإاَّل َو ُه ْم ُم ْ
ش ِر ُك َ
يوسف ،اآلية .] 106 :
وعباد القبور نطقوا بها ،وجهلوا معناها ،وأبوا عن اإلتيان بــه ،فصــاروا كــاليهود
الذين يقولونها وال يعرفون معناها وال يعملون به ،فتجد أحــدهم يقولها وهو يأله غــير هللا
بالحب واإلجالل والتعظيم ،والخوف والرجاء،ـ والتوكل والــدعاء عند الكــرب ،ويقصــده
بـــأنواع العبـــادة الصـــادرة عن تأله قلبه لغـــير هللا ،مما هو أعظم مما يفعله المشـــركون
األولون.
ولهــذا إذا تــوجهت على أحــدهم اليمين باهلل تعــالى ،أعطــاك ما شــئت من األيمــان
صادقا أو كاذبا ،ولو قيل له :احلف بحياة الشيخ فالن ،أو بتربته ونحو ذلك ،لم يحلف إن
كــان كاذبــا ،وما ذاك إال ألن المــدفون في الــتراب أعظم في قلبه من رب األربــاب،ـ وما
كان األولون هكذا ،بل كانوا إذا أرادوا التشديد في اليمين حلفوا باهلل تعالى ،كما في قصة
القسامة التي وقعت في الجاهلية ،وهي في صحيح البخاري(.)1
وكثير منهم أو أكثرهم يرى أن االستغاثة بإلهه الذي يعبده عند قبره أو غــيره أنفع
وأنجح من االســتغاثة باهلل في المســجد ،ويصــرحون بــذلك ،والحكايــات عنهم بــذلك فيها
طــول ،وهــذا أمر ما بلغ إليه شــرك األولين .وهــؤالء إذا أصــابتهم الشــدائد أخلصــوا
)?(1رواه البخاري كما في الفتح 7/190 :برقم )3845( :في مناقب Fاألنصار ،باب القسامة في الجاهلية .عن ابن عباس ،وهي قصة أول
قسامة في الجاهلية في بني هاشم ،لما قتل رجل منهم في عقال بعير فأنكر القاتل ،فحلف من قومه ثمانية وأربعون رجال ،فما حال الحول ومنهم
عين تطرف.
للمدفونين في التراب .وهتفوا بأسمائهم ودعوهم ليكشفوا ضر المصاب ،في الـبر والبحر
والســفر واإليــاب ،وهــذا أمر ما فعله األولــون ،بل هم في هــذه الحــال يخلصــون للكبــير
ِّين ﴾ [ سورة ين لَهُ الد َ المتعال ،فاقرأ قوله تعالى ﴿ :فَِإ َذا َر ِكبُوا فِي ا ْلفُ ْل ِك َد َع ُوا هَّللا َ ُم ْخلِ ِ
ص َ
العنكبوت ،اآلية .] 65 :
الض َّر َع ْن ُك ْم ِإ َذا فَ ِري ٌ
ق ف ُّ ش َ ون *ثُ َّم ِإ َذا َك َ الض ُّر فَِإلَ ْي ِه ت َْج َأ ُر َ وقوله ﴿ :ثُ َّم ِإ َذا َم َّ
س ُك ُم ُّ
ون ﴾ [ سورة النحل 53 :ـ .] 54 ش ِر ُك َ ِم ْن ُك ْم بِ َربِّ ِه ْم يُ ْ
وكثير منهم قد عطلوا المساجد ،وعمروا القبور والمشاهد ،فإذا قصد أحدهم القــبر
الذي يعظمه ،أخذ في دعاء صاحبه باكيا خاشــعا ذليال خاضــعا،ـ بحيث ال يحصل له ذلك
في الجمعة والجماعات ،وقيام الليل وأدبار الصلوات ،فيسألونهم مغفرة الذنوب ،وتفريج
الكروب ،والنجاة من النار ،وأن يحطوا عنهم األوزار ،فكيف يظن عاقل فضال عن عالم
أن التلفظ بال إله إال هللا مع هذه األمور تنفعهم؟! وهم قالوها بألسنتهم وخالفوها باعتقادهم
وأعمـــالهم ،وال ريب أنه لو قالها أحد من المشـــركين ،ونطق أيضا بشـــهادة أن محمـــدا
رسول هللا ،ولم يعرف معنى اإلله وال معنى الرسول ،وصلى وصام وحج وال يــدري ما
ذلك ،إال أنه رأى الناس يفعلون فتابعهم ،ولم يفعل شيئا من الشــرك ،فإنه ال يشك أحد في
عدم إسالمه ،وقد أفتى بذلك فقهاء المغرب كلهم في أول القرن الحــادي عشر أو قبله في
شــخص كــان كــذلك ،كما ذكــره صــاحب (الــدر الثمين في شــرح المرشد المعين) من
المالكية ،ثم قال شــارحه :وهــذا الــذي أفتــوا به جلي في غاية الجالء ،ال يمكن أن يختلف
فيه اثنان .انتهى.
وال ريب أن عبادة القبور أشد من هذا؛ ألنهم اعتقدوا اإللهية في أرباب متفرقين.
فإن قيــل :قد تــبين معــنى اإلله واإللهيــة ،فما الجــواب عن قــول من قــال بــأن اإلله
القادر على االختراع ،ونحو هذه العبارة ؟
قيل :الجواب من وجهين :
أحدهما :أن هذا قــول مبتــدع ،ال يعــرف أحد قاله من العلمــاء وال من أئمة اللغــة،
وكالم العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم ،فيكون هذا القول باطال.
الثانـي :على تقدير تسليمه فهو تفسير بالالزم لإلله الحق ،فإن الالزم له أن يكون
خالقا قادرا على االخــتراع ،ومــتى لم يكن كــذلك ،فليس بإله حق وإن ســمي إلهــا ،وليس
مـــراده أن من عـــرف أن اإلله هو القـــادر على االخـــتراع فقد دخل في اإلســـالم ،وأتى
بتحقيق المرام ،من مفتاح دار السالم ،فإن هذا ال يقوله أحد؛ ألنه يستلزم أن يكــون كفــار
العــرب مســلمين ،ولو قــدر أن بعض المتــأخرين أرادوا ذلك فهم مخطئــون ،يــرد عليهم
بالدالئل السمعية والعقلية .انتهى.
« المبحث ال َّرابع في معنى ( :شهادة أن ُمح َّم ًدا رسول اللَّـه ) » :
لما كــانت كلمة الشــهادة علما على النطق بالشــهادتين معــا ،وكانتا متالزمــتين ال
تنفك إحداهما عن األخرى ،كان من الــواجب على من أتى بكل منهما أن يعــرف ما تــدل
عليه الكلمــة ،ويعتقد ذلك المعــنى ،ويطبقه في ســيرته ونهجــه .فبعد أن عــرفت أن ليس
المراد من ال إله إال هللا مجرد التلفظ بها ،فكذلك يقال في قرينتهــا ،بل ال بد من التصــديق
بهــا ،وااللــتزام بمعناها ومقتضــاها،ـ وهو االعتقــاد الجــازم بأنه -صــلى هللا عليه وســلم-
مرسل من ربه -عز وجل -قد حمله هللا هذه الشريعة كرســالة ،وكلفه بتبليغها إلى األمــة،
وفرض على جميع األمة تقبل رســالته والســير على نهجــه ،والبحث في ذلك يحتــاج إلى
معرفة أمور يحصل بها التأثر والتحقق ألداء هذه الشـهادة واالنتفـاع بهـا ،وهـذه األمـور
هي:
األمر األول « :أهلية النبي صلى هللا عليه وسلم لهذه ال ّرسالة » :
ق َما يَشَا ُء َويَ ْختَا ُر ﴾[ سورة القصص ،اآلية .] 68 : قال هللا تعالىَ ﴿ :و َربُّ َك يَ ْخلُ ُ
سالَتَهُ ﴾[ سورة األنعام ،اآلية .] 124 : ث يَ ْج َع ُل ِر َ وقال تعالى ﴿ :هَّللا ُ َأ ْعلَ ُم َح ْي ُ
صطَفَ ْي َن اَأْل ْخيَا ِر ﴾[ سورة ص ،اآلية .] 47 : وقال تعالىَ ﴿ :وِإنَّ ُه ْم ِع ْن َدنَا لَ ِم َن ا ْل ُم ْ
ونحو هذه اآليات التي تفيــدنا بــأن رسل هللا من البشر هم الــذين فضــلهم واجتبــاهم
وطهرهم ،حتى أصبحوا أهال لحمل رســالته ،وأمنــاء على شـرعه ودينـه ،ووسـطاء بينه
وبين عباده.
ش ٌروقد ذكر هللا عن بعض األمم المكذبة للرسل أنهم قالوا لرســلهمِ ﴿ :إنْ َأ ْنتُ ْم ِإاَّل بَ َ
ش ٌر ِم ْثلُنَا ﴾ [ سورة إبـراهيم ،اآلية ] 10 :فكــان جـواب الرسل أن قــالواِ ﴿ :إنْ نَ ْحنُ ِإاَّل بَ َ
ِم ْثلُ ُك ْم َولَ ِكنَّ هَّللا َ يَ ُمنُّ َعلَى َمنْ يَشَا ُء ِمنْ ِعبَا ِد ِه ﴾ [ سورة إبراهيم ،اآلية .] 11 :
وحيث إن نبينا محمــدا -صــلى هللا عليه وســلم -هو خــاتم الرسل وأفضــلهم ،وقد
خصه بما لم يحصل لغيره ممن قبله ،فإنه بال شك على جــانب كبــير من هــذا االصــطفاء
واالختيار الذي أصبح به مرسال إلى عمــوم الخلق من الجن واإلنس ،وقد قــال هللا تعــالى
يم ﴾ [ سورة القلم،ـ اآلية .]4 : ق َع ِظ ٍ لهَ ﴿ :وِإنَّكَ لَ َعلى ُخلُ ٍ
()1
وفي صحيح مســلم عن عائشة -رضي هللا عنهــا -قــالت « :كــان خلقه القــرآن »
تعـــني أنه يطبق ما فيه من مكـــارم األخالق ،ومحاسن األعمـــال الـــتي يشـــهد بحســـنها
ومالءمتها كل عاقــل ،فلقد كــان قبل نــزول الــوحي عليــه ،على جــانب كبــير من األمانة
والصدق والوفاء والعفاف ونحوهـا ،حــتى كـان أهل مكة يعرفونه بالصــادق األمين ،وقد
تضــاعفت وتمكنت فيه تلك األخالق بعد النبــوة ،فكــان يتحلى بــأعظم درجــات الكــرم
والجود والحلم والصبر ،والمروءة والشكر ،والعــدل والنزاهــة ،والتواضع والشــجاعة...
)?(1رواه مسلم برقم ،)746( :في صالة المسافرين وقصرها ،باب جامع صالة الليل ،ومن نام عنه أو مرض ،في حديث طويل.
إلخ ،كما يوجد ذلك مدونا بأمثلة رائعة في كتب السيرة والتــأريخ وال يخــالف في ذلك إال
من أنكر المحسوسات.
وهكذا كان -صلى هللا عليه وسلم -مبرءا عن النقائص ومساوئ الخالق التي تزيل
الحشـــمة وتســـقط المـــروءة ،وتلحق بفاعلها اإلزراء والخســـة :كالبخل والشـــح ،والظلم
والجور ،والكبر والكذب والجبن والعجز والكسل ،والسرقة والخيانة ونحوها.
)?(1رواه مسلم برقم ( ،)1844في اإلمارة ،باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة األول فاألول.
)?(2رواه مسلم برقم ،)2286( :في الفضائل ،باب ذكر كونه صلى اهلل عليه وسلم خاتم النبيين.
وروى مسلم أيضا :عن جبير بن مطعم -رضي هللا عنه -أن رسول هللا -صلى هللا
عليه وسلم -قال « :إن لي أسـماء :أنا محمـد ،وأنا المــاحي الـذي يمحو هللا بي الكفــر،
وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ،وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي »(.)1
وفي سنن أبي داود وغيره في حديث ثوبــان الطويــل :قــال النــبي -صــلى هللا عليه
وسلم « : -وأنه سيكون في أمتي كذابون ثالثون ،كلهم يزعم أنه نبي ،وأنا خــاتم النبــيين
ال نبي بعدي »(.)2
فيجب اإليمان بأنه -صلى هللا عليه وسلم -آخر األنبياء ،وأن من ادعى النبوة بعــده
فهو كــاذب ،وأن عيسى بن مــريم -عليه الســالم -حين يــنزل في آخر الزمــان ،إنما يحكم
بشريعة محمد -صلى هللا عليه وسلم -فهو كفرد من أفراد هذه األمة ،وإن كان ينزل عليه
الحي ،لكنه ال يخرج عن هذا الشرع الشــريف .وعلى هــذا فكل من زعم النبــوة أو ادعى
الرسالة في هذه األمة ،فهو كذاب أفـاك ،ضـال مضـل ،ولو أتى بمخرقة أو شـعوذة ،ولو
سحر أعين النــاس بــأنواع من الســحر والبهــرج ،الـذي يــروج على الرعـاع والجهلة من
العوام ،كما جرى على يــدي األســود العنسي ومســيلمة الكــذاب من األحــوال الشــيطانية،
والترهات الباطلة التي يعلم كذبها كل ذي عقل ســليم ،وكــذلك غيرهما ممن ادعى النبــوة
وحصل له أتباع وشوكة ،وفتن به بعض الناس ،ومن آخرهم غالم أحمد القاديــاني الــذي
انتشر شــره ،وفتن بشــبهته طوائف وأمم في الهند والســند وكثــير من البالد ،وهكــذا كل
مدع للنبوة إلى يوم القيامة ،وآخرهم الدجال الكذاب الذي وردت السنة بأمره وبيــان فتنته
اطينُ *تَنَ َّز ُل َعلَى ُك ِّل والتحذير من شره ،وقد قال تعالىَ ﴿ :ه ْل ُأنَبُِّئ ُك ْم َعلَى َمنْ تَنَ َّز ُل ال َّ
شي َ ِ
يم ﴾ [ سورة الشعراء 221 :ـ .] 222 اك َأثِ ٍ
َأفَّ ٍ
فهذا يدل على أن أولئك الكذابين تنزل عليهم الشــياطين ،وتخيل إليهم أن ما يــأتيهم
وحي من هللا ،ولكن ســـــنة هللا في خلقه أن يجعل على الحق نـــــورا ،وأن الخرافـــــات
واألكاذيب ال بد وأن ينكشف أمرها ،ويتجلى ألولي األلباب.
)?(1رواه مسلم برقم ( ،)21في اإليمان ،باب األمر بقتال الناس حتى يقولوا ال إله إال اهلل ...إلخ .
)?(2رواه البخاري كما في الفتح 1/140 :برقم ( ،)50في اإليمان ،باب سؤال جبريل النبي صلى اهلل عليه وسلم ...إلخ .عن أبي هريرة
رضي اهلل عنه .ومسلم برقم ( ،)8في اإليمان ،باب بيان اإليمان واإلسالم واإلحسان ...إلخ .عن عمر رضي اهلل عنه ،ورواه مسلم عن أبي
هريرة رضي اهلل عنه برقم (.)9
وال شك أن طاعته من عالمات اإليمان به ،فإن التصديق الجــازم بصــدقه يســتلزم
طاعته فيما بلغه عن هللا تعالى ،فمن خالفه في ذلك أو شيء منه عنادا أو تهاونا ،لم يكن
صادقا في شهادته بالرسالة ،ولقد أمر هللا تعالى بطاعة الرســول -صــلى هللا عليه وســلم-
ين آ َمنُ وا َأ ِطي ُع وا هَّللا َ َوَأ ِطي ُع وا في مواضع كثيرة من القرآن ،قال هللا تعالى ﴿ :يَا َأيُّ َها الَّ ِذ َ
س و ِل ِإنْ ُك ْنتُ ْم ش ْي ٍء فَ ُردُّوهُ ِإلَى هَّللا ِ َوال َّر ُ از ْعتُ ْم فِي َ س و َل َوُأولِي اَأْل ْم ِر ِم ْن ُك ْم فَ ِإنْ تَنَ َ ال َّر ُ
ون بِاهَّلل ِ َوا ْليَ ْو ِم اآْل ِخ ِر ﴾ [ سورة النساء ،اآلية .] 59 : تُْؤ ِمنُ َ
اح َذ ُروا فَ ِإنْ تَ َولَّ ْيتُ ْم فَ ا ْعلَ ُموا َأنَّ َما سو َل َو ْ وقال تعالى َ ﴿ :وَأ ِطي ُعوا هَّللا َ َوَأ ِطي ُعوا ال َّر ُ
غ ا ْل ُمبِينُ ﴾ [ سورة المائدة ،اآلية .] 92 : سولِنَا ا ْلبَاَل ُ َعلَى َر ُ
سو َل فَ ِإنْ ت ََولَّ ْوا فَِإنَّ َما َعلَ ْي ِه وقال -سبحانه وتعالى ﴿ : -قُ ْل َأ ِطي ُعوا هَّللا َ َوَأ ِطي ُعوا ال َّر ُ
َما ُح ِّم َل َو َعلَ ْي ُك ْم َما ُح ِّم ْلتُ ْم َوِإنْ تُ ِطي ُعوهُ تَ ْهتَدُوا ﴾ [ سورة النور ،اآلية . ] 54 :
سو ُل فَ ُخ ُذوهُ َو َما نَ َها ُك ْم َع ْن هُ فَ ا ْنتَ ُهوا ومثل معنى ذلك قوله تعالىَ ﴿ :و َما آتَا ُك ُم ال َّر ُ
﴾[ سورة الحشر ،اآلية .] 7 :
بل قد رتب على طاعته صلى هللا عليه وسلم جزيل الثواب فقال تعالىَ ﴿ :وَأ ِطي ُعوا
ون ﴾ [ سورة آل عمران ،اآلية .] 132 : سو َل لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْر َح ُم َ ال َّر ُ
س ولَهُ فَقَ ْد فَ ا َز فَ ْو ًزا َع ِظي ًما ﴾ [ ســورة وقــال هللا تعــالىَ ﴿ :و َمنْ يُ ِط ِع هَّللا َ َو َر ُ
األحزاب ،اآلية . ] 71 :
س ولَهُ يُ ْد ِخ ْل هُ وهكــذا توعد على معصــيته بالعقوبة الشــديدةَ ﴿ :و َمنْ يُ ِط ِع هَّللا َ َو َر ُ
ص هَّللا َين فِي َها َو َذلِ كَ ا ْلفَ ْو ُز ا ْل َع ِظي ُم * َو َمنْ يَ ْع ِ ت ت َْج ِري ِمنْ ت َْحتِ َها اَأْل ْن َه ا ُر َخالِ ِد َ َجنَّا ٍ
اب ُم ِهينٌ ﴾ [ سورة النســاء 13 :ـ ـ سولَهُ َويَتَ َع َّد ُحدُو َدهُ يُد ِْخ ْلهُ نَا ًرا َخالِ ًدا فِي َها َولَهُ َع َذ ٌ َو َر ُ
.] 14
س و َل ﴾ [ ســـورة وحكى عن أهل النـــار قـــولهم ﴿ :يَا لَ ْيتَنَا َأطَ ْعنَا هَّللا َ َوَأطَ ْعنَا ال َّر ُ
األحزاب ،اآلية .] 66 :
وورد في الصحيح عن أبي هريرة -رضي هللا عنه -قـال :قـال رسـول هللا -صـلى
هللا عليه وسلم: -
« من أطاعني فقد أطاع هللا ،ومن عصاني فقد عصى هللا »(.)1
ومعنىهذا أنه -صــلى هللا عليه وســلم -إنما يــأمر بما أوحى إليــه ،فطاعته في ذلك
س و َل فَقَ ْد َأطَ ا َع هَّللا َ َو َمنْ تَ َولَّى فَ َما َأ ْر َ
س ْلنَا َك طاعة لربه ،قال هللا تعالىَ ﴿ :منْ يُ ِط ِع ال َّر ُ
َعلَ ْي ِه ْم َحفِيظًا ﴾ [ سورة النساء ،اآلية .] 80 :
)?(1رواه البخاري كما في الفتح 13/119 :برقم )7137( :في األحكام ،باب قول اهلل تعالى ﴿ :وأطيعوا اهلل وأطيعوا الرسول ﴾ ...اآلية.
وروى البخاري عن أبي هريرة -رضي هللا عنه -قال :قال رســول هللا -صــلى هللا
عليه وسلم « : -كل الناس يدخل الجنة إال من أبى قالوا :يا رسول هللا وكيف يأبى؟ قــال:
من أطاعني دخل الجنة ،ومن عصاني فقد أبى »(.)1
وال شك أن طاعته هي فعل ما أمر به ،وتجنب ما نهى عنـه ،والتسـليم مع ذلك لما
جاء به ،والرضا بحكمه وترك االعتراض على شرعه أو التعقب واالنتقاد لحكمه.
)?(1رواه البخاري كما في الفتح 13/263 :برقم )7280( :في االعتصام ،باب االقتداء بسنن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ...إلخ .
)?(2قطعة من حديث رواه البخاري كما في الفتح 9/5 :برقم )5063( :في النكاح ،باب الترغيب في النكاح عن أنس بن مالك رضي اهلل عنه.
ص وا َحتَّى يَ ْأتِ َي هَّللا ُ بِ َأ ْم ِر ِه َوهَّللا ُ اَلس بِيلِ ِه فَتَ َربَّ ُ َأ َح َّ
ب ِإلَ ْي ُك ْم ِم َن هَّللا ِ َو َر ُ
س ولِ ِه َو ِج َه ا ٍد فِي َ
ين ﴾ [ سورة التوبة ،اآلية .] 24 : يَ ْه ِدي ا ْلقَ ْو َم ا ْلفَ ِ
اسقِ َ
فانظر كيف وبخهم على تقديم شــيء من هــذه األصــناف الثمانيــة ،الــتي تميل إليها
النفس عـــادة ،وتـــؤثر الحيـــاة ألجلها على محبة هللا ومحبة رســـوله ،وتوعـــدهم بقوله
فَتَ َربَّصُوا إلخ ،أي :انتظروا أمر هللا وهو أثر سخطه وغضــبه ،بما يــنزل من العقوبــة،
وفي ذلك أبلغ دليل على وجوب محبة هللا تعالى ،ومحبة رســوله -صــلى هللا عليه وســلم-
وقد أكد ذلك النبي -صلى هللا عليه وسلم -في سنته ،كقوله -صلى هللا عليه وســلم -في
حــديث أنس « :ثالث من كن فيه وجد بهن حالوة اإليمــان :أن يكـون هللا ورسـوله أحب
إليه مما ســواهما ،وأن يحب المــرء ال يحبه إال هللا ،وأن يكــره أن يعــود في الكفر بعد إن
أنقذه هللا منه ،كما يكره أن يقذف في النــار »( )1متفق عليه وفي الصــحيحين أيضا :عن
أنس -رضي هللا عنه -قال :قــال رسـول هللا -صــلى هللا عليه وســلم « : -ال يـؤمن أحـدكم
حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين »(.)2
ولما قـــال عمر بن الخطـــاب -رضي هللا عنـــه « : -وهللا ألنت أحب إلي من كل
شيء ،إال من نفسي قال:
ال يا عمــر ،حــتى أكــون أحب إليك من نفســك ،فقــال رضي هللا عنه :وهللا ألنت
أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي .فقال :اآلن يا عمر » رواه البخاري(.)3
وقد ورد في الحديث أن من ثواب محبته -صلى هللا عليه وسلم -االجتماع معه في
اآلخرة ،وذلك لما سأله رجل عن الساعة فقال « :ما أعددت لها؟ قال :ما أعددت لها إال
حب هللا ورسوله .فقال :أنت مع من أحببت »(.)4
وفي الصــحيحين :عن ابن مســعود -رضي هللا عنــه -عن النــبي -صــلى هللا عليه
وســلم -قــال « :المــرء مع من أحب »( )5وكفى بــذلك ثوابا وأجــرا لهــذه المحبــة ،ولكن
المحبة الصــادقة تســتلزم االقتــداء به والتــأدب بآدابــه ،وتقــديم سـنته على رضا كل أحــد،
وتســتلزم أيضا محبة من يحبه ويواليــه ،وبغض من يبغضه ويعاديــه ،ولو كــان أقــرب
قريب ،فمن اسـتكمل ذلك فقد صـدق في هـذه المحبـة ،ومن خالفه أو نقص شـيئا من ذلك
نقصت محبته بقدر ذلك.
)?(1رواه البخاري كما في الفتح 1/77 :برقم ( ،)16في اإليمان ،باب حالوة اإليمان .ومسلم برقم ( ،)43في اإليمان ،باب بيان خصال من
اتصف بهن وجد حالوة اإليمان.
)?(2رواه البخاري كما في التفح 1/75 :برقم ( ،)15في اإليمان ،باب (حب الرسول صلى اهلل عليه وسلم من اإليمان ،ومسلم برقم ( ،)44في
اإليمان ،باب وجوب محبة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ..إلخ .
)?(3رواه البخاري كما في الفتح 11/532 :برقم ،)6632( :في اإليمان والنذور ،باب (كيف كانت يمين النبي صلى اهلل عليه وسلم).
)?(4رواه البخاري كما في الفتح 13/140 :برقم )7153( :في األحكام ،باب القضاء والفتيا في الطريق ،عن أنس رضي اهلل عنه.
)?(5رواه البخاري كما في الفتح 10/573 :برقم )6168( :في األدب ،باب عالمة الحب في اهلل .ومسلم برقم ،)2640( :في البر والصلة،
باب المرء مع من أحب.
خامسا :احترامه صلى هللا عليه وسلم ،وتوقيره ،وتعزيره
س ولِ ِه َوتُ َع ِّز ُروهُ َوتُ َوقِّ ُروهُ ﴾ [ سورة كما ذكر في قوله تعالى ﴿ :لِتُْؤ ِمنُ وا بِاهَّلل ِ َو َر ُ
الفتح ،اآلية .] 9 :
سولِ ِه َواتَّقُ وا هَّللا َ ِإنَّ ي هَّللا ِ َو َر ُ ين آ َمنُوا اَل تُقَ ِّد ُموا بَ ْي َن يَ َد ِ وقوله تعالى ﴿ :يَا َأيُّ َها الَّ ِذ َ
ت النَّبِ ِّي َواَل ت َْج َه ُروا ص ْو ِ ق َ ص َواتَ ُك ْم فَ ْو َ ين آ َمنُوا اَل ت َْرفَ ُعوا َأ ْ س ِمي ٌع َعلِي ٌم *يَا َأيُّ َها الَّ ِذ َ هَّللا َ َ
ون ض َ ين يَ ُغ ُّون *ِإنَّ الَّ ِذ َش ُع ُر َ ض َأنْ ت َْحبَطَ َأ ْع َمالُ ُك ْم َوَأ ْنتُ ْم اَل تَ ْض ُك ْم لِبَ ْع ٍ لَهُ بِا ْلقَ ْو ِل َك َج ْه ِر بَ ْع ِ
ين ا ْمت ََح َن هَّللا ُ قُلُوبَ ُه ْم لِلتَّ ْق َوى لَ ُه ْم َم ْغفِ َرةٌ َوَأ ْج ٌر َع ِظي ٌم ول هَّللا ِ ُأولَِئ َك الَّ ِذ َس ِ ص َواتَ ُه ْم ِع ْن َد َر َُأ ْ
﴾[ سورة الحجرات 1 :ـ ] 3فنهاهم عن التقدم بين يديه بــرأي ،أو نظر يخــالف ما جــاء
به ،ونهاهم عن رفع الصوت بحضرته ،أو الجهر له بالقول بدون مبرر ،وتوعــدهم على
ضا﴾ ض ُك ْم بَ ْع ًول بَ ْينَ ُك ْم َك ُد َعا ِء بَ ْع ِ
س ِ ذلك بحبوط العمل ،وقال تعالى ﴿ :اَل ت َْج َعلُوا ُد َعا َء ال َّر ُ
[ ســورة النــور ،اآلية ] 63 :أي ال تنــادوه باســمه العلم كما يــدعو أحــدكم اآلخــر ،ولكن
ادعوه بما تميز به بأن تقولوا :يا نــبي هللا ،أو يا رســول هللا ،وما ذاك إال لما خصه هللا به
من الفضلـ والرفعة.
وفي تعزيره وتوقيره واحترامه تعظيم لسنته ،ورفع لقدرها في نفوس أتباعــه ،مما
يحصل به اتباعه وامتثال أمره وتجنب نهيه.
األمر السابع « :االقتصاد والتوسط في حقه صلى هللا عليه وسلم » :
جــرت ســنة هللا في خلقه بوقــوع اإلفــراط أو التفريــط ،وأن كل أمة يقع منهم في
الغالب غلو أو تقصير؛ لذلك حذر النبي -صلى هللا عليه وسلم -أمته المتبعين له من الغلو
في حقه وإعطائه شيئا من خالص حق هللا تعالى ،ويتبين ذلك بما يأتي:
أوال :أنه -صلى هللا عليه وسلم -لم يخرج عن كونه بشرا :
وحى ِإلَ َّي ﴾[ ســورة الكهــف ،اآلية : ش ٌر ِم ْثلُ ُك ْم يُ َ قــال هللا تعــالى ﴿ :قُ ْل ِإنَّ َما َأنَا بَ َ
] 110فبين أنه اختص بالوحي إليه فقط.
سواًل ﴾ [ سورة اإلســراء ،اآلية ش ًرا َر ُ ان َربِّي َه ْل ُك ْنتُ ِإاَّل بَ َ س ْب َح َوقال تعالى ﴿ :قُ ْل ُ
] 93 :وذلك لما طلب منه المشركون أن يفجر األرض ،أو يسقط الســماء عليهم كســفا..
إلخ ،فبين لهم أن الذي يملك ذلك هو ربه وحده ،فأما هو فإنما تميز بالرســالة الــتي حمله
هللا إياها.
وقد حكى هللا عن األمم السابقة طعنهم في رسالة الرسل بــأنهم بشــر ،كما في قوله
ب ِم َّما ش َر ُ ون ِم ْنهُ َويَ ْ ش ٌر ِم ْثلُ ُك ْم يَْأ ُك ُل ِم َّما تَْأ ُكلُ َتعالى عن قوم هود أو صالحَ ﴿ :ما َه َذا ِإاَّل بَ َ
ون ﴾ [ سورة المؤمنون ،اآلية 33 :ــ س ُر َ ش ًرا ِم ْثلَ ُك ْم ِإنَّ ُك ْم ِإ ًذا لَ َخا ِ ون * َولَِئنْ َأطَ ْعتُ ْم بَ َ ش َربُ َ تَ ْ
.] 34
ولس ِ وحكى عن المكذبين لمحمد -صلى هللا عليه وسلم -أنهم قالواَ ﴿ :ما ِل َه َذا ال َّر ُ
اق ﴾ [ ســورة الفرقــان،ـ اآلية ] 7 :أي يســعى للتكسب س َو ِ ش ي فِي اَأْل ْ يَْأ ُك ُل الطَّ َع ا َم َويَ ْم ِ
ين ِإاَّل ِإنَّ ُه ْم
س لِ َ س ْلنَا قَ ْبلَ كَ ِم َن ا ْل ُم ْر َ وطلب الــرزق ،فأجــابـ عن ذلك بقولــهَ ﴿ :و َما َأ ْر َ
اق ﴾ س َو ِ ُون فِي اَأْل ْ ون الطَّ َعا َم َويَ ْمش َ لَيَْأ ُكلُ َ
[ سورة الفرقان ،اآلية ] 20 :أي ليسوا مالئكة؛ فــإن البشر ال يتمكنــون عــادة من
رؤية المالئكــة ،بل لو أرسل هللا ملكا لما تمكنــوا من مشــاهدته حــتى يتمثل في صــورة
س نَا َعلَ ْي ِه ْم َما إنسان فيقع االشــتباه ،قــال تعــالىَ ﴿ :ولَ ْو َج َع ْلنَ اهُ َملَ ًكا لَ َج َع ْلنَ اهُ َر ُجاًل َولَلَبَ ْ
ون ﴾ [ سورة األنعام ،اآلية .] 9 : س َ يَ ْلبِ ُ
ولما وقع منه -صلى هللا عليه وسلم -السهو في الصــالة ،ولم يــذكروه ظنا منهم أن
الصالة قد قصرت فقال « :إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ،فإذا نسيت فذكروني »
متفق عليه(.)1
ومتى كان الرسل بشرا فال يناسب إعطاؤم شيئا من حق هللا من صفة أو عمل.
ثانيا :أنه -صلى هللا عليه وسلم -ال يعلم الغيب :
وإنما يخبر بما أخبره هللا به وأوحاه إليه ،قال هللا تعالى ﴿ :قُ ْل اَل َأقُ و ُل لَ ُك ْم ِع ْن ِدي
وحى ِإلَ َّي ﴾[ ســورة ب َواَل َأقُ و ُل لَ ُك ْم ِإنِّي َملَ ٌك ِإنْ َأتَّبِ ُع ِإاَّل َما يُ َ
َخ َزاِئنُ هَّللا ِ َواَل َأ ْعلَ ُم ا ْل َغ ْي َ
األنعام ،اآلية .] 50 :
)?(1رواه البخاري كما في الفتح- 1/600 :برقم ،)401( :في الصالة ،باب التوجه نحو القبلة حيث كان ،ومسلم برقم ،)572( :في المساجدF،
باب السهو في الصالة والسجود له .عن ابن مسعود.
س ِل َو َما َأ ْد ِري َما يُ ْف َع ُل بِي َواَل بِ ُك ْم ﴾ وقــال تعــالى ﴿ :قُ ْل َما ُك ْنتُ بِ ْد ًعا ِم َن ُّ
الر ُ
[ سورة األحقاف ،اآلية .] 9 :
الس و ُء ﴾س نِ َي ُّ س تَ ْكثَ ْرتُ ِم َن ا ْل َخ ْي ِر َو َما َم َّ وقال تعــالىَ ﴿ :ولَ ْو ُك ْنتُ َأ ْعلَ ُم ا ْل َغ ْي َ
ب اَل ْ
[ سورة ألعراف ،اآلية .] 188 :
فــــالغيب ال يعلمه إال هللا تعــــالى ،وإنما يظهر بعض خلقه على شــــيء من ذلك
ب فَاَل يُ ْظ ِه ُر َعلَى َغ ْيبِ ِه َأ َح ًدا كمعجزة وبرهان على صدقه ،كما قال تعالىَ ﴿ :ع الِ ُم ا ْل َغ ْي ِ
ص ًدا ﴾ [ ســورة الجن : سلُ ُك ِمنْ بَ ْي ِن يَ َد ْي ِه َو ِمنْ َخ ْلفِ ِه َر َ ول فَِإنَّهُ يَ ْ
س ٍَضى ِمنْ َر ُ *ِإاَّل َم ِن ْ
ارت َ
26ـ .] 27
أي أنه تعــالى يطلع من ارتضــاه ،وهم رســله ،على أمــور من الغيب مما ســبق أو
ب ِإاَّل ت َواَأْل ْر ِ
ض ا ْل َغ ْي َ مما يأتي ،وال ينافي ذلك قوله تعالى ﴿ :قُ ْل اَل يَ ْعلَ ُم َمنْ فِي َّ
الس َما َوا ِ
ون ﴾[ سورة النمل ،اآلية .] 65 : ون َأيَّ َ
ان يُ ْب َعثُ َ هَّللا ُ َو َما يَ ْ
ش ُع ُر َ
فإن ما وقع من اإلخبار في األحاديث عن األمور المســتقبلة ،هو من الــوحي الــذي
أطلع هللا عليه رسوله -صلى هللا عليه وســلم -بواســطة الرســول الملكي ،أو بما فتح هللا
عليه وألهمه ،ومتى كان هذا وصف النبي -صلى هللا عليه وسلم -ومن قبله من الرسل،
لم يصلح أن يصرف لهم شــيء من حق هللا الــذي هو عبادته وحــده ،وال أن يوصــفوا بما
اختص به الــرب تعــالى ،فقد أنكر -صــلى هللا عليه وســلم -على الجــاريتين اللــتين عند
الربيع بنت معوذ قولهما « :وفينا نبي يعلم ما في غد » رواه الترمذي(.)1
وقالت عائشة -رضي هللا عنها « : -من حدثك أن محمدا يعلم ما غد فال تصدقه »
رواه البخاري(.)2
وورد في حديث جبريل -عليه السالم -لما سأل عن الساعة ،قال النــبي -صــلى هللا
عليه وسلم « : -ما المســئول عنها بــأعلم من الســائل وســأحدثك عن أماراتهــا :إذا ولــدت
األمة ربهــا ،وإذا رأيت الحفــاةـ العــراة رعــاء الشــاء يتطــاولون في البنيــان ،في خمس ال
يعلمهن إال هللا ثم قرأ :إن هللا عنــده علم الســاعة ويــنزل الغيث ويعلم ما في األرحــام وما
تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت » متفق عليه .
ب اَل وهذه الخمس هي مفاتح الغيب المذكورة في قوله تعالىَ ﴿ :و ِع ْن َدهُ َمفَ اتِ ُح ا ْل َغ ْي ِ
يَ ْعلَ ُم َها ِإاَّل ُه َو ﴾
[ سورة األنعام ،اآلية ] 59 :فمن ادعى العلم بشــيء منها أو نســبه إلى بشــر ،فهو
كاذب.
)?(1رواه البخاري كما في الفتح 9/109 :برقم ( )5147في النكاح ،باب ضرب الدف في النكاح والوليمة ،والترمذي برقم (3/399 )1090
في النكاح ،باب ما جاء في إعالن النكاح ،وقال هذا حديث حسن صحيح .عن الربيع بنت معوذ.
)?(2رواه البخاري كما في الفتح 8/472 :برقم )4855( :في التفسير ،باب .1
ثالثا :أنه -ص لى هللا عليه وس لم -ال يملك الضر وال النفع لنفسه فضال عن
غيره :
ض ًّرا ِإاَّل َما شَا َء هَّللا ُ ﴾[ سورة األعراف، سي نَ ْف ًعا َواَل َ قال تعالى ﴿ :قُ ْل اَل َأ ْملِ ُك لِنَ ْف ِ
اآلية .] 188 :
ش ًدا ﴾[ سورة الجن ،اآلية .] 21 : ض ًّرا َواَل َر َوقال تعالى ﴿ :قُ ْل ِإنِّي اَل َأ ْملِ ُك لَ ُك ْم َ
وما ذاك إال أن الملك هلل وحده ،فهو الذي بيــده النفع والضر العطــاء والمنــع ،وهو
مالك الملــك ،ال راد لقضــائه وال معقب لحكمــه ،أما الخلق كلهم بما فيهم األنبيــاء فــإنهم
ت َواَل فِي اَأْل ْر ِ
ض ون ِم ْثقَ ا َل َذ َّر ٍة فِي َّ
الس َما َوا ِ مملوكون ،يعمهم قول هللا تعالى ﴿ :اَل يَ ْملِ ُك َ
ش ْر ٍك َو َما لَهُ ِم ْن ُه ْم ِمنْ ظَ ِهي ٍر ﴾ َو َما لَ ُه ْم فِي ِه َما ِمنْ ِ
[ سورة سبأ ،اآلية .] 22 :
يقــول شــيخ اإلســالم ابن تيمية بعد هــذه اآليــة :نفى هللا عما ســواه كل ما يتعلق به
المشركون ،فنفى أن يكون لغيره ملك ،أو قسط منه ،أو يكون عونا هلل ..إلخ.
ش ْي ٌء ﴾س لَ َك ِم َن اَأْل ْم ِر َ
وقد قــال تعــالى لمحمد -صــلى هللا عليه وســلم ﴿ : -لَ ْي َ
[ ســورة آل عمــران ،اآلية ] 128 :وذلك حين شج النــبي -صــلى هللا عليه وســلم -في
وقعة أحد وكسرت رباعيته ،فقال :
« كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟! »( )1أو كان ذلك لما قنت -عليه الصالة والســالم-
يدعو على بعض المشركين بمكة ،فأنكر هللا عليه ،وأخبره بأن األمر كله هلل وحــده ،ليس
له منه شيء(.)2
وثبت في الصحيح أنه -صلى هللا عليه وسلم -أنذر عشــيرته وأقاربه وقــال لهم :
« أنقذوا أنفســكم من النــار ،ال أغــني عنكم من هللا شــيئا »( )3حــتى قــال ذلك لعمه وعمته
وابنته وفي رواية « :اشــتروا أنفســكم » أي بتوحيد هللا وإخالص العبــادة لــه ،وطاعته
فيما أمر واالنتهــاء عما عنه زجــر ،فــإن في ذلك انقــاذا من النــار ،دون االعتمــاد على
النسب والقرابة ،فدفع بذلك ما يتوهمه بعضهم من أنه يغني عن أقاربه ويشفع لهم ،وهــذا
الوهم قد سرى وتمكن في نفوس الجم الغفير ،فتراهم يعتمدون على مجرد االنتســاب إلى
قرابة النبي -صلى هللا عليه وسلم -ويعدونه شرفا ،ظــانين أن النجــاة والشــفاعة تحصل
لهم بــدون عمــل ،بل إنهم يخــالفون ســنته ،ويعصــون هللا ورســوله علنــا ،كما أن هنــاك
آخرون يتعلقون بحبه المزعوم دون اتباعه وطاعته ،ويعتقدون أنه يشفع لهم بمجــرد تلك
)?(1رواه مسلم :برقم ( ،)1791في الجهاد والسير ،باب غزوة أحد .عن أنس.
)?(2رواه البخاري كما في الفتح 7/422 :برقم )4069( :في اإليمان ،باب ﴿ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا ﴾ ...اآلية .عن ابن
عمر رضي اهلل عنه.
)?(3رواه البخاري كما في الفتح 8/360 :برقم )4771( :في التفسير ،باب ﴿وأنذر عشيرتك األقربين﴾ ،.ومسلم برقم ( ،)204في اإليمان،
باب في قوله تعالى﴿ :وأنذر عشيرتك األقربين﴾.
المحبة الوهمية ،رغم مخالفة مدلول المحبة من تقليده والسير على نهجه ،فإذا كــان هو -
صلى هللا عليه وسلم -ال يملك لنفسه نفعا وال ضرا وال يدفع الضر والعذاب عن نفسه لو
عصاه ،كما قال تعالى ﴿ :قُ ْل ِإنِّي لَنْ يُ ِج ي َرنِي ِم َن هَّللا ِ َأ َح ٌد َولَنْ َأ ِج َد ِمنْ دُونِ ِه ُم ْلت ََح ًدا ﴾
[ سورة الجن ،اآلية .] 22 :
فكيف بغيره من قريب أو بعيد ؟!
وقد بين -عليه الصالة والســالم -ألقاربه أنه ال ينجيهم من عــذاب هللا وال يــدخلهم
الجنة ،وال يقربهم إلى هللا ،وإنما أعمالهم هي التي تنقذهم من النار.
وثبت في الصحيح أنه -صــلى هللا عليه وســلم -حــاول هداية عمه أبي طــالب فلم
يقــدر على ذلــك ،فلما حضــرته الوفــاة جــاءه فقــال له « :يا عم ،قــل :ال إله إال هللا ،كلمة
أحــاج لك بها عند هللا »( )1فلقنه جلســاء الســوء الحجة الشــيطانية ،فكــان آخر كالمه هــو:
على ملة عبد المطلب .ونــزل في ذلك قوله تعــالىِ ﴿ :إنَّكَ اَل تَ ْه ِدي َمنْ َأ ْحبَ ْبتَ َولَ ِكنَّ هَّللا َ
يَ ْه ِدي َمنْ يَشَا ُء ﴾ [ سورة القصص ،اآلية .] 56 :
ففي هذه القصة أعظم ما يبطل شبهة المشركين الذين يغلون في حق النبي -صــلى
هللا عليه وسلم -ويسألونه تفريج الكروب ،وغفران الذنوب ،ويهتفون باســمه عند الشــدائد
بقولهم :يا رسول هللا ،ونحو ذلك.
فــإذا كــان هو -عليه الصــالة والســالم -أفضل الخلق وأقــربهم من هللا ،وأعظمهم
عنـــده جاهـــا ،ومع ذلك حـــرص على هداية عمه أبي طـــالب في حياته وعند وفاته فلم
يستطع ذلك؛ ألن هللا تعالى كتب عليه الشقاء،ـ وقد عزم على االستغفار له ،فنهــاه هللا عن
ين َولَ ْو َكانُوا ُأولِي قُ ْربَى ش ِر ِك َ ين آ َمنُوا َأنْ يَ ْ
ستَ ْغفِ ُروا لِ ْل ُم ْ ان لِلنَّبِ ِّي َوالَّ ِذ َ
ذلك بقولـه َ ﴿ :ما َك َ
يم ﴾ [ سورة التوبة ،اآلية .] 113 : اب ا ْل َج ِح ِ
ص َح ُ ِمنْ بَ ْع ِد َما تَبَيَّ َن لَ ُه ْم َأنَّ ُه ْم َأ ْ
ففي ذلك دليل على أنه -صــلى هللا عليه وســلم -ال يملك لغــيره نفعا وال يــدفع عنه
ضرا ،ولو دعاه ورجاه وهتف باسمه ،ولو زعم أن يحبه حبا شديدا ،فلو كــان عند النــبي
-صلى هللا عليه وسلم -شـيء من هداية القلــوب أو تفـريج الكربــات ،لكــان أولى النـاس
بذلك عمه الكبير الذي كفله وحماه ،وحال بينه وبين أذى المشــركين ،فــإذا لم يقــدر على
هدايته ونجاته ،فغيره بطريق األولى.
رابعا :عبوديته -صلى هللا عليه وسلم -شرف وفضيلة :
فقد ثبت في الصــحيحين :عن عمر -رضي هللا عنــه -أن رســول هللا -صــلى هللا
عليه وسلم – قال « :ال تطروني كما أطــرت النصــارى ابن مــريم ،إنما أنا عبد فقولــوا:
عبد هللا ورسوله »(.)2
)?(1رواه البخاري كما في الفتح- 3/263 :برقم ( )1360في الجنائز ،باب إذا قال المشرك عند الموت :ال إله إال اهلل .ومسلم برقم ( )24في
اإليمان ،باب الدليل على صحة إسالم من حضره الموت ..،إلخ .عن المسيب رضي اهلل عنه.
يقول الشــيخ ســليمان بن عبد هللا -رحمه هللا -على هــذا الحــديث في شــرح التوحيد
صفحة 272 :قوله « :إنما أنا عبد فقولوا :عبد هللا ورســوله » .أي ال تمــدحوني فتغلــوا
في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الربوبية ،وإنما أنا عبد هللا فصفوني
بذلك كما وصفني به ربي ،وقولوا :عبد هللا ورسوله .فأبى عباد القبور إال مخالفة ألمــره
وارتكابا لنهيه ،وناقضوه أعظم المناقضة ،وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبد هللا ورسوله،
وأنه ال يدعى وال يستعان به ،وال ينذر لــه ،وال يطــاف بحجرتــه ،وأنه ليس له من األمر
شيء ،وال يعلم من الغيب إال ما علمه هللا ،أن في ذلك هضــما لجنابــه ،وغضا من قــدره،
فرفعوه فــوق منزلتــه ،وادعــوا فيه ما ادعت النصــارى في عيسى أو قريبا منــه ،فســألوه
مغفرة الذنوب وتفريج الكروب.
وقد ذكر شــيخ اإلســالم في كتــاب :االســتغاثة عن بعض أهل زمانــه ،أنه جــوز
االســتغاثة بالرســول -صــلى هللا عليه وســلم -في كل ما يســتغاث فيه باهلل ،وصــنف فيه
مصنفا ،وكان يقول :إن النبي -صلى هللا عليه وسلم -يعلم مفاتيح الغيب الــتي ال يعلمها
إال هللا.
وحكى عن آخر من جنسه يباشر التــدريس ،وينسب إلى الفتيا أنه كــان يقــول :إن
النبي -صلى هللا عليه وسلم -يعلم ما يعلمه هللا ،ويقدر على ما يقـدر هللا عليـه ،وأن هـذا
السر انتقل بعده إلى الحسن ثم انتقل إلى ذرية الحسن إلى أبي الحسن الشاذلي.
وقالوا :هذا مقام القطب الغوث الفــرد الجــامع ،ومن هــؤالء من يقــول في قــول هللا
ص ياًل ﴾ [ سورة الفتح ،اآلية ] 9 :إن الرســول -صــلى هللاس بِّ ُحوهُ بُ ْك َرةً َوَأ ِ
تعالىَ ﴿ :وتُ َ
عليه وسلم -هو الذي يسبح بكرة وأصيال.
ومنهم من يقول :نحن نعبد هللا ورسوله .فيجعلون الرسول معبودا.
قلت :قال البوصيري :
فإن من جودك الدنيا وضرتها * * * ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل الدنيا واآلخرة من جوده ،وجزم بأنه يعلم ما في اللــوح المحفــوظ ،وهــذا هو
الذي حكاه شيخ اإلسالم عن ذلك المدرس ،وكل ذلك كفر صريح.
ومن العجب أن الشـــــيطان أظهر لهم ذلك في صـــــورة محبته -عليه الســـــالم-
وتعظيمه ومتابعتــه ،وهــذا شــأن اللعين ،إذ ال بد وأن يمــزج الحق بالباطل لــيروج على
أشباه األنعام أتباع كل ناعق ،الذين لم يستضيئوا بنور العلم ،ولم يلجئوا إلى ركن وثيــق؛
ألن هذا ليس بتعظيم ،فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح،ـ وهم أبعد الناس منــه،
فــإن التعظيم بــالقلب :ما يتبع اعتقــاد كونه عبــدا رســوال ،من تقــديم محبته على النفس
والوالد والولد والناس أجمعين ،ويصدق هذه المحبة أمران :
)?(2رواه البخاري كما في الفتح 6/155 :برقم )3445( :في أحاديث األنبياء ،باب قول اهلل﴿ :واذكر في الكتاب مريم إذ ﴾...اآلية) .عن
عمر رضي اهلل عنه.
أحدهما :تجريد التوحيــد ،فإنه -صــلى هللا عليه وســلم -كــان أحــرص الخلق على
تجريده ،حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات،ـ حتى قال له رجل :ما شاء
هللا وشــئت .قــال « :أجعلتــني هلل نــدا؟! بل ما شــاء هللا وحــده » رواه أحمد( .)1ونهى أن
يحلف بغــير هللا ،وأخــبر أن ذلك شــرك ،ونهى أن يصــلى إلى القــبر أو يتخذ مســجدا أو
عيدا ،أو يوقد عليه سراج ،بل مدار دينه على هــذا األصل الــذي هو قطب رحى النجــاة،
ولم يقــرر أحد ما قــرره -صــلى هللا عليه وســلم -بقوله وفعله وسد الــذرائع المنافية لــه،
فتعظيمه -صلى هللا عليه وسلم -بموافقته على ذلك ال بمناقضته فيه.
الث اني :تجريد متابعته وتحكيمه وحـــده في الـــدقيق والجليل من أصـــول الـــدين
وفروعه ،والرضا بحكمه واالنقياد له ،والتسليم واإلعراض عما خالفــه ،وعــدم االلتفــاتـ
إلى ما خالفه ،حتى يكون وحــده هو الحــاكم المتبع المقبــول قولــه ،المــردود ما خالفه كما
كان ربه تعالى وحده هو المعبود المألوه المخلوق المستغاث به ،المتوكل عليه الــذي إليه
الرغبة والرهبة ،الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد ومغفرة الذنوب ،الذي من جوده الــدنيا
واآلخرة ،الذي خلق الخلق وحده ،ورزقهم وحده ،ويبعثهم وحده ،ويغفر ويــرحم ويهــدي
ويضل ،ويســعد ويشــقي وحــده ،وليس لغــيره من األمر شــيء كائنا من كــان ،ال النــبي -
صــلى هللا عليه وســلم -وال جبريل -عليه الســالم -وال غيرهمــا ،فهــذا هو التعظيم الحق
المطـــابق لحـــال المعظم ،النـــافع للمعظم في معاشه ومعـــاده ،والـــذي هو الزم إيمانه
وملزومــه .وأما التعظيم باللســان فهو الثنــاء عليه بما هو أهله مما أثــنى به عليه ربــه،
وأثنى على نفسه من غير غلو وال تقصير ،كما فعل عبـاد القبــور ،فـإنهم غلـوا في مدحه
إلى الغاية .وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته ،والسعي في إظهــار دينــه ،ونصر
ما جاء به ،وجهاد من خالفه.
وبالجملة :فالتعظيم النافع هو التصديق له فيما أخبر ،وطاعته فيما أمر ،واالنتهــاء
عما عنه نهى وزجــر ،والمــواالة والمعــاداة والحب والبغض ألجلــه ،وتحكيمه وحــده،
والرضا بحكمه ،وأن ال يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقوالــه ،فما وافقها من
قوله -صـــلى هللا عليه وســـلم -قبلـــه ،وما خالفها رده أو تأوله أو أعـــرض عنـــه ،وهللا -
ســبحانه -يشــهد -وكفى به شــهيدا -ومالئكته ورســله وأوليــاؤه أن عبــاد القبــور خصــوم
الموحدين ليسوا كذلك ،وهللا المستعان.
هــذا كالم الشــيخ -رحمه هللا -وقد حكى ما شــاهده في زمانه وقبله من أقــوام جهلة
بالتوحيد ،ادعوا محبة النبي -صلى هللا عليه وسلم -فبالغوا في مدحه حتى وصــفوه بما ال
يستحقه إال هللا تعالى ،من الملك والعلم والتصرف ،وحــتى صــرفوا له خــالص حق هللا -
عز وجل -من الدعاء والرجاء وتفويض األمور إليه ،واالعتمــاد عليــه ،وقد ذكر -رحمه
هللا -في شــرح التوحيد صــفحة 186 :وما بعــدها بعض ما قــال أهل الغلو واإلطــراء في
حقه -صلى هللا عليه وسلم -وأورد أبياتا من قصيدة البردة للبوصيري ،كقوله:
)?(1كما في المسند 282 ،1/214 :عن ابن عباس رضي اهلل عنهما وصححه المحقق.
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به * * * سواك عند حلول الحادث العمم
وما بعده من األبيات ،ثم بين ما فيها من الشــرك الصــريح ،وذكر أيضا بعضا من
شـعر الـبرعي الــذي بـالغ فيه وغال ،ووقع في عبــادة الرسـول -صــلى هللا عليه وســلم -
صريحا ،ونسى ربه -عز وجل -وهكذا ذكر النعمي في (معارج األلبــاب) صــفحة169 :
وما بعــدها بعض أقــوال الغالة ومبــالغتهم في التعلق بــاألموات ،ومن ذلك أبيــات شــعر
تتضمن الشرك الواضح بالنبي -صلى هللا عليه وسلم -وأولها قوله:
يا سيدي يا صفي الدين يا سندي * * * يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري
أنت المالذ لمـا أخشى ضرورته * * * وأنت لي ملجـأ من حـادث الدهر
إلى آخر تلك األبيـــات الشـــركية ،وعلق عليها -رحمه هللا -بقولـــه :فال نـــدري أي
معنى اختص به الخالق بعد هذه المنزلة من كيفية مطلب ،أو تحصيل مأرب؟!.
ومــاذا أبقى هــذا المشــرك الخــبيث من األمــر؟! فــإن المشــركين أهل األوثــان ما
يؤهلون كل ما عبدوه من دون هللا لشيء من هذا ،وال لما هو أقل منه .اهـ.
ولقد كان النبي -صلى هللا عليه وسلم -يخــاف على أمته من هــذا الغلــو ،ويحــذرهم
من أسبابه ،فقد روى أبو داود بسند جيد :عن عبد هللا بن الشخير -رضي هللا عنــه -قــال:
« انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول هللا -صــلى هللا عليه وســلم -فقلنــا :أنت ســيدنا.
فقال السيد هللا تبارك وتعالى قلنا :وأفضلنا فضال وأعظمنا طوال ،فقال :قولــوا بقــولكم أو
بعض قولكم »(.)1
وعن أنس -رضي هللا عنـــه « : -أن أناسا قـــالوا :يا رســـول هللا ،يا خيرنا وابن
خيرنا ،وسيدنا وابن سيدنا .فقال :يا أيها الناس قولوا بقولكم وال يســتهوينكم الشــيطان ،أنا
محمد عبد هللا ورسوله ما أحب أن ترفعــوني فــوق منزلــتي الــتي أنزلــني هللا عز وجل »
رواه النسائي بسند جيد(.)2
وهذا كثير في الســنة كقوله -صــلى هللا عليه وســلم « : -إنه ال يســتغاث بي ،وإنما
يستغاث باهلل » رواه الطبراني(.)3
وتقــدم أنه -صــلى هللا عليه وســلم -قــال له رجل « :ما شــاء هللا وشــئت .فقــال:
أجعلتني هلل مثال ،بل ما شاء هللا وحــده » .فــالنبي -صــلى هللا عليه وســلم -هو سـيد الخلق
وأفضلهم وخيرهم ،لكنه يكره المدح سيما أمام الممدوح ،حتى قال « :إذا لقيتم المداحين
فاحثوا في وجوههم التراب » رواه مســلم( )4وما ذاك إال أن المــدح قد يوقع الممــدوح في
اإلعجاب والكبرياء ،التي تحبط األعمال أو تنافي كمال التوحيد.
)?(1رواه أبو داود برقم )4806( :في األدب ،باب في كراهية التمادح.
)?(2رواه النسائي في عمل اليوم والليلة برقم ،)249( :وكذا رواه أحمد 3/249 :وغيره.
)?(3ذكره في مجمع الزوائد 10/159 :قال :ورجاله رجال الصحيح ،غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث.
)?(4رواه مسلم برقم ( ،)3002في الزهد ،باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط ...،إلخ .عن المقداد رضي اهلل عنه.
وقد افتخر -عليه الصالة والسالم -بالعبودية لربه ،وهي الذل والتواضع له ،وذلك
ب ِم َّما شــرف وفضــيلة ،ولــذلك ذكــره هللا باسم العبد في قوله تعــالى َ ﴿ :وِإنْ ُك ْنتُ ْم فِي َر ْي ٍ
س َرى ان الَّ ِذي َأ ْ
س ْب َح َ نَ َّز ْلنَا َعلَى َع ْب ِدنَا ﴾ [ ســورة البقــرة ،اآلية .] 23 :وفي قولــهُ ﴿ :
الح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي َأ ْن َز َل َعلَى َع ْب ِد ِه
بِ َع ْب ِد ِه ﴾ [ سورة اإلسراء ،اآلية .] 1 :وقولـه تعــالىَ ﴿ :
َاب ﴾ [ سورة الكهف ،اآلية .] 1 :وقوله َ ﴿ :وَأنَّهُ لَ َّما قَا َم َع ْب ُد هَّللا ِ يَ ْدعُوهُ ﴾ [ ســورة
ا ْل ِكت َ
الجن ،اآلية .] 19 :
فإن العبوديه هلل تعالى ،تقتضي غاية الذل وغاية المحبة ،فالتذلل هلل تعالى يستدعي
الخضوع والخشية واالستكانة هلل تعالى ،وأن يرى نفسه حقيرا ذميما مقصرا في واجبــه،
فيرجع إلى نفسه بالمعاتبة ،ويعترف لربه بالفضلـ واإلنعام ،وكذلك الحبـ يستدعي محبة
ما يحبه هللا وكراهة ما يكرهه من األقوال واألفعال واإلرادات ،فظهر بذلك كمــال صــفة
العبودية لرب األرباب.
خامسا :موته صلى هللا عليه وسلم كغيره من األنبياء والرسل قــال هللا تعــالى﴿ :
ش ٍر ون ﴾ [ سورة الزمر ،اآلية ] 30 :وقــال تعــالىَ ﴿ :و َما َج َع ْلنَا لِبَ َ ِإنَّ َك َميِّتٌ َوِإنَّ ُه ْم َميِّتُ َ
ت ﴾ [ سورة األنبياء 34 :ـ س َذاِئقَةُ ا ْل َم ْو ِ ِمنْ قَ ْبلِكَ ا ْل ُخ ْل َد َأفَِإنْ ِمتَّ فَ ُه ُم ا ْل َخالِد َ
ُون * ُك ُّل نَ ْف ٍ
.] 35
ثم إن المسلمين يدينون جميعا بأن األنبياء قبل قديما قد مــاتوا ،وانقضت أعمــارهم
التي كتب هللا لهم في الـدنيا ،وأصـبحوا في عـالم الـبرزخ ،وحيث ورد في النصـوص ما
يل هَّللا ِ َأ ْم َواتًا بَ ْل ين قُتِلُ وا فِي َ
س بِ ِ س بَنَّ الَّ ِذ َ
يقتضي حياة الشهداء ،كقوله تعــالىَ ﴿ :واَل ت َْح َ
ون ﴾ [ سورة آل عمران ،اآلية .] 169 : َأ ْحيَا ٌء ِع ْن َد َربِّ ِه ْم يُ ْر َزقُ َ
فإن األنبياء أولى بهذه الحياة ،ومعلوم أن الشهداء قد خرجوا من هذه الحياة الدنيا،
وقد قســمت أمــوالهم بين الورثــة ،وحلت نســاؤهم لغــيرهم ،فكــان ذلك أوضح دليل على
مــوتهم ،ولكن هللا تعــالى نهى أن نقــول لهم أمــوات في قوله -عز وجــلَ ﴿ : -واَل تَقُولُ وا
ون ﴾[ ســورة البقــرة ،اآلية : َش ُع ُر َ يل هَّللا ِ َأ ْم َواتٌ بَ ْل َأ ْحيَ ا ٌء َولَ ِكنْ اَل ت ْ
س بِ ِلِ َمنْ يُ ْقتَ ُل فِي َ
.] 154
وهــذه الحيــاة ال نعلم كيفيتها إال أنا نتحقق أن أرواحهم خــرجت من أبــدانهم ،وأن
أعمارهم انقضــت ،وأعمــالهم قد ختمت ،وقد فســرت حيــاتهم في الحــديث الصــحيح بــأن
أرواحهم جعلت في أجـــواف طـــير خضر تعلق في شـــجر الجنة( .)1وهـــذا يحقق أنها قد
فارقت أبدانهم ،وإنما تميزوا بهذه الحياة الخاصة.
ومعلوم أن األنبياء والرسل أولى بهذه الحيــاة وبكل حــال فإنها ال تمكنهم من إجابة
من دعــاهم ،أو إعطــاء من ســألهم ،فنحن نعتقد أن نــبي هللا -صــلى هللا عليه وســلم -في
حياة برزخية ،أكمل من حيــاة الشــهداء ،وقد تمــيز بحماية جســده عن البلى ،كما ثبت في
)?(1رواه مسلم :برقم ( ،)1887في اإلمارة ،باب بيان أن أرواهح الشهداء في الجنة ...إلخ عن ابن مسعود رضي اهلل عنه.
ســنن أبي داود عن أوس بن أوس عنه -صــلى هللا عليه وســلم -أنه قــال « :إن من خــير
أيامكم يوم الجمعة ،فأكثروا من الصالة علي فيه ،فــإن صــالتكم معروضة علي قــالوا :يا
رسول هللا ،كيف تعرض عليك وقد أرمت؟ قــال :هللا حــرم على األرض أن تأكل أجســام
األنبياء »( )1وهذا أوضح دليل على أن روحه قد خرجت من جســده ،ورفعت إلى الرفيق
األعلى ،كما كانت ذلك آخر طلبه من الدنيا.
وكذا قد ورد في الحديث :عن أبي هريرة قوله -صــلى هللا عليه وســلم « : -ما من
مسلم يسلم علي إال رد هللا علي روحي حتى أرد عليه السالم » رواه أبو داود(.)2
وفي كيفية هذا الرد خالف وهللا أعلم بــذك ،وقد روى أبو داود بإســناد حســن :عن
أبي هريرة -رضي هللا عنه -قال :قال رســول هللا -صــلى هللا عليه وســلم « : -ال تجعلــوا
بيوتكم قبورا ،وال تجعلوا قبري عيدا ،وصلوا علي فإن صالتكم تبلغني حيث كنتم »(.)3
وروى الحافظ الضـــياء في المختـــارة ،وغـــيره :عن علي بن الحســـين بن علي -
رضي هللا عنــه -أنه رأى رجال يجيء إلى فرجة كــانت عند قــبر النــبي -صــلى هللا عليه
وسلم -فيدخل فيها فيدعو ،فنهاه وقال :أال أحــدثكم حــديثا ســمعته من أبي عن جــدي .عن
رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -قال « :ال تتخذوا قبري عيــدا ،وال بيــوتكم قبــورا ،فــإن
تسليمكم يبلغني أين كنتم »(.)4
وقال سعيد بن منصور حدثنا عبد العزيز بن محمد أخــبرني ســهيل بن أبي ســهيل
قال :رآني الحسن بن الحسن بن علي -رضي هللا عنهم -عند القبر ،فنــاداني فقــال :مــالي
رأيتك عند القــبر؟ ؟فقلت :ســلمت على النــبي -صــلى هللا عليه وســلم -فقــال :إذا دخلت
المسجد فســلم .ثم قــال :إن رســول هللا -صــلى هللا عليه وســلم -قــال « :ال تتخــذوا قــبري
عيدا ،وال تتخذوا بيوتكم مقابر ،وصلوا علي فإن صــالتكم تبلغــني حيث ما كنتم ،لعن هللا
اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ما أنتم ومن باألندلس إال سواء »(.)5
فهذه اآلثــار تــدل على شــهرة ذلك عند الســلف ،وحرصــهم على حفظ هــذه الســنة
وتبليغها ،ومعـنى قولـه « :ال تجعلـوا بيـوتكم قبـورا » .أي ال تعطلوها من الصـالة فيها
والدعاء والقراءة فتكــون بمنزلة القبــور الــتي ال تجــوز الصــالة عنــدها ،والمــراد صــالة
التطوع .وقوله :وال تتخذوا قبري عيدا .نهى -صلى هللا عليه وسلم -عن زيارة قبره على
وجه مخصوص واجتماع معهود ،بحيث يكون كالعيد الذي يتكرر االجتماع فيه في زمن
محدد ويحصل به فرح واغتبــاط يعــود ويتكــرر كل عــام مــرة أو مــرارا ،ثم أخبرنا بــأن
)?(1رواه أبو داود برقم ،)1047( :في الصالة ،باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة.
)?(2رواه أبو داود برقم ،)2041( :في المناسك ،باب زيارة القبور.
)?(3رواه أبو داود برقم ،)2042( :في المناسك ،باب زيارة القبور.
)?(4ذكره الهيثمي في الزوائد 4/3 :وعزاه ألبي يعلى ووثق رجاله.
)?(5ذكره شيخ اإلسالم ابن تيمية :في اقتضاء الصراط المستقيم ،صفحة ،322 :وساقه بإسناده.
صالتنا تبلغه أين ما كنا ،يعني أن ما يناله من الصالة والسالم حاصل مع القرب والبعد،
فال مزية لمن صلى عليه أو سـلم عند القــبر ،وهـذا معــنى قــول الحسن بن الحسن ما أنتم
ومن باألندلس إال سواء.
ومن قصد القبر للسالم فقط ،ولم يكن قصده المسجد فقد اتخــذه عيــدا كما فهم ذلك
الحسن بن الحسن رضي هللا عنه.
وقد كره اإلمام مالك -رحمه هللا -ألهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يــأتي
القبر النبوي؛ ألن السلف لم يكونوا يفعلون ذلـك ،قـال :ولن يصـلح آخر هـذه األمة إال ما
أصــلح أولهــا .وقد كــان الصــحابة -رضي هللا عنهم -وكــذا كبــار التــابعين يصــلون في
المســجد النبــوي خلف الخلفــاءـ الراشــدين أغلب األوقــات ،ثم ينصــرفون بعد الســالم ،أو
يجلسون في قراءة أو عبادة ،ولم يحفظ عنهم اإلتيان إلى القبر بعد كل صالة ،بل يكتفون
بالصالة والسالم عليه في التشهد ،وذلك أفضل من الوقوف أمام القبر لذلك ،رغم تمكنهم
من الوصول إلى القبر في حياة عائشة وبعدها قبل بناء الحيطان دونــه ،بعد أن أدخل في
توسعة المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك وبكل حال فإن الصحابة لم يكونــوا يعتــادون
الصالة والسالم عليه عند قبره ،وإنما كان بعضهم يأتي من خارج إذا قدم من سفر فيسلم
عليه ثم ينصرف ،كما نقل ذلك عن ابن عمر ولم يحفظ عن غيره من الصحابة ،ولم يكن
يفعله دائما ،فتكرار ذلك كل وقت بدعة ووسيلة إلى تعظيمه أو دعائه مع هللا.
وقد اتفق األئمة -رحمهم هللا -أن من سلم على النبي -صلى هللا عليه وســلم -وأراد
الدعاء لنفسه ال يستقبل القبر ،وإنما يستقبل القبلة التي هي أفضل الجهات وأرجى لقبــول
الـــدعاء ،وأما الحكاية عن مالك أنه قـــال للمنصـــور :ولم تصـــرف وجهك عنـــه؟ ...بل
اســتقبله واستشــفع بــه ...إلخ فهي حكاية موضــوعة مكذوبة عليه كما حقق ذلك العلمــاء
رحمهم هللا(.)1
سادسا :منع السفر لمجرد زيارة القبر النبوي.
ثبت في الصحاح والسنن والمسانيد عنه -صلى هللا عليه وسلم -أنه قــال « :ال تشد
الرحال إال إلى ثالثة مساجد :المسجد الحرام،ـ ومسجدي هذا ،والمسجد األقصى »(.)2
ومعــنى ذلــك :النهي عن الســفر إلى بقعة أو موضع لقصد التعبد فيــه؛ العتقــاد أن
العمل فيه مضــاعف أو له مزية على غــيره من المواضــع ،فــدخل في ذلك منع الســفر
لزيارة القبور ولو قبــور األنبيــاء ،فإنه من اتخاذها أعيــادا ،واالعتقــاد في المقبــورين بما
يكـون وسـيلة إلى عبــادتهم مع هللا تعـالى ،كما هو الواقع من المشــركين في هــذا الزمـان
وقبلــه ،حيث ينشــئون األســفار الطويلــة ،إلى قبــور األوليــاء كما زعمــوا ،أو يتجشــمون
)?(1ذكر ذلك شيخ اإلسالم ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم ،صفحة ،395 :وغيره.
)?(2رواه البخاري عن أبي هريرة كما في الفتح- 3/76 :برقم ،)1189( :في فضل الصالة في مسجد مكة والمدينة ،باب فضل الصالة في
مسجد مكة والمدينة ورواه أيضا عن أبي سعيد كما في الفتح - 3/84 :برقم ،)1197( :في فضل الصالة في مسجد مكة والمدينة ،باب مسجد
بيت المقدس.
المشقات وينفقون األموال الطائلة ،ومــتى وصــلوا إلى تلك المشــاهد كما اســموها حطــوا
رحالهم ،وأخذوا في الهتاف والنداء ألولئك األمــوات ،وعملــوا هنــاك ما ال يصــلح إال هلل
رب العالمين ،من الطــواف بتلك األضــرحة والتمسح بترابها والــدعاء ألربابهــا ،والــذبح
والنحر لها ونحو ذلك.
فهذا ما خافه -عليه الصالة والسالم -من منعه شد الرحالـ لغير المساجد الثالثة.
وقد كتب في ذلك شــيخ اإلســالم ابن تيمية -رحمه هللا -رســالة ذكر فيها اختالف
العلماء في حكم شد الرحالـ لمجرد زيارة قبور األنبياء والصالحين،ـ ورجح المنع ،وذكر
أنه قول ابن بطة وأبي الوفاء بن عقيل والجويني والقاضي عياض وغيرهم ،بل هو قول
الجمهور ،ونص عليه مالك ولم يخالفه أحد من األئمة ،لكن ليس المراد النهي عن زيارة
القبــور بــدون شد رحــل ،فقد ورد الــترغيب فيها وأنها تــذكر اآلخــرة ،وأن الزائر يــدعو
لألموات ويــترحم عليهم ،وهــذا يحصل في أقــرب مقــبرة عنــده؛ فــإن كل بلد ال تخلو من
المقـــابر،ـ فأما إعمـــال المطي والســـفر إلى بلد بعيد ألجل بقعة أو قـــبر فإنما يكـــون ذلك
العتقــاد عظمة ذلك المقبــور ،وأهليته أن يعظم ويــدعى ويــرجى ،فيصــرف له خــالص
العبادة ،فال جرم ورد النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثالثة.
وقد روى اإلمــام أحمد وغــيره عن ابن عمر وأبي ســعيد الخــدري أنهما منعا شد
الرحل إلى الطور ألجل الصالة فيه ،واستدال بحديث النهي عن شد الرحال إال إلى ثالثة
مســاجد ،مع أن هللا ذكر الطــور وســماه بــالوادي المقــدس والبقعة المباركــة ،وكلم عبــده
موسى هناك.
وعلى هذا فمن سافر إلى المدينة قاصدا المســجد النبــوي الــذي تكــون الصــالة فيه
بــألف صــالة فســفره طاعة وقربــة ،وله بعد الصــالة في المســجد أن يســلم على القــبر
الشريف ،وعلى قبور الصحابة والشهداء ،ويدعو لهم.
فأما من أنشأ السفر ألجل القبر نفسـه ،سـواء للســالم عليه أو للــدعاء عنـده فســفره
بدعة منكرة؛ حيث خالف حديث « :ال تتخذوا قــبري عيــدا ،وصــلوا علي فــإن صــالتكم
تبلغني حيث كنتم ».
فأما األحــــاديث المروية في فضل الزيــــارة للقــــبر الشــــريف فكلها ضــــعيفة أو
موضوعة ،كما حقق ذلك العلماء ،فليتنبه لذلك وهللا الموفق.
ذكر العلماء لكلمة اإلخالص سبعة شروط ،نظمها بعضهم بقوله :
علم يقين وإخالص وصدقك مع * * * محبة وانقياد والقبول لها
وهذه الشروط مأخوذة باالســتقراء والتتبع لألدلة من الكتــاب والســنة ،وقد أضــاف
بعضهم إليها شرطا ثامنا ،ونظمه بقوله:
وزيد ثامنها الكفران منك بما * * * سوى اإلله من األنداد قد ألها
وأخذ هذا الشرط من قوله -صلى هللا عليه وسلم « : -من قــال ال إله إال هللا ،وكفر
بما يعبد من دون هللا حرم ماله ودمه » رواه مسلم(.)1
وذكــره الشـيخ محمد بن عبد الوهـاب في كتــاب التوحيــد ،ثم قــال بعـده :وهـذا من
أعظم ما يبين معــنى ال إله إال هللا ،فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصــما للــدم والمــال ،بل وال
معرفة معناها مع لفظهــا ،بل وال اإلقــرار بــذلك ،بل وال كونه ال يــدعو إال هللا وحــده ال
شريك له ،بل ال يحرم ماله ودمه حتى يضــيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون هللا ،فــإن
شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه ..إلخ.
ومعنى هذا الشرط أن يعتقد بطالن عبادة من سوى هللا ،وأن كل من صــرف شــيئا
من خــالص حق هللا لغــيره فهو ضــال مشــرك ،وأن كل المعبــودات ســوى هللا من قبــور
وقباب وبقاع وغيرها ،نشــأت من جهل المشــركين وخرافــاتهم ،فمن أقــرهم على ذلك أو
تــردد في صــوابهم أو شك في بطالن ما هم عليه فليس بموحــد ،ولو قــال :ال إله إال هللا.
ولو لم يعبد غير هللا.
ومع ذلك فإن الشــروط الســبعة هي المشــهورة في كتب أئمة الــدعوة -رحمهم هللا-
فنذكر عليها بعض األدلة للتوضيح :
الشرط األول :العلم :ودليله قوله تعالى ﴿ :فَا ْعلَ ْم َأنَّهُ اَل ِإلَهَ ِإاَّل هَّللا ُ ﴾[ سورة مح ّمد،
اآلية .] 19 :
وروى مسلم عن عثمــان -رضي هللا عنــه -قــال :قــال رســول هللا -صــلى هللا عليه
وسلم « : -من مات وهو يعلم أن ال إله إال هللا دخل الجنة ».
والمراد :العلم الحقيقي بمدلول الشــهادتين وما تســتلزمه كل منهما من العمل وضد
العلم الجهل،ـ وهو الــذي أوقع المشــركين من هــذه األمة في مخالفة معناهــا ،حيث جهلــوا
معنى اإلله ،ومدلول النفي واإلثبات ،وفاتهم أن القصد من هذه الكلمة معناها ،وهو الــذي
خالفه المشركون العالمون بما تدل عليه ،حيث قالوا:
ش وا ﴿ َأ َج َع َل اآْل لِ َه ةَ ِإلَ ًها َوا ِح ًدا ﴾ [ ســورة ص ،اآلية ] 5 :وقـــالواَ ﴿ :أ ِن ا ْم ُ
اصبِ ُروا َعلَى آلِ َهتِ ُك ْم ﴾ [ سورة ص ،اآلية .] 6 :
َو ْ
الشرط الثاني :اليقين :وضده الشك والتوقف ،أو مجرد الظن والريب.
والمعنى :أن من أتى بالشهادتين فال بد أن يـوقن بقلبه ويعتقد صـحة ما يقولـه ،من
أحقية إلهية هللا تعالى ،وصحة نبوة محمد -صلى هللا عليه وســلم -وبطالن إلهية غــير هللا
)?(1رواه مسلم برقم ( ،)23في اإليمان ،باب األمر بقتال الناس حتى يقولوا ال إله إال اهلل ...إلخ .
بأي نوع من التأله ،وبطالن قول كل من ادعى النبــوة بعد محمد -صــلى هللا عليه وســلم-
فإن شك في صحة معناها أو توقف في بطالن عبادة غير هللا ،لم تنفعه هاتان الشهادتان.
ودليل هــذا الشــرط ما رواه مســلم عن أبي هريــرة -رضي هللا عنــه -عن النــبي -
صلى هللا عليه وسلم -قــال في الشــهادتين « :ال يلقى هللا بهما عبد غــير شــاك فيهمــا ،إال
دخل الجنة ».
وفي الصحيح عنه أيضا ،أن النبي -صلى هللا عليه وسلم -قال له « :من لقيت من
وراء هذا الحائط يشهد أن ال إله إال هللا ،مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة »(.)1
س ولِ ِه ثُ َّم ين آ َمنُوا بِاهَّلل ِ َو َر ُون الَّ ِذ َوقد مدح هللا تعالى المؤمنين بقولهِ ﴿ :إنَّ َما ا ْل ُمْؤ ِمنُ َ
لَ ْم يَ ْرتَابُوا ﴾
[ سورة الحجرات ،اآلية . ] 15 :
ُون ﴾[ ســورة التوبــة، ارتَابَتْ قُلُوبُ ُه ْم فَ ُه ْم فِي َر ْيبِ ِه ْم يَت ََر َّدد َ وذم المنافقين بقولهَ ﴿ :و ْ
اآلية .] 45 :
وقد روي عن ابن مسعود -رضي هللا عنه -قال « :الصبر نصف اإليمان ،واليقين
اإليمان كله »(.)2
وال شك أن من كــان موقنا بمعــنى الشــهادتين ،فــإن جوارحه تنبعث لعبــادة الــرب
وحده ،ولطاعة الرسول عليه الصالة والسالم.
الشرط الثالث :القبول المنافي للرد :فإن هناك من يعلم معــنى الشــهادتين ،ويــوقن
بمدلولهما ولكنه يردهما كبرا وحسدا ،وهــذه حالة علمــاء اليهــود والنصــارى فقد شــهدوا
بإلهية هللا وحده ،وعرفوا محمدا -صلى هللا عليه وســلم -كما يعرفــون أبنــاءهم ،ومع ذلك
ق ﴾ [ ســورة البقــرة ،اآلية : س ِه ْم ِمنْ بَ ْع ِد َما تَبَيَّ َن لَ ُه ُم ا ْل َح ُّس ًدا ِمنْ ِع ْن ِد َأ ْنفُ ِ
لم يقبلوهَ ﴿ :ح َ
.] 109
وهكذا كان المشركون يعرفون معنى ال إله إال هللا ،وصدق محمد -صــلى هللا عليه
وسلم -ولكنهم يستكبرون عن قبوله ،كما قال تعــالىِ ﴿ :إنَّ ُه ْم َك انُوا ِإ َذا قِي َل لَ ُه ْم اَل ِإلَ هَ ِإاَّل
ون ﴾ [ سورة الصافات ،اآلية ] 35 :وقال تعالى ﴿ :فَ ِإنَّ ُه ْم اَل يُ َك ِّذبُونَ َك َولَ ِكنَّ هَّللا ُ يَ ْ
ستَ ْكبِ ُر َ
ُون ﴾ت هَّللا ِ يَ ْج َحد َين بِآيَا ِالظَّالِ ِم َ
[ سورة األنعام ،اآلية . ] 33 :
الش رط الرابع :االنقي اد :ولعل الفــرق بينه وبين القبــول ،أن االنقيــاد :هو االتبــاع
باألفعال ،والقبول :إظهــار صــحة معــنى ذلك بــالقول ،ويلــزم منهما جميعا االتبــاع ولكن
االنقيـاد هو االستسـالم واإلذعـان وعـدم التعقب لشـيء من أحكـام هللا .قـال هللا تعـالى﴿ :
)?(1رواه مسلم برقم ( ،)31في اإليمان ،باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا.
)?(2ذكره البخاري تعليقا كما في الفتح ،1/60 :وقال الحافظ :وصله الطبراني بسند صحيح ،وأبو نعيم في الحلية.
س نُ سلِ ُموا لَهُ ﴾ [ سورة الزمر ،اآلية ] 54 :وقال تعالىَ ﴿ :و َمنْ َأ ْح َ َوَأنِيبُوا ِإلَى َربِّ ُك ْم َوَأ ْ
سنٌ ﴾ [ ســورة النســاء ،اآلية ] 125 :وقــال تعــالى﴿ : سلَ َم َو ْج َههُ هَّلِل ِ َوه َُو ُم ْح ِ ِدينًا ِم َّمنْ َأ ْ
سكَ بِا ْل ُع ْر َو ِة ا ْل ُو ْثقَى ﴾
ستَ ْم َ سنٌ فَقَ ِد ا ْ سلِ ْم َو ْج َههُ ِإلَى هَّللا ِ َوه َُو ُم ْح ِ َو َمنْ يُ ْ
[ سورة لقمان ،اآلية .] 22 :
فهذا هو االنقياد هلل تعالى بعبادته وحده ،فأما االنقياد لنبي -صــلى هللا عليه وســلم
-بقبــول ســنته ،واتبــاع ما جــاء به والرضى بحكمــه ،فقد ذكــره هللا تعــالى بقوله ﴿ :فَاَل
س ِه ْم َح َر ًجا ِم َّما ش َج َر بَ ْينَ ُه ْم ثُ َّم اَل يَ ِج دُوا فِي َأ ْنفُ ِ ون َحتَّى يُ َح ِّك ُم وكَ فِي َما َ َو َربِّكَ اَل يُْؤ ِمنُ َ
سلِي ًما ﴾ [ سورة النساء ،اآلية .] 65 : سلِّ ُموا تَ ْ ض ْيتَ َويُ َ قَ َ
فاشترط في صحة إيمانهم أن يسلموا تسليما لحكمه ،أي ينقــادوا ويــذعنوا لما جــاء
من ربه.
الش رط الخ امس :الص دق :وضــده الكــذب ،وقد ورد اشــتراط ذلك في الحــديث
الصــحيح ،عنه -صــلى هللا عليه وســلم « : -من قــال ال إله إال هللا صــادقا من قلبه دخل
الجنة »(.)1
فأما من قالها بلســـــانه وأنكر مـــــدلولها بقلبه فإنها ال تنجيـــــه ،كما حكى هللا عن
س و ُل هَّللا ِ ﴾ [ ســورة المنــافقون ،اآلية ] 1 :وقــال ش َه ُد ِإنَّكَ لَ َر ُالمنــافقين أنهم قــالوا ﴿ :نَ ْ
ون ﴾ [ ســورة المنــافقون، ين لَ َك ا ِذبُ َ ش َه ُد ِإنَّ ا ْل ُمنَافِقِ َ
سولُهُ َوهَّللا ُ يَ ْ تعالىَ ﴿ :وهَّللا ُ يَ ْعلَ ُم ِإنَّ َك لَ َر ُ
اآلية .] 1 :
س َمنْ يَقُ و ُل آ َمنَّا بِاهَّلل ِ َوبِ ا ْليَ ْو ِم اآْل ِخ ِر َو َما وهكذا كـذبهم بقوله تعـالىَ ﴿ :و ِم َن النَّا ِ
ين ﴾ ُه ْم بِ ُمْؤ ِمنِ َ
[ سورة البقرة ،اآلية .] 8 :
صا لَهُ الشرط السادس :اإلخالص :وضده الشرك ،قال هللا تعالى ﴿ :فَا ْعبُ ْد هَّللا َ ُم ْخلِ ً
ص ﴾ [ سورة الزمر 2 :ـ ] 3وقال تعالى ﴿ :قُ ْل ِإنِّي ُأ ِم ْرتُ َأنْ ِّين *َأاَل هَّلِل ِ الدِّينُ ا ْل َخالِ ُ الد َ
صا ِّين ﴾ [ سورة الزمر ،اآلية ] 11 :وقــال ﴿ :قُ ْل هَّللا َ َأ ْعبُ ُد ُم ْخلِ ً صا لَهُ الد َ َأ ْعبُ َد هَّللا َ ُم ْخلِ ً
لَهُ ِدينِي ﴾ [ سورة الزمر ،اآلية .] 14 :
وفي الصحيح :عن أبي هريرة عن النــبي -صــلى هللا عليه وســلم -قــال « :أســعد
النــاس بشــفاعتي من قــال :ال إله إال هللا خالصاـ من قلبه » وهو معــنى قوله -صــلى هللا
عليه وسلم -في حديث عتبان « :فإن هللا حـرم على النـار من قـال :ال إله إال هللا ،يبتغي
بذلك وجه هللا ».
فاإلخالص :أن تكون العبادة هلل وحده ،دون أن يصرف منها شيء لغــيره ،ال ملك
مقـــرب وال نـــبي مرســـل ،وكـــذا اإلخالص في اتبـــاع محمد -صـــلى هللا عليه وســـلم-
)?(1رواه أحمد في المسند ،4/61 :عن رفاعة الجهني ،ورواه أحمد أيضا ،4/402 :عن أبي موسى رضي اهلل عنه.
باالقتصار على سنته ،وتحكيمـه ،وتـرك البـدع والمخالفـات ،وكـذا تـرك التحـاكم إلى ما
وضع البشر من قوانين وعادات ابتكروها وهي مصادمة للشــريعة ،فــإن من رضــيها أو
حكم بها لم يكن من المخلصين.
الشرط السابع :المحبة :المنافية لضدها من الكراهية والبغضاء؛ـ فيجب على العبد
محبة هللا ومحبة رسوله ومحبة كل ما يحبه من األعمــال واألقــوال ،ومحبة أوليائه وأهل
طاعته ،فهذه المحبة متى كانت صحيحة ظهرت آثارها على البدن ،فترى العبد الصــادق
يطيع هللا ويتبع رســوله -صــلى هللا عليه وســلم -ويعبد هللا حق عبادتــه ،ويلتذ بطاعتــه،
ويســارع إلى كل ما يحبه مــواله من األقــوال واألعمــال ،وتــراه يحــذر المعاصي ويبتعد
عنها ،ويمقت أهلها ويبغضهم ،ولو كانت تلك المعاصي محبوبة للنفس ولذيــذة في العــادة
لعلمه بأن النـار حفت بالشــهوات،ـ والجنة حفت بالمكـاره ،فمــتى كـان كـذلك فهو صـادق
المحبة ،ولهذا ســئل ذو النــون المصــري -رحمه هللا -مــتى أحب ربي؟ فقــال :إذا كــان ما
يبغضه أمر عندك من الصبر(.)1
ويقول بعضهم :من ادعى محبة هللا ولم يوافقه فدعواه باطلة.
وقد شرط هللا لعالمة محبته اتباع النبي -صلى هللا عليه وسلم -في قوله تعــالى﴿ :
ون هَّللا َ فَ اتَّبِ ُعونِي يُ ْحبِ ْب ُك ُم هَّللا ُ َويَ ْغفِ ْر لَ ُك ْم ُذنُ وبَ ُك ْم ﴾ [ ســورة آل عمــران،
قُ ْل ِإنْ ُك ْنتُ ْم تُ ِح ُّب َ
اآلية .] 31 :
وقد ســبق أن ذكرنا بعض األدلة على محبة النــبي -صــلى هللا عليه وســلم -وما
تستلزم من األعمال فكذلك محبة هللا تعالى.
تكلم علماء اإلســالم في كل مــذهب على نــواقض اإلســالم ،في كتب الفقه في حكم
المرتد ،وما تحصل به الردة ،وبالغ بعضهم في سرد األمثلة التي تحصل بها الردة نعــوذ
باهلل ،وقد بلغت عددا من المئين ما بين فعل وتــرك ،لكن الشــيخ محمد بن عبد الوهــاب -
رحمه هللا تعالى -لخصها في عشرة نواقض مذكورة في مجموعة التوحيد وغيرها.
وإنما يهمنا هنا أن نــذكر بعض الخصــالـ الــتي ينــافي فعلها كلمــتي التوحيــد ،وال
يحصل األجر المرتب على فعلهما ،والنطق بهما ،فمن ذلك:
أوال :إنكار خلق هللا تعالى لبعض الموجودات :أو إسناد بعض التــدبير والتصــرف
إلى الطبيعة والصــدفة ،فــإن ذلك طعن في الــرب تعــالى ،وذلك ينــافي اعتقــاد المســلمين
إثبات كمال التصرف هلل وحده ،وأنه لذلك هو المستحق للعبادة.
وأقتصر على هذا القدر مما يتعلق بالشهادتين وما يكــون به تحقيقهمــا ،وذلك على
وجه االختصار،ـ ومن أراد التفصيل وجد ذلك في كتب أئمة الدعوة -رحمهم هللا -وكــذا
من سبقهم من علمــاء المســلمين ،وهللا أعلم وأحكم ،وصــلى هللا على محمد وآله وصــحبه
وسلم.