You are on page 1of 613

‫المختصر المفيد‬

‫في‬
‫عقائد أئمة التوحيد‬

‫تأليف‬
‫أبي يوسف مدحت بن الحسن آل فراج‬

‫قدم له‬
‫فضيلة الشيخ عبد اهلل السعد‬

‫‪-2-‬‬
‫تـقـديم‬

‫احلمد هلل رب العاملني وأصلى وأسلم على نبينا حممد وعلى آله وأصحابه‬
‫والتابعني‪ ..‬أما بعد‪:‬‬
‫فقط اطلعت على كتاب‪( :‬املختصر املفيد يف عقائد أئمة التوحيد) مجع‬
‫جدا‬
‫وتأليف أىب يوسف مدحت بن احلسن آل فراج‪ ،‬وهو كتاب قيم ومفيد ً‬
‫وذلك ألمور‪:‬‬
‫أولا‪ :‬هذا الكتاب يتحدث عن أصول الدين وقواعد امللة‪ ،‬ففي هذا الكتاب‬
‫بيان حلقيقة اإلسالم واإلميان وأركانه‪ ،‬كما أنه فيه توضيح ألصل األصول وهو‬
‫التوحيد‪ ،‬ونواقض ومفسدات هذا األصل من الشرك وأقسامه‪ ،‬والكفر وأنواعه‪،‬‬
‫وما يتبع ذلك من املواالة واملعاداة يف ذلك‪ ،‬والرباءة من الشرك وأهله‪ ،‬وصفة‬
‫الطاغوت والكفر به‪ ،‬وإفراد اهلل بالطاعة‪ ،‬وحتكيم شريعته‪ ،‬واجلهاد لتحقيق ذلك‪،‬‬
‫وما يتبع ذلك من اهلجرة من دار الكفر إىل دار اإلسالم‪ ،‬وبيان الفرق بني‬
‫الدارين ‪ -‬دار اإلسالم ودار الكفرـ‪ ،‬وغري ذلك من القضايا الكلية واملسائل‬
‫املصريية‪ ،‬وال خيفى أمهية ذلك كله؛ ألن اإلسالم ال يتحقق إال مبعرفة ذلك‬
‫والعمل به‪.‬‬
‫اعلَ ْم أَنَّه الَ إِلَهَ إِالَّ‬
‫مذكرا نبيه ‪ ‬باألصل الذي بعثه من أجله ﴿فَ ْ‬‫قال تعاىل ً‬
‫اللَّه و ِ ِ‬
‫ك﴾ [حممد‪ ،]91 :‬وهذه اآلية الكرمية نزلت بعد البعثة مبدة‬ ‫استَـ ْغف ْر ل َذنبِ َ‬
‫َْ‬
‫طويلة ألهنا يف سورة مدنية وهى سورة حممد‪ .‬فمع كونه مبعوثًا هبذه الكلمة‬
‫وبقي مدة طويلة وهو يدعو الناس إليها وجياهد من أجلها وهاجر ‪ ‬من بلده‬
‫لتحقيقها‪ ،‬ومع ذلك فإن اهلل تعاىل يذكره هبذا األصل العظيم‬

‫‪-3-‬‬
‫وحي إِلَي ِ َّ ِ‬
‫ين‬
‫ك َوإ َىل الذ َ‬ ‫الذي هو أساس دين اإلسالم‪ .‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولََق ْد أ ِ َ ْ َ‬
‫ين * بَ ِل اللَّهَ فَ ْ‬ ‫ك ولَتكونَ َّن ِمن ْ ِ‬ ‫ِمن قَـبلِ َ ِ‬
‫اعب ْد‬ ‫اْلَاس ِر َ‬ ‫َ‬ ‫ت لَيَ ْحبَطَ َّن َع َمل َ َ َ‬ ‫ك لَئ ْن أَ ْشَرْك َ‬ ‫ْ ْ‬
‫ِ‬
‫ين﴾ [الزمر‪.]55 ،56 :‬‬ ‫َوكن ِّم ْن الشَّاك ِر َ‬
‫الص َمد * َلْ يَلِ ْد َوَلْ يولَ ْد * َوَلْ يَكن لَّه‬ ‫َحد * اللَّه َّ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ق ْل ه َو اللَّه أ َ‬
‫َحد﴾ [اإلخالص‪ ،]4 – 9 :‬ويف هذه اآليات تذكري للرسول ‪‬‬ ‫كف ًوا أ َ‬
‫باألصول اليت بعث من أجلها‪.‬‬
‫ومن اهتمام إبراهيم اْلليل ‪ -  -‬باألصل الذي خلق من أجله وبعث‬
‫بسببه خاف أن يقع مبا ينافيه فقال كما ذكر اهلل تعاىل عنه‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قَ َال إِبْـَر ِاهيم‬
‫ب إِنـَّه َّن أ ْ‬ ‫ِ‬
‫َضلَْل َن‬ ‫َصنَ َام * َر ِّ‬‫ن أَن نـَّ ْعب َد األ ْ‬ ‫اجنْب ِن َوبَِ َّ‬
‫اج َع ْل َهـ َذا الْبَـلَ َد آمنًا َو ْ‬
‫ب ْ‬ ‫َر ِّ‬
‫َّاس‪[ ﴾...‬إبراهيم‪.]35 ،36 :‬‬ ‫َكثِ ًريا ِّم َن الن ِ‬
‫ـن‬
‫قال أبو جعفر بن جرير يف تفسريه (‪ :)991/93‬ومعـى ذلـك‪ :‬أبعـدي وب ي‬
‫ـاس﴾ [إب ـراهيم‪:‬‬ ‫ـريا ِّمـ َـن النَّـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب إِنـَّهـ َّـن أ ْ‬
‫َض ـلَْل َن َكثـ ً‬ ‫مــن عبــادة األصــنام‪ ...‬وقولــه‪َ ﴿ :‬ر ِّ‬
‫ـريا مـن النـاس عـن طريـق‬
‫‪ ]35‬يقول‪ :‬يا رب إن األصنام أضـللن‪ ،‬يقـول‪ :‬أزللـن كث ً‬
‫اهلدى وسبيل احلق حىت عبدوهن وكفروا بك‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وأخرج عن ابـن محيـد‪ ،‬ثنـا جريـر‪ ،‬عـن مغـرية قـال‪ :‬كـان إبـراهيم التيمـي يقـ‬
‫ويقــول يف قصصــه‪ :‬مــن يــأمن مــن الــبالء بعــد خليــل اهلل إب ـراهيم حــني يقــول‪ :‬ريب‬
‫َصنَ َام﴾ [إبراهيم‪.]36 :‬‬ ‫اجنْب ِن َوبَِ َّ‬
‫ن أَن نـَّ ْعب َد األ ْ‬ ‫﴿ َو ْ‬
‫كسر األصنام بيده‪ ،‬وهو الذي أراد أن يذبح ابنه‬ ‫وإبراهيم ‪ ‬هو الذي ي‬
‫طاعة لربه تعاىل‪ ،‬وغري ذلك من املقامات العظيمة‪ ،‬اليت قامها حتقي ًقا للتوحيد‬
‫وجل أن‬
‫عز َّ‬ ‫وجل‪ ،‬ومع ذلك كله دعا ربه َّ‬ ‫عز َّ‬ ‫وقياما بواجب العبودية للرب َّ‬ ‫ً‬
‫جينبه وبنيه عبادة األصنام‪.‬‬
‫وقد أرسل اهلل تعاىل جربيل للنيب ‪ ‬لكي يسأله عن أصول الدين‬

‫‪-4-‬‬
‫وأركانه وقواعده حىت يتعلم الناس ذلك‪ ،‬أخرج البخاري (‪ )65‬و(‪)4444‬‬
‫ومسلم (‪ )95 ،1‬من طريق أىب حيان‪ ،‬عن أىب زرعة‪ ،‬عن أىب هريرة قال كان‬
‫بارزا للناس فأتاه رجل فقال يا رسول اهلل‪ :‬ما اإلميان؟ قال‪:‬‬ ‫رسول اهلل ‪ً ‬‬
‫يوما ً‬
‫«أن تؤمن باهلل ومالئكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث اآلخر»‪ .‬قال يا‬
‫رسول اهلل‪ :‬ما اإلسالم؟ قال‪« :‬اإلسالم أن تعبد اهلل ول تشرك به شيئاا وتقيم‬
‫الصالة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان»‪ .‬قال يا رسول‬
‫اهلل‪ :‬ما اإلحسان؟ قال‪« :‬أن تعبد اهلل كأنك تراه فإنك إن ل تراه فإنه‬
‫يراك»»‪ .‬قال يا رسول اهلل‪ :‬مىت الساعة؟ قال‪« :‬ما المسؤول عنها بأعلم من‬
‫السائل‪ ،‬ولكن سأحدثك عن أشراطها‪ ،‬إذا ولدت األمة ربها فذاك من‬
‫أشراطها‪ ،‬وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها وإذا‬
‫تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها في خمس ل يعلمهن إل‬
‫اهلل ثم تال‪﴿ :‬إِن الله ِعنده ِعلْم الساع ِة ويـنـ ِّزل الْغْيث ويـ ْعلم ما فِي األ ْرح ِام‬
‫ي أ ْرض تموت إِن الله‬ ‫ْسب غ ادا وما ت ْد ِري نـ ْفس بِأ ِّ‬‫وما ت ْد ِري نـ ْفس ماذا تك ِ‬
‫علِيم خبِير﴾ [لقمان‪ ،]43 :‬ثم أدبر الرجل فقال رسول اهلل ‪« :‬ردوا على‬
‫الرجل فأخذوه ليردوه فلم يروا شيئاا» فقال رسول اهلل ‪« :‬هذا جبريل جاء‬
‫ليعلم الناس دينهم»‪.‬‬
‫ويف روايــة عنــد مســلم مــن طريــق عمــارة بــن القعقــا ‪ ،‬عــن أىب زرعــة‪ ،‬عــن أىب‬
‫هريرة قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬سلوني فهـابوه أن يسـألوه فجـاء رجـل‪ »...‬ويف‬
‫آخرها‪ :‬فقال رسول اهلل ‪« :‬هذا جبريل أراد أن تعلموا إذا لم تسألوا»‪.‬‬
‫أيضا من رواية عمر بن اْلطاب وغريه من‬ ‫وقد جاء هذا احلديث ً‬
‫الصحابة ‪.‬‬
‫وهـذه القـصة وقعت باملدينة‪ ،‬بل جاء يف رواية وقعت يف حديث عمر‬

‫‪-6-‬‬
‫‪ ‬أخرجها أبو عبد اهلل بن منده يف «اإليمان» (‪ )92‬أن هذه القصة وقعت يف‬
‫آخر عمر الرسول ‪.‬‬
‫ومع طول هذه املدة ما بني بعثته ‪ ‬وما بني وقو هذه القصة مع أنه ‪ ‬ل‬
‫يزل منذ بعث وهو يبني اإلسالم واإلميان‪ ،‬ومع ذلك جاء السؤال عن هذه‬
‫تذكريا لألمة بأمهية هذه األصول ووجوب معرفتها والعمل‬ ‫األصول يف آخر حياته ً‬
‫هبا‪.‬‬
‫قال عياض بن موسى رمحه اهلل تعاىل‪ :‬اشتمل هذا احلديث على مجيع‬
‫وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود اإلميان ابتداءً وحاالً ومآالً‪ ،‬ومن‬
‫أعمال اجلوارح‪ ،‬ومن إخالص السرائر‪ ،‬والتحفظ من آفات األعمال حىت أن‬
‫علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه‪.‬‬
‫وقال القرطيب رمحه اهلل تعاىل‪ :‬هذا احلديث يصلح أن يقال له‪ :‬أم السنة ملا‬
‫تضمنه من مجل علم السنة‪ .‬اهـ من (الفتح‪.)926/9 :‬‬
‫ثانياا‪ :‬أن القضايا الىت تقدم ذكرها قد حبثت يف هذا الكتاب وفق الدليل من‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬مع السرب والتقسيم‪ ،‬وذكر الشروط واحملرتزات املنافية لذلك‪،‬‬
‫وبيان مذهب السلف الصاحل من الصحابة والتابعني وأتباعهم يف هذه املسائل‪،‬‬
‫حىت أنه يف كتابه التوحيد الذي هو أنفس مصنفاته ‪ -‬أي اإلمام اجملدد حممد بن‬
‫عبد الوهاب ‪ -‬وأمهها‪ ،‬جعله أبوابًا‪ ،‬ويف كل باب يذكر اآليات واألحاديث‬
‫واآلثار‪ ،‬مث يعقب كل باب بذكر أهم املسائل اليت تستفاد منه‪ ،‬حىت أنه يف‬
‫بعض تبويباته جيعل عنوان الباب نفسه آية أو حديث‪ ،‬فمن األول قوله‪ :‬باب‬
‫قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬أَي ْش ِركو َن َما الَ َخيْلق َشْيئاً َوه ْم خيْلَقو َن﴾ [األعراف‪]919 :‬‬
‫اآلية‪.‬‬
‫أيضا باب قول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬ح َّىت إِ َذا فـِّز َ َعن قـلوهبِِ ْم قَالوا َما َذا قَ َال َربُّك ْم‬
‫و ً‬

‫‪-5-‬‬
‫ِ‬
‫أيضا‪ :‬باب قول اهلل‬‫احلَ َّق َوه َو الْ َعل ُّي الْ َكبِري﴾ [سبأ‪ ،]23 :‬وقال ً‬
‫قَالوا ْ‬
‫ِ‬
‫ت﴾ [القص ‪ ،]65 :‬ومن الثاي قوله‪ :‬باب‬ ‫َحبَْب َ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬إِنَّ َ‬
‫ك الَ تَـ ْهدي َم ْن أ ْ‬
‫(ال يقال السالم على اهلل)‪ ،‬وهذا العنوان جزء من حديث ابن مسعود ‪ ‬الذي‬
‫أيضا قوله‪:‬‬
‫أخرجه البخاري‪( :‬ال تقولوا السالم على اهلل فإن اهلل هو السالم)‪ .‬و ً‬
‫باب (ال يقل عبدي وأميت)‪ ،‬وهذا جزء من حديث أخرجه الشيخان (وال يقل‬
‫أيضا‪ :‬باب (ال يسأل بوجه‬ ‫عبدي وأميت وليقل‪ :‬فتاي وفتايت وغالمي)‪ ،‬وقال ً‬
‫اهلل إال اجلنة) وهذا حديث رواه أبو داود‪.‬‬
‫وهكذا يف باقي كتبه كلها مبنية على الدليل والسري على طريقة السلف‬
‫الصاحل‪ .‬قال حممد بن على الشوكاي رمحه اهلل تعاىل عن حممد بن عبد الوهاب‬
‫رمحه اهلل تعاىل‪« :‬وكان حنبليًا‪ ،‬مث طلب احلديث باملدينة املشرفة فعاد إىل جند‬
‫وصار يعمل باجتهادات مجاعة من متأخري احلنابلة كابن تيمية وابن القييم‬
‫وأضراهبما‪ .‬ومها من أشد الناس على معتقدي األموات‪ ،‬وقد رأيت كتابًا من‬
‫صاحب جند ‪ -‬وهو عبد العزيز بن سعود ‪ -‬الذي هو اآلن صاحب تلك‬
‫اجلهات أجاب به على بعض أهل العلم‪ ،‬وقد كاتبه وسأله بيان ما يعتقده‬
‫فرأيت جوابه مشتمالً على اعتقاد حسن موافق للكتاب والسنةي فاهلل أعلم حبقيقة‬
‫احلال‪.‬‬
‫وأما أهل مكة فصاروا يك يفرونه ويطلقون عليه اسم الكافر‪ .‬وبلغنا أنه وصل‬
‫إىل مكة بعض علماء جند لقصد املناظرة فناظر علماء مكة حبضرة الشريف يف‬
‫مسائل تدل على ثبات قدمه وقدم صاحبه يف الدين‪ .‬ويف سنة ‪ 9296‬وصل‬
‫من صاحب جند املذكور جملدان لطيفان أرسل هبما إىل حضرة موالنا اإلمام‬
‫حفظه اهلل أحدمها يشتمل على رسائل حملمد بن عبد الوهاب كلها يف اإلرشاد‬
‫إىل إخالص التوحيد والتنفري من الشرك الذي يفعله‬

‫‪-4-‬‬
‫املعتقدون يف القبور‪ .‬وهى رسائل جيدة مشحونة بأدلة الكتاب والسنة‪،‬‬
‫واجمللد اآلخر يتضمن الرد على مجاعة من املقصرين من فقهاء صنعاء وصعدة‬
‫ذاكروه يف مسائل متعلقة بأصول الدين وجبماعة من الصحابة‪ ،‬فأجاب عليهم‬
‫جوابات حمررة مقررة حمققة تدل على أن اجمليب من العلماء احملققني العارفني‬
‫بالكتاب والسنة‪.‬‬
‫هدم عليهم مجيع ما بنوه‪ ،‬وأبطل مجيع ما دونوه ألهنم مقصرون‬ ‫وقد ِ‬
‫فصار ما فعلوه خزيًا عليهم وعلى أهل صنعاء وصعدة‪ ،‬وهكذا من‬ ‫متعصبون َ‬
‫تصدر ول يعرف مقدار نفسه‪ ،‬وأرسل صاحب جند مع الكتابني املذكورين‬
‫إىل فأجبت عن كتابه‬ ‫مبكاتبة منه إىل سيدي املوىل اإلمام فدفع حفظه اهلل ذلك ي‬
‫الذي كتب إىل موالنا اإلمام حفظه اهلل على لسانه مبا معناه أن اجلماعة الذين‬
‫أرسلوا إليه باملذاكرة ال ندري من هم وكالمهم يدل على أهنم جهال» (البدر‬
‫الطالع‪ )364/9 :‬يف ترمجة‪ :‬السيد غالب بن مساعد شريف مكة وأمريها‪.‬‬
‫وقال حممد بن احلسن احلجوي ‪ -‬وهو من علماء املغرب العريب‪:-‬‬
‫«وعقيدته السنة الخالصة على مذهب السلف المتمسكين بمحض القرآن‬
‫والسنة‪ ،‬ل يخوض التأويل والفلسفة‪ ،‬ول يدخلهما في عقيدته‪ .‬وفي الفروع‬
‫مذهبه حنبلي غير جامد على تقليد اإلمام أحمد ول من دونه‪ ،‬بل إذا وجد‬
‫دليالا أخذ به وترك أقوال المذهب‪ ،‬فهو مستقل الفكر في العقيدة والفروع‬
‫معا»‪( .‬الفكر السامي‪.)342/2 /:‬‬ ‫ا‬
‫قلت‪ :‬وهذا حبمد اهلل تعاىل أمر واضح معروف‪ ،‬تدل عليه كتبه ورسائله‪.‬‬
‫قال الشيخ حممد بن عبد الوهاب يف رسالة أرسلها إىل عبد الرمحن بن عبد‬
‫اهلل السويدي من علماء العراق‪( :‬أخربك أي وهلل احلمد مـتبع لـست‬

‫‪-1-‬‬
‫مببتد عقيديت ودين الذي أدين اهلل به هو‪ :‬مذهب أهل السنة واجلماعة‬
‫الذي عليه أئمة املسلمني مثل األئمة األربعة وأتباعهم إىل يوم القيامة‪ ،‬ولكنن‬
‫بينت للناس إخالص الدين هلل‪ ،‬وهنيتهم عن دعوة األحياء واألموات من‬
‫الصاحلني وغريهم‪ ،‬وعن إشراكهم فيما يعبد اهلل به من الذبح والنذر والتوكل‬
‫والسجود وغري ذلك‪ ،‬مما هو حق اهلل الذي ال يشركه فيه أحد‪ ،‬ال ملك مقرب‬
‫وال نيب مرسل‪ ،‬وهو الذي دعت إليه الرسل من أوهلم إىل آخرهم‪ ،‬وهو الذي‬
‫عليه أهل السنة واجلماعة‪ ،‬وبينت هلم أن أول من أدخل الشرك يف هذه األمة‬
‫هم الرافضة الذين يدعون عليًا وغريه‪ ،‬ويطلبون منهم قضاء احلاجات وتفريج‬
‫الكربات‪ ،‬وأنا صاحب منصب يف قرييت مسمو الكلمة‪ ،‬فأنكر هذا بعض‬
‫الرؤساء لكونه عادات نشئوا عليها‪ )...‬إىل آخره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا الكتاب «المختصر المفيد في عقائد أئمة التوحيد» كله‬
‫دليل على ما تقدم وأذكر هنا مسألة واحدة من هذا الكتاب كمثال على ذلك‪.‬‬
‫قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل بن حممد بن عبد الوهاب عند قوله ‪:- -‬‬
‫«ال جتعلوا قربي عيدا»‪ ،‬ويف احلديث دليل على منع شد الرحال إىل قربه ‪ ‬وإىل‬
‫أعيادا‪ ،‬بل من أعظم أسباب‬ ‫غريه من القبور واملشاهد؛ ألن ذلك من اختاذها ً‬
‫اإلشراك بأصحاهبا‪ ،‬كما وقع من عباد القبور الذين يشدون إليها الرحال‪،‬‬
‫وينفقون يف ذلك الكثري من األموال‪ ،‬وليس هلم مقصود إال جمرد الزيارة للقبور‬
‫تربًكا بتلك القباب واجلدران فوقعوا يف الشرك‪( .‬املختصر املفيد‪ :‬ص‪.)244‬‬
‫وأما ما يتعلق بالسرب والتقسيم للمسائل مع ذكر شروطها وبيان حمرتزاهتا وال‬
‫خيفى أن هذه الطريقة يف حبث املسائل وفيها من التوضيح والتسهيل الشيء‬
‫الكثري‪.‬‬

‫‪-1-‬‬
‫قال الشيخ عبد الرمحن بن حسن ‪ -‬رمحه اهلل ‪ -‬يف بيان معى ال إله إال اهلل‬
‫وشروطها‪« :‬فال إله إال اهلل هى كلمة اإلسالم‪ ،‬ال يصح إسالم أحد إال مبعرفة‬
‫ما وضعت له‪ ،‬ودلت عليه‪ ،‬وقبوله‪ ،‬واالنقياد للعمل به‪ ،‬وهى كلمة اإلخالص‬
‫املنايف للشرك‪ ،‬وكلمة التقوى اليت تقي قائلها من الشرك باهلل‪ ،‬فال تنفع قائلها إال‬
‫بشروط سبعة‪:‬‬
‫األول‪ :‬العلم مبعناها نفيًا وإثباتًا‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬اليقني‪ ،‬وهو كمال العلم هبا املنايف للشك والريب‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬اإلخالص املنايف للشرك‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الصدق املانع من النفاق‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬احملبة هلذه الكلمة وملا دلت عليه والسرور بذلك‪.‬‬
‫السادس‪ :‬القبول املنايف للرد‪ ،‬فقد يقوهلا من يعرفها لكن ال يقبلها ممن دعاه‬
‫وتكربا‪ ،‬كما قد وقع من كثري‪.‬‬ ‫إليها تعصبًا ً‬
‫إخالصا وطلبًا ملرضاته»‪.‬‬
‫ً‬ ‫السابع‪ :‬االنقياد حبقوقها‪ ،‬وهى‪ :‬األعمال الواجبة‬
‫اهـ‪( .‬املختصر املفيد‪.)344 :‬‬
‫وأمــا م ــا يتعل ــق باالهتم ــام مب ــا ك ــان علي ــه الص ــحابة والس ــلف الص ــاحل؛ فق ــال‬
‫الشــيخ عبــد اهلل بــن حممــد بــن عبــد الوهــاب يف بيــان مــا هــم عليــه عنــد االخــتالف‬
‫الرد إىل كتاب اهلل وإىل سنة رسول اهلل ‪ ،‬مث ما جاء عن الصحابة والتـابعني‪ ،‬يف‬
‫رسـالته إىل عبــد اهلل الصـنعاي‪( :‬أمــا بعــد فقـد وصــل جـوابكم‪ ،‬وسـر اْلــاطر‪ ،‬وأقــر‬
‫الن ـ ـ ـ ـ ــاظر‪ ،‬حي ـ ـ ـ ـ ــث أخ ـ ـ ـ ـ ــربم أنك ـ ـ ـ ـ ــم عل ـ ـ ـ ـ ــى م ـ ـ ـ ـ ــا حن ـ ـ ـ ـ ــن علي ـ ـ ـ ـ ــه م ـ ـ ـ ـ ــن ال ـ ـ ـ ـ ــدين‪،‬‬
‫وهــو عبــادة اهلل وحــده ال ش ـريك لــه‪ ،‬ومتابعــة الرســول األجمــد‪ ،‬ســيد ولــد آدم ‪،‬‬
‫وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا أوردم عل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى ذل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن اآلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات الواض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــحات‪ ،‬واألحادي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــث‬
‫ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـباهرات‪ ،‬وأن الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرد عنـ ـ ـ ـ ـ ــد االخـ ـ ـ ـ ـ ــتالف إىل كتـ ـ ـ ـ ـ ــاب اهلل وسـ ـ ـ ـ ـ ــنة رسـ ـ ـ ـ ـ ــوله‬

‫‪-95-‬‬
‫‪ ،‬مث إىل أقوال الصحابة مث التابعني هلم بإحسان‪ ،‬فذلك ما حنن عليه وهو‬
‫ظاهر عندنا»‪( .‬الدرر‪.)94 – 95/4 :‬‬
‫ثالثاا‪ :‬أن يف هـذا الكتـاب بيـان لصـور كثـرية مغلوطـة خمالفـة للكتـاب والسـنة‪،‬‬
‫مع ضرب األمثلة العملية من واقع الناس واليت ختالف الصواب‪ ،‬وال شك أن مثـل‬
‫هــذا وهــو ذكــر الصــور املغلوطــة مــع ضــرب األمثلــة الواقعيــة ممــا يبــني احلــق ويوضــح‬
‫الطريق املستقيم‪ ،‬الذي أمر اهلل عز وجل بـه عبـاده أن يسـلكوه؛ ألن الكـالم علـى‬
‫قضــايا اإلميــان والتوحيــد ومــا يضــاد ذلــك مــن الكفــر والشــرك ال يتبــني إال بــذكر‬
‫األمثلة من واقع الناس‪ ،‬وعرض هذا الواقـع علـى الكتـاب والسـنة‪ .‬ومثـال ذلـك مـا‬
‫قالــه الشــيخ حممــد بــن عبــد الوهــاب يف بيــان حقيقــة الــدين‪ :‬اعلــم رمح ـك اهلل‪ :‬أن‬
‫ديــن اهلل يكــون علــى القلــب باالعتقــاد‪ ،‬وباحلــب والــبغض‪ ،‬ويكــون علــى اللســان‬
‫بــالنطق وتــرك النطــق بــالكفر‪ ،‬ويكــون علــى اجل ـوارح بفعــل أركــان اإلســالم‪ ،‬وتــرك‬
‫األفعال اليت تكفر‪ ،‬فإذا اختل واحدة من هذه الثالث‪ ،‬كفر وار َّ‬
‫تد‪.‬‬
‫مثال عمل القلب‪ :‬أن يظن أن هـذا الـذي عليـه أكثـر النـاس مـن االعتقـاد يف‬
‫األحيــاء واألم ـوات حــق‪ ،‬ويســتدل بكــون أكثــر النــاس عليــه‪ ،‬فهــو كــافر مكـ ِّـذب‬
‫للن ــيب ‪ ،‬ول ــو ل ي ــتكلَّم بلس ــانه‪ ،‬ول يعم ــل إالَّ بالتوحي ــد‪ ،‬وك ــذلك إذا ش ــك‪ ،‬ال‬
‫يــدري مــن احلــق معــه‪ ،‬فهــذا لــو ل يكــذب فهــو ل يصــدق النــيب ‪ ،‬فهــو يقــول‬
‫يبني احلق‪ ،‬فهو يف شك‪ ،‬فهو مرتد ولو ل يتكلَّم إالَّ بالتوحيد‪.‬‬ ‫عسى اهلل أن ِّ‬
‫ومثال اللسان‪ :‬أن يؤمن باحلق وحيبه‪ ،‬ويكفر بالباطل ويبغضه‪ ،‬ولكنه تكلَّم‬
‫شرهم؛ وإما‬‫مداراة ألهل األحساء‪ ،‬وألهل مكة أو غريهم بوجوههم‪ ،‬خوفًا من ِّ‬
‫يصرح هلم مبدح ما هم عليه‪ ،‬أو بذكر أنه ترك‬
‫كالما ِّ‬
‫أن يكتب هلم ً‬

‫‪-99-‬‬
‫أيضا لغروره‪.‬‬ ‫ما هو عليه‪ ،‬ويظن أنه ماكر هبم‪ ،‬وقلبه موقن أنه ال يضره‪ ،‬وهذا ً‬
‫وهو معى قول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬من َك َفَر بِاللي ِه ِمن بَـ ْع ِد إميَانِِه إِالَّ َم ْن أ ْك ِرَه َوقَـْلبه‬
‫احليا َة الْ ُّدنْـيا علَى ِ‬ ‫ِ‬ ‫مطْمئِن بِا ِإلميَ ِ‬
‫اآلخَرةِ﴾‬ ‫َ َ‬ ‫ك بِأَنـَّهم ْ‬
‫استَ َحبُّواْ ََْ‬ ‫ان﴾‪ ،‬إىل قوله‪َ ﴿ :‬ذل َ‬ ‫َ‬
‫[النحل‪ ،]954 ،955 :‬فقط ال لتغري عقائدهم‪.‬‬
‫فمن عرف هذا‪ ،‬عرف أن اْلطر‪ ،‬خطر عظيم شديد‪ ،‬وعرف شدة احلاجة‬
‫اعتقادا أو ش ًكا أو‬ ‫ً‬ ‫نطقا أو‬‫للتعلم واملذاكرة‪ ،‬وهذا معى قوله يف اإلقنا يف الردة‪ً ،‬‬
‫فعالً‪ ،‬واهلل أعلم»‪( .‬املختصر املفيد‪.)41 ،44 :‬‬
‫وما قاله الشيخ سليمان بن عبد اهلل من ذكر بعض الصور واألمثلة اليت يقع‬
‫فيها كثري من الناس من تعلقهم بالقبور والبناء عليها‪:‬‬
‫واعلم أنه قد وقع بسبب البناء على القبور من املفاسد اليت ال حييط هبا على‬
‫التفصيل إالَّ اهلل‪ ،‬ما يغضب من أجله كل من يف قلبه رائحة إميان‪ ،‬كما نبَّه عليه‬
‫ابن القيم وغريه‪.‬‬
‫فمنها‪ :‬اعتيادها للصالة عندها‪ ،‬وقد هنى النيب ‪ ‬عن ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬حتري الدعاء عندها‪ .‬ويقولون‪ :‬من دعا اهلل عند قرب فالن استجاب‬
‫اجملرب‪ ،‬وهذا بدعة منكرة‪.‬‬ ‫له‪ ،‬وقرب فالن الرتياق َّ‬
‫ومنها‪ :‬ظنهم أن هلا خصوصيات بأنفسها يف دفع البالء وجلب النعماء‪،‬‬
‫ويقولون‪ :‬إن البالء يدفع عن أهل البلدان بقبور من فيها من الصاحلني‪ ،‬وال ريب‬
‫أن هذا خمالف للكتاب والسنَّة واإلمجا ‪ .‬فالبيت املقدس كان عنده من قبور‬
‫األنبياء والصاحلني ما شاء اهلل‪ ،‬فلما عصوا الرسول وخالفوا ما أمرهم اهلل هبم‪،‬‬
‫سلَّط اهلل عليهم من انتقم منهم‪ .‬وكذلك أهل املدينة ملا تغريوا بعض التغري‪،‬‬
‫احلرة من النهب والقتل وغري ذلك من املصائب ما ل جير‬ ‫جري عليهم عام َّ‬
‫عليهم قبل ذلك‪ .‬وهذا أكثر من أن حيصر‪.‬‬

‫‪-92-‬‬
‫ومنها‪ :‬الدخول يف لعنة رسول اهلل ‪ ،‬باختاذ املساجد عليها وإيقاد السرج‬
‫عليها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن ذلك يتضمن عمارة املشاهد‪ ،‬وخراب املساجد كما هو الواقع‪،‬‬
‫ودين اهلل بضد ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬اجتماعهم لزيارهتا واختالط النساء بالرجال‪ ،‬وما يقع يف ضمن ذلك‬
‫حتملها عنهم‪ ،‬بل‬
‫من الفواحش وترك الصلوات‪ ،‬ويزعمون أن صاحب الرتبة َّ‬
‫اشتهر أن البغايا يسقطن أجرهتن على البغاء يف أيام زيارة املشايخ‪ ،‬كالبدوي‬
‫وغريه تقربًا إىل اهلل بذلك‪ ،‬فهل بعد هذا يف الكفر غاية‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬كسوهتا بالثياب النفيسة املنسوجة باحلرير والذهب والفضة وحنو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬جعل اْلزائن واألموال ووقف الوقوف ملا حيتاج إليه من ترميمها وحنو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬إهداء األموال ونذر النذور لسدنتها العاكفني عليها‪ ،‬الذين هم أهل‬
‫كل بلية وكفر‪ ،‬فإهنم الذين يكذبون على اجلهال والطغام بأن فالنًا دعا صاحب‬
‫الرتبة فأجابه‪ ،‬واستغاثه فأغاثه ومرادهم بذلك تكثري النذر واهلدايا هلم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬جعل السدنة هلا كسدنة عباد األصنام‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬اإلقسام على اهلل يف الدعاء باملدفون فيها‪.‬‬
‫الزوار إذا رأى البناء الذي على قرب صاحب الرتبة سجد‬ ‫كثريا من َّ‬
‫ومنها‪ :‬أن ً‬
‫له‪.‬‬
‫وال ريب أن هذا كفر بن الكتاب والسنَّة وإمجا األمة‪ ،‬بل هذا هو عبادة‬
‫األوثان‪ ،‬ألن السجود للقبة عبادة هلا‪ ،‬وهو من جنس عبادة النصاري للصور اليت‬
‫يف كنائسهم على صور من يعبدونه بزعمهم الباطل‪ ،‬فإهنم عبدوها‬

‫‪-93-‬‬
‫ومن هى صورته‪ ،‬وكذلك عباد القبور ملا بنوا القباب على القبور آل هبم إىل‬
‫وجل‪.‬‬
‫عز ي‬ ‫أن عبدت القباب ومن بنيت عليه من دون اهلل َّ‬
‫ومنها‪ :‬النذر للمدفون فيها‪ ،‬وفرض نصيب من املال والولد‪ ،‬وهذا هو الذي‬
‫صيبًا فَـ َقالواْ َهـ َذا لِلي ِه‬
‫ث واألَنْـع ِام نَ ِ‬‫قال اهلل فيه‪﴿ :‬وجعلواْ لِلي ِه ِممِّا َذرأَ ِمن ْ ِ‬
‫احلَْر َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ََ‬
‫بَِز ْع ِم ِه ْم َوَهـ َذا لِشَرَكآئِنَا﴾ [األنعام‪ ،]935 :‬بل هذا أبلغ فإن املشركني ما كانوا‬
‫يبيعون أوالدهم ألوثاهنم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن املدفون فيها أعظم يف قلوب عباد القبور من اهلل وأخوف‪ ،‬وهلذا‬
‫لو طلبت من أحدهم اليمني باهلل تعاىل أعطاك ما شئت من األميان كاذبًا أو‬
‫صادقًا‪ ،‬وإذا طلبت بصاحب الرتبة ل يقدم إن كان كاذبًا‪.‬‬
‫وال ريب أن عباد األوثان ما بلغ شركهم إىل هذا احلد‪ ،‬بل كانوا إذا أرادوا‬
‫تغليظ اليمني‪ ،‬غلَّظوها باهلل كما يف قصة القسامة وغريها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬سؤال امليت قضاء احلاجات‪ ،‬وتفريج الكربات‪ ،‬واإلخالص له من‬
‫دون اهلل يف أكثر احلاالت‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬التضر عند مصار األموات‪ ،‬والبكاء باهليبة واْلشو ملن فيها أعظم‬
‫مما يفعلونه مع اهلل يف املساجد والصلوات‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬تفضيلها على خري البقا وأحبها إىل اهلل‪ ،‬وهى املساجد‪ ،‬فيعتقدون‬
‫أن العبادة والعكوف فيه أفضل من العبادة والعكوف يف املساجد‪ ،‬وهذا أمر ما‬
‫بلغ إليه شرك األولني‪ ،‬فإهنم يعظمون املسجد احلرام أعظم من بيوت األصنام‬
‫يرون فضله عليها‪ ،‬وهؤالء يرون العكوف يف املشاهد أفضل من العكوف يف‬
‫املساجد‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الذي شرعه الرسول ‪ ‬يف زيارة القبور إمنا هو تذكرة اآلخرة‪ ،‬كما‬
‫بالرتحم عليه‪،‬‬ ‫قال‪« :‬زوروا القبور فإهنا تذكركم اآلخرة»‪ ،‬واإلحسان إىل املزور ُّ‬
‫والدعاء له واالستغفار‪ ،‬وسؤال العافية له‪ ،‬فيكون‬

‫‪-94-‬‬
‫فقلب عبَّاد القبور األمر‪ ،‬وعكسوا‬ ‫َ‬ ‫الزائر حمسنًا إىل نفسه وإىل امليت‪،‬‬
‫الدين‪ ،‬وجعلوا املقصود بالزيارة‪ :‬الشرك بامليت ودعاءه والدعاء به‪ ،‬وسؤاله‬
‫حوائجهم ونصرهم على األعداء وحنو ذلك‪ .‬فصاروا مسيئني إىل نفوسهم وإىل‬
‫امليت‪ ،‬ولو ل يكن إالَّ حبرمانه بركة ما شرعه اهلل من الدعاء والرتحم عليه‬
‫واالستغفار له‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬إيذاء أصحاهبا مبا يفعله عباد القبور هبا‪ ،‬فإنه يؤذيهم ما يفعلونه عند‬
‫قبورهم‪ ،‬ويكرهونه غاية الكراهة‪ ،‬كما أن املسيح ‪ ‬يكره ما يفعله النصاري‪،‬‬
‫وكذلك غريه من األنبياء واألولياء‪ ،‬يؤذيهم ما يفعله أشباه النصاري عند قبورهم‪،‬‬
‫ويوم القيامة يتربءون منهم كما قال تعاىل‪﴿ :‬ومن أَض ُّل ِممَّن ي ْدعو ِمن د ِ‬
‫ون اللَّ ِه‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ َ‬
‫َمن َّال يَ ْستَ ِجيب لَه إِ َىل يَ ِوم الْ ِقيَ َام ِة َوه ْم َعن د َعائِ ِه ْم َغافِلو َن * َوإِ َذا ح ِشَر النَّاس‬
‫ِ ِ ِِ ِ‬
‫ين﴾ [األحقاف‪.]5 ،6 :‬‬ ‫َكانوا َهل ْم أ َْع َداء َوَكانوا بعَب َادهت ْم َكاف ِر َ‬
‫ومنها‪ :‬حم َّادة اهلل ورسوله‪ ،‬ومناقضة ما شرعه فيها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬التعب العظيم مع الوزر الكبري‪ ،‬واإلمث العظيم‪.‬‬
‫وكل هذه املفاسد العظيمة وغريها مما ل يذكر‪ ،‬إمنا حدثت بسبب البناء‬
‫على القبور‪ ،‬وهلذا جتد القبور اليت ليس عليها قباب ال يأتيها أحد ال يعتادها‬
‫لشيء مما ذكر إالَّ ما شاء اهلل‪ ،‬وصاحب الشر أعلم مبا يؤول إليه هذا األمر‪،‬‬
‫فلذلك غلَّط فيه وأبدأ وأعاد‪ ،‬ولعن من فعله‪ ،‬فاْلري واهلدى يف طاعته‪ ،‬والشر‬
‫والضالل يف معصيته وخمالفته‪.‬‬
‫والعجب ممن يشاهد هذه املفاسد العظيمة عند القبور‪ ،‬مث يظن أن النيب ‪‬‬
‫إمنا هنى عن اختاذ املساجد عليها ألجل النجاسة‪ ،‬كما يظنه بعض متأخري‬
‫الفقهاء‪ ،‬ولو كان ذلك ألجل النجاسة‪ ،‬لكان ذكر اجملازر واحلشوش‪ ،‬بل ذكر‬
‫التحرز من البول والغائط أوىل‪ .‬وإمنا ذلك ألجل جناسة‬

‫‪-96-‬‬
‫الشرك‪ ،‬اليت وقعت من عبَّاد القبور‪ ،‬ملا خالفوا ذلك‪ ،‬ونبذوه وراء ظهورهم‪،‬‬
‫واشرتوا به مثنًا قليالً‪ ،‬فبئس ما يشرتون»‪( .‬املختصر املفيد‪.)245 ،255 :‬‬
‫ابعا‪ :‬يف هذا الكتاب بيان لكثري من الشبه اليت وقع فيها من ضل عن‬ ‫رً‬
‫الطريق املستقيم‪ ،‬وردها باألدلة من الكتاب والسنة وإمجا القرون املفضلة‪ .‬قال‬
‫الشيخ سليمان بن عبد اهلل‪« :‬ولكن لعباد القبور على هذا شبهات‪ ،‬ذكر‬
‫كثريا منها يف «كشف الشبهات» وحنن نذكر هنا ما ل يذكره‪.‬‬‫املصنف ً‬
‫فمن ذلك أهنم احتجوا حبديث رواه الرتمذي يف «جامعه» حيث قال‪:‬‬
‫حدثنا حممود بن غيالن‪ ،‬ثنا عثمان بن عمرو‪ ،‬ثنا شعبة عن أىب جعفر عن‬
‫عمارة بن خزمية بن ثابت‪ ،‬عن عثمان بن حنيف‪ ،‬أن رجالً ضرير البصر أتى‬
‫النيب ‪ ‬فقال‪ :‬اد اهلل أن يعافين‪ ،‬قال‪« :‬إن شئت دعوت‪ ،‬وإن شئت صربت‪،‬‬
‫فهو خري لك» قال‪ :‬فادعه‪ ،‬فأمره أن يتوضأ‪ ،‬وحيسن وضوءه‪ ،‬ويدعو هبذا‬
‫الدعاء‪« :‬اللهم إي أسألك‪ ،‬وأتوجه إليك بنبيك حممد نيب الرمحة‪ ،‬إي توجهت‬
‫يف»‪ ،‬قال‪ :‬هذا حديث حسن‬ ‫به إىل ريب يف حاجيت هذه لتقضى‪ ،‬اللهم فشفِّعه َّ‬
‫صحيح غريب‪ ،‬ال نعرفه إالَّ من رواية أىب جعفر‪ ،‬وهو غري اْلطمي‪ ،‬هكذا رواه‬
‫الرتمذي‪ ،‬ورواه النسائي‪ ،‬وابن شاهني‪ ،‬والبيهقي كذلك‪ ،‬ويف بعض الروايات «يا‬
‫حممد إي أتوجه» إىل آخره‪.‬‬
‫وهذه اللفظة هى اليت تعلق هبا املشركون‪ ،‬وليست عند هؤالء األئمة‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫فلو كان دعاء غري اهلل شرًكا ل يعلم النيب ‪ ‬األعمى هذا الدعاء الذي فيه نداء‬
‫غري اهلل‪.‬‬
‫والجواب من وجوه‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن هذا احلديث من أصله‪ ،‬وإن صححه الرتمذي‪ ،‬فإن يف ثبوته‬
‫نظرا؛ ألن الرتمذي يتساهل يف التصحيح كاحلاكم‪ ،‬لكـن الرتمذي أحـسن‬
‫ً‬

‫‪-95-‬‬
‫نقدا‪ ،‬كما ن ي على ذلك األئمة‪ ،‬ووجه عدم ثبوته أنه قد ن ‪ :‬أنا أبا جعفر‬ ‫ً‬
‫الذي عليه مدار هذا احلديث هو غري اْلطمي‪ ،‬وإذا كان غريه‪ ،‬فهو ال يعرف‪،‬‬
‫ولعل عمدة الرتمذي يف تصحيحه أن شعبة ال يروي إالَّ عن ثقة‪ ،‬وهذا فيه نظر‪،‬‬
‫فقد قال عاصم بن علي‪ :‬مسعت شعبة يقول‪ :‬لو ل أحدثكم إالَّ عن ثقة ل‬
‫أحدثكم إالَّ عن ثالثة‪ ،‬ويف نسخة عن ثالثني‪ ،‬ذكره احلافظ العراقي‪ ،‬وهذا‬
‫اعرتاف منه بأنه يروي عن الثقة وغريه فينظر يف حاله‪ ،‬ويتوقف االحتجاج به‬
‫على ثبوت صحته‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه يف غري حمل النزا ‪ ،‬فأين طلب األعمىي من النيب ‪ ‬أن يدعو له‪،‬‬
‫وتوجهه بدعائه مع حضوره‪ ،‬من دعاء األموات والسجود هلم ولقبورهم‪ ،‬والتوكل‬
‫عليهم‪ ،‬وااللتجاء إليهم يف الشدائد والنذر والذبح هلم‪ ،‬وخطاهبم باحلوائج من‬
‫األمكنة البعيدة‪ :‬يا سيدي يا موالي افعل يب كذا؟!‬
‫فحديث األعمى شيء‪ ،‬ودعاء غري اهلل تعاىل واالستغاثة به شيء آخر‪،‬‬
‫فليس يف حديث األعمى شيء غري أنه طلب من النيب ‪ ‬أن يدعو له‪ ،‬ويشفع‬
‫يف» فعلم‬
‫له‪ ،‬فهو توسل بدعائه وشفاعته‪ ،‬وهلذا قال يف آخره‪« :‬اللهم فشفعه َّ‬
‫أنه شفع له‪.‬‬
‫ويف رواية أنه طلب من النيب ‪ ‬أن يدعو له‪ ،‬فدل احلديث على أنه ‪ ‬شفع‬
‫له بدعائه‪ ،‬وأن النيب ‪ ‬أمره هو أن يدعو اهلل ويسأله قبول شفاعته‪ ،‬فهذا من‬
‫أعظم األدلة على أن دعاء غري اهلل شرك‪ ،‬ألن النيب ‪ ‬أمره أن يسأل قبول‬
‫شفاعته‪ ،‬فدل على أن النيب ‪ ‬ال يدعى‪ ،‬وألنه ‪ ‬ل يقدر على شفائه إالَّ‬
‫بدعاء اهلل له‪.‬‬
‫فأين هذا من تلك الطوام؟‪ ،‬والكالم إمنا هو يف سؤال الغائب‪ ،‬أو سؤال‬
‫شخصا خياطبك فتسأله أن‬
‫ً‬ ‫املخلوق فيما ال يقـدر عليه إالَّ اهلل‪ ،‬أما أن تأيت‬

‫‪-94-‬‬
‫يدعو لك‪ ،‬فال إنكار يف ذلك‪ ،‬على ما يف حديث األعمى‪ ،‬فاحلديث‬
‫صحيحا أو ال‪ ،‬وسواء ثبت قوله فيه‪( :‬يا حممد) أو ال‪ ،‬ال يدل على‬ ‫ً‬ ‫سواء كان‬
‫سؤال الغائب‪ ،‬وال على سؤال املخلوق فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل بوجه من وجوه‬
‫الدالالت‪ .‬ومن ادعى ذلك‪ ،‬فهو مفرت على اهلل وعلى رسوله ‪ ،‬ألنه إن كان‬
‫سأل النيب ‪ ‬نفسه‪ ،‬فهو ل يسأل منه إالَّ ما يقدر عليه‪ ،‬وهو أن يدعو له‪،‬‬
‫وهذا ال إنكار فيه وإن كان توجه به من غري سؤال منه نفسه‪ ،‬فهو ل يسأل‬
‫متوجها بدعائه‪ ،‬كما هو ن أول‬ ‫ً‬ ‫منه‪ ،‬وإمنا سأل من اهلل به‪ ،‬سواء كان‬
‫متوجها بذاته على قول ضعيف‪.‬‬ ‫ً‬ ‫احلديث وهو الصحيح‪ ،‬أو كان‬
‫(التوجه إلى الخالق بذوات المخلوقين بدعة منكرة‪ ،‬وأجنبية عن‬
‫الشريعة وفهم حامليها)‪.‬‬
‫فإن التوجه بذوات املخلوقني‪ ،‬واإلقسام هبم على اهلل بدعة منكرة‪ ،‬ل تأت‬
‫عن النيب ‪ ،‬وال عن أحد من أصحابه‪ ،‬والتابعني هلم بإحسان‪ ،‬وال األئمة‬
‫األربعة وحنوهم من أئمة الدين‪.‬‬
‫قال أبو حنيفة‪ :‬ال ينبغي ألحد أن يدعو اهلل إالَّ به‪ ،‬وقال أبو يوسف‪ :‬أكره‬
‫حبق فالن وحبق أنبيائك ورسلك‪ ،‬وحبق البيت‪ ،‬واملشعر احلرام‪ .‬وقال القدوري‪:‬‬
‫املسألة حبق املخلوق ال جتوز‪ ،‬فال يقول‪ :‬أسألك بفالن‪ ،‬أو مبالئكتك‪ ،‬أو‬
‫أنبيائك‪ ،‬وحنو ذلك‪ ،‬ألنه ال حق للمخلوق على اْلالق‪ ،‬واختاره العز بن عبد‬
‫السالم‪ ،‬إالَّ يف حق النيب ‪ ‬خاصة إن ثبت احلديث‪ ،‬يشري إىل حديث األعمي‪،‬‬
‫وقد تقدم أنه على تقدير ثبوته ليس فيه إالَّ أنه توسل بدعائه ال بذاته»‬
‫(املختصر املفيد‪ :‬ص‪.)241 – 245‬‬
‫خامسا‪ :‬أن اإلكثار من مدارسة هذه القضايا ومناقشتها ودعوة الناس إليها‬‫ا‬
‫يثمر أمرين مهمني مها‪:‬‬
‫األمر األول‪ :‬قيام جمتمع متمسك باإلسالم الصحيح على ضوء الكتاب‬
‫والسنة‪.‬‬

‫‪-91-‬‬
‫قال حممد كرد على رمحه اهلل تعاىل يف بيان الثمرة اليت نتجت من الدعوة‬
‫اليت قام هبا الشيخ حممد بن عبد الوهاب‪« :‬وما ابن عبد الوهاب إال داعية‬
‫هداهم من الضالل وساقهم إىل الدين السمح‪ ،‬وإذا بدت شدة من بعضهم‬
‫فهى ناشئة من نشأة البادية‪ ،‬وقلما رأينا شعب من أهل اإلسالم يغلب عليه‬
‫التدين والصدق واإلخالص مثل هؤالء القوم‪ ،‬وقد اختربنا عامتهم وخاصتهم‬
‫سنني طويلة فلم نرهم حادوا عن اإلسالم قيد غلوه»‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال طه حسني‪( :‬قلت‪ :‬إن هذا املذهب اجلديد قدمي‪ ،‬والواقع أنه جديد‬
‫بالنسبة إىل املعاصرين ولكنه قدمي يف حقيقة األمر‪ ،‬ألنه ليس إال الدعوة القوية‬
‫إىل اإلسالم اْلال النقي املطهر من شوائب الشرك والوثنية‪ ،‬هو الدعوة إىل‬
‫ملغيا كل واسطة بني اهلل وبني‬
‫خالصا هلل وحده ً‬‫ً‬ ‫اإلسالم كما جاء به النيب‬
‫الناس‪ ،‬هو إحياء لإلسالم العريب وتطهري له مما أصابه من نتائج اجلهل ومن‬
‫نتائج االختالط بغري العرب فقد أنكر حممد بن عبد الوهاب على أهل جند ما‬
‫كانوا قد عادوا إليه من جاهلية يف العقيدة والسرية‪ ،‬كانوا يعظمون القبور‪،‬‬
‫ويتخذون بعض املوتى شفعاء عند اهلل‪ ،‬ويعظمون األشجار واألحجار‪ ،‬ويرون‬
‫أن هلا من القوة ما ينفع ويضر‪ ،‬وكانوا قد عادوا يف سريهتم إىل حياة العرب‬
‫اجلاهلني‪ ،‬فعاشوا من الغزو واحلرب ونسوا الزكاة والصالة‪ ،‬وأصبح الدين امسًا ال‬
‫مسمى له‪ ،‬فأراد حممد بن عبد الوهاب أن جيعل من هؤالء األعراب اجلفاة‬
‫حقا على حنو ما فعل النيب بأهل احلجاز منذ أكثر من‬ ‫قوما مسلمني ً‬ ‫املشركني ً‬
‫أحد عشر قرنًا‪.‬‬
‫ومن الغريب أن ظهور هذا املذهـب اجلديد يف جنـد قد أحـاطت به‬

‫‪-91-‬‬
‫ظروف تذكر بظهور اإلسالم يف احلجاز فقد دعا صاحبه إليه باللني أول األمر‬
‫فتبعه بعض الناس‪ ،‬مث أظهر دعوته فأصابه االضطراب وتعرض للخطر مث أخذ‬
‫يعرض نفسه على األمراء ورؤساء العشائر كما عرض نفسه على القبائل مث‬
‫هاجر إىل الدرعية‪ ،‬وبايعه أهلها على النصر‪ ،‬كما هاجر النيب إىل املدينة ولكن‬
‫ابن عبد الوهاب ل يرد أن يشتغل بأمور الدنيا فرتك السياسة البن سعود واشتغل‬
‫هو بالعلم والدين‪ ،‬واختذ السياسة وأصحاهبا أداة لدعوته فلما م له هذا‪ ،‬أخذ‬
‫يدعو الناس إىل مذهبه فمن أجاب منهم قبل منه ومن امتنع عليه أغرى به‬
‫السيف وشب عليه احلرب‪.‬‬
‫وقد انقاد أهل جند هلذا املذهب وأخلصوا له وضحوا حبياهتم يف سبيله على‬
‫حنو ما انقاد العرب للنيب وهاجروا معه‪.‬‬
‫«ولوال أن الرتك واملصريني اجتمعوا على حرب هذا املذهب وحاربوه يف داره‬
‫جدا أن يوحد هذا‬ ‫بقوى وأسلحة ال عهد ألهل البادية هبا لكان من املرجو ً‬
‫املذهب كله كلمة العرب يف القرن الثاي عشر والثالث عشر للهجرة كما وحد‬
‫ظهور اإلسالم كلمتهم يف القرن األول ولكن الذي يعنينا من هذا املذهب أثره‬
‫خطريا من نواح‬
‫يف احلياة العقلية واألدبية عند العرب وقد كان هذا األثر عظي ًما ً‬
‫خمتلفة‪ ،‬فهو أيقظ النفوس العربية ووضع أمامها مثالً أعلى أحبته وجاهدت يف‬
‫مجيعا وأهل العراق‬
‫سبيله بالسيف والقلم والسنان‪ ،‬وهو قد لفت املسلمني ً‬
‫والشام ومصر بنو خاص إىل جزيرة العرب»‪ .‬اهـ‪( .‬ينظر كتاب‪ :‬حممد بن عبد‬
‫الوهاب «ص‪ »932 – 935‬ألمحد عبد الغفور عطار)‪.‬‬
‫وهذا الذي نبه عليه حممد كرد على وطه حسني قد نبه الشيخ حممد بن‬
‫عبد الوهاب بقوله‪( :‬ولكنن بينت للناس إخالص الدين هلل‪ ،‬وهنيتهم عن دعوة‬
‫األحياء واألموات من الصاحلني وغريهم‪ ،‬وعن إشراكهم فيمـا يعبـد اهلل به‬

‫‪-25-‬‬
‫من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغري ذلك مما هو حق اهلل الذي ال يشركه فيه‬
‫أحد‪ ،‬ال ملك مقرب وال نيب مرسل‪ ،‬وهو الذي دعت إليه الرسل من أوهلم إىل‬
‫آخرهم‪ ،‬وهو الذي عليه أهل السنة واجلماعة‪ ،‬وبينت هلم أن أول من أدخل‬
‫الشرك يف هذه األمة هم الرافضة الذين يدعون عليًا وغريه‪ ،‬ويطلبون منهم قضاء‬
‫احلاجات وتفريج الكربات‪ ،‬وأنا صاحب منصب يف قرييت مسمو الكلمة‪،‬‬
‫أيضا ألزمت من حتت‬‫فأنكر هذا بعض الرؤساء لكونه عادات نشئوا عليها‪ ،‬و ً‬
‫يدي بإقام الصالة وإيتاء الزكاة وغري ذلك من فرائض اهلل‪ ،‬وهنيتهم عن الربا‬
‫وشرب املسكر وأنوا املنكرات‪ .»...‬اهـ‪( .‬الدرر السنية‪.)15/9 :‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل‪( :‬فنحن‬
‫أقمنا الفرائض والشرائع واحلدود والتعزيرات‪ ،‬ونصبنا القضاة وأمرنا باملعروف وهنينا‬
‫عن املنكرات ونصبنا علم اجلهاد على أهل الشرك والعناد فلله احلمد واملنة‪.‬‬
‫(الدرر السنية‪.)94/4 :‬‬
‫واألمر الثاي‪ :‬نتج من هذا اجملتمع املتمسك بالدين الصحيح دولة حتكم‬
‫الكتاب والسنة وتدعو إىل ذلك‪ ،‬كما حصل يف عهد الشيخ حممد بن عبد‬
‫الوهاب رمحه اهلل‪.‬‬
‫وقال عبد العزيز بن حممد بن سعود‪( :‬ونأمر مجيع رعايانا باتبا كتاب اهلل‬
‫وسنة رسوله‪ ،‬وإقام الصالة يف أوقاهتا واحملافظة عليها‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وصوم شهر‬
‫رمضان وحج البيت من استطا إليه سبيال‪ ،‬ونأمر جبميع ما أمر اهلل به ورسوله‬
‫من العدل وإنصاف الضعيف من القوي‪ ،‬ووفاء املكاييل واملوازين‪ ،‬وإقامة حدود‬
‫مجيع‬ ‫عن‬ ‫وننهى‬ ‫والوضيع‬ ‫الشريف‬ ‫على‬ ‫اهلل‬
‫ما هنى عنه اهلل ورسوله من البد واملنكرات‪ ،‬مثل الزنا والسرقة وأكل أموال‬

‫‪-29-‬‬
‫بعضا ونقاتل‬
‫الناس بالباطل وأكل الربا وأكل مل اليتيم وظلم الناس بعضهم ً‬
‫لقبول فرائض اهلل اليت اجتمعت عليها األمة‪ .‬فمن فعل ما فرض اهلل عليه فهو‬
‫أخونا املسلم وإن ل يعرفنا ونعرفه‪ .»...‬اهـ‪.‬‬
‫وقد قام الشيخ مدحت وفقه اهلل جبمع كالم أهل العلم على هذه القضايا‬
‫واملسائل من الدرر السنية وجمموعة الرسائل واملسائل وجمموعة التوحيد وشروح‬
‫التوحيد وفتاوى اللجنة الدائمة وغريها من املصادر‪ .‬وقد رتب كالم أهل العلم‬
‫وألف بينه‪ ،‬وذكر أبوابًا تزيد يف توضيح كالم أهل العلم على هذه القضايا‪ ،‬كما‬
‫أنه قدم مبقدمات للقضايا اليت م عرضها يف هذا الكتاب‪ ،‬مع ختم بعض‬
‫خريا وبارك فيه‪.‬‬
‫األبواب مبلخ ملا تقدم‪ ،‬فجزاه اهلل ً‬

‫كتبه‬
‫عبد اهلل بن عبد الرحمن السعد‬

‫‪-22-‬‬
‫مقدمة المختصر‬

‫اط ِل فَـيَ ْد َمغه فَِإ َذا ه َو َز ِاهق‬


‫احل ِّق علَى الْب ِ‬‫ِ ِ‬
‫احلمد هلل القائل‪﴿ :‬بَ ْل نَـ ْقذف ب َْ َ َ‬
‫الزبَد‬
‫سن‪﴿ :‬فَأ ََّما َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫َولَكم الْ َويْل ممَّا تَصفو َن﴾ [األنبياء‪ ،]91 :‬واحلمد هلل الذي ي‬
‫ض ِرب الليه‬ ‫فَـي ْذهب ج َفاء وأ ََّما ما ي َنفع النَّاس فَـيمكث ِيف األَر ِ ِ‬
‫ك يَ ْ‬ ‫ض َك َذل َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ني‬
‫ين َعلَى الْم ْؤمن َ‬ ‫األ َْمثَ َال﴾ [الرعد‪ ،]94 :‬واحلمد هلل الذي ل جيعل‪﴿ :‬لْل َكاف ِر َ‬
‫َسبِيالً﴾ [النساء‪ ،]949 :‬واحلمد هلل الذي أوحى لنبيه ‪ ‬بأنه‪« :‬ال يزال ناس‬
‫(‪)1‬‬
‫من أميت ظاهرين حىت يأيت أمر اهلل‪ ،‬وهم ظاهرون» ‪ ،‬واحلمد هلل الذي قضى‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫«اْليل معقود يف نواصيها اْلري إىل يوم القيامة‪ :‬األجر‪ ،‬واملغنم» ‪ ،‬واحلمد هلل‬
‫(‪)3‬‬
‫الذي غرس يف أوليائه معى‪« :‬إن سياحة أميت اجلهاد يف سبيل اهلل عز وجل»‬
‫‪ ،‬واحلمد هلل‪« :‬الذي جعل يف كل زمان فرتة من الرسل‪ ،‬بقايا من أهل العلم‪،‬‬
‫يدعون من ضل إىل اهلدى‪ ،‬ويصربون منهم على األذى‪ ،‬حييون بكتاب اهلل‬
‫املوتى‪ ،‬ويبصرونه بنور اهلل أهل العمى فكم من قتيل إلبليس أحيوه‪ ،‬وكم ضال‬
‫الناس‪،‬‬ ‫على‬ ‫أثرهم‬ ‫أحسن‬ ‫فما‬ ‫هدوه‬ ‫قد‬ ‫تائه‬
‫وأقبح أثر الناس عليهم‪ ،‬ينفون عن كتاب اهلل‪ :‬حتريف الغالني‪ ،‬وانتحال املبطلني‪،‬‬
‫وتأويل اجلاهلني‪ ،‬الذين عقدوا‪ :‬ألوية البد ‪ ،‬وأطلقوا أعقال الفتنة‪ ،‬فهم خمتلفون‬
‫يف الكتاب‪ ،‬خمالفون للكتاب‪ ،‬متفقون على خمـالفة الكـتاب‪،‬‬

‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ ،‬من حديث املغرية بن شعبة ‪.‬‬


‫(‪ )2‬متفق عليه‪ ،‬من حديث عروة البارقي ‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود بإسناد جيد‪ ،‬من حديث أيب أمامة ‪ ،‬انظر رياض الصاحلني‪ ،‬كتاب اجلهاد‪.‬‬
‫يقولون على اهلل‪ ،‬ويف كتاب اهلل بغري علم‪ ،‬يتكلمون باملتشابه من الكالم‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وخيدعون جهال الناس مبا يشبهون عليهم فنعوذ باهلل من فنت املضلني» ‪.‬‬
‫كثريا‪ ،‬مبارًكا فيه‪ ،‬كما حيب ربنا ويرضي‪ ،‬والصالة‬
‫محدا‪ ،‬طيبًا‪ً ،‬‬
‫فاحلمد هلل‪ً ،‬‬
‫والسالم على املبعوث رمحة للعاملني‪ ،‬وآله وصحبه‪ ،‬ومن تبعهم بإحسان إىل يوم‬
‫الدين‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫فلله الفضل واملنة‪ ،‬وأسأله سبحانه الربكة واملثوبة‪ ،‬فبعد أن أخذ كتاب‬
‫«فتاوى األئمة النجدية حول قضايا األمة املصريية» دوره ومكانه يف املكتبة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وبعد أن حقق املراد منه‪ ،‬من إظهار مشولية دعوة اإلمام اجملدد‪ :‬حممد‬
‫بن عبد الوهاب‪ ،‬مع القيام بعرضها كمنهج متكامل‪ ،‬وتسليط الضوء على كافة‬
‫أصوهلا وقواعدها‪ ،‬لئال يتمكن أعداء الدعوة املباركة‪ ،‬من تنفيذ خمطط اختزاهلا يف‬
‫صورة مطموسة املعال‪ ،‬ال تستطيع هبا منازلة أعداء امللة‪ ،‬وال جماهدة خصوم‬
‫األمة وبعد أن كثر ‪ -‬بفضل اهلل الواحد املنان ‪ -‬الثناء على هذا الكتاب‪ ،‬من‬
‫كثري من املشايخ والعلماء‪ ،‬وطلبة العلم‪ ،‬رأيت‪ ،‬ورأى كثري من الناصحني ‪-‬‬
‫لعل أن تكون هذه‬ ‫خريا ‪ -‬ضرورة القيام بعمل خمتصر للكتاب‪ ،‬ي‬ ‫جزاهم اهلل ً‬
‫اْلطوة سببًا يف اتسا رقعة املستفيدين من هذا الرتاث العظيم‪ ،‬واجلامعة الكربى‪،‬‬
‫اليت ما زالت قادرة على ختريج أجيال من الفرقة الناجية‪ ،‬والطائفة املنصورة‪ ،‬اليت‬
‫هى حبق وقود الصرا الدائم املشتعل‪ ،‬بني أولياء الرمحن‪ ،‬وأولياء الشيطان‪.‬‬

‫عملي في هذا المختصر‪:‬‬


‫أبقيت على مجيع األبواب‪ ،‬والفصول كاملة‪ ،‬وعامة مباحث الكـتاب إال‬

‫(‪ )1‬الرد علي اجلهمية‪ )95 – 96( :‬إلمام أهل السنة‪ ،‬اإلمام أمحد بن حنبل‪ ،‬حتقيق د‪ /‬أمحد بكري‬
‫حممود‪ ،‬دار قتيبة (بريوت ‪ -‬دمشق) الطبعة األويل ‪9499‬هـ ‪9115 -‬م‪.‬‬

‫‪-6-‬‬
‫جدا‪ ،‬مث‬
‫ما شعرت منه تكر ًارا‪ ،‬ال يفيد املراد من االختصار‪ ،‬وهو قليل ً‬
‫قمت بانتقاء أدق النقول الدالة على املراد من املسائل اليت جاءت يف عناوين‬
‫املباحث‪.‬‬
‫ولقد حذفت من الكتاب امللخ لكل فصل‪ ،‬املعنون بـ «بكلمات منتقاة‬
‫دقيقا لكل‬
‫تلخيصا ً‬
‫ً‬ ‫مضيئة»‪ ،‬وكذلك اهلوامش اجلانبية‪ ،‬ووضعت بدالً منهما‪:‬‬
‫باب‪ ،‬يتمثل يف أهم النقاط الرئيسة‪ ،‬اليت يدور حوهلا‪ ،‬ويتمحور عليها‪.‬‬
‫أخريا أسأل اهلل سبحانه أن جيعل كل أعمالنا صاحلة‪ ،‬وأن جيعلها له‬ ‫و ً‬
‫خالصة‪ ،‬وأن ال جيعل فيها ألحد من دونه من شيء‪.‬‬
‫أخوكم أبو يوسف‬
‫مدحت بن الحسن آل فراج‬
‫ص‪.‬ب‪ 2167‬الرياض ‪66327‬‬
‫‪Abo_Yosef2003@hotmail.com‬‬
‫جوال‪6061742150 :‬‬

‫‪-5-‬‬
-4-
‫المـقـدمـة‬

‫إن احلمد هلل‪ ،‬حنمده ونستعينه‪ ،‬ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا‪،‬‬
‫وسيِّئات أعمالنا‪ ،‬من ْيه ِده اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪ ،‬وأشهد‬
‫حممدا عبده ورسوله ‪.‬‬ ‫أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن ً‬
‫ين َآمنواْ اتَّـقواْ الليهَ َح َّق تـ َقاتِِه َوالَ ََتوت َّن إِالَّ َوأَنتم ُّم ْسلِمو َن﴾‬ ‫َّ ِ‬
‫﴿يَا أَيـُّ َها الذ َ‬
‫[آل عمران‪﴿ .]952 :‬يَا أَيـُّ َها النَّاس اتـَّقواْ َربَّكم الَّ ِذي َخلَ َقكم ِّمن نـَّ ْفس‬
‫ث ِمْنـه َما ِر َجاالً َكثِ ًريا َونِ َساء َواتـَّقواْ الليهَ الَّ ِذي‬‫اح َدة َو َخلَ َق ِمْنـ َها َزْو َج َها َوبَ َّ‬ ‫وِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫تَ َساءلو َن به َواأل َْر َح َام إ َّن الليهَ َكا َن َعلَْيك ْم َرقيبًا﴾ [النساء‪﴿ .]9 :‬يَا أَيـُّ َها الذ َ‬
‫ين‬
‫صلِ ْح لَك ْم أ َْع َمالَك ْم َويَـ ْغ ِف ْر لَك ْم ذنوبَك ْم‬
‫يدا * ي ْ‬
‫ِ‬
‫َآمنوا اتـَّقوا اللَّ َه َوقولوا قَـ ْوًال َسد ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما﴾ [األحزاب‪.]49 ،45 :‬‬ ‫َوَمن يط ْع اللَّهَ َوَرسولَه فَـ َق ْد فَ َاز فَـ ْوًزا َعظ ً‬
‫أما بعد‪ :‬لقد أظلتنا سحابة الفنت‪ ،‬وأمواج احملن‪ ،‬وظلمات البالء‪ ،‬وطالت‬
‫علينا ليايل الفساد‪ ،‬حىت عاد الدين غريبًا كما بدأ‪ ،‬وخرجت فئام ومجاعات من‬
‫اجا‪.‬‬
‫اجا كما دخلوا فيهما من قبل أفو ً‬
‫الناس عن جوهره وحقيقته أفو ً‬
‫ولقد تكالبت علينا األعداء على اختالف عقائدهم ومناهلهم وتوجهاهتم‪،‬‬
‫عما بينهم‬
‫صفحا من الذكر‪َّ ،‬‬
‫وصالوا وجالوا بالفساد خالل ديارنا‪ ،‬بعدما ضربوا ً‬
‫وحتزبات‪ ،‬ريثما يتم هلم القضاء على اإلسالم وأهله‪.‬‬
‫من مباينات واختالفات ُّ‬
‫قوسا واحدة‪ ،‬بيد واحدة‪ ،‬حيركها قلب واحد‪ ،‬ليضربوا هبا‬‫وأمسك احلاقدون ً‬
‫سهام الغدر واملكر واْلبث والدهاء‪ .‬ولقد صرخ شيطان الكفر‬
‫صوبوا سهامكم جتاه القلوب والعقول واملراكز احلساسة حىت‬
‫يف شيعته قائالً‪ِّ :‬‬

‫‪-1-‬‬
‫نصيبهم بالشلل التام‪ ،‬والغيبوبة القاتلة لئال تكون هلم رجعة‪ ،‬وينقطع نسلهم من‬
‫وجوها ممتلئ بالسموم‪،‬‬
‫الوجود‪ .‬وأرض املعركة مشتعلة‪ ،‬ومساؤها ملبَّدة بالغيوم‪َّ ،‬‬
‫وطيورها تدعو بالويل والثبور‪ ،‬ودخان الغدر يفوح‪ ،‬ورائحة اْليانة قد أزكمت‬
‫األنوف‪.‬‬
‫وفصيل الكفر قد جاء مرصوص الصفوف‪ ،‬مرتجلني بعدما قاموا بعقر‬
‫خيوهلم‪ ،‬وكسر أغمدة سيوفهم‪ ،‬ونصب سهامهم‪ ،‬وتصويب رماحهم‪،‬‬
‫مصطحبني معهم نساءهم وذراريهم‪ ،‬حىت يستحيل الفرار‪ ،‬وي ْدبِر اهلروب؛‬
‫وعزموا على احلرب اليت ال تعرف إالَّ الدمار واْلراب واالستئصال دون العمار‬
‫والبناء والوجود‪.‬‬
‫بعضا‪ ،‬وقد سرحوا‬ ‫وأما فصيل املسلمني فقد جاء بصفوف يواجه بعضها ً‬
‫صوبوا سهامهم ورماحهم‪ ،‬لكن‬ ‫خيوهلم‪ ،‬وأمخدوا سيوفهم يف غمادها‪ ،‬إالَّ أهنم َّ‬
‫جتاه العلماء الربانيني‪ ،‬والدعاة املخلصني‪ ،‬واجملاهدين املناضلني‪ ،...‬منشدين‬
‫بذلك السالم واألمان من عدو لدود ال يعرف إالَّ الكيد‪ ،‬وال يرضى بغري الكفر‪.‬‬
‫ووسط هذا الزخم الشديد واْلضم اهلائل من الفنت املائجة‪ ،‬أصبح حال‬
‫أمتنا املرير كصيد مثني بني مجاعة من النسور الضارية‪ ،‬كل واحد منها ينهش منه‬
‫كل ما َّلذ له وطاب‪ ،‬وقت ما شاء‪ ،‬وميت ما أراد‪.‬‬
‫موجا‪ ،‬وميور‬
‫وإزاء هذا العداء السافر جند حال أمتنا األليم‪ ،‬ميوج بصراعاته ً‬
‫مورا‪ .‬ويف كل يوم‪ ،‬أو باألحرى يف كل ساعة‪ ،‬تأيت بليَّة عظيمة‪،‬‬ ‫بتجزباته ً‬
‫وداهية فظيعة‪ ،‬وتتواىل علينا الفنت العمياء الصماء البكماء‪ ،‬اليت يرقق بعضها‬
‫بعضا‪ ،‬حىت إذا رأى املؤمن إحداها قال‪ :‬هذه مهلكيت‪ ،‬فإذا أدبرت وجاءت‬ ‫ً‬
‫األخري قال‪ :‬هذه هذه‪...‬‬
‫اللَّ َّ‬
‫هم إنا نشكو إليك‪ :‬ضعفنا وقلة حيـلتنا‪ ،‬وهواننا على الناس‪ ،‬ونشكو‬

‫‪-1-‬‬
‫إليك ظلم الطواغيت‪ ،‬وزندقة املنافقني‪ ،‬وكل لسان مسموم‪ ،‬وقلم مأجور‬
‫ونشكو إليك كل حمرف ومبدل‪ ،‬وكل ساكت عن احلق‪ ،‬أو متكلم بالباطل‪،‬‬
‫حىت ميَّرر هبم كيد األعداء وخمططاهتم على أمتنا اإلسالمية‪ ،‬لتظل ضاربة يف‬
‫غفلتها‪ ،‬وتغط يف نومها‪ ،‬وتستمر مغيبة عن دورها وهدفها وعلة وجودها‪.‬‬
‫حال طوائف األمة الحالي‪:‬‬
‫وإن تنظر جتد عجبًا ال ينقضي من حال معظم فصائل األمة جتاه هذا الكيد‬
‫الشرس‪ ،‬الذي ال يرقب أصحابه فينا إالً وال ذمة‪ ،‬بل وال يعرفون إالَّ طمس‬
‫احلقائق‪ ،‬وتلبيس املفاهيم‪ ،‬واختالط األوراق‪ ،‬اليت من شأهنا أن جتعل املسلم‬
‫دوما يف حرية من أمره‪ ،‬غري حمدد املعال واحلدود واهلوية‪ ،‬هكذا أرادوا‪.‬‬
‫ً‬
‫فنجد‪ :‬طائفة من األمة قد جعلت أصابعها يف آذاهنا‪ ،‬واستغشت ثياهبا‪ ،‬غري‬
‫آهبة بشيء من الكيد والعدوان‪.‬‬
‫ومنها‪( :‬طائفة) رفعت لواء التلبيس والتحريف تارًة‪ ،‬والتبجح بالباطل تارًة‪،‬‬
‫والسكوت املزري املشني عن إبطاله أخرى‪ ،‬كل ذلك لتبقىي األمة ضاربة يف‬
‫الظلمات بال دليل‪ ،‬وشاردة يف جنبات الوجود بال زمام‪.‬‬
‫ومنها‪( :‬طائفة) غرقت يف أهنار البد ‪ ،‬وحبار اْلرافات واملخالفات العقدية‬
‫والعملية‪ ،‬تارًة لثقل تكاليف املشرو ‪ ،‬وأحيانًا حلب التجديد تروحيًا على النفوس‪،‬‬
‫كثريا بسبب جهامة اإللف‪ ،‬والعادة‪ ،‬وتقديس دين األباء اْلارج عن سلطان‬ ‫و ً‬
‫العلم‪ ،‬ومرجعية الوحي‪.‬‬
‫ومنها‪( :‬طائفة) سبحت يف حبار الشهوات‪ ،‬وغاصت يف وحل اهلوى‪ ،‬وكأن‬
‫الدين شأن غريهم‪.‬‬
‫تفصل ثوبًا ألصول السنَّة واملنهجية السلفية‪،‬‬‫ومنها‪( :‬طائفة) أرادت أن ِّ‬
‫جاعلة من أهم وأدق أوصافه أن حيقق ألصحابه تلبية نداء الفطرة‪ ،‬وأهنم حبق‬

‫‪-95-‬‬
‫محاة الدين دون غريهم‪ ،‬ولكن بشرط أن ال يدخلهم يف حلبة الصرا‬
‫احلقيقي‪ ،‬بل يف هامشه‪ ،‬واألوىل أن خيرجهم عن دائرته وحدوده ومعامله بالكلية‪.‬‬
‫عهدا على االلتزام بأي شعرية من‬ ‫ومنها‪( :‬طائفة) عقدت بينها وبني أنفسها ً‬
‫شعائر اإلسالم‪ ،‬لكن بشرط ‪ -‬غري مقروء وال مكتوب وال مسمو ‪ -‬أن ال‬
‫شديدا لتحري احلالل‪،‬‬ ‫يرتتب عليه أي حرج يف دنياها‪ ،‬وقد جتد لديها توخيًا ً‬
‫واجتناب احلرام‪ ،‬واملداومة املستمرة على عبادة اهلل‪ ،‬لكن املهم واملراد أن تبقى‬
‫منزوعة املواقف‪ ،‬ال والء‪ ،‬وال براء‪ ،‬ال سيما يف األمور اليت تنبن عليها التكاليف‬
‫العظام‪ ،‬وتكون حبق مفرق طريق بني احلق والطغيان‪.‬‬
‫ومنها‪( :‬طائفة) أخذت على عاتقها نشر فكر اإلرجاء اْلبيث‪ ،‬وبث آثاره‬
‫دوما أجياالً ال تعرف إالَّ التميع‪ ،‬وسياسة‬ ‫خيرج ً‬ ‫السيئة‪ ،‬الذي من شأنه أن ِّ‬
‫الرتقيع واالستسالم والذلة واملهانة‪ ،‬مع حماولة تذويب الفواصل واحلدود بني احلق‬
‫والباطل‪ ،‬من أجل التقابل بينهما يف منتصف الطريق‪ ،‬وهيهات هيهات ملا‬
‫يريدون ويؤملون‪.‬‬
‫رد الفعل؛‬‫ومنها‪( :‬طائفة) ل تتنب سياسة الفعل‪ ،‬ولكن تبنَّت سياسة ي‬
‫فقامت متعطشة لسفك الدماء‪ ،‬وانتهاك األعراض‪ ،‬وترويع اآلمنني‪ ،‬وأخذت‬
‫الردة والتكفري والتبديع والتفسيق‪،‬‬‫سلطانًا من تلقاء أنفسها جتري به أحكام‪َّ :‬‬
‫لكل مارق عن هديها أو خارج عن إطار مجاعتها‪ ،‬وقدمت للعال كله كافة‬
‫افرتاءاهتا على أهنا أصل اإلسالم‪ ،‬وأساس العقيدة الصحيحة املنضبطة‪ ،‬الذي ال‬
‫قدما على سننها هكذا زعموا!‬ ‫يسع طالب احلق إالَّ اتباعها‪ ،‬واملضي ً‬
‫ومنها‪( :‬طائفة) أعطت والءها الكامل للنظام القائم ولرايته املرفوعة‪ ،‬أيًا‬
‫كانت وجهتها املعلنة‪ ،‬سواءً كانت راية إسالمية أو علمانية‪ ،‬أو قومية‪ ،‬أو‬
‫خالصا للراية‬
‫بعثية‪ ،‬أو راية خملطة‪ ...‬املهم لديها أن الوالء يعطي ً‬

‫‪-99-‬‬
‫املرفوعة‪ ،‬وكذلك قامت بإعالن الرباءة من كل الرايات اليت ل حتن الفرصة‬
‫بعد لرفعها‪ ،‬وذلك لعظيم جهلها‪ ،‬وكبري غفلتها‪.‬‬
‫ومنها‪( :‬طائفة) أرادت عزل الدين ومقوماته‪ ،‬وشرائعه وأصوله‪ ،‬عن سياسة‬
‫دنيا األمة‪ ،‬وترسيم منهج حياهتا‪ ،‬وحتديد جماالت عالقتها بني خمتلف مناحي‬
‫قطاعاهتا الداخلية من جانب‪ ،‬وبني كل من حوهلا من أصحاب األديان وامللل‬
‫والنحل من جانب آخر‪ .‬وأرادت أن تقصر دور الدين‪ ،‬وحتصره بني العبد وربه‬
‫يف بعض الطقوس التعبُّدية وذلك إىل حني‪ ،‬فإذا َتكنت من خمططها العفن‬
‫وكيدها اْلبيث‪ ،‬قامت باْلطوة الثانية املتمثلة يف إهناء دور الدين بالكلية‪،‬‬
‫الردة ‪ -‬اليت ال تعرف العودة‬
‫التمرد الواضح على كافة تعاليم األديان‪ ،‬و َّ‬
‫وأعلنت ُّ‬
‫‪ -‬عن سائر الشعائر والشرائع‪.‬‬
‫ومنها‪( :‬طائفة) ثارت على كل ما هو باطل‪ ،‬ومنكر‪ ،‬وقامت تسبح ضد‬
‫تيار عات‪ ،‬لتحدي سيل الطغيان اجلارف‪ ،‬ول تبخل يف سبيل ذلك بشيء من‬
‫دمائها وأمواهلا‪ ،‬بل وقدمت نفسها قربانًا لرضا الرب سبحانه‪ ،‬وفدية لنصرة دينه‪،‬‬
‫وإقامة شريعته‪ ،‬وسطرت بدقائق حياهتا وقطرات دمائها الزكية أرو ألوان البطولة‬
‫والفداء‪ ،‬وأبت إالَّ االنطالق من محى اإلخالص لبارئها سبحانه‪ ،‬حىت تعيد‬
‫األمة لطريقها‪ ،‬وتثبت قواعد دينها الرباي احلنيف‪ .‬ونراها على قلَّة عددها‪،‬‬
‫وضعف عدَّهتا‪ ،‬إالَّ أن اهلل سبحانه قد اصطفاها من الناس ليصنع هبا قدره‪،‬‬
‫وينفذ هبا وعده‪ ،‬وقد ألقى هلا الرعب يف قلوب أعدائها‪.‬‬
‫ولكن بنظرة متأنية خالية من العواطف‪ ،‬جند أن نقطة الضعف الغائرة يف‬
‫جسد هذه الطائفة يكمن يف عدم قيامها وانطالقها من منهج شامل متكامل‬
‫متأصل بالرباهني والدالئل‪ ،‬حىت تستطيع من خالله‪ :‬حتديد أطر البدايات‪،‬‬
‫ومستلزمات كل مرحلة من مراحل الصرا ‪ ،‬والتخل من عشوائية‬

‫‪-92-‬‬
‫القرارات‪ ،‬وإشاكلية تداخل أطوال العمل املنهجي لعودة هذا الدين‪ ،‬ومن‬
‫مث تتمكن من القيام بعرض واقع األزمة الراهنة بكل أبعاده احلقيقية‪ ،‬مع بيان‬
‫مردود فعله اْلطري على كافة أبناء األمة‪ ،‬ليتجلى بذلك لب الصرا ‪ ،‬وحقيقة‬
‫املعركة اهلائلة واحلامسة‪ ،‬اليت ينبغي أن ختوضها األمة شاءت ذلك أم أبت‪.‬‬
‫وبعد ما قمنا بتقليب الطرف يف أحوال أمتنا‪ ،‬يتجلى لنا بوضوح ِّبني‪:‬‬
‫وجوب البحث احلثيث‪ ،‬والتنقيب الدائم املستمر عن منهج أصيل‪ ،‬يتميز‬
‫بالشمولية‪ ،‬ويتَّسم باملرجعية الصحيحة املنضبطة‪ ،‬قد التحم فيه جانبه العقدي‬
‫جبانبه العملي‪ ،‬وشقه النظري بشقه الواقعي‪ ،‬ومن مث نستطيع أن نقدمه ألمتنا‬
‫على أنه الطريق الوحيد‪ ،‬والسبيل الفريد للخروج من أزمتها احلالية‪ ،‬والعبور هبا‬
‫من ذلة التبعية إىل عزة الريادة‪ ،‬وبالتايل حشد كل الطاقات‪ ،‬وجتنيد كافة‬
‫اإلمكانات للسري به وخلفه وحتت لوائه‪ ،‬حىت يتسى لنا أن نستعيد زمام البشرية‬
‫من يد أل يد أعدائها‪ ،‬وخنرج لديننا احلنيف من غربته الثانية إىل ظهوره وعلوه‬
‫وَتكينه الثاي‪ ،‬كما خرج به الصحابة من غربته األوىل إىل ظهوره وعلوه وَتكينه‬
‫األول‪.‬‬
‫أعود فأقول‪ :‬كم حنن اليوم يف مسيس احلاجة إىل منهج رباي‪ ،‬ننطلق منه‪،‬‬
‫ونصار من قبل كافة امللل والنحل املارقة‬
‫َ‬ ‫ونعود إليه‪ ،‬ونستظل به‪ ،‬وحنن نصار‬
‫عن حقيقة الوجود‪ ،‬واْلارجة عن علة اْللق واإلجياد‪ ،‬والضاربة يف عطن الفساد‬
‫ومستنقع اإلحلاد‪.‬‬
‫كم يفقد املسلمون الغايل والثمني‪ ،‬من دمائهم‪ ،‬وأنفسهم‪ ،‬وأمواهلم‪،‬‬
‫وأعراضهم‪ ،‬ومقدساهتم‪ ،‬وأراضيهم‪ ،‬وذراريهم‪ ...‬عندما خيوضون جولة من‬
‫جوالت الصرا مع أعدائهم‪ ،‬يف أثناء غياب منهج مشويل متكامل أصيل‬
‫التباسا‪،‬‬
‫مدروس‪ .‬وكم تزداد احملن قوة‪ ،‬والفنت ظلمة والشبهات ً‬

‫‪-93-‬‬
‫اسا حينما تفقد األمة اإلسالمية وسائل االرتباط‬ ‫ضياعا واندر ً‬
‫ً‬ ‫واحلق‬
‫سندا جبميع الرسل والنبيني صلوات اهلل‬ ‫مبنهجها املنضبط القومي ‪ -‬املتصل ً‬
‫وسالمه عليهم ‪ -‬حال الصرا والنزال‪.‬‬
‫وعندنا نقلب صفحات التاريخ اْلالدة ‪ -‬املليئة بالدروس والعرب‪ ،-‬جند أن‬
‫األمة اإلسالمة قد مر عليها كثري من احملن والرزايا‪ ،‬اليت حتمل من الكيد والدهاء‬
‫واْلبث‪ ،‬ما اهلل به عليم‪ ،‬حىت كاد بعضها أن يكسر اإلسالم‪ ،‬ويقصم ظهر‬
‫أمته‪ ،‬ويستأصل وجود أبنائه‪ ،‬إالَّ أن األمة ما تلبث أن تفيء من سكرهتا‪،‬‬
‫وتستيقظ من غفلتها إىل منهجها القومي لتصطبغ به‪ ،‬فتخرج منه وبه أمة أبيَّة‬
‫على املكر‪ ،‬عصيَّة على العداء‪ ،‬داحرة لكل ظال وطاغ وباغ‪ ،‬وتنتهي بذلك‬
‫إحدى جوالت الصرا ‪ -‬اليت ال تنتهي ما بقي زمان التكليف ‪ -‬بني اإلسالم‬
‫والكفر‪ ،‬لصاحل احلق‪ ،‬ولعز املسلمني‪.‬‬
‫ودائما كنا نرى يف هجمات أهل الكفر الشرسة على أهل ملتنا‪ :‬تكاتف‬ ‫ً‬
‫العلماء واألمراء‪ ،‬ومن ورائهم كافة طبقات األمة‪ ،‬وتتعانق األيدي والقلوب‪،‬‬
‫وترص الصفوف‪ ،‬وتعبأ كل الطاقات ملواجهة هذا الكيد السافر‪ ،‬حىت ينجلي‬
‫مكرهم‪ ،‬ويرد كيدهم يف حنرهم‪.‬‬
‫أما يومنا الطويل األسى‪ ،‬البالغ من احلسرة مداه‪ ،‬فلألسف الشديد‪ ،‬نرى‪:‬‬
‫شديدا‪ ،‬مع فقدان للثقة بني كثري من فصائل األمة‪ ،‬وهذا التفكك‬ ‫وخورا ً‬‫تفك ًكا ً‬
‫قد ورثنا‪ :‬الذلة واملهانة‪ ،‬واستمراء الدنية‪ ،‬واستمرار التبعية‪ ،‬وورث أعداءنا بدوره‪:‬‬
‫وسفورا يف العداء‪.‬‬
‫ً‬ ‫وعلوا‪،‬‬
‫ومشوخا‪ً ،‬‬
‫استعالءً‪ً ،‬‬
‫وهذا مما يربهن ويؤكد على حاجة األمة الضرورية إىل منهج شامل منضبط‬
‫صحيح‪ ،‬تلوح فيه جبالء‪ :‬البدايات والنهايات‪ ،‬والقواعد واألصول والنتائج‪،‬‬
‫والوسائل واألهداف والغايات‪.‬‬

‫‪-94-‬‬
‫وانطالقًا من إجياد حل للمصائب العظام والدواهي الكبار‪ ،‬اليت حتيط بأمتنا‪،‬‬
‫وهتدد حبق وجودها وبقائها‪ ،‬بدأت البحث احلثيث‪ ،‬والتنقيب الدائم املستمر عن‬
‫منهج أصيل منضبط‪ ،‬يصلح أن يقدم ألمتنا على أنه العالج الناجح الوحيد‪،‬‬
‫الذي ينبغي أن تنجرعه لتخرج به من أزمتها الراهنة‪ ،‬وتثبت قدماها على طريق‬
‫التحدي الرهيب‪.‬‬
‫وقد وقع اختياري على تراث اإلمام اجملدد شيخ اإلسالم حممد بن عبد‬
‫الوهاب رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬وطيب مثواه‪ ،‬وذلك لعمق منهجه‪ ،‬وأصالته‪ ،‬وقوته‪،‬‬
‫ومشوليَّته‪ ،‬وكذا قرب عهده منَّا‪ ،‬ومشاهبة ظروف وأوضا نشأته لظروفنا وأوضاعنا‬
‫َتر هبا يف‬
‫احلالية‪ ،‬فقد كانت األمة اإلسالمية َتر إىل حد كبري بذات األزمة اليت ُّ‬
‫فرتتنا اآلنية‪ ،‬وكذلك واجهت حركته ‪ -‬رمحه اهلل تعاىل ‪ -‬ذات الطواغيت‬
‫واملنافقني ومرتزقة األقالم والكلمات‪ ،‬اليت نصارعها ونواجهها يف جولتنا احلالية‪.‬‬
‫فلما تشاهبت علل النشأة‪ ،‬وأحوال املرحلة‪ ،‬وطبيعة العداء وحجم الصرا ‪،‬‬
‫على‪ ،‬الغوص العميق يف ثنايا هذا الرتاث‪ ،‬الستخراج‬ ‫وتوجب ي‬ ‫رأيت أنه قد تعني َّ‬
‫كنوزه‪ ،‬واغتنام ثرواته‪ ،‬فقمت ‪ -‬مستعينًا باهلل العليم اْلبري ‪ -‬بتبويت هذا الرتاث‬
‫ومارا بالنواقض‬
‫منهجيا مشوليًا‪ ،‬مبتدئًا فيه باملقدمات واألصول‪ً ،‬‬‫ً‬ ‫املتناثر‪ ،‬تبويبًا‬
‫والعوائق‪ ،‬ومنتهيًا بالنتائج والعواقب‪.‬‬
‫والقصد من وراء هذا العمل‪ :‬أن تظهر بوضوح حقيقة تلك الدعوة‪ ،‬وينجلي‬
‫مشوهلا العميق‪ ،‬ومن مث يستحيل اختزاهلا املراد هلا من قبل أعدائها يف بعض‬
‫جوانبها فقط‪ ،‬لئال تكون قادرة على حماربة الطغيان‪ ،‬ومنازلة الفساد‪ ،‬ومقارعة‬
‫اْلارجني عن شريعة اهلل وعبوديته‪ ،‬اليت ما خلقت اْلليقة إالَّ لتعبده وحده ال‬
‫شريك له‪ ،‬وتستظل بشريعته يف كل جوانب حياهتا‪ ،‬حىت تلقاه سبحانه على‬
‫ذلك غري مفرطة‪ ،‬وال عادلة‪ ،‬وال مبدلة‪.‬‬

‫‪-96-‬‬
‫مميزات هذا المنهج‪:‬‬
‫لقد اتصف هذا املنهج املبارك ‪ -‬إن شاء اهلل تعاىل ‪ -‬خبصال طيبة‪،‬‬
‫قل أن توجد جمتمعة لغريه‪ ،‬منها‪:‬‬‫وصفات حسنة‪ ،‬ومميزات أصيلة‪ ،‬ي‬
‫وتطوره الطبيعي‪ ،‬مع األحداث والوقائع ومتطلبات كل مرحلة من‬ ‫ـ مشوليَّته‪ُّ ،‬‬
‫مراحل الصرا ‪ ،‬مع مراعاة حدود وطاقات وإمكانيات املسلمني الراهنة‪.‬‬
‫سندا ومعى‪ ،‬واحلشد الدائم آلحاد األدلة ‪ -‬مع‬ ‫ـ تأصيله بالرباهني املتواترة ً‬
‫مراعاة روح ومقاصد التشريع ‪ -‬لكل مسألة من مسائله‪ ،‬حىت يتسى اليقني بكل‬
‫جزئية من جزئياته‪ ،‬ومن مثي اجلزم والقطع بكلياته وقواعده‪.‬‬
‫ـ احلرص الشديد على وجوب اتبا السلف الصاحل‪ ،‬ال سيما أصحاب‬
‫القرون الثالثة األوىل املفضلة‪ ،‬قرون االتبا واالقتداء‪.‬‬
‫ـ عدم تقديس أي أحد‪ ،‬مهما علت مرتبته وارتفع سهمه يف العلم واملكانة‪،‬‬
‫وجتويز اْلطأ عليه‪ ،‬مع بيانه إن وقع‪ ،‬مث االعتذار عنه حبسب احلاجة الداعية‬
‫إليه‪.‬‬
‫ـ بيان قضية التوحيد ‪ -‬اليت هى أصل األصول اإلميانية ‪ -‬وجالء أركاهنا‪،‬‬
‫وحشد النصوص الدالة عليها واملؤيدة هلا‪ ،‬مع دحض وإمخاد كافة ألوان الشرك‬
‫وأصوله ومواده وذرائعه ووسائله‪.‬‬
‫وال غرو يف ذلك‪ ،‬فإن قضية التوحيد هي حبق مفرق الطريق الوحيد‪ ،‬وحمل‬
‫الصرا األبدي الدائم بني املسلمني‪ ،‬وأعدائهم من كافة امللل والنحل املارقة عن‬
‫فطرة الوجود‪.‬‬
‫ـ االلتحام املصريي بني اجلانب العقائدي‪ ،‬واجلانب العملي‪ ،‬دون انفصام‬
‫بينهما‪ ،‬بل ولقد قام أئمة الدعوة ‪ -‬رمحهم اهلل تعاىل ‪ -‬بكل ما قالوه وسطروه‬
‫وأصلوه‪ ،‬دون مهادنة أو مواربة‪ ،‬وهذا بال شك يبعث على الطمأنينة‪،‬‬

‫‪-95-‬‬
‫واليقني يف نفوس أتباعهم‪ ،‬وأهنم حبق على جادة الطريق‪ ،‬وكذا جيعل اجلاد‬
‫يف دينه ‪ -‬يف كل عصر ومصر ‪ -‬يستطيع أن يرى صورة الصرا كاملة‬
‫وبأبعادها احلقيقية‪ ،‬وأن يبصر معال الطريق واضحة‪ ،‬ومن مث يستطيع القيام‬
‫بتحديد دوره‪ ،‬واإلحاطة مبتطلبات مرحلته الراهنة بوضوح تام ورؤية شاملة‪.‬‬
‫ـ اجلرأة يف عرض احلق‪ ،‬وقبول الصرا ‪ ،‬والتحدي عليه‪ ،‬ومن أجله‪.‬‬
‫ـ عدم اْلوف واالنزعاج من النتائج املنبثقة من جتريد عرض احلقائق‪ ،‬ذلك‬
‫نوعا من َتييع األصول‪ ،‬وعدم الرتتيب املنطقي لألدلة‪،‬‬ ‫اْلوف الذي قد يسبب ً‬
‫وذلك يوقع ال حمالة يف الفصل بني العلل وأحكامها‪ ،‬واجلمع بني املتناقضات‪،‬‬
‫والتفريق بني املتماثالت يف األحكام والغايات‪.‬‬
‫ـ عدم القبول بأنصاف احللول‪ ،‬ورفض فكرة االلتقاء يف وسط الطريق بني‬
‫شرعا‬
‫أهل احلق وأهل الباطل‪ ،‬ألن هذه السياسة العقيمة ‪ -‬فضالً عن بطالهنا ً‬
‫دوما‪ ،‬أن تعمل على طمس هوية أهل احلق‪ ،‬وَتييع دورهم‪ ،‬وتفريغ‬ ‫‪ -‬من شأهنا ً‬
‫هدفهم من حمتواه احلقيقي‪ ،‬والقضاء على قضيتهم‪ ،‬والنتيجة املتحتمة واملرتتبة‬
‫على ذلك‪ ،‬هى عجز وقصور أهل احلق عن جهاد أهل الباطل‪ ،‬وإبطال‬
‫قضاياهم املنحرفة‪ ،‬والتدليل على عدم مشروعيتها‪ ،‬وهذا من أعظم ما يؤمله أهل‬
‫الضالل ويريدونه‪.‬‬
‫ـ اتبا سياسة حكيمة راشدة يف إمخاد البد ‪ ،‬وحماربة حمدثات األمور‪ ،‬ال‬
‫سيما بدعة اإلرجاء اْلبيثة بدركاهتا املختلفة‪ ،‬وما َتخض عنها‪ ،‬من حتلل عن‬
‫الشرائع‪ ،‬وانغماس مزري يف وحل الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬وكذا إصباغ‬
‫الشرعية على كل قوى الطغيان‪ ،‬بدعوى أن أصحاهبا يقولون‪« :‬ال إله إالَّ اهلل»؛‬
‫واإلميان العاصم للدماء واألموال ‪ -‬يف زعمهم ‪ -‬ال يكون‬

‫‪-94-‬‬
‫إالَّ مبجرد نطقها‪ ،‬مع التصديق الكامل هبا!!! وها حنن نرى اليوم ربيب‬
‫اإلرجاء اْلبيث‪ ،‬الذي منا وترعر يف حضانته‪ ،‬وحتصن حبصنه ‪ -‬الغري حصني ‪-‬‬
‫أال وهو العلمانية اْلبيثة ذات الظالل العفنة والظلمات املرتاكمة‪.‬‬
‫وكل ذلك كان بسبب عدم مواجهة احلركة اإلسالمية آلثار اإلرجاء العقيمة‪،‬‬
‫ومقارعة أقطابه‪ ،‬وبيان فساد منهجه‪ ،‬وخطورة ردود أفعاله على اإلسالم‬
‫واملسلمني‪.‬‬
‫ـ احلرص الشديد على التسلح بالدليل‪ ،‬ومنازلة احلجة باحلجة‪ ،‬ومقارعة‬
‫خرجت هذه‬ ‫الربهان بالربهان‪ ،‬مع رفض التقليد‪ ،‬وإباء االتبا املذموم‪ ،‬ومن مثي َّ‬
‫ألفا‬
‫الدعوة ‪ -‬بفضل اهلل سبحانه ‪ -‬العامي الراسخ يف دينه‪ ،‬والذي يغلي حبق ً‬
‫من علماء املشركني‪ ،‬ناهيك عن العلماء واحلفاظ والدعاة وطلبة العلم‪ ،‬الذين‬
‫خرجوا وما زالوا يتخرجون من جامعة هذا الرتاث‪.‬‬
‫امتدادا ضاربًا يف أعماق التاريخ‪ ،‬ملدرسة العال الرباي‪،‬‬
‫ً‬ ‫ـ هذه الدعوة َتثل‬
‫شيخ اإلسالم أمحد بن عبد احلليم املعروف بابن تيمية احلراي الدمشقي‪ ،‬ومن‬
‫ورائه تلميذه اإلمام العالَّمة ابن قيم اجلوزية‪.‬‬
‫وبأدىن نظر يف تراث شيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب جند أن كل‪ ،‬أو‬
‫جل مسائله‪ ،‬ودالئله وردوده‪ ،‬وتقريراته‪ ،‬مستقاة كاملة‪ ،‬أو شبه كاملة من تراث‬
‫شيخ اإلسالم إمام األئمة‪ ،‬جهبذ اجلهابذة‪ ،‬أمحد ابن تيمية رمحهما اهلل تعاىل‪،‬‬
‫ولقد صدقت كلمة أحد املستشرقني حيث قال‪ :‬لقد ترك شيخ اإلسالم أمحد‬
‫ألغاما‪ ،‬فجر بعضها شيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب‪ ،‬نسأل اهلل أن‬ ‫بن تيمية ً‬
‫يعني العلماء الربانيني‪ ،‬والدعاء املخلصني على تفجري ينابيع احلكمة‪ ،‬وأنوار‬
‫اهلدى‪ ،‬الساطعة من تراثه الطاهر‪.‬‬

‫‪-91-‬‬
‫منهجي في البحث‪:‬‬
‫لقد كان نصب عين منذ الوهلة األوىل للشرو يف هذا الكتاب‪ ،‬أن تعرض‬
‫أصوله‪ ،‬وقواعده‪ ،‬وردوده‪ ،‬ونتائجه دون أدي شائبة تَ َد ُّخل‪ ،‬أو وصاية على ما‬
‫قرره هؤالء األئمة األعالم‪ ،‬من أحكام وتقريرات‪ ،‬لتبقى بصماهتم‪ ،‬عالية وكاملة‬
‫وظاهرة عليها؛ ألي على قناعة تامة‪ ،‬حباجة األمة الضرورية‪ ،‬إىل ما قررته أئمتها‬
‫األعالم‪ ،‬وعلماؤها الربانيون‪ ،‬لكن بشرط عزيز‪ ،‬وهو أن تعرض كاملة‪،‬‬
‫وواضحة‪ ،‬ومركزة‪ ،‬وبأمانة تامة‪ ،‬دون أي حذف‪ ،‬أو شطب‪ ،‬أو اختزال لشيء‬
‫غري مراد من تراثهم‪ ،‬وما سطرته أيديهم‪ .‬ولذلك فقد كان مهي األكرب يف هذا‬
‫املقام‪ ،‬أن يقدم هذا اإلرث الطاهر لألمة اإلسالمية يف صورة منهج أصيل‬
‫متكامل كما كان يف حس صاحبه ومؤسسه اإلمام حممد بن عبد الوهاب‪،‬‬
‫مجيعا‪.‬‬
‫وأحفاده وتالميذه رمحهم اهلل ً‬
‫ولقد قمت بتقسيم الكتاب إىل ثالثة أبواب‪ ،‬الباب األول جاء يف‪ :‬أصول‬
‫التوحيد واإلسالم واإلميان؛ والباب الثاي يف‪ :‬الشرك واملشركني؛ والباب الثالث‬
‫يف‪ :‬األحكام املرتتبة على مفهوم التوحيد والشرك‪.‬‬
‫وإفرادي لألحكام املرتتبة على مفهوم التوحيد والشرك يف جزء منفرد عن‬
‫جزئي التوحيد والشرك‪ ،‬من أجل أن يتم الفصل التام بني القيام بالتوحيد مع‬
‫الرباءة من الشرك‪ ،‬كعقيدة جيب القيام هبا‪ ،‬ليتحقق بذلك أصل الدين‪ ،‬ويكون‬
‫مسلما‪ ،‬وبني إجراء األحكام املنبثق من تصور َحدَّي التوحيد والشرك‪،‬‬ ‫املرء به ً‬
‫وطبيعة العالقة بينهما‪ ،‬حىت ال يأيت اْللط‪ ،‬ويتم الدمج بني حتقيق أصل الدين‬
‫معا يف سلة واحدة‪ ،‬من‬ ‫من جهة وإجراء األحكام من جهة أخرى‪ ،‬ووضعهما ً‬
‫حيث التأصيل‪ ،‬والتدليل‪ ،‬ودرجة املشروعية‪ ،‬ومن مث حتل الطامة العظمى‪،‬‬
‫والداهية الكربى املتمثلة يف الغلو املذموم يف التكفري‬

‫‪-91-‬‬
‫وإخراج السواد األعظم جلمهور املسلمني من دينهم وملتهم‪ ،‬بال دليل وال‬
‫برهان‪ ،‬اللَّهم إالَّ الزعم بأن إجراء األحكام على املشركني واملرتدين من صلب‬
‫وماهية أصل الدين‪ ،‬تلك الدعوى املفرتاة اليت ل يقم عليه صحتها دليل صحيح‬
‫صريح من الكتاب‪ ،‬أو السنَّة‪ ،‬بفهم أصحاب الثالثة القرون األوىل املفضلة‪ ،‬وال‬
‫إمجاعهم املعصوم‪ ،‬الواجب االتبا ‪.‬‬
‫وعندنا نقرر هذا‪ ،‬فينبغي أن نقرر ونعلن يف مقابله‪ :‬أن العلماء قد ع يدوا‬
‫ناقضا من‬
‫عدم تكفري املشركني‪ ،‬أو الشك يف كفرهم‪ ،‬أو تصحيح مذهبهم‪ً ،‬‬
‫شاسعا‪ ،‬بني‬
‫ً‬ ‫كبريا‪ ،‬وبونًا‬
‫نواقض اإلسالم‪ ،‬املبيحة للدم واملال‪ ،‬ولكن هناك فرقًا ً‬
‫أن يكون إجراء األحكام على املشركني بإطالق أصالً من أصول الدين‪ ،‬وبني أن‬
‫ناقضا من نواقض اإلسالم‪ ،‬خيضع يف ذلك‬ ‫يكون يف بعض مناطاته وصوره‪ً ،‬‬
‫لتوفر شروط التكفري‪ ،‬وانتفاء موانعه‪ ،‬اليت قررها الصحابة والتابعون‪ ،‬ومن سار‬
‫على درهبم‪ ،‬واقتفى أثرهم‪ ،‬ال أهل اإلرجاء والتجهم احلديث واملعاصر‪ ،‬الذين‬
‫يريدون غلق هذا الباب‪ ،‬وطي هذا امللف‪ ،‬حىت َتى كثري منهم عدم اْلوض يف‬
‫هذه القضية‪ ،‬أو احلديث عنها‪ ،‬أو مساعها‪ ،‬لئال تقسو القلوب‪ ،‬وتزل األقدام يف‬
‫الوقو يف احملذور‪ ،‬هكذا زعموا!‬
‫وال يفوتن يف هذا املقام‪ ،‬أن أعلن الرباءة من كل من منهجي اْلوارج‬
‫واملرجئة‪ ،‬والتحذير املتكرر لألمة من عاقبة شؤم بدعتهما‪ ،‬وآثارمها السيئة‪ ،‬ولكن‬
‫انطالقًا من معال منهج أهل السنَّة واجلماعة‪ ،‬الذي يريد اْلري الدائم لكل‬
‫دوما أن نرفع أكف الضراعة هلل اهلادي إىل سواء الصراط أن‬ ‫الناس‪ ،‬ينبغي علينا ً‬
‫مجيعا الكفر‪،‬‬
‫يهدينا وسائر إخواننا ‪ -‬املغالني واملفرطني ‪ -‬للصواب‪ ،‬وأن جينبنا ً‬
‫والزلل‪ ،‬والبد ‪ ،‬وحمدثات األمور‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪-25-‬‬
‫التقسيم املوضوعي للكتاب‪:‬‬
‫مقسما إىل ثالثة أبواب‪:‬‬
‫لقد جاء الكتاب ً‬
‫الباب األول‪ :‬في أصول التوحيد واإلسالم واإليمان‬
‫وفيه مقدمة‪ ،‬وتسعة فصول‪:‬‬
‫املقدمة يف‪ :‬أحوال املشركني بني التبديل والتغيري‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬حقيقة اإلسالم وشروط قبوله‪.‬‬
‫الفصل الثاي‪ :‬حقيقة التوحيد‪ ،‬وأركانه‪ ،‬ومقتضياته‪ ،‬وأنواعه‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬كيفية اإلميان بالرسالة‪ ،‬وحتقيق أركاهنا ومقتضياهتا‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أصول اإلميان‪ ،‬ومقتضياته‪ ،‬ولوازمه‪.‬‬
‫الفصل اْلامس‪ :‬الطاغوت‪ ،‬وصفة الكفر به‪.‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬احلكم هلل وحده ال شريك له‪ ،‬وحكم من بدل شرائع‬
‫اإلسالم‪ ،‬أو حكم بغري ما أنزل اهلل‪.‬‬
‫الفصل السابع‪ :‬حقيقة الوالء والرباء‪.‬‬
‫الفصل الثامن‪ :‬األمساء والصفات‪ ،‬ومنهج السلف يف اإلميان هبا‪.‬‬
‫الفصل التاسع‪ :‬القضاء والقدر‪ ،‬ومنهج السلف يف اإلميان به‪.‬‬
‫* * *‬
‫الباب الثاني‪ :‬الشرك والمشركون‬
‫وفيه مثانية فصول‪:‬‬
‫الفصل األول‪ :‬حد الشرك‪ ،‬ودرجاته‪ ،‬وأنواعه وأحكامه‪ ،‬مع بيان علة عدم‬
‫مغفرته‪ ،‬ووجوب احلذر منه‪.‬‬
‫الفصل الثاي‪ :‬العلم سبيل النجاة من الشرك‪ ،‬وإالَّ وقع باجلهل‪ ،‬والتلبيس‬
‫وتغيري احلقائق‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬الفتنة بالقبور‪ ،‬واملفاسد املرتتبة عليها‪ ،‬مع الرد على أشهر‬
‫شبهات أهلها‪.‬‬

‫‪-29-‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬الشفاعة‪ ،‬وأنواعها‪ ،‬وشروطها‪ ،‬وأسباب حتصيلها‪ ،‬واحلرمان‬
‫منها‪.‬‬
‫الفصل اْلامس‪ :‬املشرك مغبون يف دينه إلخالله بكل قيود الكلمة العاصمة‪،‬‬
‫إالَّ جمرد التلفظ هبا‪.‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬أشهر شبهات املشركني وعلمائهم‪ ،‬مع سهام الردود‬
‫عليها‪.‬‬
‫الفصل السابع‪ :‬األدلة اجللية من الشريعة الربانية‪ ،‬على كفر من عبد غري اهلل‬
‫تعاىل‪.‬‬
‫الفصل الثامن‪ :‬علة قتال املشركني‪ ،‬ووجوب الرباءة منهم‪ ،‬وحكم الدار إذا‬
‫غلبت عليها أحكام الشرك‪.‬‬
‫* * *‬
‫الباب الثالث‪ :‬األحكام المترتبة على مفهوم التوحيد والشرك‬
‫وفيه تسعة فصول‪:‬‬
‫الفصل األول‪ :‬شروط عصمة الدم واملال‪.‬‬
‫الفصل الثاي‪ :‬حكم الشك يف كفر الكافر‪ ،‬وصوره‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬العذر باجلهل‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬العالقة بني إقامة احلجة‪ ،‬والكفر وأحكامه‪.‬‬
‫الفصل اْلامس‪ :‬أنوا الكفر‪ ،‬وحكم تكفري املعني‪.‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬أحكام الديار‪.‬‬
‫الفصل السابع‪ :‬أحكام القتال‪ ،‬ومشروعية اجلهاد‪.‬‬
‫الفصل الثامن‪ :‬نواقض اإلسالم‪ ،‬وأحكام الردة واملرتدين‪.‬‬
‫الرد الوافر عليها‪.‬‬
‫الفصل التاسع‪ :‬أشهر الشبهات املثارة على أئمة الدعوة‪ ،‬و ي‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ولقد كانت الفكرة السائدة يف هذا الكتاب من أوله إىل آخره‪ ،‬تكمن يف‬

‫‪-22-‬‬
‫تقسيم كل فصل من فصوله إىل عدة مباحث‪ ،‬يبدأ كل واحد منها بعنوان‪ ،‬يبني‬
‫املراد منه‪ ،‬وحرصت على أن يكون معناه مستنبطًا من األفكار األساسية‪،‬‬
‫والقواعد املنهجية اليت جاءت ضمن النقول‪ ،‬حتت هذا املبحث‪ ،‬وإذا قمت‬
‫بإيراد نقل مطول‪ ،‬لتقرير أي مسألة من املسائل‪ ،‬فعندئذ أقوم بإدخال عنوان‬
‫جانيب‪ ،‬بني معكوفتني ( )‪ ،‬مرة‪ ،‬أو عدة مرات‪ ،‬حبسب احلاجة الداعية إليه‪،‬‬
‫من أجل سهولة االستفادة‪ ،‬ودوام الرتكيز للقارئ النجيب‪ ،‬لكل فقرة من فقرات‬
‫النقل‪.‬‬
‫وأود التنويه إىل أن املقصود باألصالة يف هذا الكتاب‪ ،‬هو بيان معتقد أئمة‬
‫ودائما ما كنت آيت‬
‫الدعوة‪ ،‬يف كل مسألة من مسائله‪ ،‬وتقرير من تقريراته‪ً ،‬‬
‫بالتبع يف ختام كل فصل‪،‬ـ بنقل‪ ،‬أو عدة نقول‪ ،‬عن األئمة املعاصرين‪ ،‬من‬
‫أمثال‪ :‬أعضاء اللجنة الدائمة‪ ،‬وهيئة كبار العلماء‪ ،‬وأعضاء اإلفتاء‪ ،‬حىت يتضح‬
‫احتاد الطريق‪ ،‬واستمرارية املسري يف تقرير املسائل العلمية‪ ،‬احلاكمة على املسائل‬
‫العملية‪ ،‬والقائدة هلا‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪-23-‬‬
‫ترجمة اإلمام شيخ اإلسالم‬
‫محمد بن عبد الوهاب ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ـ‬
‫قال مساحة الشيخ عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬وأسكنه‬
‫فسيح جناته يف ترمجة الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب وأبنائه وأحفاده‬
‫مجيعا‪ ،-‬ويف التعريف حبقيقة دعوة الشيخ‪ ،‬وحجم الصرا‬ ‫وأتباعه ‪ -‬رمحهم اهلل ً‬
‫بينه وبني خصومه‪ ،‬مع بيان أسبابه احلقيقية‪ ،‬فقال رمحه اهلل تعاىل‪:‬‬
‫«احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬وصلَّي اهلل وسلَّم وبارك على عبده ورسوله وخريته‬
‫من خلقه سيدنا وإمامنا حممد بن عبد اهلل‪ ،‬وعلى آله وأصحابه ومن وااله‪.‬‬
‫أما بعد‪ :‬أيها اإلخوان الفضالء‪ ،‬أيها األبناء األعزاء‪ ،‬هذه احملاضرة املوجزة‬
‫ونصحا هلل ولعباده‪،‬‬
‫ً‬ ‫وإيضاحا للحقائق‪،‬‬
‫ً‬ ‫تنويرا لألفكار‪،‬‬
‫أتقدم هبا بني أيديكم ً‬
‫احملاض ِر عنه‪ ،‬وهذه احملاضرة عنواهنا‪:‬‬
‫َ‬ ‫علي من احلق حنو‬‫وأداء لبعض ما جيب َّ‬
‫الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب‪ ،‬دعوته وسريته‪...‬‬
‫رأيت أن أحتدث إليكم عن رجل عظيم‪ ،‬ومصلح كبري‪ ،‬وداعية غيور‪ ،‬أال‬
‫وهو الشيخ اجملدد لإلسالم يف اجلزيرة العربية يف القرن الثاي عشر من اهلجرة‬
‫النبوية‪ ،‬وهو اإلمام حممد بن عبد الوهاب بن سليمان بن على التميمي احلنبلي‪.‬‬
‫لقد عرف الناس هذا اإلمام وال سيما علماؤهم ورؤساؤهم‪ ،‬وكرباؤهم‬
‫وأعياهنم يف اجلزيرة العربية ويف خارجها‪ ،‬ولقد كتب الناس عنه كتابات كثرية ما‬
‫بني موجز وما بني مطول‪ ،‬ولقد أفرده كثري من الناس بكتابات‪ ،‬حىت‬
‫املستشرقون كتبوا عنه كتابات كثرية‪ ،‬وكتب عنه آخرون يف أثناء كتاباهتم عن‬
‫املصلحني‪ ،‬ويف أثناء كتاباهتم يف التأريخ‪ ،‬وصفه املنصفون منـهم بـأنه‬

‫‪-24-‬‬
‫مصلح عظيم‪ ،‬وبأنه جمدد لإلسالم‪ ،‬وبأنه على هدى ونور من ربه‪ ،‬وإن‬
‫كثريا‪.‬‬
‫تعدادهم يشق ً‬
‫ومن مجلتهم املؤلف الكبري أبو بكر الشيخ حسني بن غنام األحسائي‪ ،‬فقد‬
‫كتب عن هذا الشيخ فأجاد وأفاد‪ ،‬وذكر سريته وذكر غزواته‪ ،‬وأطنب يف ذلك‬
‫أيضا‬
‫كثريا من رسائله‪ ،‬واستنباطاته من كتاب اهلل عز وجل‪ ،‬ومنهم ً‬ ‫وكتب ً‬
‫الشيخ عثمان بن بشر يف كتابه «عنوان اجملد»‪ ،‬فقد كتب عن هذا الشيخ‬
‫أيضا‪ ،‬وعن دعوته‪ ،‬وعن سريته‪ ،‬وعن تأريخ حياته‪ ،‬وعن غزواته وجهاده‪.‬‬ ‫ً‬
‫ومنهم خارج اجلزيرة‪ :‬الدكتور أمحد أمني يف كتابه «زعماء اإلصالح» فقد‬
‫كتب عنه وأنصف‪ ،‬ومنهم الشيخ الكبري مسعود الندوي‪ ،‬فقد كتب عنه ومساه‪:‬‬
‫«املصلح املظلوم»‪ ،‬وكتب عن سريته وأجاد يف ذلك‪.‬‬
‫أيضا آخرون‪ ،‬منهم الشيخ الكبري األمري حممد بن إمساعيل‬ ‫وكتب عنه ً‬
‫سر‬
‫الصنعاي‪ ،‬فقد كان يف زمانه‪ ،‬وقد كان على دعوته‪ ،‬فلما بلغه دعوة الشيخ َّ‬
‫هبا ومحد اهلل عليها‪ ،‬وكذلك كتب عنه العالمة الكبري الشيخ حممد بن على‬
‫الشوكاي‪ ،‬صاحب نيل األوطار‪ ،‬ورثاه مبرثية عظيمة‪ ،‬وكتب عنه مجع غري هؤالء‬
‫يعرفهم القراء والعلماء‪...‬‬
‫ولد هذا اإلمام يف عام ‪9996‬هـ‪ ،‬هذا هو املشهور يف مولده رمحة اهلل عليه‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬يف عام ‪9999‬هـ‪ ،‬واملعروف األول‪ :‬أنه ولد يف عام ‪9996‬هـ على‬
‫صاحبها أفضل الصالة وأكمل التحية‪ ،‬وتعلم على أبيه يف بلدة العيينة‪ ،‬وهذه‬
‫البلدة هى مسقط رأسه رمحة اهلل عليه‪ ،‬وهى قرية معلومة يف اليمامة يف جند‪،‬‬
‫مشال غرب مدينة الرياض‪ ،‬بينها وبني الرياض مسرية سبعني كيلو مرت‪.‬‬
‫مبكرا‪ ،‬واجتهد يف‬
‫ولد فيها رمحة اهلل عليه‪ ،‬ونشأ نشأة صاحلة‪ ،‬وقرأ القرآن ً‬
‫فقيها‬
‫الدراسة والتفقه على أبيه الشيخ عبد الوهاب بن سليمان‪ ،‬وكان ً‬

‫‪-26-‬‬
‫قديرا‪ ،‬وكان قاضيًا يف بلدة العيينة‪ ،‬مث بعد بلوغ احللم حج‬‫كبريا‪ ،‬وكان عاملًا ً‬
‫ً‬
‫وقصد بيت اهلل احلرام‪ ،‬وأخذ عن بعض علماء احلرم الشريف‪ ،‬مث توجه إىل املدينة‬
‫على ساكنها أفضل الصالة والسالم‪ ،‬فاجتمع بعلمائها‪ ،‬وأقام فيها مدة‪ ،‬وأخذ‬
‫من عاملني كبريين مشهورين يف املدينة ذلك الوقت‪ ،‬مها‪ :‬الشيخ عبد اهلل بن‬
‫إبراهيم بن سيف النجدي‪ ،‬أصله من اجملمعة‪ ،‬وهو والد الشيخ إبراهيم بن عبد‬
‫أيضا عن الشيخ الكبري‬ ‫اهلل صاحب العذب الفائض يف علم الفرائض‪ ،‬وأخذ ً‬
‫حممد حياة السندي باملدينة‪ ،‬هذان العاملان ممن اشتهر أخذ الشيخ عنهما‬
‫باملدينة‪ ،‬ولعله أخذ عن غريمها ممن ال نعرف‪.‬‬
‫ورحل الشيخ لطلب العلم إىل العراق‪ ،‬فقصد البصرة واجتمع بعلمائها‪،‬‬
‫وأخذ عنهم ما شاء اهلل من العلم‪ ،‬وأظهر الدعوة هناك إىل توحيد اهلل‪ ،‬ودعا‬
‫الناس إىل السنة‪ ،‬وأظهر للناس أن الواجب على مجيع املسلمني أن يأخذوا دينهم‬
‫عن كتاب اهلل‪ ،‬وسنة رسول اهلل ‪ ،‬وناقش وذاكر يف ذلك‪ ،‬وناظر من هنالك‬
‫من العلماء‪ ،‬واشتهر من مشاخيه هناك شخ يقال له‪ :‬الشيخ حممد اجملموعي‪،‬‬
‫وقد ثار عليه بعض علماء السوء بالبصرة‪ ،‬وحصل عليه وعلى شيخه املذكور‬
‫بعض األذى‪ ،‬فخرج من أجل ذلك‪ ،‬وكان من نيته أن يقصد الشام‪ ،‬فلم يقدر‬
‫فخرج‬ ‫الكافية‪،‬‬ ‫النفقة‬ ‫وجود‬ ‫لعدم‬ ‫ذلك‬ ‫على‬
‫من البصرة إىل الزبري‪ ،‬وتوجه من الزبري إىل األحساء‪ ،‬واجتمع بعلمائها وذاكرهم‬
‫يف أشياء من أصول الدين‪ ،‬مث توجه إىل بلدة حرميالء وذلك ‪ -‬واهلل أعلم ‪ -‬يف‬
‫العقد اْلامس من القرن الثاي عشر؛ ألن أباه كان قاضيًا يف‬
‫العيينة‪ ،‬وصار بينه وبني أمريها نزا ‪ ،‬فانتقل عنها إىل حرميالء بعد انتقاله إليها‬
‫سنة ‪9931‬هـ‪ ،‬فقدم الشيخ حممد على أبيه يف حرميالء بعد انتقاله‬
‫إلـيـها سنـة ‪9931‬هـ‪ ،‬فيكون قدومه حرميالء يف عام ‪9945‬هـ أو ما‬

‫‪-25-‬‬
‫بعدها‪ ،‬واستقر هناك‪ ،‬ول يزل مشتغالً بالعلم والتعليم والدعوة يف حرميالء حىت‬
‫وهم بعض‬‫مات والده عام ‪9963‬هـ‪ ،‬فحصل من بعض أهل حرميالء شر عليه‪َّ ،‬‬
‫تسور عليه اجلدار‪ ،‬فعلم هبم بعض‬ ‫السفلة هبا أن يفتك به‪ ،‬وقيل إن بعضهم َّ‬
‫الناس فهربوا‪ ،‬وبعد ذلك ارحتل الشيخ إىل العيينة رمحة اهلل عليه‪.‬‬
‫آمرا باملعروف ناهيًا عن املنكر‪،‬‬‫وأسباب غضب هؤالء السفلة عليه أنه كان ً‬
‫وكان حيث األمراء على تعزير اجملرمني‪ ،‬الذين يعتدون على الناس بالسلب‬
‫والنهب واإليذاء‪ ،‬هؤالء السفلة الذين يقال هلم العبيد هناك‪ ،‬وملا عرفوا من‬
‫الشيخ أنه ضدهم‪ ،‬وأنه ال يرضى بأفعاهلم‪ ،‬وأنه حيرض األمراء على عقوباهتم‪،‬‬
‫واحلد من شرهم؛ غضبوا عليه ومهوا أن يفتكوا به‪ ،‬فصانه اهلل ومحاه‪.‬‬
‫وجماهدا حىت‬
‫ً‬ ‫(وتكلم الشيخ عن حمن اإلمام وتنقله من بلد إىل أخرى داعيًا‬
‫مجعه اهلل باألمري حممد بن سعود فقال)‪:‬‬
‫فبلغ حممد بن سعود خرب الشيخ حممد‪ ،‬ويقال إن الذي أخربه زوجته‪ ،‬جاء‬
‫حممدا هبذا الرجل‪ ،‬وشجعيه على قبول‬ ‫إليها بعض الصاحلني‪ ،‬وقال هلا‪ :‬أخربي ً‬
‫دعوته‪ ،‬وحرضيه على مؤازرته ومساعدته‪ ،‬وكانت امرأة صاحلة طيبة‪ ،‬فلما دخل‬
‫عليها حممد بن سعود أمري الدرعية وملحقاهتا‪ ،‬قالت له‪ :‬أبشر هبذه الغنيمة‬
‫العظيمة! هذه غنيمة ساقها اهلل إليك‪ ،‬رجل داعية يدعو إىل دين اهلل‪ ،‬يدعو إىل‬
‫كتاب اهلل‪ ،‬يدعو إىل سنَّة رسول اهلل ‪ ،‬يا هلا من غنيمة! بادر بقبوله‪ ،‬وبادر‬
‫أبدا‪.‬‬
‫بنصرته‪ ،‬وال تقف يف ذلك ً‬
‫تردد هل يذهب إليه أو يدعوه إليه؟! فأشري‬ ‫فقبل األمري مشورهتا‪ ،‬مث َّ‬
‫أيضا هى اليت أشارت عليه مع مجاعة من الصاحلني‪ ،‬وقالوا‬ ‫عليه‪ ،‬ويقال إن املرأة ً‬
‫له‪ :‬ال ينبغي أن تدعوه إليك‪ ،‬بل ينبـغي أن تقصـده يف منـزله وأن‬

‫‪-24-‬‬
‫تقصده أنت‪ ،‬وأن تعظم العلم والداعي إىل اْلري‪.‬‬
‫فأجاب إىل ذلك ملا كتب اهلل له من السعادة واْلري رمحة اهلل عليه‪ ،‬وأكرم‬
‫مثواه‪ ،‬فذهب إىل الشيخ يف بيت حممد بن سويلم وقصده وسلم عليه وحتدث‬
‫معه‪ ،‬وقال له‪ :‬يا شيخ حممد‪ ،‬أبشر بالنصرة‪ ،‬وأبشر باألمن‪ ،‬وأبشر باملساعدة‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬والتمكني والعاقبة احلميدة‪ ،‬هذا دين‬
‫فقال له الشيخ‪ :‬وأنت أبشر بالنصرة ً‬
‫اهلل من نصره نصره اهلل‪ ،‬ومن أيده أيده اهلل‪ ،‬وسوف جند آثار ذلك سر ًيعا‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا شيخ‪ ،‬سأبايعك على دين اهلل ورسوله‪ ،‬وعلى اجلهاد‬
‫يف سبيل اهلل‪ ،‬ولكنن أخشى إذا أيدناك ونصرناك وأظهرك اهلل على أعداء‬
‫اإلسالم أن تبتغي غري أرضنا‪ ،‬وأن تنقل عنا إىل أرض أخرى‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ال؛ أبايعك على هذا‪ ،‬أبايعك على أن الدم بالدم‪ ،‬واهلدم باهلدم‪ ،‬ال أخرج عن‬
‫أبدا‪.‬‬
‫بالدك ً‬
‫(وتحدث الشيخ عن دعوة اإلمام وجهاده حتى وفاته ‪-‬رحمه اهلل‬
‫تعالى‪ -‬إلى أن قال)‪:‬‬
‫مث بعد وفاة الشيخ رمحة اهلل عليه‪ ،‬استمر أبناؤه وأحفاده‪ ،‬وتالميذه وأنصاره‬
‫يف الدعوة واجلهاد‪ ،‬وعلى رأس أبنائه الشيخ اإلمام عبد اهلل بن حممد‪ ،‬والشيخ‬
‫حسني بن حممد‪ ،‬والشيخ علي بن حممد‪ ،‬والشيخ إبراهيم بن حممد‪ ،‬ومن أحفاده‬
‫الشيخ عبد الرمحن بن حسن‪ ،‬والشيخ علي بن حسن‪ ،‬والشيخ سليمان بن عبد‬
‫تالميذه‬ ‫ومن‬ ‫آخرون‪،‬‬ ‫ومجاعة‬ ‫حممد‪،‬‬ ‫بن‬ ‫اهلل‬
‫أيضا الشيخ محد ابن ناصر بن معمر‪ ،‬ومجع غفري من علماء الدرعية وغريهم‪،‬‬ ‫ً‬
‫واستمروا يف الدعوة واجلهاد‪ ،‬ونشروا دين اهلل تعاىل‪ ،‬وكتابة الرسائل وتأليف‬
‫املؤلفات‪ ،‬وجهاد أعداء الدين‪ ،‬وليس بني هؤالء الدعاة وخصومهم‬
‫وجل‪،‬‬
‫عز ي‬ ‫شـيء‪ ،‬إالَّ أن هـؤالء دعـوا إىل توحيد اهلل وإخالص العبادة هلل َّ‬

‫‪-21-‬‬
‫واالستقامة على ذلك‪ ،‬وهدم املساجد والقباب اليت على القبور‪ ،‬ودعوا إىل‬
‫حتكيم الشريعة واالستقامة عليها‪ ،‬ودعوا إىل األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وإقامة احلدود الشرعية‪ ،‬هذه أسباب النزا بينهم وبني الناس» ‪.‬‬
‫هذا آخر ما تيسر كتابته يف هذه املقدمة؛ واآلن نفسح اجملال للقارئ العزيز‬
‫للدخول خبطى ثابتة ومتأنية وراسخة‪ ،‬لفهم وإدراك‪ :‬أصول وقواعد وأهداف‬
‫وغايات هذا الرتاث‪.‬‬
‫*‬ ‫* *‬

‫(‪ )1‬اإلمام حممد بن عبد الوهاب دعوته وسريته (‪.)34 – 6‬‬

‫‪-21-‬‬
‫الباب األول‬
‫أصول اإلسالم والتوحيد واإليمان‬

‫مقدمة وتسعة فصول‪:‬‬


‫وفيه ِّ‬

‫املقدمة‪ :‬أحوال املشركني بني التبديل والتغيري‪.‬‬


‫ِّ‬
‫الفصل األول‪ :‬حقيقة اإلسالم وشروط قبوله‪.‬‬
‫الفصل الثاي‪ :‬حقيقة التوحيد وأركانه ومقتضياته وأنواعه‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬كيفية اإلميان بالرسالة‪ ،‬وحتقيق أركاهنا ومقتضاهتا‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أصول اإلميان ومقتضياته ولوازمه‪.‬‬
‫الفصل اْلامس‪ :‬الطاغوت وصفة الكفر به‪.‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬احلكم هلل وحده ال شريك له‪.‬‬
‫الفصل السابع‪ :‬حقيقة الوالء والرباء‪.‬‬
‫الفصل الثامن‪ :‬األمساء والصفات ومنهج السلف يف اإلميان هبا‪.‬‬
‫الفصل التاسع‪ :‬القضاء والقدر ومنهج السلف يف اإلميان به‪.‬‬

‫‪-35-‬‬
-39-
‫مقدمة‬
‫أحوال المشركين بين التبديل والتغيير‬
‫(مدخل ضروري وهام لفهم وبيان قضية التوحيد)‬

‫وفيه مبحثان‪:‬‬

‫املبحث األول‪ :‬لقد مأل الشرك األرض قاصيها ودانيها‪ ،‬وللشيطان ما يبذل‬
‫من أهله‪ ،‬وليس للرمحن من ذلك نصيب‪.‬‬
‫املبحث الثاي‪ :‬لقد دار الناس مع أمساء قد خلت من حقائقها ومدلوالهتا‪،‬‬
‫ول يقفوا مع املعاي اليت تعلَّقت هبا األحكام‪ ،‬فعاد بذلك‬
‫الشرك والتنديد‪ ،‬واستغى أهله به عن اإلخالص والتوحيد‪.‬‬

‫‪-32-‬‬
-33-
‫المأمول من هذه المقدمة‬

‫أن تقف األمة بعلمائها ودعاهتا ومفكريها وعبَّادها وعوامها‪ ،‬على املصيبة‬
‫للرتدي املزري املشني الذي يصيب األمة حال انتشار‬ ‫العظمى والداهية الكربى ِّ‬
‫الشرك بني أرجائها وفورانه بني جنباهتا ومن مث وال بد تأيت النتيجة املتمثلة يف‬
‫غياب التوحيد‪ ،‬وطمس معامله وردم حدوده‪.‬‬
‫فانتشار الشرك مؤذن بضيا هوية األمة‪ ،‬ألن اهلوية الوحيدة اليت جتمعنا‬
‫وترتب صفوفنا‪ ،‬ويدور حوهلا والؤنا وبراؤنا‪ ،‬هى قضية التوحيد‪.‬‬
‫حمل‪ :‬العصبية اجلاهلية‪ ،‬والقومية العربية‪ ،‬والوحدة‬ ‫«فالتوحيد» حل ي‬
‫الوطنية‪ ...‬وكافة شعائر الكفر‪ ،‬وأعالم الشرك‪ ،‬وجنوم الزندقة‪.‬‬
‫فإذا ضا التوحيد‪ ،‬أصبح هنارنا كليلنا‪ ،‬ونورنا كظلماتنا‪.‬‬
‫وال رجعة لنا من التيه الذي ضرب بأطنابه حولنا‪ ،‬إالَّ بالرجو املنشود‬
‫للمعني الصايف‪ ،‬الذي يتمثل يف‪ :‬الكتاب‪ ،‬والسنَّة‪ ،‬مع الرتمجة العملية هلما من‬ ‫َ‬
‫أصحاب الثالثة القرون األوىل‪ ،‬ننهل منها عقائدنا‪ ،‬ونستمد شريعة وجودنا‪،‬‬
‫ونستلهم معال طريقنا‪ ،‬وحدود قضيتنا‪ ،‬وكيفية إعادة بناء صفوفنا‪ ،‬حىت نستطيع‬
‫االنطالق الصحيح احلثيث على ضوء ديننا احلنيف‪ ،‬وعلى هدي رعيلنا األول‪،‬‬
‫للقيام بدورنا أوالً جتاه أنفسنا‪ ،‬وثانيًا حيال البشرية كلها من حولنا‪.‬‬
‫وأول أعالم الطريق‪ ،‬ومنارات السبيل‪ ،‬هو القيام باإلخالص والتوحيد‪،‬‬
‫والقضاء على الشرك والتنديد‪.‬‬
‫وإليكم الدليل والربهان على كل ما تقدم من اآلمال واآلالم‪.‬‬

‫‪-34-‬‬
‫المبحث األول‬
‫لقد مأل الشرك األرض‪ ،‬قاصيها ودانيها‪،‬‬
‫وللشيطان ما يبذل من أهله‪ ،‬وليس للرحمن من ذلك نصيب‬

‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرمحن يف بيان أحوال األمة‪ ،‬وما أصاهبا‬
‫من الشرك الذي ضرب بأطنابه وجذوره يف كافة بلدان املسلمني‪ ،‬قبل ظهور‬
‫مجيعا‪.‬‬
‫الوهاب رمحهم اهلل ً‬
‫دعوة الشيخ حممد بن عبد َّ‬
‫«كان‪ 5‬أهل عصره ومصره يف تلك األزمان‪ ،‬قد اشتدت غربة اإلسالم‬
‫بينهم‪ ،‬وعفت آثار الدين لديهم‪ ،‬واهندمت قواعد امللَّة احلنيفية‪ ،‬وغلب على‬
‫األكثرين ما كان عليه أهل اجلاهلية‪ ،‬وانطمست أعالم الشريعة يف ذلك الزمان‪،‬‬
‫وشب ِِ الصغري‪ ،‬وهو ال‬
‫وغلب اجلهل والتقليد‪ ،‬واإلعراض عن السنَّة والقرآن‪َّ ،‬‬
‫يعرف من الدين إالَّ ما كان عليه أهل تلك البلدان‪ ،‬وهرم الكبري على ما تلقاه‬
‫عن اآلباء واألجداد‪ ،‬وأعالم الشريعة مطموسة؛ ونصوص التنزيل وأصول السنة‬
‫فيما بينهم مدروسة‪ ،‬وطريقة اآلباء واألسالف مرفوعة األعالم‪ ،‬وأحاديث‬
‫الكهان‪ ،‬والطواغيت‪ ،‬مقبولة غري مردودة‪ ،‬وال مدفوعة‪ ،‬قد خلعوا ربقة التوحيد‬‫َّ‬
‫وجدوا واجتهدوا يف االستغاثة والتعلق على غري اهلل‪ ،‬من األولياء‪،‬‬ ‫والدين‪ُّ ،‬‬
‫والصاحلني‪ ،‬واألوثان‪ ،‬واألصنام‪ ،‬والشياطني‪...‬‬

‫(حالة بالد نجد)‬


‫فأما بالد جند‪ :‬فقد بالغ الشيطان يف كيدهم وجدَّ‪ ،‬وكانوا ينتابون‪ :‬قرب زيد‬
‫بن اْلطاب‪ ،‬ويدعونه رغبًا ورهبًا ‪ ،‬بفصيح اْلطـاب‪ ،‬ويزعـمون أنه‬

‫‪-36-‬‬
‫يقضي هلم احلوائج‪ ،‬ويرونه من أكرب الوسائل والوالئج‪ ،‬وكذلك عند قرب‬
‫يزعمون أنه قرب‪ :‬ضرار بن األزور‪ ،‬وذلك كذب ظاهر‪ ،‬وهبتان‬
‫(‪)1‬‬
‫مزرو ‪...‬‬
‫(حالة بالد الحرمين آنذاك)‬
‫حىت بالد احلرمني الشريفني! فمن ذلك‪ :‬ما يفعل عند قرب حمجوب؛ وقبَّة أىب‬
‫طالب‪ ،‬فيأتون قربه بالشماعات والعالمات‪ ،‬لالستغاثة عند نزول املصائب‪،‬‬
‫وحلول النواكب‪ ،‬وكانوا له يف غاية التعظيم‪ ،‬وما ال جيب عند البيت الكرمي! فلو‬
‫دخل سارق‪ ،‬أو غاصب‪ ،‬أو ظال قرب أحدمها‪ ،‬ل يتعرض له أحد‪ ،‬ملا يرون له‬
‫من وجوب التعظيم‪ ،‬واالحرتام‪ ،‬واملكارم‪...‬‬
‫(حالة بالد الطائف)‬
‫ويف الطائف‪ :‬قرب ابن عباس رضي اهلل عنهما‪ ،‬يفعل عنده من األمور الشركية‬
‫الىت تشمئز منها نفوس املوحدين‪ ،‬وتنكره قلوب عباد اهلل املخلصني‪ ،‬وتردها‬
‫اآليات القرآنية‪ ،‬وما ثبت من النصوص عن سيد املرسلني‪ ،‬منها‪ :‬وقوف السائل‬
‫متضر ًعا مستغيثًا‪ ،‬وإبداء الفاقة إىل معبودهم‪ ،‬مستكينًا مستعينًا‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫عند القرب‬
‫وصرف خال احملبة الىت هى حمبة العبودية‪ ،‬والنذر والذبح ملن حتت ذاك‬
‫املشهد‪ ،‬والبنية‪.‬‬
‫وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون باألسواق‪ :‬اليوم على اهلل وعليك يا ابن‬
‫عباس‪ ،‬فيستمدون منه الرزق‪ ،‬والغوث‪ ،‬وكشف الضر‪ ،‬والبأس‪...‬‬
‫املشرفة‪ ،‬على ساكنها أفضل الصالة والسالم‪ ،‬هو‬ ‫كذلك ما يفعل باملدينة َّ‬
‫من هذا القبيل‪ ،‬بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل‪ ،‬ويف بندر جدة ما قد بلغ‬
‫حواء؛ وضعه هلم‬ ‫من الضالل حدَّه‪ ،‬وهو القرب الذي يزعمون أنه قرب ي‬
‫بعض الشيـاطني‪ ،‬وأكثروا يف شأنه اإلفك املبني‪ ،‬وجعلوا له السدنة واْلدام‪،‬‬

‫مزور)‪.‬‬
‫(‪ )1‬هكذا يف األصل‪ ،‬ولعلها ( َّ‬

‫‪-35-‬‬
‫وبالغوا يف خمالفة ما جاء به حممد عليه أفصل الصالة والسالم‪ ،‬من النهي عن‬
‫تعظيم القبور‪ ،‬والفتنة مبن فيها من الصاحلني والكرام‪...‬‬

‫(حالة بالد مصر)‬


‫وأما بالد مصر‪ ،‬وصعيدها‪ ،‬وفيُّومها‪ ،‬وأعماهلا‪ ،‬فقد مجعت من األمور‬
‫الشركية‪ ،‬والعبادات الوثنية‪ ،‬والدعاوى الفرعونية‪ ،‬ما ال يتسع له كتاب‪ ،‬وال يدنو‬
‫املعتقدين املعبودين‪،‬‬
‫له خطاب‪ ،‬ال سيما عند مشهد‪ :‬أمحد البدوي‪ ،‬وأمثاله من َ‬
‫فقد جاوزوا هبم ما ادعته اجلاهلية آلهلتهم؛ ومجهورهم يرى‪ :‬من تدبري الربوبية‪،‬‬
‫والتصريف يف الكون باملشيئة‪ ،‬والقدرة العامة‪ ،‬ما ل ينقل مثله عن أحد من‬
‫الفراعنة والنماردة‪...‬‬

‫(حالة أهل اليمن)‬


‫كذلك ما يفعل يف بلدان اليمن‪ ،‬جار على تلك الطريق والسنن؛ ففي‬
‫يتنزه العاقل عن ذكره ووصفه‪،‬‬ ‫صنعاء‪ ،‬وبر ‪ ،‬واملخا‪ ،‬وغريها من تلك البالد‪ ،‬ما َّ‬
‫وال ميكن الوقوف على غايته وكشفه؛ ناهيك بقوم‪ :‬استخفَّهم الشيطان‪ ،‬وعدلوا‬
‫عن عبادة الرمحن‪ ،‬إىل عبادة القبور والشيطان؛ فسبحان من ال يعجل بالعقوبة‬
‫على اجلرائم‪ ،‬وال يهمل احلقوق واملظال‪.‬‬
‫ويف حضرموت‪ ،‬والشحر‪ ،‬وعدن‪ ،‬ويافع‪ ،‬ما تستك عن ذكره املسامع‪ ،‬يقول‬
‫قائلهم‪ :‬شيء هلل يا عيدروس! شيء هلل يا حميي النفوس!‬
‫ويف أرض جنران‪ ،‬من تالعب الشيطان‪ ،‬وخلع ربقة اإلميان‪ ،‬ما ال خيفى على‬
‫املسمى‪ :‬بالسيد‪ ،‬لقد أتوا من طاعته‬ ‫أهل العلم هبذا الشأن‪ ،‬كذلك رئيسهم َّ‬
‫وتعظيمه‪ ،‬وتقدميه وتصديره‪ ،‬والغلو فيه‪ ،‬مبا أفضى هبم إىل مفارقة امللَّة واإلسالم‪،‬‬
‫واالحنياز إىل عبادة األوثان واألصنام‪َّ ﴿ :‬اختَذواْ أَحبارهم ورهبانَـهم أَربابا ِّمن د ِ‬
‫ون‬ ‫ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َْ ً‬
‫اللي ِه والْم ِسيح ابن مرَمي وما أ ِمرواْ إِالَّ لِيـعبدواْ إِلَـها و ِ‬
‫احـ ًدا‬ ‫ً َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ َ ْ َ َْ َ ََ‬

‫‪-34-‬‬
‫الَّ إِلَـهَ إِالَّ ه َو سْب َحانَه َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [التوبة‪.]39 :‬‬
‫(حالة بالد الشام والعراق)‬
‫وكذلك‪ ،‬حلب‪ ،‬ودمشق‪ ،‬وسائر بالد الشام‪ ،‬فيها من تلك املشاهد‪،‬‬
‫والنُّصب‪ ،‬واألعالم‪ ،‬ما ال جيامع عليه أهل اإلميان واإلسالم‪ ،‬من أتبا سيد‬
‫األنام‪ ،‬وهى‪ :‬تقارب ما ذكرنا من الكفريات املصرية‪ ،‬والتلطخ بتلك األحوال‬
‫الوثنية الشركية‪.‬‬
‫وكذلك‪ :‬املوصل‪ ،‬وبالد األكراد‪ ،‬ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور‬
‫والفساد؛ ويف العراق‪ :‬من ذلك حبره احمليط بسائر اْللجان‪ ،‬وعندهم املشهد‬
‫ميسًرا‪ ،‬وأعادوا به‬
‫وخالقا ِّ‬
‫ً‬ ‫احلسين‪ ،‬قد اختذه الرافضة وثنًا‪ ،‬بل ربًا مدبِّـًرا‪،‬‬
‫اجملوسية‪ ،‬وأحيوا به معاهد الالت والعزى‪ ،‬وما كان عليه أهل اجلاهلية‪...‬‬
‫وكذلك مجيع قرى الشط؛ واجملرة‪ ،‬على غاية من اجلهل‪ ،‬ويف القطيف‪،‬‬
‫والبحرين‪ ،‬من البد الرافضية‪ ،‬واألحداث اجملوسية‪ ،‬واملقامات الوثنية‪ ،‬ما يضاد‬
‫(‪)1‬‬
‫ويصادم أصول امللَّة احلنيفية» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)315 – 314/9( :‬‬

‫‪-31-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫لقد دار الناس مع أسماء‪ ،‬قد خلت من حقائقها ومدلولتها‬
‫ولم يقفوا مع المعاني التي تعلقت بها األحكام فعاد بذلك‪:‬‬
‫الشرك والتنديد‪ ،‬واستغنى أهله به عن اإلخالص والتوحيد‬

‫قال عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬


‫دس عليهم‬
‫«وتلطف الشيطان يف كيد هؤالء الغالة يف قبور الصاحلني‪ ،‬بأن َّ‬
‫تغيري األمساء واحلدود الشرعية‪ ،‬واأللفاظ اللغوية‪ ،‬فسموا الشرك وعبادة‬
‫استظهارا‬
‫ً‬ ‫وتشفعا هبم‪ ،‬و‬
‫ً‬ ‫توسالً ونداء‪ ،‬وحسن اعتقاد يف األولياء‪،‬‬
‫الصاحلني‪ُّ :‬‬
‫بأرواحهم الشريفة؛ فاستجاب له صبيان العقول‪ ،‬وخفافيش البصائر‪ ،‬وداروا مع‬
‫األمساء‪ ،‬ول يقفوا مع احلقائق‪.‬‬
‫فعادت عبادة األولياء والصاحلني‪ ،‬ودعاء األوثان والشياطني‪ ،‬كما كانت‬
‫القذة َّ‬
‫بالقذة‪ ،‬وهذا من‬ ‫قبل النبوة‪ ،‬ويف زمان الفرتة حذو النعل بالنعل‪ ،‬وحذو َّ‬
‫عم‬
‫أعالم النبوة‪ ،‬كما ذكره غري واحد‪ ،‬ول يزل ذلك يف ظهور وازدياد‪ ،‬حىت َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫ضرره‪ ،‬وبلغ شرره احلاضر والباد» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرمحن أبو بطني ‪ -‬رمحه اهلل تعاىل‪:-‬‬
‫«فإذا علم اإلنسان‪ ،‬وحتقق معى اإلله وأنه‪ :‬املعبود‪ ،‬وعرف حقيقة العبادة‪،‬‬
‫تبني له أن من جعل شيئًا من العبادة لغري اهلل فقد عبده واختذه‬
‫وتشفعا والتجاء‬
‫ً‬ ‫معبودا أو إهلًا‪ ،‬ومسى ذلك‪ :‬توسالً‬
‫إهلًا‪ ،‬وإن فـير من تسميته ً‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية يف األجوبة النجدية»‪.)213/92( :‬‬

‫‪-31-‬‬
‫وحنو ذلك‪.‬‬
‫فاملشرك مشرك شاء أم أىب؛ كما أن املرايب مراب شاء أم أىب؛ وإن ل يسم‬
‫(‪)1‬‬
‫ما فعله ربا؛ وشارب اْلمر شارب للخمر‪ ،‬وإن مساها بغري امسها» ‪.‬‬
‫(لقد بلغ المشركون ح ادا في شركهم‪ ،‬يربو على شرك أهل الجاهلية‬
‫األولى)‬
‫قال عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫ونذكر لك هنا طرفًا من معتقد عباد القبور والصاحلني‪ ،‬وحقيقة ما هم عليه‬
‫من الدين‪ ،‬وليعلم الواقف عليه أي الفريقني أحق باألمن‪ ،‬إن كان الواقف ممن‬
‫ُّعا‬
‫املن‪ ،‬ولئال يلتبس األمر بتسميتهم لكفرهم وحماهلم‪ :‬تشف ً‬
‫اختصه اهلل بالفضل و ي‬
‫استظهارا‪ ،‬مع ما يف التسمية من اهلالك املتناهي عند من عقل احلقائق‪.‬‬
‫ً‬ ‫وتوسالً و‬
‫ُّ‬
‫من ذلك حمبتهم مع اهلل حمبة تأله وخضو ورجاء‪ ،‬ودعاؤهم مع اهلل يف‬
‫امللمات واحلوادث اليت ال يكشفها وال جييب الدعاء فيها إالَّ فاطر‬
‫املهمات و َّ‬
‫َّ‬
‫األرض والسماوات والعكوف حول أجداثهم‪ ،‬وتقبيل أعتاهبم‪ ،‬والتمسح‬
‫وإظهارا للفاقة‪ ،‬وإبداء للفقر‬
‫ً‬ ‫بآثارهم‪ ،‬طلبًا للغوث‪ ،‬واستجابة للدعوات‬
‫والضراعة‪ ،‬واستنـزاالً للغوث واألمطار‪ ،‬وطلبًا للسالمة من شدائد الرب والبحار‪،‬‬
‫وسؤاهلم تزوجيهم األرامل واأليامى‪ ،‬واللطف بالضعفاء واليتامى‪ ،‬واالعتماد عليهم‬
‫يف املطالب العالية‪ ،‬وتأهيلهم ملغفرة الذنوب والنجاة من اهلاوية‪ ،‬وإعطاء تلك‬
‫(‪)2‬‬
‫املراتب السامية» ‪.‬‬
‫هذه هي بإجياز أحوال املشركني يف عصر الشيخ اإلمام حممد بن عبد‬
‫الرتدي املشني يف أوحال الشرك الوخيم‪.‬‬
‫الوهاب‪ ،‬وما دهاهم من ِّ‬

‫(‪« )1‬عقيدة املوحدين» ‪ -‬رسالة االنتصار حلزب اهلل املوحدين ـ‪( :‬ص‪.)92‬‬
‫(‪« )2‬منهاج التأسيس والتقديس»‪.)69-65( :‬‬

‫‪-45-‬‬
‫ولقد آثرت هذه البداية‪ ،‬لتتجلى هبا قضية التوحيد ‪ -‬ألنه بالضد تعرف‬
‫األشياء‪ ،-‬وليدرك العلماء والدعاة واملربون‪ :‬خطورة املوقف وعظم املقام‪ ،‬عندما‬
‫يغييب التوحيد‪ ،‬وحيل حمله الشرك والتنديد برب العاملني‪ ،‬ومن مثي تعلو راية الشرك‬
‫املوحدين‬
‫خفاقة‪ ،‬وينجم علم الزندقة فوق رءوس األمة‪ ،‬ويلوح هبما يف وجه ِّ‬
‫نكاية هبم‪ ،‬وضربة موجعة لكياهنم وصفوفهم‪...‬‬
‫املاسة ملعرفة التوحيد‪ ،‬واحلد احلقيقي‬
‫واحلاصل أن ما تقدم ينبئ حباجة األمة َّ‬
‫من الديانة‪ ،‬الذي ينبغي القيام به حىت تتحقق النجاة احلقيقية ويتسى لألمة‬
‫القيام بدورها املناط هبا‪ ،‬واملراد هلا‪.‬‬
‫سود علماء وأئمة األمة كتبهم يف جالء قضية التوحيد‪،‬‬ ‫وهلذا ولغريه الكثري َّ‬
‫لبناء حائط الصدر الشامخ‪ ،‬الذي يقي األمة الضربات املتالحقة من قبل‬
‫أعدائها‪ ،‬ويضمن هلا استمرارية البقاء يف حلبة الصرا ‪ ،‬عن طريق اجلهاد احلثيث‪،‬‬
‫املتواصل‪ ،‬للحفاظ على عقيدة املسلمني صافية‪ ،‬من زيف وبطالن دعاوى أهل‬
‫الشرك واإلحلاد‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪-49-‬‬
‫الفصل األول‬
‫حقيقة اإلسالم وشروط قبوله‬

‫وفيه ثالثة مباحث‪:‬‬

‫املوحدين‬
‫املبحث األول‪ :‬حقيقة اإلسالم الفارقة بني ِّ‬
‫املسلمني‪ ،‬واملشركني الكافرين‬
‫املبحث الثاي‪ :‬شروط صحة اإلسالم وقَبوله‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬الرباءة من الشرك وأهله‪ ،‬شرط يف‬
‫صحة اإلسالم وقَبوله باإلمجا ‪.‬‬

‫‪-42-‬‬
-43-
‫المبحث األول‬
‫حقيقة اإلسالم الفارقة بين الموحدين المسلمين‬
‫والمشركين الكافرين‬
‫معرفًا اإلسالم‪:‬‬
‫قال اإلمام حممد بن عبد الوهاب ِّ‬
‫«هو االستسالم هلل بالتوحيد‪ ،‬واالنقياد له بالطاعة‪ ،‬والرباءة من الشرك‬
‫(‪)1‬‬
‫وأهله» ‪.‬‬
‫ضا ‪ -‬رمحه اهلل‪:-‬‬
‫وقال أي ً‬
‫«وأصله ‪ -‬أي اإلسالم ‪ -‬وقاعدته أمران‪:‬‬
‫األول‪ :‬األمر بعبادة اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬واملواالة فيه‪ ،‬وتكفري من تركه؛‬
‫واإلنذار عن الشرك يف عبادة اهلل‪ ،‬والتغليظ يف ذلك‪ ،‬واملعاداة فيه‪ ،‬وتكفري من‬
‫(‪)2‬‬
‫فعله» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد الرمحن بن حسن ‪ -‬رمحه اهلل تعاىل‪:-‬‬
‫«ال يصح ألحد إسالم إالَّ مبعرفة ما دلَّت عليه هذه الكلمة ‪ -‬أي كلمة‬
‫التوحيد ‪ -‬من نفي الشرك يف العبادة‪ ،‬والرباءة منه وممن فعله ومعاداته‪ ،‬وإخالص‬
‫(‪)3‬‬
‫العبادة هلل وحده ال شريك له‪ ،‬واملواالة يف ذلك» ‪.‬‬
‫وقال عبد اهلل وإبراهيم ابنا عبد اللطيف‪ ،‬وسليمان بن مسحان ‪ -‬رحم اهلل‬
‫اجلميع‪:-‬‬
‫حقيقة اإلسالم اليت بعث اهلل هبا رسله الكرام‪ ،‬ودعوا إليها تتمثل يف‪:‬‬
‫وجوب عبادة اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وإخالص العمل له‪ ،‬وأن ال يشرك يف‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية يف األجوبة النجدية»‪.)921/9( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)963/2( :‬‬
‫(‪« )3‬جممو الرسائل واملسائل»‪.)644/6( :‬‬

‫‪-44-‬‬
‫واجب حقه أحد من خلقه‪ ،‬وأن يوصف مبا وصف به نفسه من صفات‬
‫الكمال ونعوت اجلالل‪.‬‬
‫فمن خالف ما جاءوا به‪ ،‬ونفاه وأبطله‪ ،‬فهو كافر ضال‪ ،‬وإن قال‪ :‬ال إله‬
‫إالَّ اهلل‪ ،‬وزعم أنه مسلم‪ ،‬ألن ما قام به من الشرك يناقض ما تكلَّم به من كلمة‬
‫التوحيد‪ ،‬فال ينفعه التلفظ بقول‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ألنه تكلَّم مبا ل يعمل به‪ ،‬ول‬
‫(‪)1‬‬
‫دل عليه» ‪ .‬اهـ‪.‬‬ ‫يعتقد ما ي‬
‫وقال إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن ‪ -‬رحمهم اهلل تعالى‪:-‬‬
‫وجمرد اإلتيان بلفظ الشهادة‪ ،‬من غري‬
‫«قال حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل‪َّ :‬‬
‫مسلما؛ بل هو حجة‬‫علم مبعناها‪ ،‬وال عمل مبقتضاها‪ ،‬ال يكون به املكلَّ (ف‪ً )2‬‬
‫جمرد‪ :‬اإلقرار» ‪.‬‬ ‫على ابن آدم‪ ،‬خالفًا ملن زعم أن اإلميان َّ‬
‫وقال الشيخ حممد بن إبراهيم بن عبد اللطيف‪ ،‬مفيت الديار النجدية يف وقته‬
‫‪ -‬رمحه اهلل تعاىل‪:-‬‬
‫ويؤدون‬
‫كثريا من الناس ينتسبون إيل اإلسالم‪ ،‬وينطقون بالشهادتني‪ُّ ،‬‬ ‫«فإن ً‬
‫أركان اإلسالم الظاهرة‪ ،‬وال يكتفى بذلك يف احلكم بإسالمهم‪ ،‬وال حتل ذكاهتم‬
‫لشركهم باهلل يف العبادة بدعاء األنبياء والصاحلني‪ ،‬واالستغاثة هبم وغري ذلك من‬
‫أسباب الردة عن اإلسالم‪.‬‬
‫وهذا التفريق بني املنتسبني إىل اإلسالم‪ ،‬أمر معلوم باألدلة من الكتاب‬
‫(‪)3‬‬
‫والسنَّة‪ ،‬وإمجا سلف األمة وأئمتها» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫املوحدين»‪( :‬ص‪ )469‬بتصرف‪.‬‬


‫(‪« )1‬عقيدة ِّ‬
‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)623 – 622/9( :‬‬
‫املوحدين»‪( :‬ص‪.)312‬‬
‫(‪« )3‬عقيدة ِّ‬

‫‪-46-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫شروط صحة اإلسالم وقبوله‬
‫قال اإلمام محمد بن عبد الوهاب ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪:-‬‬
‫اعلم رمحك اهلل‪ :‬أن دين اهلل يكون على القلب باالعتقاد‪ ،‬وباحلب والبغض‪،‬‬
‫ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر‪ ،‬ويكون على اجلوارح بفعل‬
‫أركان اإلسالم‪ ،‬وترك األفعال اليت تكفر‪ ،‬فإذا اختل واحدة من هذه الثالث‪،‬‬
‫تد‪.‬‬ ‫كفر وار َّ‬
‫مثال عمل القلب‪ :‬أن يظن أن هذا الذي عليه أكثر الناس من االعتقاد يف‬
‫مكذب‬ ‫األحياء واألموات حق‪ ،‬ويستدل بكون أكثر الناس عليه‪ ،‬فهو كافر ِّ‬
‫للنيب ‪ ،‬ولو ل يتكلَّم بلسانه‪ ،‬ول يعمل إالَّ بالتوحيد‪ ،‬وكذلك إذا شط‪ ،‬ال‬
‫يدري من احلق معه‪ ،‬فهذا لو ل يكذب فهو ل يصدق النيب ‪ ،‬فهو يقول‬
‫يبني احلق‪ ،‬فهو يف شك‪ ،‬فهو مرتد ولو ل يتكلَّم إالَّ بالتوحيد‪.‬‬ ‫عسى اهلل أن ِّ‬
‫ومثال اللسان‪ :‬أن يؤمن باحلق وحيبه‪ ،‬ويكفر بالباطل ويبغضه‪ ،‬ولكنه تكلَّم‬
‫شرهم؛ وإما‬ ‫مداراة ألهل األحساء‪ ،‬وألهل مكة أو غريهم بوجوههم‪ ،‬خوفًا من ِّ‬
‫يصرح هلم مبدح ما هم عليه‪ ،‬أو بذكر أنه ترك ما هو عليه‪،‬‬ ‫كالما ِّ‬
‫أن يكتب هلم ً‬
‫أيضا لغروره‪.‬‬ ‫ويظن أنه ماكر هبم‪ ،‬وقلبه موقن أنه ال يضره‪ ،‬وهذا ً‬
‫وهو معى قول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬من َك َفَر بِاللي ِه ِمن بَـ ْع ِد إميَانِِه إِالَّ َم ْن أ ْك ِرَه َوقَـْلبه‬
‫احليا َة الْ ُّدنْـيا علَى ِ‬ ‫ِ‬ ‫مطْمئِن بِا ِإلميَ ِ‬
‫اآلخَرةِ﴾‬ ‫َ َ‬ ‫ك بِأَنـَّهم ْ‬
‫استَ َحبُّواْ ََْ‬ ‫ان﴾‪ ،‬إىل قوله‪َ ﴿ :‬ذل َ‬ ‫َ‬
‫[النحل‪ ،]954 ،955 :‬فقط ال لتغري عقائدهم‪.‬‬

‫‪-45-‬‬
‫فمن عرف هذا‪ ،‬عرف أن اْلطر‪ ،‬خطر عظيم شديد‪ ،‬وعرف شدة احلاجة‬
‫اعتقادا أو ش ًكا أو‬
‫ً‬ ‫نطقا أو‬
‫للتعلم واملذاكرة‪ ،‬وهذا معى قوله يف اإلقنا يف الردة‪ً ،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫فعالً‪ ،‬واهلل أعلم» ‪.‬‬
‫وقال عبد اهلل بن عبد الرمحن أبو بطني ‪ -‬رمحه اهلل تعاىل‪:-‬‬
‫أن اهلل سبحانه خالق كل شيء ومليكه‬ ‫«اإلقرار بتوحيد الربوبية‪ ،‬وهو َّ‬
‫قر به املسلم والكافر وال بد منه‪ ،‬لكن ال يصري اإلنسان به‬ ‫ومدبِّره‪ ،‬فهذا ي ُّ‬
‫مسلما حىت يأيت بتوحيد األلوهية الذي دعت إليه الرسل‪ ،‬وأىب عن اإلقرار به‬ ‫ً‬
‫(‪)2‬‬
‫املشركون‪ ،‬وبه يتميَّز املسلم من املشرك‪ ،‬وأهل اجلنة من أهل النار» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل ‪ -‬رمحهما اهلل تعاىل‪:-‬‬
‫«فاعلم أن العلماء أمجعوا على أن من صرف شيئًا من نوعي الدعاء لغري اهلل‬
‫فهو مشرك‪ ،‬ولو قال‪ :‬ال إله إالَّ اهلل حممد رسول اهلل وصلَّى وصام‪ ،‬إذ شرط‬
‫اإلسالم مع التلفظ بالشهادتني‪ :‬أن ال يعبد إالَّ اهلل‪ ،‬فمن أتى بالشهادتني‪ ،‬وعبد‬
‫غري اهلل‪ ،‬فما أتى هبما حقيقة‪ ،‬وإن تلفظ هبما‪ ،‬كاليهود الذين يقولون‪ :‬ال إله إال‬
‫اهلل وهم مشركون‪.‬‬
‫وجمرد التلفظ بالشهادتني ال يكفي يف اإلسالم بدون العمل مبعناها‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫إمجاعا» ‪.‬‬
‫واعتقادها ً‬
‫وقال الشيخ عبد الرمحن بن حسن ‪ -‬رمحه اهلل تعاىل‪:-‬‬
‫«فال إله إالَّ اهلل‪ ،‬هي‪ :‬كلمة اإلسالم ال يصح إسالم أحد إالَّ مبعرفة ما‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)11 ،14/95( :‬‬


‫(‪« )2‬عقيدة املوحدين والرد على الضالَّل واملبتدعني» رسالة االنتصار حلزب اهلل ِّ‬
‫املوحدين‪( :‬ص‪.)99‬‬

‫(‪« )3‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)966 ،964‬‬

‫‪-44-‬‬
‫وضعت له‪ ،‬ودلَّت عليه‪ ،‬وقَبوله‪ ،‬واالنقياد للعمل به‪ ،‬وهي كلمة اإلخالص‬
‫(‪)1‬‬
‫املنايف للشرك‪ ،‬وكلمة التقوى» ‪.‬‬
‫وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء «فتوى رقم‬
‫‪:»66153‬‬
‫احلد الفاصل بني الكفر واإلسالم‪ ،‬وهل من ينطق بالشهادتني مث‬ ‫س‪ :‬ما هو ُّ‬
‫يأيت بأفعال تناقضهما يدخل يف عداد املسلمني رغم صالته وحياته؟‬
‫ج‪ :‬احلمد هلل وحده والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه‪ ...‬وبعد‪:‬‬
‫احلد بني الكفر واإلسالم النطق بالشهادتني مع الصدق واإلخالص والعمل‬
‫مبقتضامها‪ ،‬فمن حتقق فيه ذلك فهو مسلم مؤمن‪ .‬أما من نافق فلم يصدق ول‬
‫خيل فليس مبؤمن‪ ،‬وكذا من نطق هبما وأتى مبا يناقضهما من الشرك‪ ،‬مثل من‬
‫يستغيث باألموات يف الشدَّة أو الرخاء‪ ،‬ومن يؤثر احلكم بالقوانني الوضعية على‬
‫احلكم مبا أنزل اهلل تعاىل‪ ،‬ومن يهزأ بالقرآن أو ما ثبت من سنَّة رسول اهلل ‪‬‬
‫فهذا كافر وإن نطق بالشهادتني وصلَّى وصام‪.‬‬
‫وباهلل التوفيق وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلم‪.‬‬

‫اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‬


‫الرئيس‬ ‫نائب رئيس اللجنة‬ ‫عضو‬
‫(‪)2‬‬
‫عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز‬ ‫عبد الرزاق عفيفي‬ ‫عبد اهلل بن غديان‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)245/2( :‬‬


‫(‪« )2‬فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء»‪.)45 ،46/2( :‬‬

‫‪-41-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫البراءة من الشرك وأهله‬
‫شرط في صحة اإلسالم وقبوله باإلجماع‬
‫قال الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب ‪ -‬رمحه اهلل تعاىل‪:-‬‬
‫«ال يصح دين اإلسالم إالَّ بالرباءة من هؤالء ‪ -‬أي الطواغيت املعبودة من‬
‫وت َويـ ْؤِمن بِاللي ِه‬
‫دون اهلل ‪ -‬وتكفريهم‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬فَمن يكْفر بِالطَّاغ ِ‬
‫َْ َ ْ‬
‫ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى﴾ [البقرة‪. »]265 :‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫ِ‬
‫استَ ْم َس َ‬
‫فَـ َقد ْ‬
‫وقال عبد الرمحن بن حسن‪:‬‬
‫وخلفا من الصحابة‪ ،‬والتابعني‪ ،‬واألئمة‪ ،‬ومجيع أهل‬ ‫سلفا ً‬‫«أمجع العلماء ً‬
‫بالتجرد من الشرك األكرب‪ ،‬والرباءة منه وممن‬
‫ُّ‬ ‫مسلما‪ ،‬إالَّ‬
‫السنَّة‪ ،‬أن املرء ال يكون ً‬
‫فعله‪ ،‬وبغضهم ومعاداهتم حبسب الطاقة والقدرة‪ ،‬وإخالص األعمال كلها هلل‪،‬‬
‫حق اهلل على العباد أن يعبدوه‬ ‫كما يف حديث معاذ الذي يف الصحيحني‪َّ « :‬‬
‫فإن َّ‬
‫(‪)2‬‬
‫وال يشركوا به شيئًا» ‪.‬‬
‫وقال عبد اللطيف بن عبد الرمحن بن حسن‪:‬‬
‫«إن أصل اإلسالم وقاعدته هي‪ :‬عبادة اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وإفراده‬
‫بالقصد والطلب‪ ،‬وأن توحيد الربوبية واعتقاد الفاعلية له تعاىل‪ ،‬ال يكفي يف‬
‫مسلما حىت يعبد اهلل وحده‪ ،‬ويتربأ مما سواه‬
‫السعادة والنجاة‪ ،‬وال يكون به املرء ً‬
‫(‪)3‬‬
‫من األنداد واآلهلة» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)63/95( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)646/99( :‬‬
‫(‪« )3‬الدرر السنية»‪.)911 ،914/92( :‬‬

‫‪-41-‬‬
‫وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب‪:‬‬
‫من اهلل عليه باإلسالم‪ ،‬وعرف أن ما من إله إالَّ اهلل؛ ال تظن‬ ‫وأنت يا من َّ‬
‫أنك إذا قلت‪ :‬هذا هو احلق‪ ،‬وأنا تارك ما سواه‪ ،‬لكن ال أتعرض للمشركني‪ ،‬وال‬
‫أن ذلك حيصل لك بك الدخول يف اإلسالم‪ ،‬بل ال‬ ‫أقول فيهم شيئًا‪ ،‬ال تظن َّ‬
‫بد من بغضهم‪ ،‬وبغض من حيبهم‪ ،‬ومسبتهم‪ ،‬ومعاداهتم؛ كما قال أبوك‬ ‫َّ‬
‫إبراهيم‪ ،‬والذين معه‪﴿ :‬إِنَّا بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ‬
‫ون اللَّ ِه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا‬ ‫َْ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤمنوا باللَّه َو ْح َده﴾‬ ‫بَـْيـنَـنَا َوبَـْيـنَكم الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ‬
‫[املمتحنة‪.]4 :‬‬
‫ك بِالْع ْرَوِة‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫استَ ْم َس َ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ‬
‫الْوثْـ َق َى﴾ [البقرة‪ ،]265 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولََق ْد بَـ َعثْـنَا ِيف ك ِّل أ َّمة َّرسوالً أ َِن‬
‫ْاعبدواْ الليه و ِ‬
‫وت﴾ [النحل‪.]35 :‬‬ ‫اجتَنبواْ الطَّاغ َ‬
‫ََ ْ‬
‫أتعرض الالَّت‪،‬‬ ‫ولو يقول رجل‪ :‬أنا أتبع النيب ‪ ‬وهو على احلق‪ ،‬لكن ال َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫على منهم؛ ل يصح إسالمه» ‪.‬‬ ‫والعَّزى‪ ،‬وال أتعرض أبا جهل وأمثاله‪ ،‬ما ي‬
‫أيضا ‪ -‬رمحه اهلل‪:-‬‬
‫وقال ً‬
‫ومعى الكفر بالطاغوت‪ :‬أن تربأ من كل ما يعتقد فيه غري اهلل‪ ،‬من جن‪،‬‬
‫أو إنسي‪ ،‬أو شجر‪ ،‬أو حجر‪ ،‬أو غري ذلك‪ ،‬وتشهد عليه الكفر والضالل‪،‬‬
‫وتبغضه‪ ،‬ولو كان أنه أبوك أو أخوك‪ ،‬فأما من قال‪ :‬أنا ال أعبد إالَّ اهلل‪ ،‬وأنا ال‬
‫أتعرض السادة والقباب على القبور وأمثال ذلك‪ ،‬فهذا كاذب يف قول ال إله إالَّ‬
‫(‪)2‬‬
‫اهلل‪ ،‬ول يؤمن باهلل‪ ،‬ول يكفر بالطاغوت» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)951/2( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)929/2( :‬‬

‫‪-65-‬‬
‫وقال حسني وعبد اهلل ابنا الشيخ حممد بن عبد الوهاب ‪ -‬رمحهم اهلل‬
‫مجيعا‪:-‬‬
‫ً‬
‫مسلما إالَّ إذا عرف التوحيد ودان به‪ ،‬وعمل مبوجبه‪،‬‬ ‫إن الرجل ال يكون ً‬
‫وصدق الرسول ‪ ‬فيما أخرب به‪ ،‬وأطاعه فيما هنى عنه وأمر به‪ ،‬وآمن به ومبا‬
‫جاء به‪.‬‬
‫فمن قال ال أعادي املشركني‪ ،‬أو عاداهم ول يكفرهم‪ ،‬أو قال ال أتعرض‬
‫أهل ال إله إالَّ اهلل ولو فعلوا الكفر والشرك وعادوا دين اهلل‪ ،‬أو قال ال أتعرض‬
‫مسلما بل هو ممن قال اهلل فيهم‪َ ﴿ :‬ويقولو َن نـ ْؤِمن‬ ‫ً‬ ‫للقباب‪ ،‬فهذا ال يكون‬
‫َّخذواْ بـ ِ‬
‫ك هم‬ ‫ك َسبِيالً * أ ْولَـئِ َ‬
‫ني َذل َ‬
‫َْ َ‬
‫بِبـعض ونَكْفر بِبـعض وي ِريدو َن أَن يـت ِ‬
‫َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َْ َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ين َع َذابًا ُّم ِهينًا﴾ [النساء‪. ]969 ،965 :‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الْ َكافرو َن َحقًّا َوأ َْعتَ ْدنَا لْل َكاف ِر َ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل»‪.)31/9( :‬‬

‫‪-69-‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫حقيقة التوحيد وأركانه ومقتضياته وأنواعه‬
‫وفيه مثانية مباحث‪:‬‬
‫املبحث األول‪ :‬معى اإلله الذي ينبغي معرفته والعمل مبوجبه لتحقيق‬
‫التوحيد مع االخنال من الشرك والتنديد‪.‬‬
‫املبحث الثاي‪ :‬ح يد العبادة وكيفية القيام هبا‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬من شروط صحة العبادة‪ :‬الكفر بالطاغوت‪،‬‬
‫واالخنال من الشرك مع الرباءة من املشركني‪.‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬حقيقة التوحيد وأنواعه وحدود العالقة بينهما‪.‬‬
‫املبحث اْلامس‪ :‬كمال اهلل املطلق من مجيع الوجوه أوجب له سبحانه‪:‬‬
‫املوحدون ببطالن‬
‫وحدانيته يف ربوبيته وألوهيته‪ ،‬وبه جزم ِّ‬
‫كل مايعبد من دونه‪ ،‬ووجوب ذلك ثابت بالعقل والفطرة والنقل‪.‬‬
‫املبحث السادس‪ :‬أصول التوحيد العاصمة من الشرك والتنديد‪ ،‬قد اتفقت‬
‫النبوات‪ ،‬ومن مث فال يسع‬
‫عليها الرساالت‪ ،‬وتطابقت عليها َّ‬
‫أي عبد فيها إالَّ االتبا دون االبتدا واالجتهاد‪.‬‬
‫املبحث السابع‪ :‬شروط وأركان «ال إله إالَّ اهلل» مع بيان أن‬
‫املقصود األعظم منها‪ :‬حتقيق معناها يف القلب‪،‬‬
‫فالنطق هبا باللسان‪ ،‬فالقيام مبقتضاها باجلوارح‪.‬‬
‫املبحث الثامن‪ :‬أحوال وأصناف الناطقني بكلمة التوحيد‪.‬‬

‫‪-62-‬‬
-63-
‫مدخل مفيد لفهم قضية التوحيد‬

‫لقد انعقد إمجا الصحابة‪ ،‬ومن ورائهم أهل السنَّة ‪ -‬السائرين على أصول‬
‫أن معى «ال إله إالَّ‬
‫درهبم ‪ -‬يف كل عصر ومصر من عصورهم وأمصارهم على َّ‬
‫اهلل» هو‪ :‬ال معبود حبق إالَّ اهلل‪.‬‬
‫ومن مثَّ حتتَّم على كل عبد‪ :‬العلم مبدلول كلميت «اإلله» و«العبادة»‪ ،‬حىت‬
‫يتسى له معرفة معاي ومقتضيات ولوازم ومبطالت الكلمة العاصمة‪ ،‬كلمة‬ ‫َّ‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫ونطقا وعمالً‪ ،‬هو‬
‫علما واعتق ًادا ً‬
‫وال يفوتن التذكري هنا بأن حتقيق التوحيد ً‬
‫نقطة االنطالق األوىل لتحقيق مشروعية وجود األمة‪ ،‬وهو السبيل الوحيد‬
‫العاصم من كيد الكفار وخمططات اإلحلاد‪.‬‬
‫وبه نستطيع أن نفيء من غفلتنا وسباتنا العميق لنتسلَّم زمام أمرنا من أيدي‬
‫أعدائنا‪ ،‬لنقود قافلة أمتنا حبكم ربنا وهدي نبينا ‪.‬‬
‫ومن مث نستطيع القيام بالدور الريادي املناط بنا وهو قيادة البشرية وهدايتها‬
‫لعلة خلقها واحلكمة من وجودها وهي‪ :‬إفراد اهلل سبحانه بالعبادة‪ ،‬مع الكفر‬
‫والرباءة من كل ما يعبد من دونه‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪-64-‬‬
‫المبحث األول‬
‫معنى اإلله الذي ينبغي معرفته‪ ،‬والعمل بموجبه‪،‬‬
‫لتحقيق التوحيد مع النحالع من الشرك والتنديد‬
‫قال الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل‪:‬‬
‫«فاعلم أن اإلله هو‪ :‬املعبود‪ .‬هذا هو تفسري هذه اللفظة بإمجا أهل العلم‪،‬‬
‫فمن عبد شيئًا فقد اختذه إهلًا من دون اهلل‪ ،‬ومجيع ذلك باطل‪ ،‬إالَّ إله واحد‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫كبريا» ‪.‬‬
‫وهو اهلل وحده تبارك وتعاىل ع ًلوا ً‬
‫وقال عبد الرمحن بن حسن‪:‬‬
‫وقال أبو عبد اهلل القرطيب يف تفسريه «ال إله إال اهلل»‪ ،‬أي‪ :‬ال معبود إال‬
‫هو‪.‬‬
‫وقال الزخمشري‪« :‬اإلله» من أمساء األجناس‪ .‬كالرجل والفرس‪ ،‬يقع على‬
‫كل معبود حبق أو باطل‪ ،‬مث غلب على املعبود حبق‪.‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم‪« :‬اإلله» هو املعبود املطا ‪ ،‬فإن اإلله هو املألوه‪ ،‬واملألوه‬
‫هو الذي يستحق أن يعبد‪ .‬وكونه يستحق أن يعبد هو مبا اتصف به من‬
‫الصفات اليت تستلزم أن يكون هو احملبوب غاية احلب‪ ،‬املخضو له غاية‬
‫اْلضو ‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن اإلله احملبوب املعبود الذي تأ َهله القلوب حببها‪ ،‬وختضع له وتذل‬
‫مهماهتا‪ ،‬وتتوكل عليه يف‬‫له‪ ،‬وختافه وترجوه‪ ،‬وتنيب إليه يف شدائدها‪ ،‬وتدعوه يف َّ‬
‫مصاحلها‪ ،‬وتلجأ إليه وتطمئن بذكره‪ ،‬وتسكن إىل حبه‪ ،‬وليس ذلك إالَّ هلل‬
‫(‪)2‬‬
‫وحده» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪.)95/4( :‬‬


‫(‪« )2‬فتح اجمليد»‪.)49/ ( :‬‬

‫‪-66-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫حد العبادة وكيفية القيام بها‬

‫قال سليمان بن عبد اهلل رمحه اهلل يف شرحه على كتاب التوحيد‪:‬‬
‫«قال شيخ اإلسالم‪( :‬العبادة) هي طاعة اهلل بامتثال ما أمر به على ألسنة‬
‫الرسل‪.‬‬
‫أيضا‪( :‬العبادة) اسم جامع لكل ما حيبه اهلل ويرضاه‪ ،‬من األقوال‬ ‫وقال ً‬
‫واألعمال الباطنة والظاهرة‪.‬‬
‫كملها كمل مراتب‬ ‫وقال ابن القيم‪ :‬ومدارها على مخس عشرة قاعدة‪ ،‬من َّ‬
‫العبودية‪ ،‬وبيان ذلك‪ :‬أن العبادة منقسمة على القلب‪ ،‬واللسان‪ ،‬واجلوارح‪.‬‬
‫واألحكام اليت للعبودية مخسة‪ :‬واجب‪ ،‬ومستحب‪ ،‬وحرام‪ ،‬ومكروه‪ ،‬ومباح‪.‬‬
‫وهن لكل واحد من القلب واللسان واجلوارح‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وقال القرطيب‪ :‬أصل (العبادة) التذلل واْلضو ‪ ،‬ومسِّيت وظائف الشر على‬
‫املكلفني عبادات‪ ،‬ألهنم يلتزموهنا ويفعلوهنا خاضعني متذلِّلني هلل تعاىل‪.‬‬
‫وقال ابن كثري‪( :‬العبادة) يف اللغة من الذلة‪ ،‬يقال‪ :‬طريق معبَّد وغري معبَّد‪،‬‬
‫أي‪ :‬مذلَّل‪ ،‬ويف الشر ‪ :‬عبارة عما جيمع كمال احملبة واْلضو واْلوف‪ ،‬وهكذا‬
‫(‪)1‬‬
‫ذكر غريهم من العلماء» ‪.‬‬
‫وقال حممد بن عبد اللطيف بن عبد الرمحن رمحه اهلل تعاىل‪:‬‬
‫ون﴾ [الذاريات‪:‬‬ ‫اجلِ َّن واإلْ ِِنس إِالَّ لِيـعبد ِ‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫«قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما َخلَ ْقت ْ َ‬
‫يوحدون‪ ،‬والعبادة هي‪ :‬التوحيد‪ ،‬ألن اْلصومة بني الرسل‬ ‫‪ ،]65‬ومعى يعبدون‪ِّ :‬‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪.)32 – 39( :‬‬

‫‪-65-‬‬
‫ِ‬
‫وأممهم فيه‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولََق ْد بَـ َعثْـنَا ِيف ك ِّل أ َّمة َّرسوالً أَن ْاعبدواْ الليهَ‬
‫(‪)1‬‬ ‫و ِ‬
‫وت﴾ [النحل‪. »]35 :‬‬ ‫اجتَنبواْ الطَّاغ َ‬
‫َ ْ‬
‫املسماة‪« :‬تنزيه الذات والصفات‬ ‫وقال بعض علماء جند األعالم يف رسالتهم َّ‬
‫من َدرن اإلحلاد والشبهات»‪:‬‬
‫«والعبادة أنوا ‪:‬‬
‫اعتقادية‪ - :‬وهي أساسها ‪ -‬وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد األحد الذي‬
‫له اْللق واألمر‪ ،‬وبيده النفع والضر‪ ،‬وأنه الذي ال شريك له‪ ،‬وال يشفع عنده‬
‫أحد إالَّ بإذنه‪ ،‬وأنه ال معبود حبق إالَّ هو‪ ،‬وغري ذلك مما جيب له من لوازم‬
‫اإلهلية‪.‬‬
‫ومنها لفظية‪ :‬وهي النطق بكلمة التوحيد‪ ،‬فمن اعتقد ما ذكر ول ينطق هبا‬
‫ل حيقن دمه وال ماله‪ .‬وكان كإبليس‪ ،‬فإنه يعتقد التوحيد بل ويقر به ول ميتثل‬
‫أمر اهلل بالسجود فكفر‪ ،‬ومن نطق ول يعتقد حقن ماله ودمه وحسابه على اهلل‬
‫وحكمه حكم املنافقني‪.‬‬
‫وبدنية‪ :‬كالقيام والركو والسجود يف الصالة‪ ،‬ومنها الصوم وأفعال احلج‬
‫والطواف‪.‬‬
‫ومالية‪ :‬كإخراج جزء من املال امتثاالً ملا أمر اهلل تعاىل به‪.‬‬
‫وأنوا الواجبات واملندوبات يف األبدان واألموال واألفعال واألقوال كثرية‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫لكن هذه أمهاهتا» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)654/9( :‬‬


‫(‪« )2‬جمموعة الرسائل واملسائل»‪.)543 – 542/6( :‬‬

‫‪-64-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫من شروط صحة العبادة‪ :‬الكفر بالطاغوت‪،‬‬
‫والنحالع من الشرك‪ ،‬مع البراءة من المشركين‬
‫قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب‪:‬‬
‫تسمى عبادة إالَّ مع التوحيد‪ ،‬كما أن الصالة ال‬ ‫«فاعلم أن العبادة ال َّ‬
‫تسمى صالة إالَّ مع الطهارة‪ ،‬فإذا دخل الشرك يف العبادة فسدت‪ ،‬كاحلدث إذا‬ ‫َّ‬
‫اج َد اهلل‬ ‫دخل يف الطهارة‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬ما َكا َن لِْلم ْش ِركِني أَن يـعمرواْ مس ِ‬
‫َ َْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت أ َْع َماهل ْم َويف النَّار ه ْم َخالدو َن﴾‬ ‫ِ‬
‫ك َحبطَ ْ‬ ‫ين َعلَى أَنف ِس ِه ْم بِالْك ْف ِر أ ْولَئِ َ‬
‫َشاهد َ‬
‫[التوبة‪.]94 :‬‬
‫فإذا عرفت‪ :‬أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها‪ ،‬وأحبط العمل‪ ،‬وصار‬
‫صاحبه من اْلالدين يف النار‪ ،‬عرفت أن أهم ما عليك معرفة ذلك لعل اهلل أن‬
‫(‪)1‬‬
‫خيلصك من هذه الشبكة وهي الشرك باهلل» ‪.‬‬
‫يضا رمحه اهلل تعاىل يف كتاب التوحيد‪:‬‬ ‫وقال أ ً‬
‫«املسألة السابعة‪ :‬املسألة الكبرية‪ :‬أن عبادة اهلل ال حتصل إالَّ بالكفر‬
‫الر ْشد ِم َن الْغَ ِّي‬
‫ني ُّ‬‫بالطاغوت‪ ،‬ففيه معى قوله تعاىل‪﴿ :‬الَ إِ ْكَر َاه ِيف الدِّي ِن قَد تَّـبَـ َّ َ‬
‫ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى﴾ [البقرة‪:‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ‬
‫استَ ْم َس َ‬
‫‪.]265‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن حسن‪:‬‬
‫«ويف الباب ‪ -‬أي الباب األول من كتاب التوحيد‪ :-‬احلث على إخالص‬
‫(‪)2‬‬
‫تسمى عبادة» ‪.‬‬ ‫العبادة هلل‪ ،‬وأهنا ال تنفع مع الشرك‪ ،‬بل ال َّ‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)23/2( :‬‬


‫(‪« )2‬فتح اجمليد»‪( :‬ص‪.)33‬‬

‫‪-61-‬‬
‫وقال سلمان بن عبد اهلل‪:‬‬
‫بد منه يف العبادة‪ ،‬وإالَّ فال يكون العبد آتيًا بعبادة‬ ‫«إن التجرد من الشرك ال َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫اهلل بل مشرك» ‪.‬‬
‫وقال أبو بطين‪:‬‬
‫عرفها شيخنا حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل يف‬ ‫أما تعريف العبادة‪ ،‬فقد َّ‬
‫فوائده على كتابه‪ ،‬كتاب التوحيد‪ ،‬بأن العبادة هي التوحيد‪ ،‬ألن اْلصومة فيه‪،‬‬
‫بد منه يف‬ ‫أن التجرد من الشرك ال َّ‬ ‫فدل على َّ‬ ‫وأن من ل يأت به ل يعبد اهلل؛ َّ‬
‫(‪)2‬‬
‫يسمى عبادة» ‪.‬‬ ‫العبادة‪ ،‬وإالَّ فال َّ‬
‫وقال عبد الرحمن بن حسن‪:‬‬
‫وقول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬و ْاعبدواْ الليهَ َوالَ ت ْش ِركواْ بِِه َشْيئًا﴾ [النساء‪ ]35 :‬اآلية‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬فإنه تعاىل قرن األمر بالعبادة‬ ‫وهذه اآلية تبني العبادة اليت خلقوا هلا ً‬
‫اليت فرضها بالنهي عن الشرك الذي حرمه وهو الشرك يف العبادة‪ ،‬فدلَّت هذه‬
‫اآلية على‪ :‬أن اجتناب الشرك شرط يف صحة العبادة‪ ،‬فال تصح بدونه أصالً‪،‬‬
‫ك ه َدى اللي ِه يَـ ْه ِدي بِِه َمن يَ َشاء ِم ْن ِعبَ ِادهِ َولَْو أَ ْشَركواْ‬ ‫ِ‬
‫كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ذل َ‬
‫(‪)3‬‬
‫ط َعْنـهم َّما َكانواْ يَـ ْع َملو َن﴾ [األنعام‪. »]11 :‬‬ ‫َحلَبِ َ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)34‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)353/2( :‬‬
‫املوحدين»‪( :‬ص‪.)5‬‬
‫(‪« )3‬قرة عيون ِّ‬

‫‪-61-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫حقيقة التوحيد‪ ،‬وأنواعه‪ ،‬وحدود العالقة بينها‬

‫قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب‪:‬‬


‫احدا‪ ،‬ومسِّي دين‬
‫توحيدا‪ ،‬أي‪ :‬جعله و ً‬ ‫ً‬ ‫وحد‬
‫وحد ي ِّ‬
‫«التوحيد‪ :‬مصدر َّ‬
‫أن اهلل واحد يف ملكه وأفعاله ال شريك له‪،‬‬ ‫توحيدا‪ ،‬ألن مبناه على َّ‬
‫ً‬ ‫اإلسالم‬
‫وواحد يف ذاته وصفاته ال نظري له‪ ،‬وواحد يف إهليته وعبادته ال ند له‪ ،‬وإىل هذه‬
‫األنوا الثالثة ينقسم توحيد األنبياء واملرسلني الذين جاءوا به من عند اهلل‪ ،‬وهي‬
‫متالزمة‪ ،‬كل نو منها ال ينفك عن اآلخر‪ ،‬فمن أتى بنو منها ول يأت‬
‫باآلخر‪ ،‬فما ذاك إالَّ أنه ل يأت به على وجه الكمال املطلوب‪...‬‬
‫النوع األول‪:‬‬
‫توحيد الربوبية وامللك‪ ،‬وهو اإلقرار بأن اهلل تعاىل رب كل شيء ومالكه‬
‫املتفرد بإجابة الدعاء عند‬ ‫وخالقه ورازقه‪ ،‬وأنه احمليي املميت النافع الضار ِّ‬
‫االضطرار‪ ،‬الذي له األمر كله‪ ،‬وبيده اْلري كله‪ ،‬القادر على ما يشاء‪ ،‬ليس له‬
‫يف ذلك شريك‪ ،‬ويدخل يف ذلك اإلميان بالقدر‪ ،‬وهذا التوحيد ال يكفي العبد‬
‫يف حصول اإلسالم‪ ،‬بل ال بد أن يأيت مع ذلك بالزمه من توحيد اإلهلية‪ ،‬ألن‬
‫اهلل تعاىل حكى عن املشركني أهنم مقرون هبذا التوحيد هلل وحده‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫ص َار َوَمن خيْرِج‬ ‫ض أ ََّمن ميَْلِك َّ‬
‫الس ْم َع واألَبْ َ‬ ‫الس َماء َواأل َْر ِ‬
‫﴿ق ْل َمن يَـ ْرزقكم ِّم َن َّ‬
‫ت ِم َن ْ‬
‫احلَ ِّي َوَمن ي َدبـِّر األ َْمَر فَ َسيَـقولو َن الليه فَـق ْل أَفَالَ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ِ‬
‫احلَ َّي م َن الْ َميِّت َوخيْرِج الْ َميَّ َ‬
‫تَـتـَّقو َن﴾ [يونس‪ ]39 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَئِن َسأَلْتَـهم َّم ْن َخلَ َقه ْم لََيـقول َّن اللَّه﴾‬
‫[الزخرف‪ ،]14 :‬وقال تعاىل‪َ﴿ :‬ولَئِن َسأَلَْتـهم َّمن نـََّّزَل ِم َن َّ‬
‫الس َماء‬

‫‪-55-‬‬
‫ض ِمن بَـ ْع ِد َم ْوِهتَا لَيَـقول َّن اللَّه﴾ [العنكبوت‪ ،]53 :‬وقال‬ ‫ماء فَأ ِ‬
‫َحَيا بِه األ َْر َ‬
‫َ ْ‬
‫ض‬‫السوءَ َوَْجي َعلك ْم خلَ َفاء األ َْر ِ‬
‫ْشف ُّ‬‫ضطََّر إِ َذا دعاه ويك ِ‬
‫تعاىل‪﴿ :‬أ ََّمن ِجييب الْم ْ‬
‫َ َ ََ‬
‫أَإِلَه َّم َع اللَّ ِه قَلِ ًيال َّما تَ َذ َّكرو َن﴾ [النمل‪.]52 :‬‬
‫فهم كانوا يعلمون أن مجيع ذلك هلل وحده ول يكونوا بذلك مسلمني‪ ،‬بل‬
‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما يـ ْؤِمن أَ ْكثَـره ْم بِاللي ِه إِالَّ َوهم ُّم ْش ِركو َن﴾ [يوسف‪ ،]955 :‬قال‬
‫جماهد يف اآلية‪ :‬إمياهنم باهلل قوهلم‪ :‬إن اهلل خلقنا ويرزقنا ومييتنا‪ ،‬فهذا إميان مع‬
‫شرك عبادهتم غريه‪ ،‬رواه ابن جرير وابن أيب حام‪ .‬وعن ابن عباس وعطاء‬
‫والضحاك حنو ذلك‪.‬‬
‫فتبني أن الكفار يعرفون اهلل‪ ،‬ويعرفون ربوبيته‪ ،‬وملكه‪ ،‬وقهره‪ ،‬وكانوا مع‬
‫اعا من العبادات كاحلج والصدقة والذبح والنذر‬ ‫ذلك يعبدونه وخيلصون له أنو ً‬
‫والدعاء وقت االضطرار وحنو ذلك‪ ،‬وي يدعون أهنم على ملة إبراهيم ‪ ،‬فأنزل اهلل‬
‫تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما يـ ْؤِمن أَ ْكثَـره ْم بِاللي ِه إِالَّ َوهم ُّم ْش ِركو َن﴾ [يوسف‪ ،]955 :‬وبعضهم‬
‫يؤمن البعث واحلساب‪ ،‬وبعضهم يؤمن بالقدر‪.‬‬
‫كما قال زهري‪:‬‬
‫ليوم الحساب أو يعجل فينقم‬ ‫يــؤخر فيوضــع فــي كتــاب فيــدخر‬
‫وقال عنرتة‪:‬‬
‫إن كان ربي في السماء قضاها‬ ‫يا عبل أين من المنية مهرب‬
‫ومثل هذا يوجد يف أشعارهم‪ ،‬فوجب على كل من عقل عن اهلل تعاىل أن‬
‫ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم‪ ،‬وسيب نسائهم‪ ،‬وإباحة‬
‫أمواهلم‪ ،‬مع هذا اإلقرار واملعرفة‪ ،‬وما ذاك إالَّ إلشراكهم يف توحيد العبادة الذي‬
‫هو معى ال إله إالَّ اهلل‪.‬‬

‫‪-59-‬‬
‫النوع الثاني‪:‬‬
‫توحيد األمساء والصفات‪ ،‬وهو اإلقرار بأن اهلل بكل شيء عليم‪ ،‬وعلى كل‬
‫شيء قدير‪ ،‬وأنه احلي القيوم الذي ال تأخذه سنة وال نوم‪ ،‬له املشيئة النافذة‪،‬‬
‫واحلكمة البالغة‪ ،‬وأنه مسيع بصري‪ ،‬رءوف رحيم‪ ،‬على العرش استوى‪ ،‬وعلى‬
‫امللك احتوى‪ ،‬وأنه امللك القدوس السالم املؤمن املهيمن العزيز اجلبار املتكرب‪،‬‬
‫سبحان اهلل عما يشركون‪ ،‬إىل غري ذلك من األمساء احلسى‪ ،‬والصفات العلى‪.‬‬
‫أيضا ال يكفي يف حصول اإلسالم‪ ،‬بل ال بد مع ذلك من اإلتيان‬ ‫وهذا ً‬
‫بالزمه‪ ،‬من توحيد الربوبية واإلهلية‪...‬‬
‫النوع الثالث‪:‬‬
‫توحيد اإلهلية املبن على إخالص التأله هلل تعاىل‪ ،‬من احملبة واْلوف‪ ،‬والرجاء‬
‫والتوكل‪ ،‬والرغبة والرهبة‪ ،‬والدعاء هلل وحده‪ ،‬وينبن على ذلك‪ :‬إخالص العبادات‬
‫كلها ظاهرها وباطنها هلل وحده ال شريك له‪ ،‬ال جيعل فيها شيئًا لغريه‪ ،‬ال مللك‪:‬‬
‫مقرب‪ ،‬وال لنيب مرسل‪ ،‬فضالً عن غريمها‪ .‬وهذا التوحيد هو الذي تضمنه قوله‬ ‫َّ‬
‫اك نَ ْستَعِني﴾ [الفاحتة‪...]6 :‬‬ ‫اك نَـ ْعبد وإِيَّ َ‬
‫تعاىل‪﴿ :‬إِيَّ َ‬
‫وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره‪ ،‬وباطنه وظاهره‪ ،‬وهو أول دعوة الرسل‬
‫وآخرها‪ ،‬وهو معى قول‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ .‬فإن اإلله هو‪ :‬املألوه املعبود باحملبة‪،‬‬
‫واْلشية‪ ،‬واإلجالل‪ ،‬والتعظيم‪ ،‬ومجيع أنوا العبادة‪ ،‬وألجل هذا التوحيد خلقت‬
‫اْلليقة‪ ،‬وأرسلت الرسل‪ ،‬وأنزلت الكتب‪ ،‬وبه افرتق الناس إىل مؤمنني وكفار‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وسعداء أهل اجلنة وأشقياء أهل النار» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد يف شرح كتاب التوحيد»‪.)24 – 29( :‬‬

‫‪-52-‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫كمال اهلل المطلق من جميع الوجوه أوجب له سبحانه وحدانيته‬
‫في ربـوبيته وألوهيته‪ ،‬وبـه جزم الموحـدون ببطالن تأله كل‬
‫ما يعبد من دونه‪ ،‬ووجوب(‪ )1‬ذلك ثابت بالعقل والفطرة والشرع‬
‫قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫تسمى‬‫«وهو سبحانه ينعم عليك وحيسن إليك بنفسه‪ ،‬فإن ذلك موجب ما َّ‬
‫به ووصف به نفسه‪ ،‬إذ هو الرمحن الرحيم‪ ،‬الودود اجمليد‪ ،‬وهو قادر بنفسه‪،‬‬
‫وقدرته من لوازم ذاته‪ ،‬وكذلك رمحته وعلمه وحكمته‪ ،‬ال حيتاج إىل خلقه بوجه‬
‫من الوجوه‪ ،‬بل هو الغن عن العاملني‪َ ﴿ :‬وَمن َش َكَر فَِإَّمنَا يَ ْشكر لِنَـ ْف ِس ِه َوَمن َك َفَر‬
‫فَِإ َّن َرِّيب َغ ِن َك ِرمي﴾ [النمل‪.]45 :‬‬
‫فالرب سبحانه غن بنفسه‪ ،‬وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له‬
‫بنفسه‪ ،‬واجب له من لوازم ذاته‪ ،‬ال يفتقر يف شيء من ذلك إىل غريه‪ ،‬ففعله‬
‫وإحسانه وجوده من كماله‪ ،‬ال يفعل شيئًا حلاجة إىل غريه بوجه من الوجوه‪ ،‬بل‬
‫فعال ملا يريد‪ .‬وهو سبحانه بالغ أمره‪ ،‬فكل ما يطلبه فهو‬
‫كل ما يريد فعله فإنه َّ‬
‫َ‬
‫يبلغه ويناله ويصل إليه وحده وال يعينه أحد‪ ،‬وال يعوقه أحد‪ ،‬ال حيتاج يف شيء‬
‫من أموره إىل معني‪ ،‬وما له من املخلوقني من ظهري‪ ،‬وليس له ويل من الذل‪ ،‬قاله‬
‫(‪)2‬‬
‫شيخ اإلسالم» ‪.‬‬

‫(‪ )1‬املقصود بالوجوب العقلي والفطري‪ :‬استحالة قَبوهلما لغري التوحيد‪ ،‬والرباءة من كل ما يعبد من‬
‫دون اهلل‪ .‬والوجوب الشرعي‪ :‬الثواب والعقاب القائمان على فعل التوحيد‪ ،‬وعلى اقرتاف الشرك‪.‬‬
‫(‪« )2‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)33‬‬

‫‪-53-‬‬
‫ونقل عبد اللطيف بن عبد الرحمن عن ابن القيم قوله‪:‬‬
‫«ومن خصائ اإلهلية الكمال املطلق من مجيع الوجوه‪ .‬الذي ال نق فيه‬
‫بوجه من الوجوه‪ ،‬وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده والتعظيم‬
‫واإلجالل واْلشية والدعاء والرجاء واإلنابة والتوكل واالستغاثة‪ ،‬وغاية الذل مع‬
‫وشرعا وفطرة أن يكون هلل وحده‪ ،‬وميتنع‬ ‫غاية احلب‪ ،‬كل ذلك جيب‪ :‬عقالً ً‬
‫وشرعا وفطرة أن يكون لغريه‪.‬‬
‫عقالً ً‬
‫فمن جعل شيئًا من ذلك لغريه فقد شبَّه ذلك الغري مبن ال شبيه له وال مثل‬
‫له‪ ،‬وذلك أقبح التشبيه وأبطله‪ ،‬ولشدَّة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخرب سبحانه‬
‫وتعاىل عباده أنه ال يغفره‪ ،‬مع أنه كتب على نفسه الرمحة‪.‬‬
‫ومن خصائ اإلهلية‪ :‬العبودية اليت قامت على ساقني ال قوام هلا بدوهنما‪:‬‬
‫غاية احلب مع غاية الذل‪ .‬هذا َتام العبودية‪ ،‬وتفاوت منازل اْللق فيها حبسب‬
‫تفاوهتم يف هذين األصلني‪.‬‬
‫شبهه به يف خال حقَّه‪.‬‬ ‫فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغري اهلل فقد َّ‬
‫وهذا من احملال أن جتيء به شريعة من الشرائع‪ ،‬وقبحه مستقر يف كل فطرة‬
‫غريت الشياطني فطر أكثر اْللق وعقوهلم وأفسدهتا عليهم‬ ‫وعقل‪ ،‬ولكن َّ‬
‫واجتالتهم عنها‪ ،‬ومضى على الفطرة األوىل من سبقت هلم من اهلل احلسى‪،‬‬
‫فأرسل إليهم رسله‪ ،‬وأنزل عليهم كتبه مبا يوافق فطرهتم وعقوهلم‪ .‬فازدادوا بذلك‬
‫(‪)1‬‬
‫نورا على نورهم‪ ،‬يهدي اهلل لنوره من يشاء» ‪.‬‬
‫ً‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬منهاج التأسيس والتقديس»‪( :‬ص‪.)215 ،216‬‬

‫‪-54-‬‬
‫المبحث السادس‬
‫أصول التوحيد العاصمة من الشرك والتنديد‬
‫قد اتفقت عليها الرسالت‪ ،‬وتطابقت عليها النبوات‪،‬‬
‫ومن ثم فال يسع أي عبد فيها إل اإلتباع دون البتداع والجتهاد‬

‫قال عبد اللطيف بن عبد الرحمن‪:‬‬


‫«ومسائل معرفة اهلل ووجوب توحيده‪ ،‬وإسالم الوجه له وحده ال شريك له‪،‬‬
‫ومسائل ربوبيته واختصاصه باْللق واإلجياد والتدبري‪ ،‬وحنو ذلك‪ ،‬مما يعلم‬
‫كص َم ِديَّته تعاىل‪ ،‬ونفي الكفء والصاحبة والولد‪،‬‬
‫بالضرورة من دين اإلسالم‪َ ،‬‬
‫وغناه بذاته ومباينته ملخلوقاته‪ ،‬وعموم قدرته وإحاطة مسعه وبصره وعلمه جبميع‬
‫املعلومات واملبصرات واملسموعات‪ ،‬وحنو ذلك من أصول الدين‪.‬‬
‫فكل الرسل متفقون عليه‪ ،‬ومجيع الكتب داعية إليه والعقول الصحيحة‬
‫حاكمة به‪ ،‬فكل اجتهاد خالفه فباطل مردود ال يسوغ العمل به يف شريعة من‬
‫(‪)1‬‬
‫الشرائع‪ ،‬وال عند عال من العلماء وال فقيه من الفقهاء‪ .‬والعراقي أجنيب عن‬
‫هذه املباحث والعلوم‪ ،‬وال يدري الفرق بني مسائل االجتهاد وغريها‪ ،‬وكأن‬
‫النبوات‪.‬‬
‫الرجل من أهل الفرتات ل يأنس بشيء مما جاءت به َّ‬
‫النبوات من أوهلا إىل آخرها متفقة على‬
‫قال مشس الدين يف هدايته‪ :‬بل مجيع َّ‬
‫أصول‪.‬‬

‫(‪ )1‬العراقي هذا‪ :‬من أشد املناوئني لدعوة الشيخ حممد بن عبد الوهاب ‪ -‬رمحه اهلل تعاىل ‪ -‬الىت هي‬
‫دعوة التوحيد‪ ،‬وزبدة رسالة الرسل والنبيني ‪ -‬صلوات اهلل وسالمه عليهم أمجعني‪.-‬‬

‫‪-56-‬‬
‫(أصول التوحيد التي اتفقت عليها جميع الرسل)‬
‫أحدها‪ :‬أن اهلل تعاىل قدمي واحد ال شريك له يف ملكه‪ ،‬وال َّ‬
‫ند وال ضدَّ‪ ،‬وال‬
‫وزير وال مشري وال ظهري‪ ،‬وال شافع إالَّ من بعد إذنه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه ال والد له وال ولد‪ ،‬وال كفء وال نظري وال نسب بوجه من‬
‫الوجوه‪ ،‬وال زوجة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه غن بذاته‪ ،‬فال يأكل وال يشرب‪ ،‬وال حيتاج إىل شيء مما حيتاج‬
‫إليه خلقه بوجه من الوجوه‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أنه ال يتغري وال تعرض له اآلفات‪ ،‬من‪ :‬اهلرم واملرض والسنَة والنوم‬
‫اهلم واحلزن‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫والنسيان والندم‪ ،‬واْلوف و ِّ‬
‫الخامس‪ :‬أنه ال مياثله شيء من خملوقاته‪ ،‬بل ليس كمثله شيء‪ ،‬ال يف ذاته‬
‫وال يف صفاته وال يف أفعاله‪.‬‬
‫السادس‪ :‬أنه ال حيل بشيء من خملوقاته‪ ،‬وال حيل يف ذاته شيء منها‪ ،‬بل‬
‫هو بائن‪ ،‬عن خلقه بذاته‪ ،‬واْللق بائنون عنه‪.‬‬
‫السابع‪ :‬أنه أعظم من كل شيء‪ ،‬وأكرب من كل شيء‪ ،‬وفوق كل شيء‪،‬‬
‫وعال على كل شيء‪ ،‬وليس فوقه شيء البتة‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬أنه قادر على كل شيء‪ ،‬وال يعجزه شيء يريده‪ ،‬بل هو َّ‬
‫فعال ملا‬
‫يريد‪.‬‬
‫السر وأخفى‪ ،‬ويعلم ما كان وما يكون‪،‬‬‫التاسع‪ :‬أنه عال بكل شيء‪ ،‬يعلم َّ‬
‫وما ل يكن لو كان كيف كان يكون‪ ،‬وما تسقط من ورقة إالَّ يعلمها وال حبة‬
‫متحرك وال ساكن إالَّ وهو يعلمه‬
‫يف ظلمات األرض وال رطب وال يابس‪ ،‬وال ِّ‬
‫على حقيقته‪.‬‬
‫العاشر‪ :‬أنه مسيع بصري‪ ،‬يسمع ضجيج األصوات باختالف اللغات‬

‫‪-55-‬‬
‫الصماء يف‬
‫على تفنن احلاجات‪ ،‬ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة َّ‬
‫الليلة الظلماء‪ ،‬قد أحاط مسعه جبميع املسموعات‪ ،‬وبصره جبميع املبصرات‪،‬‬
‫وعلمه جبميع املعلومات‪ ،‬وقدرته جبميع املقدورات‪ ،‬ونفذت مشيئته يف مجيع‬
‫وعمت رمحته مجيع املخلوقات ووسع كرسيه األرض والسماوات‪.‬‬ ‫الربيات‪َّ ،‬‬
‫الحادي عشر‪ :‬أنه الشاهد الذي ال يغيب‪ ،‬وال يستخلف ً‬
‫أحدا على‬
‫ملكه‪ ،‬وال حيتاج إىل من يرفع إليه حوائج عباده أو يعاونه أو يستعطفه عليهم‬
‫ويسرتمحه هلم‪.‬‬
‫الثاني عشر‪ :‬أنه األبدي الباقي الذي ال يضمحل وال يتالشى وال يعدم وال‬
‫ميوت‪.‬‬
‫الثالث عشر‪ :‬أنه املتكلِّم اآلمر الناهي‪ ،‬قائل احلق‪ ،‬وهادي السبيل‪ ،‬مرسل‬
‫الرسل‪ ،‬ومنزل الكتب‪ ،‬قائم على كل نفس مبا كسبت من اْلري والشر‪ ،‬وجمازي‬
‫احملسن بإحسانه واملسيء بإساءته‪.‬‬
‫الرابع عشر‪ :‬أنه الصادق يف وعده وخربه‪ ،‬فال أصدق منه قيالً‪ ،‬وال أصدق‬
‫منه حديثًا‪ ،‬وهو ال خيلف امليعاد‪.‬‬
‫الخامس عشر‪ :‬أنه تعاىل صمد جبميع معاي الصمدية‪ ،‬يستحيل عليه ما‬
‫يناقض صمديته‪.‬‬
‫السادس عشر‪ :‬أنه قدُّوس سالم‪ ،‬فهو َّ‬
‫املربأ من كل عيب وآفة ونق ‪.‬‬
‫السابع عشر‪ :‬أنه الكامل الذي له الكمال املطلق من مجيع الوجوه‪.‬‬
‫الثامن عشر‪ :‬أنه العدل الذي ال جيور وال يظلم‪ ،‬وال خياف عباده منه‬
‫ظلما‪.‬‬
‫ً‬
‫وهذا مما اتفقت عليه مجيع الكتب والرسل‪ ،‬وهو من احملكم الذي ال جيوز‬
‫أن تأيت شريعة خبالفه‪ ،‬وال خيرب بشيء خبالفه‪.‬‬
‫فرتكت املثلِّثة عبَّاد الصليب هـذا كـله‪ ،‬و َّ‬
‫َتسكوا باملتشابه من املعاي‪،‬‬

‫‪-54-‬‬
‫كثريا وضلُّوا عن‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫واجململ من األلفاظ‪ ،‬وأقوال من قد ضلوا من قبل وأضلوا ً‬
‫سواء السبيل‪ ،‬وأصول املثلِّثة ومقاالهتم يف رب العاملني ختالف هذا كله وتباينه‬
‫أشد املخالفة واملباينة‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫ند وال شافع إالَّ‬
‫فقف وتأمل األصول وأوهلا‪ ،‬وهو أنه تعاىل ال شريك له وال َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫إن هذه املسائل اليت ال تعلم‬ ‫من بعد إذنه‪ ،‬ووازن بينه وبني قول العراقي‪َّ :‬‬
‫إن هذه املسائل من املسائل‬ ‫أحدا‪ ،‬وهل يقول من يعقل َّ‬ ‫يعذر العلماء يف جهلها ً‬
‫صحيحا فليهن النصارى عبَّاد الصليب‬ ‫ً‬ ‫االجتهادية‪ .‬فإن كان هذا القول‬
‫اجتهادهم املنجي عند هذا العراقي‪ ،‬وكذا عبَّاد األوثان‪ ،‬واجلهمية املعطلة‪،‬‬
‫والقدرية النفاة‪ ،‬والقدرة اجملربة‪ ،‬والرافضة املارقة‪ ،‬فإهنم قالوا بتلك األقوال الضالة‪،‬‬
‫واعتقدوها عن رأي هلم واجتهاد وشبهة تصوروها‪ ،‬كما قال هذا الشيخ‪ :‬فرتك‬
‫َتسكوا باملتشابه‪.‬‬ ‫املثلِّثة عبَّاد الصليب هذا كله و َّ‬
‫ين أ َْع َماالً﴾ [الكهف‪.]953 :‬‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬ق ْل َه ْل نـنَبِّئك ْم بِاأل ْ‬
‫َخ َس ِر َ‬
‫ِِ‬
‫ين َك َفرواْ َمكْره ْم﴾ [الرعد‪.]33 :‬‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬بَ ْل زيِّ َن للَّذ َ‬
‫ني قَـْت َل أ َْوالَ ِد ِه ْم شَرَكآؤه ْم﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ك َزيَّ َن ل َكثري ِّم َن الْم ْش ِرك َ‬
‫ِ‬
‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَك َذل َ‬
‫[األنعام‪.]934 :‬‬
‫ك َزيَّـنَّا لِك ِّل أ َّمة َع َملَه ْم﴾ [األنعام‪.]951 :‬‬ ‫ِ‬
‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ك َذل َ‬
‫َتسكوا به من الشبه واملتشابه واعتقاد حسنه‪ ،‬وأنه ال‬ ‫والتزين‪ :‬يتناول ما َّ‬
‫ينكر وال يلزم بسواه‪.‬‬
‫مث هذا خمالف لإلمجا ‪ ،‬ولو يف فرو الدين‪ ،‬فإن الصحابة رضي اهلل عنهم‬
‫أمجعوا على اإلنكار على املخطئ املخالف للن يف مسائل كثرية‪،‬‬
‫مـنها‪ :‬مـا وقع من قدامة بن مظعون وأصحابه ملا استحلُّوا اْلمر باجتهاد‬

‫(‪ )1‬أي مسائل التوحيد الواجبة بالعقل والفطرة وكافة الشرائع‪.‬‬

‫‪-51-‬‬
‫ين َآمنواْ َو َع ِملواْ‬ ‫َّ ِ‬
‫س َعلَى الذ َ‬‫تأويل وفهم انفردوا به‪ ،‬يف قوله تعاىل‪﴿ :‬لَْي َ‬
‫يما طَعِمواْ﴾ [املائدة‪ ]13 :‬اآلية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫الصاحلَات جنَاح ف َ‬
‫والصحابة أنكروا على من رأى أن دفع الزكاة ال جيب ألحد بعد رسول اهلل‬
‫‪ ‬وقاتلوا على ذلك واستباحوا الدماء عليه‪ ،‬وإن ل ينكر من قاتلوه غري ذلك‬
‫من الدين‪.‬‬
‫وقد بعث ‪ ‬سرية إىل رجل تزوج امرأة أبيه فقتلوه وغنموا ماله‪ ،‬وسار فيه‬
‫بسريته يف املرتدين‪.‬‬
‫إن من دعا األولياء والصاحلني واستغاث هبم وذبح لقبورهم‬ ‫فكيف يقال‪َّ :‬‬
‫وخافهم ورجاهم مع اهلل ال ينكر عليه؟ ألن اإلنكار حمل االجتهاد؟ سبحانك‬
‫(‪)1‬‬
‫هذا هبتان عظيم» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬منهاج التأسيس والتقديس»‪( :‬ص‪.)13 – 15‬‬

‫‪-51-‬‬
‫المبحث السابع‬
‫شروط وأركان كلمة «ل إله إل اهلل» مع بيان أن المقصود األعظم‬
‫منها‪ :‬تحقيق معناها في القلب‪ ،‬فالنطق بها باللسان‪ ،‬فالقيام‬
‫بمقتضاها بالجوارح‪ ،‬ول أدل على ذلك‪ :‬من إجماع السلف على‬
‫أن من نطق بالشهادة‪ ،‬ولم يعتقد معناها‪ ،‬ولم يعمل بمقتضاها‪ ،‬فإنه‬
‫ل يكون مسلما‪ ،‬ويقاتل على ذلك‪ ،‬حتى يعمل بما‬
‫دلت عليه من النفي واإلثبات‬

‫قال عبد الرمحن بن حسن رمحه اهلل تعاىل يف شرحه على كتاب التوحيد‪:‬‬
‫«قوله (من شهد أن ال إله إالَّ اهلل) (‪ ، )1‬أي‪ :‬من َّ‬
‫تكلم هبا عارفًا ملعناها‪،‬‬
‫وظاهرا‪ ،‬فال بد يف الشهادتني من العلم واليقني والعمل‬ ‫ً‬ ‫عامالً مبقتضاها‪ ،‬باطنًا‬
‫اعلَ ْم أَنَّه الَ إِلَهَ إِالَّ اللَّه﴾ [حممد‪.]91 :‬‬
‫مبدلوهلما‪ ،‬كما قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬فَ ْ‬
‫احلَ ِّق َوه ْم يَـ ْعلَمو َن﴾ [الزخرف‪.]15 :‬‬ ‫وقوله‪﴿ :‬إِالَّ َمن َش ِه َد بِ ْ‬
‫أما النطق هبا من غري معرفة ملعناها وال يقني وال عمل مبا تقتضيه‪ :‬من الرباءة‬
‫من الشرك‪ ،‬وإخالص القول والعمل‪ :‬قول القلب واللسان‪ ،‬وعمل القلب‬
‫(‪)2‬‬
‫واجلوارح فغري نافع باإلمجا » ‪.‬‬
‫وقال سليمان بن عبد اهلل‪:‬‬
‫«قوله (من شهد أن ال إله إالَّ اهلل)‪ ،‬أي‪ :‬من تكلَّم هبذه الكلمة عارفًا‬

‫(‪ )1‬هذاه إشارة إىل قول النيب ‪« :‬من شهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأن ً‬
‫حممدا عبده‬
‫ورسوله‪ ،‬وأن عيسى عبد اهلل ورسوله‪ ،‬وكلمته ألقاها إىل مرمي وروح منه‪ ،‬واجلنة حق والنار حق‪،‬‬
‫أدخله اهلل اجلنة على ما كان من العمل» متفق عليه‪.‬‬
‫(‪« )2‬فتح اجمليد»‪.)49 – 31( :‬‬

‫‪-45-‬‬
‫اعلَ ْم أَنَّه الَ‬
‫دل عليه قوله‪﴿ :‬فَ ْ‬ ‫ملعناها‪ ،‬عامالً مبقتضاها باطنًا وظاهرا‪ ،‬كما َّ‬
‫ً‬
‫إِلَهَ إِالَّ اللَّه﴾ [حممد‪ ]91 :‬وقوله‪﴿ :‬إالَّ َمن َشه َد ب ْ‬
‫احلَ ِّق َوه ْم يَـ ْعلَمو َن﴾‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫[الزخرف‪ .]15 :‬أما النطق هبا من غري معرفة ملعناها وال عمل مبقتضاها‪ ،‬فإن‬
‫ذلك غري نافع باإلمجا ‪.‬‬
‫يدل على هذا‪ ،‬وهو قوله‪« :‬من شهد» إذ كيف يشهد وهو‬ ‫ويف احلديث ما ي‬
‫يسمى شهادة به‪...‬‬
‫ال يعلم‪ ،‬وجمرد النطق بشيء ال َّ‬
‫وقد دخل يف اإلهلية مجيع أنوا العبادة الصادرة عن تأله القلب هلل باحلب‬
‫واْلضو واالنقياد له وحده ال شريك له‪ ،‬فيجب إفراد اهلل تعاىل هبا‪ ،‬كالدعاء‬
‫واْلوف واحملبة‪ ،‬والتوكل واإلنابة‪ ،‬والتوبة‪ ،‬والذبح‪ ،‬والنذر‪ ،‬والسجود‪ ،‬ومجيع أنوا‬
‫العبادة‪ ،‬فيجب صرف مجيع ذلك هلل وحده ال شريك له‪ ،‬فمن صرف شيئًا مما‬
‫ال يصلح إالَّ هلل من العبادات لغري اهلل‪ ،‬فهو مشرك ولو نطق بـ ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬إذ‬
‫(‪)1‬‬
‫ل يعمل مبا تقتضيه من التوحيد واإلخالص» ‪.‬‬
‫وقال عبد الرمحن بن حسن يف شرحه لكتاب التوحيد رمحه اهلل تعاىل‪:‬‬
‫قوله‪َ « :‬وَهلما» أي البخاري ومسلم‪ ،‬وهذا حديث طويل اختصره املصنف‬
‫وذكر منه ما يناسب الرتمجة وهو قوله‪« :‬من قال ال إله إال اهلل يبتغي بذلك وجه‬
‫اهلل»‪ ،‬وهذا هو حقيقة معناها الذي دلَّت عليه هذه الكلمة من اإلخالص ونفي‬
‫الشرك‪ ،‬والصدق واإلخالص متالزمان ال يوجد أحدمها بدون اآلخر‪ ،‬فإن من ل‬
‫خملصا فهو مشرك‪ ،‬ومن ل يكن صادقًا فهو منافق‪ ،‬واملخل أن يقوهلا‪:‬‬ ‫يكن ً‬
‫خملصا اإلهلية ملن ال يستحقها غريه وهو اهلل تعاىل‪ ،‬وهذا التوحيد هو أساس‬ ‫ً‬
‫اإلسالم‪...‬‬
‫وهذا خبالف من يقوهلا‪ ،‬وهو يدعو غري اهلل ويستغيث به من ميت أو غائب ال‬
‫ينفع وال يضر‪ ،‬كما ترى عليه أكثر اْللق فهؤالء وإن قالوها‪ ،‬فقد تلبسوا‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪.)63 – 69( :‬‬

‫‪-49-‬‬
‫مبا يناقضها فال تنفع قائلها إالَّ بالعلم مبدلوهلا نفيًا وإثباتًا‪ ،‬واجلاهل مبعناها‬
‫وإن قاهلا ال تنفعه جلهله مبا وضعت له الوضع العريب الذي أريد منها من نفي‬
‫الشرك‪ ،‬وكذلك إذا عرف معناها بغري تيقن له‪ ،‬فإذا انتفى اليقني وقع الشك‪.‬‬
‫ومما قيدت به يف احلديث قوله ‪َ « :‬غ َري شاك» فَال تَـْنـ َفع إالَّ من قاهلا بعلم‬
‫صا ِم ْن قَلبِ ِه‪ ،‬وكذلك من قاهلا غري صادق يف‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ ِ ِ‬
‫ويقني ل َق ْوله ص ْدقًا م ْن قَلبِه خال ً‬
‫قوله‪ ،‬فإهنا ال تنفعه ملخالفة القلب اللسان‪ ،‬كحال املنافقني الذين يقولون‬
‫بألسنتهم ما ليس يف قلوهبم‪ ،‬وكذلك حال املشركني فال تقبل من مشرك ملنافاة‬
‫فإهنا دلَّت على نفي‬ ‫الشرك لإلخالص‪ ،‬وملا دلَّت عليه هذه الكلمة مطابقة‪َّ ،‬‬
‫الشرك والرباءة منه‪ ،‬واإلخالص هلل وحده ال شريك له مطابقة‪ ،‬ومن ل يكن‬
‫كذلك ل ينفعه قوله‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬كما هو حال كثري من عبدة األوثان‬
‫يقولون‪ :‬ال إله إالَّ اهلل وينكرون ما دلَّت عليه من اإلخالص‪ ،‬ويعادون أهله‬
‫وينصرون الشرك وأهله‪ ،‬وقد قال اْلليل ‪ ‬ألبيه وقومه‪﴿ :‬إِنَِّن بَـَراء ِّممَّا تَـ ْعبدو َن *‬
‫إِالَّ الَّ ِذي فَطََرِي فَِإنَّه َسيَـ ْه ِدي ِن * َو َج َعلَ َها َكلِ َمةً بَاقِيَةً ِيف َع ِقبِ ِه﴾ [الزخرف‪25 :‬‬
‫(‪)1‬‬
‫– ‪ ،]21‬وهي‪ :‬ال إله إال اهلل» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬يف بيان معاي‬
‫ومقتضيات النفي واإلثبات لكلمة التوحيد‪:‬‬
‫«أعلم رمحك اهلل‪ ،‬أن معى ال إله إالَّ اهلل نفي وإثبات‪ ،‬تنفي أربعة أنوا‬
‫وتثبت أربعة أنوا ‪ :‬تنفي اإلهلية‪ ،‬والطواغيت‪ ،‬واألنداد‪ ،‬واألرباب‪.‬‬
‫فاإلهلية‪ :‬ما قصدته بشيء من جاب خري أو دفع ضر فأنت متَّخذه إهلًا‪.‬‬
‫والطواغيت‪ :‬من عبد وهو راض أو رشح للعبادة‪ ،‬مثل السمان أو تاج أو‬
‫أيب حديدة‪.‬‬

‫(‪« )1‬قرة عيون املوحدين»‪.)91 ،91( :‬‬

‫‪-42-‬‬
‫واألنداد‪ :‬ما جذبك عن دين اإلسالم من أهل أو مسكن أو عشرية أو‬
‫َنداداً ِحيبُّونَـه ْم‬
‫ون اللي ِه أ َ‬
‫َّخذ ِمن د ِ‬ ‫َّاس من يـت ِ‬ ‫ِ‬
‫مال‪ ،‬فهو ند لقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وم َن الن ِ َ َ‬
‫ب اللي ِه﴾ [البقرة‪.]956 :‬‬ ‫َكح ِّ‬
‫واألرباب‪ :‬من أفتاك مبخالفة احلق وأطعته‪ ،‬مصداقًا لقوله تعاىل‪َّ ﴿ :‬اختَذواْ‬
‫يح ابْ َن َم ْرَميَ َوَما أ ِمرواْ إِالَّ لِيَـ ْعبدواْ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َحبَ َاره ْم َورْهبَانَـه ْم أ َْربَابًا ِّمن دون الليه َوالْ َمس َ‬
‫أْ‬
‫اح ًدا الَّ إِلَـهَ إِالَّ ه َو سْب َحانَه َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [التوبة‪.]39 :‬‬ ‫إِلَـها و ِ‬
‫ً َ‬
‫وتثبت أربعة أنوا ‪ :‬القصد‪ ،‬وهو كونك ما تقصد إالَّ اهلل‪ ،‬والتعظيم واحملبة‬
‫َش ُّد حبًّا لِّلي ِه﴾ [البقرة‪ ،]956 :‬واْلوف‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َآمنواْ أ َ‬ ‫وجل‪َ ﴿ :‬والذ َ‬ ‫عز ي‬ ‫لقوله َّ‬
‫ف لَه إِالَّ ه َو َوإِن ي ِرْد َك‬ ‫ِ‬
‫ك الليه بِضر فَالَ َكاش َ‬ ‫والرجاء لقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِن ميَْ َس ْس َ‬
‫الرِحيم﴾ [يونس‪:‬‬ ‫صيب بِِه َمن يَ َشاء ِم ْن ِعبَ ِادهِ َوه َو الْغَفور َّ‬ ‫آد لَِف ْ ِ ِ‬
‫ضله ي َ‬ ‫ِخبَْري فَالَ َر َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫‪. ]954‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن حسن‪:‬‬
‫«وأما قوله ‪ ‬يف احلديث الصحيح‪« :‬وكفر مبا يعبد من دون اهلل» فهذا‪:‬‬
‫شرط عظيم‪ ،‬ال يصح قول‪ :‬ال إله إالَّ اهلل إالَّ بوجوده‪ ،‬وإن ل يوجد‪ ،‬ل يكن‬
‫من قال ال إله إالَّ اهلل معصوم الدم واملال‪ ،‬ألن هذا هو معى ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬فلم‬
‫ينفعه القول بدون اإلتيان باملعى الذي دلَّت عليه‪ ،‬من ترك الشرك والرباءة منه‬
‫وممن فعله‪ ،‬فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون اهلل‪ ،‬وتربأ منه‪ ،‬وعادى من‬
‫مسلما‪ ،‬معصوم الدم واملال‪ ،‬وهذا معى قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬فَ َم ْن‬ ‫فعل ذلك‪ :‬صار ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ص َام َهلَا َوالليه‬‫ك بِالْع ْرَوة الْوثْـ َق َى الَ انف َ‬ ‫يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ‬
‫استَ ْم َس َ‬
‫َِمسيع َعلِيم﴾ [البقرة‪.]265 :‬‬
‫وقد قيدت ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬يف األحاديث الصحيحة بقيود ثقال‪ ،‬ال ب يد من‬
‫(‪)2‬‬
‫اعتقادا وعمالً» ‪.‬‬ ‫اإلتيان جبميعها‪ ،‬قوالً و ً‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل»‪.)36 ،34/4( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)234/2( :‬‬

‫‪-43-‬‬
‫المبحث الثامن‬
‫أحوال وأصناف الناطقين بكلمة التوحيد‬

‫قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل‪:‬‬


‫«قال رسول اهلل ‪( :‬من قال ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وكفر مبا يعبد من دون اهلل حرم‬
‫ماله ودمه‪ ،‬وحسابه على اهلل عز وجل)‪.‬‬
‫واحلديث يفصح‪ :‬أن ال إله إالَّ اهلل هلا‪ :‬لفظ ومعى‪.‬‬
‫ولكن الناس فيها ثالث فرق‪ ،‬فرقة نطقوا هبا وحقَّقوها‪ ،‬وعلموا أن هلا معى‬
‫وعملوا به‪ ،‬وهلا نواقض فاجتنبوها‪ .‬وفرقة‪ :‬نطقوا هبا يف الظاهر‪ ،‬فزيَّنوا ظواهرهم‬
‫بالقول‪ ،‬واستبطنوا الكفر والشك‪ .‬وفرقة نطقوا هبا‪ ،‬ول يعملوا مبعناها‪ ،‬وعملوا‬
‫احلَيَاةِ ُّ‬
‫الدنْـيَا َوه ْم َْحي َسبو َن أَنـَّه ْم‬ ‫ض َّل َس ْعيـه ْم ِيف ْ‬
‫ين َ‬
‫َ‬ ‫بنواقضها‪ ،‬فهؤالء ﴿الَّ ِذ‬
‫ْحي ِسنو َن صْنـ ًعا﴾ [الكهف‪. ]954 :‬‬
‫(‪)1‬‬

‫حقا‪ ،‬والثانية هم‪ :‬املنافقون‪،‬‬ ‫فالفرقة األوىل هي‪ :‬لناجية‪ ،‬وهم املؤمنون ً‬
‫والثالثة هم‪ :‬املشركون‪.‬‬
‫فال إله إالَّ اهلل‪ :‬حصن‪ ،‬ولكن نصبوا عليه منجنيق التكذيب‪ ،‬ورموه حبجارة‬
‫العدو‪ ،‬فسلبهم املعى‪ ،‬وتركهم مع الصورة‪ ،‬ويف‬ ‫ي‬ ‫التخريب‪ ،‬فدخل عليهم‬
‫احلديث‪« :‬إن اهلل ال ينظر إىل صوركم وأبدانكم ولكن ينظر إىل قلوبكم‬
‫وأعمالكم»‪ .‬سلبوا معى‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬فبقي معهم‪ :‬لقلقة باللسان وقعقعة‬
‫باحلروف‪ ،‬وهو ذكر احلصن ال مع احلصن‪ ،‬فما أن ذكر النار ال حيرق‪ ،‬وذكر‬
‫املاء ال يغرق‪ ،‬وذكر اْلبز ال يشبع‪ ،‬وذكر السيف ال يقطع‪،‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)993 ،992/2( :‬‬

‫‪-44-‬‬
‫فكذلك ذكر احلصن ال مينع‪.‬‬
‫در‪ ،‬ماذا يصنع‬ ‫لب‪ ،‬والقول‪ :‬صدف‪ ،‬واملعى‪ :‬ي‬ ‫فإن القول‪ :‬قشر‪ ،‬واملعى‪ :‬ي‬
‫بالقشر مع فقدان اللب؟!‬
‫وماذا يصنع بالصدف مع فقدان اجلوهر؟!‬
‫ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬مع معناها‪ ،‬مبنزلة الروح من اجلسد‪ ،‬ال ينتفع باجلسد دون‬
‫(‪)1‬‬
‫الروح‪ ،‬فكذلك ال ينتفع هبذه الكلمة دون معناها» ‪.‬‬
‫أيضا الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل‪:‬‬ ‫وقال ً‬
‫«أصل دين اإلسالم وقاعدته أمران‪:‬‬
‫األول‪ :‬األمر بعبادة اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬والتحريض على ذلك‪ ،‬واملواالة‬
‫فيه‪ ،‬وتكفري من تركه‪.‬‬
‫الثاي‪ :‬اإلنذار عن الشرك يف عبادة اهلل‪ ،‬والتغليظ يف ذلك واملعاداة فيه‪،‬‬
‫وتكفري من فعله‪.‬‬
‫واملخالفون يف ذلك أنوا ‪:‬‬
‫فأشدهم خمالفة‪ :‬من خالف يف اجلميع‪.‬‬
‫ومن الناس من عبد اهلل وحده‪ ،‬ول ينكر الشرك‪ ،‬ول يعاد أهله‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬من عاداهم‪ ،‬ول يكفرهم‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬من ل حيب التوحيد‪ ،‬ول يبغضه‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬من كفرهم‪ ،‬وزعم أنه مسبَّة للصاحلني‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬من ل يبغض الشرك‪ ،‬ول حيبه‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)22/2( :‬‬

‫‪-46-‬‬
‫ومنهم‪ :‬من ل يعرف الشرك‪ ،‬ول ينكره‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬من ل يعرف التوحيد‪ ،‬ول ينكره‪.‬‬
‫خطرا‪ ،‬من عمل بالتوحيد لكن ل يعرف قدره‪ ،‬ول‬ ‫ً‬ ‫ومنهم‪ :‬وهو أشد األنوا‬
‫يبغض من تركه‪ ،‬ول يكفرهم‪.‬‬
‫ومنهم من ترك الشرك وكرهه‪ ،‬ول يعرف قدره‪ ،‬ول يعاد أهله ول يكفرهم‪،‬‬
‫وهؤالء‪ :‬قد خالفوا ما جاءت به األنبياء من دين اهلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬واهلل‬
‫(‪)1‬‬
‫أعلم» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد الرمحن بن حسن بعد أن تكلم عن التوحيد‪:‬‬
‫واملخالف هلذا األصل من هذه األمة أقسام‪:‬‬
‫إما طاغوت يناز اهلل يف ربوبيته وإهليته‪ ،‬ويدعو الناس إىل عبادته‪.‬‬
‫أو طاغوت يدعو الناس إىل عبادة األوثان‪.‬‬
‫ويتقرب إليه بأنوا العبادة أو بعضها‪.‬‬
‫أو مشرك يدعو غري اهلل َّ‬
‫شاك يف التوحيد‪ :‬أهو حق‪ ،‬أم جيوز أن جيعل هلل شريك يف عبادته؟‬ ‫أو ي‬
‫أو جاهل يعتقد‪ :‬أن الشرك دين يقرب إىل اهلل‪.‬‬
‫وهذا هو الغالب على أكثر العوام جلهلهم وتقليدهم َمن قبلهم‪ ،‬ملا اشتدت‬
‫(‪)2‬‬
‫غربة الدين‪ ،‬ونسي العلم بدين املرسلني» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬فتح اجمليد»‪( :‬ص‪.)361 ،364‬‬


‫(‪« )2‬فتح اجمليد»‪( :‬ص‪.)361 ،364‬‬

‫‪-45-‬‬
-44-
‫الفصل الثالث‬
‫كيفية اإليمان بالرسالة وتحقيق أركانها ومقتضياتها‬

‫وفيه ستة مباحث‪:‬‬

‫املبحث األول‪ :‬نعمة بعثة الرسل‪ ،‬وحاجة الناس املاسة إليها‪.‬‬


‫املبحث الثاي‪ :‬علة بعثته ودالئل نبوته ‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬مقتضيات الشهادة بالنبوة ولوازمها‪.‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬اإلميان بوحدانية اهلل يف ربوبيته وألوهيته يستلزم اإلميان‬
‫برسوله ‪ ‬مع إفراده بالطاعة واالتبا ‪،‬‬
‫واحلكم يف كافة املنازعات‪.‬‬
‫املبحث اْلامس‪ :‬كيف بلغ النيب ‪ ‬التوحيد‪ ،‬وصان جنابه من‬
‫أي حدث دخيل عليه‪.‬‬ ‫ي‬
‫املبحث السادس‪ :‬حكم من سب النيب ‪ ،‬أو استهزأ حبكم من أحكامه‪،‬‬
‫سوغ لواحد‬ ‫أو دفع شيئًا مما جاء به‪ ،‬أو َّ‬
‫من البشر اْلروج عن شريعته‪.‬‬

‫‪-41-‬‬
-41-
‫المبحث األول‬
‫نعمة بعثة الرسل‪ ،‬وحاجة الناس الماسة إليها‬

‫قال الشيخ صالح الفوزان‪:‬‬


‫«وبَـ ْعث الرسل نعمة من اهلل على البشرية؛ ألن حاجة البشرية إليهم‬
‫ضرورية؛ فال تنتظم هلم حال‪ ،‬وال يستقيم هلم دين؛ إالَّ هبم‪ ،‬فهم حيتاجون إىل‬
‫الرسل أشد من حاجتهم إىل الطعام والشراب؛ ألن اهلل سبحانه جعل الرسل‬
‫وسائط بينه وبني خلقه‪ ،‬يف تعريفهم باهلل ومبا ينفعهم وما يضرهم‪ ،‬ويف تفصيل‬
‫الشرائع‪ ،‬واألمر والنهي واإلباحة‪ ،‬وبيان ما حيبه اهلل وما يكرهه؛ فال سبيل إىل‬
‫معرفة ذلك إالَّ من جهة الرسل؛ فإن العقل ال يهتدي إىل تفصيل هذه األمور‪،‬‬
‫وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث اجلملة‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫ث الليه النَّبِيِّ َ‬
‫قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬كا َن النَّاس أ َّمةً و ِ‬
‫ين‬ ‫ني مبَ ِّش ِر َ‬
‫ين َومنذر َ‬ ‫اح َد ًة فَـبَـ َع َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اختَـَلفواْ فيه﴾ [البقرة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ني الن ِ‬ ‫وأَنزَل معهم الْ ِكتاب بِ ْ ِ‬
‫يما ْ‬ ‫َّاس ف َ‬ ‫احلَ ِّق ليَ ْحك َم بَـ ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ََ‬
‫‪.]293‬‬
‫وحاجة العباد إىل الرساالت‪ :‬أعظم بكثري من حاجة املريض إىل الطبيب؛‬
‫فإن غاية ما حيصل بعدم وجود الطبيب‪ :‬تضرر البدن‪ ،‬والذي حيصل من عدم‬
‫الرسالة‪ :‬تضرر القلوب‪ ،‬وال بقاء ألهل األرض إالَّ ما دامت آثار الرسالة موجودة‬
‫(‪)1‬‬
‫فيهم‪ ،‬فإذا ذهبت آثار الرسالة من األرض؛ أقام اهلل القيامة» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬اإلرشاد إىل صحيح االعتقاد»‪.)915/ ( :‬‬

‫‪-15-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫علة بعثته‪ ،‬ودلئل نبوته ‪‬‬

‫قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب‪:‬‬


‫وملا أراد سبحانه إظهار توحيده‪ ،‬وإكمال دينه‪ ،‬وأن تكون كملته هي العليا‪،‬‬
‫حممدا خام النبيني‪ ،‬وحبيب رب العاملني‪،‬‬
‫وكلمة الذين كفروا هي السفلى‪ ،‬بعث ً‬
‫مذكورا‪ ،‬إىل أن‬
‫ً‬ ‫مشهورا‪ ،‬ويف توراة موسى وإجنيل عيسى‬
‫ً‬ ‫وما زال يف كل جيل‬
‫أخرج اهلل تلك الدرة‪ ،‬بني بن كنانة وبن زهرة‪ ،‬فأرسله على حني فرتة من‬
‫الرسل‪ ،‬وهداه إىل أقوم السبل‪ ،‬فكان له ‪ ‬من اآليات الدالة على نبوته قبل‬
‫مبعثه ما يعجز أهل عصرها‪ .‬فمن ذلك‪:‬‬
‫قوله ‪« :‬أنا دعوة أيب إبراهيم‪ ،‬وبشارة عيسى‪ ،‬ورؤيا أمي اليت رأت حني‬
‫وضعتن أنه خرج منها نور أضاءت له بصرى من أرض الشام»‪.‬‬

‫(آيات مولده ‪)‬‬


‫وولد ‪ ‬ليلة االثنني الثاي عشر من ربيع األول عام الفيل‪ ،‬وانشق إيوان‬
‫(‪)1‬‬
‫كسرى ليلة مولده حىت مسع انشقاقه وسقط أربع عشر شرفة وهو باق إىل‬
‫اليوم آية من آيات اهلل‪ ،‬ومخدت نار فارس ول ختمد قبل ذلك‪ ،‬وغاضت حبرية‬
‫ساوة‪ ،‬وكانت حبرية عظيمة يف مملكة العراق عراق العجم ومهدان‬
‫تسري فيها السفن وهي أكثر من ستة فراسخ‪ ،‬فأصبحت ليلة مولده يابسة ناشفة‬
‫كأن ل يكن هبا ماء‪ ،‬واستمرت على ذلك‪ ،‬حىت بن مـكاهنا مـدينة‬

‫(‪ )1‬كذا يف األصل‪ ،‬وال َّبد أن يكون صوابه‪ :‬أربع عشرة شرفة منه‪ ،‬أو من شرفاته‪.‬‬
‫قال الشيخ حممد رشيد رضا حمقِّق الكتاب حمل النقل‪.‬‬

‫‪-19-‬‬
‫ساوة وهي باقية إىل اليوم‪ ،‬وأرسلت الشهب على الشياطني كما أخرب اهلل‬
‫اع َد لِ َّ‬
‫لس ْم ِع فَ َمن يَ ْستَ ِم ِع ْاآل َن َِجي ْد لَه ِش َهابًا‬ ‫بقوله‪﴿ :‬وأَنَّا كنَّا نَـ ْقعد ِمْنـها م َق ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ص ًدا﴾ [اجلن‪ ]1 :‬اآلية‪.‬‬ ‫َّر َ‬
‫خلقا وأعزهم جو ًارا‬ ‫وأنبته اهلل نباتًا حسنًا‪ ،‬وكان أفضل قومه مروءة وأحسنهم ً‬
‫حلما وأصدقهم حديثًا‪ ،‬حىت مسَّاه قومه «األمني»؛ لِ َما جعل اهلل فيه‬ ‫وأعظمهم ً‬
‫من األحوال الصاحلة واْلصال املرضية‪.‬‬
‫عمه‬ ‫ووصل بصرى من أرض الشام مرتني‪ ،‬فرآه حبريى الراهب فعرفه وأخرب َّ‬
‫فرده مع غلمانه وقال لعمه‪ :‬احتفظ به فلم جند‬ ‫أنه رسول اهلل‪ ،‬ونصحه أن يرده‪َّ ،‬‬
‫قدما أشبه بالقدم الذي باملقام من قدمه‪.‬‬ ‫ً‬
‫واستمرت كفالة أيب طالب له كما هو مشهور‪ .‬وبيـغِّض إليه األوثان ودين‬
‫قومه فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك‪.‬‬
‫نبوته ‪)‬‬ ‫(األدلة العقلية والنقلية على صحة ِّ‬
‫والدليل على أنه رسول اهلل ‪ ‬من العقل والنقل‪.‬‬
‫فأما النقل فواضح‪.‬‬
‫وأما العقل فنَّبه عليه القرآن‪.‬‬
‫من ذلك‪ :‬أن ترك اهلل خلقه بال أمر وال هني ال يناسب يف حق اهلل‪ ،‬ونبَّه‬
‫َنزَل الليه َعلَى بَ َشر ِّمن‬ ‫عليه يف قوله‪َ ﴿ :‬وَما قَ َدرواْ الليهَ َح َّق قَ ْد ِرهِ إِ ْذ قَالواْ َما أ َ‬
‫َش ْيء﴾ [األنعام‪.]19 :‬‬
‫ومنه‪ :‬أن قول الرجل‪ :‬إي رسول اهلل إما أن يكون خري الناس‪ ،‬وإما أن‬
‫يكون شرهم وأكذهبم‪ .‬والتمييز بني ذلك سهل يعرف بأمور كثرية‪ ،‬ونبه على‬
‫اطني * تَـنَـَّزل َعلَى ك ِّل أَفَّاك أَثِيم﴾‬ ‫ذلك بقوله‪﴿ :‬هل أنَـبِّئكم علَى من تَـنَـَّزل الشَّي ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َْ‬
‫[الشعراء‪ ]222 ،229 :‬اآليات‪.‬‬

‫‪-12-‬‬
‫نده ِعْلم‬ ‫يدا بَـْي ِن َوبَـْيـنَك ْم َوَم ْن ِع َ‬
‫ومنه‪ :‬شهادة اهلل بقوله‪َ ﴿ :‬ك َفى بِاللي ِه َش ِه ً‬
‫اب﴾ [الرعد‪.]43 :‬‬ ‫الْ ِكتَ ِ‬
‫ومنها‪ :‬شهادة أهل الكتاب مبا يف كتبهم كما يف هذه اآلية‪.‬‬
‫ومنها ‪ -‬وهي أعظم اآليات العقلية‪ :-‬هذا القرآن الذي حتدَّاهم بسورة من‬
‫مثله‪ ،‬وحنن إن ل نعلم وجه ذلك من جهة العربية‪ ،‬فنحن نعلمه من معرفتنا‬
‫بشدة عداوة أهل األرض له‪ ،‬علمائهم وفصحائهم‪ ،‬وتكريره هذا واستعجازهم‬
‫به‪ ،‬ول يتعرضوا لذلك على شدة حرصهم على تكذيبه وإدخال الشبهة على‬
‫الناس‪.‬‬
‫ومنها‪َ :‬تام ما ذكرنا وهو إخباره سبحانه أنه ال يقدر أحد أن يأيت بسورة‬
‫مثله إىل يوم القيامة‪ ،‬فكان كما ذكر‪ ،‬مع كثرة أعدائه يف كل عصر‪ ،‬وما أعطوا‬
‫من الفصاحة والكمال والعلوم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬نصرة من اتبعه ولو كانوا أضعف الناس‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬خذالن من عاداه وعقوبته يف الدنيا ولو كانوا أكثر الناس وأقواهم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه رجل ِّأمي ال خيط وال يقرأ اْلط‪ ،‬وال أخذ عن العلماء وال ادعى‬
‫ذلك أحد من أعدائه‪ ،‬مع كثرة كذهبم وهبتاهنم‪ ،‬ومع هذا أتى بالعلم الذي يف‬
‫نت تَـْتـلو ِمن قَـْبلِ ِه ِمن كِتَاب َوالَ َختطُّه‬ ‫الكتب األوىل كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما ك َ‬
‫اب الْمْب ِطلو َن﴾ [العنكبوت‪. »]41 :‬‬ ‫بِي ِمينِ َ ِ‬
‫(‪)1‬‬
‫ك إ ًذا الَّْرتَ َ‬ ‫َ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪.)21 ،21/4( :‬‬

‫‪-13-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫مقتضيات الشهادة بالنبوة ولوازمها‬
‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه اهلل تعالى في شرحه لكتاب‬
‫التوحيد‪:‬‬
‫حممدا عبده‬ ‫حممدا عبده ورسوله)‪ ،‬أي‪ :‬وشهد أن ً‬ ‫«وقول الرسول ‪( :‬وأن ً‬
‫ورسوله‪ ،‬أي‪ :‬بصدق ويقني‪ ،‬وذلك يقتضي‪ :‬اتباعه‪ ،‬وتعظيم أمره وهنيه‪ ،‬ولزوم‬
‫سنته ‪‬؛ وأن ال تعارض بقول أحد‪ ،‬ألن غريه ‪ ‬جيوز عليه اْلطأ‪ ،‬والنيب ‪ ‬قد‬
‫التأسي به‪ ،‬والوعيد على ترك طاعته بقوله تعاىل‪:‬‬ ‫عصمه اهلل تعاىل وأمرنا بطاعته و ِّ‬
‫اْلِيَـَرة ِم ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ضى اللَّه َوَرسوله أ َْمًرا أَن يَكو َن َهلم ْ‬‫﴿ َوَما َكا َن لم ْؤمن َوَال م ْؤمنَة إِ َذا قَ َ‬
‫أ َْم ِرِه ْم﴾ [األحزاب‪.]35 :‬‬
‫صيبـهم فِْتـنَة أَو ي ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫صيبَـه ْم‬ ‫ْ‬ ‫ين خيَالفو َن َع ْن أ َْم ِره أَن ت َ ْ‬‫وقال تعاىل‪﴿ :‬فَـْليَ ْح َذر الذ َ‬
‫َع َذاب أَلِيم﴾ [النور‪.]53 :‬‬
‫رد بعض قوله‬ ‫وقال اإلمام أمحد‪ :‬أتدري ما الفتنة؟ الفتنة‪ :‬الشرك‪ .‬لعله إذا ي‬
‫(‪)1‬‬
‫أن يقع يف قلبه شيء من الزيغ فيهلك» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪:-‬‬
‫«قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما أ َْر َسْلنَا ِمن َّرسول إِالَّ لِيطَا َ بِِإ ْذ ِن الليهِ﴾‬
‫[النساء‪.]54 :‬‬
‫قال ابن كثري‪ :‬أي‪ :‬إمنا فرضت طاعته على من أرسله إليهم؛ وقال ابن‬
‫القيم‪ :‬هذا تنبيه على جاللة منصب الرسالة‪ ،‬وعظم شأهنا‪ ،‬وأنه سبحانه ل‬
‫يرسل رسله عليهم الصالة والسالم إالَّ ليطاعوا بإذنه‪ ،‬فتكون الطاعة هلم ال‬
‫حممدا‬
‫لغريهم‪ ،‬ألن طاعتهم‪ ،‬طاعة مرسلهم‪ ،‬ويف ضمنه أن من كذب رسوله ً‬

‫املوحدين»‪( :‬ص‪.)95 ،96‬‬


‫(‪« )1‬قرة عيون ِّ‬

‫‪-14-‬‬
‫وتتعني عليهم‬
‫كذب الرسل‪ .‬واملعى أنك واحد منهم جتب طاعتك‪َّ ،‬‬ ‫‪ ،‬فقد َّ‬
‫كما وجبت طاعة من قبلك من املرسلني‪ ،‬فإن كانوا قد أطاعوهم كما زعموا‬
‫وآمنوا هبم‪ ،‬فما هلم ال يطيعونك‪ ،‬ويؤمنون بك؟!‬
‫واإلذن ههنا هو‪ :‬اإلذن األمري ال الكوي‪ ،‬إذ لو كان إذنًا كونيًا قدريًا ملا‬
‫تتعني طاعته‪ ،‬وإرساله‬ ‫ختلَّفت طاعتهم‪ ،‬ويف ذكره نكتة وهي أنه بنفس إرساله َّ‬
‫نفسه إذن يف طاعته‪ ،‬فال تتوقف على ن آخر سوى اإلرسال بأمر فيه بالطاعة‬
‫بل مىت حتققت رسالته وجبت طاعته‪ ،‬فرسالته نفسها متضمنة لإلذن يف الطاعة‪،‬‬
‫ويصح أن يكون اإلذن ههنا‪ :‬إذنًا كونيًا قدريًا‪ ،‬ويكون املعى‪ :‬ليطا بتوفيق اهلل‬
‫أحدا‬
‫وهدايته‪ ،‬فتضمنت اآلية األمرين الشر والقدر‪ ،‬ويكون فيها دليل على أن ً‬
‫جدا‪ .‬واملقصود أن الغاية‬ ‫ال يطيع رسله إالَّ بتوفيقه وإرشاده وهدايته‪ ،‬وهذا حسن ً‬
‫من الرسل هي طاعتهم ومتابعتهم‪ ،‬فإذا كانت الطاعة واملتابعة لغريهم‪ ،‬ل حتصل‬
‫(‪)1‬‬
‫الفائدة املقصودة من إرساهلم» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)315‬‬

‫‪-16-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫اإليمان بوحدانية اهلل في ربوبيته وألوهيته‬
‫يستلزم اإليمان برسوله ‪ ،‬مع إفراده بالطاعة والتباع‬
‫والحكم في كافة المنازعات‬

‫قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل رحمه اهلل تعالى في شرحه لكتاب‬
‫التوحيد‪:‬‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ك َوَما‬ ‫ين يَـ ْزعمو َن أَنـَّه ْم َآمنواْ ِمبَا أن ِزَل إِلَْي َ‬
‫قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬أَ َلْ تَـَر إ َىل الذ َ‬
‫وت َوقَ ْد أ ِمرواْ أَن يَكْفرواْ بِِه َوي ِريد‬ ‫ك ي ِريدو َن أَن يـتحا َكمواْ إِ َىل الطَّاغ ِ‬ ‫ِ‬
‫ََ َ‬ ‫أن ِزَل ِمن قَـْبل َ‬
‫يدا﴾ [النساء‪.]55 :‬‬ ‫ضالَالً بَعِ ً‬ ‫ِ‬
‫الشَّْيطَان أَن يضلَّه ْم َ‬
‫ملا كان التوحيد الذي هو معى شهادة أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬مشتمالً على‬
‫مستلزما له‪ ،‬وذلك هو الشهادتان‪ ،‬وهلذا جعلهما النيب ‪‬‬ ‫ً‬ ‫اإلميان بالرسول ‪،‬‬
‫احدا يف قوله‪« :‬بن اإلسالم على مخس‪ :‬شهادة أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وأ َّن‬ ‫ركنًا و ً‬
‫وحج البيت َمن‬ ‫الزكاة‪ ،‬وصوم رمضان‪ ،‬ي‬ ‫الصالة‪ ،‬وإيتاء َّ‬ ‫حمم ًدا رسول اهلل‪ ،‬وإقام َّ‬ ‫َّ‬
‫تضمنه التوحيد‪ ،‬واستلزمه من‬ ‫استطا إليه سبيالً»‪ ،‬نبَّه يف هذا الباب على ما َّ‬
‫حتكيم الرسول ‪ ‬يف موارد النزا ‪ ،‬إذ هذا هو مقتضى شهادة أن ال إله إالَّ اهلل‪،‬‬
‫بد منه لكل مؤمن‪ ،‬فإن من عرف أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬فال بد من‬ ‫والزمها الذي ال َّ‬
‫االنقياد حلكم اهلل والتسليم ألمره الذي جاء من عنده على يد رسوله حممد‬
‫‪...‬‬
‫(إن التحاكم في موارد النـزاع إلى غير النبي ‪ ،‬دللة صارخة على‬
‫النفاق وأهله)‬
‫إذا تبني هذا فمعى اآلية املرتجم هلا‪ :‬أن اهلل تبـارك وتـعاىل أنكر على‬

‫‪-15-‬‬
‫من يدَّعي اإلميان مبا أنزل اهلل على رسوله‪ ،‬وعلى األنبياء قبله‪ ،‬وهو مع‬
‫ذلك يريد أن يتحاكم يف فصل اْلصومات إىل غري كتاب اهلل وسنة رسوله‪ ،‬كما‬
‫ذكر املصنف يف سبب نزوهلا‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪ :‬والطاغوت‪ :‬كل من تعدَّى به حدَّه من الطغيان‪ ،‬وهو جماوزة‬
‫احلد‪ ،‬فكل ما حتاكم إليه متنازعان غري كتاب اهلل وسنة رسوله ‪ ‬فهو طاغوت‬
‫إذ قد تعدَّى به حدَّه‪.‬‬
‫ومن هذا‪ ،‬كل من عبد شيئًا دون اهلل فإمنا عبد الطاغوت‪ ،‬وجاوز مبعبوده‬
‫ح يده فأعطاه العبادة اليت ال تنبغي له‪ ،‬كما أن من دعا إىل حتكيم غري اهلل تعاىل‬
‫ورسوله ‪ ،‬فقد دعا إىل حتكيم الطاغوت‪.‬‬
‫منكرا هلذا التحكيم على من زعم أنه قد آمن‬ ‫وتعلل تصديره سبحانه اآلية ً‬
‫مبا أنزل اهلل على رسوله ‪ ،‬وعلى من قبله مث هو مع ذلك يدعو إىل حتكيم غري‬
‫اهلل ورسوله ‪ ،‬ويتحاكم إليه عند النزا ‪ ،‬ويف ضمن قوله‪﴿ :‬يـَْزعمو َن﴾ نفي ملا‬
‫زعموه من اإلميان‪ ،‬وهلذا ل يقل‪« :‬أل تر إىل الذين آمنوا»‪ ،‬فإهنم لو كانوا من‬
‫أهل اإلميان حقيقة ل يريدوا أن يتحاكموا إىل غري اهلل تعاىل ورسوله ‪ ،‬ول يقل‬
‫فيهم «يزعمون»‪ ،‬فإن هذا إمنا يقال غالبًا ملن يادعى دعوى هو فيها كاذب‪ ،‬أو‬
‫منزل منزلة الكاذب‪ ،‬ملخالفته ملوجبها وعمله مبا ينافيها‪:‬‬
‫قال ابن كثري‪ :‬واآلية ذامة ملن عدل عن الكتاب والسنة وحتاكم إىل ما‬
‫(‪)1‬‬
‫سوامها من الباطل‪ ،‬وهو املراد بالطاغوت ههنا» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن حميد‪:‬‬
‫«وقد تكفلَّت الشريعة حبل مجيع املشاكل وتبيينها وإيضاحها‪ ،‬قال‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)344 ،345‬‬

‫‪-14-‬‬
‫اب ِمن َش ْيء﴾ [األنعام‪.]31 :‬‬ ‫تعاىل‪َّ ﴿ :‬ما فَـَّرطْنَا ِيف ِ‬
‫الكتَ ِ‬
‫اب تِْبـيَانًا لِّك ِّل َش ْيء َوه ًدى َوَر ْمحَةً َوب ْشَرى‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ونَـَّزلْنَا علَي َ ِ‬
‫ك الْكتَ َ‬ ‫َ َْ‬
‫ني﴾ [النحل‪.]11 :‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫لْلم ْسلم َ‬
‫ففي هذه اآلية أن القرآن فيه البيان لكل شيء‪ ،‬وأن فيه االهتداء التام‪ ،‬وأن‬
‫للمتمسكني به اْلاضعني‬ ‫ِّ‬ ‫فيه الرمحة الشاملة‪ ،‬وأن فيه البشارة الصادقة‬
‫ألحكامه‪...‬‬
‫فكيف جيرتئ من يدَّعي اإلميان مع هذا البيان الواضح واآليات البينات‬
‫واألحاديث الصحيحة على الرضا بالتحاكم إىل الطاغوت واإلعراض عن شريعة‬
‫عمن ل حيكم الرسول فيما وقع بينهم من التشاجر‪،‬‬ ‫اهلل‪ ،‬واهلل قد نفى اإلميان َّ‬
‫يما َش َجَر بَـْيـنَـه ْم مثَّ الَ َِجيدواْ‬‫وك فِ‬
‫ىت حيَ ِّكم َ‬ ‫ك الَ يـ ْؤِمنو َن َح َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬فَالَ َوَربِّ َ‬
‫(‪)1‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما﴾ [النساء‪. »]56 :‬‬ ‫ت َوي َسلِّمواْ تَ ْسل ً‬ ‫ِيف أَنفس ِه ْم َحَر ًجا ِّممَّا قَ َ‬
‫ضْي َ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪ )1‬فتاوى ورسائل الشيخ عبد اهلل بن محيد‪ ،‬رسالة كمال الشريعة‪.)339 – 335/ ( :‬‬

‫‪-11-‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫كيف بلغ النبي ‪ ‬التوحيد‬
‫وصان جنابه من أي حدث دخيل عليه؟‬

‫قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى‪:‬‬


‫ِ ِ ِ ِِ ِِ ِ‬
‫ونذيرا ﴿ َوَداعيًا إ َىل اللَّه بإ ْذنه َوسَر ً‬
‫اجا‬ ‫بشريا ً‬
‫«وملَّا بلغ أربعني سنة بعثه اهلل ً‬
‫ِ‬
‫ُّمن ًريا﴾ [األحزاب‪ ،]45 :‬وملا أتى قومه بال إله إالَّ اهلل قالت قريش‪﴿ :‬أ َ‬
‫َج َع َل‬
‫اح ًدا﴾ [ص‪....]6 :‬‬ ‫ْاآل ِهلةَ إِ َهلا و ِ‬
‫َ ًَ‬
‫وملا أمره اهلل باهلجرة هاجر وأظهر اهلل دينه على الدين كله‪ ،‬وقاتل مجيع‬
‫املشركني ول مييز بني من اعتقد يف نيب وال ويل وال شجر وال حجر‪ ،‬وما زال يعلِّم‬
‫الناس التوحيد‪ ،‬ويقمع من دعاة الشرك كل شيطان مريد‪ ،‬حىت أزال اهلل اجلهل‬
‫واجلهال وبان للناس من التوحيد ساطع اجلمال‪.‬‬
‫وعن أنس قال‪ :‬قال أناس‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬يا خرينا وابن خرينا‪ ،‬وسيدنا وابن‬
‫سيدنا‪ ،‬فقال ‪« :‬يا أيها الناس أنا حممد عبد اهلل ورسوله‪ ،‬ما أحب أن ترفعوي‬
‫عز وجل»‪ ،‬وعن عبد اهلل بن الشخري قال‪ :‬انطلقت يف‬ ‫فوق منزليت اليت أنزلن اهلل ي‬
‫وفد بن عامر إىل النيب ‪ ‬فقلت‪ :‬أنت سيدنا‪ ،‬فقال‪« :‬السيد اهلل»‪ ،‬وعن ابن‬
‫عمر أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬ال تطروي كما أطرت النصارى املسيح ابن مرمي إمنا‬
‫أنا عبد اهلل ورسوله»‪.‬‬
‫وحمذرا من الشرك حىت أتاهم مرة‬ ‫وما زال ‪ ‬معلِّ ًما ألصحابه هذا التوحيد‪ً ،‬‬
‫الدجال فقال‪« :‬أال أخربكم مبا هو أخوف ما أخاف عليكم من‬ ‫وهم يتذكرون َّ‬
‫املسيح الدجال»؟ قالوا‪ :‬بلى يا رسول اهلل‪ .‬قال‪« :‬الشرك اْلفي‪.‬‬

‫‪-11-‬‬
‫يقوم الرجل فيصلي فيزين صالته ملا يرى من نظر الرجل»‪ ،‬وحىت قال‪« :‬ال‬
‫حتلفوا بآبائكم‪ ،‬من حلف باهلل فليصدق ومن حلف له باهلل فلريض‪ ،‬ومن ل‬
‫يرض فليس من اهلل يف شيء»‪ ،‬وحىت قال‪« :‬ال يقول أحدكم ما شاء اهلل وشاء‬
‫فالن»‪ ،‬وحىت قال‪« :‬ال تقولوا لوال اهلل وفالن»‪ ،‬وحىت قال‪« :‬ال يقول أحدكم‬
‫(‪)1‬‬
‫عبدي َوأ ََميت»‪ ،‬وحىت قال‪« :‬من حلف بغري اهلل فقد أشرك أو كفر» ‪.‬‬
‫وقال سليمان بن عبد اهلل في شرحه على كتاب التوحيد‪:‬‬
‫«باب ما جاء يف محاية املصطفى ‪ ‬جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل‬
‫إىل الشرك»‪.‬‬
‫اجلناب‪ :‬هو اجلانب‪ .‬واعلم أن يف األبواب املتقدمة شيئًا من محايته ‪‬‬
‫جلناب التوحيد‪ ،‬ولكن أراد املصنف هنا بيان محايته اْلاصة‪ ،‬ولقد بالغ ‪،‬‬
‫وعم يف محاية احلنيفية السمحة اليت بعثه اهلل‬
‫وحذر وأنذر‪ ،‬وأبدأ وأعاد‪ ،‬وخ َّ َّ‬
‫هبا‪ ،‬فهي حنيفية يف التوحيد‪ ،‬مسحة يف العمل‪ ،‬قال بعض العلماء‪ :‬هي أشد‬
‫(‪)2‬‬
‫الشرائع يف التوحيد واإلبعاد عن الشرك‪ ،‬وأمسح الشرائع يف العمل» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪.)39 ،35/4( :‬‬


‫(‪« )2‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)234‬‬

‫‪-15-‬‬
‫المبحث السادس‬
‫حكم من سب النبي ‪ ،‬أو استهزأ بحكم من أحكامه‪ ،‬أو‬
‫دفع شيئاا مما جاء به‪ ،‬أو سوغ لواحد من البشر الخروج عن شريعته‬

‫قال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«وقال الشيخ ابن تيمية رمحه اهلل تعاىل يف كتاب (الصارم املسلول‪ ،‬على‬
‫شام الرسول)‪ :‬قال اإلمام إسحاق بن راهويه أحد األئمة يعدل بالشافعي‬
‫سب اهلل أو رسوله أو دفع شيئًا مما أنزل اهلل أنه‬
‫وأمحد‪ :‬أمجع املسلمون أن من َّ‬
‫مقرا بكل ما أنزل اهلل‪.‬‬
‫كافر بذلك‪ ،‬وإن كان ً‬
‫وقال حممد بن سحنون أحد األئمة من أصحاب مالك‪ :‬أمجع العلماء على‬
‫أن شام الرسول ‪ ‬كافر‪ ،‬وحكمه عند األئمة القتل‪ ،‬ومن شك يف كفره كفر‪.‬‬
‫قال ابن املنذر‪ :‬أمجع عوام أهل العلم أن على من سبَّه‪ :‬القتل‪ ،‬وقال اإلمام أمحد‬
‫فيمن سبَّه‪ :‬يقتل‪ ،‬قيل‪ :‬فيه أحاديث؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬منها‪ :‬حديث األعمى الذي‬
‫قتل املرأة‪ ،‬وقول ابن عمر‪« :‬من شتم النيب ‪ ‬قتل‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز يقول‪:‬‬
‫يقتل‪ ،‬وقال يف رواية عبد اهلل‪ :‬ال يستتاب‪ ،‬إن خالد بن الوليد قتل رجالً شتم‬
‫النيب ‪ ‬ول يستتبه‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫فتأمل رمحك اهلل تعاىل كالم إسحاق بن راهويه ونقله اإلمجا على أن من‬
‫سب رسوله ‪ ،‬أو دفع شيئًا مما أنزل اهلل فهو كافر ‪ -‬وإن كان‬ ‫سب اهلل أو َّ‬ ‫َّ‬
‫بسب اهلل تعاىل‪ ،‬أو‬
‫مقرا بكل ما أنزل اهلل ‪ -‬يتبني لك‪ :‬أن من تلفَّظ بلسانه ِّ‬ ‫ً‬
‫بسب رسوله ‪ ،‬فهو كافر مرتد عن اإلسالم‪ ،‬وإن أقر جبميع ما أنزل اهلل‪ ،‬وإن‬ ‫ِّ‬
‫كان هازالً بذلك ل يقصد معناه بقلبه‪ ،‬كما قال الشافعي ‪‬‬

‫‪-19-‬‬
‫بسب اهلل تعاىل‪ ،‬أو‬ ‫من هزل بشيء من آيات اهلل فهو كافر‪ ،‬فكيف مبن هزل ِّ‬
‫(‪)1‬‬
‫بسب رسوله ‪. »‬‬ ‫ِّ‬
‫ولقد جاء في نواقض اإلسالم العشرة للشيخ محمد بن عبد الوهاب‬
‫رحمه اهلل‪:‬‬
‫الناقض السادس‪ :‬من استهزأ بشيء من دين الرسول ‪ ،‬أو ثوابه‪ ،‬أو عقابه‬
‫كفر‪ ،‬وذلك لقوله تعاىل‪﴿ :‬ق ْل أَبِاللي ِه َوآيَاتِِه َوَرسولِِه كنت ْم تَ ْستَـ ْه ِزؤو َن * الَ‬
‫تَـ ْعتَ ِذرواْ قَ ْد َك َف ْرم بَـ ْع َد إِميَانِك ْم﴾ [التوبة‪.]55 ،56 :‬‬
‫الناقض التاسع‪ :‬من اعتقد أن بعض الناس يسعه اْلروج عن شريعة حممد ‪‬‬
‫فهو كافر‪ ،‬لقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَمن يَـْبتَ ِغ َغْيـَر ا ِإل ْسالَِم ِدينًا فَـلَن يـ ْقبَ َل ِمْنه َوه َو ِيف‬
‫(‪)2‬‬ ‫اآلخرةِ ِمن ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾ [آل عمران‪. »]16 :‬‬ ‫اْلَاس ِر َ‬ ‫َ َ‬
‫وقال سليمان بن عبد اهلل رحمه اهلل تعالى في شرحه على كتاب‬
‫التوحيد‪:‬‬
‫«(باب من هزل بشيء فيه ذكر اهلل‪ ،‬أو القرآن‪ ،‬أو الرسول)‪ ،‬أي‪ :‬يكفر‬
‫بذلك الستخفافه جبناب الربوبية والرسالة‪ ،‬وذلك مناف للتوحيد‪ .‬وهلذا أمجع‬
‫العلماء على كفر من فعل شيئًا من ذلك‪ ،‬فمن استهزأ باهلل‪ ،‬أو بكتابه‪ ،‬أو‬
‫إمجاعا‪.‬‬
‫برسوله‪ ،‬أو بدينه‪ ،‬كفر ولو هازالً ل يقصد حقيقة االستهزاء ً‬
‫قال‪ :‬وقول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَئِن َسأَلْتَـه ْم لَيَـقول َّن إَِّمنَا كنَّا َخنوض َونَـْل َعب﴾‬
‫[التوبة‪....]56 :‬‬
‫قال شيخ اإلسالم‪ :‬فقد أمره أن يقول‪ :‬كفرم بعد إميانكم‪ .‬وقول من يقول‪:‬‬
‫إهنم قد كفروا بعد إمياهنم بلساهنم مع كفرهم أوالً بقلوهبم‬
‫ال يصح‪ ،‬ألن اإلميان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر‪ ،‬فال يقال‪:‬‬
‫قد كفرم بعد إميانكم فإهنم ل يزالوا كافرين يف نفس األمر‪ ،‬وإن أريد‪ :‬إنكم‬
‫املوحدين»‪ ،‬رسالة الكلمات النافعة يف ِّ‬
‫املكفرات الواقعة‪( :‬ص‪.)231‬‬ ‫(‪« )1‬عقيدة ِّ‬
‫املوحدين»‪( :‬ص‪.)464 ،465‬‬ ‫(‪« )2‬عقيدة ِّ‬

‫‪-12-‬‬
‫أظهرم الكفر بعد إظهاركم اإلميان فهم ل يظهروا ذلك إالَّ ْلواصهم‪ ،‬وهم‬
‫تبني ما يف‬ ‫مع خوضهم ما زالوا هكذا‪ ،‬بل ملَّا نافقوا وحذروا أن تنزل عليهم سورة ِّ‬
‫قلوهبم من النفاق وتكلموا باالستهزاء‪ ،‬أي‪ :‬صاروا كافرين بعد إمياهنم‪.‬‬
‫وال يدل اللفظ على أهنم ما زالوا منافقني إىل أن قال‪ :‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَئِن‬
‫َسأَلْتَـه ْم لَيَـقول َّن إَِّمنَا كنَّا َخنوض َونَـْل َعب﴾ [التوبة‪ ،]56 :‬وهلذا قيل‪﴿ :‬الَ تَـ ْعتَ ِذرواْ‬
‫ب طَآئَِفةً﴾ [التوبة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قَ ْد َك َف ْرم بَـ ْع َد إِميَانك ْم إِن نـَّ ْعف َعن طَآئ َفة ِّمنك ْم نـ َع ِّذ ْ‬
‫كفرا‪ ،‬بل ظنوا أن ذلك‬ ‫‪ ،]55‬فدل على أهنم ل يكونوا عند أنفسهم قد أتوا ً‬
‫ليس بكفر‪.‬‬
‫فتبني أن االستهزاء بآيات اهلل ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إميانه‪ ،‬فدل‬
‫على أنه كان عندهم إميان ضعيف‪ ،‬ففعلوا هذا احملرم الذي عرفوا أنه حمرم‪ ،‬ولكن‬
‫كفرا كفروا به‪ ،‬فإهنم ل يعتقدوا جوازه‪.‬‬ ‫كفرا‪ ،‬وكان ً‬ ‫ل يظنوه ً‬
‫ويف اآلية دليل على أن الرجل إذا فعل الكفر ول يعلم أنه كفر ال يعذر‬
‫بذلك‪ ،‬بل يكفر‪ ،‬وعلى أن الشاك كافر بطريق األوىل نبه عليه شيخ‬
‫(‪)1‬‬
‫اإلسالم» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪.)425 – 491( :‬‬

‫‪-13-‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫أصول اإليمان ومقتضياته ولوازمه‬

‫وفيه ستة مباحث‪:‬‬

‫باملعصية‪.‬‬ ‫املبحث األول‪ :‬اإلميان قول وعمل يزيد بالطاعة وينق‬


‫املبحث الثاي‪ :‬اإلسالم واإلميان وحدود العالقة بينهما‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬أصل اإلميان الذي ال يصح إالَّ بتحقيقه‪.‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬وجوب التباين بني أصل اإلميان وشعبه‪ ،‬وأصل‬
‫الكفر وشعبه‪ ،‬ثابت بالكتاب والسنة‪.‬‬
‫املبحث اْلامس‪ :‬حكم االستثناء يف اإلميان‪.‬‬
‫املبحث السادس‪ :‬كلما عظم اإلميان‪ ،‬اشتد اْلوف من الكفر والنفاق‪.‬‬

‫‪-14-‬‬
-16-
‫تمهيد هام لسبر أغوار قضية اإليمان‬

‫لقد أمجع علماء أهل السنَّة‪ ،‬جيالً بعد جيل على َّ‬
‫أن اإلميان‪ :‬قول وعمل‪،‬‬
‫وَتسك بالكتاب والسنَّة‪ ،‬يزيد بالطاعة وينق باملعصية‪ ،‬بل ُّ‬
‫وعدوا ذلك أصالً‬
‫خارجا عن صراطهم‪ ،‬وداخالً يف‬
‫احدا منها صار ً‬ ‫من أصوهلم‪ ،‬اليت من باين و ً‬
‫سبل أهل األهواء والبد ‪.‬‬
‫معا؛ خالفًا‬
‫ولقد انعقد اإلمجا القدمي على أن‪ :‬اإلميان حمله القلب واجلوارح ً‬
‫لفرق املرجئة اليت قصرته طائفة منهم على القلب‪ ،‬وبعضهم على اللسان‪،‬‬
‫معا دون بقية اجلوارح‪.‬‬
‫وبعضهم على القلب واللسان ً‬
‫وكون اإلميان حمله القلب واجلوارح‪ ،‬فاملقصود به‪ :‬اإلميان املطلق‪ ،‬وكذا مطلق‬
‫اإلميان‪ ،‬أي‪ :‬اإلميان بكل درجاته ودوائره‪ .‬فاإلميان املطلق هو‪ :‬القيام بعبادة اهلل‬
‫وحده ال شريك له‪ ،‬والرباءة من الشرك‪ ،‬مع القيام بالواجبات واالنتهاء عن‬
‫احملرمات‪.‬‬
‫َّ‬
‫وهذا اإلميان يستوجب لصاحبه دخول اجلنات‪ ،‬والنجاة من النريان‬
‫والعذاب‪.‬‬
‫ومطلق اإلميان هو‪:‬‬
‫القيام بالتوحيد‪ ،‬والرباءة من الشرك‪ ،‬مع القيام ببعض الواجبات وترك‬
‫بعضها‪ ،‬بشرط أن ال يكون يف فرض‪ ،‬يلزم من تركه فساد اإلميان بالكلية‪ ،‬كرتك‬
‫كفرا من علماء السلف واْللف‪.‬‬‫الصالة كسالً‪ ،‬عند من يعدها ً‬
‫وهذا اإلميان جيعل صاحبه يف املشيئة اإلهلية‪ ،‬وحيرم عليه اْللود يف النريان‪.‬‬

‫‪-15-‬‬
‫ومما تقدَّم‪ ،‬نستطيع الوقوف على‪ :‬احلد البني الواضح املفرق بني أهل السنَّة‬
‫أن اإلميان حمله القلب واجلوارح‪،‬‬ ‫واْلوارج يف قضية اإلميان‪ ،‬فكالمها ن َّ ‪ :‬على َّ‬
‫لكن أهل السنَّة َّفرقوا يف هذا املقام بني اإلميان املطلق‪ ،‬ومطلق اإلميان‪.‬‬
‫فإذا اقرتف العبد كبرية من كبائر الذنوب‪ ،‬خرج هبا من اإلميان املطلق إىل‬
‫مطلق اإلميان‪ ،‬وال يبطل إميانه بالكلية إالَّ بفعل ناقض من نواقض اإلسالم‪.‬‬
‫أما اْلوارج فقد اشرتطت اإلميان املطلق لكل عبد حىت يصح إسالمه‪ ،‬فإذا‬
‫نقضه بفعل كبرية‪ ،‬أو ترك فريضة‪ ،‬فقد بطل إميانه وفسد بكل درجاته ودوائره‪.‬‬
‫وهبذا انعقد إمجا أهل السنَّة على أن العاصي من املوحدين ال خيلد يف‬
‫النار‪ ،‬كما تواترت بذلك اآلثار‪ ،‬خالفًا للخوارج واملعتزلة‪ ،‬وقد يدخلها بسبب‬
‫ذنوبه‪ ،‬إن ل تدركه رمحة ربه تبارك وتعاىل‪ ،‬وميكث فيها ما شاء اهلل له مث خيرج‬
‫منها‪ ،‬وذلك خالفًا للغالة من املرجئة اليت نصبت راية النجاة من العذاب لكل‬
‫العصاة من املوحدين زاعمة أن املعصية ال تضر مع اإلميان‪ ،‬كما ال تنفع مع‬
‫الكفر طاعة‪ ،‬وعليه فإن إميان العصاة من أهل القبلة‪ ،‬كإميان املالئكة والنبِّيني‬
‫والصدِّيقني‪...‬‬
‫ونصوا‪ :‬على‬ ‫ودوروا داخلها دائرة لإلميان‪ُّ ،‬‬
‫دور السلف دائرة لإلسالم‪َّ ،‬‬ ‫ولقد ي‬
‫أن فعل الكبرية خيرج صاحبه من اإلميان إىل اإلسالم‪ ،‬وال خيرجه من اإلسالم إالَّ‬
‫الردة عن الدين‪.‬‬‫الكفر املبني و َّ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪-14-‬‬
‫المبحث األول‬
‫اإليمان قول وعمل‪ ،‬يزيد بالطاعة‪ ،‬وينقص بالمعصية‬
‫سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل‪:‬‬
‫قال السائل‪َّ :‬‬
‫تفكرت يف اإلميان وقوته وضعفه‪ ،‬وأن حملَّه القلب‪ ،‬وأن التقوى‬
‫مثرته ومركبة عليه‪ ،‬فبقوته تقوى‪ ،‬وبضعفه تضعف‪.‬‬
‫فأجاب‪ :‬قولك إن اإلميان حمله القلب؛ فاإلميان بإمجا السلف حمله القلب‬
‫مجيعا‪ ،‬كما ذكر اهلل يف سورة األنفال وغريها؛ وأما كون الذي يف‬ ‫واجلوارح ً‬
‫القلب والذي يف اجلوارح‪ ،‬يزيد وينق ‪ ،‬فذلك شيء معلوم‪ ،‬والسلف خيافون‬
‫(‪)1‬‬
‫على اإلنسان إذا كان ضعيف اإلميان من النفاق‪ ،‬أو سلب اإلميان كله» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ حسن ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد رحمهم اهلل‬
‫تعالى‪:‬‬
‫قال ابن القيم رمحه اهلل‪ :‬وحنن حنكي إمجاعهم‪ ،‬كما حكاه حرب‪ ،‬صاحب‬
‫اإلمام أمحد‪ ،‬بلفظه‪ ،‬قال يف مسائله املشهورة‪ ،‬هذا مذهب أهل العلم‪،‬‬
‫املتمسكني هبا‪ ،‬املقتدى هبم فيها‪ ،‬من لدن‬ ‫ِّ‬ ‫وأصحاب األثر‪ ،‬وأهل السنَّة‬
‫أصحاب رسول اهلل ‪ ‬إىل يومنا هذا‪ ،‬وأدركت من أدركت من علماء احلجاز‬
‫والشام وغريهم عليها‪ ،‬فمن خالف شيئًا من هذه املذاهب‪ ،‬أو طعن فيها‪ ،‬أو‬
‫عاب قائلها‪ ،‬فهو خمالف مبتد ‪ ،‬خارج عن اجلماعة‪ ،‬زائل عن مذهب أهل‬
‫السنَّة وسبيل احلق‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهو مذهب أمحد‪ ،‬وإسحاق بن إبراهيم‪ ،‬وعبد اهلل بن خملد‪،‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)914/9( :‬‬

‫‪-11-‬‬
‫وعبد اهلل بن الزبري احلميدي‪ ،‬وسعيد بن منصور‪ ،‬وغريهم ممن جالسنا‪،‬‬
‫وأخذنا عنهم العلم‪ ،‬فكان من قوهلم‪ :‬إن اإلميان قول وعمل ونية‪ ،‬وَتسك‬
‫بالكتاب والسنَّة؛ واإلميان‪ :‬يزيد وينق ‪ ،‬ويستثى يف اإلميان غري أن ال يكون‬
‫ش ًكا‪ ،‬إمنا هي سنة ماضية عند العلماء‪ ،‬وإذا سئل الرجل‪ :‬أمؤمن أنت؟ فإنه‬
‫يقول‪ :‬أنا مؤمن إن شاء اهلل‪ ،‬أو مؤمن أرجو‪ ،‬ويقول‪ :‬آمنت باهلل ومالئكته وكتبه‬
‫ورسله‪.‬‬
‫(أقوال الفرق في اإليمان)‬
‫ومن زعم‪ :‬أن اإلميان قول بال عمل‪ ،‬فهو مرجئ؛ ومن زعم‪ :‬أن اإلميان هو‬
‫القول‪ ،‬واألعمال شرائع‪ ،‬فهو مرجئ‪ ،‬ومن زعم‪ :‬أن اإلميان يزيد‪ ،‬وال ينق فقد‬
‫قال بقوله املرجئة؛ ومن ل ير االستثناء يف اإلميان فهو مرجئ؛ ومن زعم أن إميانه‬
‫كإميان جربيل واملالئكة‪ ،‬فهو مرجئ؛ ومن زعم أن املعرفة تقع يف القلب‪ ،‬وإن ل‬
‫(‪)1‬‬
‫يتكلم هبا‪ ،‬فهو مرجئ» ‪.‬‬
‫وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى عن معنى أبيات‬
‫من الشعر‪ ،‬قيلت في التوحيد فأجاب‪:‬‬
‫الثالثة)‪ :‬هل يشرتط يف الواجب‪ ،‬النطق بالشهادتني؟ أو يصري ً‬
‫مسلما‬
‫(‪2‬‬
‫«‪...‬‬
‫مسلما إالَّ بالنطق للقادر عليه‪ ،‬واملخالف يف‬
‫ً‬ ‫يصري‬ ‫ال‬ ‫أنه‬ ‫‪:‬‬ ‫باملعرفة‪ ،‬فذكر‬
‫ذلك جهم ومن تبعه؛ وقد أفىت اإلمام أمحد‪ ،‬وغريه من السلف‪ ،‬بكفر من قال‪:‬‬
‫مسلما باملعرفة‪ ،‬وتفر على هذه مسائل؛ منها‪ :‬من دعي إىل الصالة‬ ‫إنه يصري ً‬
‫حدا‪ ،‬من رأى‬‫حدا؟ ومن قال‪ :‬يقتل ً‬ ‫كفرا أو ً‬
‫فأىب مع اإلقرار بوجوهبا‪ ،‬هل يقتل ً‬
‫أن هذا أصل املسألة‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬أن ابن َّ‬
‫كرام‪ ،‬وأتباعه‪ ،‬يقولون‪ :‬إن اإلميان‪ ،‬قول باللسان‪ ،‬من‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)345 ،346/9( :‬‬


‫(‪ )2‬أي‪ :‬صاحب األبيات الشعرية‪.‬‬

‫‪-11-‬‬
‫غري عقيدة القلب‪ ،‬مع أهنم يوافقون أهل السنَّة‪ ،‬أنه خملد يف النار‪ ،‬فذكر‬
‫(‪)1‬‬
‫أنه‪ :‬ال بد مع النطق بتصديق القلب» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫جمرد التصديق‪ ،‬وال يدخلون فيه أعمال‬ ‫«ومذهب األشاعرة‪ :‬أن اإلميان َّ‬
‫اجلوارح‪ ،‬قالوا‪ :‬وإن مسِّيت األعمال يف األحاديث إميانًا‪ ،‬فعلى اجملاز‪ ،‬ال‬
‫(‪)2‬‬
‫احلقيقة» ‪.‬‬

‫أيضا رحمه اهلل تعالى‪:‬‬


‫وقال ا‬
‫«وأما املعتزلة‪ :‬فهم الذين يقولون باملنزلة بني املنزلتني؛ يعنون‪ :‬أن مرتكب‬
‫الكبرية‪ ،‬يصري يف منزلة بني الكفر واإلسالم‪ ،‬فليس هو مبسلم‪ ،‬وال كافر؛‬
‫ويقولون‪ :‬إنه خيلد يف النار‪ ،‬ومن دخل النار ل خيرج منها بشفاعة‪ ،‬وال غريها‪.‬‬
‫وأول من اشتهر عنه ذلك‪ :‬عمرو بن عبيد‪ ،‬وكان هو وأصحابه جيلسون‬
‫معتزلني اجلماعة‪ ،‬فيقول قتادة وغريه‪ :‬أولئك املعتزلة‪ ،‬وهم كانوا بالبصرة بعد‬
‫ضموا إىل‬‫موت احلسن البصري‪ ،‬وضم املعتزلة إىل ذلك‪ :‬التكذيب بالقدر؛ مث ُّ‬
‫ذلك نفي الصفات؛ فيثبتون االسم دون الصفة؛ فيقولون‪ :‬عليم بال علم؛ مسيع‬
‫(‪)3‬‬
‫بال مسع؛ بصري بال بصر؛ وهكذا سائر الصفات؛ فهم قدرية جهمية‪ ،‬وامتازوا‬
‫‪ :‬باملنزلة بني املنزلتني‪ ،‬وخلود عصاة املوحدين يف النار‪.‬‬
‫وأما اْلوارج‪ :‬فهم الذين خرجوا على علي ‪‬؛ وقبل ذلك‪ :‬قتلوا‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)999 ،995/9( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)354/9( :‬‬
‫(‪ )3‬احلق أن املعتزلة ل تتميز بقول عن بقية الفرق‪ ،‬إالَّ‪ :‬باملنزلة بني املنزلتني‪ ،‬وأما خلود عصاة املوحدين‬
‫يف النار‪ ،‬فقد شاركتهم فيه اْلوارج‪.‬‬

‫‪-955-‬‬
‫عثمان ‪‬؛ وكفروا عثمان‪ ،‬وعليًا‪ ،‬وطلحة‪ ،‬والزبري‪ ،‬ومعاوية‪ ،‬وطائفيت علي‬
‫ومعاوية‪ ،‬واستحلوا دماءهم‪.‬‬
‫وأصل مذهبهم‪ :‬الغلو الذي هنى اهلل عنه‪ ،‬وحذر عنه النيب ‪ ،‬فكفروا من‬
‫ارتكب كبرية؛ وبعضهم‪ :‬يكفر بالصغائر‪ :‬وكفروا عليًا وأصحابه بغري ذنب‪،‬‬
‫فكفَّروهم بتحكيم احلكمني‪ :‬عمرو بن العاص‪ ،‬وأيب موسى األشعري‪ ،‬وقالوا‪ :‬ال‬
‫حكم إالَّ هلل‪.‬‬
‫واستدلوا على قوهلم بالتكفري بالذنوب‪ ،‬بعمومات أخطئوا فيها‪ ،‬وذلك‬
‫ين فِ َيها أَبَ ًدا﴾‬ ‫كقوله سبحانه‪﴿ :‬ومن يـع ِ اللَّه ورسولَه فَِإ َّن لَه نَار جهن ِ ِ‬
‫َّم َخالد َ‬ ‫َ ََ َ‬ ‫َ ََ‬ ‫ََ َْ‬
‫[اجلن‪.]23 :‬‬
‫وده ي ْد ِخْله نَ ًارا َخالِ ًدا فِ َيها﴾‬
‫وقوله‪َ ﴿ :‬وَمن يَـ ْع ِ الليهَ َوَرسولَه َويَـتَـ َع َّد حد َ‬
‫[النساء‪.]94 :‬‬
‫وقوله‪َ ﴿ :‬وَمن يَـ ْقت ْل م ْؤِمنًا ُّمتَـ َع ِّم ًدا فَ َجَزآؤه َج َهنَّم َخالِ ًدا فِ َيها﴾ [النساء‪:‬‬
‫‪ ،]13‬وغري ذلك من اآليات‪.‬‬
‫وأمجع أهل السنَّة واجلماعة أن أصحاب الكبائر ال خيلدون يف النار إذا ماتوا‬
‫على التوحيد؛ وأن من دخل النار منهم بذنبه خيرج منها‪ ،‬كما تواترت بذلك‬
‫األحاديث عن النيب ‪.‬‬
‫كفارا‬
‫أيضا‪ :‬فلو كان الزاي‪ ،‬وشارب اْلمر‪ ،‬والقاذف‪ ،‬والسارق‪ ،‬وحنوهم‪ً :‬‬ ‫و ً‬
‫مرتدين‪ ،‬لكان حكمهم يف الدنيا القتل‪ ،‬الذي هو حكم اهلل يف املرتدين؛ فلما‬
‫حكم اهلل على الزاي البكر اجللد‪ ،‬وعلى السارق بالقطع‪ ،‬وعلى الشارب‬
‫والقاذف باجللد‪ ،‬دلَّنا حكم اهلل فيهم بذلك‪ :‬أهنم ل يكفروا هبذه الذنوب‪ ،‬كما‬
‫(‪)1‬‬
‫تزعمه اْلوارج» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)353 – 355/9( :‬‬

‫‪-959-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫اإلسالم واإليمان وحدود العالقة بينهما‬

‫سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه اهلل‪ ،‬عن الفرق بين اإلسالم‬
‫واإليمان‪ ،‬فأجاب‪:‬‬
‫وفسر اإلسالم يف‬ ‫فسر النيب ‪ ‬اإلسالم واإلميان يف حديث جربائيل‪َّ ،‬‬ ‫قد َّ‬
‫حديث ابن عمر‪ ،‬وكالمها يف الصحيح‪ ،‬فقال‪« :‬اإلسالم أن تشهد أن ال إله إالَّ‬
‫حممدا رسول اهلل‪ ،‬وتقيم الصالة‪ ،‬وتؤيت الزكاة‪ ،‬وتصوم رمضان‪ ،‬وحتج‬ ‫اهلل‪ ،‬وأن ً‬
‫البيت إن استطعت إليه سبيالً»‪ ،‬وقال‪« :‬اإلميان أن تؤمن باهلل‪ ،‬ومالئكته‪،‬‬
‫وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬وباليوم اآلخر‪ ،‬وتؤمن بالقدر خريه وشره»‪ ،‬وقال يف حديث ابن‬
‫عمر‪« :‬بن اإلسالم على مخس‪ :‬شهادة أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وأن ً‬
‫حممدا رسول اهلل‪،‬‬
‫وإقام الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وصوم رمضان‪ ،‬وحج البيت»‪ ،‬ويف رواية‪« :‬واحلج‪،‬‬
‫وصوم رمضان»‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬جعل النيب ‪ ‬الدين ثالث‬
‫درجات‪ :‬أعالها اإلحسان‪ ،‬وأوسطها اإلميان‪ ،‬ويليه اإلسالم‪ ،‬فكل حمسن مؤمن‪،‬‬
‫وكل مؤمن مسلم‪ ،‬وليس كل مؤمن حمسنًا‪ ،‬وال كل مسلم مؤمنًا‪ ،‬كما دلت‬
‫عليه األحاديث‪ .‬انتهى كالمه‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬قد َّفرق النيب ‪ ‬يف حديث جربائيل بني اإلسالم واإلميان‪،‬‬
‫واملشهور عن السلف وأئمة احلديث‪ :‬أن اإلميان قول‪ ،‬وعمل‪ ،‬ونيَّة‪ ،‬و َّ‬
‫أن‬
‫مسمى اإلميان‪ ،‬وحكى الشافعي على ذلك إمجا‬ ‫األعمال كلها داخلة يف َّ‬
‫الصحابة والتابعني ومن بعدهم ممن أدركهم؟‬

‫‪-952-‬‬
‫دل على دخول األعمال يف اإلميان‪:‬‬ ‫أن األمر كذلك‪ ،‬وقد َّ‬ ‫فاجلواب‪َّ :‬‬
‫ين إِ َذا ذكَِر الليه‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫َِّ‬
‫الكتاب والسنَّة‪ :‬أما الكتاب فكقوله تعاىل‪﴿ :‬إمنَا الْم ْؤمنو َن الذ َ‬
‫ت قـلوبـه ْم﴾ [األنفال‪ ،]2 :‬وأما احلديث فكقوله يف حديث أيب هريرة‬ ‫ِ‬
‫َوجلَ ْ‬
‫املتفق عليه‪« :‬اإلميان بضع وسبعون شعبة‪ ،‬أعالها قول ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وأدناه‬
‫إماطة األذى عن الطريق‪ ،‬واحلياء شعبة من اإلميان» وغري ذلك‪.‬‬
‫فمن زعم‪ :‬أن إطالق اإلميان على األعمال الظاهرة جماز‪ ،‬فقد خالف‬
‫الصحابة‪ ،‬والتابعني‪ ،‬واألئمة‪.‬‬
‫إذا عرفت ذلك‪ ،‬فاعلم أنه جيمع بني األحاديث‪ :‬بأن أعمال اإلسالم داخلة‬
‫مسمى اإلميان‪،‬‬
‫مسمى اإلميان‪ ،‬شامالً هلا‪ ،‬ففسرت باإلسالم‪ ،‬وهي جزء َّ‬ ‫يف َّ‬
‫لكون اإلميان مثاالً هلا ولغريها‪ ،‬من األعمال الباطنة والظاهرة‪ ،‬فإذا أفرد اإلميان‬
‫يف آية أو حديث‪ ،‬دخل فيه اإلسالم‪ ،‬وإذا قرن بينهما فسر اإلسالم باألركان‬
‫وفسر اإلميان بأعمال القلب‪ ،‬ألهنا أصل‬ ‫اْلمسة‪ ،‬كما يف حديث جربيل‪َّ ،‬‬
‫اإلميان ومعظمه‪ ،‬وقوته وضعفه‪ :‬ناشئ عن قوة ما يف القلب‪ ،‬من هذه األعمال‬
‫أو ضعفها‪.‬‬
‫وقد يضعف ما يف القلب‪ ،‬من اإلميان باألصول الستة‪ ،‬حىت يكون وزن ذرة‪،‬‬
‫كما يف احلديث الصحيح‪« :‬أخرجوا من النار من كان يف قلبه مثقال ذرة من‬
‫إميان»‪.‬‬
‫فبقدر ما يف القلب من اإلميان‪ ،‬تكون األعمال الظاهرة‪ ،‬اليت هي داخلة يف‬
‫إسالما وإميانًا‪ ،‬كما يف حديث وفد عبد القيس‪ ،‬حني قال هلم‬ ‫وتسمى ً‬ ‫مسماه‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫النيب ‪« :‬آمركم باإلميان باهلل وحده‪ ،‬أتدرون ما اإلميان باهلل وحده؟» قالوا‪ :‬اهلل‬
‫ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪« :‬شهادة أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وأن ً‬
‫حممدا رسول اهلل‪ ،‬وإقام‬
‫الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وأن تؤدوا مخـس مـا غنمتم»‪ ،‬فهذه‬

‫‪-953-‬‬
‫األعمال الظاهرة والباطنة‪ ،‬فمن ترك شيئًا من الواجبات‪ ،‬أو فعل شيئًا من‬
‫احملرمات‪ ،‬نق إميانه حبسب ذلك‪ ،‬وهو دليل على نقصان أصل اإلميان‪ ،‬وهو‬ ‫َّ‬
‫إميان القلب‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬يف الكالم على اإلسالم‬
‫واإلميان واإلحسان‪ ،‬وما بني الثالثة من العموم واْلصوص‪ :‬أما اإلحسان‪ :‬فهو‬
‫أعم من جهة نفسه‪ ،‬وأخ من جهة أصحابه من اإلميان‪ ،‬واإلميان‪ :‬أعم من‬
‫جهة نفسه‪ ،‬وأخ من جهة أصحابه من اإلسالم‪ .‬فاإلحسان‪ :‬يدخل فيه‬
‫اإلميان‪ ،‬واإلميان يدخل فيه اإلسالم‪ ،‬واحملسنون‪ :‬أخ من املؤمنني‪ ،‬واملؤمنون‪:‬‬
‫يبني ما َّقررنا‪.‬‬
‫أخ من املسلمني‪ .‬انتهى‪ .‬وهذا ِّ‬
‫فحينئذ يتبني اإلميان الكامل‪ ،‬الذي صاحبه يستحق عليه دخول اجلنة‪.‬‬
‫احملرمات‪ ،‬وهو‪ :‬الذي يطلق على‬ ‫والنجاة من النار‪ ،‬هو‪ :‬فعل الواجبات‪ ،‬وترك َّ‬
‫من كان كذلك بال قيد‪ ،‬وهو اإلميان‪ :‬الذي يسميه العلماء‪ :‬اإلميان املطلق‪.‬‬
‫وأما من ل يكن كذلك‪ ،‬بل َّفرط يف بعض الواجبات‪ ،‬أو فعل بعض‬
‫احملرمات‪ ،‬فإنه ال يطلق عليه اإلميان إالَّ بقيد‪ ،‬فيقال‪ :‬مؤمن بإميانه‪ ،‬فاسق‬‫َّ‬
‫بكبريته‪ ،‬أو يقال‪ :‬مؤمن ناق اإلميان‪ ،‬لكونه ترك بعض واجبات اإلميان‪ ،‬كما‬
‫يف حديث أيب هريرة ‪« :‬ال يزي الزاي حني يزي وهو مؤمن»‪ ،‬أي‪ :‬ليس‬
‫موصوفًا باإلميان الواجب‪ ،‬الذي يستحق صاحبه الوعد باجلنة‪ ،‬واملغفرة والنجاة‬
‫من النار‪ ،‬بل هو حتت املشيئة‪ :‬إن شاء غفر له‪ ،‬وإن شاء عذبه على ترك ما‬
‫وجب عليه من اإلميان‪ ،‬وارتكابه الكبرية‪.‬‬
‫يسمى مؤمنًا إالَّ بقيد‪ ،‬وهذا‬
‫وقيل‪ :‬هذا يوصف باإلسالم دون اإلميان‪ ،‬وال َّ‬
‫الذي يسميه العلماء مطلق اإلميان‪ ،‬أي‪ :‬أنه أتى باألركان اْلمسة‪ ،‬وعمل هبا‬
‫وظاهرا‪ ،‬وهذا الذي قلنا من معى اإلسـالم واإلميان‪ ،‬هو‬
‫ً‬ ‫باطنًا‬

‫‪-954-‬‬
‫مذهب اإلمام أمحد‪ ،‬وطائفة من السلف واحملققني‪ ،‬وذهب طائفة من أهل‬
‫إسالما‬
‫ً‬ ‫فيسمى‬
‫أن اإلسالم واإلميان شيء واحد‪ ،‬وهو الدين‪َّ ،‬‬ ‫أيضا إىل َّ‬
‫السنَّة ً‬
‫ملسمى واحد‪ ،‬واألول أصح‪ ،‬وهو الذي نصره شيخ اإلسالم‬ ‫وإميانًا‪ ،‬فهما امسان َّ‬
‫ابن تيمية رمحه اهلل تعاىل يف كتبه‪ ،‬فال تلتفت إىل ما خيالف هذين القولني‪ ،‬واهلل‬
‫(‪)1‬‬
‫أعلم ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫من املعلوم من الدين بالضرورة‪ :‬أنه جيب اإلميان بكل ما جاء به النيب ‪،‬‬
‫رد أي حكم من أحكامها‪،‬‬ ‫فاإلميان بالشريعة كل ال يتجزأ‪ ،‬ومن مثَّ من وقع يف ي‬
‫مقرا بكل ما أنزل اهلل فيها‪.‬‬
‫كافرا‪ ،‬ولو كان ً‬
‫يكون ً‬
‫واإلميان والكفر‪ ،‬ضدان ال جيتمعان وال يرتفعان‪ ،‬ولكل منهما أصل‬
‫وشعب‪ .‬فأصل اإلميان‪ :‬التوحيد‪ ،‬وشعبه‪ :‬الطاعات‪ ،‬وأصل الكفر‪ :‬الشرك‪،‬‬
‫وشعبه‪ :‬املعاصي‪.‬‬
‫فالضد من أصل اإلميان وشعبه‪ ،‬يستحيل أن جيتمع مع ضده من أصل‬
‫الكفر وشعبه‪.‬‬
‫كافرا‪،‬‬
‫فالعبد إذا قامت به شعبة من شعب الكفر دون أصله‪ ،‬ال يكون ً‬
‫وكذلك إذا قامت به شعبة من شعب اإلميان دون أصله‪ ،‬ال يصري مؤمنًا‪.‬‬
‫فحكم الكفر ال ينحل عن صاحبه‪ ،‬حىت حيقق أصل اإلميان ال شعبه‪،‬‬
‫وكذلك حكم اإلميان ال يفارق صاحبه‪ ،‬حىت يقوم به أصل الكفر ال شعبه‪،‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ :‬إن اإلميان ال يثبت لكافر‪ ،‬حىت ينخلع من أصل الكفر‪ ،‬ال‬
‫شعبه‪ ،‬كما أن الكفر ال يثبت على مؤمن‪ ،‬حىت يذهب عنه أصل اإلميان ال‬
‫شعبه‪.‬‬
‫واحلاصل‪ :‬أن لإلميان أصل‪ ،‬ال يتم وال يصح اإلسالم واإلميان إالَّ به ً‬
‫إمجاعا‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)334 – 334/9( :‬‬

‫‪-956-‬‬
‫فأصل اإلسالم واإلميان‪ :‬القيام مبعى (ال إله إالَّ اهلل) إقرا ًرا ً‬
‫وعلما وعمالً‪،‬‬
‫ومدلول ذلك يتمثل يف‪ :‬عبادة اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬والكفر بكل ما يعبد من‬
‫دونه‪ ،‬مع اإلقرار والقبول لكافة أحكام اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ولإلسالم واإلميان‪ ،‬عالقة وطيدة تربط بينهما‪ ،‬وعلى ضوء قواعدها‪،‬‬
‫نستطيع الوقوف على أمساء وأحكام الكفر واإلميان‪.‬‬
‫فاإلسالم قد يفسر باألعمال الظاهرة‪ ،‬واإلميان باألعمال الباطنة‪ ،‬إالَّ أنه ال‬
‫يصح قبول أي واحد منهما مبعزل عن اآلخر‪.‬‬
‫فاإلسالم بدون إميان نفاق أكرب‪ ،‬واإلميان بدون إسالم دعوى ال حقيقة هلا؛‬
‫ومن مثَّ كانت املؤثرات السلبية واإلجيابية الظاهرة واحدة على كل منهما‪.‬‬
‫فإذا قام دليل صحيح منضبط على فساد الظاهر أو الباطن‪ ،‬قطعنا بفساد‬
‫اإلسالم واإلميان‪ ،‬هذا مع قولنا‪ :‬إن اإلسالم هو األعمال الظاهرة‪ ،‬واإلميان هو‬
‫جدا‪ ،‬وبه نعلم حقيقة‬‫األعمال الباطنة فينبغي التفطن هلذا املوضع فإنه نافع ً‬
‫العالقة الصحيحة املنضبطة بني اإلسالم واإلميان‪.‬‬
‫عظيما‪ ،‬ويكونون فيه على‬
‫والناس يتفاضلون يف اإلسالم واإلميان تفاضالً ً‬
‫درجات متفاوتة‪ ،‬حبسب ما قام يف قلوهبم من‪ :‬الصدق واليقني واإلخالص‪،‬‬
‫وعلى جوارحهم من‪ :‬االنقياد والطاعة والقبول واإلذعان‪.‬‬
‫وهبذا يعلو جليًا‪ :‬الفرق البني الواضح‪ ،‬بني اإلميان والكفر‪ ،‬واإلسالم‬
‫والشرك‪ ،‬والطاعة واملعصية‪ ،‬وأحكام كل واحد منهم‪.‬‬
‫سوى بني أصل اإلميان وشعبه‪ ،‬وأصل الكفر وشعبه‪ ،‬يف‬ ‫واحلاصل‪َّ :‬‬
‫أن من َّ‬
‫أحل‬
‫السنة وإمجا سلف األمة‪ ،‬و ي‬ ‫األمساء واألحكام‪ ،‬يكون قد خالف الكتاب و َّ‬
‫بنفسه البدعة‪ ،‬ودخلها من أوسع أبواهبا‪ ،‬مرتديًا يف أودية هالكها‪.‬‬

‫‪-955-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫أصل اإليمان الذي ل يصح إل بتحقيقه‬

‫قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن في أثناء كالم له عن تقرير الشيخ‬


‫محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل لقضية التوحيد واألدلة عليها‪:‬‬
‫أن أصل اإلسالم وقاعدته شهادة أن ال‬ ‫«قال‪ :‬الشيخ رمحه اهلل يوضح ذلك َّ‬
‫إله إالَّ اهلل‪ ،‬وهي أصل اإلميان باهلل وحده‪ ،‬وهي أفضل شعب اإلميان‪ ،‬وهذا‬
‫(‪)1‬‬
‫بد فيه من العلم والعمل واإلقرار‪ ،‬بإمجا املسلمني» ‪.‬‬ ‫األصل ال َّ‬
‫وقال الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل‪:‬‬
‫«إن الرسول ‪ ‬فرض اإلميان مبا جاء به كله‪ ،‬ال تفريق فيه‪ ،‬فمن آمن‬
‫حقا‪ ،‬بل ال بد من اإلميان بالكتاب كله‪.‬‬ ‫ببعض‪ ،‬وكفر ببعض‪ ،‬فهو كافر ً‬
‫كثريا من احملرمات‪ ،‬لكن‬ ‫أن من الناس من يصلي ويصوم‪ ،‬ويرتك ً‬ ‫فإذا عرفت َّ‬
‫ال يروثون املرأة‪ ،‬ويزعمون أن ذلك هو الذي ينبغي اتباعه‪ ،‬بل لو يورثها أحد‬
‫عندهم‪ ،‬وخيلف عادهتم‪ ،‬أنكرت قلوهبم ذلك‪ ،‬أو ينكر عدة املرأة يف بيت‬
‫زوجها‪ ،‬مع علمه بقول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬الَ ختْ ِرجوه َّن ِمن بـيوهتِِ َّن َوَال َخيْر ْج َن إَِّال أَن‬
‫اح َشة ُّمبَـيِّـنَة ﴾ [الطالق‪ ]9 :‬ويزعم أن تركها يف بيت زوجها ال يصلح‪،‬‬ ‫يأْتِني بَِف ِ‬
‫َ َ‬
‫وأن إخراجها عنه‪ ،‬هو الذي ينبغي فعله‪ ،‬وأنكر التحية بالسالم‪ ،‬مع معرفة أن‬
‫اهلل شرعه‪ ،‬حبًا لتحية اجلاهلية ملا ألفها‪ ،‬فهذا يكفر‪ ،‬ألنه آمن ببعض وكفر‬
‫ببعض‪ ،‬خبالف من عمل املعصية‪ ،‬أو ترك الفرض‪ ،‬مثل فعل الزنا‪ ،‬وترك بر‬
‫(‪)2‬‬
‫الوالدين‪ ،‬مع اعرتافه أنه خمطئ‪ ،‬وأن أمر اهلل‪ ،‬هو الصواب» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)691/9( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)923/9( :‬‬

‫‪-954-‬‬
‫وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«أما النطق بال إله إالَّ اهلل‪ ،‬من غري معرفة ملعناها‪ ،‬وال يقني‪ ،‬وال عمل مبا‬
‫تقتضيه من الرباءة من الشرك‪ ،‬وإخالص القول والعمل‪ ،‬قول القلب وقول‬
‫(‪)1‬‬
‫اللسان‪ ،‬وعمل القلب واجلوارح‪ ،‬فغري نافع باإلمجا » ‪.‬‬
‫وقال أيضا رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«واإلميان باهلل وحده‪ ،‬هو‪ :‬الرباءة مما كانوا يعبدونه من األصنام واألوثان‬
‫وإخالص العبادة هلل‪ ،‬ال يرتاب يف هذا مسلم‪.‬‬
‫فمن شك يف أن هذا هو معى ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬فليس معه من اإلسالم ما يزن‬
‫(‪)2‬‬
‫حبة خردل» ‪.‬‬
‫أيضا رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫وقال ا‬
‫«إن الكفر بالطاغوت‪ :‬ركن التوحيد‪ ،‬كما يف آية البقرة أي قوله تعاىل‪:‬‬
‫ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى﴾ [البقرة‪:‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫﴿فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ‬
‫استَ ْم َس َ‬
‫وح ًدا‪ ،‬والتوحيد‪ :‬هو أساس اإلميان‪،‬‬ ‫‪ ،]265‬فإذا ل حيصل هذا الركن‪ ،‬ل يكن م ِّ‬
‫(‪)3‬‬
‫الذي تصلح به مجيع األعمال وتفسد بعدمه‪ .‬اهـ» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫فسره النيب‬
‫«وأصل اإلميان باهلل وحده‪ :‬هو عبادته وحده ال شريك له‪ ،‬وقد َّ‬
‫‪ ‬بذلك يف حديث (وفد عبد القيس)‪.‬‬
‫هذا هو اإلميان الذي اخت َّ به املؤمنون‪ ،‬وجحده املشركون‪ ،‬وفيه وقع‬
‫(‪)4‬‬
‫النزا ‪ ،‬وله شر اجلهاد‪ ،‬وانقسم العباد» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬فتح اجمليد»‪( :‬ص‪.)31‬‬


‫(‪« )2‬جمموعة الرسائل»‪.)322/4( :‬‬
‫(‪« )3‬فتح اجمليد» (ص‪ ،)315‬بتصرف بسيط‪.‬‬
‫(‪« )4‬جمموعة الرسائل واملسائل»‪.)225 ،226/3( :‬‬

‫‪-951-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫وجوب التباين بين أصل اإليمان وشعبه‬
‫وأصل الكفر وشعبه‪ ،‬ثابت بالكتاب والسنة‬

‫لقد أصل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن أصولا ذهبية في قضية‬
‫اإليمان ‪ -‬قد استقاها من اإلمام العالمة ابن قيم الجوزية ‪ -‬ل يمكن‬
‫الستغناء عنها لمن أراد الوقوف على علل وأحكام اإليمان والكفر‪ ،‬فقال‬
‫رحمه اهلل‪:‬‬
‫«وهنا أصول‪ ،‬أحدهما‪ :‬أن السنة واألحاديث النبوية‪ ،‬هي املبينة لألحكام‬
‫القرآنية‪ ،‬وما يراد من النصوص الواردة يف كتاب اهلل‪ ،‬يف‪ :‬باب معرفة حدود ما‬
‫املوحد‪ ،‬والفاجر‪ ،‬والرب‪ ،‬والظال‪،‬‬
‫أنزل اهلل‪ ،‬كمعرفة املؤمن‪ ،‬والكافر‪ ،‬واملشرك‪ ،‬و ِّ‬
‫والتقي‪ ،‬وما يراد باملواالة‪ ،‬والتويل‪ ،‬وحنو ذلك من احلدود‪....‬‬
‫األصل الثاني‪ :‬أن اإلميان أصل‪ ،‬له شعب متعددة‪ ،‬كل شعبة منها َّ‬
‫تسمى‬
‫إميانًا‪ ،‬فأعالها‪ :‬شهادة أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وأدناها‪ :‬إماطة األذى عن الطريق‪.‬‬
‫إمجاعا‪ ،‬كشعبة الشهادتني‪ ،‬ومنها‪ :‬ما ال يزول‬
‫فمنها‪ :‬ما يزول اإلميان بزواله ً‬
‫إمجاعا‪ ،‬كرتك إماطة األذى عن الطريق‪ ،‬وبني هاتني الشعبتني شعب‬ ‫ً‬ ‫بزواله‬
‫متفاوتة‪ ،‬منها‪ ":‬ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب‪ ،‬ومنها‪ :‬ما يلحق‬
‫بشعبة إماطة األذى عن الطريق ويكون إليها أقرب‪ ،‬والتسوية بني هذه الشعب‬
‫يف اجتماعها‪ ،‬خمالف للنصوص‪ ،‬وما كان عليه سلف األمة وأئمتها‪.‬‬
‫أن شعب اإلميان‪ :‬إميان‪،‬‬ ‫أيضا‪ ،‬ذو أصل وشعب‪ ،‬فكما َّ‬ ‫وكذلك الكفر ً‬
‫فشعب الكفر‪ :‬كفر‪ ،‬واملعاصي كلها من شعب الكفر‪ ،‬كما أن الطاعات‬
‫يسوى بينهما يف األمساء واألحكام‪ ،‬وفرق بني‬
‫كـلها من شعب اإلميان‪ ،‬وال َّ‬

‫‪-951-‬‬
‫من ترك الصالة‪ ،‬أو الزكاة‪ ،‬أو الصيام‪ ،‬أو أشرك باهلل‪ ،‬أو استهان‬
‫باملصحف‪ ،‬وبني من يسرق‪ ،‬ويزي‪ ،‬أو يشرب‪ ،‬أو ينهب‪ ،‬أو صدر منه نو‬
‫سوى بني شعب اإلميان يف األمساء واألحكام‪،‬‬‫مواالة‪ ،‬كما جرى حلاطب‪ ،‬فمن َّ‬
‫سوى بني شعب الكفر يف ذلك‪ ،‬فهو خمالف للكتاب والسنة‪ ،‬خارج عن‬ ‫أو َّ‬
‫سبيل سلف األمة‪ ،‬داخل يف عموم أهل البد واألهواء‪.‬‬
‫األصل الثالث‪ :‬أن اإلميان مركب‪ ،‬من قول وعمل‪ ،‬والقول قسمان‪:‬‬
‫قول القلب‪ ،‬وهو‪ :‬اعتقاده‪.‬‬
‫وقول اللسان‪ ،‬وهو‪ :‬التكلُّم بكلمة اإلسالم‪.‬‬
‫والعمل قسمان‪:‬‬
‫عمل القلب وهو‪ :‬قصده‪ ،‬واختياره‪ ،‬وحمبته‪ ،‬ورضاه‪ ،‬وتصديقه‪.‬‬
‫وعمل اجلوارح‪ :‬كالصالة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬واحلج‪ ،‬واجلهاد‪ ،‬وحنو ذلك من األعمال‬
‫الظاهرة‪.‬‬
‫فإذا زال تصديق القلب‪ ،‬ورضاه‪ ،‬وحمبته هلل‪ ،‬وصدقه‪ ،‬زال اإلميان بالكلية‪.‬‬
‫وإذا زال شيء من األعمال‪ ،‬كالصالة‪ ،‬واحلج‪ ،‬واجلهاد‪ ،‬مع بقاء تصديق‬
‫القلب وقَبوله‪ ،‬فهذا حمل خالف‪ ،‬هل يزول اإلميان بالكلية‪ ،‬إذا ترك أحد األركان‬
‫اإلسالمية‪ ،‬كالصالة‪ ،‬واحلج‪ ،‬والزكاة‪ ،‬والصيام‪ ،‬أو ال يزول؟ وهل‪ :‬يكفر تاركه‬
‫أو ال يكفر؟ وهل‪ :‬يفرق بني الصالة‪ ،‬وغريها‪ ،‬أو ال يفرق؟‬
‫فأهل السنة‪ :‬جممعون على أنه ال بد من عمل القلب‪ ،‬الذي هو‪ :‬حمبته‪،‬‬
‫ورضاه‪ ،‬وانقياده‪ ،‬واملرجئة تقول‪ :‬يكفي التصديق فقط‪ ،‬ويكون به مؤمنًا‪،‬‬
‫واْلالف يف أعمال اجلوارح‪ ،‬هل يكفر أو ال يكفر‪ ،‬واقع بني أهل السنة‬
‫واملعروف عند السلف‪ :‬تكفري من ترك أحد املباي اإلسالمية‪ ،‬كالصالة‪ ،‬والزكاة‪،‬‬
‫والصيام‪ ،‬واحلج‪ ،‬والقول الثاي‪ :‬أنه ال يكفر إالَّ من جحدها‪.‬‬

‫‪-995-‬‬
‫والثالث‪ :‬الفرق بني الصالة وغريها‪ ،‬وهذه األقوال‪ ،‬معروفة‪.‬‬
‫وكذلك املعاصي والذنوب اليت هي‪ :‬فعل احملظورات‪ ،‬فرقوا فيها بني ما‬
‫كفرا وما ل‬
‫يصادم أصل اإلسالم وينافيه‪ ،‬وما دون ذلك‪ ،‬وبني ما مسَّاه الشار ً‬
‫املتمسكون بسنة رسول اهلل ‪ ،‬وأدلة هذا‬ ‫ِّ‬ ‫يسمه‪ ،‬هذا ما عليه أهل األثر‪،‬‬
‫مبسوطة يف أماكنها‪.‬‬
‫األصل الرابع‪ :‬أن الكفر نوعان‪ :‬كفر عمل‪ ،‬وكفر جحود وعناد‪ ،‬وهو‪ :‬أن‬
‫وعنادا‪ ،‬من‪ :‬أمساء‬
‫جحودا ً‬ ‫ً‬ ‫يكفر مبا علم أن الرسول ‪ ‬جاء به من عند اهلل‪،‬‬
‫الرب‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬وأحكامه‪ ،‬اليت أصلها توحيده‪ ،‬وعبادته وحده ال شريك‬
‫له‪ ،‬وهذا مضاد لإلميان من كل وجه‪...‬‬
‫األصل الخامس‪ :‬أنه ال يلزم من قيام شعبة من شعب اإلميان بالعبد‪ ،‬أن‬
‫كافرا وإن‬
‫يسمى ً‬ ‫يسمى مؤمنًا‪ ،‬وال يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر‪ ،‬أن َّ‬ ‫ِّ‬
‫كان ما قام به كفر‪ ،‬كما أنه ال يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم‪ ،‬أو من‬
‫فقيها‪ ،‬وأما‬
‫يسمى عاملًا‪ ،‬أو طبيبًا‪ ،‬أو ً‬ ‫أجزاء الطب‪ ،‬أو من أجزاء الفقه‪ ،‬أن َّ‬
‫الشعبة نفسها‪ ،‬فيطلق عليها اسم الكفر‪ ،‬كما يف احلديث‪« :‬اثنتان يف أميت مها‬
‫هبم كفر‪ :‬الطعن يف النسب‪ ،‬والنياحة على امليت»‪ ،‬وحديث‪« :‬من حلف بغري‬
‫(‪)1‬‬
‫اهلل فقد كفر»‪ ،‬ولكنه ال يستحق اسم الكفر على اإلطالق» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)416 – 44/9( :‬‬

‫‪-999-‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫حكم الستثناء في اإليمان‬

‫لقد انقسم المسلمون في حكم الستثناء في اإليمان إلى الثالثة أقوال‪:‬‬


‫جيوز األمرين باعتبارين‬
‫حيرمه‪ ،‬ومنهم من ِّ‬‫منهم من يوجبه‪ ،‬ومنهم من ِّ‬
‫خمتلفني‪ ،‬وهذا أصل األقوال الستمداد مشروعيته من القواعد الصحيحة املنضبطة‬
‫لدى سلف األمة يف قضية اإلميان‪.‬‬
‫فاالستثناء يف اإلميان لدى أهل السنة يعود إىل املوافاة‪ ،-‬وإىل كماله‬
‫الواجب‪ ،‬وأما االستثناء فيه ش ًكا فقد أمجعوا على حرمته‪.‬‬
‫وإذا قال واحد من السلف‪ :‬أنا مؤمن من غري استثناء‪ ،‬فقد أراد بذلك‪:‬‬
‫مطلق اإلميان‪ ،‬ال اإلميان املطلق‪ ،‬أو اإلميان املقيد‪ ،‬ال اإلميان الواجب أو‬
‫املستحب‪ ،‬ولقد صدَّعت املوافاة على اإلميان‪ :‬قلوب املؤمنني‪ ،‬وكان الواحد‬
‫منهم‪ ،‬كلما عظم إميانه‪ ،‬اشتد خوفه من النفاق والكفر‪ ،‬وسوء اْلاَتة‪.‬‬
‫سئل الشيخ محد بن عتيق‪ ،‬عن قول الفقهاء‪ :‬من قال أنا مؤمن إن شاء‬
‫اهلل‪ ،‬إن نوى به يف احلال‪ ،‬يكفر‪ ،‬وإن نوى به يف املآل‪ ،‬ل يكفر؟!‬
‫فأجاب‪:‬‬
‫هذا سؤال من ال حيسن السؤال‪ ،‬فإن ظاهره‪ :‬أن مجيع الفقهاء يقولون ذلك‪،‬‬
‫ومن له خربة بأقوال الفقهاء‪ ،‬حتقق أن هذه جمازفة عليهم وقول بال علم‪ ،‬فإن‬
‫كان بعض املتأخرين‪ ،‬من بعض أهل املذاهب قال ذلك‪ ،‬فهو‪ :‬قول حمدث‪ ،‬من‬
‫أقوال أهل البد ‪ ،‬وأنا أذكر لك من كالم العلماء‬
‫يف االستثناء يف اإلميان‪ ،‬وهو قول الرجل‪ :‬أنا مؤمن إن شاء اهلل‪ ،‬ليتضح اْلطأ‬

‫‪-992-‬‬
‫من الصواب‪ ،‬ويعلم َمن األوىل باحلق يف هذا الباب‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل تعاىل‪ :‬وأما االستثناء يف اإلميان‪ ،‬بقول‬
‫الرجل‪ :‬أما مؤمن إن شاء اهلل‪ ،‬فالناس فيه على ثالثة أقوال‪:‬‬
‫منهم‪ :‬من يوجبه‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬من حيرمه‪.‬‬
‫جيوز األمرين‪ ،‬باعتبارين‪ .‬وهذا‪ :‬أصح األقوال‪.‬‬ ‫ومنهم‪ :‬من ِّ‬
‫فالذين حيرمونه‪ ،‬هم‪ :‬املرجئة‪ ،‬واجلهمية‪ ،‬وحنوهم‪ ،‬ممن جيعل اإلميان شيئًا‬
‫احدا‪ ،‬يعلمه اإلنسان من نفسه‪ ،‬كالتصديق بالرب‪ ،‬وحنو ذلك مما يف قلبه‪،‬‬ ‫و ً‬
‫فيقول أحدهم‪ :‬أنا أعلم أي مؤمن‪ ،‬كما أعلم أي قرأت الفاحتة‪ ،‬فمن استثى يف‬
‫إميانه‪ ،‬فهو شاك فيه عندهم‪.‬‬
‫وأما الذين أوجبوا االستثناء‪ ،‬فلهم فيه مأخذان‪ ،‬أحدمها‪ :‬أن اإلميان‪ ،‬هو ما‬
‫كافرا باعتبار املوافاة‪،‬‬
‫مات عليه اإلنسان‪ ،‬واإلنسان إمنا يكون عند اهلل مؤمنًا‪ ،‬و ً‬
‫وما سبق يف علم اهلل أنه يكون عليه‪ ،‬وهو‪ :‬مأخذ كثري من املتأخرين‪ ،‬من‬
‫الكالبية وغريهم ممن يريد أن ينصر ما استشهد عليه أهل السنَّة واحلديث‪ ،‬من‬
‫قوهلم‪ :‬أنا مؤمن إن شاء اهلل‪ ،‬ويريد مع ذلك أن اإلميان ال يتفاضل‪ ،‬وال يشك‬
‫اإلنسان يف املوجود منه‪ ،‬وإمنا يشك يف املستقبل‪ ،‬وهذا‪ :‬وإن علل به كثري من‬
‫املتأخرين من أصحاب احلديث‪ ،‬من أصحاب أمحد‪ ،‬ومالك‪ ،‬والشافعي‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫أحدا من السلف علَّل به االستثناء‪.‬‬
‫وغريهم‪ ،‬فما علمت ً‬
‫حيرمون االستثناء‪ ،‬يف احلال واملآل‪ ،‬وهؤالء‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فاملرجئة‪ ،‬واجلهمية‪ِّ ،‬‬
‫يبيحونه يف املآل‪ ،‬ومينعونه يف احلال‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم رمحه اهلل‪ :‬واملأخذ الثاي يف االستثناء‪ :‬أن اإلميان‬
‫املـطلق‪ ،‬يتضمن فعل ما أمر اهلل به كـله‪ ،‬وترك احملرمات كلها‪ ،‬فإذا قال‬

‫‪-993-‬‬
‫الرجل‪ :‬أما مؤمن هبذا االعتبار‪ ،‬فقد شهد لنفسه أنه من األبرار املتقني‪،‬‬
‫القائمني فعل مجيع ما أمروا به‪ ،‬وترك كل ما هنوا عنه‪ ،‬فيكون من أولياء اهلل‪،‬‬
‫وهذا من تزكية اإلنسان لنفسه‪ ،‬وشهادته هلا مبا ال يعلم‪ ،‬ولو كانت هذه‬
‫الشهادة صحيحة‪ ،‬لكان ينبغي أن يشهد لنفسه باجلنة إن مات على هذه‬
‫جوزوا ترك‬‫احلال‪ ،‬وهذا‪ :‬مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون‪ ،‬وإن َّ‬
‫االستثناء مبعى آخر‪.‬‬
‫بدا من‬‫وروى اْلالل عن أيب طالب قال‪ :‬مسعت أبا عبد اهلل‪ ،‬يقول‪ :‬ال جند ً‬
‫االستثناء‪ ،‬ألهنم إذا قالوا مؤمن‪ ،‬فقد جاءوا بالقول‪ ،‬فإمنا االستثناء بالعمل ال‬
‫بالقول‪ ،‬وعن إسحاق بن إبراهيم قال‪ :‬مسعت أبا عبد اهلل يقول‪ :‬أذهب إىل‬
‫حديث ابن مسعود يف االستثناء يف اإلميان ألن اإلميان قول وعمل‪ ،‬والعمل‬
‫الفعل‪ ،‬فقد جئنا بالقول‪ ،‬وخنشى أن نكون فرطنا يف العمل‪ ،‬فيعجبن أن يستثن‬
‫يف اإلميان‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا مؤمن إن شاء اهلل‪ ،‬ومثل هذا كثري من كالم أمحد‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وأمثاله» ‪.‬‬

‫*‬ ‫* *‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)664 – 699/9( :‬‬

‫‪-994-‬‬
‫المبحث السادس‬
‫كلما عظم اإليمان‪ ،‬اشتد الخوف من الكفر والنفاق‬

‫سئل الشيخ حمد بن عتيق رحمه اهلل تعالى‪:‬‬


‫هل جيوز لإلنسان أن حيدث نفسه بقول‪ :‬أنا منافق؟ أنا أخشى الكفر؟ هل‬
‫هذا شك يف الدين؟ أم ال؟‬
‫اجلواب‪ :‬قال البخاري‪ ،‬يف صحيحه‪ :‬قال ابن أيب مليكة‪« :‬أدركت ثالثني‬
‫من أصحاب النيب ‪ ‬كلهم خياف النفاق على نفسه‪ ،‬ما منهم أحد يقول‪ :‬إن‬
‫إميانه كإميان جربائيل وميكائيل»‪.‬‬
‫وقال ابن القيم‪ :‬تاهلل لقد قطع خوف النفاق‪ ،‬قلوب السابقني األولني‪،‬‬
‫لعلمهم بدقه‪ ،‬وجله‪ ،‬وتفاصيله‪ ،‬ومجله‪ ،‬ساءت ظنوهنم بنفوسهم‪ ،‬حىت خشوا أن‬
‫يكونوا من مجلة املنافقني‪.‬‬
‫قال عمر بن اْلطاب ‪ :‬يا حذيفة ناشدتك اهلل‪ ،‬هل مسَّاي لك رسول اهلل‬
‫أحدا‪ ،‬يعن‪ :‬ال أفتح هذا الباب يف‬ ‫‪ ‬مع القوم؟ فيقول‪ :‬ال‪ ،‬وال أزكي بعدك ً‬
‫تزكية الناس‪ ،‬ليس معناه‪ :‬أنه ل يربئ من النفاق غريه‪.‬‬
‫وكيف كان ما هو من صفات السابقني األولني‪ ،‬ش ًكا يف الدين؟‬
‫وعن احلسن البصري ‪ -‬يف النفاق ‪ -‬ما أمنه إالَّ منافق‪ ،‬وال خافه إالَّ مؤمن‪.‬‬
‫وقال ابن القيم رمحه اهلل‪ :‬وحبسب إميان العبد ومعرفته‪ ،‬يشتد خوفه أن يكون‬
‫منهم‪ ،‬وهلذا‪ :‬اشتد خوف سادة األمة‪ ،‬وسابقيها على أنفسهم‪ ،‬أن يكونوا‬
‫منهم‪ .‬انتهى‪.‬‬

‫‪-996-‬‬
‫فكلما زاد اإلميان‪ ،‬اشتد اْلوف من النفاق‪ ،‬وعلى حسب ضعف اإلميان‬
‫إخبارا عن خليله‬
‫يكون األمن منه‪ ،‬وأما خوف الكفر فيكفي فيه قول اهلل تعاىل‪ً ،‬‬
‫َصنَ َام﴾ [إبراهيم‪ ،]36 :‬وهو يدل على‬ ‫ن أَن نـَّ ْعب َد األ ْ‬‫اجنْب ِن َوبَِ َّ‬
‫إبراهيم‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫شدة خوفه من هذا األمر‪ ،‬ويف الدعاء املأثور‪« :‬اللهم إي أعوذ بك من الكفر‪،‬‬
‫رد إىل أرذل العمر»‪.‬‬ ‫والفقر‪ ،‬وعذاب القرب‪ ،‬وأن أ ي‬
‫واعلم‪ :‬أن كون اإلنسان‪ ،‬يشتد خوفه من الكفر‪ ،‬والنفاق‪ ،‬ويكثر البحث‬
‫عن أسباهبما وحنو ذلك‪ ،‬هو أمر غري التلفظ به‪ ،‬وكونه يقول‪ :‬أنا منافق‪ ،‬فذاك‬
‫(‪)1‬‬
‫لون‪ ،‬وهذا لون» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)661 ،664/9( :‬‬

‫‪-995-‬‬
-994-
‫الفصل الخامس‬
‫الطاغوت وصفة الكفر به‬

‫وفيه أربعة مباحث‬

‫املبحث األول‪ :‬معى الطاغوت وذكر بعض أفراده‪.‬‬


‫املبحث الثاي‪ :‬رءوس الطواغيت وصفة الكفر هبم‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬تكفري الطاغوت وشيعته‪ ،‬والرباءة منهم‪ ،‬شرط يف صحة‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬الكفر بالطاغوت شطر التوحيد‪ ،‬والتوحيد أساس اإلميان‬
‫وركنه األعظم‪ ،‬والتحاكم إىل الطاغوت أو احلكم به‪ ،‬إميان‬
‫بالطاغوت وكفر باهلل العظيم‪ ،‬ومروق من ملة املسلمني‪.‬‬

‫‪-991-‬‬
-991-
‫المبحث األول‬
‫معنى الطاغوت وبعض أفراده‬

‫قال عبد اهلل بن عبد الرمحن أبو بطني‪:‬‬


‫«وأما تعريف الطاغوت‪ :‬فهو مشتق من طغا‪ ،‬وتقديره طغووت‪ ،‬مث قلبت‬
‫ألفا‪ ،‬قال النحويُّون‪ :‬وزنه فعلوت‪ ،‬والتاء زائدة‪ ،‬وقال الواحدي‪ :‬قال مجيع‬ ‫الواو ً‬
‫ومجعا‪ ،‬ويذكر‬ ‫احدا ً‬ ‫أهل اللغة‪ :‬الطاغوت‪ :‬كل ما عبد من دون اهلل‪ ،‬يكون و ً‬
‫وت َوقَ ْد أ ِمرواْ أَن يَكْفرواْ‬‫ويؤنث‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬ي ِريدو َن أَن يـتحا َكمواْ إِ َىل الطَّاغ ِ‬
‫ََ َ‬
‫بِِه﴾ [النساء‪ ،]55 :‬فهذا يف الواحد‪.‬‬
‫ين َك َفرواْ أ َْولِيَآؤهم الطَّاغوت خيْ ِرجونَـهم ِّم َن‬ ‫َّ ِ‬
‫وقال تعاىل يف اجلمع‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫ات﴾ [البقرة‪.]264 :‬‬ ‫النُّوِر إِ َىل الظُّلم ِ‬
‫َ‬
‫وها﴾ [الزمر‪،]94 :‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫وت أَن يَـ ْعبد َ‬
‫اجتَـنَبوا الطاغ َ‬ ‫ين ْ‬ ‫وقال يف املؤنث‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫ومذكرا ومؤنثًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ومجعا‬
‫احدا ً‬ ‫قال‪ :‬ومثله يف أمساء الفلك يكون و ً‬
‫قال‪ :‬قال الليث وأبو عبيدة والكسائي ومجاهري أهل اللغة‪ :‬الطاغوت كل ما‬
‫عبد من دون اهلل‪ ،‬وقال اجلوهري‪ :‬الطاغوت الكاهن والشيطان وكل رأس يف‬
‫الضالل‪ ،‬وقال مالك وغري واحد من السلف واْللف‪ :‬كل ما عبد من دون اهلل‬
‫فهو طاغوت‪ ،‬وقال عمر بن اْلطاب ‪ ‬وابن عباس رضي اهلل عنهما وكثري من‬
‫املفسرين‪ :‬الطاغوت الشيطان‪.‬‬
‫جدا‪ ،‬فإنه يشتمل كل ما عليه‬ ‫قال ابن كثري رمحه اهلل تعاىل‪ :‬وهو قول قوي ً‬
‫أهل اجلاهلية من‪ :‬عبادة األوثان والتحاكم إليها واالستنصار هبا‪.‬‬
‫وت﴾ [النساء‪:‬‬ ‫ت والطَّاغ ِ‬ ‫وقال الواحدي عند قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬يـ ْؤِمنو َن بِ ِْ ِ‬
‫اجلْب َ‬
‫‪:]69‬‬

‫‪-925-‬‬
‫كل معبود من دون اهلل فهو جبت وطاغوت؛ قال ابن عباس يف رواية‬
‫عطية‪ :‬اجلبت األصنام‪ ،‬والطاغوت ترامجة األصنام الذين يكونون بني أيديها‬
‫يعربون عنه الكذب ليضلوا الناس‪ ،‬وقال يف رواية الوايب‪ :‬اجلبت الكاهن‪،‬‬
‫والطغوت الساحر‪.‬‬
‫وقال بعض السلف يف قوله سبحانه‪﴿ :‬ي ِريدو َن أَن يَـتَ َحا َكمواْ إِ َىل‬
‫حي بن‬ ‫َّ ِ‬
‫الطاغوت﴾ [النساء‪ ،]55 :‬إنه كعب بن األشرف‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬ي‬
‫أخطب‪ .‬وإمنا استحقَّا هذا االسم لكوهنما من رءوس الضالل‪ ،‬وإلفراطهما يف‬
‫الطغيان وإغوائهما الناس‪ ،‬ولطاعة اليهود هلما يف معصية اهلل‪ ،‬فكل من كان‬
‫هبذه الصفة فهو طاغوت‪.‬‬
‫وت﴾‬ ‫قال ابن كثري رمحه اهلل تعاىل‪﴿ :‬ي ِريدو َن أَن يـتحا َكمواْ إِ َىل الطَّاغ ِ‬
‫ََ َ‬
‫[النساء‪ ،]55 :‬وملا ذكر ما قيل إهنا نزلت فيمن طلب التحاكم إىل كعب بن‬
‫األشرف أو إىل حكم اجلاهلية وغري ذلك‪ ،‬قال‪ :‬واآلية أعم من ذلك كله‪ ،‬فإهنا‬
‫ذامة‪ ،‬ملن عدل عن الكتاب والسنَّة وحتاكم إىل ما سوامها من الباطل‪ ،‬وهو املراد‬
‫بالطاغوت ههنا‪.‬‬
‫فتحصل من جممو كالمهم رمحهم اهلل تعاىل أن اسم «الطاغوت» يشمل‬ ‫َّ‬
‫كل معبود من دون اهلل‪ ،‬وكل رأس يف الضالل يدعو إىل الباطل وحيسنه‪ ،‬ويشمل‬
‫أيضا كل من نصبه الناس للحكم بينهم بأحكام اجلاهلية املضادة حلكم اهلل‬ ‫ً‬
‫أيضا الكاهن والساحر وسدنة األوثان إىل عبادة املقبورين‬ ‫ورسوله‪ ،‬ويشمل ً‬
‫للجهال‪ ،‬املومهة أن املقبور وحنوه يقضي‬ ‫وغريهم مبا يكذبون من احلكايات املضلَّة َّ‬
‫حاجة من توجه إليه وقصده‪ ،‬وأنه فعل كذا وكذا مما هو كذب أو من فعل‬
‫الشياطني‪ ،‬ليومهوا الناس أن املقبور وحنوه يقضي حاجة من قصده‪ ،‬فيوقعهم يف‬
‫الشرك األكرب وتوابعه‪.‬‬

‫‪-929-‬‬
‫وأصل هذه األنوا كلها وأعظمها الشيطان‪ ،‬فهو الطاغوت األكرب‪ ،‬واهلل‬
‫سبحانه‪)1‬وتعاىل أعلم‪ ،‬وصلَّى اهلل على حممد وعلى آله وصحبه وسلم ت ً‬
‫سليما‬
‫(‬
‫كثريا» ‪.‬‬ ‫ً‬
‫وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‪:‬‬
‫السؤال الثالث من الفتوى رقم (‪:)1551‬‬
‫عموما‪ ،‬مع اإلشارة إىل تفسري ابن كثري آلية النساء‪:‬‬ ‫س‪ :‬ما معى الطاغوت ً‬
‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ك ي ِريدو َن‬‫ك َوَما أن ِزَل ِمن قَـْبل َ‬
‫ين يَـ ْزعمو َن أَنـَّه ْم َآمنواْ ِمبَا أن ِزَل إِلَْي َ‬
‫﴿أَ َلْ تَـَر إ َىل الذ َ‬
‫وت وقَ ْد أ ِمرواْ أَن يكْفرواْ بِِه وي ِريد الشَّيطَان أَن ي ِ‬
‫ضلَّه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أَن يَـتَ َحا َكمواْ إ َىل الطَّاغ َ‬
‫يدا﴾ [النساء‪.]55 :‬‬ ‫ضالَالً بَعِ ً‬ ‫َ‬
‫المراد هنا توضيح أمرين‪:‬‬
‫عموما‪ ،‬وهل يدخل كما قال ابن كثري طاغوت‬ ‫األول‪ :‬ما معى الطاغوت ً‬
‫كل قوم من يتحاكمون إليه دون اهلل لكي نصل إىل تفسري احلاكم واملتحاكمني‬
‫إليه حال كونه ال حياكم بشرعه سبحانه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬معى قوله ﴿ي ِريدو َن أَن يَـتَ َحا َكمواْ﴾ قال بعضهم اإلرادة هنا ال‬
‫حتصل إالَّ بالباطن وال يعلم أحد به لذا فال حيكم بكفر املتحاكم إالَّ بتوافر شرط‬
‫العلم باإلرادة الباطنية وهو غري حاصل‪ ،‬اإلرادة حممولة على املعى الظاهرة‪،‬‬
‫االستدالل حبديث الرسول ‪ ‬بالرضا واملتابعة‪ ،‬أي‪ :‬ذلك صواب‪.‬‬
‫السالم على رسوله وآله وصحبه‪ ...‬وبعد‪:‬‬ ‫احلمد هلل وحده والصالة و َّ‬
‫ج‪ :‬أولا‪ :‬معى الطاغوت العام‪ :‬هو كل ما عبد من دون اهلل ً‬
‫مطلقا‪ ،‬تقربًا‬
‫إليه بصالة أو صيام أو نذر أو ذبيحة أو جلوء إليه‪ ،‬فيما هو من شأن اهلل‪،‬‬
‫حتكيما له بدالً من كتاب اهلل وسنَّة رسوله ‪‬‬ ‫ً‬ ‫لكشف ضر‪ ،‬أو جلب نفع‪ ،‬أو‬
‫وحنو ذلك‪.‬‬

‫(‪« )1‬جمموعة التوحيد»‪( :‬ص‪.)655 – 411‬‬

‫‪-922-‬‬
‫واملراد بالطاغوت يف اآلية‪ :‬كل ما عدل عن كتاب اهلل تعاىل وسنَّة نبيه ‪،‬‬
‫إىل التحاكم إليه من‪ :‬نظم وقوانني وضعية‪ ،‬أو تقاليد وعادات متوارثة‪ ،‬أو رؤساء‬
‫قبائل ليفصل بينهم بذلك‪ ،‬أو مبا يراه زعيم اجلماعة‪ ،‬أو الكاهن‪ .‬ومن ذلك‬
‫يتبني‪ :‬أن النظم اليت وضعت ليتحاكم إليها مضاهاة لتشريع اهلل داخلة يف معى‬
‫الطاغوت‪.‬‬
‫لكن من عبد من دون اهلل وهو غري راض بذلك كاألنبياء والصاحلني ال‬
‫يسمى طاغوتًا وإمنا الطاغوت الشيطان الذي دعاهم إىل ذلك وزينه هلم من اجلن‬ ‫َّ‬
‫واإلنس‪.‬‬
‫وت﴾‪:‬‬‫ثانيا‪ :‬املراد باإلرادة يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ي ِريدو َن أَن يـتحا َكمواْ إِ َىل الطَّاغ ِ‬
‫ََ َ‬ ‫ا‬
‫ما صحبه فعل‪ ،‬أو قرائن وأمارات تدل على القصد واإلرادة‪ ،‬بدليل ما جاء يف‬
‫الرس ِ‬
‫َنزَل الليه َوإِ َىل َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫ول‬ ‫يل َهل ْم تَـ َعالَْواْ إِ َىل َما أ َ‬
‫اآلية اليت بعد هذه اآلية‪َ ﴿ :‬وإ َذا ق َ‬
‫أيضا‪:‬‬ ‫ِِ‬
‫ودا﴾ [النساء‪ ،]59 :‬ويدل على ذلك ً‬ ‫نك صد ً‬ ‫ني يَصدُّو َن َع َ‬
‫ت الْمنَافق َ‬
‫َرأَيْ َ‬
‫سبب النزول الذي ذكره ابن كثري وغريه يف تفسري هذه اآلية‪ ،‬وكذلك املتاعبة‬
‫دليل الرضا‪ ،‬وبذلك يزول اإلشكال القائل‪ :‬إن اإلرادة أمر باطن فال حيكم على‬
‫املريد إالَّ بعلمها منه وهو غري حاصل‪.‬‬
‫وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم‪.‬‬
‫اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‬
‫الرئيس‬ ‫نائب رئيس اللجنة‬ ‫عضو‬ ‫عضو‬
‫(‪)1‬‬
‫عبد اهلل بن قعود عبد اهلل بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء»‪.)643 ،642/9( :‬‬

‫‪-923-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫رءوس الطواغيت‪ ،‬وصفة الكفر بها‬

‫قال الشيخ حممد بن عبد الوهاب‪:‬‬


‫«اعلم رمحك اهلل تعاىل أن َّأول ما فرض اهلل على ابن آدم‪ :‬الكفر بالطاغوت‬
‫ِ‬
‫واإلميان باهلل‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ولََق ْد بَـ َعثْـنَا ِيف ك ِّل أ َّمة َّرسوالً أَن ْاعبدواْ الليهَ‬
‫و ِ‬
‫وت﴾ [النحل‪.]35 :‬‬ ‫اجتَنبواْ الطَّاغ َ‬ ‫َ ْ‬
‫فأما صفة الكفر بالطاغوت‪ :‬فأن تعتقد بطالن عبادة غري اهلل وترتكها‬
‫وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم‪.‬‬
‫وأما معى اإلميان باهلل‪ :‬فأن تعتقد أن اهلل هو اإلله املعبود وحده دون من‬
‫سواه‪ ،‬وختل مجيع أنوا العبادة كلها هلل‪ ،‬وتنفيها من كل معبود سواه‪ ،‬وحتب‬
‫أهل اإلخالص وتواليهم‪ ،‬وتبغض أهل الشرك وتعاديهم‪.‬‬
‫والطاغوت عام‪ ،‬فكل ما عبد من دون اهلل ورضى بالعبادة من معبود أو‬
‫متبو أو مطا يف غري اهلل ورسوله فهو طاغوت‪ .‬والطواغيت كثرية‪ ،‬ورءوسهم‬
‫مخسة‪:‬‬
‫(األول)‪ :‬الشيطان الداعي إىل عبادة غري اهلل‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪ ﴿ :‬أَ َلْ‬
‫آد َم أَن َّال تَـ ْعبدوا الشَّْيطَا َن إِنَّه لَك ْم َعدو ُّمبِني ﴾ [يس‪:‬‬ ‫أ َْع َه ْد إِلَْيك ْم يَا بَِن َ‬
‫‪.]55‬‬
‫املغري ألحكام اهلل تعاىل‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬أَ َلْ‬ ‫(الثاني)‪ :‬احلاكم اجلائر ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ك ي ِريدو َن أَن‬‫ك َوَما أن ِزَل ِمن قَـْبل َ‬
‫ين يَـ ْزعمو َن أَنـَّه ْم َآمنواْ ِمبَا أن ِزَل إِلَْي َ‬
‫تَـَر إ َىل الذ َ‬
‫وت وقَ ْد أ ِمرواْ أَن يكْفرواْ بِِه وي ِريد الشَّيطَان أَن ي ِ‬
‫ضلَّه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يَـتَ َحا َكمواْ إ َىل الطَّاغ َ‬
‫يدا﴾ [النساء‪.]55 :‬‬ ‫ضالَالً بَعِ ً‬
‫َ‬

‫‪-924-‬‬
‫(الثالث)‪ :‬الذي حيكم بغري ما أنزل اهلل‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَمن َّلْ‬
‫ك هم الْ َكافِرو َن﴾ [املائدة‪.]44 :‬‬ ‫َنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ‬ ‫ِ‬
‫َْحيكم مبَا أ َ‬
‫ال‬‫(الرابع)‪ :‬الذي يدَّعي علم الغيب من دون اهلل‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬ع ِ‬
‫َ‬
‫ضى ِمن َّرسول فَِإنَّه يَسلك ِمن بَـ ْ ِ‬
‫ني‬ ‫َح ًدا * إِالَّ َم ِن ْارتَ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ب فَ َال يظْهر َعلَى َغْيبه أ َ‬ ‫الْغَْي ِ‬
‫ْ‬
‫ص ًدا﴾ [اجلن‪...]24 ،25 :‬‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫يَ َديْه َوم ْن َخْلفه َر َ‬
‫(الخامس)‪ :‬الذي يعبد من دون اهلل وهو راض بالعبادة‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪:‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿ومن يـقل ِمْنـهم إِ ِّي إِلَه ِّمن دونِِه فَ َذلِ َ ِ ِ‬
‫ني﴾‬ ‫ك َْجن ِزي الظَّالم َ‬ ‫َّم َك َذل َ‬
‫ك َْجنزيه َج َهن َ‬ ‫ََ َ ْ ْ‬
‫[األنبياء‪.]21 :‬‬
‫واعلم أن اإلنسان ما يصري مؤمنًا باهلل إالَّ بالكفر بالطاغوت‪ ،‬والدليل قوله‬
‫ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى الَ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫تعاىل‪﴿ :‬فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ‬
‫استَ ْم َس َ‬
‫ص َام َهلَا َوالليه َِمسيع َعلِيم﴾ [البقرة‪. »]265 :‬‬ ‫ِ‬
‫(‪)1‬‬
‫انف َ‬
‫وقال الشيخ سليمان بن مسحان رمحها اهلل تعاىل‪:‬‬
‫هذه كلمات يف بيان الطاغوت‪ ،‬ووجوب اجتنابه‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬الَ‬
‫وت َويـ ْؤِمن بِاللي ِه فَـ َق ِد‬
‫الر ْشد ِمن الْغَي فَمن يكْفر بِالطَّاغ ِ‬
‫َ ِّ َ ْ َ ْ‬ ‫ني ُّ‬ ‫إِ ْكَر َاه ِيف الدِّي ِن قَد تَّـبَـ َّ َ‬
‫ص َام َهلَا َوالليه َِمسيع َعلِيم﴾ [البقرة‪.]265 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك بِالْع ْرَوة الْوثْـ َق َى الَ انف َ‬ ‫استَ ْم َس َ‬‫ْ‬
‫أن املستمسك بالعروة الوثقى‪ ،‬هو الذي يكفر بالطاغوت‪ ،‬وقدم‬ ‫فبني تعاىل َّ‬ ‫َّ‬
‫الكفر به على اإلميان باهلل‪ ،‬ألنه قد يدعي املدعي أنه يؤمن باهلل‪ ،‬وهو ال جيتنب‬
‫الطاغوت‪ ،‬وتكون دعواه كاذبة‪...‬‬
‫واملراد من اجتنابه هو‪ :‬بغضه‪ ،‬وعداوته بالقلب‪ ،‬وسبِّه وتقبيحه باللسان‪،‬‬
‫وإزالته باليد عند القدرة ومفارقته‪ ،‬فمن ادعى اجتناب الطاغوت ول يفعل ذلك‬
‫فما صدق‪.‬‬

‫(‪ )1‬جمموعة التوحيد‪( :‬ص ‪ ،)335 ،321‬والدرر السنية (‪.)953 -959/9‬‬

‫‪-926-‬‬
‫وأما حقيقته واملراد به‪ ،‬فقد تعددت عبارات السلف عنه‪ ،‬وأحسن ما قيل‬
‫فيه‪ ،‬كالم ابن القيم رمحه اهلل تعاىل حيث قال‪ :‬الطاغوت ما جتاوز به العبد حده‬
‫من معبود‪ ،‬أو متبو ‪ ،‬أو مطا ‪ ،‬فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه‪ ،‬غري اهلل‬
‫ورسوله‪ ،‬أو يعبدونه من دون اهلل‪ ،‬أو يتبعونه من غري بصرية من اهلل‪ ،‬أو يطيعونه‬
‫فيما ال يعلمون أنه طاعة هلل‪ ،‬فهذه طواغيت العال‪ ،‬إذا تأملتها‪ ،‬وتأملت أحوال‬
‫الناس معها‪ ،‬رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة اهلل إىل عبادة الطاغوت‪ ،‬وعن‬
‫طاعته ومتابعة رسوله‪ ،‬إىل طاعة الطاغوت ومتابعته‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وحاصله‪ :‬أن الطاغوت ثالثة أنوا ؛ طاغوت حكم‪ ،‬وطاغوت عبادة‪،‬‬
‫وطاغوت طاعة‪ ،‬ومتابعة‪ ،‬واملقصود يف هذه الورقة هو‪ :‬طاغوت احلكم‪ ،‬فإن‬
‫كثريا من الطوائف املنتسبني إىل اإلسالم‪ ،‬قد صاروا يتحاكمون إىل عادات‬ ‫ً‬
‫آبائهم‪ ،‬ويسمون ذلك احلق بشر الرفاقة‪ ،‬كقوهلم شر عجمان‪ ،‬وشر‬
‫قحطان‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬وهذا هو الطاغوت بعينه الذي أمر اهلل باجتنابه‪.‬‬
‫وذكر شيخ اإلسالم ابن تيمية يف منهاجه‪ ،‬وابن كثري يف تفسريه‪ :‬أن من‬
‫فعل ذلك فهو كافر باهلل‪ ،‬زاد ابن كثري جيب قتاله‪ ،‬حىت يرجع إىل حكم اهلل‬
‫(‪)1‬‬
‫ورسوله» ‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد الرمحن السعدي ‪-‬رمحه اهلل تعاىل‪:-‬‬
‫(‪)2‬‬
‫«كل من حكم بغري شر اهلل فهو‪ :‬طاغوت» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)656 – 652/95( :‬‬


‫(‪« )2‬تيسري الكرمي الرمحن»‪.)353/9( :‬‬

‫‪-925-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫تكفير الطاغوت وشيعته‪ ،‬والبراءة منهم‪ ،‬شرط في صحة اإلسالم‬
‫قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب‪:‬‬
‫«ومعى الكفر بالطاغوت‪ :‬أن تربأ من كل ما يعتقد فيه غري اهلل من جن أو‬
‫إنسي أو شجر أو حجر أو غري ذلك‪ ،‬وتشهد عليه بالكفر والضالل‪ ،‬وتبغضه‬
‫ولو كان أباك وأخاك‪.‬‬
‫السادة والقباب على القبور‪،‬‬ ‫أتعرض َّ‬ ‫فأما من قال أنا ال أعبد إالَّ اهلل وأنا ال َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫وأمثال ذلك‪ ،‬فهذا كاذب يف قول ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ول يكفر بالطاغوت» ‪.‬‬
‫وقال رحمه اهلل‪:‬‬
‫«ال يصح دين اإلسالم إالَّ بالرباءة من الطواغيت وتكفريهم‪ ،‬كما قال‬
‫ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى﴾‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫تعاىل‪﴿ :‬فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ‬
‫استَ ْم َس َ‬
‫(‪)2‬‬
‫[البقرة‪ . »]265 :‬اهـ‪.‬‬
‫أيضا رحمه اهلل مبيناا الفرق بين الظلم األكبر‪ ،‬واألصغر‪:‬‬ ‫وقال ا‬
‫«وأين الظلم الذي إذا تكلَّم اإلنسان بكلمة منه‪ ،‬أو مدح الطواغيت‪ ،‬أو‬
‫قائما‪ ،‬من الظلم الذي ال خيرج‬ ‫صائما ً‬ ‫جادل عنهم خرج من اإلسالم‪ ،‬ولو كان ً‬
‫من اإلسالم‪ ،‬بل إما يؤدي إىل صاحبه بالقصاص‪ ،‬وإما أن يغفره اهلل‪ ،‬فبني‬
‫(‪)3‬‬
‫املوضعني فرق عظيم» ‪.‬‬
‫أيضا رحمه اهلل تعالى‪- :‬بعد أن تكلم عن التوحيد وأنواعه وأدلته‪:‬‬ ‫وقال ا‬
‫أسه ورأسه‪ ،‬وهو‪:‬‬ ‫«فاهلل اهلل إخواي‪َ :‬تسكوا بأصل دينكم أوله وآخره‪ِّ ،‬‬
‫شهادة أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬واعرفوا معناها‪ ،‬وأحبوا أهلها‪ ،‬واجعلوهم إخوانكم‪،‬‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪.)34 ،33/4( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪ ،)63/95( :‬بتصرف بسيط‪.‬‬
‫(‪« )3‬الدرر السنية»‪.)55 – 66/95( :‬‬

‫‪-924-‬‬
‫ولو كانوا بعيدين؛ واكفروا بالطواغيت‪ ،‬وعادوهم‪ ،‬وابغضوا من أحبهم‪ ،‬أو‬
‫جادل عنهم‪ ،‬أو ل يكفرهم‪ ،‬أو قال‪ :‬ما عل َّي منهم‪ ،‬أو قال‪ :‬ما كلَّفن اهلل هبم‪،‬‬
‫فقد كذب على اهلل وافرتى‪ ،‬بل كلفه اهلل هبم‪ ،‬وفرض عليه الكفر هبم‪ ،‬والرباءة‬
‫منهم‪ ،‬ولو كانوا‪ :‬إخوانه وأوالده‪.‬‬
‫فاهلل اهلل‪َ ،‬تسكوا بأصل دينكم لعلكم تلقون ربكم ال تشركون به شيئًا‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫اللَّه َّم توفَّنا مسلمني‪ ،‬وأحلقنا بالصاحلني» ‪.‬‬
‫أيضا رحمه اهلل تعالى‪:‬‬ ‫وقال ا‬
‫من اهلل عليه باإلسالم‪ ،‬وعرف أن ما من إله إالَّ اهلل‪ ،‬ال تظن‬ ‫«وأنت يا من َّ‬
‫أتعرض للمشركني‪ ،‬وال‬ ‫أنك إذا قلت‪ :‬هذا هو احلق‪ ،‬وأنا تارك ما سواه لكن ال َّ‬
‫أقول فيهم شيئًا‪ ،‬ال تظن‪ :‬أن ذلك حيصل لك به الدخول يف اإلسالم‪ ،‬بل‪ :‬ال‬
‫ب يد من بغضهم‪ ،‬وبغض من حيبهم‪ ،‬ومسبَّتهم‪ ،‬ومعاداهتم؛ كما قال أبوك إبراهيم‬
‫والذين معه‪﴿ :‬إِنَّا بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ‬
‫ون اللَّ ِه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا بَـْيـنَـنَا‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤمنوا بالله َو ْح َده﴾ [املمتحنة‪ ،]4 :‬وقال‬ ‫َوبَـْيـنَكم الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ‬
‫ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى﴾‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫استَ ْم َس َ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ‬
‫ِ‬
‫[البقرة‪ ،]265 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولََق ْد بَـ َعثْـنَا ِيف ك ِّل أ َّمة َّرسوالً أَن ْاعبدواْ الليهَ‬
‫و ِ‬
‫وت﴾ [النحل‪.]35 :‬‬ ‫اجتَنبواْ الطَّاغ َ‬ ‫َ ْ‬
‫أتعرض الالَّت‪،‬‬ ‫ولو يقول رجل‪ :‬أنا أتبع النيب ‪ ‬وهو على احلق‪ ،‬لكن‪ :‬ال َّ‬
‫(‪)2‬‬
‫أتعرض أبا جهل‪ ،‬وأمثاله‪ ،‬ما عل يي منهم؛ ل يصح إسالمه» ‪.‬‬ ‫العزى‪ ،‬وال َّ‬ ‫و َّ‬
‫وقال عبد الرمحن بن حسن‪:‬‬
‫تردد يف كفر من‬ ‫« َمن عرف معى ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬عرف‪ :‬أن من شك‪ ،‬أو َّ‬
‫(‪)3‬‬
‫أشرك مع اهلل غريه‪ ،‬أنه ل يكفر بالطاغوت» ‪ .‬اهـ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)925 ،991/2( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)951/2( :‬‬
‫(‪« )3‬الدرر السنية»‪ ،)623/99( :‬بتصرف بسيط‪.‬‬

‫‪-921-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫الكفر بالطاغوت شطر التوحيد‪ ،‬والتوحيد أساس اإليمان‬
‫وركنه األعظم‪ ،‬والتحاكم إلى الطاغوت‪ ،‬أو الحكم به‪ ،‬إيمان‬
‫بالطاغوت وكفر باهلل العظيم‪ ،‬ومروق من ملة المسلمين‬

‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه على كتاب التوحيد‪:‬‬


‫ِ َّ ِ‬
‫ك‬‫ين يَـ ْزعمو َن أَنـَّه ْم َآمنواْ ِمبَا أن ِزَل إِلَْي َ‬
‫«باب قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬أَ َلْ تَـَر إ َىل الذ َ‬
‫ِ‬
‫ك﴾ [النساء‪.]55 :‬‬ ‫َوَما أن ِزَل ِمن قَـْبل َ‬
‫ذامة ملن عدل عن الكتاب‬ ‫قال العماد ابن كثري رمحه اهلل تعاىل‪ :‬واآلية َّ‬
‫والسنَّة وحتاكم إىل ما سوامها من الباطل‪ ،‬وهو املراد بالطاغوت ههنا‪.‬‬
‫وتقدم ما ذكره العالَّمة ابن القيم رمحه اهلل تعاىل يف حدِّه للطاغوت‪ ،‬وأنه‬
‫كل ما جتاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبو أو مطا ‪ ،‬فكل من حاكم إىل‬
‫غري كتاب اهلل وسنَّة رسوله ‪ ‬فقد حاكم إىل الطاغوت‪ ،‬الذي أمر اهلل تعاىل‬
‫عباده املؤمنني أن يكفروا به‪.‬‬
‫فإن التحاكم ليس إالَّ إىل كتاب اهلل وسنَّة رسوله ‪ ‬ومن كان حيكم هبما‪،‬‬ ‫َّ‬
‫عما شرعه اهلل ورسوله ‪ ‬وأنزله‬ ‫فمن حتاكم إىل غريمها فقد جتاوز به حدَّه‪ ،‬وخرج َّ‬
‫منزلة ال يستحقها‪ .‬وكذلك من عبد شيئًا دون اهلل فإمنا عبد الطاغوت‪ ،‬فإن كان‬
‫املعبود صاحلًا صارت عبادة العابد له راجعة إىل الشيطان الذي أمره هبا‪ ،‬كما‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين أَ ْشَركواْ َم َكانَك ْم أَنت ْم َوشَرَكآؤك ْم‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ويَـ ْوَم َْحنشره ْم َمج ًيعا مثَّ نَـقول للَّذ َ‬
‫فَـَزيَّـْلنَا بَـْيـنَـه ْم َوقَ َال شَرَكآؤهم َّما كنت ْم إِيَّانَا تَـ ْعبدو َن * فَ َك َفى بِاللي ِه َش ِه ً‬
‫يدا بَـْيـنَـنَا‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ت َورُّدواْ‬ ‫َسلَ َف ْ‬
‫ك تَـْبـلو ك ُّل نَـ ْفس َّما أ ْ‬ ‫ني * هنَال َ‬ ‫َوبَـْيـنَك ْم إِن كنَّا َع ْن عبَ َادتك ْم لَغَافل َ‬
‫ض َّل َعْنـهم َّما َكانواْ يَـ ْفتَـرو َن﴾ [يونس‪.]35 – 21 :‬‬ ‫إِ َىل اللي ِه َم ْوالَهم ْ‬
‫احلَ ِّق َو َ‬

‫‪-921-‬‬
‫مج ًيعا مثَّ يَـقول لِْل َمالَئِ َكةِ أ ََهؤالَء‬
‫إِيَّاك ْم َكانوا‬ ‫وكقوله‪﴿ :‬ويـوم َحيشرهم َِ‬
‫ََْ َ ْ ْ‬
‫َنت َولِيُّـنَا ِمن دوهنِِم بَ ْل َكانوا يَـ ْعبدو َن‬
‫اجلِ َّن أَ ْكثَـرهم‬
‫ْ‬ ‫كأ َ‬ ‫يَـ ْعبدو َن * قَالوا سْب َحانَ َ‬
‫هبِِم ُّم ْؤِمنو َن﴾ [سبأ‪.]49 ،45 :‬‬
‫قربا‪ ،‬أو‬
‫حجرا أو ً‬
‫شجرا أو ً‬ ‫وإن كان ممن يدعو إىل عبادة نفسه‪ ،‬أو كان ً‬
‫أصناما على صور الصاحلني‪ ،‬واملالئكة وغري ذلك‪،‬‬ ‫غري ذلك مما يتخذه املشركون ً‬
‫فهي من الطاغوت الذي أمر اهلل تعاىل عباده أن يكفروا بعبادته‪ ،‬ويتربأوا منه‪،‬‬
‫من عبادة كل معبود سوى اهلل كائنًا من كان‪ ،‬وهذا كله من عمل الشيطان‬
‫وتسويله‪ ،‬فهو الذي دعا إىل كل باطل وزيَّـنَه ملن فعله‪ ،‬وهذا ينايف التوحيد الذي‬
‫هو معى شهادة أن ال إله إالَّ اهلل‪.‬‬
‫فالتوحيد‪ :‬هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون اهلل‪ ،‬وكما قال‬
‫ين َم َعه إِ ْذ قَالوا لَِق ْوِم ِه ْم إِنَّا‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬قَ ْد َكانَت لَكم أسوة حسنة ِيف إِبـر ِاه َّ ِ‬
‫يم َوالذ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ْ ْ ْ َ َ ََ‬
‫بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ‬
‫ون اللَّ ِه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا بَـْيـنَـنَا َوبَـْيـنَكم الْ َع َد َاوة‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤِمنوا بِاللَّ ِه َو ْح َده﴾ [املمتحنة‪ ،]4 :‬وكل من عبد غري اهلل‬ ‫َوالْبَـ ْغ َ‬
‫فقد جاوز به حدَّه وأعطاه من العبادة ما ال يستحقه‪.‬‬
‫قال اإلمام مالك رمحه اهلل‪« :‬الطاغوت ما عبد من دون اهلل»‪.‬‬
‫وكذلك من دعا إىل حتكيم غري اهلل ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول ‪‬‬
‫ورغب عنه‪ ،‬وجعل هلل شري ًكا يف الطاعة وخالف ما جاء به رسول اهلل ‪ ‬فيما‬
‫َنزَل الليه َوالَ تَـتَّبِ ْع أ َْه َواءه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫احكم بَـْيـنَـهم مبَآ أ َ‬ ‫أمره اهلل تعاىل به يف قوله‪َ ﴿ :‬وأَن ْ‬
‫ك﴾ [املائدة‪.]41 :‬‬ ‫َنزَل الليه إِلَْي َ‬
‫ض َما أ َ‬‫وك َعن بَـ ْع ِ‬ ‫اح َذ ْره ْم أَن يَـ ْفتِن َ‬
‫َو ْ‬
‫يما َش َجَر بَـْيـنَـه ْم مثَّ الَ‬ ‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬فَالَ وربِّك الَ يـؤِمنو َن ح َّىت حي ِّكم َ ِ‬
‫وك ف َ‬ ‫ََ َ‬ ‫ََ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما﴾ [النساء‪.]56 :‬‬ ‫ت َوي َسلِّمواْ تَ ْسل ً‬ ‫َِجيدواْ ِيف أَنفس ِه ْم َحَر ًجا ِّممَّا قَ َ‬
‫ضْي َ‬
‫فمن خالف ما أمر اهلل به ورسوله ‪ ‬بأن حكم بني الناس بغري ما أنزل‬

‫‪-935-‬‬
‫اتباعا ملا يهواه ويريده فقد خلع ربقة اإلسالم واإلميان‬ ‫اهلل‪ ،‬أو طلب ذلك ً‬
‫من عنقه‪ ،‬وإن زعم أنه مؤمن‪.‬‬
‫فإن اهلل تعاىل أنكر على من أراد ذلك‪ ،‬وأكذهبم يف زعمهم اإلميان ملا يف‬
‫ضمن قوله‪﴿ :‬يَـ ْزعمو َن﴾ من نفي إمياهنم‪ ،‬فإن يزعمون إمنا يقال غالبًا‪ :‬ملن ادعى‬
‫دعوى هو فيها كاذب ملخالفته ملوجبها وعمله مبا ينافيها‪ ،‬حيقق هذا قوله‪:‬‬
‫﴿ َوقَ ْد أ ِمرواْ أَن يَكْفرواْ بِِه﴾‪ ،‬ألن الكفر بالطاغوت‪ :‬ركن التوحيد‪ .‬كما يف آية‬
‫موحدا‪ ،‬والتوحيد هو‪ :‬أساس اإلميان‬ ‫البقرة‪ ،‬فإذا ل حيصل هذا الركن ل يكن ً‬
‫الذي تصلح به مجيع األعمال وتفسد بعدمه‪.‬‬
‫وت َويـ ْؤِمن بِاللي ِه فَـ َق ِد‬
‫كما أن ذلك بني يف قوله تعاىل‪﴿ :‬فَمن يكْفر بِالطَّاغ ِ‬
‫َْ َ ْ‬ ‫ي‬
‫ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى﴾ [البقرة‪ ،]265 :‬وذلك أن التحاكم إىل الطاغوت‪:‬‬ ‫استَ ْم َس َ‬
‫ْ‬
‫إميان به‪.‬‬
‫يبني‬
‫يدا﴾ [النساء‪ِّ ،]55 :‬‬ ‫ضالَالً بَعِ ً‬ ‫ِ‬
‫وقوله‪َ ﴿ :‬وي ِريد الشَّْيطَان أَن يضلَّه ْم َ‬
‫تعاىل يف هذه اآلية أن التحاكم إىل الطاغوت مما يأمر به الشيطان ويزيِّنه ملن‬
‫ويبني أن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله‪ ،‬وأكده باملصدر‪ ،‬ووصفه‬ ‫أطاعه‪ِّ ،‬‬
‫فدل على أن ذلك من أعظم الضالل وأبعده عن اهلدى‪.‬‬ ‫بالعبد‪َّ ،‬‬
‫ففي هذه اآلية أربعة أمور‪:‬‬
‫األول‪ :‬أنه من إرادة الشيطان‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه ضالل‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تأكيد باملصدر‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬وصفه بالبعد عن سبيل احلق واهلدى‪.‬‬
‫فسبحان اهلل ما أعظم هذا القرآن وما أبلغه‪ ،‬وما أدله على أنه كالم رب‬
‫العاملني‪ ،‬أوحاه إىل رسوله الكرمي‪ ،‬وبلَّغه عبده الصادق األمني‪ .‬صلوات اهلل‬
‫(‪)1‬‬
‫وسالمه عليه» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬فتح اجمليد»‪( :‬ص‪.)319 – 341‬‬

‫‪-939-‬‬
‫الفصل السادس‬
‫الحكم هلل وحده وحكم من بدل شرائع اإلسالم‬
‫أو حكم بغير ما أنزل اهلل‬
‫وفيه مخسة مباحث‪:‬‬
‫املبحث األول‪ :‬الطاعة يف التحليل والتحرمي من أخ خصائ العبادة‪،‬‬
‫ومن مث كان‬
‫يصل له ويتقرب إليه‪.‬‬
‫كل من قبلها من أي عبد فقد اختذه ربًا وإن ل ِّ‬
‫املبحث الثاي‪ :‬أمر اهلل املؤمنني برد كل ما تنازعوا فيه من أصول دينهم‬
‫دل ذلك على كفره‬ ‫وفروعه إىل اهلل ورسوله‪ ،‬ومن ل يفعل ي‬
‫برب العاملني ومروقه من دين املسلمني‪ .‬فحكم اهلل وحده‬
‫شقيق عبادة اهلل وحده‪ ،‬ومها مضمونا الشهادتني‪ ،‬وعلى القيام‬
‫هبذا املضمون فعال وتركا‪ ،‬جِّردت سيوف املوحدين للجهاد‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬من أعظم الفساد يف األرض‪ :‬التحاكم إىل غري اهلل ورسوله‪،‬‬
‫قاطعا‬
‫ومن مث كان إباء التحاكم إىل الكتاب والسنة‪ ،‬دليالً ً‬
‫على الكفر والنفاق والزندقة‪.‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬من خرج عن حكم اهلل‪ ،‬وعدل إىل ما سواه من األحكام‬
‫اجلاهلية‪ ،‬وجعل ذلك شريعة مقدمة أو مزامحة لشريعة اهلل‪،‬‬
‫فهو كافر جيب قتاله حىت يعود إىل حكم اهلل ورسوله فال‬
‫حيكم يف قليل وال كثري سواه وأي دولة تنتهج هذا النهج‪،‬‬
‫تصبح دولة جاهلية كافرة ظاملة‪ ،‬جيب بغضها ومعاداهتا‪ ،‬وحترم‬
‫مودهتا ومواالهتا‪.‬‬

‫‪-932-‬‬
‫املبحث اْلامس‪ :‬أميا طائفة امتنعت عن شريعة من شرائع اإلسالم الظاهرة‬
‫وردة عن اإلسالم‪ ،‬وإن‬‫املتواترة‪ ،‬فإهنا تقاتل عليها قتال كفر َّ‬
‫كانت مقرة هبا‪ ،‬وناطقة بالشهادتني‪ ،‬وملتزمة لغريها من‬
‫الشرائع‪.‬‬
‫وهبذا نعلم‪ :‬أن جمرد العتصام باإلسالم مع عدم التزام شرائعه‪،‬‬
‫ليس مبسقط للقتال‪ ،‬بل القتال واجب حىت يكون الدين كله‬
‫هلل‪.‬‬

‫‪-933-‬‬
‫المبحث األول‬
‫الطاعة في التحليل والتحريم‬
‫من أخص خصائص العبادة‪ ،‬ومن ثم كان كل من قبلها من أي عبد‬
‫فقد اتخذه ربا‪ ،‬وإن لم يصل له ويتقرب إليه‬
‫قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل في شرحه على كتاب التوحيد‪:‬‬
‫حرمه‬ ‫أحل اهلل‪ ،‬أو حتليل ما َّ‬ ‫«(باب) من أطا العلماء واألمراء يف حترمي ما َّ‬
‫اهلل فقد اختذهم أربابًا من دون اهلل»‪...‬‬
‫واملقصود هنا‪ :‬الطاعة اْلاصة يف حترمي احلالل أو حتليل احلرام‪ ،‬فمن أطا‬
‫خملوقًا يف ذلك غري الرسول ‪ - ‬فإنه ال ينطق عن اهلوى ‪ -‬فهو مشرك كما‬
‫َحبَ َاره ْم َورْهبَانَـه ْم﴾ [التوبة‪ ،]39 :‬أي‬ ‫بينه اهلل تعاىل يف قوله‪َّ ﴿ :‬اختَذواْ أ ْ‬
‫يح ابْ َن َم ْرَميَ َوَما أ ِمرواْ إِالَّ لِيَـ ْعبدواْ إِلَ ًـها‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫علماءهم ﴿ أ َْربَابًا ِّمن دون الليه َوالْ َمس َ‬
‫وفسرها النيب ‪‬‬ ‫اح ًدا الَّ إِلَـهَ إِالَّ ه َو سْب َحانَه َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [التوبة‪َّ ،]39 :‬‬ ‫وِ‬
‫(‪)1‬‬
‫َ‬
‫بطاعتهم يف حترمي احلالل‪ ،‬وحتليل احلرام كما سيأيت يف حديث عدي» ‪.‬‬
‫وقال الشيوخ عبد العزيز بن باز‪ ،‬وعبد الرزاق عفيفي‪ ،‬وعبد اهلل بن غديان‪،‬‬
‫مجيعا‪:‬‬
‫وعبد اهلل بن قعود‪ ،‬رمحهم اهلل ً‬
‫مشرعا له‬ ‫ندا يف التشريع‪ ،‬بأن يتخذ ً‬ ‫ومن أنوا الشرك األكرب‪ :‬من جيعل هلل ً‬
‫سوى اهلل‪ ،‬أو شري ًكا هلل يف التشريع‪ ،‬يرتضي حكمه‪ ،‬ويدين به يف التحليل‬
‫وتقربًا وقضاءً وفصالً يف اْلصومات‪ ،‬أو يستحله وإن ل يره‬ ‫والتحرمي‪ ،‬عبادة ُّ‬
‫دينًا‪.‬‬
‫ِ ِ ِ‬
‫يح‬ ‫ويف هذا يقول تعاىل‪َّ ﴿ :‬اختَذواْ أ ْ‬
‫َحَب َاره ْم َورْهَبانَـه ْم أَْربَابًا ِّمن دون الليه َوالْ َمس َ‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)351‬‬

‫‪-934-‬‬
‫ابن مرَمي وما أ ِمرواْ إِالَّ لِيـعبدواْ إِلَـها و ِ‬
‫اح ًدا الَّ إِلَـهَ إِالَّ ه َو سْب َحانَه َع َّما‬ ‫ً َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ َ َْ َ ََ‬
‫ي ْش ِركو َن﴾ [التوبة‪ ،]39 :‬وأمثال هذا من اآليات واألحاديث اليت جاءت يف‪:‬‬
‫الرضا حبكم سوى حكم اهلل‪ ،‬أو اإلعراض عن التحاكم إىل حكم اهلل‪ ،‬والعدول‪.‬‬
‫تد به فاعله‪ ،‬أو معتقده عن ملة اإلسالم‪ ،‬فال‬ ‫وهذا النو من الشرك‪ ،‬ير ُّ‬
‫يصلَّى عليه إذا مات‪ ،‬وال يدفن يف مقابر املسلمني‪ ،‬وال يورث عنه ماله‪ ،‬بل‬
‫يكون لبيت املسلمني‪ ،‬وال تؤكل ذبيحته‪ ،‬وحيكم بوجوب قتله‪ ،‬ويتوىل ذلك ويل‬
‫أمر املسلمني‪ ،‬إالَّ أنه يستتاب قبل قتله‪ ،‬فإن تاب قبلت توبته‪ ،‬ول يقتل‪ ،‬وعومل‬
‫(‪)1‬‬
‫معاملة املسلمني ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وعرض على هؤالء الشيوخ الكرام السؤال التايل‪:‬‬
‫س‪ :‬لعلكم على علم بأن حكومتنا علمانية‪ ،‬ال هتتم بالدين‪ ،‬وهي حتكم‬
‫البالد على دستور اشرتك يف ترتيبه‪ :‬املسلمون واملسيحيون‪.‬‬
‫هناك يرد السؤال‪ :‬هل جيوز لنا أن نسمي احلكومة‪ :‬حبكومة إسالمية‪ ،‬أو‬
‫نقول إهنا‪ :‬كافرة؟‬
‫احلمد هلل وحده والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه‪ ...‬وبعد‪:‬‬
‫ج‪ :‬إذا كانت حتكم بغري ما أنزل اهلل‪ ،‬فاحلكومة غري إسالمية‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬فتاوى اللجنة الدائمة»‪ ،)694 ،695/9( :‬بتصرف يسري‪.‬‬


‫(‪« )2‬فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء»‪.)464 ،465/9( :‬‬

‫‪-936-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫أمر اهلل المؤمنين برد كل ما تناوعوا فيه من أصول دينهم‬
‫وفروعه إلى اهلل ورسوله‪ ،‬ومن لم يفعل دل ذلك على كفره‬
‫برب العالمين ومروقه من دين المرسلين‪ .‬فحكم اهلل وحده‬
‫شقيق عبادة اهلل وحده‪ ،‬وهما مضمونا الشهادتين‪ ،‬وعلى القيام‬
‫بهذا المضمون فعال وتركا‪ ،‬جردت سيوف الموحدين للجهاد‬

‫قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي معل اقا على قول اهلل تعالى‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس أَن‬‫ني الن ِ‬ ‫ؤدواْ األ ََمانَات إِ َىل أ َْهل َها َوإِ َذا َح َك ْمتم بَـ ْ َ‬
‫﴿إِ َّن الليهَ يَأْمرك ْم أَن ت ُّ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َْحتكمواْ بالْ َع ْدل إ َّن الليهَ نع َّما يَعظكم به إ َّن الليهَ َكا َن َمس ًيعا بَص ًريا * يَا أَيُّـ َها الذ َ‬
‫ين‬
‫ول َوأ ْوِيل األ َْم ِر ِمنك ْم فَإِن تَـنَ َاز ْعت ْم ِيف َش ْيء فَـرُّدوه‬‫الرس َ‬ ‫َطيعواْ الليه وأ ِ‬
‫َطيعواْ َّ‬ ‫ََ‬
‫آمنواْ أ ِ‬
‫َ‬
‫َح َسن تَأْ ِويالً﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إِ َىل الليه َو َّ‬
‫ك َخْيـر َوأ ْ‬‫الرسول إن كنت ْم تـ ْؤمنو َن بالليه َوالْيَـ ْوم اآلخر َذل َ‬
‫[النساء‪.]61 ،61 :‬‬
‫برد كل ما تناز الناس فيه‪ ،‬من أصول الدين وفروعه إىل اهلل‬ ‫مث أمر ِّ‬
‫والرسول‪ ،‬أي‪ :‬إىل كتاب اهلل وسنَّة رسوله‪ ،‬فإن فيهما الفصل يف مجيع املسائل‬
‫اْلالفية‪ ،‬إما بصرحيهما‪ ،‬أو عمومها‪ ،‬أو إمياء‪ ،‬أو تنبيه‪ ،‬أو مفهوم‪ ،‬أو عموم‬
‫معى يقاس عليه ما أشبهه‪.‬‬
‫ألن كتاب اهلل وسنة رسوله‪ ،‬عليهما بناء الدين‪ ،‬وال يستقيم اإلميان إالَّ‬
‫هبما‪ .‬فالرد إليهما‪ ،‬شرط يف اإلميان‪ ،‬فلهذا قال‪﴿ :‬إِن كنت ْم تـ ْؤِمنو َن بِاللي ِه َوالْيَـ ْوِم‬
‫فدل ذلك على أن من ل يرد إليهما مسائل النزا‬ ‫اآلخ ِر﴾ [النساء‪َّ .]61 :‬‬‫ِ‬
‫فليس مبؤمن حقيقة‪ ،‬بل مؤمن بالطاغوت‪ ،‬كما ذكر يف اآلية بعدها‪.‬‬
‫َح َسن تَأْ ِويالً﴾ [النساء‪ ،]61 :‬فإن‬
‫(ذلك) أي‪ :‬الرد إىل اهلل ورسوله ﴿ َخْيـر َوأ ْ‬

‫‪-935-‬‬
‫حكم اهلل ورسوله‪ ،‬أحسن األحكام وأعدهلا وأصلحها للناس‪ ،‬يف أمر دينهم‬
‫(‪)1‬‬
‫ودنياهم وعاقبتهم» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«واعتبار شيء من القوانني للحكم هبا ولو يف أقل قليل‪ ،‬ال شك أنه عدم‬
‫رضا حبكم اهلل ورسوله‪ ،‬ونسبة حكم اهلل ورسوله إىل النق وعدم القيام‬
‫بالكفاية يف حل النزا وإيصال احلقوق إىل أرباهبا‪ ،‬وحكم القوانني إىل الكمال‬
‫وكفاية الناس يف حل مشاكلهم‪ ،‬واعتقاد هذا كفر ناقل عن امللَّة‪ ،‬واألمر كبري‬
‫مهم وليس من األمور االجتهادية‪.‬‬
‫وحتكيم الشر وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة اهلل وحده دون ما‬
‫سواه‪ ،‬إذ مضمون الشهادتني أن يكون اهلل هو‪ :‬املعبود وحده ال شريك له‪ ،‬وأن‬
‫يكون رسوله ‪ ‬هو‪ :‬املتبع احملكم ما جاء به فقط‪ ،‬وال جِّردت سيوف اجلهاد إالَّ‬
‫ك الَ يـ ْؤِمنو َن‬ ‫يما عند النزا ‪﴿ ،‬فَالَ َوَربِّ َ‬ ‫من أجل ذلك والقيام به فعالً وتركا وحتك ً‬
‫ِ‬ ‫ح َّىت حي ِّكم َ ِ‬
‫ت‬ ‫يما َش َجَر بَـْيـنَـه ْم مثَّ الَ َِجيدواْ ِيف أَنفس ِه ْم َحَر ًجا ِّممَّا قَ َ‬
‫ضْي َ‬ ‫وك ف َ‬ ‫ََ َ‬
‫َطيعواْ‬ ‫َطيعواْ الليه وأ ِ‬ ‫ويسلِّمواْ تَسلِيما﴾ [النساء‪﴿ ،]56 :‬يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنواْ أ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ ً‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬
‫الرسول إن كنت ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ول َوأ ْوِيل األ َْمر منك ْم فَإن تَـنَ َاز ْعت ْم يف َش ْيء فَـرُّدوه إ َىل الليه َو َّ‬
‫الرس َ‬
‫َّ‬
‫(‪)2‬‬ ‫تـؤِمنو َن بِاللي ِه والْيـوِم ِ ِ‬
‫َح َسن تَأْ ِويالً﴾ [النساء‪. »]61 :‬‬ ‫ك َخْيـر َوأ ْ‬ ‫اآلخ ِر َذل َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ْ‬
‫أيضا رحمه اهلل تعالى‪:‬‬ ‫وقال ا‬
‫«القوانني كفر ناقل عن امللَّة اعتقاد أهنا حاكمة وسائغة‪ .‬وبعضهم يراها‬
‫أيضا نقضوها‪،‬‬ ‫حممدا رسول اهلل‪ ،‬وال إله إالَّ اهلل ً‬ ‫أعظم‪ ،‬فهؤالء نقضوا شهادة أن ً‬
‫فإن من شهادة أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ال مطا غري اهلل‪ ،‬كما أهنم نقضوها بعبادة‬
‫غري اهلل‪.‬‬

‫(‪« )1‬تيسري الكرمي الرمحن»‪.)352 ،359/9( :‬‬


‫(‪« )2‬فتاوى ورسائل الشيخ حممد بن إبراهيم»‪.)269/92( :‬‬

‫‪-934-‬‬
‫وأما الذي قيل فيه‪ :‬كفر دون كفر‪ ،‬إذا حاكم إىل غري اهلل‪ ،‬مع اعتقاد أنه‬
‫عاص وأن حكم اهلل هو احلق‪ ،‬فهذا الذي يصدر منه املرة وحنوها‪.‬‬
‫أما الذي جعل قوانني برتتيب وختضيع فهو كفر وإن قالوا‪ :‬أخطأنا وحكم‬
‫الشر أعدل‪.‬‬
‫املقرر واملثبت واملرجع‪ ،‬جعلوه هو املرجع‪ .‬فهذا كفر ناقل عن امللَّة‬ ‫ففرق بني ِّ‬
‫(‪)1‬‬
‫(تقرير)» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ صاحل الفوزان حيفظه اهلل تعاىل‪:‬‬
‫«وكما ال جتوز طاعة العلماء يف حتليل احلرام وحترمي احلالل‪ ،‬فكذلك ال جتوز‬
‫طاعة األمراء والرؤساء يف احلكم بني الناس بغري الشرعة اإلسالمية‪ ،‬ألنه جيب‬
‫التحاكم إىل كتاب اهلل وسنة رسوله يف مجيع املنازعات واْلصومات وشؤون‬
‫احلياة‪ ،‬ألن هذا هو مقتضى العبودية والتوحيد‪ ،‬ألن التشريع حق هلل وحده‪ ،‬كما‬
‫اختَـلَ ْفت ْم فِ ِيه ِمن َش ْيء فَحكْمه إِ َىل اللَّ ِه﴾ [الشورى‪،]95 :‬‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما ْ‬
‫أي‪ :‬هو احلَ َكم وله احلكْم‪ ،‬وقال تعاىل‪﴿ :‬فَِإن تَـنَ َاز ْعت ْم ِيف َش ْيء فَـرُّدوه إِ َىل اللي ِه‬
‫ول إِن كنتم تـؤِمنو َن بِاللي ِه والْيـوِم ِ ِ‬ ‫الرس ِ‬
‫َح َسن تَأْ ِويالً﴾‬ ‫ك َخْيـر َوأ ْ‬ ‫اآلخ ِر َذل َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َو َّ‬
‫[النساء‪.]61 :‬‬
‫فالتحاكم إىل شر اهلل ليس لطلب العدل فقط‪ ،‬وإمنا هو يف الدرجة األوىل‬
‫تعبُّد هلل‪ ،‬وحق هلل وحده‪ ،‬وعقيدة‪ ،‬فمن احتكم إىل غري شر اهلل من سائر‬
‫األنظمة والقوانني البشرية‪ ،‬فقد اختذ واضعي تلك القوانني واحلاكمني هبا شركاء‬
‫هلل يف تشريعه‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬أ َْم َهل ْم شَرَكاء َشَرعوا َهلم ِّم َن الدِّي ِن َما َلْ يَأْذَن بِِه‬
‫اللَّه﴾ [الشورى‪ ،]29 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ ْن أَطَ ْعتموه ْم إِنَّك ْم لَم ْش ِركو َن﴾‬
‫(‪)2‬‬
‫[األنعام‪. »]929 :‬‬

‫(‪« )1‬جممو رسائل وفتاوى الشيخ حممد بن إبراهيم»‪.)215/92( :‬‬


‫(‪« )2‬اإلرشاد إىل تصحيح االعتقاد»‪( :‬ص‪.)11 ،14‬‬

‫‪-931-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫من أعظم الفساد في األرض‪ :‬التحاكم إلى غير اهلل ورسوله‪،‬‬
‫قاطعا‬
‫ومن ثم كان إباء التحاكم إلى الكتاب والسنة‪ ،‬دليالا ا‬
‫على الكفر والنفاق والزندقة‬
‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه على كتاب التوحيد‪:‬‬
‫ني‬ ‫ِِ‬ ‫«قوله‪﴿ :‬وإِ َذا قِيل َهلم تَـعالَواْ إِ َىل ما أَنزَل الليه وإِ َىل َّ ِ‬
‫ت الْمنَافق َ‬
‫الرسول َرأَيْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ودا﴾ [النساء‪َّ :]59 :‬بني تعاىل أن هذه صفة املنافقني‪ ،‬وأن‬ ‫نك صد ً‬ ‫يَصدُّو َن َع َ‬
‫من فعل ذلك أو طلبه‪ ،‬وإن زعم أنه مؤمن فإنه يف غاية البعد من اإلميان‪.‬‬
‫قال العالمة ابن القيم رمحه اهلل تعاىل‪ :‬هذا دليل على أن من دعي إىل‬
‫(‪)1‬‬
‫حتكيم الكتاب والسنَّة‪ ،‬فأىب أنَّه من املنافقني» ‪.‬‬
‫وأرسل الشيوخ الفضالء‪ :‬حممد بن إبراهيم‪ ،‬وعبد العزيز الشثري‪ ،‬وعبد‬
‫اللطيف بن إبراهيم‪ ،‬وعمر بن حسن‪ ،‬وعبد العزيز بن باز‪ ،‬وعبد اهلل بن محيد‪،‬‬
‫وعبد اهلل بن عقيل‪ ،‬وعبد العزيز بن رشيد‪ ،‬وعبد اللطيف بن حممد‪ ،‬وحممد بن‬
‫عودة‪ ،‬وحممد بن مهيز ‪ ،‬رسالة إىل من يراها من املسلمني‪ ،‬داعني اهلل أن يسلك‬
‫مجيعا سبيل عباده املؤمنني‪ ،‬وأن يعيذهم من طريق املغضوب عليهم‬ ‫هبم ً‬
‫مجيعا بعد تقدمي نصيحة غالية للمسلمني‪:‬‬ ‫والضالني‪ ،‬آمني‪ ...‬مث قالوا رمحهم اهلل ً‬
‫«وإن من أقبح السيئات وأعظم املنكرات‪ :‬التحاكم إىل غري شريعة اهلل من‬
‫القوانني الوضعية‪ ،‬والنظم البشرية‪ ،‬وعادات األسالف واألجداد اليت قد وقع فيها‬
‫الكثري من الناس اليوم‪ ،‬وارتضوها بدالً من شـريعة اهلل اليت بعث هبا‬

‫(‪« )1‬فتح اجمليد»‪.)319( :‬‬

‫‪-931-‬‬
‫حممدا ‪.‬‬ ‫رسوله ً‬
‫وال ريب أن ذلك من أعظم النفاق‪ ،‬ومن أكرب شعائر الكفر والظلم‬
‫والفسوق وأحكام اجلاهلية اليت أبطلها القرآن‪ ،‬وحذر عنها الرسول ‪ ،‬قال اهلل‬
‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ك‬ ‫ك َوَما أن ِزَل ِمن قَـْبل َ‬ ‫ين يَـ ْزعمو َن أَنـَّه ْم َآمنواْ ِمبَا أن ِزَل إِلَْي َ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬أَ َلْ تَـَر إ َىل الذ َ‬
‫وت َوقَ ْد أ ِمرواْ أَن يَكْفرواْ بِِه َوي ِريد الشَّْيطَان أَن‬ ‫ي ِريدو َن أَن يـتحا َكمواْ إِ َىل الطَّاغ ِ‬
‫ََ َ‬
‫ت‬ ‫يدا * وإِ َذا قِيل َهلم تَـعالَواْ إِ َىل ما أَنزَل الليه وإِ َىل َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫يضلَّه ْم َ‬
‫ِ‬
‫الرسول َرأَيْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ َ ْ‬ ‫ضالَالً بَع ً َ‬
‫ودا﴾ [النساء‪.]59 ،55 :‬‬ ‫ِِ‬
‫نك صد ً‬ ‫ني يَصدُّو َن َع َ‬ ‫الْمنَافق َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اح َذ ْره ْم أَن‬‫َنزَل الليه َوالَ تَـتَّبِ ْع أ َْه َواءه ْم َو ْ‬‫احكم بَـْيـَنـهم مبَآ أ َ‬ ‫وجل‪َ﴿ :‬وأَن ْ‬ ‫عز ي‬ ‫وقال َّ‬
‫ض‬ ‫صيَبـهم بَِبـ ْع ِ‬‫اعلَم أََّمنَا ي ِريد الليه أَن ي ِ‬ ‫َنزَل الليه إِلَْي َ ِ َّ‬
‫ك فَإن تَـ َول ْواْ فَ ْ ْ‬ ‫ض َما أ َ‬ ‫وك َعن بَـ ْع ِ‬ ‫يَـ ْفتِن َ‬
‫َح َسن ِم َن اللي ِه‬ ‫اسقو َن * أَفَحكْم ْ ِ ِ ِ‬ ‫َّاس لََف ِ‬
‫ذنوهبِِ ْم َوإِ َّن َكثِ ًريا ِّم َن الن ِ‬
‫اجلَاهليَّة يَـْبـغو َن َوَم ْن أ ْ‬ ‫َ‬
‫ْما لَِّق ْوم يوقِنو َن﴾ [املائدة‪.]65 ،41 :‬‬ ‫حك ً‬
‫ك هم الْ َكافِرو َن﴾ [املائدة‪:‬‬ ‫َنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ‬ ‫ِ‬
‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَمن َّلْ َْحيكم مبَا أ َ‬
‫ك هم الظَّالِمو َن﴾ [املائدة‪،]46 :‬‬ ‫أنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ‬ ‫ِ‬
‫‪َ ﴿ ،]44‬وَمن َّلْ َْحيكم مبَا َ‬
‫ك هم الْ َف ِ‬ ‫َنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ‬ ‫ِ‬
‫اسقو َن﴾ [املائدة‪.]44 :‬‬ ‫﴿ َوَمن َّلْ َْحيكم مبَا أ َ‬
‫وهذا حتذير شديد من اهلل سبحانه جلميع العباد من اإلعراض عن كتابه‬
‫وجل على من‬ ‫عز ي‬ ‫وسنَّة رسوله ‪ ،‬والتحاكم إىل غريمها‪ ،‬وحكم صريح من الرب َّ‬
‫حكم بغري شريعته بأنه كافر وظال وفاسق ومتخلِّق بأخالق املنافقني وأهل‬
‫(‪)1‬‬
‫اجلاهلية» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ صالح الفوزان يحفظه اهلل تعالى‪:‬‬
‫عمن حتاكم إىل غري شرعه‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬أَ َلْ تَـَر إِ َىل‬ ‫وقد نفى اهلل اإلميان َّ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ك ي ِريدو َن أَن يَـتَ َحا َكمواْ‬ ‫ك َوَما أن ِزَل ِمن قَـْبل َ‬ ‫ين يَـ ْزعمو َن أَنـَّه ْم َآمنواْ ِمبَا أن ِزَل إِلَْي َ‬ ‫الذ َ‬
‫إِ َىل‬

‫(‪« )1‬فتاوى ورسائل الشيخ حممد بن إبراهيم»‪.)255 - 264/92( :‬‬

‫‪-945-‬‬
‫وت َوقَ ْد أ ِمرواْ أَن يَكْفرواْ بِِه﴾ [النساء‪.]55 :‬‬ ‫الطَّاغ ِ‬
‫يما َش َجَر بَـْيـنَـه ْم مثَّ‬ ‫إىل قوله تعاىل‪﴿ :‬فَالَ وربِّك الَ يـؤِمنو َن ح َّىت حي ِّكم َ ِ‬
‫وك ف َ‬ ‫ََ َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما﴾ [النساء‪.]56 :‬‬ ‫ت َوي َسلِّمواْ تَ ْسل ً‬ ‫الَ َِجيدواْ ِيف أَنفس ِه ْم َحَر ًجا ِّممَّا قَ َ‬
‫ضْي َ‬
‫(تحكيم القوانين‪ :‬تحكيم للطاغوت‪ ،‬وإيمان به)‬
‫فمن دعا إىل احلكيم القوانني البشرية‪ ،‬فقد جعل هلل شري ًكا يف الطاعة‬
‫والتشريع‪ ،‬ومن حكم بغري ما أنزل اهلل‪ ،‬يرى أنه أحسن أو مساو ملا أنزل اهلل‬
‫وشرعه‪ ،‬أو أنه جيوز احلكم هبذا‪ ،‬فهو كافر باهلل‪ ،‬وإن زعم أنه مؤمن‪ ،‬ألن اهلل‬
‫كذهبم يف زعمهم اإلميان‪ ،‬ألن‬ ‫أنكر على من يريد التحاكم إىل غري شرعه؛ و َّ‬
‫متضمن لنفي إمياهنم‪ ،‬ألن هذه الكلمة تقال غالبًا ملن يدِّعي‬ ‫قوله‪ ﴿ :‬يَـ ْزعمو َن﴾ ِّ‬
‫دعوى هو فيها كاذب‪ ،‬وألن حتكيم القوانني حتكيم للطاغوت‪ ،‬واهلل قد أمر‬
‫بالكفر بالطاغوت‪ ،‬وجعل الكفر بالطاغوت‪ ،‬ركن التوحيد‪ ،‬كما قال تعاىل‪:‬‬
‫ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى﴾ [البقرة‪:‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫استَ ْم َس َ‬ ‫﴿فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ‬
‫‪.]265‬‬
‫موحدا ألنه اختذ هلل شري ًكا يف التشريع‬ ‫ً‬ ‫حكم القوانني‪ ،‬ل يكن‬ ‫فمن َّ‬
‫والطاعة‪ ،‬ول يكفر بالطاغوت الذي أمر أن يكفر به‪ ،‬وأطا الشيطان‪ ،‬كما قال‬
‫يدا﴾ [النساء‪.]55 :‬‬ ‫ضالَالً بَعِ ً‬ ‫ِ‬
‫تعاىل‪َ ﴿ :‬وي ِريد الشَّْيطَان أَن يضلَّه ْم َ‬
‫وقد أخرب اهلل عن املنافقني أهنم حينما يدعون إىل التحاكم إىل شر اهلل‬
‫َنزَل الليه َوإِ َىل‬ ‫ِ ِ‬
‫يل َهل ْم تَـ َعالَْواْ إِ َىل َما أ َ‬
‫يأبون ويعرضون‪ ،‬فقال سبحانه‪َ ﴿ :‬وإ َذا ق َ‬
‫ودا﴾ [النساء‪.]59 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫نك صد ً‬ ‫ني يَصدُّو َن َع َ‬ ‫ت الْمنَافق َ‬‫الرسول َرأَيْ َ‬
‫صالحا‪ ،‬النتكاس فطرهم‪ ،‬وفساد قلوهبم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كما أخرب أهنم يردون الفساد‬
‫صلِحو َن * أَال‬ ‫ض قَالواْ إَِّمنَا َْحنن م ْ‬ ‫فقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ َذا قِيل َهل ْم الَ تـ ْف ِسدواْ ِيف األ َْر ِ‬
‫َ‬
‫إِنـَّه ْم هم الْم ْف ِسدو َن َولَـكن الَّ يَ ْشعرو َن﴾ [البقرة‪ ،]92 ،99 :‬فالتحاكم إىل‬ ‫ِ‬
‫(‪)1‬‬
‫غري اهلل من أعمال املنافقني‪ ،‬وهو من أعظم الفساد يف األرض» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬اإلرشاد إىل تصحيح االعتقاد»‪( :‬ص‪.)11 ،11‬‬

‫‪-949-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫من خرج عن حكم اهلل‪ ،‬وعدل إلى ما سواه من األحكام الجاهلية‬
‫وجعل ذلك شريعة مقدمة‪ ،‬أو مزاحمة لشريعة اهلل‪ ،‬فهو كافر‬
‫يجب قتاله حتى يعود إلى حكم اهلل ورسوله‪ ،‬فال يحكم في قليل‬
‫ول كثير سواه‪ ،‬وأي دولة تنتهج هذا النهج‪ ،‬تصبح دولة جاهلية‬
‫كافرة ظالمة فاسقة‪ ،‬يجب بغضها ومعاداتها‪ ،‬وتحرم مودتها‬
‫وموالتها‬

‫قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬


‫اهلِيَّ ِة يَـْبـغو َن﴾ [املائدة‪.]65 :‬‬
‫اجل ِ‬
‫ْم َْ‬
‫«وقوله‪﴿ :‬أَفَحك َ‬
‫قال ابن كثري‪ :‬ينكر تعاىل على من خرج عن حكم اهلل تعاىل‪ ،‬املشتمل على‬
‫كل خري وعدل‪ ،‬الناهي عن كل شر‪ ،‬وع يدل إىل ما سواه من اآلراء واألهواء‬
‫واالصطالحات اليت وضعها الرجل بال مستند من شريعة اهلل‪ ،‬كما كان أهل‬
‫اجلاهلية حيكمون به من الضالالت واجلهاالت‪ ،‬كما حيكم به التتار من‬
‫جمموعا من أحكام‬
‫ً‬ ‫السياسات املأخوذة عن جنكزخان‪ ،‬الذي وضع هلم كتابًا‬
‫اقتبسها من شرائع شىت من امللَّة اإلسالمية وغريها‪ ،‬وفيها كثري من األحكام‬
‫شرعا يقدِّموه على احلكم بالكتاب والسنة‪،‬‬‫أخذها عن جمرد نظره‪ ،‬فصار يف بنيه ً‬
‫ومن فعل ذلك‪ ،‬فهو كافر جيب قتاله حىت يرجع إىل حكم اهلل ورسوله‪ ،‬فال‬
‫(‪)1‬‬
‫حيكم سواه يف قليل وال كثري» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ صالح الفوزان بعد إيراده النقل السابق عن اإلمام ابن كثير‬
‫رحمه اهلل تعالى‪:‬‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)314‬‬

‫‪-942-‬‬
‫«ومثل القانون الذي ذكره عن التتار وحكم بكفر من جعله بديالً من‬

‫‪-943-‬‬
‫الشريعة اإلسالمية‪ :‬القوانني الوضعية اليت جعلت اليوم يف كثري من الدول‬
‫يسمونه‬ ‫هي مصادر األحكام وألغيت من أجلها الشريعة اإلسالمية‪ ،‬إالَّ فيما ُّ‬
‫باألحوال الشخصية‪.‬‬
‫والدليل على كفر من فعل ذلك آيات كثرية‪ :‬قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَمن َّلْ َْحيكم‬
‫ِ‬
‫ك الَ‬ ‫ك هم الْ َكافرو َن﴾ [املائدة‪ ،]44 :‬وقوله‪﴿ :‬فَالَ َوَربِّ َ‬ ‫َنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ‬
‫مبَا أ َ‬
‫ِ‬
‫يما َش َجَر بَـْيـنَـه ْم﴾ [النساء‪ ،]56 :‬وقوله تعاىل‪:‬‬ ‫يـؤِمنو َن ح َّىت حي ِّكم َ ِ‬
‫وك ف َ‬ ‫ََ َ‬ ‫ْ‬
‫ك ِمنك ْم إِالَّ‬ ‫ِ‬ ‫ض الْ ِكتَ ِ‬ ‫﴿أَفَـتـ ْؤِمنو َن بِبَـ ْع ِ‬
‫اب َوتَكْفرو َن بِبَـ ْعض فَ َما َجَزاء َمن يَـ ْف َعل َذل َ‬
‫اب َوَما الليه بِغَافِل َع َّما‬ ‫َش ِّد الْع َذ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫احلَيَاةِ ُّ‬
‫الدنْـيَا َويَـ ْوَم الْقيَ َامة يـَرُّدو َن إِ َىل أ َ َ‬ ‫ِخ ْزي ِيف ْ‬
‫تَـ ْع َملو َن﴾ [البقرة‪.]16 :‬‬
‫وكما قلنا قريبًا‪ :‬إنه جيب حتكيم الشريعة عقيدة ودينًا يدان اهلل به‪ ،‬ال من‬
‫(‪)1‬‬
‫أجل طلب العدالة فقط» ‪.‬‬
‫أيضا الشيخ محمد بن إبراهيم في بيان مناطات وأنواع الكفر‬ ‫وقال ا‬
‫األكبر واألصغر‪ ،‬والعلل المؤثرة فيهما‪ ،‬من قضية التشريع والحكم‪:‬‬
‫«إن من الكفر األكرب املستبني‪ ،‬تنزيل القانون اللعني‪ ،‬منزلة ما نزول به الروح‬
‫األمني‪ ،‬على قلب حممد ‪ ‬ليكون من املنذرين‪ ،‬بلسان عريب مبني‪ ،‬يف احلكم‬
‫عز‬
‫به بني العاملني‪ ،‬والرد إليه عند تناز املتنازعني‪ ،‬مناقضة ومعاندة لقول اهلل َّ‬
‫ول إِن كنت ْم تـ ْؤِمنو َن بِاللي ِه‬ ‫الرس ِ‬ ‫وجل‪﴿ :‬فَِإن تَـنَ َاز ْعت ْم ِيف َش ْيء فَـرُّدوه إِ َىل اللي ِه َو َّ‬ ‫ي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َح َسن تَأْ ِويالً﴾ [النساء‪...]61 :‬‬ ‫ك َخْيـر َوأ ْ‬ ‫َوالْيَـ ْوم اآلخ ِر َذل َ‬
‫(الرد المطلق إلى اهلل ورسوله‪ :‬شرط في صحة اإليمان‪ ،‬وإل فالكفر‬
‫والنفاق)‬
‫وتأمل ما يف اآلية األوىل وهي قوله تعاىل‪﴿ :‬فَِإن تَـَن َازْعت ْم ِيف َش ْيء فَـرُّدوه إِ َىل الليِه‬
‫ول إِن كنتم تـؤِمنو َن بِالليِه والْيـوِم ِ ِ‬ ‫و َّالرس ِ‬
‫َح َسن تَأْ ِويالً﴾ [النساء‪:‬‬ ‫ك َخْيـر َوأ ْ‬ ‫اآلخ ِر َذل َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬
‫‪ ،]61‬كيف ذكر النكرة وهي قوله‪َ ﴿ :‬ش ْيء﴾ يف سياق الشرط وهو قوله‬

‫(‪« )1‬اإلرشاد إىل تصحيح االعتقاد»‪( :‬ص‪.)11‬‬

‫‪-944-‬‬
‫جنسا‬ ‫ِ‬
‫جل شأنه‪﴿ :‬فَإن تَـنَ َاز ْعت ْم﴾ املفيد العموم فيما يتصور التناز فيه ً‬
‫وقدرا‪.‬‬
‫ً‬
‫مث تأمل كيف جعل ذلك شرطًا يف‪ :‬حصول اإلميان باهلل واليوم اآلخر‬
‫ك‬ ‫ِ‬
‫اآلخ ِر﴾‪ ،‬مث قال جل شأنه‪َ ﴿ :‬ذل َ‬ ‫بقوله‪﴿ :‬إِن كنتم تـ ْؤِمنو َن بِاللي ِه والْيـوِم ِ‬
‫َ َْ‬ ‫ْ‬
‫أبدا‪ ،‬بل هو خري حمض‬ ‫َخْيـر﴾‪ ،‬فشيء يطلق اهلل عليه أنه خري ال يتطرق إليه شر ً‬
‫عاجالً وآجالً‪...‬‬
‫يما‬ ‫ِ‬
‫أيضا ما يف اآلية الثانية من العموم‪ ،‬وذلك يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ف َ‬ ‫وتأمل ً‬
‫َش َجَر بَـْيـنَـه ْم﴾ [النساء‪ ،]56 :‬فإن اسم املوصول مع صلته مع صيغ العموم‬
‫عند األصوليني وغريهم‪ ،‬وذلك العموم والشمول هو من ناحية األجناس‬
‫واألنوا ‪ ،‬كما أنه من ناحية القدر‪ ،‬فال فرق هنا بني نو ونو ‪ ،‬كما أنه ال فرق‬
‫بني القليل والكثري‪.‬‬
‫عمن أراد التحاكم على غري ما جاء به الرسول ‪ ‬من‬ ‫وقد نفى اهلل اإلميان َّ‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ك‬‫ين يَـ ْزعمو َن أَنـَّه ْم َآمنواْ ِمبَا أن ِزَل إِلَْي َ‬
‫املنافقني كما قال تعاىل‪﴿ :‬أَ َلْ تَـَر إ َىل الذ َ‬
‫وت َوقَ ْد أ ِمرواْ أَن يَكْفرواْ بِِه‬ ‫ك ي ِريدو َن أَن يـتحا َكمواْ إِ َىل الطَّاغ ِ‬ ‫ِ‬
‫ََ َ‬ ‫َوَما أن ِزَل ِمن قَـْبل َ‬
‫يدا﴾ [النساء‪.]55 :‬‬ ‫ضالَالً بَعِ ً‬ ‫ِ‬
‫َوي ِريد الشَّْيطَان أَن يضلَّه ْم َ‬
‫وجل‪﴿ :‬يـَْزعمو َن﴾ تكذيب هلم فيما َّادعوه من اإلميان‪ ،‬فإنه ال‬ ‫فإن قوله عَّز ي‬
‫جيتمع التحاكم إىل غري ما جاء به النيب ‪ ‬مع اإلميان يف قلب عبد أصالً بل‬
‫أحدمها ينايف اآلخر‪.‬‬
‫و (الطاغوت) مشتق من الطغيان وهو جماوزة احلد‪ ،‬فكل من حكم بغري ما‬
‫جاء به الرسول ‪ ‬أو حاكم إىل غري ما جاء به النيب ‪ ‬فقد حكم بالطاغوت‬
‫حاكما مبا جاء به النيب ‪‬‬ ‫وحاكم إليه‪ ،‬وذلك أنه من حد كل أحد أن يكون‪ً :‬‬
‫فقط ال خبالفه‪ ،‬كما أنه من حد كل أحد أن حياكم إىل ما جاء به النيب ‪،‬‬
‫فمن حكم خبالفه‪ ،‬أو حاكم إىل خالفه فقط طغى‬

‫‪-946-‬‬
‫حتكيما‪ ،‬فصار بذلك طاغوتًا لتجاوزه حده‪...‬‬ ‫ً‬ ‫حكما أو‬
‫وجاوز حده ً‬
‫(قسمة الحكم ثنائية‪ :‬إما حكم اهلل‪ ،‬وإما حكم الجاهلية)‬
‫ومقرًرا ابتغاءهم أحكام‬ ‫منكرا على هذا الضرب من الناس‪ِّ ،‬‬ ‫وقد قال تعاىل ً‬
‫اهلِيَّ ِة يَـْبـغو َن‬
‫اجل ِ‬
‫ْم َْ‬‫وموضحا أنه ال حكم أحسن من حكمه‪﴿ :‬أَفَحك َ‬ ‫ً‬ ‫اجلاهلية‪،‬‬
‫ْما لَِّق ْوم يوقِنو َن﴾ [املائدة‪ ،]65 :‬فتأمل هذه اآلية‬ ‫ِ ِ‬
‫َح َسن م َن الليه حك ً‬
‫َوَم ْن أ ْ‬
‫الكرمية‪ ،‬وكيف دلت على أن قسمة احلكم ثنائية‪ ،‬وأنه ليس بعد حكم اهلل تعاىل‬
‫إالَّ حكم اجلاهلية‪ ،‬املوضح أن القانويني يف زمرة أهل اجلاهلية شاءوا أم أبوا‪ ،‬بل‬
‫هم أسوأ منهم حاالً‪ ،‬وأكذب منهم مقاالً‪ ،‬ذلك أن أهل اجلاهلية ال تناقض‬
‫لديهم حول هذا الصدد‪...‬‬
‫(أنواع الكفر األكبر من الحكم بغير ما أنزل اهلل)‬
‫وما جاء عن ابن عباس رضي اهلل عنهما يف تفسري هذه اآلية من رواية‬
‫طاوس وغريه يدل‪ :‬أن احلاكم بغري ما أنزل اهلل كافر‪ :‬إما كفر اعتقاد ناقل عن‬
‫امللَّة‪ ،‬وإما كفر عمل ال ينقل عن امللَّة‪.‬‬
‫أما األول‪ :‬هو كفر االعتقاد فهو أنوا ‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن جيحد احلاكم بغري ما أنزل اهلل أحقية حكم اهلل ورسوله‪ ،‬وهو‬
‫معى ما روي عن ابن عباس‪ ،‬واختاره ابن جرير أن ذلك هو جحود ما أنزل اهلل‬
‫من احلكم الشرعي‪ ،‬وهذا ما ال نزا فيه بني أهل العلم‪ ،‬فإن األصول املتقررة‬
‫جممعا عليه‪ ،‬أو‬‫فرعا ً‬ ‫أن من جحد أصالً من أصول الدين‪ ،‬أو ً‬ ‫املتفق عليها بينهم َّ‬
‫أنكر حرفًا مما جاء به الرسول ‪ ‬قطعيًا‪ ،‬فإنه كافر الكفر الناقل عن امللَّة‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن ال جيحد احلاكم بغري ما أنزل اهلل كون حكم اهلل ورسوله ح ًقا‪،‬‬
‫لكن اعتقد أن حكم غري الرسول ‪ ‬أحسن من حكمه وأم وأمشل‬

‫‪-945-‬‬
‫مطلقا‪ ،‬أو بالنسبة إىل‬ ‫ملا حيتاجه الناس من احلكم بينهم عند التناز ‪ :‬إما ً‬
‫وتغري األحوال‪.‬‬
‫استجد من احلوادث اليت نشأت عن تطور الزمان ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ما‬
‫أيضا ال ريب أنه كفر لتفضيله أحكام املخلوقني اليت هي حمض زبالة‬ ‫وهذا ً‬
‫األذهان وصرف حناتة األفكار على حكم احلكيم احلميد‪...‬‬
‫الثالث‪ :‬أن ال يعتقد كونه أحسن من حكم اهلل ورسوله‪ ،‬لكن اعتقد أنه‬
‫مثله‪.‬‬
‫كافرا الكفر الناقل عن امللَّة‪ ،‬ملا يقتضيه‬
‫فهذا كالنوعني اللذين قبله يف كونه ً‬
‫س‬‫وجل‪﴿ :‬لَْي َ‬
‫عز ي‬ ‫ذلك من تسوية املخلوق باْلالق‪ ،‬واملناقضة واملعاندة لقوله َّ‬
‫َك ِمثْلِ ِه َش ْيء﴾ [الشورى‪ ،]99 :‬وحنوها من اآليات الكرمية الدالة على ُّ‬
‫تفرد‬
‫الرب بالكمال‪ ،‬وتنزيهه عن مماثلة املخلوقني يف الذات والصفات واألفعال‪،‬‬
‫واحلكم بني الناس فيما يتنازعون فيه‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن ال يعتقد‪ :‬كون حكم احلاكم بغري ما أنزل اهلل مماثالً حلكم اهلل‬
‫ورسوله‪ ،‬فضالً عن أن يعتقد كونه أحسن منه‪ ،‬لكن اعتقد جواز احلكم مبا‬
‫خيالف حكم اهلل ورسوله‪ ،‬فهذا كالذي قبله يصدق عليه ما يصدق عليه‪،‬‬
‫العتقاده جواز ما علم بالنصوص الصحيحة الصرحية القطعية حترميه‪.‬‬
‫(علة كون التشريع من دون اهلل كفر أكبر‪ ،‬ولو قال صاحبه‪ :‬أخطأت‪،‬‬
‫وحكم اهلل أعظم وأفضل)‬
‫الخامس‪ :‬وهو أعظمها وأمشلها وأظهرها معاندة للشر ‪ ،‬ومكابرة ألحكامه‬
‫وإرصادا وتأهيالً‬
‫ً‬ ‫وإمدادا‬
‫ً‬ ‫إعدادا‬
‫ومشاقة هلل ولرسوله‪ ،‬ومضاهاة باحملاكم الشرعية‪ً ،‬‬
‫وحكما وإلز ًاما ومراجع مستمدَّات‪.‬‬
‫ً‬ ‫وتنويعا‬
‫وتفر ًيعا وتشكيالً ً‬
‫مستمدَّات‪ ،‬مرجعها كلها‬ ‫َ‬ ‫فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع‬
‫إىل كتاب اهلل وسنة رسوله ‪ ‬فلهذه احملاكم مراجع هي‪ :‬القانون امللفَّق من‬
‫شرائع شىت وقوانني كثرية‪ :‬كالقانون الفرنسي‪ ،‬والقانون األمريكي‪ ،‬والقانون‬

‫‪-944-‬‬
‫الربيطاي‪ ،‬وغريها من القوانني‪ ،‬ومن مذاهب بعض البدعيني املنتسبني إىل‬
‫الشريعة‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫فهذه احملاكم اآلن يف كثري من أمصار اإلسالم مهيَّأة مكملة مفتوحة‬
‫األبواب‪ ،‬والناس إليها أسراب إثر أسراب‪ ،‬حيكم حكامها بينهم مبا خيالف حكم‬
‫السنة والكتاب‪ ،‬من أحكام ذلك القانون‪ ،‬وتلزمهم به‪ ،‬وتقرهم عليه‪ ،‬وحتتِّمه‬
‫عليهم‪.‬‬
‫حممدا رسول اهلل بعد‬
‫فأي كفر فوق هذا الكفر‪ ،‬وأي مناقضة لشهادة أن ً‬
‫هذه املناقضة؟!‪...‬‬
‫السادس‪ :‬ما حيكم به كثري من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي‬
‫يسموهنا «سلومهم»‬ ‫وحنوهم‪ ،‬من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداهتم اليت ُّ‬
‫يتوارثون ذلك منهم‪ ،‬وحيكمون به وحيملون على التحاكم إليه عند النزا ‪ ،‬بقاء‬
‫اضا ورغبة عن حكم اهلل ورسوله‪ ،‬فال حول وال قوة‬ ‫على أحكام اجلاهلية‪ ،‬وإعر ً‬
‫إالَّ باهلل‪.‬‬

‫(مناط كفر دون كفر)‬


‫وأما «القسم الثاي» من قسمي كفر احلاكم بغري ما أنزل اهلل وهو الذي ال‬
‫وجل‪:‬‬
‫عز ي‬ ‫أن تفسري ابن عباس رضي اهلل عنهما لقوله َّ‬ ‫خيرج عن امللَّة فقد تقدَّم َّ‬
‫﴿‪ ،‬قد مشل ذلك القسم‪ ،‬وذلك يف قوله ‪ ‬يف اآلية‪ :‬كفر دون كفر‪ ،‬وقوله‬
‫أيضا‪ :‬ليس بالكفر الذي تذهبون إليه‪ .‬اهـ‪.‬‬ ‫ً‬
‫وذلك أن حتمله شهوته وهواه على احلكم يف القضية بغري ما أنزل اهلل مع‬
‫اعتقاده أن حكم اهلل ورسوله هو احلق‪ ،‬واعرتافه على نفسه باْلطأ وجمانبة‬
‫اهلدى‪.‬‬
‫وهذا وإن ل خيرجه كفره عن امللَّة‪ ،‬فـإنه معـصية عـظمى أكرب من‬

‫‪-941-‬‬
‫الكبائر‪ ،‬كالزنا وشرب اْلمر والسرقة واليمني الغموس وغريها‪ ،‬فإن معصية‬
‫كفرا‪.‬‬
‫يسمها ً‬ ‫كفرا أعظم من معصية ل ِّ‬ ‫مسَّاها اهلل يف كتابه ً‬
‫ورضا‪ ،‬إنه ويل‬
‫انقيادا ً‬
‫نسأل اهلل أن جيمع املسلمني على التحاكم إىل كتابه ً‬
‫(‪)1‬‬
‫ذلك والقادر عليه‪( .‬طبعت يف جملة لواء اإلسالم)» ‪.‬‬
‫(حكم البلدة التي تحكم بالقانون الوضعي)‬
‫وسئل الشيخ حممد بن إبراهيم رمحهما اهلل تعاىل‪:‬‬
‫س‪ :‬هل جتب اهلجرة من بالد املسلمني اليت حيكم فيها بالقانون؟‬
‫ج‪ :‬البلد اليت حيكم فيها بالقانون ليست بلد إسالم‪ ،‬جتب اهلجرة منها‪،‬‬
‫غريت فتجب اهلجرة‪.‬‬ ‫وكذلك إذا ظهرت الوثنية من غري نكري وال ِّ‬
‫فالكفر‪ :‬بفشو الكفر وظهوره‪ .‬هذه بلد كفر‪.‬‬
‫أما إذا كان قد حيكم فيها بعض األفراد‪ ،‬أو وجود كفريات قليلة ال تظهر‬
‫فهي بلد إسالم‪[ .‬تقرير]‪.‬‬
‫ولعلك أن تقول‪ :‬لو قال من حكم القانون‪ :‬أنا أعتقد أنه باطل‪ .‬فهذا ال‬
‫أثر له‪ ،‬بل هو عزل للشر ‪ ،‬كما لو قال أحد‪ :‬أنا أعبد األوثان‪ ،‬وأعتقد أهنا‬
‫باطل‪.‬‬
‫وإذا قدر على اهلجرة من بالد تقام فيها القوانني وجب ذلك‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫[تقرير]» ‪.‬‬
‫وسئلت اللجنة الدائمة‪ :‬السؤال الثالث من الفتوى رقم (‪:)0741‬‬
‫حتكم القانون الوضعي‪ .‬فهل‬ ‫س‪ :‬حنن نعيش حتت حكومة غري مسلمة وهي َّ‬
‫لنا أن نرفع إليها قضايانا؟‬
‫احلمد هلل وحده والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه‪ ...‬وبعد‪:‬‬

‫(‪« )1‬جممو فتاوى ورسائل الشيخ حممد بن إبراهيم»‪.)219 – 214/92( :‬‬


‫(‪« )2‬جمموعة ورسائل وفتاوى الشيخ حممد بن إبراهيم»‪.)911 ،911/5( :‬‬

‫‪-941-‬‬
‫ج‪ :‬ال جيوز ملسلم أن يتحاكم إىل حكومة غري مسلمة قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَمن َّلْ‬
‫ك هم الْ َكافِرو َن﴾ [املائدة‪ ،]44 :‬وهذا واضح وهلل‬ ‫َنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ‬ ‫ِ‬
‫َْحيكم مبَا أ َ‬
‫احلمد‪.‬‬
‫وباهلل التوفيق وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم‪.‬‬
‫اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‬
‫الرئيس‬ ‫نائب رئيس اللجنة‬ ‫عضو‬ ‫عضو‬
‫(‪)1‬‬
‫عبد اهلل بن قعود عبد اهلل بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز‬
‫وقال الشيخ عبد العزيز بن باز في نقده لوثن القومية العربية‪:‬‬
‫«الوجه الرابع‪ :‬من الوجوه الدالة على بطالن الدعوة إىل القومية العربية أن‬
‫يقال‪ :‬إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها‪ ،‬يفضي باجملتمع وال بد إىل رفض‬
‫حكم القرآن‪ ،‬ألن القوميني غري املسلمني لن يرضوا حتكيم القرآن‪ ،‬فيوجب ذلك‬
‫أحكاما وضعية ختالف حكم القرآن‪ ،‬حىت يستوي‬ ‫ً‬ ‫لزعماء القومية أن يتخذوا‬
‫جمتمع القومية يف تلك األحكام‪.‬‬
‫صرح الكثري منهم بذلك كما سلف‪ ،‬وهذا هو الفساد العظيم والكفر‬ ‫وقد َّ‬
‫ىت حيَ ِّكم َ‬
‫وك‬ ‫ِ‬
‫ك الَ يـ ْؤمنو َن َح ََّ‬‫املستبني والردة السافرة‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬فَالَ َوَربِّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما﴾‬ ‫ت َوي َسلِّمواْ تَ ْسل ً‬ ‫ضْي َ‬‫يما َش َجَر بَـْيـنَـه ْم مثَّ الَ َِجيدواْ ِيف أَنفس ِه ْم َحَر ًجا ِّممَّا قَ َ‬ ‫فَ‬
‫ك هم‬ ‫أنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ‬ ‫ِ‬
‫[النساء‪ ،]56 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَمن َّلْ َْحيكم مبَا َ‬
‫ِ‬
‫ك‬‫َنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ‬ ‫ِ‬
‫الظَّالمو َن﴾ [املائدة‪ ،]46 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَمن َّلْ َْحيكم مبَا أ َ‬
‫اسقو َن﴾ [املائدة‪.]44 :‬‬ ‫هم الْ َف ِ‬
‫وكل دولة ال حتكم بشر اهلل وال تنصا حلكم اهلل فهي‪ :‬دولة جاهلية كافرة‬
‫ظاملة فاسقة بن هذه اآليات احملكمات‪ ،‬جيب على أهل اإلسالم‬

‫(‪« )1‬فتاوى اللجنة الدائمة»‪.)646 ،644/9( :‬‬

‫‪-965-‬‬
‫بغضها ومعاداهتا يف اهلل‪ ،‬وحترم عليهم مودهتا ومواالهتا‪ ،‬حىت تؤمن باهلل‬
‫ت لَك ْم أ ْس َوة َح َسنَة ِيف‬ ‫وجل‪﴿ :‬قَ ْد َكانَ ْ‬ ‫وحده ِّ‬
‫عز ي‬ ‫حتكم شريعته كما قال َّ‬
‫إِبـر ِاهيم والَّ ِذين معه إِ ْذ قَالوا لَِقوِم ِهم إِنَّا بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ‬
‫ون اللَّ ِه‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َْ َ َ َ َ َ‬
‫ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤِمنوا بِاللَّ ِه َو ْح َده﴾‬
‫َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا بَـْيـنَـنَا َوبَـْيـنَكم الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ‬
‫(‪)1‬‬
‫[املمتحنة‪. »]4 :‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬نقد القومية العربية»‪( :‬ص‪.)69 ،65‬‬

‫‪-969-‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫أيما طائفة امتنعت عن شريعة من شرائع اإلسالم الظاهرة‬
‫المتواترة‪ ،‬فإنها تقاتل عليها‪ :‬قتال كفر وردة عن اإلسالم‬
‫وإن كانت مقرة بها‪ ،‬وناطقة بالشهادتين‪ ،‬وملتزمة لغيرها‬
‫من الشرائع‪ .‬وبهذا نعلم‪ :‬أن مجرد العتصام باإلسالم مع‬
‫عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال‪ ،‬بل القتال واجب‪،‬‬
‫حتى يكون الدين كله هلل‬

‫قال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم اهلل تعالى‪:‬‬
‫«وقال الشيخ تقي الدين رمحه اهلل تعاىل ‪ -‬ملا سئل عن قتل التتار مع‬
‫التمسك بالشهادتني‪ ،‬وملا زعموا من اتِّبا أصل اإلسالم ‪ -‬فقال‪:‬‬
‫ُّ‬
‫كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع اإلسالم الظاهرة املتواترة من هؤالء القوم‬
‫أو غريهم‪ ،‬فإنه جيب قتاهلم حىت يلتزموا شرائعه‪ ،‬وإن كانوا مع ذلك ناطقني‬
‫بالشهادتني وملتزمني بعض شرائعه‪ ،‬كما قاتل أبو بكر والصحابة ‪ ‬مانعي‬
‫الزكاة‪ ،‬وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم‪ ،‬مع سابقة مناظرة عمر أليب بكر رضي‬
‫اهلل عنهما‪ ،‬فاتفق الصحابة على القتال على حقوق اإلسالم عمالً بالكتاب‬
‫والسنَّة‪.‬‬
‫وكذلك ثبت عن النيب ‪ ‬من عشرة أوجه احلديث عن اْلوارج واألمر‬
‫بقتاهلم‪ ،‬وأخرب أهنم شر اْللق واْلليقة‪ ،‬مع قوله‪« :‬حتقرون صالتكم مع صالهتم‬
‫وصيامكم مع صيامهم»‪.‬‬
‫فعلم‪ :‬أن جمرد االعتصام باإلسالم مع عدم التزام شرائعه ليس مبسقط‬
‫للقتال‪ ،‬فالقتال واجب حىت يكون الدين كله هلل‪ ،‬وحىت ال تكون فتنة‪ ،‬فمىت‬

‫‪-962-‬‬
‫كان الدين لغري اهلل فالقتال واجب‪.‬‬
‫فأميا طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات املفروضات‪ ،‬أو الصيام‪ ،‬أو‬
‫احلج‪ ،‬أو عن التزام حترمي الدماء واألموال‪ ،‬أو اْلمر‪ ،‬أو الزنا‪ ،‬أو امليسر‪ ،‬أو‬
‫نكاح ذوات احملارم‪ ،‬أو عن التزام جهاد الكفار‪ ،‬أو ضرب اجلزية على أهل‬
‫الكتاب‪ ،‬أو غري ذلك من التزام واجبات الدين‪ ،‬أو حمرماته اليت ال عذر ألحد يف‬
‫جحودها‪ ،‬أو تركها‪ ،‬واليت يكفر الواحد جبحودها‪ ،‬فإن الطائفة املمتنعة تقاتل‬
‫مقر َِة هبا‪.‬‬
‫عليها وإن كانت ِّ‬
‫وهذا مما ال أعلم فيه خالفًا بني العلماء‪ ،‬وإمنا اختلف العلماء يف الطائفة‬
‫املمتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن‪ ،‬كركعيت الفجر‪ ،‬أو األذان‪ ،‬أو اإلقامة‬
‫عند من ال يقول بوجوهبا‪ ،‬وحنو ذلك من الشعائر‪ ،‬فهل تقاتل الطائفة املمتنعة‬
‫على تركها أم ال؟‬
‫فأما الواجبات أو احملرمات املذكورة وحنوها فال خالف يف القتال عليها‪...‬‬
‫(المبيح لقتال مانعي الزكاة مجرد المنع‪ ،‬ل جحد الوجوب)‬
‫وقال الشيخ رمحه اهلل تعاىل يف آخر كالمه على كفر مانعي الزكاة والصحابة‬
‫ل يقولوا‪ :‬هل أنت مقر بوجوهبا أو جاحد هلا؟‬
‫هذا ل يعهد عن الصحابة حبال‪ ،‬بل قال الصدِّيق لعمر رضي اهلل عنهما‪:‬‬
‫واهلل لو منعوي عناقًا كانوا يؤدوهنا إىل رسول اهلل ‪ ‬لقاتلتهم على منعها‪.‬‬
‫فجعل املبيح للقتال‪ :‬جمرد املنع ال جحد الوجوب‪ ،‬وقد روي أن طوائف‬
‫منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن خبلوا هبا‪ ،‬ومع هذا فسرية اْللفاء سرية واحدة‬
‫وهي قتل مقاتلتهم‪ ،‬وسيب ذراريهم‪ ،‬وغنيمة أمواهلم‪ ،‬والشهادة على قتالهم‬
‫مجيعا‪ :‬أهل الردة‪.‬‬
‫بالنار‪ ،‬ومسُّوهم ً‬

‫‪-963-‬‬
‫وكان من أعظم فضائل الصدِّيق عندهم أنه ثبته اهلل على قتاهلم‪ ،‬ول يتوقف‬
‫كما توقف غريه حىت ناظرهم فرجعوا إىل قوله‪.‬‬
‫وأما قتال املقرين بنبوة مسيلمة‪ ،‬فهؤالء ل يقع بينهم نزا يف قتاهلم‪ ،‬وهذه‬
‫حجة من قال إن قاتلوا اإلمام عليها كفروا وإالَّ فال‪ ،‬فإن كفر هؤالء وإدخاهلم‬
‫يف أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة املستند إىل نصوص الكتاب والسنَّة‪،‬‬
‫خبالف من ل يقاتل اإلمام عليها‪ ،‬فإن يف الصحيح عن النيب ‪ ‬أنه قيل له‪ :‬منع‬
‫ابن مجيل فقال‪« :‬ما ينقم ابن مجيل إالَّ أنه كان ً‬
‫فقريا فأغناه اهلل»‪ ،‬فلم يأمر‬
‫بقتله وال حكم بكفره‪ .‬ويف السنن من حديث هبز بن حكيم عن أبيه عن جده‬
‫عن النيب ‪« :‬ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله» احلديث‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫فتأمل كالمه وتصرحيه بأن الطائفة املمتنعة عن أداء الزكاة إىل اإلمام أهنم‬
‫الردة عن اإلسالم‪ ،‬وتسىب ذراريهم‪ ،‬وتغنم‬ ‫يقاتلون‪ ،‬وحيكم عليهم بالكفر و َّ‬
‫أمواهلم‪ ،‬وإن أقروا بوجوب الزكاة وصلوا الصلوات اْلمس‪ ،‬وفعلوا مجيع شرائع‬
‫اإلسالم غري أداء الزكاة‪ ،‬وأن ذلك ليس مبسقط للقتال هلم واحلكم عليهم‬
‫بالكفر والردة‪ ،‬وأن ذلك قد ثبت بالكتاب والسنَّة واتفاق الصحابة ‪ .‬واهلل‬
‫(‪)1‬‬
‫أعلم» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫املوحدين» الكلمات النافعة يف املكفرات الواقعة‪( :‬ص‪.)231 – 236‬‬


‫(‪« )1‬عقيدة ِّ‬

‫‪-964-‬‬
‫الفصل السابع‬
‫حقيقة الولء والبراء‬

‫وفيه ستة مباحث‪:‬‬

‫المبحث األول‪ :‬األدلة الدالة من القرآن والسنة‪ ،‬والسرية النبوية‪ ،‬وتاريخ‬


‫املسلمني على وجوب الرباءة من الشرك واملشركني‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬مواالة املسلمني والرباءة من املشركني‪ ،‬أصل من أصول‬
‫الدين باإلمجا ‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬الرباءة من املشركني شرط لصحة التوحيد وقبوله‪ ،‬ومن مث‬
‫وردة عن ملة‬‫كانت مواالهتم ناقضة من نواقض التوحيد‪َّ ،‬‬
‫املسلمني‪ .‬ولقد عد العلماء مظاهرة املشركني‪ ،‬من أعظم أنوا‬
‫املروق عن الدين‪ ،‬واليت تستوجب جهاد أهلها‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬مواالة املشركني وصوره املكفِّرة وغري املكفرة‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬مواالة املشركني املنتسبني للملة‪ ،‬كمواالة املشركني‬
‫املباينني هلا‪.‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬إذا تعذر علو التوحيد‪ ،‬وإظهار الرباءة من املشركني يف‬
‫بلد‪ ،‬أصبحت دار كفر وشرك‪ ،‬ووجب على املوحدين اهلجرة‬
‫منها ليتمكنوا من إقامة دينهم‪ ،‬وإظهار الرباءة من أعدائهم‪.‬‬

‫‪-966-‬‬
-965-
‫المبحث األول‬
‫األدلة الدالة من القرآن والسنة‪ ،‬والسيرة النبوية‬
‫وتاريخ المسلمين على وجوب البراءة من الشرك والمشركين‬
‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في بيان األمور التي تنقض التوحيد‪:‬‬
‫«(األمر الثالث)‪ :‬مواالة املشرك‪ ،‬والركون إليه‪ ،‬ونصرته‪ ،‬وإعانته باليد‪ ،‬أو‬
‫ِ ِّ ِ‬
‫ين﴾ [القص ‪:‬‬ ‫اللسان‪ ،‬أو املال‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬فَالَ تَكونَ َّن ظَه ًريا لْل َكاف ِر َ‬
‫‪.]15‬‬
‫ِ‬ ‫وقال‪﴿ :‬ر ِّ ِ‬
‫ني﴾ [القص ‪:‬‬ ‫ت َعلَ َّي فَـلَ ْن أَكو َن ظَ ِه ًريا لِّْلم ْج ِرم َ‬ ‫ب مبَا أَنْـ َع ْم َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َِّ‬
‫َخَرجوكم ِّمن‬ ‫ين قَاتَـلوك ْم ِيف الدِّي ِن َوأ ْ‬ ‫‪ ،]94‬وقال‪﴿ :‬إمنَا يَـْنـ َهاكم اللَّه َع ِن الذ َ‬
‫ك هم الظَّالِمو َن﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ديَا ِرك ْم َوظَا َهروا َعلَى إِ ْخَراجك ْم أَن تَـ َولَّْوه ْم َوَمن يَـتَـ َوَّهل ْم فَأ ْولَئِ َ‬
‫[املمتحنة‪.]1 :‬‬
‫وهذا خطاب من اهلل تعاىل للمؤمنني يف هذه األمة‪ ،‬فانظر أيها السامع أين‬
‫تقع من هذا اْلطاب؟ وحكم هذه اآليات‪.‬‬
‫سرا‪ ،‬وقد دخلوا يف صلح رسول اهلل‬ ‫وملا أعانت قريش بن بكر على خزاعة ً‬
‫وجتهز حلرهبم‪،‬‬ ‫شديدا‪َّ ،‬‬ ‫‪ ،‬انتقض عهدهم‪ ،‬وغضب رسول اهلل ‪ ‬لذلك غضبًا ً‬
‫إخبارا أنزل اهلل تعاىل يف‬ ‫ول ينبذ إليهم ملا كتب هلم حاطب كتابًا خيربهم بذلك ً‬
‫َّخذوا‬ ‫ذلك هذه السورة بكماهلا‪ ،‬ابتدأها بقوله تعاىل‪﴿ :‬يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنوا الَ تَـت ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫َعد ِّوي َو َعد َّوك ْم أ َْولِيَاء تـْلقو َن إِلَْي ِهم بِالْ َم َوَّدةِ َوقَ ْد َك َفروا ِمبَا َجاءكم ِّم َن ْ‬
‫احلَ ِّق‬
‫ول َوإِيَّاك ْم أَن تـ ْؤِمنوا بِاللَّ ِه َربِّك ْم إِن كنت ْم َخَر ْجت ْم ِج َه ًادا ِيف َسبِيلِي‬ ‫الرس َ‬‫خيْ ِرجو َن َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ِايت تسُّرو َن إِلَْي ِهم بِالْ َم َوَّدة َوأَنَا أ َْعلَم مبَا أ ْ‬
‫َخ َفْيت ْم َوَما أ َْعلَنت ْم َوَمن يَـ ْف َعْله‬ ‫َوابْتغَاء َم ْر َ‬
‫السبِ ِيل﴾ [املمتحنة‪.]9 :‬‬ ‫ض َّل َس َواء َّ‬ ‫ِ‬
‫منك ْم فَـ َق ْد َ‬
‫بالتأسي خبليله ‪ ‬وإخوانه مـن املرسـلني بالعـمل‬ ‫مث أمر تعاىل ِّ‬

‫‪-964-‬‬
‫يم‬ ‫بدينه الذي بعثهم به فقال‪﴿ :‬قَ ْد َكانَت لَكم أسوة حسنة ِيف إِبـر ِ‬
‫اه‬
‫َْ َ‬ ‫ْ ْ ْ َ َ ََ‬
‫ين َم َعه﴾ [املمتحنة‪ ،]4 :‬أي من إخوانه املرسلني‪﴿ :‬إِ ْذ قَالوا لَِق ْوم ِه ْم إِنَّا بـَراء‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َوالذ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضاء‬ ‫منك ْم َوممَّا تَـ ْعبدو َن من دون اللَّه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا بَـْيـنَـنَا َوبَـْيـنَكم الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ‬
‫أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤِمنوا بِاللَّ ِه َو ْح َده﴾ [املمتحنة‪.]4 :‬‬
‫علما وعمالً‪ ،‬وعند القيام هبذه‬ ‫أمورا مخسة ال يقوم التوحيد إالَّ هبا ً‬ ‫فذكر ً‬
‫ب‬ ‫اْلمسة ميَّز اهلل الناس ملا ابتالهم بعدوهم‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬ال * أ ِ‬
‫َحس َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ين ِمن قَـْبل ِه ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫النَّاس أَن يـْتـَركوا أَن يَـقولوا َآمنَّا َوه ْم َال يـ ْفتَـنو َن * َولََق ْد فَـتَـنَّا الذ َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ني﴾ [العنكبوت‪َّ ،]3 – 9 :‬‬
‫وحذر‬ ‫ص َدقوا َولَيَـ ْعلَ َم َّن الْ َكاذبِ َ‬ ‫ين َ‬ ‫فَـلَيَـ ْعلَ َم َّن اللَّه الذ َ‬
‫َّخذواْ‬ ‫تعاىل عباده عن توليهم عدوهم‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنواْ الَ تَـت ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬
‫َّار أ َْوليَاء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الَّ ِذ َّ ِ‬
‫اب من قَـْبلك ْم َوالْكف َ‬ ‫ين أوتواْ الْكتَ َ‬ ‫ين اختَذواْ دينَك ْم هزًوا َولَعبًا ِّم َن الذ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني﴾ [املائدة‪.]64 :‬‬ ‫َواتـَّقواْ الليهَ إِن كنتم ُّم ْؤمن َ‬
‫ِ‬ ‫َن َهلم ع َذابا أَلِيما * الَّ ِذ ِ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ب ِّش ِر الْمنَافِ ِق َ ِ‬
‫ين يَـتَّخذو َن الْ َكاف ِر َ‬
‫ين‬ ‫َ‬ ‫ني بأ َّ ْ َ ً ً‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ندهم الْعَّزةَ فَإ َّن العَّزةَ لليه َمج ًيعا﴾ [النساء‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني أَيَـْبتَـغو َن ع َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫أ َْوليَاء من دون الْم ْؤمن َ‬
‫‪.]931 ،931‬‬
‫ت َهل ْم‬ ‫ِ‬ ‫َّ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم ْ‬‫س َما قَد َ‬ ‫ين َك َفرواْ لَبْئ َ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬تَـَرى َكث ًريا ِّمْنـه ْم يَـتَـ َول ْو َن الذ َ‬
‫اب ه ْم َخالِدو َن * َولَْو َكانوا يـ ْؤِمنو َن بِاهلل‬ ‫ط الليه َعلَْي ِهم وِيف الْع َذ ِ‬
‫َْ َ‬ ‫أَنفسه ْم أَن َس ِخ َ‬
‫اسقو َن﴾ [املائدة‪:‬‬ ‫ـك َّن َكثِريا ِّمْنـهم فَ ِ‬ ‫والنَِّيب وما أن ِزَل إِلَي ِه ما َّاختذوهم أَولِياء ولَ ِ‬
‫ً ْ‬ ‫ْ َ َ ْ َْ َ‬ ‫ِّ َ َ‬
‫‪.]19 ،15‬‬
‫فتأمل ما يف هذه اآليات وما رتَّب اهلل سبحانه وتعاىل على هذا العمل من‬
‫سخطه واْللود يف عذابه‪ ،‬وسلب اإلميان وغري ذلك‪.‬‬
‫وذكر ابن جرير رمحه اهلل تعاىل يف تفسريه سورة آل عمران عند قوله تعاىل‪:‬‬
‫س ِم َن اللي ِه ِيف َش ْيء﴾ [آل عمران‪ .]21 :‬أنه ردة عن‬ ‫ِ‬
‫ك فَـلَْي َ‬ ‫﴿ َوَمن يَـ ْف َع ْل َذل َ‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ين ْارتَ ُّدوا‬ ‫ويف سورة حممد ‪ ‬ما يدل على ذلك‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫ني َهلم ا ْهل َدى الشَّْيطَان َس َّوَل َهل ْم َوأ َْملَى َهل ْم * َذل َ‬ ‫َعلَى أ َْدبَا ِرهم ِّمن بَـ ْعد َما تَـبَـ َّ َ‬

‫‪-961-‬‬
‫ض األ َْم ِر﴾ [حممد‪،26 :‬‬ ‫ين َك ِرهوا َما نَـَّزَل اللَّه َسن ِطيعك ْم ِيف بَـ ْع ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫بأَنـَّه ْم قَالوا للَّذ َ‬
‫‪ .]25‬والسني حرف تنفيس تفيد‪ :‬استقبال الفعل‪ ،‬فدل على أهنم وعدوهم‬
‫ف إِ َذا تَـ َوفـَّْتـه ْم الْ َم َالئِ َكة‬‫سرا بدليل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬واللَّه يَـ ْعلَم إِ ْسَر َاره ْم * فَ َكْي َ‬ ‫ذلك ً‬
‫ِ‬
‫ط اللَّهَ َوَك ِرهوا ِر ْ‬
‫ض َوانَه‬ ‫ك بِأَنـَّهم اتَّـبَـعوا َما أ ْ‬
‫َس َخ َ‬ ‫ض ِربو َن وج َ‬
‫وهه ْم َوأ َْدبَ َاره ْم * َذل َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ط أ َْع َما َهل ْم﴾ [حممد‪ .]21 – 25 :‬واآليات يف هذا املعى كثرية‪.‬‬ ‫َحبَ َ‬
‫فَأ ْ‬
‫واملقصود‪ :‬بيان عظم هذا الذنب عند اهلل‪ ،‬وما رتب عليه من العقوبات‬
‫عاجالً وآجالً‪ .‬نسأل اهلل الثبات على اإلسالم واإلميان‪ ،‬ونعوذ باهلل من اْليبة‬
‫واْلذالن‪.‬‬
‫وقد ذكر شيخنا رمحه اهلل تعاىل يف خمتصر السرية له‪ :‬ذكر الواقدي أن خالد‬
‫بن الوليد‪ ،‬ملا قدم العارض‪ ،‬قدم مائيت فارس‪ ،‬فأخذوا جمَّاعة بن مرارة يف ثالثة‬
‫عشر رجالً من قومه بن حنيفة‪ ،‬فقال هلم خالد بن الوليد‪ :‬ما تقولون يف‬
‫(‪)1‬‬
‫صاحبكم؟ فشهدوا أنه رسول اهلل‪ ،‬فضرب أعناقهم‪ ،‬حىت إذا بقي سارية بن‬
‫شرا فاستبق جمَّاعة‪،‬‬ ‫خريا أو ً‬ ‫عامر قال‪ :‬يا خالد إن كنت تريد بأهل اليمامة ً‬
‫أيضا‪ ،‬فأمر هبما فأوثقا يف جمامع من حديد‪،‬‬ ‫وكان شر ًيفا فلم يقتله‪ ،‬وترك سارية ً‬
‫خالدا يقتله‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫فكان يدعو جمَّاعة وهو كذلك فيتحدث معه وهو يظن أن ً‬
‫إسالما واهلل ما كفرت‪.‬‬ ‫يا ابن املغرية إن يل ً‬
‫فقال خالد‪ :‬إن بني القتل والرتك منزلة وهي احلبس‪ ،‬حىت يقضي اهلل يف أمرنا‬
‫ما هو قاض‪ ،‬ودفعه إىل أم متمم زوجته‪ ،‬وأمرها أن حتسن أساره‪ ،‬فظن جمَّاعة أن‬
‫خالدا يريد حبسه ليخربه عن عدوه‪ ،‬وقال‪ :‬يا خالد قد علمت أي قدمت على‬ ‫ً‬
‫رسول اهلل ‪ ‬فبايعته على اإلسالم‪ ،‬وأنا اليوم على ما كنت عليه باألمس‪ ،‬فإن‬
‫يك كذاب قد خرج فينا اهلل يقول‪َ ﴿ :‬والَ تَ ِزر َوا ِزَرة ِوْزَر أ ْخَرى﴾ [األنعام‪:‬‬
‫‪.]954‬‬

‫(‪ )1‬هو مسيلمة الكذاب لعنه اهلل‪.‬‬

‫‪-961-‬‬
‫فقال يا جمَّاعة‪ ،‬تركت اليوم ما كنت عليه أمس‪ ،‬وكان رضاك بأمر هذا‬
‫الكذاب وسكوتك عنه ‪ -‬وأنت من أعز أهل اليمامة ‪ -‬إقر ًارا له ورضا مبا جاء‬
‫عذرا فتكلَّمت فيمن تكلَّم؟ فقد تكلَّم‪ :‬مثامة فرد وأنكر‪ ،‬وتكلم‬
‫به‪ ،‬فهل أبديت ً‬
‫إيل رسوالً؟‬
‫إيل أو بعثت َّ‬
‫اليشكري‪ ،‬فإن قلت أخاف قومي فهال عمدت َّ‬
‫فتأمل كيف جعل خالد سكوت جمَّاعة‪ :‬رضى مبا جاء به مسيلمة وإقر ًارا‪،‬‬
‫وجد ومشَّر مع أولئك الذين أشركوا مع‬‫فأين هذا ممن أظهر الرضا وظاهر وأعان َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫اهلل يف عبادته وأفسدوا يف أرضه؟ فاهلل املستعان» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪.)213 – 219/4( :‬‬

‫‪-955-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫موالة المسلمين‪ ،‬والبراءة من المشركين‬
‫أصل من أصول الدين باإلجماع‬

‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه اهلل تعالى‪:‬‬


‫«قال شيخنا رمحه اهلل تعاىل إمام الدعوة اإلسالمية‪ ،‬والداعي إىل امللَّة‬
‫احلنيفية‪ :‬أصل دين اإلسالم وقاعدته أمران‪ :‬األمر بعبادة اهلل وحده‪ ،‬والتحريض‬
‫على ذلك‪ ،‬واملواالة فيه‪ ،‬وتكفري من تركه‪ ،‬والنهي عن الشرك باهلل يف عبادته‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫والتغليظ فيه واملعاداة فيه‪ ،‬وتكفري من فعله» ‪.‬‬
‫أيضا رحمه اهلل‪:‬‬
‫وقال ا‬
‫وخلفا‪ ،‬من الصحابة والتابعني‪ ،‬واألئمة‪ ،‬ومجيع أهل‬ ‫سلفا ً‬ ‫«أمجع العلماء ً‬
‫مسلما إالَّ بالتجرد من الشرك األكرب‪ ،‬والرباءة منه وممن‬
‫السنة‪ :‬أن املرء ال يكون ً‬
‫فعله‪ ،‬وبغضهم ومعاداهتم حبسب الطاقة والقدرة‪ ،‬وإخالص األعمال كلها‬
‫(‪)2‬‬
‫هلل» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«إن اإلنسان ال يستقيم له دين‪ ،‬ولو وحد اهلل وترك الشرك‪ ،‬إالَّ بعداوة‬
‫(‪)3‬‬
‫املشركني‪ ،‬والتصريح هلم بالعداوة والبغض» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫قال اإلمام ابن القيم‪ :‬ومـا جنا من شرك هذا الشرك األكرب‪ ،‬إالَّ من َّ‬
‫جرد‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪.)211/4( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)646/99( :‬‬
‫(‪« )3‬الدرر السنية»‪.)331/1( :‬‬

‫‪-959-‬‬
‫وتقرب مبقت املشركني إىل اهلل‪.‬‬ ‫توحيده هلل‪َّ ،‬‬
‫أن اإلسالم ال يستقيم إالَّ مبعاداة‬ ‫فانظر رمحك اهلل إىل قول اإلمام يتبني لك‪َّ :‬‬
‫(‪)1‬‬
‫أهل الشرك‪ ،‬فإن ل يعادهم فهو منهم وإن ل يفعله؟ واهلل أعلم ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫«وأما قوله ‪ ‬يف احلديث الصحيح‪( :‬وكفر مبا يعبد من دون اهلل)‪ ،‬فهذا‬
‫شرط عظيم ال يصح قول‪ :‬ال إله إالَّ اهلل إالَّ بوجوده‪ ،‬وإن ل يوجد ل يكن من‬
‫قال‪ :‬ال إله إالَّ اهلل معصوم الدم واملال‪ ،‬وألن هذا هو معى‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬فلم‬
‫ينفعه القول بدون اإلتيان باملعى الذي دل عليه‪ ،‬من‪ :‬ترك الشرك‪ ،‬والرباءة منه‪،‬‬
‫وممن فعله‪.‬‬
‫فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون اهلل وتربأ منه وعادى من فعل ذلك‪،‬‬
‫مسلما معصوم الدم واملال‪ ،‬وهذا معى قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬فَ َم ْن يَكْف ْر‬ ‫ً‬ ‫صار‬
‫ص َام َهلَا َوالليه َِمسيع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ك بِالْع ْرَوة الْوثْـ َق َى الَ انف َ‬ ‫بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ‬
‫استَ ْم َس َ‬
‫َعلِيم﴾ [البقرة‪. »]265 :‬‬
‫(‪)2‬‬

‫وقال الشيخ حسني‪ ،‬والشيخ عبد اهلل‪ ،‬ابنا الشيخ حممد‪ ،‬رمحهم اهلل تعاىل‪،‬‬
‫يف أثناء جواب هلما‪.‬‬
‫املسألة احلادية عشرة‪ :‬رجل دخل هذا الدين وأحبه‪ ،‬ولكن ال يعادي‬
‫املشركني‪ ،‬أو عاداهم ول يكفرهم‪ ،‬أو قال‪ :‬أنا مسلم‪ ،‬ولكن ال أقدر أن أكفر‬
‫أهل ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ولو ل يعرفوا معناها‪ ،‬ورجل دخل هذا الدين وأحبه‪ ،‬ولكن‬
‫يقول‪ :‬ال أتعرض للقباب‪ ،‬وأعلم أهنا ال تنفع وال تضر‪ ،‬ولكن ما أتعرضها‪.‬‬

‫املوحدين»‪ ،‬رسالة الكلمات النافعة يف املكفرات الواقعة‪( :‬ص‪.)234‬‬


‫(‪« )1‬عقيدة ِّ‬
‫(‪« )2‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪ ،‬تكملة رسائل الشيخ عبد الرمحن بن حسن‪،24/2( :‬‬
‫‪.)21‬‬

‫‪-952-‬‬
‫مسلما‪ ،‬إالَّ إذا عرف التوحيد ودان به‪ ،‬وعمل‬ ‫الجواب‪ :‬أن الرجل ال يكون ً‬
‫مبوجبه‪ ،‬وصدق الرسول ‪ ‬فيما أخرب به‪ ،‬وأطاعه فيما هنى عنه وأمر به‪ ،‬وآمن‬
‫به ومبا جاء به‪.‬‬
‫فمن قال‪ :‬ال أعادي املشركني‪ ،‬أو عاداهم ول يكفرهم‪ ،‬أو قال‪ :‬ال أتعرض‬
‫أهل ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ولو فعلوا الكفر والشرك وعادوا دين اهلل‪ ،‬أو قال‪ :‬ال أتعرض‬
‫ِ َّ ِ‬
‫مسلما‪ ،‬بل هو ممن قال اهلل فيهم‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين يَكْفرو َن‬ ‫للقباب‪ ،‬فهذا ال يكون ً‬
‫ني اللي ِه َورسلِ ِه َويقولو َن نـ ْؤِمن بِبَـ ْعض َونَكْفر‬ ‫ِ ِِ‬
‫بِالليه َورسله َوي ِريدو َن أَن يـ َفِّرقواْ بَـ ْ َ‬
‫ك هم الْ َكافِرو َن َحقًّا﴾‬ ‫ك َسبِيالً * أ ْولَـئِ َ‬
‫َّخذواْ بـ ِ‬
‫ني َذل َ‬ ‫َْ َ‬
‫بِبـعض وي ِريدو َن أَن يـت ِ‬
‫َ‬ ‫َْ َ‬
‫(‪)1‬‬
‫[النساء‪. »]969 ،965 :‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪ ،)945 ،931/95( :‬و«جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪.)31/9( :‬‬

‫‪-953-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫البراءة من المشركين شرط لصحة التوحيد وقبوله‪,‬‬
‫ومن ثم كانت موالتهم ناقضة من نواقض التوحيد‬
‫وردة عن ملة المسلمين‪ ,‬ولقد عد العلماء مظاهرة المشركين‪:‬‬
‫من أعظم أنواع المروق عن الدين‪ ,‬والتي تستوجب جهاد أهلها‬

‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم اهلل تعالى‪:‬‬
‫عمن كان يف سلطان املشركني‪ ،‬وعرف التوحيد وعمل به‪ ،‬ولكن ما‬
‫عاداهم‪ ،‬وال فارق أوطاهنم؟‬
‫فأجاب‪ :‬هذا السؤال صدر عن عدم التعقل لصورة األمر‪ ،‬واملعى املقصود‬
‫من التوحيد والعمل به‪ ،‬ألنه ال يتصور أنه يعرف التوحيد ويعمل به‪ ،‬وال يعادي‬
‫املشركني‪ ،‬ومن ل يعادهم ال يقال له عرف التوحيد وعمل به‪ ،‬والسؤال متناقض‪،‬‬
‫وحسن السؤال مفتاح العلم‪.‬‬
‫وأظن مقصودك‪ :‬من ل يظهر العداوة ول يفارق‪ ،‬ومسألة إظهار العداوة‪،‬‬
‫غري مسألة وجود العداوة‪ ،‬فاألول يعذر به مع العجز واْلوف‪ ،‬لقوله تعاىل‪﴿ :‬إِالَّ‬
‫أَن تَـتـَّقواْ ِمْنـه ْم تـ َقا ًة﴾ [آل عمران‪ ،]21 :‬والثاي ال بد منه‪ ،‬ألنه يدخل يف‬
‫الكفر بالطاغوت‪ ،‬وبينه وبني حب اهلل ورسوله تالزم كلي‪ ،‬ال ينفك عنه املؤمن‪،‬‬
‫فمن عصى اهلل برتك إظهار العداوة‪ ،‬فهو عاص هلل‪.‬‬
‫فإذا كان أصل العداوة يف قلبه‪ ،‬فله حكم أمثاله من العصاة‪ ،‬فإذا انضاف‬
‫ين تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئِ َكة‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫إىل ذلك ترك اهلجرة‪ ،‬فله نصيب من قوله تعاىل‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫ظَالِ ِمي أَنْـف ِس ِه ْم﴾ [النساء‪ ،]14 :‬لكنه ال يكفر‪ ،‬ألن اآلية فيها الوعيد ال‬
‫(‪)1‬‬
‫التكفري» ‪.‬‬
‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)361/1( :‬‬

‫‪-954-‬‬
‫وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى في نواقض‬
‫اإلسالم العشرة‪:‬‬
‫«الناقض الثامن‪ :‬مظاهرة املشركني ومعاونتهم على املسلمني‪ ،‬والدليل قوله‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني﴾‬ ‫تعاىل‪َ ﴿ :‬وَمن يَـتَـ َوَّهلم ِّمنك ْم فَِإنَّه مْنـه ْم إِ َّن الليهَ الَ يَـ ْهدي الْ َق ْوَم الظَّالم َ‬
‫(‪)1‬‬
‫[املائدة‪. »]69 :‬‬
‫وتحدث الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن بعض نواقض التوحيد قائالا‪:‬‬
‫(األمر الثاني من النواقض)‪ :‬انشراح الصدر ملن أشرك باهلل‪ ،‬ومو َّادة أعداء‬
‫ضب ِّم َن اللي ِه‬ ‫ِ‬
‫اهلل كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَـكن َّمن َشَر َح بِالْك ْف ِر َ‬
‫ص ْد ًرا فَـ َعلَْي ِه ْم َغ َ‬
‫َن الليهَ الَ يَـ ْه ِدي الْ َق ْوَم‬ ‫َوَهل ْم َع َذاب َع ِظيم﴾ [النحل‪ ،]955 :‬إىل قوله‪َ ﴿ :‬وأ َّ‬
‫ِ‬
‫ين﴾ [النحل‪ ،]954 :‬فمن فعل ذلك‪ ،‬فقد أبطل توحيده ولو ل يفعل‬ ‫الْ َكاف ِر َ‬
‫الشرك بنفسه‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬الَ َِجتد قَـوما يـ ْؤِمنو َن بِاللَّ ِه والْيـوِم اآل ِ‬
‫ْخ ِر يـ َو ُّادو َن‬ ‫َ َْ‬ ‫ًْ‬
‫َم ْن َح َّاد اللَّهَ َوَرسولَه﴾ [اجملادلة‪.]22 :‬‬
‫كافرا‪ ،‬فمن و ياده‬ ‫قال شيخ اإلسالم‪ :‬أخرب سبحانه أنه ال يوجد مؤمن يواد ً‬
‫فليس مبؤمن‪ .‬قال‪ :‬واملشاهبة مظنة املوادة فتكون حمرمة‪.‬‬
‫قال العماد ابن كثري يف تفسريه‪ :‬قيل نزلت يف أيب عبيدة حني قتل أباه يوم‬
‫هم بقتل ابنه عبد الرمحن‪﴿ ،‬أ َْو‬ ‫بدر‪﴿ ،‬أ َْو أَبْـنَاءه ْم﴾‪ ،‬يف الصديق يومئذ َّ‬
‫إِ ْخ َوانَـه ْم﴾‪ ،‬يف مصعب بن عمري قتل أخاه عبيد بن عمري‪﴿ ،‬أ َْو َع ِش َريتَـه ْم﴾ يف‬
‫أيضا‪ ،‬ومحزة وعلي وعبيدة بن احلارث قتلوا عتبة وشيبة‬ ‫عمر قتل قريبًا له يومئذ ً‬
‫والوليد بن عتبة يومئذ‪...‬‬
‫(األمر الثالث)‪ :‬مواالة املشرك‪ ،‬والركون إليه‪ ،‬ونصرته‪ ،‬وإعانته باليد‪ ،‬أو‬
‫ِ ِّ ِ‬
‫ين﴾ [القص ‪:‬‬ ‫اللسان‪)2(،‬أو املال‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬فَالَ تَكونَ َّن ظَه ًريا لْل َكاف ِر َ‬
‫‪. »]15‬‬
‫املوحدين»‪( :‬ص‪.)464‬‬‫(‪« )1‬عقيدة ِّ‬
‫(‪« )2‬جمموعة الرسائل النجدية»‪.)219 – 211/4( :‬‬

‫‪-956-‬‬
‫وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫«قال شيخ اإلسالم يف اختياراته‪ ،‬من مجز إىل معسكر التتار‪ ،‬وحلق هبم‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ارتد وحل دمه وماله» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ حمد بن عتيق‪:‬‬
‫دل القرآن والسنة على أن املسلم إذا حصلت منه مواالة أهل الشرك‬ ‫«قد ي‬
‫واالنقياد هلم ارتد بذلك عن دينه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ني َهلم‬ ‫ين ْارتَ ُّدوا َعلَى أ َْدبَا ِرهم ِّمن بَـ ْعد َما تَـبَـ َّ َ‬
‫فتأمل قوله تعاىل‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫ا ْهل َدى الشَّْيطَان َس َّوَل َهل ْم َوأ َْملَى َهل ْم﴾ [حممد‪ ،]26 :‬مع قوله‪َ ﴿ :‬وَمن يَـتَـ َوَّهلم‬
‫ِّمنك ْم فَِإنَّه ِمْنـه ْم﴾ [املائدة‪ ،]69 :‬وأمعن النظر يف قوله تعاىل‪﴿ :‬فَالَ تَـ ْقعدواْ‬
‫َم َعه ْم َح َّىت َخيوضواْ ِيف َح ِديث َغ ِْريهِ إِنَّك ْم إِ ًذا ِّمثْـله ْم﴾ [النساء‪. »]945 :‬‬
‫(‪)3‬‬

‫وتحدث الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن بعض أنواع أعدائه الذين‬


‫سل السيف عليهم‪ ،‬فقال رحمه اهلل‪:‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬من عرف التوحيد وأحبه واتبعه‪ ،‬وعرف الشرك وتركه‪ ،‬لكن‬
‫أيضا كافر وفيه‬ ‫يكره من دخل يف التوحيد وحيب من بقي على الشرك‪ ،‬فهذا ً‬
‫ِ‬
‫ط أ َْع َما َهل ْم﴾‬ ‫َنزَل اللَّه فَأ ْ‬
‫َحبَ َ‬ ‫ك بِأَنـَّه ْم َك ِرهوا َما أ َ‬ ‫قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ذل َ‬
‫[حممد‪.]1 :‬‬
‫النوع الرابع‪ :‬من سلم من هذا كله لكن أهل بلده يصرحون‪ :‬بعداوة‬
‫التوحيد واتبا أهل الشرك ويسعون يف قتاهلم‪ ،‬وعذره أن ترك وطنه يشق عليه‪،‬‬
‫أيضا‬
‫فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده وجياهد مباله ونفسه‪ ،‬فـهذا ً‬

‫(‪ )1‬مجز‪ :‬أي ذهب‪ ...‬وقد جاء يف حديث ماعز ‪« :‬فلما أذلقته احلجارة‪ ،‬مجز»‪ .‬أي‪ :‬أسر هاربًا‬
‫من القتل‪ .‬قاله‪ :‬ابن منظور يف لسان العرب‪ ،‬مادة‪( :‬مجز)‪.‬‬
‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)331/1( :‬‬
‫(‪« )3‬جممو الرسائل واملسائل»‪.)445 – 446/9( :‬‬

‫‪-955-‬‬
‫كافر‪ ،‬ألهنم لو أمروه برتك صيام رمضان وال ميكنه ذلك إالَّ بفراق وطنه‬
‫فعل‪ ،‬ولو أمروه أن يتزوج امرأة أبيه وال ميكنه خمالفتهم إالَّ بذلك فعل‪.‬‬
‫وأما موافقته على اجلهاد معهم مباله ونفسه مع أهنم يريدون قطع دين اهلل‬
‫أيضا كافر ممن قال اهلل فيهم‪:‬‬ ‫ورسوله ‪ ‬فأكرب مما ذكرناه بكثري‪ ،‬فهذا ً‬
‫﴿ست ِجدو َن آخ ِرين ي ِريدو َن أَن يأْمنوكم ويأْمنواْ قَـومهم ك َّل ما رُّدواْ إِ َىل الْ ِفْتنِةِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ ْ ََ َ ْ َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫السلَ َم َويَكف َُّواْ أَيْ ِديَـه ْم فَخذوه ْم‬
‫أ ْركِسواْ فِيِ َها فَِإن َّلْ يَـ ْعتَ ِزلوك ْم َويـْلقواْ إِلَْيكم َّ‬
‫َواقْـتـلوه ْم﴾ اآلية [النساء‪.]19 :‬‬
‫(‪)1‬‬
‫واهلل سبحانه وتعاىل أعلم‪ ،‬وصلَّى اهلل على حممد وآله وصحبه وسلم» ‪.‬‬
‫وقد عد بعض علماء نجد ثالثة أمور‪ ،‬كل واحد منها يوجب الجهاد‬
‫لمن اتصف بها‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬اْلروج عن طاعة ويل أمر املسلمني بغري حق‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬عدم تكفري املشركني‪ ،‬أو الشك يف كفرهم‪ ،‬ألن ذلك من نواقض‬
‫وحل دمه وماله‪ ،‬ووجب قتاله‬ ‫اإلسالم ومبطالته‪ ،‬فمن اتصف به فقد كفر‪ ،‬ي‬
‫حىت يكفر املشركني‪ - .‬مث عرضوا األمر الثالث فقالوا‪:-‬‬
‫«األمر الثالث‪ :‬مما يوجب اجلهاد ملن اتصف به‪ ،‬مظاهرة املشركني‪ ،‬وإعانتهم‬
‫على املسلمني‪ ،‬بيد أو بلسان أو بقلب أو مبال‪ ،‬فهذا كفر خمرج من اإلسالم‪،‬‬
‫فمن أعان املشركني على املسلمني‪ ،‬وأمد املشركني من ماله‪ ،‬مبا يستعينون به على‬
‫(‪)2‬‬
‫اختيارا منه‪ ،‬فقد كفر» ‪.‬‬ ‫حرب املسلمني ً‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪.)359/4( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)212 – 211/1( :‬‬

‫‪-954-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫موالة المشركين وصوره المكفرة‪ ،‬والغير مكفرة‬
‫قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل رمحهما اهلل يف أثناء رده على سؤال ورد‬
‫عليه‪ ،‬يريد فيه صاحبه معرفة احل يد الفاصل بني الوالء للمشركني املكفر‪ ،‬وغري‬
‫املكفر‪ ،‬فقال رمحه اهلل‪:‬‬
‫«فالجواب‪ :‬إن كانت املواالة مع مساكنتهم يف ديارهم‪ ،‬واْلروج معهم يف‬
‫قتاهلم‪ ،‬وحنو ذلك‪ ،‬فإنه حيكم على صاحبها بالكفر‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَمن‬
‫يَـتَـ َوَّهلم ِّمنك ْم فَِإنَّه ِمْنـه ْم﴾ [املائدة‪ ،]69 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَ ْد نَـَّزَل َعلَْيك ْم ِيف‬
‫ات اللي ِه ي َك َفر ِهبَا َوي ْستَـ ْهَزأ ِهبَا فَالَ تَـ ْقعدواْ َم َعه ْم َح َّىت‬
‫اب أَ ْن إِ َذا َِمسعتم آي ِ‬
‫ْْ َ‬
‫الْ ِكتَ ِ‬
‫َخيوضواْ ِيف َح ِديث َغ ِْريهِ إِنَّك ْم إِ ًذا ِّمثْـله ْم﴾ [النساء‪.]945 :‬‬
‫وقال النيب ‪« :‬من جامع املشركني وسكن معهم فإنه مثلهم» وقال‪« :‬أنا‬
‫برئ من مسلم بني أظهر املشركني»‪ ،‬روامها أبو داود‪.‬‬
‫وإن كانت املواالة هلم يف ديار اإلسالم‪ ،‬إذا قدموا إليهم وحنو ذلك‪ ،‬فهذا‬
‫متعرض للوعيد‪ ،‬وإن كانت مواالهتم ألجل دنياهم‪ ،‬جيب عليه من‬ ‫عاص آمث ِّ‬
‫التعزير باهلجر واألدب وحنوه ما يزجر أمثاله‪ ،‬وإن كانت املواالة ألجل دينهم‬
‫(‪)1‬‬
‫قوما حشر معهم» ‪.‬‬ ‫أحب ً‬
‫فهو مثلهم‪ ،‬ومن َّ‬
‫(اعتياد فعل الموالة المحرمة سبيل الوقوع في الموالة المكفرة)‬
‫سئل الشيخ حممد عبد اللطيف‪ ،‬أقامه اهلل مناضالً عن الدين احلنيف‪ :‬رجالن‬
‫تنازعا يف السالم على الرافضة واملبتدعني‪ ،‬ومن ضاهاهم من املشركني‪،‬‬
‫وفـي مواكلتهم وجمالستهم‪ ،‬فقال أحدمها‪ :‬هو جائز‪ ،‬لقول عاملي‪ :‬إن أخذت‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)955 ،961/1( :‬‬

‫‪-951-‬‬
‫فقد أخذ الصاحلون‪ ،‬وإن رددت فقد رد الصاحلون‪ ،‬ووفد على عمر بن‬
‫عزة‪ ،‬وهو متَّهم بالتشيُّع‪ ،‬ورسول عمر وفد على جبلة الغساي‬ ‫كثري ِّ‬
‫عبد العزيز‪ِّ :‬‬
‫بعد ردته‪.‬‬
‫السالَم َعلَى‬ ‫وقال اآلخر‪ :‬ال جيوز‪ ،‬لدليل آيات املواالة‪ ،‬ولقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬و َّ‬
‫َم ِن اتـَّبَ َع ا ْهل َدى﴾ [طه‪ ،]44 :‬والسالم على عباد اهلل الصاحلني‪ ،‬وأن ترك‬
‫السالم على الفاسق وأهل املعاصي سنة‪ ،‬وهؤالء أشر حاالً وعقيدة منهم‪.‬‬
‫فأجاب‪ :‬اعلم وفقنا اهلل وإياك ملا حيب ويرضى‪ ،‬أنه ال يستقيم للعبد إسالم‬
‫وال دين‪ ،‬إالَّ مبعاداة أعداء اهلل ورسوله‪ ،‬ومواالة أولياء اهلل ورسوله‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫استَ َحبُّواْ الْك ْفَر َعلَى‬ ‫ين َآمنواْ الَ تَـتَّخذواْ آبَاءك ْم َوإِ ْخ َوانَك ْم أ َْوليَاء إَن ْ‬ ‫﴿يَا أَيُّـ َها الذ َ‬
‫ان﴾ [التوبة‪.]23 :‬‬ ‫ا ِإلميَ ِ‬
‫ني أَيَـْبتَـغو َن‬ ‫ِ ِِ‬ ‫َّخذو َن الْ َكافِ ِر ِ ِ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬الَّ ِذين يـت ِ‬
‫ين أ َْوليَاء من دون الْم ْؤمن َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ندهم الْعَِّزَة فَِإ َّن العَِّزَة لِلي ِه َمج ًيعا﴾ [النساء‪.]931 :‬‬
‫ِ‬ ‫ِع َ‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬الَ َِجتد قَـوما يـ ْؤِمنو َن بِاللَّ ِه والْيـوِم اآل ِ‬
‫ْخ ِر يـ َو ُّادو َن َم ْن َح َّاد اللَّ َه‬ ‫َ َْ‬ ‫ًْ‬
‫َوَرسولَه﴾ [اجملادلة‪.]22 :‬‬
‫ين ظَلَمواْ فَـتَ َم َّسكم النَّار﴾ [هود‪.]993 :‬‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬والَ تَـ ْرَكنواْ إ َىل الذ َ‬
‫قال ابن عباس رضي اهلل عنهما‪ :‬ال َتيلوا إليهم يف املودة ولني الكالم‪ ،‬وقال‬
‫أبو العالية‪ :‬ال ترضوا بأعماهلم‪ ،‬وقال بعض العلماء‪ :‬من مشى إليهم ول ينكر‬
‫عليهم‪ ،‬ع َّد من الراكنني إليهم‪.‬‬
‫َّخذوا َعد ِّوي َو َعد َّوك ْم أ َْولِيَاء تـْلقو َن‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنوا الَ تَـت ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫إِلَْي ِهم بِالْ َم َوَّدةِ﴾ [املمتحنة‪.]9 :‬‬
‫ين َم َعه إِ ْذ قَالوا‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬قَ ْد َكانَت لَكم أسوة حسنة ِيف إِبـر ِاه َّ ِ‬
‫يم َوالذ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ْ ْ ْ َ َ ََ‬
‫لَِقوِم ِهم إِنَّا بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ‬
‫ون اللَّ ِه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا بَـْيـنَـنَا َوبَـْيـنَكم‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫ْ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤمنوا باللَّه َو ْح َده﴾ [املمتحنة‪.]4 :‬‬ ‫الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ‬

‫‪-951-‬‬
‫فالواجب على من أحب جناة نفسه‪ ،‬وسالمة دينه‪ ،‬أن يعادي من أمره اهلل‬
‫ورسوله بعداوته‪ ،‬ولو كان أقرب قريب‪ ،‬فإن اإلميان ال يستقيم إالَّ بذلك والقيام‬
‫له‪ ،‬ألنه من أهم املهمات‪ ،‬وآكد الواجبات‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا‪ :‬فمواكلة الرافضي‪ ،‬واالنبساط معه‪ ،‬وتقدميه يف اجملالس‪،‬‬
‫والسالم عليه‪ ،‬ال جيوز‪ ،‬ألنه مواالة وموادة‪ ،‬واهلل تعاىل قد قطع املواالة‪ ،‬بني‬
‫ين أ َْولِيَاء ِمن د ْو ِن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫املسلمني واملشركني‪ ،‬بقوله‪﴿ :‬الَّ يَـتَّخذ الْم ْؤمنو َن الْ َكاف ِر َ‬
‫س ِم َن اللي ِه ِيف َش ْيء﴾ [آل عمران‪.]21 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ك فَـلَْي َ‬ ‫ني َوَمن يَـ ْف َع ْل َذل َ‬
‫الْم ْؤمن َ‬
‫ات اللي ِه ي َك َفر ِهبَا‬
‫اب أَ ْن إِ َذا َِمسعتم آي ِ‬
‫ْْ َ‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬وقَ ْد نَـَّزَل َعلَْيكم ِيف الْ ِكتَ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوي ْستَـ ْهَزأ ِهبَا فَالَ تَـ ْقعدواْ َم َعه ْم َح َّىت َخيوضواْ يف َحديث َغ ْريه إنَّك ْم إ ًذا ِّمثْـله ْم﴾‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫[النساء‪ ...]945 :‬واآليات يف املعى كثرية كما تقدَّم‪.‬‬
‫والسالم حتية أهل السالم بينهم‪ ،‬فإذا سلَّم على الرافضة‪ ،‬وأهل البد ‪،‬‬
‫واجملاهرين باملعاصي‪ ،‬وتلقَّاهم باإلكرام والبشاشة‪ ،‬أالن هلم الكالم‪ ،‬كان ذلك‬
‫مواالة منه هلم‪ ،‬فإذا و َّادهم وانبسط هلم مع ما تقدَّم‪ ،‬مجع الشر كله‪ ،‬ويزول ما‬
‫يف قلبه من العداوة والبغضاء‪ ،‬ألن إفشاء السالم سبب جللب احملبة‪ ،‬كما ورد يف‬
‫احلديث‪« :‬أال أدلكم على ما حتابون به»؟ قالوا‪ :‬بلى يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪« :‬أفشوا‬
‫وفساق املسلمني‪ ،‬خلصت‬ ‫السالم بينكم»‪ ،‬فإذا سلَّم على الرافضة واملبتدعني‪َّ ،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫مودته وحمبته يف حق أعداء اهلل ورسوله» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)445 – 434/1( :‬‬

‫‪-945-‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫موالة المشركين المنتسبين للملة‬
‫كموالة المشركين المباينين لها‬

‫سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء في الفتوى رقم‬


‫(‪:)7252‬‬
‫س‪ :‬رجل يعيش يف مجاعة تستغيث بغري اهلل‪ ،‬هل جيوز له الصالة خلفهم‪،‬‬
‫وهل جتب اهلجرة عنهم‪ ،‬وهل شركهم شرك غليظ‪ ،‬وهل مواالهتم كمواالة‬
‫الكفار احلقيقني؟‬
‫ج‪ :‬إذا كانت حال من تعيش بينهم كما ذكرت من استغاثتهم بغري اهلل‪،‬‬
‫كاالستغاثة باألموات والغائبني عنهم من األحياء‪ ،‬أو باألشجار‪ ،‬أو باألحجار‪،‬‬
‫أو الكواكب‪ ،‬وحنو ذلك‪ ،‬فهم مشركون شرًكا أكرب خيرج من ملَّة اإلسالم‪ ،‬ال‬
‫جتوز مواالهتم كما ال جتوز مواالة الكفار‪ ،‬وال تصح الصالة خلفهم‪ ،‬وال جتوز‬
‫عشرهتم‪ ،‬وال اإلقامة بني أظهرهم‪ ،‬إالَّ ملن يدعوهم إىل احلق على بينة‪ ،‬ويرجو أن‬
‫يستجيبوا له‪ ،‬وأن تصلح حاهلم دينيًا على يديه‪ ،‬وإالَّ وجب عليه‪ :‬هجرهم‪،‬‬
‫واالنضمام إىل مجاعة أخرى‪ ،‬يتعاون معها على القيام بأصول اإلسالم وفروعه‪،‬‬
‫وإحياء سنة رسول اهلل ‪ ،‬فإن ل جيد اعتزل ِ‬
‫الفَرق كلها ولو أصابته شدة‪ ،‬ملا‬
‫ثبت عن حذيفة ‪ ‬أنه قال‪« :‬كان الناس يسألون رسول اهلل ‪ ‬عن اْلري وكنت‬
‫فقلت‪:‬‬ ‫فيه‪،‬‬ ‫أقع‬ ‫أن‬ ‫خمافة‬ ‫الشر‬ ‫عن‬ ‫أسأله‬
‫يا رسول اهلل إنا كنا يف جاهلية وشر فجاءنا اهلل هبذا اْلري فهل بعد هذا من‬
‫شر؟ قال‪« :‬نعم»‪ ،‬فقلت هل بعد هذا الشر من خري؟ قال‪« :‬نعم‬ ‫ي‬
‫وفـيه دخن»‪ ،‬قلت‪ :‬وما دخنه؟ قال‪« :‬قوم يستنُّون بغري سنـيت ويهدون‬

‫‪-949-‬‬
‫شر؟‬
‫بغري هديي تعرف منهم وتنكر»‪ ،‬فقلت‪ :‬فهل بعد ذلك خري من ي‬
‫قال‪« :‬نعم دعاة على أبواب جهنم من أجاهبم إليها قذفوه فيها»‪ ،‬فقلت‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل صفهم لنا‪ ،‬قال‪« :‬نعم هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا»‪ ،‬قلت يا‬
‫رسول اهلل فما تأمري إن أدركن ذلك؟ قال‪« :‬تلزم مجاعة املسلمني وإمامهم»‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬فإن ل تكن هلم مجاعة وال إمام؟ قال‪« :‬فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن‬
‫تعض على أصل شجرة حىت يدركك املوت وأنت على ذلك» متفق عليه‪.‬‬
‫وصلَّى اهلل على نبينا حممد وعلى آله وصحبه وسلَّم‪.‬‬

‫اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‬


‫الرئيس‬ ‫نائب رئيس اللجنة‬ ‫عضو‬ ‫عضو‬
‫(‪)1‬‬
‫عبد اهلل بن قعود عبد اهلل بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز‬
‫السؤال الخامس من الفتوى رقم (‪:)1066‬‬
‫س‪ :‬ما هي حدود املواالة اليت يكفر صاحبها وخترجه من امللَّة‪ ،‬حيث نسمع‬
‫قلما‪ ،‬أو‬
‫أن من أكل مع املشرك‪ ،‬أو جلس معه‪ ،‬أو استضاء بنوره‪ ،‬ولو برى هلم ً‬
‫كثريا ما نتعامل مع اليهود والنصارى نتيجة التواجد‬ ‫قدم هلم حمربة‪ ،‬فهو مشرك‪ ،‬و ً‬
‫واملواطنة يف مكان واحد‪.‬‬
‫فما هي حدود املواالة املخرجة من امللَّة‪ ،‬وما هي الكتب املوضحة ذلك‬
‫بالتفصيل‪ ،‬وهل املواالة من شروط ال إله إالَّ اهلل؟‬
‫احلمد هلل وحده والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه‪ ...‬وبعد‪:‬‬
‫ج‪ :‬مواالة الكفار اليت يكفر هبا من واالهم هي حمبتهم ونصرهتم على‬

‫(‪« )1‬فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء»‪.)63 ،62/9( :‬‬

‫‪-942-‬‬
‫املسلمني‪ ،‬ال جمرد التعامل معهم بالعدل‪ ،‬وال خمالطتهم لدعوهتم لإلسالم‪،‬‬
‫وال غشيان جمالسهم‪ ،‬والسفر إليهم للبالغ ونشر اإلسالم‪.‬‬
‫وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلَّى اهلل على نبينا حممد وعلى آله وصحبه وسلَّم‪.‬‬

‫اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‬


‫الرئيس‬ ‫نائب رئيس اللجنة‬ ‫عضو‬ ‫عضو‬
‫( ‪)1‬‬
‫عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز‬ ‫عبد الرزاق عفيفي‬ ‫عبد اهلل بن غديان‬ ‫عبد اهلل بن قعود‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء»‪.)44 ،45/2( :‬‬

‫‪-943-‬‬
‫المبحث السادس‬
‫إذا تعذر علو التوحيد‪ ،‬وإظهار البراءة من المشركين في بلد‪،‬‬
‫أصبحت دار كفر وشرك‪ ،‬ووجب على الموحدين الهجرة منها‪،‬‬
‫ليتمكنوا من إقامة دينهم‪ ،‬وإظهار البراءة من أعدائهم‬
‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫عما يقال يف اهلجرة من بني ظهراي املشركني‪ ،‬من البادية واحلاضرة‪،‬‬
‫وفضلها؟ وما الواجب منها؟ وما املستحب؟ وهل بني بادية جند وغريهم‪ ،‬كعنزة‬
‫والظفري‪ ،‬ومن واالهم من بادية الشمال واجلنوب‪ ،‬إىل ما ال خيفى على املسؤول؟‬
‫(حكم الهجرة‪ ،‬وفضلها‪ ،‬ودرجاتها)‬
‫فأجاب‪ :‬اهلجرة من واجبات الدين‪ ،‬ومن أفضل األعمال الصاحلة‪ ،‬وهي‬
‫سبب لسالمة دين العبد‪ ،‬وحفظ إلميانه‪ ،‬وهي أقسام‪ ،‬هجر‪ :‬احملرمات‪ ،‬اليت‬
‫حرمها اهلل يف كتابه‪ ،‬وحرمها رسول اهلل ‪ ‬على مجيع املكلفني‪ ،‬وأخرب أن‪« :‬من‬
‫هجرها فقد هجر ما حرمه اهلل عليه»‪ ،‬وقد أخرب ‪ ‬فيما صح عنه‪« :‬املهاجر‬
‫من هجر ما هنى اهلل عنه»‪.‬‬
‫وهذا أمر جممل شامل جلميع احملرمات‪ ،‬القولية والفعلية‪.‬‬
‫(حكم اإلقامة في ديار الكفر)‬
‫القسم الثاي‪ :‬اهلجرة من كل بلدة‪ ،‬تظهر فيها شعائر الشرك وأعالم الكفر‪،‬‬
‫ويعلن فيها باحملرمات‪ ،‬واملقيم فيها ال يقدر على إظهار دينه‪ ،‬والتصريح بالرباءة‬
‫من املشركني وعداوهتم‪ ،‬ومع هذا يعتقد كفرهم‪ ،‬وبطالن ما هم عليه‪ ،‬لكن إمنا‬
‫جلس بني ظهرانيهم‪ ،‬ش ًحا باملال والوطن‪ ،‬فهذا‬

‫‪-944-‬‬
‫حمرما‪ ،‬وداخل يف حكم الوعيد‪.‬‬ ‫عاص ومرتكب ً‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫يم كنت ْم‬ ‫ين تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئ َكة ظَالمي أَنْـفسه ْم قَالواْ ف َ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫اجرواْ فِ َيها‬‫ض قَالْواْ أَ َل تَكن أَرض اللي ِه و ِاسع ًة فَـتـه ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ني ِيف األ َْر ِ َ ْ ْ ْ‬
‫قَالواْ كنَّا مست ِ‬
‫ض َعف َ‬
‫َْ ْ‬
‫ضع ِفني ِمن ِّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك مأْواهم جهنَّم وس ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫ِّساء‬
‫الر َجال َوالن َ‬ ‫اءت َمص ًريا * إالَّ الْم ْستَ ْ َ َ َ‬ ‫فَأ ْولَـئ َ َ َ ْ َ َ َ َ‬
‫ك َع َسى الليه أَن يَـ ْعف َو‬ ‫َوالْ ِولْ َد ِان الَ يَ ْستَ ِطيعو َن ِحيلَةً َوالَ يَـ ْهتَدو َن َسبِيالً * فَأ ْولَـئِ َ‬
‫َعْنـه ْم َوَكا َن الليه َعف ًّوا َغف ًورا﴾ [النساء‪.]11 – 14 :‬‬
‫فلم يعذر اهلل إالَّ املستضعف‪ ،‬الذي ال يقدر على التخل من أيدي‬
‫املشركني ولو قدر ما عرف سلوك الطريق وهدايته‪ ،‬إىل غري ذلك من األعذار‪.‬‬
‫(حكم الخروج في صفوف المشركين لقتال المسلمين)‬
‫وقال ‪« :‬من جامع املشرك أو سكن معه فإنه مثله»‪ ،‬فال يقال إنه مبجرد‬
‫كافرا‪ ،‬بل املراد‪ :‬أن من عجز عن اْلروج من بني‬ ‫اجملامعة واملساكنة يكون ً‬
‫كرها‪ ،‬فحكمه حكمهم يف القتل‪ ،‬وأخذ املال‬ ‫ظهراي املشركني‪ ،‬وأخرجوه معهم ً‬
‫اخيتارا‪ ،‬أو أعاهنم ببدنه‬
‫طوعا و ً‬
‫ال يف الكفر‪ ،‬وأما إن خرج معهم لقتال املسلمني ً‬
‫وماله‪ ،‬فال شك أن حكمه حكمهم يف الكفر‪.‬‬
‫(األدلة على حرمة اإلقامة بين أظهر المشركين‪ ،‬ل سيما عند العجز عن‬
‫إقامة الدين)‬
‫ويف القرآن الكرمي والسنَّة النبوية ما يدل ‪-‬من يف قلبه حياة‪ -‬على املنع من‬
‫صرحوا بالنهي عن إقامة املسلم بني‬ ‫ذلك‪ ،‬وكالم العلماء مرشد إىل ذلك‪ ،‬فإهنم َّ‬
‫ين ظَلَمواْ﴾‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫أظهر املشركني من غري إظهار دينه‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬والَ تَـ ْرَكنواْ إ َىل الذ َ‬
‫ين َك َفرواْ﴾ [املائدة‪،]15 :‬‬ ‫َّ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫[هود‪ ،]993 :‬وقال‪﴿ :‬تَـَرى َكث ًريا ِّمْنـه ْم يَـتَـ َول ْو َن الذ َ‬
‫اسقو َن﴾ [املائدة‪.]19 :‬‬ ‫ـك َّن َكثِريا ِّمْنـهم فَ ِ‬
‫إىل قوله‪﴿ :‬ولَ ِ‬
‫ً ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َتـَوفَّاهم الْ َمآلئ َكة ظَالمي أَْنـفس ِه ْم﴾ [النساء‪ ،]14 :‬إىل‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬

‫‪-946-‬‬
‫يما ﴾ [النساء‪ ،]15 :‬قال ابن كثري يف‬ ‫قوله‪ ﴿ :‬وكان اهلل غف ِ‬
‫ورا رح ا‬
‫ا‬
‫الكالم على هذه اآلية‪ ،‬وهذه اآلية‪ :‬عامة يف كل من أقام بني أظهر املشركني‪،‬‬
‫وهو قادر على اهلجرة‪ ،‬وليس متمكنًا من إقامة الدين‪ ،‬فهو مرتكب حر ًاما‬
‫باإلمجا ‪ ،‬ون هذه اآلية‪ ،‬واآليات يف هذا املعى كثرية يعرفها من قرأ القرآن‬
‫وتدبره‪.‬‬
‫ويف األحاديث املأثورة عن النيب ‪ ‬ما يدل على ما دل عليه القرآن‪ ،‬مثل‬
‫قوله ‪« :‬من جامع املشرك وسكن معه فإنه مثله»‪ ،‬وقوله ‪« :‬وال تستضيئوا‬
‫بنار املشركني»‪ .‬وحديث هبز بن حكيم‪« :‬أن تفر من شاهق إىل شاهق‬
‫بدينك»‪.‬‬
‫قال ابن كثري معناه‪ :‬ال تقاربوهم يف املنازل‪ ،‬حبيث تكونوا معهم يف بالدهم‪،‬‬
‫بل تباعدوهم‪ ،‬وهتاجروا من بالدهم‪ ،‬وهلذا روى أبو داود فقال‪« :‬ال تراءى‬
‫نارامها»‪.‬‬
‫ويف قصة إسالم جرير ملا قال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬بايعن واشرتط‪ ،‬فقال‪« :‬أن‬
‫تعبد اهلل وال تشرك به شيئًا‪ ،‬وتقيم الصالة‪ ،‬وتؤيت الزكاة‪ ،‬وتفارق املشركني»‪،‬‬
‫وعن عبد اهلل بن عمرو‪ ،‬أنه قال‪ :‬من بى بأرض املشركني‪ ،‬وصنع نريوزهم‬
‫ومهرجاهنم‪ ،‬وتشبَّه هبم حىت ميوت‪ ،‬ح ِشر معهم يوم القيامة‪.‬‬
‫وكالم العلماء يف املنع من اإلقامة عند املشركني‪ ،‬وحترمي جمامعتهم‪ ،‬ووجوب‬
‫أئمة هذه الدعوة اإلسالمية‪ ،‬كالشيخ حممد‬ ‫خصوصا َّ‬
‫ً‬ ‫مباينتهم‪ ،‬كثري معروف‪،‬‬
‫بن عبد الوهاب‪ ،‬وأوالده‪ ،‬وأوالدهم‪ ،‬وأتباعهم من أهل العلم والدين‪ ،‬ففي‬
‫الس ْم َع َوه َو‬
‫كتبهم من ذلك ما يكفي ويشفي من ﴿ َكا َن لَه قَـْلب أ َْو أَلْ َقى َّ‬
‫َش ِهيد﴾ [ق‪.]34 :‬‬
‫فمن ذلك ما قال الشيخ‪ :‬عبد الطيف‪ ،‬يف بعض رسائل‪ :‬إن اإلقامة ببلد‬
‫يعلو فيها الشرك‪ ،‬والكفر‪ ،‬ويظهر فيها دين اإلفرنج‪ ،‬والروافض‪ ،‬وحنوهم‬

‫‪-945-‬‬
‫من املعطلة للربوبية واأللوهية‪ ،‬وترفع فيها شعائرهم‪ ،‬ويهدم اإلسالم‬
‫والتوحيد‪ ،‬ويعطل التسبيح والتكبري والتحميد‪ ،‬وتقلع قواعد امللة واإلميان‪ ،‬وحيكم‬
‫بينهم حبكم اإلفرنج واليونان‪ ،‬ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان‪.‬‬
‫فاإلقامة بني ظهرانيهم ‪ -‬واحلالة هذه ‪ -‬ال تصدر عن قلب باشره حقيقة‬
‫اإلسالم واإلميان والدين‪ ،‬وعرف ما جيب من حق اهلل يف اإلسالم على املسلمني‪،‬‬
‫نبيا‪ ،‬فإن الرضا‬
‫بل ال يصدر عن قلب رضي باهلل ربًا‪ ،‬وباإلسالم دينًا‪ ،‬ومبحمد ً‬
‫هبذه األصول الثالثة قطب رحى الدين‪ ،‬وعليه تدور حقائق العلم واليقني‪ ،‬وذلك‬
‫يتضمن من حمبة اهلل وإيثار مرضاته‪ ،‬والغرية لدينه واالحنياز إىل أوليائه‪ ،‬ما يوجب‬
‫عمن تلك حنلته‪ ،‬وذلك دينه‪ ،‬بل نفس‬ ‫الرباءة كل الرباءة‪ ،‬والتباعد كل التباعد َّ‬
‫اإلميان املطلق يف الكتاب والسنة‪ ،‬ال جيامع هذه املنكرات‪ .‬انتهى كالمه رمحه‬
‫اهلل‪.‬‬
‫وأما السؤال عن حكم املقيم يف بلدان املشركني‪ ،‬من املنتسبني إىل اإلسالم‪،‬‬
‫فهذا اجلنس من الناس مشرتكون يف فعل ما هنى اهلل عنه ورسوله‪ ،‬إالَّ من عذره‬
‫ني﴾ [النساء‪ ،]11 :‬مث هم خمتلفون يف‬ ‫القرآن يف قوله‪﴿ :‬إِالَّ الْمست ِ‬
‫ض َعف َ‬ ‫َْ ْ‬
‫املراتب‪ ،‬متفاوتون يف الدرجات حبسب أحواهلم‪ ،‬وما حيصل منهم من مواالة‬
‫كفرا وقد يكون دونه‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫املشركني والركون إليهم‪ ،‬فإن ذلك قد يكون ً‬
‫ك بِ َغافِل َع َّما يَـ ْع َملو َن﴾ [األنعام‪»]932 :‬‬ ‫ِ‬
‫﴿ َولكل َد َر َجات ِّممَّا َع ِملواْ َوَما َربُّ َ‬
‫(‪)1‬‬
‫‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)452 – 466/1( :‬‬

‫‪-944-‬‬
-941-
‫الفصل الثامن‬
‫األسماء والصفات‬
‫ومنهج السلف في اإليمان بها‬

‫وفيه مبحثان‪:‬‬

‫املبحث األول‪ :‬منهج السلف الصاحل يف اإلميان بأمساء اهلل وصفاته‪.‬‬

‫املبحث الثاي‪ :‬داللة أمساء اهلل احلسى وصفاته العال على أنه املبعود‬
‫وحده بال شريك‪.‬‬

‫‪-941-‬‬
-915-
‫المبحث األول‬
‫منهج السلف الصالح في اإليمان بأسماء اهلل وصفاته‬

‫جيب اإلميان بأمساء اهلل احلسى وصفاته العال‪ ،‬وإثباهتا على وجه يليق جبالله‬
‫وعظمته‪ ،‬إثباتًا بال َتثيل‪ ،‬وتنز ًيها بال تعطيل‪ ،‬وهذه القاعدة مطردة يف كل‬
‫صفات الرب سبحانه‪ :‬نؤمن بألفاظها‪ ،‬ونثبت حقائقها‪ ،‬ونفوض يف كيفياهتا‪،‬‬
‫ألنه ال يعلم كيف هو إالَّ هو سبحانه‪ ،‬وألن الكالم يف الصفات فر عن‬
‫الكالم يف الذات‪ ،‬فكما نثبت ذاتًا بال كيفية فكذلك نثبت صفاهتا بال كيفية‪.‬‬
‫والقول الشامل يف هذا‪ :‬أنا نصف اهلل مبا وصف به نفسه ووصفه به رسوله‬
‫‪ ،‬ال نتجاوز يف ذلك نصوص الكتاب والسنة بفهم وبيان حامليها من‬
‫الصحابة الكرام‪ ،‬ومن سار على درهبم‪ ،‬واقتفى أثرهم‪.‬‬
‫قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما اهلل تعالى في بيان عقيدته‬
‫ألهل القصيم‪:‬‬
‫ضري ِمن املالئكة‪ ،‬وأ ْش ِهدكم‪:‬‬
‫ومن َح َ‬ ‫ِ‬
‫«بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ :‬أ ْشهد اهلل َ‬
‫اعتق َدتْه الفرقة الناجية‪ ،‬أهل السنَّة واجلماعة‪ ،‬من اإلميان باهلل‪،‬‬
‫َي أعتقد ما َ‬ ‫أ ِّ‬
‫ومالئكته‪ ،‬وكتبه ورسله‪ ،‬والبعث بعد املوت‪ ،‬واإلميان بالقدر خريه وشره‪ ،‬ومن‬
‫اإلميان باهلل‪ :‬اإلميان مبا وصف به نفسه يف كتابه على لسان رسوله ‪ ‬من غري‬
‫حتريف وال تعطيل‪ ،‬بل أعتقد أن اهلل سبحانه وتعاىل ليس كمثله شيء وهو‬
‫حرف الكلم عن‬ ‫السميع البصري‪ ،‬فال أنفي عنه ما وصف به نفسه‪ ،‬وال أ ِّ‬
‫مواضعه‪ ،‬وال أحلد يف أمسائه وآياته‪ ،‬وال أكيف‪ ،‬وال أمثل صفاته تعاىل بصفات‬
‫مسى له‪ ،‬وال كفؤ له‪ ،‬وال ند له‪ ،‬وال يقاس خبلقه‪.‬‬
‫خلقه‪ ،‬ألنه تعاىل ال َّ‬

‫‪-919-‬‬
‫فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغريه‪ ،‬وأصدق قيالً‪ ،‬وأحسن حديثًا‪ ،‬فنزه نفسه‬
‫عما وصفه به املخالفون من أهل التكييف والتمثيل‪ ،‬وعما نفاه عنه النافون من‬
‫صفو َن * َو َسالَم‬ ‫ب الْعَِّزةِ ع َّما ي ِ‬
‫ك َر ِّ‬
‫أهل التحريف والتعطيل‪ ،‬فقال‪﴿ :‬سْب َحا َن َربِّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫احلَ ْمد لِلَّ ِه َر ِّ‬ ‫ِ‬
‫(‪)1‬‬
‫ني﴾ [الصافات‪»]912 – 915 :‬‬ ‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫ني * َو ْ‬
‫َعلَى الْم ْر َسل َ‬
‫‪.‬‬
‫وقال الشيخ حممد بن عبد اللطيف رمحهما اهلل تعاىل‪:‬‬
‫«ومما تعتقده وندين اهلل به‪ :‬اإلميان باهلل‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬والبعث‬
‫بعد املوت‪ ،‬واإلميان بالقدر خريه وشره‪ ،‬ونؤمن بأمساء اهلل تعاىل وصفاته‪ ،‬ونثبت‬
‫ذلك على ما يليق جبالله وعظمته‪ ،‬إثباتًا بال َتثيل‪ ،‬وننزه اهلل عما ال يليق جبالله‪،‬‬
‫تنز ًيها بال تعطيل‪ ،‬ونعتقد أن اهلل سبحانه وتعاىل مستو على عرشه‪ ،‬عال على‬
‫خلقه‪ ،‬وعرشه فوق السماوات‪ ،‬وهو بائن عن خملوقاته‪ ،‬وال خيلو مكان من‬
‫استَـ َوى﴾ [طه‪ ،]6 :‬فنؤمن باللفظ‪،‬‬ ‫الر ْمحَن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ‬ ‫علمه‪ ،‬قال تعاىل‪َّ ﴿ :‬‬
‫ونثبت حقيقة االستواء‪ ،‬وال نكيف وال منثل‪ ،‬ألنه ال يعلم كيف هو‪ ،‬إالَّ هو‪.‬‬
‫قال إمام دار اهلجرة مالك بن أنس رمحه اهلل ‪ -‬وبقوله نقول‪ ،-‬وقد سأله‬
‫رجل عن االستواء فقال‪ :‬االستواء معلوم‪ ،‬والكيف جمهول‪ ،‬واإلميان به واجب‪،‬‬
‫والسؤال عنه بدعة‪ :‬فأثبت مالك رمحه اهلل االستواء‪ ،‬ونفى علم الكيفية‪ ،‬وكذلك‬
‫اعتقادنا يف مجيع أمساء الرب وصفاته‪ ،‬من اإلميان باللفظ‪ ،‬وإثبات احلقيقة‪ ،‬ونفي‬
‫علم الكيفية‪.‬‬
‫والقول الشامل يف ذلك‪ :‬أنَّا نصف اهلل مبا وصف به نفسه‪ ،‬ووصف به‬
‫رسوله ‪ ،‬ال نتجاوز القرآن واحلديث‪ ،‬فمن شبَّه اهلل خبلقه فقد كفر‪ ،‬ومن‬
‫س َك ِمثْلِ ِه َش ْيء‬‫جحد ما وصف اهلل به نفسه فقد كفر‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬لَْي َ‬

‫(‪ )1‬الدرر السنية (‪.)35 ،21/9‬‬

‫‪-912-‬‬
‫صري﴾ [الشورى‪.]99 :‬‬ ‫الس ِميع الب ِ‬
‫َوه َو َّ‬
‫َ‬
‫مسي له‪ ،‬وال كفو له‪ ،‬وهو أعلم بنفسه وبغريه‪ ،‬وأصدق‬ ‫فسبحان من ال َّ‬
‫قيالً‪ ،‬وأحسن حديثًا من خلقه‪.‬‬
‫ونؤمن مبا ورد‪« ،‬من أن اهلل تعاىل ينزل كل ليلة إىل مساء الدنيا‪ ،‬حني يبقى‬
‫ثلث الليل اآلخر‪ ،‬فيقول‪ :‬هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فاغفر‬
‫له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟»‪...‬‬
‫وباجلملة‪ :‬فعقيدتنا يف مجيع الصفات‪ ،‬الثابتة يف الكتاب والسنَّة‪ ،‬عقيدة أهل‬
‫منرها كما جاءت‪ ،‬مع إثبات حقائقها وما دلت‬ ‫السنَّة واجلماعة‪ ،‬نؤمن هبا‪ ،‬و ُّ‬
‫(‪)1‬‬
‫عليه‪ ،‬من غري تكييف وال َتثيل‪ ،‬ومن غري تعطيل وال تبديل وال تأويل» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن حممد بن عبد الوهاب رمحهم اهلل تعاىل‪:‬‬
‫«إن مذهبنا يف أصول الدين‪ ،‬مذهب أهل السنَّة واجلماعة‪ ،‬وطريقتنا طريقة‬
‫السلف‪ ،‬اليت هي الطريق األسلم‪ ،‬بل واألعلم واألحكم‪ ،‬خالفًا ملن قال طريق‬
‫اْللف أعلم‪.‬‬
‫نقر آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها‪ ،‬ونكل معناها‪ ،‬مع‬ ‫وهي‪ :‬أمنا ي‬
‫أجل علماء السلف‪ -‬ملا‬ ‫اعتقاد حقائقها إىل اهلل تعاىل‪ ،‬فإن مال ًكا ‪-‬وهو من ِّ‬
‫استَـ َوى﴾ [طه‪،]6 :‬‬‫الر ْمحَن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ‬
‫سئل عن االستواء يف قوله تعاىل‪َّ ﴿ :‬‬
‫قال‪ :‬االستواء معلوم‪ ،‬والكيف جمهول‪ ،‬واإلميان به واجب‪ ،‬والسؤال عنه‬
‫(‪)2‬‬
‫بدعة» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)645 – 649/9( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)225/9( :‬‬

‫‪-913-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫دللة أسماء اهلل الحسنى وصفاته العال‬
‫على أنه المعبود وحده بال شريك‬
‫أمساء اهلل احلسى‪ ،‬وصفاته العال يدالَّن‪ :‬على كماله وجالله وعظمته‪ ،‬وأنه‬
‫هو املعبود وحده‪ ،‬ال شريك له يف ربوبيته وألوهيته‪ ،‬وأن العبادة ال يصلح منها‬
‫عمن دوهنا‪ ،‬ومن مث نستطيع اجلزم بأن‬ ‫مقرب‪ ،‬وال نيب مرسل فضالً َّ‬ ‫شيء ملليك َّ‬
‫املشركني ل يقدروا اهلل حق قدره‪ ،‬ملا وقعوا يف عبادة غريه‪ ،‬وعدلوا به سواه‪ ،‬مع‬
‫أن الفرق بني عبادة اْلالق وعبادة املخلوق‪ ،‬كالفرق بني اْلالق وأمسائه وصفاته‪،‬‬
‫واملخلوق وأمسائه وصفاته‪.‬‬
‫قال الشيخ حممد بن عبد الوهاب يف كتابه التوحيد‪ ،‬وعبد الرمحن بن حسن‬
‫مجيعا يف شرحه عليه‪:‬‬‫رمحهم اهلل ً‬
‫ِ‬
‫ضته‬‫ما جاء يف قول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما قَ َدروا اللَّهَ َح َّق قَ ْد ِرهِ َو ْاأل َْرض َمج ًيعا قَـْب َ‬
‫ماوات َمطْ ِويَّات بِيَ ِمينِ ِه سْب َحانَه َوتَـ َع َاىل َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [الزمر‪:‬‬ ‫يَـ ْوَم الْ ِقيَ َام ِة َو َّ‬
‫الس َ‬
‫‪.]54‬‬
‫[الشرح]‬
‫ِ‬
‫ضته‬‫قوله‪ :‬باب قول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما قَ َدروا اللَّهَ َح َّق قَ ْد ِرهِ َو ْاأل َْرض َمج ًيعا قَـْب َ‬
‫ماوات َمطْ ِويَّات بِيَ ِمينِ ِه سْب َحانَه َوتَـ َع َاىل َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [الزمر‪:‬‬ ‫يَـ ْوَم الْ ِقيَ َام ِة َو َّ‬
‫الس َ‬
‫‪ ،]54‬أي‪ :‬من األحاديث واآلثار يف معى هذه اآلية الكرمية‪.‬‬
‫قال العماد ابن كثري رمحه اهلل تعاىل‪ :‬يقول تعاىل‪« :‬ما قدر املشركون اهلل‬
‫حق قدره حىت عبدوا معه غريه‪ ،‬وهو العظيم الذي ال أعظم منه‪ ،‬القادر على‬
‫كل شيء‪ ،‬املالك لكل شيء‪ ،‬وكل شيء حتت قهره وقدرته»‪.‬‬

‫‪-914-‬‬
‫قال جماهد‪ :‬نزلت يف قريش‪ .‬وقال السدي‪ :‬ما عظَّموه حق عظمته‪ .‬وقال‬
‫كذبوه‪ .‬وقال على بن أيب طلحة‪ :‬ناقالً‬ ‫حق قدره ما َّ‬ ‫حممد بن كعب‪ :‬لو قدروه َّ‬
‫عن ابن عباس‪ :‬هم الكفار الذين ل يؤمنوا بقدرة اهلل عليهم‪ ،‬فمن آمن أن اهلل‬
‫على كل شيء قدير فقد قدَّر اهلل حق قدره‪ ،‬ومن ل يؤمن بذلك فلم يقدِّر اهلل‬
‫حق قدره‪.‬‬
‫وقد ورد أحاديث كثرية متعلقة هبذه اآلية‪ ،‬الطريق فيها ويف أمثاهلا مذهب‬
‫السلف؛ وهو إمرارها كما جاءت من غري تكييف وال حتريف‪ ،‬وذكر حديث ابن‬
‫مسعود ما ذكره املصنف رمحه اهلل يف هذا الباب قال‪ :‬ورواه البخاري يف غري‬
‫موضع من صحيحه‪ ،‬واإلمام أمحد‪ ،‬ومسلم‪ ،‬والرتمذي‪ ،‬والنسائي‪ ،‬كلهم من‬
‫حديث سليمان بن مهران‪ ،‬وهو األعمش‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬عن عبيدة‪ ،‬عن ابن‬
‫مسعود بنحوه‪.‬‬
‫قال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا معاوية حدثنا األعمش‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬عن علقمة‪،‬‬
‫عن عبد اهلل قال‪ :‬جاء رجل من أهل الكتاب إىل النيب ‪ ‬قال‪« :‬يا أبا القاسم‬
‫أبلغك أن اهلل تعاىل جيعل اْلالئق على أصبع‪ ،‬والسموات على إصبع‪ ،‬وسائر‬
‫اْلالئق على إصبع‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا امللك؟ فضحك رسول اهلل ‪ ‬حىت بدت نواجذه‬
‫لفول احلرب‪ .‬قال‪ :‬وأنزل اهلل‪َ ﴿ :‬وَما قَ َدروا اللَّهَ َح َّق قَ ْد ِرهِ﴾ [الزمر‪.»]54 :‬‬
‫وهكذا رواه البخاري‪ ،‬ومسلم‪ ،‬والنسائي من طرق عن األعمش به‪...‬‬
‫(دللة صفات اهلل على كماله‪ ،‬وعظمته‪ ،‬وقدرته‪ ،‬ووحدانيته‪ ،‬في ربوبيته‬
‫وألوهيته)‬
‫قلت‪ :‬وهذه األحاديث وما يف معناها تدل على عظمة اهلل‪ ،‬وعظيم قدرته‪،‬‬
‫وعظم خملوقاته‪.‬‬

‫‪-916-‬‬
‫وقد تعرف سبحانه وتعاىل إىل عباده بصفاته‪ ،‬وعجائب خملوقاته‪ ،‬وكلها‬
‫تعرف وتدل على كماله‪ ،‬وأنه هو املعبود وحده ال شريك له يف ربوبيته وإهليته‪،‬‬
‫وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق جبالل اهلل وعظمته‪ ،‬إثباتًا بال َتثيل‪،‬‬
‫وتنز ًيها بال تعطيل‪ ،‬وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنَّة‪ ،‬وعليه‬
‫سلف األمة وأئمتها‪ ،‬ومن تبعهم بإحسان‪ ،‬واقتفى أثرهم على اإلسالم واإلميان‪.‬‬
‫وتأمل ما يف هذه األحاديث الصحيحة من تعظيم النيب ‪ ‬ربه بذكر صفات‬
‫كماله‪ ،‬على ما يليق بعظمته وجالله‪ ،‬وتصديقه اليهود فيما أخربوا به عن اهلل‬
‫من الصفات‪ ،‬اليت تدل على عظمته‪.‬‬
‫وتأمل ما فيها من إثبات علو اهلل تعاىل على عرشه‪ ،‬ول يقل النيب ‪ ‬يف‬
‫شيء منها‪ :‬إن ظاهرها غري مراد‪ ،‬وإهنا تدل على تشبيه صفات اهلل بصفات‬
‫حقا بلغه أمني أمته‪ ،‬فإن اهلل أكمل به الدين‪ ،‬وأم به‬ ‫خلقه‪ ،‬فلو كان هذا ً‬
‫النعمة‪ ،‬فبليغ البالغ املبني‪ ،‬صلوات اهلل وسالمه عليه وعلى آله وصحبه ومن‬
‫تبعهم إىل يوم الدين‪ ،‬وتلقَّى الصحابة ‪ ‬عن نبيهم ‪ ‬ما وصف به ربه من‬
‫صفات كماله ونعوت جالله‪ ،‬فآمنوا به وآمنوا بكتاب اهلل‪ ،‬وما تضمنه من‬
‫الر ِاسخو َن ِيف الْعِْل ِم يَـقولو َن َآمنَّا بِِه‬
‫جل وعال‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َّ‬
‫صفات رهبم َّ‬
‫(‪)1‬‬ ‫كل ِّمن ِع ِ‬
‫ند َربِّـنَا﴾ [آل عمران‪. »]4 :‬‬ ‫ْ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪ )1‬فتح اجمليد (‪.)411 -413‬‬

‫‪-915-‬‬
‫الفصل التاسع‬
‫القضاء والقدر‬
‫ومنهج السلف في اإليمان به‬

‫وفيه ثالثة مباحث‪:‬‬

‫املبحث األول‪ :‬قواعد السلف الذهبية يف اإلميان بالقضاء والقدر‪.‬‬

‫املبحث الثاي‪ :‬وجوب التسليم لقضاء اهلل ومقدوراته العامة‪.‬‬

‫املبحث الثالث‪ :‬مثرات اإلميان بالقضاء والقدر‪.‬‬

‫‪-914-‬‬
-911-
‫المبحث األول‬
‫قواعد السلف الذهبية في اإليمان بالقضاء والقدر‬
‫ـ إن اإلميان بربوبية اهلل ال يقبل حىت يتم اإلميان بقضائه وقدره‪.‬‬
‫ـ واهلل سبحانه قدَّر اإلميان والطاعات وأسباهبا وأحبها‪ ،‬والكفر واملعاصي‬
‫وأسباهبا وكرهها‪.‬‬
‫ـ وقدرة اهلل الشاملة‪ ،‬وعلمه التام‪ ،‬وخلقه لكل شيء‪ ،‬وحكمته البالغة‪،‬‬
‫أصول اإلميان بالقدر والتسليم له‪.‬‬
‫ـ والشر يف مقدورات اهلل راجع إىل مفعوالته‪ ،‬ال إىل ذاته املقدسة وصفاته‬
‫العال‪ ،‬ويكون بسبب ظلم العبد وبغيه وجهله‪ ،‬ومن مث يستحيل إضافة الشر إليه‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫ـ وال يتم اإلميان بالقدر حىت يتيقن العبد أن ما أخطأه ل يكن ليصيبه‪ ،‬وما‬
‫أصابه ل يكن ليخطئه‪ ،‬إذ املقادير قد كتبت قبل اْللق خبمسني ألف عام‪ ،‬مث‬
‫رفعت األقالم وجفَّت الصحف‪.‬‬
‫ـ وال جناة من النريان وال قَبول للطاعات قبل القيام هبذا األصل‪ ،‬وحتقيقه وفق‬
‫مراد الرب سبحانه‪ ،‬وبيان رسول ‪ ،‬بفهم صحابته الكرام نقلة وحيه‪ ،‬وشريعته‪.‬‬
‫ـ وال يعن اإلميان بالقدر والتسليم له‪ :‬القعود عن أخذ األسباب‪ ،‬وفعل‬
‫السنن‪ ،‬املؤدية إىل حصول النفع واجتناب الضر‪ ،‬بل ينبغي فعل األسباب‬
‫واألخذ بالسنن‪ ،‬مع االعتماد والتوكل على اهلل حىت يتم للعبد توحيده وتتحقَّق‬
‫له عبوديته املخلوق من أجلها‪.‬‬

‫‪-911-‬‬
‫قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل في شرحه لكتاب التوحيد‪:‬‬
‫«باب ما جاء يف منكري القدر‬
‫[الشرح]‬
‫أي‪ :‬من الوعيد‪ .‬والقدر بالفتح والسكون‪ :‬ما يقدره اهلل من القضاء‪.‬‬
‫وملا كان توحيد الربوبية ال يتم إالَّ بإثبات القدر‪ ،‬قال القرطيب‪ :‬القدر مصدر‬
‫وقدرا إذا حصلت مبقداره‪،‬‬‫قدرا ً‬‫قدرت الشيء بتخفيف الدال أقدره وأقدره ً‬
‫تقديرا مشدد الدال‪ ،‬فإذا قلنا‪ :‬إن اهلل تعاىل قدر‬ ‫ويقال فيه‪ :‬قدرت أقدر ً‬
‫األشياء‪ ،‬فمعناه‪ :‬أنه تعاىل علم مقاديرها وأحواهلا وأزماهنا قبل إجيادها‪ ،‬مث أوجد‬
‫منها ما سبق يف علمه أنه يوجد على حنو ما سبق يف علمه‪ ،‬فال حمدث يف العال‬
‫العلوي والسفلي‪ ،‬إالَّ هو صادر عن علمه تعاىل وقدرته وإرادته‪ ،‬هذا هو املعلوم‬
‫من دين السلف املاضني‪ ،‬الذي دلَّت عليه الرباهني‪.‬‬
‫تنبيها على وجوب اإلميان‪،‬‬
‫ذكر املصنف ما جاء يف الوعيد فيمن أنكره‪ً ،‬‬
‫وهلذا ع يده النيب ‪ ‬من أركان اإلميان كما ثبت يف حديث جربيل ‪ ‬ملا سئل عن‬
‫اإلميان‪ ،‬فقال‪« :‬أن تؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر وتؤمن بالقدر‬
‫خريه وشره»‪ ،‬قال‪ :‬صدقت‪.‬‬
‫وعن عبد اهلل بن عمرو بن العاص قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬إن اهلل تعاىل‬
‫كتب مقادير اْلالئق قبل أن خيلق السموات واألرض خبمسني ألف سنة»‪،‬‬
‫قال‪ :‬وعرشه على املاء‪.‬‬
‫وعن ابن عمر رضي اهلل عنهما قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬كل شيء بقدر‬
‫حىت العجز والكيس» روامها مسلم يف صحيحه‪.‬‬
‫وعن علي ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬ال يؤمن عبـد حـىت يؤمن‬

‫‪-915-‬‬
‫بأربع‪ :‬يشهد أن ال إله إالَّ اهلل وأي رسول اهلل بعثن باحلق‪ ،‬ويؤمن باملوت‪،‬‬
‫والبعث بعد املوت‪ ،‬ويؤمن بالقدر»‪ ،‬رواه الرتمذي‪ ،‬وابن ماجه‪ ،‬واحلاكم يف‬
‫جدا قد أفردها العلماء بالتصنيف‪.‬‬
‫مستدركه‪ ،‬واألحاديث يف ذلك كثرية ً‬
‫قال البغوي يف «شرح السنَّة»‪ :‬اإلميان بالقدر فرض الزم‪ ،‬وهو أن يعتقد أن‬
‫اهلل تعاىل خالق أعمال العباد خريها وشرها‪ ،‬كتبها عليهم يف اللوح احملفوظ قبل‬
‫أن خيلقهم‪ .‬قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬واللَّه َخلَ َقك ْم َوَما تَـ ْع َملو َن﴾ [الصافات‪،]15 :‬‬
‫فاإلميان والكفر‪ ،‬والطاعة واملعصية كلها بقضاء اهلل وقدره وإرادته ومشيئته‪ ،‬غري‬
‫أنه يرضى اإلميان والطاعة ووعد عليهما الثواب‪ ،‬وال يرضى الكفر واملعصية‬
‫وأوعد عليهما بالعقاب‪...‬‬
‫(أصول أهل السنة في كيفية اإليمان بالقضاء والقدر‪ ،‬مع استعراض‬
‫لمذهب القدرية ولوازمه الفاسدة‪ ،‬وبيان بطالنه)‬
‫قال شيخ اإلسالم‪ :‬مذهب أهل السنة يف هذا الباب وغريه ما دل عليه‬
‫األولون من املهاجرين واألنصار‪ ،‬والذين‬ ‫الكتاب والسنَّة‪ ،‬وكان عليه السابقون َّ‬
‫اتبعوهم بإحسان وهو أن اهلل خالق كل شيء وربه ومليكه‪ ،‬وقد دخل يف ذلك‬
‫مجيع األعيان القائمة بأنفسها‪ ،‬وصفاهتا القائمة هبا‪ ،‬من أفعال العباد‪ ،‬وغري‬
‫أفعال العباد‪ ،‬وأنه سبحانه ما شاء كان وما ل يشأ ل يكن‪ ،‬فال يكون يف‬
‫الوجود شيء إالَّ مبشيئته وقدره‪ ،‬ال ميتنع عليه شيء شاءه‪ ،‬بل هو قادر على كل‬
‫شيء‪ ،‬وال يشاء شيئًا إالَّ وهو قادر عليه‪ ،‬وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون‪،‬‬
‫وما ل يكن لو كان كيف كان يكون‪ ،‬فقد دخل يف ذلك أفعال العباد وغريها‪،‬‬
‫وقد قدَّر مقادير اْلالئق قبل أن خيلقهم‪ ،‬قدر أرزاقهم وآجاهلم وأعماهلم‪ ،‬وكتب‬
‫ذلك وكتب ما يصريون إليه من سعادة وشقاوة‪ ،‬فهم يؤمنون خبلقه لكل شيء‪،‬‬
‫وقدرته على كل شيء‪ ،‬ومشيئته لكل ما كان‪،‬‬

‫‪-919-‬‬
‫وعلمه باألشياء قبل أن تكون‪ ،‬وتقديره هلا وكتابته إياها قبل أن تكون‪.‬‬
‫وغالة القدرية ينكرون علمه املتقدم وكتابته السابقة‪ ،‬ويزعمون أنه أمر وهنى‪،‬‬
‫وهو ال يعلم من يطيعه ممن يعصيه‪ ،‬بل األمر أنف‪ ،‬أي‪ :‬مستأنف‪ .‬وهذا القول‬
‫أول ما حدث يف اإلسالم‪ ،‬بعد انقراض عصر اْللفاء الراشدين‪ ،‬وبعد إمارة‬
‫معاوية بن أيب سفيان‪ ،‬يف زمن الفتنة‪ ،‬اليت كانت بني ابن الزبري وبن أمية‪ ،‬يف‬
‫آخر عصر عبد اهلل بن عمر‪ ،‬وعبد اهلل بن عباس‪ ،‬وغريمها من الصحابة‪.‬‬
‫وكان أول من ظهر ذلك عنه بالبصرة‪ :‬معبد اجلهن‪ ،‬فلما بلغ الصحابة قول‬
‫هؤالء تربءوا منهم‪ ،‬وأنكروا مقالتهم‪ ،‬مث ملا كثر خوض الناس يف القدر‪ ،‬صار‬
‫مجهورهم يقر بالعلم املتقدم‪ ،‬والكتاب السابق‪ ،‬ولكن ينكرون عموم مشيئة اهلل‪،‬‬
‫وعموم خلقه وقدرته‪ ،‬ويظنون أنه ال معى ملشيئته إالَّ أمره‪ ،‬فما شاء فقد أمره به‪،‬‬
‫وما ل يشأ ل يأمر به‪ ،‬فلزمهم أنه قد يشاء ما ال يكون‪ ،‬ويكون ما ال يشاء‪.‬‬
‫قادرا عليها‪ ،‬أو أن خي بعض‬ ‫خالقا ألفعال العباد‪ ،‬أو ً‬ ‫وأنكروا أن يكون اهلل ً‬
‫عباده من النعم مما يقتضي إمياهنم به‪ ،‬وطاعتهم له‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ميكن اإلميان والعمل الصاحل‬ ‫وزعموا أن نعمته اليت مبا‬
‫على الكفار كأيب جهل‪ ،‬وأيب هلب‪ ،‬مثل نعمته بذلك على أيب بكر وعمر‬
‫وعثمان وعلي‪ ،‬مبنزلة رجل دفع إىل والديه مبال قسمه بينهم بالسوية‪ ،‬ولكن‬
‫هؤالء أحدثوا أعماهلم الصاحلة‪ ،‬وهؤالء أحدثوا أعماهلم الفاسدة‪،‬‬
‫من غري نعمة خ َّ اهلل هبا املؤمنني‪ ،‬وهذا قول باطل‪ ،‬وقد قال‬
‫َسلَموا قل َّال ََتنُّوا َعلَ َّي إِ ْس َال َمكم‬ ‫ك أَ ْن أ ْ‬ ‫اهلل تعاىل‪َ﴿ :‬مينُّو َن َعلَْي َ‬
‫ني﴾ [احلجرات‪:‬‬ ‫ان إِن كنتم ِ ِ‬ ‫ب ِل اللَّه َمي ُّن علَيكم أَ ْن ه َداكم لِِْإلميَ ِ‬
‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َْ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب إلَْيكم ْاإلميَا َن َوَزيَّـنَه يف قـلوبِك ْم َوَكَّرَه إلَْيكم‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫‪ .]94‬وقال‪﴿ :‬ك َّن اللهَ َحبَّ َ‬

‫(‪ )1‬هكذا باألصل ولعلها‪ ،‬هبا‪.‬‬

‫‪-912-‬‬
‫ضالً ِّم َن اللَّ ِه َونِ ْع َمةً‬
‫الر ِاشدو َن * فَ ْ‬
‫ك هم َّ‬ ‫صيَا َن أ ْولَئِ َ‬ ‫الْك ْفر والْفس َ ِ‬
‫وق َوالْع ْ‬ ‫َ َ‬
‫َواللَّه َعلِيم َحكيم﴾ [احلجرات‪.]1 ،4 :‬‬
‫ِ‬
‫وقال ابن القيم ما معناه‪ :‬مراتب القضاء والقدر أربع مراتب‪:‬‬
‫األولى‪ :‬علم الرب سبحانه باألشياء قبل كوهنا‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬كتابة ذلك عنده يف األزل قبل خلق السموات واألرض‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬مشيئته املتناولة لكل موجود‪ ،‬فال خروج لكائن كما ال خروج له عن‬
‫علمه‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬خلقه هلا وإجياده وتكوينه‪ ،‬فاهلل خالق كل شيء‪ ،‬وما سواه خملوق‪.‬‬
‫قال‪ :‬وقال ابن عمر‪ ،‬والذي نفس ابن عمر بيده لو كان ألحدهم مثل أحد‬
‫ذهبًا مث أنفقه يف سبيل اهلل ما قبله اهلل منه حىت يؤمن بالقدر‪ .‬مث استدل بقول‬
‫النيب ‪« :‬اإلميان أن تؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر‪ ،‬وتؤمن‬
‫بالقدر خريه وشره» رواه مسلم‪...‬‬

‫(شبهة وجوابها)‬
‫فإن قلت‪ :‬كيف قال‪« :‬وتؤمن بالقدر خريه وشره»‪ ،‬وقد قال يف احلديث‪:‬‬
‫«والشر ليس إليك»‪.‬‬
‫قيل‪ :‬إثبات الشر يف القضاء والقدر إمنا هو باإلضافة إىل العبد‪ ،‬واملفعول إن‬
‫مقدرا عليه‪ ،‬فهو بسب جهله وظلمه وذنوبه‪ ،‬ال إىل اْلالق‪ ،‬فله يف ذلك‬ ‫كان ً‬
‫من احلِ َكم ما تقصر عنه أفهام البشر‪ ،‬ألن الشر إمنا هو بالذنوب وعقوباهتا يف‬
‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬فهو شر باإلضافة إىل العبد‪ ،‬أما باإلضافة إىل الرب سبحانه‬
‫وتعاىل‪ ،‬فكله خري وحكمة‪ ،‬فإنه صادر عن حكمه وعلمه‪ ،‬وما كان كذلك‬
‫فهو خري حمض بالنسبة إىل الرب سبحانه وتعاىل‪ ،‬إذ هو موجب‬

‫‪-913-‬‬
‫أمسائه وصفاته‪ ،‬وهلذا قال‪« :‬والشر ليس إليك»‪ ،‬أي‪َ :‬تتنع إضافته إليك‬
‫بوجه من الوجوه‪ ،‬فال يضاف الشر إىل ذاته وصفاته‪ ،‬وال أمسائه وال أفعاله‪ ،‬فإن‬
‫ذاته منزهة عن كل شر‪ ،‬وصفاته كذلك‪ ،‬إذ كلها صفات كمال‪ ،‬ونعوت‬
‫جالل‪ ،‬ال نق فيها بوجه من الوجوه‪ ،‬وأمساؤه كلها حسى‪ ،‬ليس فيها اسم ذم‬
‫وال عيب‪ ،‬وأفعاله حكمة ورمحة ومصلحة وإحسان وعدل‪ ،‬ال خترج عن ذلك‬
‫ألبتة‪ ،‬وهو احملمود على ذلك كله‪ ،‬فتستحيل إضافة الشر إليه‪...‬‬
‫وحاصله‪ :‬أن الشر راجع إىل مفعوالته‪ ،‬ال إىل ذاته وصفاته‪ ،‬ويتبَّني ذلك‬
‫مبثال ‪ -‬وهلل املثل األعلى‪ :-‬لو أن مل ًكا من ملوك العدل كان معروفًا بقمع‬
‫مقيما للحدود والتعزيزات الشرعية على أرباب‬ ‫املخالفني وأهل الفساد‪ً ،‬‬
‫خريا حيمده عليه امللوك‪ ،‬وميدحه الناس ويشكرونه على‬‫لعدوا ذلك ً‬‫أصحاهبا‪ ،‬و ُّ‬
‫شرا‬
‫ذلك‪ ،‬فهو خري بالنسبة إىل امللوك‪ ،‬ميدح ويثى به ويشكر عليه‪ ،‬وإن كان ً‬
‫بالنسبة إىل من أقيم عليه‪ ،‬فرب العاملني أوىل بذلك‪ ،‬ألن له الكمال املطلق من‬
‫مجيع الوجوه واالعتبارات‪.‬‬
‫أيضا فلوال الشر هل كان يعرف اْلري‪ ،‬فإن الضد ال يعرف إالَّ بضده‪ ،‬فإن‬
‫و ً‬
‫(‪)1‬‬
‫ل حتط به خ ًربا فاذكر كالم ابن عقيل يف الباب الذي قبل هذا‪ ،‬وأسلم‬
‫(‪)2‬‬
‫تسلم‪ ،‬واهلل أعلم» ‪.‬‬

‫(‪ )1‬قال ابن عقيل‪ :‬الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلَّدة بالذهب والفضة‪ً ،‬‬
‫ودارا مشيَّدة مملوءة‬
‫باْلدم والزينة؛ قال‪ :‬انظر إىل إعطائهم مع سوء أفعاهلم‪ ،‬وال يزال يعلنهم ويذم معطيهم حىت يقول‪:‬‬
‫فالن يصلي اجلماعات واجلمع‪ ،‬وال يؤذي الذر‪ ،‬وال يأخذ ما ليس له‪ ،‬ويؤدي الزكاة إذا كان له‬
‫مال‪ ،‬وحيج وجياهد‪ ،‬وال ينال خلة بقلبه‪ ،‬ويظهر اإلعجاب‪ ،‬كأنه ينطق‪ :‬إنه لو كانت الشرائع‬
‫فقريا؟‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ح ًقا‪ ،‬لكان األمر خبالف ما ترى‪ ،‬وكان الصاحل غنيًا‪ ،‬والفاسق ً‬
‫(‪« )2‬تيسري العزيز احلميد»‪.)451 – 452( :‬‬

‫‪-914-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫وجوب التسليم لقضاء اهلل‪ ،‬ومقدوراته العامة‬
‫ينبغي‪ :‬التسليم التام ملقدورات اهلل سبحانه بكل ما فيها من خري وشر‪،‬‬
‫فالقيام بالشكر ملا فيها من النعم‪ ،‬والصرب على ما هبا من النقم‪.‬‬
‫وهذا مفرق طريق بني‪ :‬املؤمنني واملنافقني يف اعتقادهم‪ ،‬ومنهجهم‪،‬‬
‫وسلوكهم‪ ،‬وصفاهتم‪.‬‬
‫الوهاب يف كتابه التوحيد‪ ،‬والشيخ عبد الرمحن بن‬
‫قال الشيخ حممد بن عبد َّ‬
‫حسن‪ ،‬رحم اهلل اجلميع‪ ،‬يف شرحه عليه‪:‬‬
‫«باب ما جاء في اللو»‬
‫وقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬يَـقولو َن لَْو َكا َن لَنَا ِم َن األ َْم ِر َش ْيء َّما قتِْلنَا َهاهنَا﴾ [آل‬
‫عمران‪.]964 :‬‬
‫[الشرح]‬
‫قوله باب ما جاء يف اللَّو‪ ،‬أي‪ :‬من الوعيد والنهي عن األمور املكروهة‪،‬‬
‫كاملصائب إذا جرى هبا القدر‪ ،‬ملا فيه من اإلشعار بعدم الصرب واألسى على ما‬
‫فات‪ ،‬مما ال ميكن استداركه‪.‬‬
‫فالواجب التسليم للقدر‪ ،‬والقيام بالعبودية الواجبة‪ ،‬وهو الصرب على ما‬
‫أصاب العبد مما يكره‪ .‬واإلميان بالقدر أصل من أصول اإلميان الستة‪ .‬وأدخل‬
‫املصنف رمحه اهلل تعاىل أداة التعريف على « يلو»‪ ،‬وهذه يف هذا املقام ال تفيد‬
‫تعر ًيفا كنظائرها‪ ،‬ألن املراد هذا اللفظ كما قال الشاعر‪:‬‬
‫ش ــدي ادا بأعب ــاء الخالف ــة كاهل ــه‬ ‫رأيـ ــت الوليـ ــد بـ ــن اليزيـ ــد مباراكـ ــا‬
‫وجل‪﴿ :‬يَـقولو َن لَْو َكا َن لَنَا ِم َن األ َْم ِر َش ْيء َّما قتِْلنَا‬
‫عز ي‬‫وقوله‪ ::‬وقول اهلل َّ‬
‫َهاهنَا﴾ [آل عمران‪.]964 :‬‬
‫قاله بعض املنافقني يوم أحد ْلوفهم وجزعهم وخورهم‪.‬‬

‫‪-916-‬‬
‫ين قَالواْ ِإل ْخ َواهنِِ ْم َوقَـ َعدواْ لَْو أَطَاعونَا َما قتِلوا﴾ [آل عمران‪:‬‬ ‫َّ ِ‬
‫وقوله‪﴿ :‬الذ َ‬
‫‪.]951‬‬
‫[الشرح]‬
‫(الفرق بين المؤمن والمنافق ساعة نزول البالء)‬
‫قال ابن إسحاق‪ :‬فحدثن حييي بن عبَّاد بن عبد اهلل بن الزبري عن أبيه عن‬
‫عبد اهلل بن الزبري قال‪ :‬قال الزبري‪« :‬لقد رأيتن مع رسول اهلل ‪ ‬حني اشتد‬
‫اْلوف علينا أرسل اهلل علينا النوم‪ ،‬فما منا رجل إالَّ ذقنه يف صدره‪ ،‬قال‪ :‬فواهلل‬
‫إي ألمسع قول معتب بن قشري ما أمسعه إالَّ كاحللم‪ ،‬لو كان لنا من األمر شيء‬
‫وجل‪﴿ :‬يَـقولو َن لَْو َكا َن‬ ‫عز ي‬ ‫ما قتلنا هاهنا‪ .‬فحفظتها منه‪ ،‬ويف ذلك أنزل اهلل َّ‬
‫لَنَا ِم َن األ َْم ِر َش ْيء َّما قتِْلنَا َهاهنَا﴾ [آل عمران‪ ،»]964 :‬لقول معتب‪ :‬رواه‬
‫ابن أيب حام‪.‬‬
‫ب َعلَْي ِهم الْ َقْتل إِ َىل‬ ‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬قل لَّو كنتم ِيف بـيوتِكم لَبـرز الَّ ِذ ِ‬
‫ين كت َ‬
‫ْ َ ََ َ‬ ‫ْ ْ‬
‫وجل‪،‬‬ ‫اجعِ ِه ْم﴾ [آل عمران‪ ،]964 :‬أي هذا قدر مقدَّر من اهلل َّ‬ ‫مض ِ‬
‫عز ي‬ ‫َ َ‬
‫وحكم حتم الزم ال حميد عنه وال مناص منه‪.‬‬
‫ين قَالواْ ِإل ْخ َواهنِِ ْم َوقَـ َعدواْ لَْو أَطَاعونَا َما قتِلوا﴾ [آل عمران‪:‬‬ ‫َّ ِ‬
‫وقوله‪﴿ :‬الذ َ‬
‫‪.]951‬‬
‫ين قَالواْ ِإل ْخ َواهنِِ ْم َوقَـ َعدواْ لَْو أَطَاعونَا َما قتِلوا﴾‬ ‫َّ ِ‬
‫قال العماد ابن كثري‪﴿ :‬الذ َ‬
‫[آل عمران‪ ،]951 :‬أي‪ :‬لو مسعوا مشورتنا عليهم بالعقود وعدم اْلروج ما‬
‫قتلوا مع من قتل‪ .‬قال اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ق ْل فا ْدرءوا ع ْن أنْـف ِسكم الْم ْوت إِ ْن كْنت ْم‬
‫ادقِين ﴾ [آل عمران‪ ،]951 :‬أي‪ :‬إذا كان القعود يسلم به الشخ من‬ ‫صِ‬

‫‪-915-‬‬
‫القتل واملوت‪ ،‬فينبغي لكم أن ال َتوتوا‪ ،‬واملوت ال بد آت إليكم‪ ،‬ولو‬
‫كنتم يف بروج مشيدة‪ ،‬فادفعوا عن أنفسكم املوت إن كنتم صادقني‪.‬‬
‫قال جماهد عن جابر بن عبد اهلل‪« :‬نزلت هذه اآلية يف عبد اهلل بن أيب‬
‫وأصحابه»‪ ،‬يعن أنه هو الذي قال ذلك‪.‬‬
‫وأخرج البيهقي عن أنس أن أبا طلحة قال‪« :‬غشينا النعاس وحنن يف مصافِّنا‬
‫يوم أحد‪ ،‬فجعل يسقط سيفي وآخذه‪ ،‬ويسقط وآخذه‪ .‬قال‪ :‬والطائفة األخرى‬
‫‪ -‬املنافقون ‪ -‬ليس هلا هم إالَّ أنفسهم‪ ،‬أجنب قوم‪ ،‬وأرعبه‪ ،‬وأخذله للحق‪،‬‬
‫اهلِيَّ ِة﴾ [آل عمران‪ ،]964 :‬إمنا هم أهل ريب‬ ‫اجل ِ‬ ‫﴿يَظنُّو َن بِاللي ِه َغْيـَر ْ‬
‫احلَ ِّق ظَ َّن َْ‬
‫عز وجل‪.‬‬ ‫وشك باهلل َّ‬
‫قوله‪﴿ :‬قَ ْد أ ََمهَّْتـه ْم أَنفسه ْم﴾ [آل عمران‪ ،]964 :‬يعن‪ :‬ال يغشاهم‬
‫اهلِيَّ ِة﴾ [آل‬
‫اجل ِ‬ ‫النعاس من القلق واجلز واْلوف ﴿يَظنُّو َن بِاللي ِه َغْيـَر ْ‬
‫احلَ ِّق ظَ َّن َْ‬
‫عمران‪.]964 :‬‬
‫قال شيخ اإلسالم رمحه اهلل‪ :‬ملا ذكر ما وقع من عبد اهلل بن أيب يف غزوة‬
‫أحد قال‪ :‬فلما اخنذل يوم أحد‪ ،‬وقال‪ :‬يد رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان أو‬
‫كما قال‪ :‬اخنذل معه خلق كثري‪ ،‬كان كثري منهم ل ينافق قبل ذلك‪ .‬فأولئك‬
‫(‪)1‬‬
‫كانوا مسلمني وكان معهم إميان‪ ،‬هو الضوء الذي ضرب اهلل به املثل ‪ .‬فلو‬
‫ماتوا قبل احملنة والنفاق‪ ،‬ملاتوا على اإلسالم‪ ،‬الذي يثابون عليه‪ ،‬ول يكونوا من‬
‫حقا الذين ارتدوا‬ ‫حقا‪ ،‬الذين امتحنوا فثبتوا على احملنة‪ ،‬وال من املنافقني ً‬ ‫املؤمنني ً‬
‫عن اإلميان باحملنة‪.‬‬
‫وهذا حال كثري من املسلمني يف زماننا أو أكـثرهم‪ ،‬إذا ابتلوا باحملنة‬

‫الس َماء فِ ِيه ظل َمات‬


‫صيِّب ِّم َن َّ‬
‫وجل‪﴿ :‬أ َْو َك َ‬
‫عز ي‬ ‫(‪ )1‬يشري شيخ اإلسالم رمحه اهلل تعاىل إىل قول اهلل َّ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َصابِ َعه ْم ِيف آذَاهنِِم ِّمن َّ ِ ِ‬
‫الص َواعق َح َذ َر الْ َم ْوت والليه حميط بالْكاف ِر َ‬
‫ين * يَ َكاد‬ ‫َ‬ ‫َوَر ْعد َوبَـ ْرق َْجي َعلو َن أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َضاء َهلم َّم َش ْواْ فيه َوإ َذا أَظْلَ َم َعلَْي ِه ْم قَامواْ﴾‬ ‫ص َاره ْم كلَّ َما أ َ‬ ‫الْبَـ ْرق َخيْطَف أَبْ َ‬
‫[البقرة‪.]25 ،91 :‬‬

‫‪-914-‬‬
‫كثريا وينافق كثري منهم‪،‬‬
‫اليت يتضعضع فيها أهل اإلميان؛ بنق إمياهنم ً‬
‫ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالبًا‪ ،‬وقد رأينا ورأى غرينا من هذا ما فيه‬
‫عربة‪.‬‬
‫وإذا كانت العافية‪ ،‬أو كان املسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمني‪،‬‬
‫وظاهرا‪ ،‬لكنه إميان ال يثبت على احملنة‪ ،‬وهلذا يكثر يف‬
‫ً‬ ‫باطنا‬
‫وهم مؤمنون بالرسل ً‬
‫هؤالء ترك الفرائض وانتهاك احملارم‪ ،‬وهؤالء من الذين قالوا آمنا‪ ،‬فقيل هلم‪﴿ :‬قل‬
‫اإلميَان ِيف قـلوبِك ْم﴾ [احلجرات‪،]94 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّلْ تـ ْؤمنوا َولَكن قولوا أ ْ‬
‫َسلَ ْمنَا َولَ َّما يَ ْدخ ِل ِْ‬
‫حقا‪ ،‬فإن هذا هو اإلميان إذا أطلق‬
‫أي‪ :‬اإلميان املطلق‪ ،‬الذي أهله هم املؤمنون ً‬
‫يف كتاب اهلل تعاىل‪ ،‬كما دل عليه الكتاب والسنَّة‪ .‬فلم حيصل هلم ريب عند‬
‫احملن‪ ،‬اليت تقلقل اإلميان يف القلوب‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫قوله‪ :‬وقد رأينا ورأي غرينا من هذا ما فيه عربة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وحنن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عربة عند غلبة العدو‪ ،‬من إعانتهم‬
‫العدو على املسلمني‪ ،‬والطعن يف الدين‪ ،‬وإظهار العداوة والشماتة‪ ،‬وبذل اجلهد‬
‫يف إطفاء نور اإلسالم‪ ،‬وذهاب أهله‪ ،‬وغري ذلك مما يطول ذكره‪ .‬واهلل‬
‫(‪)1‬‬
‫املستعان» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬فتح اجمليد»‪.)462 – 441/ ( :‬‬

‫‪-911-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫ثمرات اإليمان بالقضاء والقدر‬
‫قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه اهلل‪:‬‬
‫«إن من أعظم مثرات اإلميان بالقضاء والقدر‪:‬‬
‫صحة إميان الشخ بتكامل أركانه‪ ،‬ألن اإلميان بذلك من أركان اإلميان‬
‫الستَّة‪ ،‬اليت ال يتحقق إالَّ هبا؛ كما دل على ذلك الكتاب والسنَّة‪.‬‬
‫ومن مثرات اإلميان بالقضاء والقدر‪ :‬طمأنينة القلب وارتياحه‪ ،‬وعدم القلق‬
‫يف هذه احلياة‪ ،‬عندما يتعرض اإلنسان ملشاق احلياة؛ ألن العبد إذا علم أن ما‬
‫يصيبه فهو مقدَّر ال بد منه‪ ،‬وال ر َّاد له‪ ،‬واستشعر قول الرسول ‪« :‬واعلم أن‬
‫ما أصابك ل يكن ليخطئك‪ ،‬وما أخطأك ل يكن ليصيبك»؛ فإنه عند ذلك‬
‫تسكن نفسه ويطمئن باله؛ خبالف من ال يؤمن بالقضاء والقدر؛ فإنه تأخذه‬
‫يتربم باحلياة‪ ،‬وحياول اْلالص منها‪ ،‬ولو‬ ‫اهلموم واألحزان‪ ،‬ويزعجه القلق‪ ،‬حىت َّ‬
‫وتشاؤما‬
‫ً‬ ‫باالنتحار؛ كما هو مشاهد من كثرة الذين ينتحرون فر ًارا من واقعهم‪،‬‬
‫من مستقبلهم؛ ألهنم ال يؤمنون بالقضاء والقدر؛ فكان تصرفهم ذلك نتيجة‬
‫حتمية لسوء اعتقادهم‪...‬‬
‫ومن مثرات اإلميان بالقضاء والقدر‪ :‬الثبات عند مواجهة األزمات‪ ،‬واستقبال‬
‫مشاق احلياة بقلب ثابت‪ ،‬ويقني صادق‪ ،‬ال تزلزله األحداث‪ ،‬وال هتزه األعاصري؛‬
‫ألنه يعلم أن هذه احلياة دار ابتالء وامتحان وتقلب؛ كما قال تعاىل‪﴿ :‬الَّ ِذي‬
‫َع َمالً﴾‬ ‫َح َسن‬‫أْ‬ ‫أَيُّك ْم‬ ‫لِيَْبـل َوك ْم‬ ‫احلَيَا َة‬
‫َو ْ‬ ‫ت‬
‫الْ َم ْو َ‬ ‫َخلَ َق‬
‫[امللك‪.]2 :‬‬
‫اه ِدين ِمنكم و َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫الصاب ِر َ‬
‫ين َونَـْبـل َو‬ ‫ْ َ‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَنَْبـل َونَّك ْم َح َّىت نَـ ْعلَ َم الْم َج َ‬
‫َخبَ َارك ْم﴾ [حممد‪.]39 :‬‬ ‫أْ‬

‫‪-911-‬‬
‫كم جرى على رسول اهلل ‪ ،‬وعلى صحابته‪ ،‬من احملن والشدائد لكنهم‬
‫واجهوها باإلميان الصادق‪ ،‬والعزم الثابت‪ ،‬حىت اجتازوها بنجاح باهر‪ ،‬وما ذاك‬
‫صيبَـنَا إِالَّ َما‬ ‫إالَّ إلمياهنم بقضاء اهلل وقدره‪ ،‬واستشعارهم لقوله تعاىل‪﴿ :‬قل لَّن ي ِ‬
‫ب الليه لَنَا ه َو َم ْوالَنَا َو َعلَى اللي ِه فَـْليَتَـ َوَّك ِل الْم ْؤِمنو َن﴾ [التوبة‪.]69 :‬‬ ‫َكتَ َ‬
‫ومن مثرات اإلميان بالقضاء والقدر‪ :‬حتويل احملن إىل منح‪ ،‬واملصائب إىل‬
‫صيبَة إِالَّ بِِإ ْذ ِن اللَّ ِه َوَمن يـ ْؤِمن بِاللَّ ِه يَـ ْه ِد‬‫أجر؛ كما قال تعاىل‪﴿ :‬ما أَصاب ِمن ُّم ِ‬
‫َ َ َ‬
‫قَـْلبَه َواللَّه بِك ِّل َش ْيء َعلِيم﴾ [التغابن‪]99 :‬؛ قال علقمة‪« :‬هو الرجل تصيبه‬
‫املصيبة‪ ،‬فيعلم أهنا من عند اهلل‪ ،‬فريضى ويسلِّم»‪...‬‬
‫ومن مثرات اإلميان بالقضاء والقدر‪ :‬أنه يدفع اإلنسان إىل العمل واإلنتاج‬
‫والقوة والشهامة‪ ،‬فاجملاهد يف سبيل اهلل ميضي يف جهاده‪ ،‬وال يهاب املوت؛ ألنه‬
‫يعلم أن املوت ال بد منه‪ ،‬وأنه إذا جاء ال يؤخر‪ ،‬ال مينع منه حصون وال جنود‬
‫ككم الْ َم ْوت َولَْو كنت ْم ِيف بـروج ُّم َشيَّ َدة﴾ [النساء‪،]41 :‬‬ ‫﴿أَيْـنَما تَكونواْ ي ْد ِر ُّ‬
‫َ‬
‫ضاجعه ْم﴾ [آل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ب َعلَْيهم الْ َقْتل إ َىل َم َ‬ ‫ين كت َ‬ ‫﴿قل ل ْو كنت ْم يف بـيوتك ْم لَبَـَرَز الذ َ‬
‫عمران‪.]964 :‬‬
‫وهكذا حينما يستشعر اجملاهد هذه الدفعات القوية‪ ،‬من اإلميان بالقدر‪،‬‬
‫ميضي يف جهاده‪ ،‬حىت يتحقق النصر على األعداء‪ ،‬وتتوفر القوة لإلسالم‬
‫(‪)1‬‬
‫واملسلمني» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬اإلرشاد إىل تصحيح االعتقاد»‪.)354 – 359( :‬‬

‫‪-255-‬‬
‫ملخص مفيد‬
‫ألهم مسائل‪ ،‬وفوائد الباب األول‬

‫ـ «لقد» عال الشرك األرض‪ ،‬من أقصاها إىل أقصاها‪ ،‬قبيل قيام دعوة الشيخ‬
‫اجملدد اإلمام‪ /‬حممد بن عبد الوهاب «رمحه اهلل تعاىل»‪.‬‬
‫ـ «من» أعظم أسباب عودة الشرك‪ :‬دوران الناس مع األلفاظ اجملردة‪ ،‬دون‬
‫الوقوف مع املعاي‪ ،‬اليت ترتبت عليها األحكام‪ ،‬وأناطها هبا الشار‬
‫احلكيم‪.‬‬
‫ـ «اإلسالم»‪ :‬هو االستسالم هلل بالتوحيد‪ ،‬واالنقياد له بالطاعة‪ ،‬والرباءة من‬
‫الشرك وأهله‪.‬‬
‫ـ «جمرد» اإلتيان بلفظ الشهادة‪ ،‬من غري علم مبعناها‪ ،‬وال عمل مبقتضاها‪،‬‬
‫مسلما باإلمجا ‪.‬‬
‫ال يكون به املكلف ً‬
‫مسلما‪ ،‬حىت يلتزم بتوحيد‬
‫ـ «اإلقرار بتوحيد الربوبية»‪ ،‬ال يكون اإلنسان به ً‬
‫األلوهية‪ ،‬الذي يتميز به املسلم عن املشرك‪.‬‬
‫ـ «ال يصح دين اإلسالم» إال بالرباءة من الطواغيت املعبودة من دون اهلل‪،‬‬
‫وتكفريهم‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ـ «اإلله»‪ :‬هو املعبود‪ .‬هذا هو معناه املعروف بإمجا أهل العلم‪.‬‬
‫ـ «العبادة»‪ :‬اسم جامع لكل ما حيبه اهلل‪ ،‬من األقوال واألعمال‪ ،‬الباطنة‬
‫والظاهرة‪.‬‬
‫ـ «العبادة»‪ :‬هي التوحيد‪ ،‬ألن اْلصومة بني الرسل ‪ -‬صلوات اهلل وسالمه‬
‫عليهم ‪ -‬وأممهم كانت فيه‪.‬‬

‫‪-259-‬‬
‫ـ «العبادة» ال تسمى عبادة إال مع التوحيد‪ ،‬وال حتصل إال بالكفر‬
‫بالطاغوت‪ ،‬فإذا خالطها الشرك أفسدها‪ ،‬ألن اجتنابه شرط يف صحتها‪.‬‬
‫ـ «من خصائ اإلهلية»‪ :‬الكمال املطلق من مجيع الوجوه‪ ،‬الذي ال نق‬
‫فيه حبال؛ وذلك يقتضي إفراد اهلل بالعبادة وحده دون ما سواه‪.‬‬
‫وشرعا‪ ،‬وفطرة‪ .‬والشرك‪ :‬مستقر‬ ‫ـ «إفراد اهلل بالعبادة»‪ ،‬ثابت هلل عقالً‪ً ،‬‬
‫قبحه يف كل فطرة وعقل‪ ،‬وحمال أن جتيء به شريعة من الشرائع‪.‬‬
‫ـ «أصول التوحيد» العاصمة من الشرك والتنديد‪ ،‬قد اتفقت عليها‬
‫الرساالت‪ ،‬وتطابقت عليها النبوات‪ ،‬ومن مثي فال يسع أي عبد فيها إال‬
‫االتبا احملض‪ ،‬دون االبتدا واالجتهاد‪.‬‬
‫ـ «من» عبد غري اهلل فهو مشرك‪ ،‬ولو نطق بـ «ال إله إال اهلل»‪ ،‬ألنه تكلم‬
‫دل عليه‪ ،‬ول يقم مبا يقتضيه من التوحيد‬ ‫مبا ل يعمل به‪ ،‬ول يعتقد ما ي‬
‫واإلخالص‪.‬‬
‫ـ «الصدق واإلخالص متالزمان»‪ ،‬ال يوجد أحدمها بدون اآلخر‪ .‬فمن ل‬
‫خملصا فهو مشرك‪ ،‬ومن ل يكن صادقًا فهو منافق‪.‬‬
‫يكن ً‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ـ «حاجة» الناس إىل الرسل ضرورية‪ ،‬إذ ال ميكن معرفة تفاصيل األوامر‪،‬‬
‫والنواهي‪ ،‬وعامة الشرائع إال عن طريقهم‪.‬‬
‫ـ إذا ذهبت آثار الرسالة من األرض‪ ،‬أقام اهلل القيامة‪.‬‬
‫ـ «الغاية» من إرسال الرسل‪ :‬إفرادهم وحدهم بالطاعة املطلقة واملتابعة‪ ،‬فإذا‬
‫كانت الطاعة لغريهم‪ ،‬ل حتصل الفائدة املقصودة من إرساهلم‪.‬‬
‫ـ «التوحيد» يتضمن‪ ،‬ويستلزم‪ :‬حتكيم الرسول ‪ ‬يف كل موارد النزا ‪ ،‬وهذا‬
‫هو مقتضى الشهادتني‪ ،‬والزمها‪ ،‬الذي ال بد منه‪.‬‬

‫‪-252-‬‬
‫ـ «التحاكم» إىل غري الرسول ‪ ‬مفسد ومبطل لإلميان به‪.‬‬
‫ـ «لقد» حسم النيب ‪ ‬كل وسائل‪ ،‬ومواد الشرك‪ ،‬ليبقى التوحيد ً‬
‫خالصا‪.‬‬
‫ـ «بعث» النيب ‪ ‬بأشد الشرائع يف التوحيد‪ ،‬وأمسحها يف العمل‪.‬‬
‫ـ شام الرسول ‪ ‬كافر باإلمجا ‪ ،‬ومن شك يف كفره كفر‪.‬‬
‫ـ «من» أبغض شيئًا مما جاء به الرسول ‪ ‬كفر ولو عمل به‪.‬‬
‫ـ «من اعتقد»‪ :‬أن بعض الناس يسعه اْلروج عن شريعة حممد بن عبد اهلل‬
‫‪ ‬فقد كفر‪ ،‬وخلع ربقة اإلسالم عن عنقه‪.‬‬
‫ـ «أمجع» العلماء‪ :‬على كفر من استهزأ باهلل‪ ،‬أو بكتابه‪ ،‬أو برسوله ‪ ،‬أو‬
‫بدينه‪ ،‬ولو كان هازالً‪ ،‬ول يعتقد حقيقة االستهزاء‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫باملعصية‪ ،‬وحمله‪ :‬القلب‬ ‫ـ «اإلميان» قول وعمل‪ ،‬يزيد بالطاعة وينق‬
‫معا بإمجا السلف‪.‬‬ ‫واجلوارح ً‬
‫ـ «األعمال» داخلة يف مسمى اإلميان‪ ،‬بإمجا الصحابة‪ ،‬والتابعني‪.‬‬
‫ـ «األعمال الصاحلة» على اجلوارح‪ ،‬تكون على قدر ما يف القلب من‬
‫اإلميان‪.‬‬
‫ـ «اإلميان املطلق»‪ ،‬الذي يستحق صاحبه اجلنة‪ ،‬والنجاة من النريان هو‪:‬‬
‫فعل الواجبات وترك احملرمات‪.‬‬
‫وظاهرا‪ ،‬مع‬
‫ً‬ ‫ـ «مطلق اإلميان»‪ :‬اإلتيان باألركان اْلمسة‪ ،‬والعمل هبا باطنًا‬
‫اإلخالل ببعض الواجبات؛ وهذا اإلميان جيعل صاحبه يف املشيئة اإلهلية‪.‬‬
‫ـ «التوحيد»‪ :‬هو أصل اإلميان وأساسه‪ ،‬الذي تصلح به مجيع األعمال‪،‬‬
‫وتفسد بفساده بإمجا املسلمني‪ .‬ويف هذا األصل وقع النزا ‪ ،‬وله شر‬
‫اجلهاد‪ ،‬وبه انقسم العباد إىل مؤمنني وكافرين‪.‬‬

‫‪-253-‬‬
‫ـ «اإلميان» له أصل وشعب‪ .‬فأصله التوحيد‪ .‬وشعبه‪ :‬الطاعات‪ .‬و«الكفر»‬
‫له أصل وشعب‪ .‬فأصله‪ :‬الشرك‪ .‬وشعبه‪ :‬املعاصي‪.‬‬
‫ـ «من» سوى بني أصل اإلميان وشعبه‪ ،‬أو أصل الكفر وشعبه‪ ،‬يف األمساء‬
‫واألحكام‪ ،‬فهو خمال للكتاب والسنة‪ ،‬وخارج عن سبيل سلف األمة‪،‬‬
‫وداخل يف عموم أهل البد واألهواء‪.‬‬
‫مؤمنا‪ ،‬حىت‬
‫ـ «ال يلزم» من قيام شعبة من شعب اإلميان بعبد أن يكون ً‬
‫كافرا‪ ،‬حىت‬
‫يقوم به أصله؛ وال من قيام شعبة من شعب الكفر أن يكون ً‬
‫يقوم به أصله‪.‬‬
‫ـ «االستثناء» يف اإلميان جائز باعتبارين‪ :‬باعتبار املوافاة‪ .‬وباعتبار اإلخالل‬
‫يف العمل‪.‬‬
‫ـ «االستثناء» يف اإلميان ش ًكا حمرم بإمجا املسلمني‪.‬‬
‫ـ «كلما» ازداد العيد إميانًا‪ ،‬قوي خوفه من الكفر والنفاق‪ ،‬وعلى حسب‬
‫ضعفه يكون أمنه من سوء اْلاَتة‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ـ «الطاغوت»‪ :‬ما جتاوز به العبد ح يده‪ ،‬من معبود‪ ،‬أو متبو ‪ ،‬أو مطا ‪.‬‬
‫فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غري اهلل ورسوله ‪ ‬أو يعبدونه من‬
‫دون اهلل‪ ،‬أو يتبعونه على غري بصرية من اهلل أو يطيعونه فيما ال يعلمون‬
‫أنه طاعة هلل‪.‬‬
‫ـ «حتكيم» القوانني الوضعية‪ :‬حتكيم للطاغوت‪.‬‬
‫ـ «النظم املخالفة لشر اهلل» اليت وضعت للتحاكم إليها‪ ،‬مضاهاة لتشريع‬
‫اهلل‪ ،‬داخلة يف معى الطاغوت‪.‬‬
‫ـ «صفة الكفر بالطاغوت»‪ :‬أن تعتقد بطالن عبادة غري اهلل‪ ،‬وترتكها‪،‬‬
‫وتبغض‬

‫‪-254-‬‬
‫أهلها‪ ،‬وتعاديهم‪.‬‬
‫ـ «كل» من حكم بغري شر اهلل فهو‪« :‬طاغوت»‪.‬‬
‫ـ «ال» يصح دين اإلسالم إال بالرباءة من الطواغيت‪ ،‬وتكفريهم‪.‬‬
‫ـ «من» مدح الطواغيت‪ ،‬أو جادل عنهم‪ ،‬خرج من اإلسالم‪ ،‬ولو كان‬
‫قائما‪.‬‬
‫صائما ً‬
‫ً‬
‫ـ «من» عرف معى «ال إله إال اهلل»‪ ،‬عرف‪ :‬أن من شك‪ ،‬أو تردد يف كفر‬
‫من أشرك مع اهلل غريه‪ ،‬أنه ل يكفر بالطاغوت‪.‬‬
‫ـ «التوحيد»‪ :‬هو الكفر بكل طاغوت معبود من دون اهلل‪.‬‬
‫ـ «التحاكم» إىل الطاغوت‪ ،‬إميان به‪.‬‬
‫ـ «من» أطا العلماء واألمراء يف حترمي ما أحل اهلل‪ ،‬أو حتليل ما حرمه اهلل‪،‬‬
‫فقد اختذهم أربابًا من دون اهلل‪.‬‬
‫ـ «إذا» كانت احلكومة حتكم بغري ما أنزل اهلل‪ ،‬فهي حكومة غري إسالمية‪.‬‬
‫ـ «من» ل يرد مسائل النزا إىل الكتاب والسنة‪ ،‬فليس مبؤمن حقيقة‪ ،‬بل‬
‫مؤمن بالطاغوت‪ ،‬إلخالله بشرط من شروط اإلميان‪.‬‬
‫ـ «الذين» جعلوا القوانني الوضعية‪ ،‬برتتيب وختضيع كفار‪ ،‬وإن قالوا‪:‬‬
‫أخطأنا‪ ،‬وحكم الشر أعدل‪.‬‬
‫ـ «التشريع» حق هلل وحده‪ ،‬فمن احتكم إىل غري شر اهلل‪ ،‬من سائر‬
‫األنظمة‪ ،‬والقوانني البشرين‪ ،‬فقد اختذ أصحاهبا شركاء هلل يف تشريعه‪.‬‬
‫ـ «من» دعي إىل حتكيم الكتاب والسنة فأىب‪ ،‬كان من املنافقني‪.‬‬
‫ـ «من» دعا إىل حتكيم القوانني البشرية‪ ،‬فقد جعل له شري ًكا يف الطاعة‬
‫والتشريع‪.‬‬
‫موحدا‪ ،‬ألنه اختذ شري ًكا يف الطاعة‬
‫ـ «من» حكم القوانني البشرية ل يكن ً‬

‫‪-256-‬‬
‫والتشريع‪ ،‬ول يكفر بالطاغوت‪ ،‬بل آمن به‪.‬‬
‫ـ «من» خرج عن حكم اهلل‪ ،‬وعدل إىل ما سواه من القوانني الطاغوتية‪،‬‬
‫وجعلها شريعة مقدمة على الكتاب والسنة يف احلكم‪ ،‬فهو كافر جيب‬
‫قتاله‪ ،‬حىت يرجع إىل حكم اهلل وحده يف القليل والكثري‪.‬‬
‫ـ «كل» من حكم بغري شر اهلل‪ ،‬أو حاكم إىل غريه‪ ،‬فقد حكم‬
‫بالطاغوت‪ ،‬وحاكم إليه‪.‬‬
‫ـ «البلد» الذي حيكم فيه بالقانون الوضعي‪ ،‬ليس بلد إسالم‪ ،‬وجيب اهلجرة‬
‫منه على املستطيع‪.‬‬
‫ـ «من» حكم القانون البشري‪ ،‬وقال‪ :‬اعتقد أنه باطل‪ ،‬فهذا ال أثر له‪ ،‬بل‬
‫هو عزل للشر ‪ ،‬كمن عبد األوثان‪ ،‬واعتقد بطالهنا‪.‬‬
‫ـ «كل» دولة ال حتكم بشر اهلل‪ ،‬وال تنصا ألمره‪ ،‬فهي‪ :‬دولة جاهلية‪،‬‬
‫كافرة‪ ،‬ظاملة‪ ،‬فاسقة‪ ،‬بن اآليات احملكمات؛ وجيب على املسلمني‬
‫بغضها ومعاداهتا‪ ،‬وحيرم عليهم مودهتا ومواالهتا‪.‬‬
‫ـ «جمرد» االعتصام باإلسالم‪ ،‬مع عدم التزام شرائعه‪ ،‬ليس مبسقط للقتال‪،‬‬
‫بل القتال واجب حىت يكون الدين كله هلل‪ ،‬وحىت ال تكون فتنة‪.‬‬
‫ـ «اتفق العلماء» بغري خالف بينهم على أن‪ :‬كل طائفة ممتنعة عن التزام‬
‫شرائع اإلسالم‪ ،‬الظاهرة املتواترة‪ ،‬فإنه جيب قتاهلم حىت يلتزموا شرائعه‪،‬‬
‫وإن كانوا مع ذلك ناطقني بالشهادتني‪ ،‬وملتزمني بعض شرائعه‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ـ «من نواقض التوحيد»‪ :‬مواالة املشرك‪ ،‬والركون إليه‪ ،‬ونصرته‪ ،‬وإعانته‬
‫باليد‪ ،‬أو اللسان‪ ،‬أو املال‪.‬‬
‫وخلفا‪ ،‬من الصحابة‪ ،‬والتابعني‪ ،‬واألئمة‪ ،‬ومجيع أهل‬
‫سلفا ً‬ ‫ـ «أمجع العلماء» ً‬
‫مسلما‪ ،‬إال بالتجرد من الشرك األكرب‪ ،‬والرباءة‬
‫السنة‪ :‬أن املرء ال يكون ً‬
‫منه‪ ،‬وممن فعله‪.‬‬

‫‪-255-‬‬
‫ـ «أصل دين اإلسالم وقاعدته» أمران‪ :‬األمر بعبادة اهلل وحده‪ ،‬والتحريض‬
‫على ذلك واملواالة فيه‪ ،‬وتكفري من تركه‪ ،‬والنهي عن الشرك باهلل يف‬
‫عبادته‪ ،‬والتغليظ فيه‪ ،‬واملعاداة فيه‪ ،‬وتكفري من فعله‪.‬‬
‫ـ «ما جنا» من َشَرك هذا الشرك األكرب‪ ،‬إال من جرد توحيده له‪ ،‬وتقرب‬
‫مبقت املشركني إىل اهلل‪.‬‬
‫ـ «من قال»‪ :‬ال أعادي املشركني‪ ،‬أو عاداهم ول يكفرهم‪ ،‬فهذا ال يكون‬
‫مسلما‪.‬‬
‫ً‬
‫ـ «مظاهرة املشركني»‪ ،‬ومعاونتهم على املسلمني‪ ،‬من نواقض اإلسالم‪ ،‬والردة‬
‫عن الدين‪.‬‬
‫موحدا‪ ،‬وتارًكا‬
‫ً‬ ‫ـ «من قاتل» مع املشركني ضد املسلمني كفر‪ ،‬ولو كان‬
‫للشرك‪.‬‬
‫ـ «من أعان» املشركني على املسلمني‪ ،‬وأمدهم من ماله‪ ،‬مبا يستعينون به‬
‫على حرهبم‪ ،‬فقد كفر‪.‬‬
‫ـ «حمبة املشركني»‪ ،‬ونصرهتم على املسلمني‪ ،‬مكفر خمرج عن امللة‪.‬‬
‫ـ «كل من أقام بني أظهر املشركني‪ ،‬وهو قادر على اهلجرة‪ ،‬وليس متمكنًا‬
‫من إقامة الدين‪ ،‬فهو مرتكب حر ًاما باإلمجا ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ـ «من اإلميان باهلل»‪ :‬اإلميان مبا وصف به نفسه يف كتابه‪ ،‬وعلى لسان‬
‫رسوله ‪ ،‬من غري حتريف‪ ،‬وال تعطيل‪ ،‬وال تكييف‪ ،‬وال َتثيل‪.‬‬
‫ـ «من» شبه اهلل خبلقه فقد كفر‪ ،‬ومن جحد ما وصف اهلل به نفسه فقد‬
‫كفر‪.‬‬

‫‪-254-‬‬
‫ـ «إنا نقر» آيات الصفات‪ ،‬وأحاديثها على ظاهرها‪ ،‬ونكل معناها‪ ،‬مع‬
‫اعتقاد حقائقها إىل اهلل تعاىل‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ـ «ال يتم» اإلميان بالربوبية إال بإثبات القدر‪.‬‬
‫ـ «من» أركان اإلميان‪ :‬اإلميان بالقضاء والقدر‪.‬‬
‫ـ اإلميان والكفر‪ ،‬والكطاعة واملعصية‪ ،‬كلها بقضاء اهلل وقدره ومشيئته‬
‫وإرادته‪ ،‬غري أنه يرضى اإلميان والكاعة‪ ،‬ووعد عليها الثواب‪ ،‬وال يرضى‬
‫الكفر واملعصية‪ ،‬وأوعد عليهما العقاب‪.‬‬
‫ـ «مراتب» اإلميان بالقضاء والقدر‪ ،‬أربع مراتب‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬علم الرب سبحانه باألشياء قبل كوهنا‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬كتابة ذلك عنده يف األزل‪ ،‬قبل خلق السماوات واألرض‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬مشيئته املتناولة لكل موجود‪ ،‬فال خروج لكائن عنها‪ ،‬كما ال خروج‬
‫له عن علمه‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬خلقه هلا‪ ،‬وإجياده‪ ،‬وتكوينه‪ .‬فاهلل خالق كل شيء‪ ،‬وما سواه‬
‫خملوق‪.‬‬
‫ـ «يستحيل» إضافة الشر إىل اهلل سبحانه‪ ،‬ملوجب أمسائه احلسى وصفاته‬
‫العال‪ ،‬وألنه احملمود ‪ -‬جل يف عاله ‪ -‬على كل حال‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪-251-‬‬
‫الباب الثاني‬
‫الشرك والمشركون‬

‫وفيه مثانية فصول‪:‬‬

‫حد الشرك ودرجاته وأنواعه وأحكامه‪ ،‬مع بيان علَّة‬ ‫‪ُّ :‬‬ ‫الفصل األول‬
‫عدم مغفرته‪ ،‬ووجوب احلذر منه‪.‬‬
‫الفصل الثاي ‪ :‬العلم سبيل النجاة من الشرك‪ ،‬وإالَّ وقع باجلهل والتلبيس‬
‫وتغيري احلقائق‪.‬‬
‫الرد على أشهر‬
‫الفصل الثالث ‪ :‬الفتنة بالقبور واملفاسد املرتتبة عليها‪ ،‬مع ِّ‬
‫شبهات أهلها‪.‬‬
‫الفصل الرابع ‪ :‬الشفاعة وأنواعها وشروطها‪ ،‬وأسباب حتصيلها وموانع‬
‫احلرمان منها‪.‬‬
‫الفصل اْلامس ‪ :‬املشرك مغبون يف دينه إلخالله بكل قيود الكلمة العاصمة‬
‫إالَّ َّ‬
‫جمرد التلفُّظ هبا‪.‬‬
‫الفصل السادس ‪ :‬أشهر شبهات املشركني وعلمائهم‪ ،‬مع سهام الردود‬
‫عليها‪.‬‬
‫الفصل السابع ‪ :‬األدلة اجللية من الشريعة الربَّانية على كفر من عبد غري‬
‫اهلل تعاىل‪.‬‬
‫الفصل الثامن ‪ :‬علَّة قتال املشركني ووجوب الرباءة منهم‪ ،‬وحكم الدار إذا‬
‫غلبت عليها أحكام الشرك‪.‬‬

‫‪-251-‬‬
-295-
‫الفصل األول‬
‫حد الشرك ودرجاته وأنواعه وأحكامه‬
‫مع بيان علة عدم مغفرته‪ ،‬ووجوب الحذر منه‬

‫وفيه أربعة مباحث‪:‬‬

‫املبحث األول‪ :‬تعريف الشرك‪.‬‬


‫املبحث الثاي‪ :‬الشرك أكرب الكبائر‪ ،‬وبيان علة عدم مغفرته‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬أنوا الشرك ودرجاته وأحكامه‪.‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬خطر الشرك‪ ،‬ووجوب احلذر منه بتجنُّب أسبابه‪.‬‬

‫‪-299-‬‬
-292-
‫المبحث األول‬
‫تعريف الشرك‬

‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬


‫«والشرك‪ :‬جعل شريك هلل تعاىل فيما يستحقه وخيت به من العبادة الباطنة‬
‫والظاهرة‪ ،‬كاحلب واْلضو ‪ ،‬والتعظيم واْلوف‪ ،‬والرجاء واإلنابة‪ ،‬والتوُّكل‬
‫والنسك والطاعة‪ ...‬وحنو ذلك من العبادات‪.‬‬
‫فمن أشرك مع اهلل غريه يف شيء من ذلك فهو مشرك بربِّه‪ ،‬قد عدل به‬
‫ندا من خلقه‪ ،‬وال يشرتط يف ذلك أن يعتقد له شركة يف‬ ‫سواه‪ ،‬وجعل له ً‬
‫(‪)1‬‬
‫الربوبية‪ ،‬أو استقالالً بشيء منها» ‪.‬‬
‫وقال بعض علماء نجد‪:‬‬
‫«وكل من دعا من دون اهلل فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل‪ ،‬فقد أشرك‪َّ ،‬‬
‫ألن‬
‫(‪)2‬‬
‫صريه إهلًا» ‪.‬‬‫الدعاء اعرتاف بالعبودية‪ ،‬فبدعائه له َّ‬
‫وقال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان‪:‬‬
‫«فالشرك‪ :‬هو صرف شيء من أنوا العبادة لغري اهلل‪ ،‬كالدعاء‪ ،‬والذبح‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫والنذر‪ ،‬واالستغاثة بغري اهلل فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)256/92( :‬‬


‫(‪« )2‬جمموعة الرسائل واملسائل»‪.)541/6( :‬‬
‫الرد على أهل الشرك واإلحلاد‪.)43( :‬‬
‫(‪ )3‬اإلرشاد إىل صحيح االعتقاد و ِّ‬

‫‪-293-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫الشرك أكبر الكبائر‪ ،‬وبيان علة عدم مغفرته‬

‫الشرك أكرب الكبائر ملنافاته احلكمة املقصودة من إجياد اْللق‪ ،‬ويقع مع‬
‫التنق جبناب الرب سبحانه‪ ،‬بل وترتتَّب‬ ‫اجلهل‪ ،‬وختلف قصد السوء‪ ،‬وإرادة ُّ‬
‫التقرب به إىل اهلل زلفى‪...‬‬
‫أحكامه عليه‪ ،‬مع زعم ُّ‬
‫حد املغفرة ‪ -‬اليت وسعت السماوات واألرض‪،-‬‬ ‫فكيف خرج بكل هذا عن ِّ‬
‫وأصبح من أشنع الذنوب اليت يعصى هبا اهلل سبحانه؟‬
‫الرد على مجرم‬‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ‪ -‬في معرض ِّ‬
‫محرفاا بكالم اإلمام ابن القيم رحمه اهلل تعالى على التهوين من‬
‫أثيم يستدل ِّ‬
‫أمر الشرك والمشركين‪ :-‬قال اإلمام ابن القيم رحمه اهلل‪:‬‬
‫أن املشرك إمنا قصد تعظيم جناب الرب سبحانه‬ ‫ووقعت مسألة؛ وهي َّ‬
‫وتعاىل‪ ،‬وأنه لعظمته ال ينبغي ملثلي الدخول عليه إالَّ بالوسائط والشفعاء‪ ،‬كحال‬
‫امللوك‪ ،‬واملشرك ل يقصد االستهانة جبناب الرب‪ ،‬وإمنا قصد تعظيمه‪ ،‬فلم كان‬
‫وموجبا لسفك‬
‫ً‬ ‫وخملدا يف النار‪،‬‬
‫هذا القدر موجبًا لسخطه وغضبه تبارك وتعاىل‪ً ،‬‬
‫دماء أصحابه‪ ،‬واستباحة حرميهم وأمواهلم؟‪.‬‬
‫ويرتتَّب على هذا سؤال آخر‪ ،‬وهو أنه هل جيوز أن يشر اهلل سبحانه‬
‫التقرب إليه بالشفعاء والوسائل‪ ،‬ليكون حترمي هذا إمنا استفيد من‬
‫وتعاىل لعباده ُّ‬
‫الشر ‪ ،‬أم ذلك قبيح يف الفطر والعقول ميتنع أن تأيت به شريعة؟ بل جاءت‬
‫الشريعة بتقرير ما يف الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح‪.‬‬
‫وأما الشرك يف كونه ال يغفر من بني الذنوب‪ ،‬فأجاب عن هذا كله بقوله‪:‬‬
‫فنقول وباهلل التوفيق والتأييد‪ ،‬ومنه نستمد العون والتسديد‪ :‬فإنـه من‬

‫‪-294-‬‬
‫يهدي اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪ ،‬وال مانع ملا أعطى‪ ،‬وال‬
‫معطي ملا منه‪.‬‬
‫(أنواع الشرك)‪:‬‬
‫الشرك‪ :‬شرك يتعلَّق بذات املعبود وأمسائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬وشرك يف عبادته‬
‫ومعاملته‪ ،‬وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه وتعاىل ال شريك له يف ذاته وال يف‬
‫صفاته‪ ،‬وال يف أفعاله‪ .‬والشرك األول نوعان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬شرك التعطيل‪ ،‬وهو أقبح أنوا الشرك‪ ،‬كشرك فرعون‪ ،‬إذ قال‪:‬‬
‫ص ْر ًحا لَّ َعلِّي‬ ‫ِ‬
‫ني﴾ [الشعراء‪ ،]23 :‬وقال‪﴿ :‬يَا َه َامان ابْ ِن ِيل َ‬ ‫ب الْ َعالَم َ‬
‫﴿ َوَما َر ُّ‬
‫وسى َوإِ ِّي ألَظنُّه َك ِاذبًا﴾‬ ‫أَبـلغ األَسباب * أَسباب َّ ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫الس َم َاوات فَأَطَّل َع إ َىل إلَه م َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ْ‬
‫[غافر‪.]34 ،35 :‬‬
‫والشرك والتعطيل متالزمان‪ :‬فكل مشرك معطِّل‪ ،‬وكل معطِّل مشرك‪ ،‬لكن‬
‫مقرا باحلق سبحانه وتعاىل‬ ‫الشرك ال يستلزم أصل التعطيل‪ ،‬بل قد يكون املشرك ً‬
‫وصفاته‪ ،‬ولكنه عطَّل حق التوحيد‪....‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬شرك من جعل مع اهلل إهلًا آخر‪ ،‬ول يعطل أمساءه وصفاته‬
‫وربوبيته‪ ،‬كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثالثة فجعلوا املسيح إهلًا وأمه‬
‫إهلًا‪....‬‬
‫أمرا‪ ،‬فإنه يصدر‬ ‫أخف ً‬ ‫وأما الشرك يف العبادة فهو أسهل من هذا الشرك و ي‬
‫وجل‪،‬‬
‫عز ي‬ ‫يضر وينفع ويعطي ومينع إالَّ اهلل َّ‬
‫ممن يعتقد أنه ال إله إالَّ اهلل‪ .‬وأن ال ي‬
‫رب سواه‪ .‬ولكن ال خيل هلل معاملته وعبوديَّته‪ ،‬بل يعمل‬ ‫وأنه ال إله غريه‪ ،‬وال ي‬
‫حلظ نفسه‪ ،‬ولطلب الدنيا تارة‪ ،‬ولطلب الرفعة واملنزلة واجلاه عند اْللق تارة‪ ،‬فللَّه‬
‫تعاىل من عمله وسعيه نصيب‪...‬‬
‫وهذا الشرك ينقسم إىل مغفور‪ ،‬وأكرب‪ ،‬وأصغر‪.‬‬
‫والنو األول ينقسم إىل كبري وأكرب‪ ،‬وليس شيء منه مغفور‪.‬‬

‫‪-296-‬‬
‫فمنه‪ :‬الشرك باهلل يف احملبة والتعظيم‪ :‬أن حيب خملوقًا كما حيب اهلل‪ ،‬قال‬
‫ب‬ ‫َنداداً ِحيبُّونَـه ْم َكح ِّ‬
‫ون اللي ِه أ َ‬
‫َّخذ ِمن د ِ‬
‫َّاس من يـت ِ‬ ‫ِ‬
‫سبحانه وتعاىل فيه‪َ ﴿ :‬وم َن الن ِ َ َ‬
‫َش ُّد حبًّا لِّلي ِه﴾ [البقرة‪ ،]956 :‬وقال أصحاب هذا الشرك‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ين َآمنواْ أ َ‬
‫الليه َوالذ َ‬
‫ضالَل ُّمبِني * إِ ْذ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آلهلتهم يوم القيامة وقد مجعتهم اجلحيم‪﴿ :‬تَاللَّه إِن كنَّا لَفي َ‬
‫ني﴾ [الشعراء‪....]11 ،14 :‬‬ ‫نس ِّويكم بِر ِّ ِ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫فعدل املشرك َمن خلق السموات واألرض وجعل الظلمات والنور‪ ،‬مبن ال‬
‫ذرة يف السموات وال يف األرض‪ ،‬فيا له من عدل‬ ‫ميلك لنفسه وال لغريه مثقال َّ‬
‫تضمن أكرب الظلم وأقبحه‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ويتبع هذا الشرك‪ :‬الشرك به سبحانه وتعاىل يف األفعال واألقوال‪ ،‬واإلرادات‬
‫والنيات‪ ،‬والشرك يف األفعال‪ :‬كالسجود لغريه‪ ،‬والطواف بغري بيته‪ ،‬وحلق الرأس‬
‫وخضوعا لقربه‪ ،‬وتقبيل األحجار غري احلجر األسود الذي هو ميينه يف‬ ‫ً‬ ‫عبودية‬
‫األرض‪ ،‬أو تقبيل القبور واستالمها‪ ،‬والسجود هلا‪ ،‬وقد لعن النيب ‪ ‬من َّاختذ‬
‫قبور األنبياء والصاحلني مساجد يصلي هلل تعاىل فيها‪ ،‬فكيف مبن َّاختذها أوثانًا‬
‫يعبدها من دون اهلل؟‪...‬‬
‫ومن الشرك به سبحانه وتعاىل‪ :‬الشرك يف اللفظ‪ ،‬كاحللف بغري اهلل‪ ،‬كما‬
‫صححه احلاكم‬‫روى أمحد وأبو داود عنه ‪« :‬من حلف بغري اهلل فقد أشرك»‪َّ ،‬‬
‫وابن حبان‪ ،‬ومن ذلك قول القائل للمخلوق‪ :‬ما شاء اهلل وشئت‪ ،‬كما ثبت عن‬
‫النىب ‪ ‬أنه قال له رجل‪ :‬ما شاء اهلل وشئت‪ ،‬فقال‪« :‬أجعلتن هلل ً‬
‫ندا؟ قل‪ :‬ما‬
‫شاء اهلل وحده»‪....‬‬
‫وقل من‬
‫وأما الشرك يف اإلرادات والنييات‪ ،‬فذلك البحر الذي ال ساحل له‪َّ ،‬‬
‫التقرب إليه‪،‬‬
‫ينجو منه‪ ،‬فمن أراد بعمله غري وجه اهلل تعاىل‪ ،‬أو نوى شيئًا غري ُّ‬
‫وطلب اجلزاء منه‪ ،‬فقد أشرك يف نيته وإرادته‪.‬‬

‫‪-295-‬‬
‫واإلخالص أن خيل هلل يف أقوال وأفعاله وإرادته ونيِّته‪ .‬وهذه هي احلنيفية‬
‫ملَّة إبراهيم ‪ ‬اليت أمر اهلل هبا عباده كلهم‪ ،‬وال يقبل من أحد غريها‪ ،‬وهي‬
‫حقيقة اإلسالم‪﴿ :‬ومن يـبت ِغ َغيـر ا ِإلسالَِم ِدينًا فَـلَن يـ ْقبل ِمْنه وهو ِيف ِ‬
‫اآلخَرِة ِم َن‬ ‫ََ َ َ‬ ‫َ َ ََْ ْ َ ْ‬
‫ين﴾ [آل عمران‪ ،]16 :‬وهي ملَّة إبراهيم اليت َمن رغب عنها فهو أسفه‬ ‫ْ ِ‬
‫اْلَاس ِر َ‬
‫السفهاء‪.‬‬
‫فإذا عرفت هذه املقدمة‪ ،‬انفتَح لك باب اجلواب عن السؤال املذكور‪ ،‬فنقول‬
‫ومن اهلل تعاىل نستمد الصواب‪:‬‬

‫(تعريف الشرك وبيان علة عدم مغفرته)‬


‫وجل‪ .‬وهذا هو التشبيه يف‬
‫عز ي‬ ‫حقيقة الشرك‪ :‬هو تشبيه املخلوق باْلالق َّ‬
‫احلقيقة‪ ،‬ال إثبات صفات الكمال اليت وصف اهلل تعاىل هبا نفسه‪ ،‬ووصفه هبا‬
‫رسوله ‪ ،‬فعكس من نكس اهلل قلبه وأعمى عني بصريته فأركسه بنسبة األمر‪،‬‬
‫تعظيما وطاعة‪.‬‬
‫تشبيها‪ ،‬والتشبيه ً‬
‫وجعل التوحيد ً‬
‫فالشرك‪ :‬تشبيه املخلوق باْلالق يف خصائ اإلهلية‪.‬‬
‫التفرد مبلك الضر والنفع‪ ،‬والعطاء واملنع‪ .‬وذلك‬
‫فإن من خصائ اإلهلية‪ُّ :‬‬
‫يوجب تعلُّق الدعاء واْلوف‪ ،‬والرجا والتوُّكل به وحده‪.‬‬
‫فمن علَّق ذلك مبخلوق فقد شبَّهه باْلالق تعاىل‪ ،‬وجعل من ال ميلك لنفسه‬
‫شبيها ملن األمر كله‬
‫نشورا‪ ،‬فضالً عن غريه‪ً ،‬‬
‫نفعا وال موتًا وال حياة وال ً‬
‫ضرا وال ً‬
‫ً‬
‫له‪ .‬فأزمة األمور كلها بيده‪ ،‬ومرجعها إليه‪ ،‬فما شاء كان‪ ،‬وما ل يشأ ل يكن‪،‬‬
‫ال مانع ملا أعطى‪ ،‬وال معطي ملا منع‪ .‬بل إذا فتح لعبده باب رمحته ل ميسكها‬
‫أحد‪ ،‬وإن أمسكها عنه ل يرسلها إليه أحد‪.‬‬
‫فمن أقبح التشبيه‪ ،‬تشبيه هذا العاجز الفقري بالذات‪ ،‬بالقادر الغن بالذات‪.‬‬
‫ومن خصائ اإلهلية‪ :‬الكمال املطلق من مجيع الوجوه‪ ،‬الذي ال نق فيه‬

‫‪-294-‬‬
‫بوجه من الوجوه‪ ،‬وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده‪ ،‬والتعظيم‬
‫واإلجالل واْلشية والدعاء والرجاء واإلنابة والتوُّكل واالستعانة‪ ،‬وغاية ي‬
‫الذل مع‬
‫غاية احلب‪.‬‬
‫(الفطرة والعقل‪ ،‬والشر ‪ ،‬يدلُّون على وجوب التوحيد‪ ،‬واستحالة تشريع‬
‫الشرك)‬
‫وشرعا‪ ،‬وفطرة أن يكون هلل وحده‪ ،‬وميتنع عقالً‬
‫كل ذلك‪ ،‬جيب عقالً ً‬
‫وشرعا وفطرة أن يكون لغريه‪.‬‬
‫ً‬
‫فمن جعل شيئًا من ذلك لغريه فقد شبه ذلك الغري مبن ال شبيه له‪ ،‬وال مثل‬
‫وتضمنه غاية الظلم‪ ،‬أخرب‬‫ُّ‬ ‫له‪ ،‬وذلك أقبح التشبيه وأبطله‪ .‬ولشدَّة قبحه‪،‬‬
‫سبحانه وتعاىل عباده أنه ال يغفره‪ ،‬مع أنه كتب على نفسه الرمحة‪.‬‬
‫ومن خصائ اإلهلية‪ :‬العبودية اليت قامت على ساقني‪ ،‬ال قوام هلا بدوهنما‪:‬‬
‫الذل‪ .‬هذا َتام العبودية‪ ،‬وتفاوت منازل اْللق فيها حبسب‬‫غاية احلب مع غاية ي‬
‫تفاوهتم يف هذين األصلني‪.‬‬
‫فمن أعطى حبيه وذليه وخضوعه لغري هلل فقد شبَّهه به يف خال ح يقه‪ ،‬وهذا‬
‫من احملال أن جتيء به شريعة من الشرائع‪ ،‬وقبحه مستقر يف كل فطرة وعقل‪،‬‬
‫غريت الشياطني فطر أكثر اْللق وعقوهلم‪ ،‬وأفسدهتا عليهم‪ ،‬واجتالتهم‬ ‫ولكن َّ‬
‫عنها‪ ،‬ومضى على الفطرة األوىل من سبقت هلم من اهلل احلسى‪ ،‬فأرسل إليهم‬
‫نورا على‬
‫رسله‪ ،‬وأنزل عليهم كتبه مبا يوافق فطرهتم وعقوهلم‪ ،‬فازدادوا بذلك ً‬
‫نورهم يهدي اهلل لنوره من يشاء‪....‬‬
‫(سبب الشرك‪ :‬سوء الظن باهلل وكماله المطلق‪ ،‬وذلك أعظم الذنوب‬
‫عند اهلل سبحانه)‬
‫تبني هذا فهنا أصل عظيم‪ ،‬يكشف سر املسـألة‪ ،‬وهـو أ ين أعـظم‬‫إذا َّ‬

‫‪-291-‬‬
‫ظن به‬ ‫فإن املسيء به الظن‪ ،‬قد َّ‬ ‫الذنوب عند اهلل تعاىل هو‪ :‬إساءة الظن به‪َّ ،‬‬
‫توعد سبحانه‬ ‫فظن به ما يناقض أمساءه وصفاته‪ ،‬وهلذا َّ‬ ‫خالف كماله املقدَّس‪َّ ،‬‬
‫يتوعد به غريهم‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬علَْي ِه ْم‬ ‫وتعاىل الظانِّني به ظن السوء مبا ل َّ‬
‫اءت م ِ‬ ‫دائِرة َّ ِ ِ‬
‫ص ًريا﴾‬ ‫َّم َو َس ْ َ‬ ‫ب اللَّه َعلَْي ِه ْم َولَ َعنَـه ْم َوأ َ‬
‫َع َّد َهل ْم َج َهن َ‬ ‫الس ْوء َو َغض َ‬ ‫ََ‬
‫[الفتح‪.]5 :‬‬
‫وقد قال تعاىل ملن أنكر صفة من صفاته‪َ ﴿ :‬و َذلِك ْم ظَنُّكم الَّ ِذي ظَنَنتم‬
‫بِربِّكم أَرداكم فَأَصبحتم ِّمن ْ ِ‬
‫ين﴾ [فصلت‪ ]23 :‬وقد قال تعاىل عن‬ ‫اْلَاس ِر َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ ْ َ ْ َْ ْ‬
‫خليله إبراهيم ‪﴿ :‬إِ ْذ قَ َال ِألَبِ ِيه َوقَـ ْوِم ِه َما َذا تَـ ْعبدو َن * أَئِْف ًكا ِآهلَةً دو َن اللَّ ِه‬
‫ني﴾ [الصافات‪.]14 – 16 :‬‬ ‫ت ِريدو َن * فَما ظَنُّكم بِر ِّ ِ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬فما ظنكم أن جيازيكم إذا لقيتموه‪ ،‬وقد عبدم غريه؟!!‪ ،‬وما ظنكم‬
‫بأمسائه وصفاته وربوبيته من النق ‪ ،‬حىت أحوجكم ذلك إىل عبودية غريه؟!!‪،‬‬
‫كل شيء قدير‪ ،‬وأنه‬ ‫بكل شيء عليم‪ ،‬وعلى ِّ‬ ‫فلو ظننتم به ما هو أهله‪ :‬من أنَّه ِّ‬
‫غن عن كل ما سواه‪ ،‬وكل ما سواه فقري إليه‪ ،‬وأنه قائم بالقسط على خلقه؛‬
‫وأنه املنفرد بتدبري خلقه ال يشركه فيه غريه‪ ،‬والعال بتفاصيل األمور فال ختفى‬
‫عليه خافية من خلقه‪ ،‬والكايف هلم وحده ال حيتاج إىل معني‪ ،‬والرمحن بذاته فال‬
‫وتتوسلون‬ ‫حيتاج يف رمحته إىل من يستعطفه‪ ،‬ما َّاختذم من دونه أولياء تدعوهنم َّ‬
‫هبم إليه بزعمكم‪.‬‬
‫وهذا خبالف امللوك وغريهم من الرؤساء‪ ،‬فإهنم حمتاجون إىل من يعرفهم‬
‫أحوال الرعية وحوائجهم‪ ،‬ويعينهم على قضاء حوائجهم؛ وإىل من يسرتمحهم‪،‬‬
‫ويستعطفهم بالشفاعة‪ ،‬فاحتاجوا إىل الوسائط ضرورة‪ ،‬حلاجتهم‬
‫وعجزهم وضعفهم‪ ،‬وقصور علمهم‪ ،‬فأما القادر على كل شيء‪ ،‬الغن بذاته عن‬
‫كل شيء‪ِ ،‬‬
‫العال بكل شيء‪ ،‬الرمحن الرحيم الذي وسعت رمحـته كـل‬

‫‪-291-‬‬
‫شيء‪ ،‬فإدخال الوسائط بينه وبني خلقه تنق حبق ربوبيته وإهليته‬
‫وتوحيده‪ ،‬وظن به ظن السوء‪ ،‬وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده‪ ،‬وميتنع يف العقول‬
‫والفكر‪ ،‬وقبحه مستقر يف العقول السليمة فوق كل قبح‪...‬‬
‫فهذه إشارة لطيفة إىل السر الذي ألجله كان الشرك من أكرب الكبائر عند‬
‫اهلل‪ ،‬وأنه ال يغفر بغري التوبة منه‪ ،‬وأنه يوجب اْللود يف النار‪ ،‬وأنه ليس حترميه‬
‫مبجرد النهي عنه‪ ،‬بل يستحيل على اهلل سبحانه وتعاىل أن يشر عبادة‬ ‫وقبحه َّ‬
‫إله غريه‪ ،‬كما يستحيل عليه تناقض أوصاف كماله ونعوت جالله‪ .‬وكيف يظن‬
‫باملنفرد بالربوبية واإلهلية والعظمة واجلالل أن يأذن يف مشاركته يف ذلك‪ ،‬أو‬
‫كبريا‪ ،‬انتهى ما نقلته‪.‬‬
‫علوا ً‬
‫وجل عن ذلك ً‬ ‫عز ي‬ ‫يرضى به؟ تعاىل اهلل َّ‬
‫أن الشرك شركان‪ :‬شرك‬ ‫وبني َّ‬
‫فصل َّ‬
‫وتأمل كالم الشيخ رمحه اهلل‪ ،‬فإنه َّ‬‫فقف َّ‬
‫تعطيل لذات الرب وألمسائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬وشرك يف عبادته ومعاملته‪ .‬وذكر‬
‫أيضا تعطيل ملعاملته على العبد من حقيقة التوحيد‪ ،-‬مث ذكر شرك أهل‬ ‫أن هذا ً‬‫َّ‬
‫الوحدة‪ ،‬وشرك املالحدة القائلني بقدم العال‪ ،‬وشرك اجلهمية والقرامطة‪.‬‬
‫مث ذكر النو الثاي‪ :‬وهو شرك من أشرك يف العبادة واملعاملة‪ ،‬كشرك‬
‫حاج إبراهيم يف ربه‪،‬‬ ‫النصارى‪ ،‬وشرك اجملوس‪ ،‬وشرك القدرية‪ ،‬وشرك الذي َّ‬
‫وشرك من يشرك بالكواكب العلويات‪ ،‬وجيعلها أربًابًا مدبرة‪ ،‬وشرك عباد‬
‫الشمس‪ ،‬وعباد النار وغريهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومنه شرك غالة عبَّاد القبور الذين يزعمون َّ‬
‫أن أرواح املوتى تدبِّر شيئًا‬
‫(‪)1‬‬
‫صرح به ابن جرجيس قاتله اهلل» ‪.‬‬ ‫من أمر هذا العال كما َّ‬

‫(‪« )1‬منهاج التأسيس والتقديس»‪.)216 – 245( :‬‬

‫‪-225-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫أنواع الشرك ودرجاته وأحكامه‬

‫قال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫قال ابن القيم رمحه اهلل تعاىل يف شرح املنازل يف باب التوبة‪:‬‬
‫«وأما الشرك فهو نوعان‪ :‬أكرب وأصغر‪ ،‬فاألكرب ال يغفره اهلل إالَّ بالتوبة منه‪،‬‬
‫ندا حيبه كما حيب اهلل‪ ،‬بل أكثرهم حيبون آهلتهم‬ ‫وهو أن يتَّخذ من دون اهلل ً‬
‫لتنق معبوديهم من املشايخ أعظم مما يغضبون‬ ‫أعظم من حمبة اهلل‪ ،‬ويغضبون ُّ‬
‫إذا انتق أحد رب العاملني‪....‬‬
‫ومن أنواعه‪ :‬طلب احلوائج من املوتى واالستعانة هبم والتوجه إليهم‪ ،‬وهذا‬
‫ضرا‪،‬‬
‫نفعا وال ً‬‫أصل شرك العال‪ ،‬فإن امليت قد انقطع عمله وهو ال ميلك لنفسه ً‬
‫عمن استغاث به‪ ،‬أو سأله أن يشفع له إىل اهلل‪ .‬وهذا من جهله بالشافع‬ ‫فضالً َّ‬
‫واملشفو عنده‪ ،‬فإن اهلل تعاىل ال يشفع عنده أحد إالَّ بإذنه‪ ،‬واهلل ل جيعل سؤال‬
‫كمال‬ ‫إلذنه‬ ‫السبب‬ ‫وإمنا‬ ‫إلذنه‪،‬‬ ‫سببًا‬ ‫غريه‬
‫التوحيد‪ ،‬فجاء هذا املشرك بسبب مينع اإلذن‪ ،‬وامليت حمتاج إىل من بدعو له‪،‬‬
‫كما أوصانا النيب ‪ ‬إذا زرنا قبور املسلمني أن نرتحم عليها‪ ،‬ونسأل هلم العافية‬
‫واملغفرة‪ ،‬فعكس املشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة‪ ،‬وجعلوا قبورهم أوثانًا تعبد‪،‬‬
‫فجمعوا بني الشرك باملعبود وتغيري دينه‪ ،‬ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إىل‬
‫بذمهم‬
‫التنق باألموات‪ ،‬وهم قد تنقَّصوا اْلال بالشرك‪ ،‬وأولياءه املوحدين ِّ‬ ‫ُّ‬
‫النق‬ ‫غاية‬ ‫به‬ ‫أشركوا‬ ‫من‬ ‫وتنقَّصوا‬ ‫ومعاداهتم‪،‬‬
‫إذ ظنوا أنه راضون منهم هبذا وأهنم أمروهم به‪ ،‬وهؤالء أعداء الرسل يف كل‬

‫‪-229-‬‬
‫زمان ومكان‪ ،‬وما أكثر املستجيبني هلم! وهلل در خليله إبراهيم ‪ ‬حيث‬
‫َصنَ َام﴾ [إبراهيم‪.]36 :‬‬ ‫اجنْب ِن َوبَِ َّ‬
‫ن أَن نـَّ ْعب َد األ ْ‬ ‫قال‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫جرد توحيده هلل‪ ،‬وتقرب مبقتهم‬‫وما جنا من شرك هذا الشرك األكرب إالَّ من َّ‬
‫إىل اهلل»‪ .‬انتهى كالمه رمحه اهلل‪.‬‬
‫فتأمل رمحك اهلل كالم هذا اإلمام‪ ،‬وتصرحيه بأن من دعا املوتى وتوجه إليهم‬
‫واستغاث هبم ليشفعوا له عند اهلل فقد فعل الشرك األكرب الذي بعث حممد ‪‬‬
‫بإنكاره وتكفري من ل يتب منه وقتاله ومعاداته‪ ،‬وأن هذا قد وقع يف زمانه‪ ،‬وأهنم‬
‫غريوا دين الرسول ‪ ‬وعادوا أهل التوحيد الذين يأمروهنم بإخالص العبادة هلل‬ ‫ي‬
‫(‪)1‬‬
‫وحده ال شريك له» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل‪ ،‬وهو يتحدث عن حال المشركين مع‬
‫آلهتهم‪:‬‬
‫«إذا تبني هذا فاعلم‪ :‬أن الشرك ينقسم ثالثة أقسام بالنسبة على أنوا‬
‫مطلقا‪ ،‬وقد يكون أكرب بالنسبة إىل ما‬
‫التوحيد‪ ،‬وكل منها قد يكون أكرب وأصغر ً‬
‫هو أصغر منه‪ ،‬ويكون أصغر بالنسبة إىل ما هو أكرب منه‪.‬‬
‫القسم األول‪ :‬الشرك في الربوبية‪ ،‬وهو نوعان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬شرك التعطيل‪ ،‬وهو أقبح أنوا الشرك‪ ،‬كشرك فرعون‪ .‬إذا قال‪:‬‬
‫وما رب العاملني؟ ومن هذا شرك الفالسفة القائلني بقدم العال وأبديته‪ ،‬وأنه ل‬
‫معدوما أصالً‪ ،‬بل ل يزل وال يزال‪ ،‬واحلوادث بأسرها مستندة عندهم إىل‬ ‫ً‬ ‫يكن‬
‫يسموهنا‪ :‬العقول‪ ،‬والنفوس‪...‬‬
‫أسباب ووسائط اقتضت إجيادها‪ُّ ،‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬شرك من جعل معه إهلًا آخر ول يعطل أمساءه وصفاته‬
‫وربوبيته‪ ،‬كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثالثة‪ ،‬وشرك اجملوس القائلني‬
‫بإسناد حوادث اْلري إىل النور وحوادث الشر إىل الظلمة‪.‬‬

‫(‪« )1‬عقيدة املوحدين»‪ ،‬رسالة الكلمات النافعة يف َّ‬


‫املكفرات الواقعة‪( :‬ص‪.)234 ،232‬‬

‫‪-222-‬‬
‫ومن هذا شرك كثري ممن يشرك بالكواكب العلويات‪ ،‬جيعلها مدبرة ألمر هذا‬
‫العال‪ ،‬كما هو مذهب مشركي الصابئة وغريهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ويلتحق به من وجه شرك غالة عبَّاد القبور الذين يزعمون أن أرواح‬
‫ويفرجون الكربات‪ ،‬وينصرون‬ ‫األولياء تتصرف بعد املوت‪ ،‬فيقضون احلاجات‪ِّ ،‬‬
‫من دعاهم‪ ،‬وحيفظون من التجأ إليهم والذ حبماهم‪ ،‬فإن هذه من خصائ‬
‫الربوبية‪ ،‬كما ذكره بعضهم يف هذا النو ‪.‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬الشرك في توحيد األسماء والصفات‪ ،‬وهو أسهل مما‬
‫قبله‪ ،‬وهو نوعان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬تشبيه اْلالق باملخلوق‪ ،‬كمن يقول‪ :‬يد كيدي‪ ،‬ومسع كسمعي‪،‬‬
‫وبصر كبصري‪ ،‬واستواء كاستوائي‪ ،‬وهو شرك املشبِّهة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬اشتقاق أمساء لآلهلة الباطلة من أمساء اإلله احلق‪.‬‬
‫ين يـْل ِحدو َن ِيف‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫احل ْس َى فَا ْدعوه هبَا َو َذرواْ الذ َ‬ ‫قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬ولِلي ِه األ ْ‬
‫َمسَاء ْ‬
‫َمسَآئِِه َسي ْجَزْو َن َما َكانواْ يَـ ْع َملو َن﴾ [األعراف‪ .]915 :‬قال ابن عباس‪:‬‬ ‫أْ‬
‫يلحدون يف أمسائه‪ :‬يشركون‪ .‬وعنه‪ :‬مسوا الالت من اإلله‪ ،‬والعَّزى من العزيز‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬الشرك في توحيد اإللهية والعبادة‪.‬‬
‫قال القرطيب‪ :‬أصل الشرك احملرم اعتقاد شريك هلل تعاىل يف اإلهلية‪ ،‬وهو‬
‫الشرك األعظم‪ ،‬وهو شرك اجلاهلية‪ ،‬ويليه يف الرتبة اعتقاد شريك هلل تعاىل يف‬
‫موجودا ما غري اهلل تعاىل يستقل بإحداث فعل‬ ‫ً‬ ‫الفعل‪ ،‬وهو قول من قال‪ :‬إن‬
‫غلها هذا كالم القرطيب‪ .‬وهو نوعان‪:‬‬ ‫وإجياده وإن ل يعتقد كونه ً‬
‫ندا يدعوه كما يدعو اهلل‪ ،‬ويسأله الشفاعة كما‬ ‫أحدهما‪ :‬أن جيعل هلل ً‬
‫يسأل اهلل‪ ،‬ويرجوه كما يرجو اهلل‪ ،‬وحيبه كما حيب اهلل‪ ،‬وخيشاه كما خيشى اهلل‪،‬‬
‫ندا يعبده كما يعبد اهلل‪ ،‬وهذا هو الشرك‬ ‫وباجلملة فهو أن جيعل اهلل ً‬

‫‪-223-‬‬
‫األكرب‪ ،‬وهو الذي قال اهلل فيه‪َ ﴿ :‬و ْاعبدواْ الليهَ َوالَ ت ْش ِركواْ بِِه َشْيئًا﴾‬
‫[النساء‪.]35 :‬‬
‫وقال‪﴿ :‬ولََق ْد بـعثْـنَا ِيف ك ِّل أ َّمة َّرسوالً أ َِن ْاعبدواْ الليه و ِ‬
‫وت﴾‬ ‫اجتَنبواْ الطَّاغ َ‬ ‫ََ ْ‬ ‫َ ََ‬
‫[النحل‪.]35 :‬‬
‫ون اللي ِه َما الَ يَضُّره ْم َوالَ يَ َنفعه ْم َويَـقولو َن‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ويـعبدو َن ِمن د ِ‬
‫ََْ‬
‫ض‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الس َم َاوات َوالَ يف األ َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ند الليه ق ْل أَتـنَبِّئو َن الليهَ مبَا الَ يَـ ْعلَم يف َّ‬‫َهـؤالء ش َف َعاؤنَا ِع َ‬
‫سْب َحانَه َوتَـ َع َاىل َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [يونس‪.]91 :‬‬
‫ض َوَما بَـْيـنَـه َما ِيف ِست َِّة أَيَّام‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬اللَّه الَّ ِذي خلَق َّ ِ‬
‫الس َم َاوات َو ْاأل َْر َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫استَـ َوى َعلَى الْ َع ْر ِش َما لَكم ِّمن دونه من َوِيل َوَال َشفيع أَفَ َال تَـتَ َذ َّكرو َن﴾‬ ‫مثَّ ْ‬
‫جدا‪.‬‬ ‫[السجدة‪ ،]4 :‬واآليات يف النهي عن هذا الشرك وبيان بطالنه كثرية ً‬
‫الثاني‪ :‬الشرك األصغر‪ ،‬كيسري الرياء والتصنُّع للمخلوق‪ ،‬وعدم اإلخالص هلل‬
‫تعاىل يف العبادة‪ ،‬بل يعمل حلظ نفسه تارة‪ ،‬ولطلب الدنيا تارة‪ ،‬ولطلب املنزلة واجلاه‬
‫عند اْللق تارة‪ ،‬فله من عمله نصيب‪ ،‬ولغريه منه نصيب‪ ،‬ويتبع هذا النو الشرك‬
‫باهلل يف األلفاظ كاحللف بغري اهلل وقول‪ :‬ما شاء اهلل وشئت‪ ،‬وما يل إالَّ اهلل وأنت‪،‬‬
‫وأنا يف حسب اهلل وحسبك‪ ،‬وحنوه‪ .‬وقد يكون ذلك شرًكا أكرب حبسب حال قائله‬
‫(‪)1‬‬
‫ومقصده‪ .‬هذا حاصل كالم ابن القيم وغريه» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫«مث اعلم أن ضد التوحيد‪ :‬الشرك‪ ،‬وهو ثالثة أنوا ‪ :‬شرك أكرب‪ ،‬وشرك‬
‫أصغر‪ ،‬وشرك خفي‪ ،‬والدليل على الشرك األكرب قوله تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن الليهَ الَ يَـ ْغ ِفر‬
‫ِ‬ ‫أَن ي ْشرَك بِِه ويـ ْغ ِفر ما دو َن ذَلِ ِ‬
‫ضالَالً‬ ‫ض َّل َ‬ ‫ك ل َمن يَ َشاء َوَمن ي ْش ِرْك بِالليه فَـ َق ْد َ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ‬ ‫َ‬
‫يدا﴾ [النساء‪.]995 :‬‬ ‫بَعِ ً‬
‫يل ْاعبدواْ الليهَ َرِّيب َوَربَّك ْم إِنَّه َمن ي ْش ِرْك بِاللي ِه فَـ َق ْد‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿َوقَ َال الْ َمسيح يَا بَِن إ ْسَرائ َ‬
‫َنصار﴾ [املائدة‪.]42 :‬‬ ‫اجلنَّةَ ومأْواه النَّار وما لِلظَّالِ ِم ِ‬ ‫ِ‬
‫ني م ْن أ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َحَّرَم الليه َعلَيه َْ َ َ َ‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)35 – 21‬‬

‫‪-224-‬‬
‫وهو أربعة أنواع‪:‬‬
‫ك َد َعوا‬ ‫النوع األول‪ :‬شرك الدعوة‪ .‬والدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬فَِإ َذا ركِبوا ِيف الْفْل ِ‬
‫َ‬
‫ِّين فَـلَ َّما َجنَّاه ْم إِ َىل الْبَـِّر إِ َذا ه ْم ي ْش ِركو َن﴾ [العنكبوت‪.]56 :‬‬ ‫ِِ‬
‫ني لَه الد َ‬ ‫اللَّهَ ْخملص َ‬
‫النوع الثاني‪ :‬شرك النيَّة واإلرادة والقصد‪ .‬والدليل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬من َكا َن‬
‫ف إِلَْي ِه ْم أ َْع َما َهل ْم فِ َيها َوه ْم فِ َيها الَ يـْب َخسو َن *‬ ‫الدنْـيَا َوِزينَتَـ َها نـ َو ِّ‬ ‫ي ِريد ْ‬
‫احلَيَا َة ُّ‬
‫ط ما صنَـعواْ فِيها وب ِ‬ ‫ِ‬ ‫أولَـئِ َّ ِ‬
‫اطل َّما َكانواْ‬ ‫َ ََ‬ ‫س َهل ْم ِيف اآلخَرةِ إِالَّ النَّار َو َحبِ َ َ َ‬ ‫ين لَْي َ‬
‫ك الذ َ‬ ‫ْ َ‬
‫يَـ ْع َملو َن﴾ [هود‪.]95 ،96 :‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬شرك الطاعة‪ .‬والدليل قوله تعاىل‪َّ ﴿ :‬اختَذواْ أ ْ‬
‫َحبَ َاره ْم َورْهبَانَـه ْم‬
‫ون اللي ِه والْم ِسيح ابن مرَمي وما أ ِمرواْ إِالَّ لِيـعبدواْ إِلَـها و ِ‬
‫اح ًدا الَّ إِلَـهَ إِالَّ‬ ‫أَربابا ِّمن د ِ‬
‫ً َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ َ ْ َ َْ َ ََ‬ ‫َْ ً‬
‫ه َو سْب َحانَه َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [التوبة‪ ،]39 :‬وتفسريها الذي ال إشكال فيه‪:‬‬
‫فسرها النيب ‪ ‬لعدي‬ ‫طاعة العلماء والعباد يف املعصية‪ ،‬ال دعاؤهم إياهم‪ ،‬كما َّ‬
‫بن حام ملا سأله فقال‪ :‬لسنا نعبدهم‪ ،‬فذكر له أن عبادهتم طاعتهم يف املعصية‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫النوع الرابع‪ :‬شرك احملبة‪ .‬والدليل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وم َن النَّاس َمن يَـتَّخذ من‬
‫ب اللي ِه﴾ [البقرة‪.]956 :‬‬ ‫َنداداً ِحيبُّونَـه ْم َكح ِّ‬ ‫ون اللي ِه أ َ‬
‫د ِ‬
‫والنوع الثاني‪( :‬شرك أصغر) وهو الرياء‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬فَ َمن َكا َن‬
‫ِِ ِ ِ‬ ‫يـرجو لَِقاء ربِِّه فَـْليـعمل عم ًال ِ‬
‫َح ًدا﴾ [الكهف‪:‬‬ ‫صاحلًا َوَال ي ْش ِرْك بعبَ َادة َربِّه أ َ‬ ‫َ َْ َ ْ ََ َ‬ ‫َْ‬
‫‪.]995‬‬
‫النوع الثالث‪( :‬شرك خفي)‪ ،‬والدليل عليه قوله ‪« :‬الشرك يف هذه األمة‬
‫أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء يف ظلمة الليل» وكفارته قوله‬
‫‪« :‬اللهم إي أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم‪ ،‬وأستغفرك من الذنب‬
‫(‪)1‬‬
‫الذي ال أعلم» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬جمموعة التوحيد»‪( :‬ص‪.)453‬‬

‫‪-226-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫خطر الشرك‪ ،‬ووجوب الحذر منه بتجنب أسبابه‬
‫قال الشيخ صاحل الفوزان‪:‬‬
‫«الشرك أعظم الذنوب‪ ،‬ألن اهلل تعاىل أخرب أنه ال مغفرة ملن ل يتب منه‪،‬‬
‫مع أنه سبحانه كتب على نفسه الرمحة‪ ،‬وذلك يوجب للعبد شدة احلذر‪ ،‬وشدة‬
‫اْلوف من الشرك الذي هذا شأنه‪ ،‬وحيمله على معرفته لتوقيه؛ ألنه أقبح القبيح‪،‬‬
‫وأظلم الظلم‪.‬‬
‫تنق هلل‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن الش ِّْرَك لَظْلم َع ِظيم﴾ [لقمان‪ ،]93 :‬وذلك ألنه ُّ‬
‫ين َك َفرواْ بَِرِّهبِم يَـ ْع ِدلو َن﴾‬ ‫َّ ِ‬
‫وجل ومساواة لغريه به؛ كما قال تعاىل‪﴿ :‬الذ َ‬ ‫عز ي‬ ‫َّ‬
‫[األنعام‪.]9 :‬‬
‫ِ‬
‫َنداداً َوأَنت ْم تَـ ْعلَمو َن﴾ [البقرة‪ ،]22 :‬وألن‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬فَالَ َْجت َعلواْ للي ِه أ َ‬
‫وجل؛‬
‫عز ي‬ ‫الشرك مناقض للمقصود باْللق واألمر من كل وجه؛ فمن أشرك باهلل َّ‬
‫فقد شبَّه املخلوق باْلالق‪ ،‬وأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقري بالذات‪ ،‬بالقادر‬
‫الغن بالذات عن مجيع املخلوقات‪....‬‬
‫وإليك بيان الوسائل القولية والفعلية‪ ،‬اليت هنى عنها رسول اهلل ‪ ‬ألهنا‬
‫تفضي إيل الشرك‪:‬‬
‫‪ -9‬هنى رسول اهلل ‪ ‬عن التلفظ باأللفاظ اليت فيها التسوية بني اهلل وبني‬
‫خلقه؛ مثل‪( :‬ما شاء اهلل وشئت)‪( ،‬لوال اهلل وأنت)‪ ،‬وأمر بأن يقال‬
‫بدل ذلك‪( :‬ما شاء اهلل مث شئت)؛ ألن الواو تقتضي التسوية و(مث)‬
‫تقتضي الرتتيب‪ ،‬وهذه التسوية يف اللفظ شرك أصغر‪ ،‬وهو وسيلة إىل‬
‫الشرك األكرب‪.‬‬

‫‪-225-‬‬
‫‪ -2‬هنى ‪ ‬عن الغلو يف تعظيم القبور بالبناء عليها‪ ،‬وإسراجها‪،‬‬
‫وجتصيصها‪ ،‬والكتابة عليها‪.‬‬
‫‪ -3‬هنى عن اختاذ القبور مساجد للصالة عندها؛ ألن ذلك وسيلة لعبادهتا‪.‬‬
‫‪ -4‬هنى عن الصالة عند طلو الشمس وعند غروهبا؛ ملا يف ذلك من‬
‫التشبه بالذين يسجدون هلا يف هذه األوقات‪.‬‬
‫‪ -6‬هنى عن السفر إىل أي مكان من األمكنة بقصد التقرب إىل اهلل فيه‬
‫بالعبادة؛ إالَّ إىل املساجد الثالثة‪ :‬املسجد احلرام‪ ،‬واملسجد النبوي‪،‬‬
‫واملسجد األقصى‪.‬‬
‫‪ -5‬هنى ‪ ‬عن الغلو يف مدحه؛ فقال‪« :‬ال تطروي كما أطرت النصارى‬
‫ابن مرمي‪ ،‬إمنا أنا عبد؛ فقولوا‪ :‬عبد اهلل ورسوله»‪ ،‬واإلطراء‪ :‬هو املبالغة‬
‫يف املدح‪.‬‬
‫‪ -4‬هنى ‪ ‬عن الوفاء بالنذر إذا كان يف مكان يعبد فيه صنم‪ ،‬أو يقام فيه‬
‫عيد من أعياد اجلاهلية‪.‬‬
‫وسدا للوسائل والذرائع‬
‫حذر منه‪ ،‬صيانةً للتوحيد‪ ،‬وحفاظًا عليه‪ً ،‬‬ ‫كل هذا َّ‬
‫اليت تفضي إليه‪.‬‬
‫ومع هذا البيان التام من النيب ‪ ،‬واالحتياط الشديد الذي يبعد األمة عن‬
‫الشرك؛ خالف القبوريون سنة رسول اهلل ‪ ،‬وعصوا أمره‪ ،‬وارتكبوا ما هناهم‬
‫عنه؛ فشيَّدوا القباب على القبور‪ ،‬وبنوا عليها املساجد‪ ،‬وزيَّنوها بأنوا الزخارف‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫اعا من العبادة من دون اهلل» ‪.‬‬ ‫وصرفوا هلا أنو ً‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬اإلرشاد إىل تصحيح االعتقاد»‪( :‬ص‪.)41 – 45‬‬

‫‪-224-‬‬
-221-
‫الفصل الثاني‬
‫العلم سبيل النجاة من الشرك‬
‫وإل وقع بالجهل والتلبيس وتغيير الحقائق‬

‫وفيه ستة مباحث‬

‫المبحث األول ‪ :‬الناس مكلَّفون مبعرفة الشرك حىت تتحقق الرباءة منه‪،‬‬
‫فهي أصل األصول االعتقادية‪ ،‬وال يصح إسالم املرء إالَّ‬
‫بالقيام هبا‪.‬‬
‫المبحث الثاني ‪ :‬كيف دخل الشرك يف األمة؟‬
‫المبحث الثالث ‪ :‬الغلو من أعظم أسباب املروق من اإلسالم‪ ،‬ولذا فهو‬
‫أصل شرك األولني‪ ،‬واآلخرين‪.‬‬
‫المبحث الرابع ‪ :‬اختاذ الوسائط جللب املنافع ودفع املضار‪ ،‬شرك باهلل‬
‫العظيم‪ ،‬ومروق من ملة املسلمني‪.‬‬
‫المبحث الخامس ‪ :‬ضرورة التحذير من الشرك ووسائله‪.‬‬
‫المبحث السادس ‪ :‬التحذير من ألفاظ‪ ،‬ال ينبغي أن تقال يف حق اهلل‬
‫سبحانه‪.‬‬

‫‪-221-‬‬
-235-
‫المبحث األول‬
‫الناس مكلفون بمعرفة الشرك‪ ،‬حتى تتحقق البراءة منه‪،‬‬
‫فهي أصل األصول العتقادية‪ ،‬ول يصح إسالم المرء إل بالقيام بها‬

‫قال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين‪:‬‬


‫«ومن العجب أن بعض الناس إذا مسع من يتكلم يف معى هذه الكلمة نفيًا‬
‫وإثباتًا عاب ذلك وقال‪ :‬لسنا مكلفني بالناس والقول فيهم‪ .‬فيقال له‪ :‬بل أنت‬
‫مكلَّف مبعرفة التوحيد الذي خلق اهلل اجلن واإلنس ألجله‪ ،‬وأرسل مجيع الرسل‬
‫يدعون إليه‪ ،‬ومعرفة ضده وهو الشرك الذي ال يغفر وال عذر ملكلف يف اجلهل‬
‫(‪)1‬‬
‫بذلك‪ ،‬وال جيوز فيه التقليد ألنه أصل األصول» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن‪:‬‬
‫وخلفا‪ ،‬من الصحابة والتابعني‪ ،‬واألئمة‪ ،‬ومجيع أهل‬ ‫سلفا ً‬‫«أمجع العلماء ً‬
‫مسلما إالَّ بالتجرد من الشرك األكرب‪ ،‬والرباءة منه وممن‬
‫السنة‪ :‬أن املرء ال يكون ً‬
‫فعله‪ ،‬وبغضهم ومعاداهتم حبسب الطاقة‪ ،‬والقدرة‪ ،‬وإخالص األعمال كلها هلل‪،‬‬
‫كما يف حديث معاذ الذي يف الصحيحني‪« :‬فإن حق اهلل على العباد أن يعبدوه‬
‫(‪)2‬‬
‫وال يشركوا به شيئًا» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمود رحمهم اهلل تعالى‪:‬‬
‫«وأما مشركو هذا الزمان‪ ،‬فإهنم وإن نطقوا هبا‪ ،‬وصلُّوا وزُّكوا‪ ،‬ال يفهمون‬
‫منها ما فهمته العرب من أن معناها خلع األنداد‪ ،‬وإفراد اهلل سبحانه‬

‫(‪« )1‬عقيدة املوحدين» رسالة االنتصار حلزب اهلل املوحدين‪( :‬ص‪.)99‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)646/99( :‬‬

‫‪-239-‬‬
‫بالعبادة وحده ال شريك له‪ ،‬بل خيالفون معناها‪ ،‬فيصرفون التأله لغري اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬ويعتقدون ذلك قربة إىل اهلل‪ ،‬فيصرفون خال حق اهلل‪ ،‬الذي دلت عليه‬
‫هذه الكلمة لغريه تعاىل‪ ،‬بل أكبهم اجلهل إىل الشرك يف الربوبية‪ ،‬فال تنفعهم ال‬
‫إله إالَّ اهلل مع ذلك وإن قالوها‪ ،‬ألن الشرك حمبط للعمل‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬لَئِ ْن‬
‫ك﴾ [الزمر‪ ،]56 :‬وغري ذلك من اآليات الدالة على‬ ‫ت لَيَ ْحبَطَ َّن َع َمل َ‬
‫أَ ْشَرْك َ‬
‫حبوط عمل املشرك‪.‬‬
‫ومشركو العرب‪ :‬إمنا كان شركهم يف اإلهلية‪ ،‬فال تنفع ال إله إالَّ اهلل قائلها‪،‬‬
‫إالَّ إذا التزم ما دلت عليه من خلع األنداد‪ ،‬وإفراد اهلل سبحانه بالعبادة‪ ،‬ولذلك‬
‫(‪)1‬‬
‫ملا قاهلا أهل النفاق واليهود ول يلتزموا ما دلت عليه ل تنفعهم» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)411 ،411/1( :‬‬

‫‪-232-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫كيف دخل الشرك في األمة؟‬
‫مغلقا‪ ،‬عندما لبس على الناس دينهم‪،‬‬ ‫لقد فتح الشيطان بابًا للشرك كان ً‬
‫َّفزين هلم أن األحكام يف اإلسالم‪ ،‬دائرة مع األمساء‪ ،‬وأن احلقائق واملعاي ال‬
‫دخل هلا يف تعليل األحكام‪ ،‬فعاد بذلك كل لون من ألوان الشرك‪ ،‬يف اسم غري‬
‫امسه‪ ،‬ومقصد غريه مقصده‪.‬‬
‫قال الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫«وقد دخل كثري من هذه األمة يف الشرك باهلل‪ ،‬والتعلق على ما سواه‪،‬‬
‫وتشفعا‪ ،‬وتغيري األمساء‪ ،‬ال اعتبار به‪ ،‬وال تزول حقيقة‬ ‫ً‬ ‫ويسمون ذلك توسالً‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫الشيء‪ ،‬وال حكمه بزوال امسه‪ ،‬وانتقاله يف عرف الناس باسم آخر‪.‬‬
‫(تغيير األسماء‪ :‬ل يغيِّر األحكام المترتبة على معانيها)‬
‫وملا علم الشيطان‪ :‬أن النفوس تنفر من تسمية ما يفعله املشركون تأهلًا‪،‬‬
‫أخرجه يف قالب آخر تقبله النفوس‪ ،‬وقد جاء عن النيب ‪ ‬أنه قال‪« :‬ليشربن‬
‫يسموهنا بغري امسها»‪ ،‬وكذلك من زىن‪ ،‬ومسَّى ما فعله‪:‬‬ ‫أناس من أميت اْلمر‪ُّ ،‬‬
‫نكاحا‪ ،‬فتغيري األمساء‪ ،‬ال يزيل احلقائق‪ ،‬وكذا من ارتكب شيئًا‪ ،‬من األمور‬ ‫ً‬
‫وتشفعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫الشركية فهو مشرك‪ ،‬وإن مسى ذلك توسالً‪،‬‬
‫يوضح ذلك‪ :‬ما ذكر اهلل يف كتابه‪ ،‬عن اليهود‪ ،‬والنصارى‪ ،‬بقوله تعاىل‪:‬‬
‫ون اللي ِه‪[ ﴾...‬التوبة‪ ،]39 :‬وروى اإلمام‬ ‫﴿ َّاختَذواْ أَحبارهم ورهبانَـهم أَربابا ِّمن د ِ‬
‫ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َْ ً‬
‫أمحد‪ ،‬والرتمذي‪ ،‬وغريمها‪ :‬أن عدي بن حام‪ ،‬قدم على النيب ‪ ‬وكان قد َّ‬
‫تنصر‬
‫يف اجلاهلية‪ ،‬فسمع النيب ‪ ‬يقرأ هذه اآلية‪َّ ﴿ :‬اختَذواْ أ ْ‬
‫َحبَ َاره ْم َورْهبَانَـه ْم أ َْربَابًا ِّمن‬
‫ون اللي ِه‪[ ﴾...‬التوبة‪ ،]39 :‬قال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إهنم ل يعبدوهم‪ ،‬فقال ‪:‬‬ ‫د ِ‬
‫حرموا عليهم احلالل‪ ،‬وحلَّلوا هلم احلرام‪ ،‬فذاك عبادهتم إياهم»‪.‬‬ ‫«بلى إهنم َّ‬
‫وقال ابن عباس‪ ،‬وحذيفة بن اليمان‪ ،‬يف تفسري هذه اآلية‪ :‬إهنم اتبعوهم‬
‫وحرموا‪ .‬فهؤالء الذين أخرب اهلل عنهم يف هذه اآلية‪ ،‬ل يسموا‬ ‫فيما حلَّلوا َّ‬

‫‪-233-‬‬
‫أحبارهم‪ ،‬ورهباهنم‪ ،‬أربابًا وال آهلة‪ ،‬وال كانوا يظنون أن فعلهم هذا معهم عبادة‬
‫هلم‪ ،‬وهلذا قال عدي‪ :‬إهنم ل يعبدوهم‪.‬‬
‫وحكم الشيء تابع حلقيقته‪ ،‬ال المسه‪ ،‬وال العتقاد فاعله‪ ،‬فهؤالء كانوا‬
‫عذرا هلم‪ ،‬وال‬
‫بعبادة هلم‪ ،‬فلم يكن ذلك ً‬ ‫يعتقدون أن طاعتهم يف ذلك‪ ،‬ليست‬
‫(‪)1‬‬
‫مزيالً السم فعلهم‪ ،‬وال حلقيقته وحكمه» ‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫دس عليهم‬
‫«وتلطف الشيطان يف كيد هؤالء الغالة يف قبور الصاحلني‪ ،‬بأن َّ‬
‫تغيري األمساء واحلدود الشرعية‪ ،‬واأللفاظ اللغوية‪ ،‬فسموا الشرك وعبادة‬
‫استظهارا‬
‫ً‬ ‫وتشفعا هبم‪ ،‬و‬
‫ً‬ ‫توسالً ونداء‪ ،‬وحسن اعتقاد يف األولياء‪،‬‬
‫الصاحلني‪ُّ :‬‬
‫بأرواحهم الشريفة‪ ،‬فاستجاب له صبيان العقول‪ ،‬وخفافيش البصائر‪ ،‬وداروا مع‬
‫األمساء‪ ،‬ول يقفوا مع احلقائق‪.‬‬
‫فعادت عبادة األولياء والصاحلني‪ ،‬ودعاء األوثان والشياطني‪ ،‬كما كانت‬
‫القذة َّ‬
‫بالقذة‪ ،‬وهذا من‬ ‫النبوة‪ ،‬ويف زمان الفرتة حذو النعل بالنعل‪ ،‬وحذو َّ‬ ‫قبل َّ‬
‫عم‬
‫النبوة‪ ،‬كما ذكره غري واحد‪ ،‬ول يزل ذلك يف ظهور وازدياد‪ ،‬حىت َّ‬ ‫أعالم َّ‬
‫(‪)2‬‬
‫ضرره‪ ،‬وبلغ شرره احلاضر والباد» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)651 – 654/9( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)213/92( :‬‬

‫‪-234-‬‬
‫وقال الشيخ أبو بطين رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«إن مواالة اهلل بعبادته‪ ،‬والرباءة من كل معبود سواه‪ ،‬هو معى‪ :‬ال إله إالَّ‬
‫اهلل‪ ،‬إذا تبني ذلك‪ ،‬فمن صرف لغري اهلل شيئًا من أنوا العبادة املتقدم تعريفها‪،‬‬
‫كاحلب والتعظيم‪ ،‬واْلوف‪ ،‬والرجاء‪ ،‬والدعاء‪ ،‬والتوكل‪ ،‬والذبح‪ ،‬والنذر‪ ،‬وغري‬
‫ذلك‪ ،‬فقد عبد ذلك الغري‪ ،‬واختذه إهلًا‪ ،‬وأشركه مع اهلل يف خال حقه‪ ،‬وإن َّفر‬
‫من تسمية فعله ذلك تأهلًا وعبادة وشرًكا‪.‬‬
‫ومعلوم عند كل عاقل‪ :‬أن حقائق األشياء‪ ،‬ال تتغري بتغري أمسائها‪ ،‬فلو‬
‫مسى‪ :‬الزنا‪ ،‬والربا‪ ،‬واْلمر‪ ،‬بغري أمسائها‪ ،‬ل خيرجها تغيري االسم‪ ،‬عن كوهنا‪ :‬زنًا‪،‬‬
‫ومخرا‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫وربًا‪ً ،‬‬
‫ومن املعلوم‪ :‬أن الشرك‪ ،‬إمنا حرم لقبحه يف نفسه‪ ،‬وكونه متضمنًا مسبَّة‬
‫الرب وتنقُّصه وتشبيهه باملخلوقني‪ ،‬فال تزول هذه املفاسد‪ ،‬بتغيري امسه‪،‬‬
‫وتوقريا هلم وحنو ذلك‪ ،‬فاملشرك‪:‬‬
‫وتعظيما للصاحلني‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫وتشفعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫كتسميته‪ :‬توسالً‪،‬‬
‫مشرك‪ ،‬شاء أم أىب‪ ،‬كما أن الزاي‪ :‬زان‪ ،‬شاء أم أىب‪ ،‬واملرايب‪ :‬مراب‪ ،‬شاء أم‬
‫(‪)1‬‬
‫أىب» ‪.‬‬
‫أيضا رمحه اهلل تعاىل‪:‬‬
‫وقال الشيخ أبو بطني ً‬
‫«قال اإلمام ابن القيم رمحه اهلل تعاىل‪ :‬ومن ذبح للشيطان ودعاه واستعان‬
‫استخداما‬
‫ً‬ ‫وتقرب إليه مبا حيبه‪ ،‬فقد عبده‪ ،‬وإن ل يسم ذلك عبادة‪ ،‬ويسميه‬ ‫به‪َّ ،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫من الشيطان له» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)211 ،211/2( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)19/92( :‬‬

‫‪-236-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫الغلو‪ :‬من أعظم أسباب المروق من اإلسالم‪،‬‬
‫ولذا فهو أصل شرك األولين‪ ،‬واآلخرين‬
‫قال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم اهلل تعالى‪:‬‬
‫«وقال الشيخ تقي الدين يف الرسالة السنية ملا ذكر حديث اْلوارج ومروقهم‬
‫من الدين‪ ،‬وأمره ‪ ‬بقتاهلم قال‪ :‬فإذا كان على عهد رسول اهلل ‪ ‬وخلفائه‪ ،‬ممن‬
‫انتسب إىل اإلسالم‪ ،‬من قد مرق منه مع عبادته العظيمة‪ ،‬فليعلم أن املنتسب‬
‫أيضا من اإلسالم وذلك بأسباب‪:‬‬ ‫إىل اإلسالم والسنة يف هذه األزمان قد ميرق ً‬
‫منها‪ :‬الغلو يف بعض املشايخ‪ ،‬بل الغلو يف علي ابن أيب طالب‪ ،‬بل الغلو يف‬
‫نوعا من اإلهلية‬ ‫املسيح وحنوه‪ ،‬فكل من غال يف نيب أو رجل صاحل‪ ،‬وجعل فيه ً‬
‫مثل أن يقول‪ :‬يا سيدي فالن انصري‪ ،‬أو أغثن‪ ،‬أو ارزقن‪ ،‬أو اجربي‪ ،‬أو أنا يف‬
‫حسبك‪ ،‬أو حنو هذه األقوال‪ ،‬فكل هذا شرك وضالل يستتاب صاحبه‪ ،‬فإن‬
‫تاب وإالَّ قتل‪ ،‬فإن اهلل تعاىل إمنا أرسل الرسل‪ ،‬وأنزل الكتب ليعبد وحده ال‬
‫جيعل معه إله آخر‪ ،‬والذين يدعون من دون اهلل آهلة أخرى مثل املسيح واملالئكة‬
‫واألصنام ل يكونوا يعتقدون أهنا ختلق اْلالئق‪ ،‬أو تنـزل املطر‪ ،‬أو تنبت النبات‪،‬‬
‫وإمنا كانوا يعبدوهنم‪ ،‬أو يعبدون قبورهم‪ ،‬أو صورهم ويقولون‪َ ﴿ :‬ما نَـ ْعبده ْم إِالَّ‬
‫ند اللي ِه﴾‬ ‫ِ‬
‫ليـ َقِّربونَا إِ َىل اللَّ ِه زلْ َفى﴾ [الزمر‪ ،]3 :‬ويقولون‪َ ﴿ :‬هـؤالء ش َف َعاؤنَا ِع َ‬
‫(‪)1‬‬
‫[يونس‪. »]91 :‬‬

‫(‪« )1‬عقيدة املوحدين» رسالة الكلمات النافعة يف ِّ‬


‫املكفرات الواقعة‪.)239 – 221( :‬‬

‫‪-235-‬‬
‫وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد‪ ،‬وعبد الرحمن‬
‫بن حسن في شرحه عليه رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫(باب) ما جاء أن سبب كفر بني آدم‬
‫وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين‬
‫اب الَ تَـ ْغلواْ ِيف ِدينِك ْم َوالَ تَـقولواْ‬‫وقول اهلل تعاىل عز وجل‪﴿ :‬يا أ َْهل الْ ِكتَ ِ‬
‫َ َ‬
‫احلَ ِّق﴾ [النساء‪.]949 :‬‬ ‫َعلَى اللي ِه إِالَّ ْ‬
‫يف الصحيح عن ابن عباس رضي اهلل عنهما يف قول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَالوا الَ‬
‫ِ‬
‫وق َونَ ْسًرا﴾ [نوح‪.]23 :‬‬ ‫وث َويَـع َ‬
‫اعا َوالَ يَـغ َ‬‫تَ َذر َّن آهلتَك ْم َوالَ تَ َذر َّن َوًّدا َوالَ س َو ً‬
‫قال‪ :‬هذه أمساء رجال صاحلني من قوم نوح‪ .‬فلما هلكوا أوحى الشيطان إىل‬
‫قومهم أن انصبوا إىل جمالسهم اليت كانوا جيلسون فيها أنصابًا‪ ،‬ومسوها بأمسائهم‪،‬‬
‫ففعلوا‪ ،‬ول تعبد‪ .‬حىت إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت»‪.‬‬
‫وقال ابن القيم‪ :‬قال غري واحد من السلف‪ :‬ملا ماتوا عكفوا على قبورهم‪ ،‬مث‬
‫صوروا َتاثيلهم‪ ،‬مث طال عليهم األمد فعبدوهم‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وعن عمر أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬ال تطروي كما أطرت النصارى ابن مرمي‪،‬‬
‫إمنا أنا عبد‪ ،‬فقولوا عبد اهلل ورسوله» أخرجاه‪.‬‬
‫وقال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬إياكم والغلو‪ ،‬فإمنا أهلك من كان قبلكم‬
‫الغلو»‪.‬‬
‫وملسلم عن ابن مسعود أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬هلك املتنطعون»‪ ،‬قاهلا‬
‫ثالثًا‪.‬‬
‫[الشرح]‬
‫قوله‪« :‬باب ما جاء أن سبب كفر بن آدم وتركهم دينهم هو الغلو يف‬
‫الصاحلني»‪.‬‬
‫عطفا على املضاف إليه‪ .‬وأراد املصنف رمحه اهلل‬
‫وقوله‪« :‬تركهم» باجلر ً‬

‫‪-234-‬‬
‫تعاىل بيان ما يؤول إليه الغلو يف الصاحلني من الشرك باهلل يف اإلهلية‪ ،‬الذي‬
‫هو أعظم ذنب عصي اهلل به‪ ،‬وهو ينايف التوحيد الذي دلت عليه كلمة‬
‫اإلخالص‪ :‬شهادة أن ال إله إالَّ اهلل‪.‬‬
‫اب الَ تَـ ْغلواْ ِيف ِدينِك ْم َوالَ تَـقولواْ‬ ‫قوله‪ :‬وقوله اهلل عز وجل‪ ﴿ :‬يا أ َْهل الْ ِكتَ ِ‬
‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫علَى اللي ِه إِالَّ ْ َِّ ِ ِ‬
‫اها إ َىل َم ْرَميَ‬
‫يسى ابْن َم ْرَميَ َرسول الليه َوَكل َمته أَلْ َق َ‬ ‫احلَ ِّق إمنَا الْ َمسيح ع َ‬ ‫َ‬
‫َوروح ِّمْنه﴾ [النساء‪.]949 :‬‬
‫الغلو‪ :‬هو اإلفراط يف التعظيم بالقول واالعتقاد‪ ،‬أي‪ :‬ال ترفعوا املخلوق عن‬
‫منزلته اليت أنزل اهلل فتنزلوه املنزلة اليت ال تنبغي إالَّ باهلل‪....‬‬
‫قوله‪ :‬يف الصحيح عن ابن عباس رضي اهلل عنهما يف قول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫ِ‬
‫وق َونَ ْسًرا﴾‬ ‫وث َويَـع َ‬ ‫اعا َوالَ يَـغ َ‬‫﴿ َوقَالوا الَ تَ َذر َّن آهلتَك ْم َوالَ تَ َذر َّن َوًّدا َوالَ س َو ً‬
‫[نوح‪ ،]23 :‬قال‪ :‬هذه أمساء رجال صاحلني من قوم نوح‪ ،‬فلما هلكوا أوحى‬
‫الشيطان إىل قومهم‪ :‬أن انصبوا إىل جمالسهم اليت كانوا جيلسون فيها أنصابًا‬
‫ومسوها بأمسائهم‪ ،‬ففعلوا‪ ،‬ول تعبد‪ ،‬حىت إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت‪...‬‬
‫صوروا تلك األصنام‪.‬‬ ‫قوله‪« :‬حىت إذا هلك أولئك»‪ ،‬أي‪ :‬الذين َّ‬
‫قوله‪« :‬ونسي العلم» ورواية البخاري‪« :‬وينسخ» وللكشميهن‪« :‬ونسخ‬
‫العلم»‪ ،‬أي‪ :‬درست آثاره بذهاب العلماء‪ ،‬وعم اجلهل حىت صاروا ال مييزون‬
‫بني التوحيد والشرك‪ ،‬فوقعوا يف الشرك ظنًا منهم أنه ينفعهم عند اهلل‪...‬‬
‫صور أوائلهم الصور ليتأسوا هبم‪ ،‬ويتذكروا أفعاهلم‬‫قال القرطيب‪ :‬وإمنا َّ‬
‫الصاحلة‪ .‬فيجتهدوا كاجتهادهم‪ ،‬ويعبدوا اهلل عند قبورهم‪ .‬مث خلفهم قوم جهلوا‬
‫مرادهم‪ ،‬فوسوس هلم الشيطان أن أسالفهم كانوا يعبدون هذه الصور‬
‫ويعظموهنا‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫قوله‪ :‬وقال رسول اهلل ‪« :‬إياكم والغلو‪ ،‬فإمنا أهلك من كان قبلكم‬

‫‪-231-‬‬
‫الغلو»‪.‬‬
‫هذا احلديث ذكره املصنف بدون ذكر راويه‪ ،‬وقد رواه اإلمام أمحد والرتمذي‬
‫وابن ماجه من حديث ابن عباس‪.‬‬
‫وهذا لفظ رواية أمحد‪ :‬عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫‪« :‬غداة مجع‪ :‬هلم القط يل»‪ ،‬فلقطت له حصيات هن حصى اْلذف‪ ،‬فلما‬
‫وضعهن يف يده قال‪« :‬نعم بأمثال هؤالء فارموا‪ .‬وإياكم والغلو يف الدين‪ ،‬فإمنا‬
‫هلك من كان قبلكم بالغلو يف الدين»‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم‪ :‬هذا عام يف مجيع أنوا الغلو يف االعتقادات واألعمال‪،‬‬
‫وسبب هذا اللفظ العام رمي اجلمار‪ ،‬وهو داخل فيه‪ ،‬مثل الرمي باحلجارة‬
‫الكبار‪ ،‬بناء على أنه أبلغ من الصغار‪ ،‬مث علَّل مبا يقتضي جمانبة هدي من كان‬
‫إبعادا عن الوقو فيما هلكوا به‪ ،‬فإن املشارك هلم يف بعض هديهم خياف‬ ‫قبلنا ً‬
‫(‪)1‬‬
‫عليه من اهلالك» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬فتح اجمليد»‪.)222 – 294( :‬‬

‫‪-231-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫اتخاذ الوسائط لجلب المنافع ودفع المضار‬
‫شرك باهلل العظيم‪ ،‬ومروق من ملة المسلمين‬
‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫«وقد قال شيخ اإلسالم ملا سئل عن رجلني تناظرا‪ ،‬فقال أحدمها‪ ،‬ال بد لنا‬
‫من واسطة بيننا وبني اهلل تعاىل‪ ،‬فإنا ال نقدر أن نصل إليه بغري ذلك‪ ،‬فما معى‬
‫الواسطة؟ وهل التوسط عام يف كل شيء يوجبه اهلل تعاىل‪ ،‬أم يف ذلك بيان‬
‫وتفصيل؟‬
‫فأجاب رمحه اهلل ورضي اهلل عنه بقوله‪ :‬احلمد هلل‪ ،‬إن أراد بذلك أنه ال بد‬
‫من واسطة تبلغ أمر اهلل تعاىل ودينه‪ ،‬فهذا حق‪ ،‬فإن اْللق ال يعلمون ما حيبه اهلل‬
‫أعد ألوليائه من كرامته‪ ،‬وما أوعد به‬ ‫ويرضاه وما أمر اهلل به وهنى عنه‪ ،‬وما َّ‬
‫أعداءه من عذابه‪ ،‬وال يعرفون ما يستحقه اهلل من أمسائه احلسى وصفاته العليا‪،‬‬
‫الىت يعجز العقول عن اإلحاطة هبا إىل أمثال ذلك إالَّ بالرسل الذين أرسلهم اهلل‬
‫إىل عباده‪...‬‬
‫وإن أرادوا بالواسطة‪ :‬أنه ال بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبني اهلل يف‬
‫جلب املنافع ودفع املضار‪ ،‬مثل أن يكون واسطة يف رزق العباد ونصرهم وهداهم‬
‫يسألوهنم ذلك ويرجوهنم فيه‪ ،‬فهذا من أعظم الشرك الذي كفَّر اهلل به املشركني‬
‫حيث اختذوا من دون اهلل أولياء شفعاء جيلبون هبم املنافع ويدفعون هبم املضار‪،‬‬
‫لكن الشفاعة ملن يأذن اهلل تعاىل له فيها‪.‬‬
‫ض َوَما بَـْيـنَـه َما ِيف ِست َِّة أَيَّام مثَّ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬اللَّه الَّ ِذي خلَق َّ ِ‬
‫الس َم َاوات َواأل َْر َ‬ ‫َ َ‬
‫استَـ َوى‬
‫ْ‬

‫‪-245-‬‬
‫َعلَى الْ َع ْر ِش َما لَكم ِّمن دونِِه ِمن َوِيل َوَال َش ِفيع أَفَ َال تَـتَ َذ َّكرو َن﴾ [السجدة‪:‬‬
‫س َهلم ِّمن دونِِه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ َّ ِ‬
‫ين َخيَافو َن أَن ْحي َشرواْ إ َىل َرِّهب ْم لَْي َ‬
‫‪ ،]4‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وأَنذ ْر به الذ َ‬
‫وِيل والَ َش ِفيع﴾ [األنعام‪ ،]69 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ق ِل ْادعوا الَّ ِذين زعمتم ِّمن د ِ‬
‫ون‬ ‫َ ََْ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َوَما َهل ْم فيه َما من ش ْرك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الس َم َاوات َوالَ يف األ َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اللَّ ِه الَ ميَْلكو َن مثْـ َقا َل َذ َّرة يف َّ‬
‫نده إِالَّ لِ َم ْن أ َِذ َن لَه﴾ [سبأ‪،22 :‬‬ ‫اعة ِع َ‬ ‫َوَما لَه ِمْنـهم ِّمن ظَ ِهري * َوالَ تَ َنفع الش َ‬
‫َّف َ‬
‫‪ ،]23‬وساق ‪ -‬آيات يف املعى ‪ -‬إىل أن قال‪ :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ما َكا َن لِبَ َشر أَن‬
‫ون اللي ِه‬
‫َّاس كونواْ ِعبادا ِّيل ِمن د ِ‬
‫ًَ‬ ‫ول لِلن ِ‬‫ْم َوالنُّبـ َّوَة مثَّ يَـق َ‬ ‫احلك َ‬ ‫اب َو ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يـ ْؤتيَه الليه الْكتَ َ‬
‫اب َوِمبَا كنت ْم تَ ْدرسو َن * َوالَ يَأْمَرك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ـكن كونواْ ربَّانِيِّ ِ‬ ‫ولَ ِ‬
‫ني مبَا كنت ْم تـ َعلِّمو َن الْكتَ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني أ َْربَابًا أَيَأْمركم بالْك ْفر بَـ ْع َد إ ْذ أَنتم ُّم ْسلمو َن﴾ [آل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أَن تَـتَّخذواْ الْ َمالَئ َكةَ َوالنِّبيِّـ ْ َ‬
‫عمران‪.]15 ،41 :‬‬
‫فبني سبحانه وتعاىل أن اختاذ املالئكة والنبيني أربابًا كفر‪ ،‬فمن جعل‬ ‫َّ‬
‫املالئكة واألنبياء وسائط‪ ،‬يدعوهم‪ ،‬ويتوكل عليهم‪ ،‬ويسأهلم جلب املنافع‪ ،‬ودفع‬
‫املضار‪ ،‬مثل‪ :‬أن يسأهلم غفران الذنوب‪ ،‬وهداية القلوب‪ ،‬وتفريج الكروب‪ ،‬وسد‬
‫الفاقات‪ ،‬فهو كافر بإمجا املسلمني‪.‬‬
‫واملقصود هنا‪ :‬أن من أثبت وسائط بني اهلل تعاىل وبني خلقه‪ ،‬كالوسائط‬
‫اليت تكون بني امللوك والرعية فهو مشرك‪ ،‬بل هذا دين املشركني عباد األوثان‪.‬‬
‫يتقربون هبا إىل اهلل‬ ‫كانوا يقولون‪ :‬إهنا َتاثبل األنبياء والصاحلني‪ ،‬وإهنا وسائط َّ‬
‫تعاىل‪ ،‬وهو من الشرك الذي أنكره اهلل تعاىل على النصارى‪ ،‬حيث قال‪َّ ﴿ :‬اختَذواْ‬
‫يح ابْ َن َم ْرَميَ َوَما أ ِمرواْ إِالَّ لِيَـ ْعبدواْ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َحبَ َاره ْم َورْهبَانَـه ْم أ َْربَابًا ِّمن دون الليه َوالْ َمس َ‬ ‫أْ‬
‫اح ًدا الَّ إِلَـهَ إِالَّ ه َو سْب َحانَه َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [التوبة‪ ،]39 :‬وقد قال تعاىل‪:‬‬ ‫إِلَـها و ِ‬
‫ً َ‬
‫ان فَـْليَ ْستَ ِجيبواْ ِيل‬‫ك ِعب ِادي ع ِّن فَِإ ِّي قَ ِريب أ ِجيب د ْعوَة الدَّا ِ إِ َذا دع ِ‬
‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫﴿ َوإِ َذا َسأَلَ َ َ َ‬
‫َولْيـ ْؤِمنواْ ِيب لَ َعلَّه ْم يَـ ْرشدو َن﴾ [البقرة‪ ،]915 :‬مث ذكر آيات يف املعى‪.‬‬

‫‪-249-‬‬
‫وهذا الذي قاله الشيخ ال خالف فيه بني املسلمني‪ ،‬وإمنا اشتبه األمر على‬
‫هؤالء الضالل‪ ،‬ملا قدم العهد‪ ،‬ونسي العلم‪ ،‬واعتادوا سؤال غري اهلل فيما خيت‬
‫(‪)1‬‬
‫به تعاىل ونشئوا على ذلك» ‪.‬‬
‫وجاء يف نواقض اإلسالم العشرة للشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل‬
‫تعاىل‪:‬‬
‫«الناقض الثاي‪ :‬من جعل بينه وبني اهلل وسائط يدعوهم ويسأهلم الشفاعة‬
‫(‪)2‬‬
‫إمجاعا» ‪.‬‬
‫ويتوكل عليهم‪ ،‬فقد كفر ً‬

‫(‪« )1‬منهاج التأسيس والتقديس»‪( :‬ص‪.)355 – 363‬‬


‫(‪« )2‬عقيدة املوحدين»‪( :‬ص‪.)465‬‬

‫‪-242-‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫ضرورة التحذير من الشرك ووسائله‬
‫إن الشرك دقه وجليه‪ ،‬صغريه وكبريه‪ ،‬بوسائله وغاياته‪ ...‬ظلم عظيم وإفك‬
‫مبني‪ .‬وملا وقع الكثري من عوام املسلمني‪ ،‬يف كثري من األمور الشركية وذرائعها‬
‫املؤدية إليها‪ ،‬توجب التنبيه عليها‪ ،‬والتحذير منها لتصح الرباءة من الشرك‪،‬‬
‫وتتحقق النجاة من ظلماته‪.‬‬
‫قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه اهلل‪:‬‬
‫هناك أشياء مرتددة بني الشرك األكرب والشرك األصغر‪ ،‬حبسب ما يقوم‬
‫بقلب فاعلها‪ ،‬وما يصدر عنه من األفعال واألقوال‪ ،‬ويقع فيها بعض الناس‪ ،‬قد‬
‫تتناىف مع العقيدة‪ ،‬أو تعكر صفوها‪ ،‬وهي َتارس على املستوى العام‪ ،‬ويقع فيها‬
‫بالدجالني واحملتالني واملشعوذين‪ ،‬وقد حذر منها النيب ‪ ،‬ومن‬‫تأثرا َّ‬
‫بعض العوام‪ً ،‬‬
‫هذه األمور‪:‬‬
‫‪ -6‬لبس الحلقة والخيط ونحوهما وبقصد رفع البالء أو دفعه‪:‬‬
‫وذلك من فعل اجلاهلية‪ ،‬وهو من الشرك األصغر‪ ،‬وقد يرتقى إىل درجة‬
‫الشرك األكرب‪ ،‬حبسب ما يقوم بقلب البسها من االعتقاد هبا‪.‬‬
‫فعن عمران بن حصني ‪ ،‬أن رسول اهلل ‪ ‬رأى رجالً يف يده حلقه من‬
‫صفر‪ ،‬فقال‪« :‬ما هذا؟» قال‪ :‬من الواهنة‪ ،‬فقال‪« :‬انزعها‪ ،‬فإهنا ال تزيدك إالَّ‬
‫أبدا»‪ ،‬رواه أمحد بسند ال بأس به‪،‬‬ ‫وهنًا‪ ،‬فإنك لو مت وهي عليك‪ ،‬ما أفلحت ً‬
‫أقره الذهيب‪.‬‬
‫وصححه ابن حبان واحلاكم و َّ‬
‫َّ‬
‫‪ -7‬تعليق التمائم‪:‬‬
‫وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أوالدها‪ ،‬يتقون هبا العني‪،‬‬

‫‪-243-‬‬
‫ويتلمحون من امسها أن يتم اهلل هلم مقصودهم‪ ،‬وقد تكون التمائم من‬
‫عظام ومن خرز ومن كتابة وغري ذلك‪ ،‬وهذا ال جيوز‪ .‬وقد يكون املعلق من‬
‫القرآن‪ ،‬فإذا كان من القرآن‪ ،‬فقد اختلف العلماء يف جوازه وعدم جوازه‪،‬‬
‫سدا للذريعة‪ ،‬فإنه يفضي إىل تعليق غري القرآن‪ ،‬وألنه ال‬ ‫والراجح عدم جوازه‪ً ،‬‬
‫خمص للنصوص املانعة من تعليق التمائم‪ ،‬كحديث ابن مسعود ‪ ‬قال‪:‬‬ ‫َّ‬
‫مسعت رسول اهلل ‪ ‬يقول‪« :‬يقول‪« :‬إن الرقى والتمائم والتِّولة شرك»‪ ،‬رواه أمحد‬
‫وأبو داود‪ ،‬وعن عقبة بن عامر مرفو ًعا‪« :‬من علق َتيمية‪ ،‬فقد أشرك»‪ ،‬وهذه‬
‫خمص هلا‪.‬‬
‫نصوص عامة ال ِّ‬
‫‪ -4‬التبرك باألشجار واألحجار واآلثار والبنايات‪:‬‬
‫التربك معناه‪ :‬طلب الربكة ورجاؤها واعتقادها يف تلك األشياء‪.‬‬ ‫و ُّ‬
‫وحكمه أنه شرك أكرب‪ ،‬ألنه تعلُّق على غري اهلل سبحانه يف حصول الربكة‪،‬‬
‫كالتربك‬
‫ُّ‬ ‫فالتربك بقبور الصاحلني‬ ‫وعبَّاد األوثان إمنا كانوا يطلبون الربكة منها‪ُّ ،‬‬
‫بالعزى ومناة‪.‬‬ ‫كالتربك َّ‬
‫ُّ‬ ‫بالالَّت‪ ،‬و ُّ‬
‫التربك باألشجار واألحجار‬
‫وعن أيب واقد الليثي‪ ،‬قال‪ :‬خرجنا مع رسول اهلل ‪ ‬إىل حنني‪ ،‬وحنن حدثاء‬
‫عهد بكفر‪ ،‬وللمشركني سدرة يعكفون عندها‪ ،‬وينطقون هبا أسلحتهم‪ ،‬يقال‬
‫هلا‪ :‬ذات أنواط‪ ،‬فمررنا بسدرة‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا رسول اهلل اجعل لنا ذات أنواط كما‬
‫هلم ذات أنواط‪ .‬فقال رسول اهلل ‪« :‬اهلل أكرب‪ ،‬إهنا السنن‪ ،‬قلتم ‪ -‬والذي‬
‫اج َعل لَّنَا إِلَ ًـها َك َما َهل ْم ِآهلَة قَ َال‬
‫نفسي بيده ‪ -‬كما قالت بنو إسرائيل ملوسى‪ْ ﴿ :‬‬
‫إِنَّك ْم قَـ ْوم َْجت َهلو َن﴾ [األعراف‪ ،]931 :‬لرتكنب سنن من كان قبلكم»‪ ،‬رواه‬
‫وصححه‪.‬‬
‫الرتمذي َّ‬
‫‪ -3‬السحر‪:‬‬
‫سحرا ألنه حيصل بأمور خفية‬ ‫وهو عبارة عما خفي ولطف سببه‪ ،‬مسي ً‬

‫‪-244-‬‬
‫ال تدرك باألبصار‪ ،‬وهو عبارة عن عزائم ورقى وكالم يتكلَّم به وأدوية‬
‫وتدخينات‪ ،‬ومنه ما يؤثر يف القلوب واألبدان فيمرض ويقتل ويفرق بني املرء‬
‫وزوجه‪ ،‬وتأثريه بإذن اهلل الكوي القدري‪ ،‬وهو عمل شيطاي‪.‬‬
‫(كيفية دخول السحر في الشرك)‬
‫وكثري منه ال يتوصل إليه إالَّ بالشرك و ُّ‬
‫التقرب إىل األرواح اْلبيثة بشيء مما‬
‫حتب‪ ،‬واالستعانة بالتحيُّل على استخدامها باإلشراك هبا‪ ،‬وهلذا يقرنه الشار‬
‫بالشرك‪ ،‬وهو داخل يف الشرك من ناحيتني‪:‬‬
‫األولى‪ :‬ما فيه من استخدام الشياطني والتعلق هبم‪ ،‬ورمبا تقرب إليهم مبا‬
‫حيبونه ليقوموا خبدمته‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬ما فيه من دعوى علم الغيب ودعوى مشاركة اهلل يف ذلك‪ ،‬وهذا‬
‫كفر وضالل‪.‬‬
‫قال تعاىل‪﴿ :‬ولََق ْد علِمواْ لَم ِن ا ْشتـراه ما لَه ِيف ِ‬
‫اآلخَرةِ ِم ْن َخالَق﴾ [البقرة‪:‬‬ ‫َ ََ َ‬ ‫َ َ‬
‫‪.]952‬‬
‫وعن أيب هريرة ‪ ،‬أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬اجتنبوا السبع املوبقات»‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫يا رسول اهلل! وما هن؟ قال‪« :‬الشرك باهلل‪ ،‬والسحر‪ ،‬وقتل النفس اليت حرم اهلل‬
‫إالَّ باحلق‪ ،‬وأكل الربا‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬والتويل يوم الزحف‪ ،‬وقذف احملصنات‬
‫الغافالت املؤمنات»‪.‬‬
‫‪ -0‬الكهانة‪:‬‬
‫وهي ادعاء علم الغيب‪ ،‬كاإلخبار مبا سيقع يف األرض‪ ،‬مع االستناد إىل‬
‫سبب‪ ،‬هو اسرتاق السمع‪ ،‬يسرتق اجلن الكلمة من كالم املالئكة‪ ،‬فيلقيها يف‬
‫أذن الكاهن‪ ،‬فيكذب معها مئة كذبة‪ ،‬فيصدقه الناس بسبب تلك الكلمة‪.‬‬
‫واهلل هو املتفرد بعلم الغيب‪ ،‬فمن ادعى مشاركته يف شيء من ذلك بكهانة‬
‫أو غريها‪ ،‬أو صدَّق من يدَّعي ذلك‪ ،‬فقد جعل هلل شري ًكا فيما هو من‬

‫‪-246-‬‬
‫خصائصه‪ ،‬وهو مكذب هلل ولرسوله‪ .‬وكثري من الكهانة املتعلِّقة بالشياطني‬
‫التقرب إىل الوسائط اليت يستعني هبا على دعوى العلوم‬ ‫ال ختلو من الشرك و ُّ‬
‫الغيبية‪.‬‬
‫فالكهانة شرك من جهة دعوى مشاركة اهلل يف علمه الذي اخت َّ به‪ ،‬ومن‬
‫التقرب إىل غري اهلل‪.‬‬
‫جهة ُّ‬
‫ويف «صحيح مسلم» عن بعض أزواج النيب ‪ ،‬عن النيب ‪ ‬قال‪« :‬من أتى‬
‫يوما»‪ .‬وعن‬‫عرافًا‪ ،‬فسأله عن شيء‪ ،‬فصدَّقه مبا يقول‪ ،‬ل تقبل له صالة أربعني ً‬ ‫َّ‬
‫أيب هريرة ‪ ،‬عن النيب ‪ ‬قال‪« :‬من أتى كاهنًا فصدَّقه مبا يقول‪ ،‬فقد كفر مبا‬
‫أنزل على حممد ‪ ،»‬رواه أبو داود‪...‬‬
‫‪ -1‬التطير‪:‬‬
‫وهو التشاؤم بالطيور واألمساء واأللفاظ والبقا واألشخاص وغري ذلك‪ ،‬فإذا‬
‫عزم شخ على أمر من أمور الدين أو الدنيا‪ ،‬فرأى أو مسع ما يكره‪ ،‬أثر فيه‬
‫وتأثرا مبا رأى أو مسع‪،‬‬
‫تطريا ً‬
‫عازما عليه ً‬ ‫ذلك أحد أمرين‪ :‬إما الرجو عما كان ً‬
‫فيعلِّق قَـْلبَه بذلك املكروه‪ ،‬ويؤثر ذلك على إميانه‪ ،‬وخيل بتوحيده وتوكله على‬
‫اهلل‪ ،‬وإما أن ال يرجع عما عزم عليه‪ ،‬ولكن يبقى يف قلبه أثر ذلك التطري من‬
‫اهلم والوساوس والضعف‪.‬‬ ‫احلزن واألل و ِّ‬
‫فيجب على من وجد شيئًا من ذلك يف نفسه‪ :‬أن جياهدها على دفعه‪،‬‬
‫ويستعني باهلل ويتوكل عليه وميضي يف شأنه‪ ،‬ويقول‪ :‬اللهم ال يأيت باحلسنات إالَّ‬
‫أنت وال يدفع السيئات إالَّ أنت‪ ،‬وال حول وال قوة إالَّ بك‪...‬‬
‫اعتقادا حبصول الضرر من خملوق‬ ‫تعلقا على غري اهلل‪ ،‬و ً‬ ‫والتطري شرك‪ ،‬لكونه ً‬
‫نفعا‪ ،‬ولكونه من إلقاء الشيطان ووسوسته‪ ،‬ولكونه‬ ‫ضررا وال ً‬ ‫ال ميلك لنفسه ً‬
‫يصدر عن القلب خوفًا وخشية‪ ،‬وهو ينايف التوكل‪....‬‬
‫وقوله ‪« :‬ويعجبن الفأل»‪ ،‬مث بيَّنه ‪ ‬بأنه الكلمة الطيبة‪ ،‬وإمنا أعجبه‬
‫الفأل ألنه حسن ظن باهلل‪ ،‬والعبد مأمور أن حيسن الظن باهلل‪ ،‬والطرية سوء‬

‫‪-245-‬‬
‫الظن باهلل عز وجل‪ ،‬وتوقع البالء‪ ،‬ومن هنا جاء الفرق بينهما يف احلكم‪ ،‬ألن‬
‫الناس إذا أملوا اْلري من اهلل‪ ،‬علَّقوا قلوهبم به‪ ،‬وتوَّكلوا عليه‪ ،‬وإذا قطعوا آماهلم‬
‫ورجاءهم من اهلل‪ ،‬كان ذلك من الشر والتعلُّق على غري اهلل‪...‬‬
‫ويف احلديث الذي رواه أمحد عن ابن عمر عمرو رضي اهلل عنهما‪ ،‬عن‬
‫ردته الطرية عن حاجته‪ ،‬فقد أشرك»‪ ،‬قالوا‪ :‬فما كفارة ذلك؟‬ ‫النيب ‪« :‬من َّ‬
‫قال‪« :‬أن تقول‪ :‬اللهم ال خري إالَّ خريك‪ ،‬وال طري إالَّ طريك‪ ،‬وال إله غريك»‪،‬‬
‫فتضمن هذا احلديث الشريف أن الطرية ال تضر من كرهها ومضى يف طريقه‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وأما من ل خيل توكله على اهلل‪ ،‬واسرتسل مع الشيطان يف ذلك‪ ،‬فقد يعاقب‬
‫بالوقو فيما يكرهه‪ ،‬ألنه أعرض عن واجب اإلميان باهلل‪.‬‬

‫‪ -2‬التنجيم‪:‬‬
‫عرفه بعض احملققني‪ :‬بأنه االستدالل باألحوال الفلكية على‬ ‫وهو كما َّ‬
‫احلوادث األرضية‪ ،‬كأوقات هبوب الرياح‪ ،‬وجميء املطر‪ ،‬وظهور احلر والربد‪،‬‬
‫وتغري األسعار‪ ،‬أو حدوث األمراض أو الوفيات‪ ،‬أو السعود والنحوس‪ ،‬وهذا ما‬
‫يسمى بعلم التأثري‪.‬‬
‫وهو على نوعني‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬أن يدَّعي املنجم أن الكواكب فاعلة خمتارة‪ ،‬وأن احلوادث‬
‫خالقا غري اهلل‪،‬‬
‫جتري بتأثريها‪ .‬وهذا كفر بإمجا املسلمني‪ ،‬ألنه اعتقاد أن هناك ً‬
‫أحدا يتصرف يف ملكه بغري مشيئته وتقديره سبحانه وتعاىل‪.‬‬ ‫وأن ً‬
‫والنوع الثاني‪ :‬االستدالل مبسري الكواكب واجتماعها وافرتاقها على حدوث‬
‫احلوادث‪ ،‬وهذا ال شك يف حترميه‪ ،‬ألنه من ادعاء علم الغيب وهو‬

‫‪-244-‬‬
‫أيضا‪ ،‬كما قال النيب ‪« :‬من اقتبس شعبة من النجوم‪ ،‬فقد‬ ‫من السحر ً‬
‫وصححه‬
‫اقتبس شعبة من السحر‪ ،‬زاد ما زاد» رواه أبو داود‪ ،‬وإسناده صحيح‪َّ ،‬‬
‫النووي والذهيب‪ ،‬ورواه ابن ماجه وأمحد وغريمها‪.‬‬
‫(المشروع والغير مشروع‪ ،‬من الستدلل بعلم النجوم)‬
‫وأما االستدالل بالنجوم ملعرفة االجتاه يف األسفار يف الرب والبحر‪ ،‬فهذا ال‬
‫بأس به‪ ،‬وهو من نعمة اهلل عز وجل‪ ،‬حيث يقول سبحانه‪ ﴿ :‬وهو ال ِذي جعل‬
‫لكم النجوم لِتـ ْهتدوا بِها فِي ظلم ِ‬
‫ات الْبـ ِّر والْب ْح ِر ﴾ [األنعام‪ ،]14 :‬أي‪:‬‬
‫لتعرفوا هبا جهة قصدكم‪ ،‬وليس املراد أنه يهتدى هبا يف علم الغيب كما يعتقده‬
‫املنجمون‪.‬‬
‫قال اْلطايب‪« :‬وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة‪ ،‬فإهنا‬
‫كواكب رصدها أهل اْلربة من األئمة‪ ،‬الذين ال نشك يف عنايتهم بأمر الدين‪،‬‬
‫ومعرفتهم هبا‪ ،‬وصدقهم فيما أخربوا به عنها‪ ،‬مثل أن يشاهدها حبضرة الكعبة‪،‬‬
‫ويشاهدها على حال الغيبة عنها‪ ،‬فكان إدراكهم الداللة منها باملعاينة‪ ،‬وإدراكنا‬
‫ذلك بقبول خربهم‪ ،‬إذ كانوا عندنا غري متَّهمني يف دينهم‪ ،‬وال مقصرين يف‬
‫معرفتهم»‪....‬‬
‫(ضرورة الحفاظ على العقيدة الصحيحة الصافية)‬
‫وبعد‪ ،‬فإن عقيدة املسلم هي أعز شيء عنده‪ ،‬ألن هبا جناته وسعادته‪،‬‬
‫فيجب عليه أن حيرص على جتنُّب ما يسيء إليها أو ميسها من الشركيات‬
‫واْلرافات والبد ‪ ،‬لتبقى صافية مضيئة‪ ،‬وذلك بالتزام الكتاب والسنة وما عليه‬
‫السلف الصاحل‪ ،‬وال يتم ذلك إالَّ بتعلم هذه العقيدة‪ ،‬ومعرفة ما يضادها من‬
‫العقائد املنحرفة‪ ،‬ال سيما وأنه قد كثر اليوم يف صفوف املسلمني من‬

‫‪-241-‬‬
‫حيرتف التدجيل والشعوذة والتعلق بالقبور واألضرحة لطلب احلاجات‬
‫وتفريج الكربات‪ ،‬كما كان عليه املشركون األولون أو أشد‪ ،‬إضافة إىل اختاذ‬
‫السادة وأصحاب الطرق الصوفية أربابًا من دون اهلل‪ ،‬يشرعون ألتباعهم من‬
‫الدين ما ل يأذن به اهلل‪ ،‬فال حول وال قوة إالَّ باهلل‪.‬‬

‫‪ -5‬الستسقاء باألنواء‪:‬‬
‫وهو عبارة عن نسبة املطر إىل طلو النجم أو غروبه‪ ،‬على ما كانت‬
‫اجلاهلية تعتقده من أن طلو النجم أو سقوطه يف املغيب يؤثر يف إنزال املطر‪،‬‬
‫فيقولون‪ :‬مطرنا بنوء كذا وكذا‪ ،‬وهم يريدون بذلك النجم‪ ،‬ويعربون عنه بالنوء‪،‬‬
‫وهو طلو النجم‪ ،‬من ناء ينوء‪ :‬إذا هنض وطلع‪ ،‬فيقولون‪ :‬إذا طلع النجم‬
‫الفالي‪ ،‬ينزل املطر‪....‬‬
‫تأثريا يف إنزال املطر‪،‬‬
‫وحكم االستسقاء باألنواء أنه إن كان يعتقد أن له ً‬
‫فهذا شرك وكفر أكرب‪ ،‬وهو الذي يعتقده أهل اجلاهلية‪ ،‬وإن كان ال يعتقد‬
‫تأثريا‪ ،‬وأن املؤثر هو اهلل وحده‪ ،‬ولكنه أجرى العادة بوجود املطر عند‬
‫للنجم ً‬
‫سقوط ذلك النجم‪ ،‬فهذا ال يصل إىل الشرك األكرب‪ ،‬ويكون من الشرك‬
‫سدا للذريعة‪.‬‬
‫األصغر‪ ،‬ألنه حيرم نسبة املطر إىل النجم‪ ،‬ولو على سبيل اجملاز‪ً ،‬‬
‫وقد روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد ‪ ،‬قال‪ :‬صلَّى بنا رسول اهلل ‪‬‬
‫صالة الصبح باحلديبية على أثر مساء كانت من الليل‪ ،‬فلما انصرف أقبل على‬
‫الناس‪ ،‬فقال‪« :‬هل تدرون ماذا قال ربكم؟»‪ ،‬قالوا‪ :‬اهلل ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫«قال‪ :‬أصبح من عبادي مؤمن يب وكافر‪ ،‬فأما من قال‪:‬‬
‫مـطرنا بفضل اهلل ورمحته‪ ،‬فذلك مؤمن يب كافر بالكوكب‪ ،‬وأما من قال‪:‬‬

‫‪-241-‬‬
‫مطرنا بنوء كذا وكذا‪ ،‬فذلك كافر يب مؤمن بالكوكب»‪....‬‬
‫‪ -0‬نسبة النعم إلى غير اهلل‪:‬‬
‫سبق الكالم عن حكم نسبة املطر إىل األنواء واالستسقاء هبا‪ ،‬والكالم اآلن‬
‫عموما إىل غري اهلل‪.‬‬
‫يف حكم نسبة النعم ً‬
‫إن االعرتاف بفضل اهلل وإنعامه والقيام بشكره من صميم العقيدة‪ ،‬ألن من‬
‫نسب النعمة إىل غري موليها‪ ،‬وهو اهلل سبحانه‪ ،‬فقد كفرها‪ ،‬وأشرك باهلل بنسبتها‬
‫إىل غريه‪.‬‬
‫نكرونَـ َها َوأَ ْكثَـرهم الْ َكافِرو َن﴾‬
‫قال تعاىل‪﴿ :‬يـع ِرفو َن نِعمت اللي ِه مثَّ ي ِ‬
‫َْ َ‬ ‫َْ‬
‫(‪)1‬‬
‫[النحل‪. »]13:‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬اإلرشاد إىل تصحيح االعتقاد»‪.)996 – 11( :‬‬

‫‪-265-‬‬
‫المبحث السادس‬
‫التحذير من ألفاظ ل ينبغي أن تقال في حق اهلل سبحانه‬

‫أجل وسائل وغايات التوحيد‪ ،‬وضد ذلك من أخطر‬ ‫إن تعظيم اهلل من ِّ‬
‫وسائل وغايات الشرك والتنديد‪ ،‬ولذلك ينبغي أن نراعي جتنب بعض األلفاظ‪،‬‬
‫تعظيما لشأنه سبحانه‪:‬‬
‫اليت ال جيوز أن تقال يف حق اهلل‪ً ،‬‬
‫قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه اهلل‪:‬‬
‫جل وعال عظيم‪ ،‬جيب أن يعظَّم‪ ،‬وهناك ألفاظ ال جيوز أن تقال يف‬ ‫«اهلل َّ‬
‫تعظيما له‪ ،‬وقد ورد النهي عنها‪.‬‬
‫حقه سبحانه‪ً ،‬‬
‫ومن هذه األلفاظ‪ :‬أنه ال يقال‪« :‬السالم على اهلل»‪ ،‬ألن السالم دعاء‬
‫للمسلَّم عليه بطلب السالمة له من الشرور‪ ،‬واهلل سبحانه يطلب منه ذلك‪ ،‬وال‬
‫يطلب له‪ ،‬ويدعى وال يدعى له‪ ،‬ألنه الغن‪ ،‬له ما يف السموات واألرض‪ ،‬وهو‬
‫السال من كل عيب ونق ‪ ،‬ومانح السالمة ومعطيها‪ ،‬وهو السالم ومنه‬
‫السالم‪.‬‬
‫ويف «الصحيح» عن ابن مسعود ‪ ،‬قال‪ :‬كنا إذا كنا مع رسول اهلل ‪ ‬يف‬
‫الصالة‪ ،‬قلنا‪ :‬السالم على اهلل من عباده‪ ،‬السالم على فالن وفالن‪ .‬فقال النيب‬
‫‪« :‬ال تقولوا‪ :‬السالم على اهلل‪ ،‬فإن اهلل هو السالم»‪ ،‬أي‪ :‬إن اهلل سال من‬
‫كل نق ‪....‬‬
‫ومن األلفاظ اليت ال تقال يف حق اهلل تعاىل‪« :‬اللهم اغفر يل إن شئت»‪،‬‬
‫فطلب احلاجة من اهلل ال يعلَّق على املشيئة‪ ،‬وإمنا جيزم به‪.‬‬
‫ويف «الصحيح عن أيب هريرة ‪ ،‬أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬ال يقل أحدكم‪:‬‬
‫اللهم اغفر يل إن شئت‪ ،‬اللهم ارمحن إن شئت‪ ،‬ليعزم املسألة‪ ،‬فإن‬

‫‪-269-‬‬
‫اهلل ال مكره له»‪ ،‬وملسلم‪« :‬وليعظم الرغبة‪ ،‬فإن اهلل ال يتعاظمه شيء‬
‫أعطاه»‪...‬‬
‫(حرمة التألِّي على اهلل تعالى)‬
‫ومن األلفاظ اليت ال تقال يف حق اهلل تعاىل اإلقسام على اهلل إذا كان على‬
‫وجه احلجر عليه أن ال يفعل اْلري‪.‬‬
‫عن جندب بن عبد اهلل ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬قال رجل‪ :‬واهلل ال‬
‫على أن ال أغفر لفالن‪،‬‬ ‫يغفر اهلل لفالن‪ ،‬فقال اهلل عز وجل‪ :‬من ذا الذي ِّ‬
‫يتأىل َّ‬
‫إي قد غفرت له وأحبطت عملك» رواه مسلم‪.‬‬
‫التأيل من األليَّة ‪ -‬بتشديد الياء‪ ،-‬وهي اليمني‪ ،‬ومعى «يتأىل»‪ :‬حيلف‪،‬‬ ‫و ِّ‬
‫وقوله‪« :‬من ذا الذي»‪ :‬استفهام إنكار‪.‬‬
‫وهذا الرجل أساء األدب مع اهلل‪ ،‬وحكم عليه‪ ،‬وقطع أنه ال يغفر هلذا‬
‫املذنب‪ ،‬فكأنه حكم على اهلل سبحانه‪ ،‬وهذا من جهله مبقام الربوبية‪ ،‬واغرتاره‬
‫بنفسه وبعلمه‪ ،‬وإدالله بذلك‪ ،‬فعومل بنقيض قصده‪ ،‬وغفر هلذا املذنب بسببه‪،‬‬
‫عابدا‪.‬‬
‫وأحبط عمله بسبب هذه الكلمة السيئة اليت قاهلا‪ ،‬مع أنه كان ً‬
‫قال أبو هريرة ‪« :‬تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته»‪....‬‬

‫يصححها وما يخل بها)‬‫(وجوب دراسة العقيدة‪ ،‬ومعرفة ما ِّ‬


‫يتبني أنه جيب التحفظ يف األلفاظ‪ ،‬واالبتعاد عن اللفظ الذي فيه‬
‫ومما سبق َّ‬
‫سوء أدب مع اهلل سبحانه‪ ،‬ألن هذا خيل بالعقيدة‪ ،‬وينق التوحيد‪ ،‬فال يقال‪:‬‬
‫السالم على اهلل‪ ،‬ألنه هو السالم سبحانه‪ ،‬وألن السالم على أحد دعاء له‬
‫بالسالمة‪ ،‬واهلل سبحانه يدعى وال يدعى له‪ ،‬وال يقال‪ :‬اللهم اغفر يل وارمحن إن‬
‫شئت‪ ...‬وحنو ذلك‪ ،‬بل كل دعاء يؤتى به على سبيل اجلزم‬
‫بال تعليق باملشيئة‪ ،‬ألن اهلل يفعل ما يشاء‪ ،‬وال مكره له‪ ،‬وإنه ال يقسم على‬
‫اهلل أن ال يـرحم فالنًا أو يغفر لفالن‪ ،‬ألن هذا حظر ومنع لرمحة اهلل وسوء‬

‫‪-262-‬‬
‫ظن باهلل عز وجل‪ ،‬كما أنه ال جيوز أن يقال‪ :‬ما شاء اهلل وشاء فالن‪ ،‬وإمنا‬
‫يقال‪ :‬ما شاء اهلل مث شاء فالن‪ ،‬ألن العطف بالواو يقتضي املشاركة‪ ،‬وال أحد‬
‫يشارك اهلل سبحانه ويساويه يف أمر من األمور‪ ،‬وأما العطف بـ (مث)‪ ،‬فإنه يقتضي‬
‫الرتتيب والتبعية‪ ،‬فتكون مشيئة املخلوق تابعة ملشيئة اهلل سبحانه وحاصلة‬
‫بعدها‪ ،‬وليست مشاركة هلا‪.‬‬
‫يصححها‬‫وكل هذا مما يؤكد على املسلم وجوب دراسة العقيدة‪ ،‬ومعرفة ما ِّ‬
‫وما خيل هبا‪ ،‬حىت يكون على بيِّنة من أمره وحىت ال يقع يف احملذور وهو ال‬
‫يشعر‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وفَّق اهلل اجلميع للعلم النافع والعمل الصاحل ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬اإلرشاد إىل تصحيح االعتقاد»‪( :‬ص‪.)949 – 921‬‬

‫‪-263-‬‬
-264-
‫الفصل الثالث‬
‫الفتنة بالقبور‪ ،‬والمفاسد المترتبة عليها‪،‬‬
‫مع الرد على أشهر شبهات أهلها‬

‫وفيه أربعة مباحث‪:‬‬

‫المبحث األول ‪ :‬تعظيم القبور من أعظم أسباب الشرك‪ ،‬وعبادة األوثان‪.‬‬


‫المبحث الثاني ‪ :‬ال جيوز ختصي القبور بنو من عبادة اهلل سبحانه‪،‬‬
‫فكيف بعبادهتا وعبادة أصحاهبا؟‬
‫المبحث الثالث ‪ :‬حرمة اختاذ القبور مساجد ووجوب هدمها‪ ،‬معلوم‬
‫باالضطرار من الدين‪.‬‬
‫المبحث الرابع ‪ :‬أشهر شبهات أهل القبور‪ ،‬والرد الباهر عليها‪.‬‬

‫‪-266-‬‬
-265-
‫المبحث األول‬
‫تعظيم القبور من أعظم أسباب الشرك‪ ،‬وعبادة األوثان‬
‫قال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم اهلل تعالى‪ :‬قال‬
‫شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه اهلل‪:‬‬
‫«وكان ‪ ‬حيقق التوحيد ويعلمه أمته‪ ،‬حىت قال رجل‪ :‬ما شاء اهلل وشئت‪،‬‬
‫ندا؟ بل ما شاء اهلل وحده» وهنى عن احللف بغري اهلل وقال‪:‬‬
‫قال‪« :‬أجعلتن هلل ً‬
‫«من حلف بغري اهلل فقد أشرك»‪ ،‬وقال يف مرض موته‪« :‬لعن اهلل اليهود‬
‫والنصارى اختذوا قبور أنبيائهم مساجد»‪ ،‬حيذر ما فعلوا‪ ،‬وقال‪« :‬اللهم ال جتعل‬
‫قربي وثنًا يعبد»‪.‬‬
‫وهلذا اتفق العلماء على أن من سلَّم على النيب عند قربه أنه ال يتمسح‬
‫حبجرته وال يقبلها‪ ،‬ألنه إمنا يكون ألركان بيت اهلل فال يشبه بيت املخلوق بيت‬
‫(‪)1‬‬
‫اْلالق» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد الرمحن بن حسن رمحهما اهلل تعاىل يف شرحه على كتاب‬
‫التوحيد‪:‬‬
‫قوله‪« :‬اللَّهم ال جتعل قربي وثنًا يعبد»‪ ،‬قد استجاب اهلل دعاءه كما قال‬
‫ابن القيم رمحه اهلل تعاىل‪:‬‬
‫وأحاط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه بثالث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة الج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدران‬ ‫فأج ـ ـ ـ ــاب رب الع ـ ـ ـ ــالمين دع ـ ـ ـ ــاءه‬
‫ف ـ ـ ـ ـ ــي ع ـ ـ ـ ـ ــزة وحماي ـ ـ ـ ـ ــة وص ـ ـ ـ ـ ــيان‬ ‫حتـ ـ ـ ــى غـ ـ ـ ــدت أرجـ ـ ـ ــاؤه بدعائـ ـ ـ ــه‬

‫ودل احلديث عـلى أن قـرب النيب ‪ ‬لو عبد لكان وثنًا‪ ،‬ولكن محاه‬

‫(‪« )1‬عقيدة املوحدين» رسالة الكلمات النافعة يف املكفرات الواقعة‪( :‬ص‪.)235‬‬

‫‪-264-‬‬
‫اهلل تعاىل ملا حال بينه وبني الناس فال يوصل إليه‪.‬‬
‫ودل احلديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت اليت‬
‫عليها‪ .‬وقد عظمت الفتنة بالقبور لتعظيمها وعبادهتا‪ ،‬كما قال عبد اهلل بن‬
‫مسعود ‪ :‬كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبري‪ ،‬وينشأ فيها الصغري‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫جتري على الناس يتخذوهنا سنة‪ ،‬إذا غريت قيل‪ :‬غريت السنَّة‪ .‬انتهى» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬فتح اجمليد»‪( :‬ص‪.)231‬‬

‫‪-261-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫ل يجوز تخصيص القبور بنوع من عبادة اهلل سبحانه‬
‫فكيف بعبادتها‪ ،‬وعبادة أصحابها؟!‬

‫قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل رحمهما اهلل تعالى في شرحه على‬
‫كتاب التوحيد‪:‬‬
‫باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد اهلل عند قبر رجل صالح فكيف إذا‬
‫عبده؟!‬
‫أي‪ :‬عبد القرب أو الرجل الصاحل‪ ،‬وملا كان عباد القبور إمنا دهوا من حيث‬
‫ظنوا أهنم حمسنون‪ ،‬فرأوا أن أعماهلم القبيحة حسنة‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬أَفَ َمن‬
‫زيِّ َن لَه سوء َع َملِ ِه فَـَرآه َح َسنًا﴾ [فاطر‪ ]1 :‬اآلية‪...‬‬
‫قال‪ :‬يف «الصحيح» عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول اهلل كنيسة رأهتا‬
‫بأرض احلبشة وما فيها من الصور‪ .‬فقال‪« :‬أولئك إذا مات فيهم الرجل الصاحل‬
‫مسجدا‪ ،‬وصوروا فيه تلك الصور‪ ،‬أولئك شرار‬ ‫ً‬ ‫أو العبد الصاحل بنوا على قربه‬
‫اْللق عند اهلل»‪.‬‬
‫فهؤالء مجعوا بني الفتنتني‪ :‬فتنة القبور وفتنة التماثيل‪....‬‬
‫(تحريم بناء المساجد على القبور‪ ،‬وعلة ذلك المنع)‬
‫قوله‪ :‬أولئك شرار اْللق عند اهلل‪ .‬مقتضى هذا التحرمي ما ذكر‪ ،‬ال سيما‬
‫وقد ثبت اللعن عليه‪.‬‬
‫تعظيما‬
‫ً‬ ‫قال البيضاوي‪ :‬ملا كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور األنبياء‬
‫يتوجهون يف الصالة حنوها‪ ،‬واختذوها أوثانًا‪ ،‬لعنهم النيب‬ ‫لشأهنم‪ ،‬وجيعلوهنا قبلة َّ‬
‫‪ ،‬ومنع املسلمني عن مثل ذلك‪.‬‬

‫‪-261-‬‬
‫صور أوائلهم الصور ليتأسوا هبا‪ ،‬ويتذكروا أفعاهلم‬ ‫قال القرطيب‪ :‬وإمنا َّ‬
‫الصاحلة‪ ،‬فيجتهدون كاجتهادهم‪ ،‬ويعبدون اهلل عند قبورهم‪ ،‬مث خلفهم قوم‬
‫جهلوا مرادهم‪ ،‬ووسوس هلم الشيطان أن أسالفكم كانوا يعبدون هذه الصور‬
‫ويعظموهنا‪ ،‬فحذر النيب ‪ ‬عن مثل ذلك س يدا للذريعة املؤدية إىل ذلك‪.‬‬
‫قوله‪ :‬فهؤالء مجعوا بني الفتنتني‪ ...‬إىل آخره‪ .‬هذا من كالم شيخ اإلسالم‬
‫ذكره املصنف عنه‪ .‬يعن أن الذين بنوا هذه الكنيسة مجعوا فيها بني فتنتني‪ ،‬ضل‬
‫هبا كثري من اْللق‪.‬‬
‫مبتدعا‪،‬‬
‫تعظيما ً‬‫ً‬ ‫األوىل‪ :‬فتنة القبور‪ ،‬ألهنم افتتنوا بقبور الصاحلني‪ ،‬وعظموها‬
‫فآل هبم إىل الشرك‪ ،‬وهي أعظم الفتنتني‪ ،‬بل هي مبدأ الفتنة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬وهي فتنة التماثيل‪ ،‬أي‪ :‬الصور‪ ،‬فإهنم ملا افتتنوا بقبور الصاحلني‬
‫وصوروا فيها الصور للقصد الذي ذكره القرطيب‪،‬‬
‫وعظموها‪ ،‬وبنوا عليها املساجد‪َّ ،‬‬
‫فآل األمر إىل أن عبدت الصور‪ ،‬ومن هي صورته من دون اهلل‪ ،‬وهاتان الفتنتان‬
‫مها سبب عبادة الصاحلني‪ ،‬كالالَّت وود وسوا ويغوث ويعوق ونسر‪ ،‬وغريهم‬
‫من الصاحلني‪.‬‬
‫(الفتنة بالقبور من أخطر الذرائع المؤدية للوقوع في الشرك األكبر‪،‬‬
‫وتلك هي علة المنع من اتخاذها مساجد)‬
‫قال شيخ اإلسالم رمحه اهلل تعاىل‪ :‬وهذه العلة هي اليت ألجلها هنى الشار‬
‫كثريا من األمم إما يف الشرك‬
‫عن اختاذ املساجد على القبور‪ ،‬وهي اليت أوقعت ً‬
‫األكرب‪ ،‬أو فيما دونه من الشرك‪ ،‬فإن النفوس قد أشركت َتاثيل القوم الصاحلني‪،‬‬
‫وَتاثيل يزعمون أهنا طالسم لكواكب وحنو ذلك‪ ،‬فإن الشرك بقرب الرجل الذي‬
‫يعتقد صالحه أقرب إىل النفوس من الشرك خبشبة أو حجر‪ .‬وهلذا جتد أهل‬
‫الشرك يتضرعون عندها وخيشعون‬

‫‪-255-‬‬
‫وخيضعون‪ ،‬ويعبدون بقلوهبم عبادة ال يفعلوهنا يف بيوت اهلل‪ ،‬وال وقت‬
‫السحر‪ ،‬ومنهم من يسجد هلا‪ ،‬وأكثرهم يرجون من بركة الصالة عندها والدعاء‬
‫ما ال يرجونه يف املساجد‪ ،‬فألجل هذه املفسدة حسم النيب ‪ ‬مادهتا حىت هنى‬
‫مطلقا‪ ،‬وإن ل يقصد املصلي بركة البقعة بصالته‪ ،‬كما‬ ‫عن الصالة يف املقربة ً‬
‫يقصد بصالته بركة املساجد‪.‬‬
‫كما هنى عن الصالة وقت طلو الشمس وغروهبا‪ ،‬ألهنا أوقات يقصد‬
‫املشركون فيها الصالة للشمس‪ ،‬فنهى أمته عن الصالة حينئذ‪ ،‬وإن ل يقصد ما‬
‫سدا للذريعة‪.‬‬
‫قصده املشركون ً‬
‫قال‪ :‬وأما إذا قصد الرجل الصالة عند القبور متربًكا بالصالة يف تلك البقعة‪،‬‬
‫احملادة هلل ورسوله‪ ،‬واملخالفة لدينه‪ ،‬وابتدا دين ل يأذن به اهلل‪.‬‬
‫فهذا عني َّ‬
‫فإن املسلمني قد أمجعوا على ما علموه باالضطرار من دين رسول اهلل ‪ ‬أن‬
‫الصالة عند القبور منهي عنها‪ ،‬وأنه لعن من اختذها مساجد‪.‬‬
‫فمن أعظم احملدثات وأسباب الشرك الصالة عندها‪ ،‬واختاذها مساجد‪،‬‬
‫وبناء املساجد عليها‪ ،‬فقد تواترت النصوص عن النيب ‪ ‬بالنهي عن ذلك‬
‫صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء املساجد عليها متابعة‬ ‫والتغليظ فيه‪ .‬وقد َّ‬
‫منهم للسنَّة الصحيحة الصرحية‪.‬‬
‫وصرح أصحاب أمحد وغريهم من أصحاب مالك والشافعي بتحرمي ذلك‪،‬‬
‫وطائفة أطلقت الكراهة‪ .‬والذي ينبغي أن حتمل على كراهة التحرمي إحسانًا‬
‫للظن بالعلماء‪ ،‬وأن ال يظن هبم أن جيوزوا فعل ما تواتر عن رسول اهلل ‪ ‬لعن‬
‫فاعله والنهي عنه‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهلما عنها قالت‪ :‬ملا نزل برسول اهلل ‪ ‬طفق يطرح مخيصة له على‬
‫وجهه‪ ،‬فإذا اغتم هبا كشفها فقال وهو كذلك‪« :‬لعنة اهلل على اليهود‬

‫‪-259-‬‬
‫والنصارى‪ ،‬اختذوا قبور أنبيائهم مساجد‪ ،‬حيذر ما صنعوا‪ ،‬ولوال ذلك أبرز‬
‫مسجدا» أخرجاه‪.‬‬
‫ً‬ ‫قربه غري أنه خشي أن يتخذ‬
‫هكذا ثبت يف أول هذا احلديث «وهلما» يف آخره‪« :‬أخرجاه» خبط‬
‫املصنف‪ ،‬وأحد اللفظني يغن عن اآلخر‪ ،‬ألن املراد صاحبا «الصحيحني»‪....‬‬
‫سد الذريعة يف قرب النيب ‪ ،‬فأعلوا‬ ‫قال القرطيب‪ :‬وهلذا بالغ املسلمون يف ِّ‬
‫وسدوا املداخل إليها‪ ،‬وجعلوها حمدقة بقربه ‪ ،‬مث خافوا أن يتخذ‬ ‫حيطان تربته‪ُّ ،‬‬
‫موضع قربه قبلة إذا كان مستقبل املصلني‪ ،‬فتصور الصالة إليه بصورة العبادة‪،‬‬
‫وحرفومها‪ ،‬حىت التقيا على زاوية مثلثة من‬
‫فبنوا جدارين من ركن القرب الشماليني‪َّ ،‬‬
‫ناحية الشمال‪ ،‬حىت ال ميكن أحد من استقبال قربه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ويف احلديثني مسائل نبَّه املصنف على بعضها‪.‬‬
‫مسجدا يعبد اهلل فيه على قرب رجل‬‫ً‬ ‫منها‪ :‬ما ذكر الرسول ‪ ‬فيمن بى‬
‫صحت نية الفاعل‪.‬‬
‫صاحل‪ ،‬ولو َّ‬
‫ومنها‪ :‬النهي عن التماثيل بتغليظ األمر‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬هنيه عن فعله عند قربه‪ ،‬قبل أن يوجد القرب‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه من سنن اليهود والنصارى يف قبور أنبيائهم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬لعنه إياهم على ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬مراده بذلك حتذيره إيانا عن قربه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬العلة يف عدم إبراز قربه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما بلي به ‪ ‬من شدة النز ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬ومنها التنبيه على علة حترمي ذلك‪ ،‬وعلة لعن من فعله» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)225 – 296‬‬

‫‪-252-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫حرمة اتخاذ القبور مساجد‬
‫ووجوب هدمها معلوم بالضطرار من الدين‬

‫حرمة اختاذ القبور مساجد معلومة من الدين بالضرورة‪ ،‬وذلك لئال تقع األمة‬
‫يف الشرك‪ ،‬وتلك هي علة املنع‪ ،‬وليست مظنة النجاسة‪ ،‬ومن مثي لعن كل من‬
‫أعان على تعظيمها خشية أن تقع األمة يف احملذور من حرمتها‪.‬‬
‫قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل في شرحه لكتاب التوحيد‪:‬‬
‫قوله‪« :‬أال وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد»‪ ،‬إىل آخر‬
‫احلديث‪ .‬قال اْللخايل‪ :‬وإنكار النيب ‪ ‬صنيعهم هذا خيرج على وجهني‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أهنم يسجدون لقبور األنبياء ً‬
‫تعظيما هلم‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أهنم َجي ِّوزون الصالة يف مدافن األنبياء والسجود يف مقابرهم‪،‬‬
‫نظرا منهم بذلك إىل عبادة اهلل‪ ،‬واملبالغة يف تعظيم‬
‫والتوجه إليها حالة الصالة ً‬
‫األنبياء‪ ،‬واألول‪ :‬هو الشرك اجللي‪ ،‬والثاي‪ :‬اْلفي‪ ،‬فلذلك استحقوا اللعن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬احلديث أعم من ذلك‪ ،‬فيشمل بناء املساجد والقباب عليها‪....‬‬
‫قال ابن القيم‪ :‬وباجلملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه‪ ،‬وفهم عن‬
‫الرسول ‪ ‬مقاصده جزم ً‬
‫جزما ال حيتمل النقيض‪ ،‬أن هذه املبالغة واللعن والنهي‬
‫بصيغته‪ :‬صيغة «ال تفعلوا» وصيغة «إي أهناكم» ليس ألجل النجاسة‪ ،‬بل هو‬
‫ألجل جناسة الشرك الالحقة مبن عصاه‪ ،‬وارتكب ما عنه هناه واتبع هواه‪ ،‬ول‬
‫وقل نصيبه‪ ،‬أو عدم من حتقيق ال إال‬ ‫َّ‬ ‫خيش ربه ومواله‪،‬‬
‫إالَّ اهلل‪ ،‬فـإن هذا وأمثاله من النيب ‪ ‬صيانة حلمى التوحيد أن يلحقه‬

‫‪-253-‬‬
‫الشرك ويغشاه‪ ،‬وجتريد له‪ ،‬وغضب لربه أن يعدل به سواه‪ ،‬فأىب املشركون‬
‫إالَّ معصية ألمره وارتكابًا لنهيه‪ ،‬وغرهم الشيطان بأن هذا التعظيم لقبور املشايخ‬
‫غلوا كنتم بقرهبم أسعد‪،‬‬ ‫تعظيما‪ ،‬وأشد فيهم ً‬ ‫ً‬ ‫والصاحلني‪ ،‬وكلما كنتم أشد هلا‬
‫ومن أعدائهم أبعد‪.‬‬
‫ولعمر اهلل من هذا الباب بعينه دخل على عبَّاد يغوث ويعوق‪ ،‬ونسر‪،‬‬
‫ودخل على عبَّاد األصنام منذ كانوا إىل يوم القيامة‪ .‬فجمع املشركون بني الغلو‬
‫فيهم والطعن يف طريقتهم‪ ،‬وهدى اهلل أهل التوحيد لسلوك طريقهم وإنزاهلم‬
‫منازهلم اليت أنزهلم اهلل إياها من العبودية‪ ،‬وسلب خصائ اإلهلية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وممن علَّل خبوف الفتنة والشرك‪ :‬الشافعي‪ ،‬وأبو بكر األثرم‪ ،‬وأبو‬
‫حممد املقدسي‪ ،‬وشيخ اإلسالم‪ ،‬وغريهم‪ ،‬وهو احلق‪...‬‬
‫مرفوعا‪« :‬إن من شرار الناس من‬ ‫قال‪ :‬وألمحد بسند جيد‪ ،‬عن ابن مسعود ً‬
‫تدركهم الساعة وهم أحياء‪ ،‬والذين يتخذون القبور مساجد» رواه أبو حام يف‬
‫«صحيحه»‪.‬‬
‫قوله‪ :‬إن من شرار الناس‪ .‬هو بكسر الشني مجع شر‪.‬‬
‫قوله‪ :‬من تدركهم الساعة وهم أحياء‪ .‬أي‪ :‬من تقوم عليهم الساعة حبيث‬
‫ينفخ يف الصور وهم أحياء‪ ،‬وهذا كحديثه اآلخر الذي يف مسلم‪« :‬ال تقوم‬
‫الساعة إالَّ على شرار اْللق»‪...‬‬
‫(أجمع العلماء على حرمة األبنية على القبور‪ ،‬ووجوب هدمها)‬
‫وقد أمجع العلماء على النهي عن البناء على القبور وحترميه ووجوب هدمه‪،‬‬
‫هلذه األحاديث الصحيحة الصرحية‪ ،‬اليت ال مطعن فيها بوجه من الوجوه‪ ،‬وال‬
‫فرق يف ذلك بني البناء يف مقربة مسبلة‪ ،‬أو مملوكة‪ ،‬إالَّ أنه يف اململوكة أشد‪ .‬وال‬
‫مطلقا‪ ،‬وإما يف اململوكة‪.‬‬
‫شذ من املتأخرين فأباح ذلك‪ ،‬إما ً‬ ‫عربة مبن َّ‬

‫‪-254-‬‬
‫قال اإلمام أبو حممد بن قدامة‪ :‬وال جيوز اختاذ املساجد على القبور ألن النيب‬
‫‪ ‬قال‪« :‬لعن اهلل اليهود والنصارى اختذوا قبور أنبيائهم مساجد» حيذر ما‬
‫صنعوا‪ .‬وألن ختصي القبور بالصالة عندها يشبه تعظيم األصنام بالسجود هلا‬
‫والتقرب إليها‪ ،‬وقد روينا أن ابتداء عبادة األصنام‪ :‬تعظيم األموات باختاذ‬
‫صورهم والتمسح هبا والصالة عندها‪.‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم‪ :‬أما بناء املساجد على القبور‪ ،‬فقد صرح عامة علماء‬
‫وصرح أصحابنا وغريهم من‬ ‫الطوائف بالنهي عنه‪ ،‬متابعة لألحاديث الصحيحة‪َّ ،‬‬
‫أصحاب مالك والشافعي بتحرميه‪ ،‬قال‪ :‬وال ريب يف القطع بتحرميه‪ ،‬مث ذكر‬
‫األحاديث يف ذلك‪ ...‬إىل أن قال‪ :‬فهذه املساجد املبنية على قبور األنبياء‬
‫والصاحلني‪ ،‬أو امللوك وغريهم‪ ،‬تتعني إزالتها هبدم أو بغريه‪ ،‬هذا مما ال أعلم فيه‬
‫خالفًا بني العلماء املعروفني‪.‬‬
‫وقال ابن القيم‪ :‬جيب هدم القباب اليت على القبور‪ ،‬ألهنا أسست على‬
‫معصية الرسول ‪ .‬وقال أبو حف ‪ :‬حترم احلجرة بل هتدم‪ .‬فإذا كان هذا‬
‫كالمه يف احلجرة فكيف بالقبة؟‬
‫مسجدا خمافة الفتنة‬
‫ً‬ ‫وقال الشافعي‪ :‬أكره أن يعظم خملوق‪ ،‬حىت جيعل قربه‬
‫أيضا‪ :‬تسطَّح القبور وال تبى وال ترفع‪،‬‬ ‫عليه‪ ،‬وعلى من بعده من الناس‪ .‬وقال ً‬
‫وتكون على وجه األرض‪ .‬وقد أفىت مجاعة من الشافعية هبدم ما يف القرافة من‬
‫األبنية‪ ،‬منهم‪ :‬ابن اجلميزي‪ ،‬والظهري الرتمين‪ ،‬وغريمها‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫القـبور‪ ،‬وال أن يبى‬ ‫جتص‬
‫وقال القاضي ابن كج‪ :‬وال جيـوز أن َّ‬

‫(‪ )1‬جتصي القبور‪ :‬طالؤها باجلَ ‪ ،‬واجلَ بالفتح وميكن كسره عند بعض اللغويني‪ ،‬وهو نو من‬
‫احلجارة يبى به‪ ،‬ويطلى كذلك‪ ،‬قاله عبد السالم بن حممد بن عمر يف‪ :‬الذيل على النهاية يف‬
‫غريب احلديث واألثر لإلمام ابن األثري ص‪ ،41‬دار ابن حزم‪ ،‬الطبعة األوىل ‪9494‬هـ‪.‬‬

‫‪-256-‬‬
‫عليها قباب وال غري قباب‪ ،‬والوصية هبا باطلة‪ .‬وقال األذرعي‪ :‬وأما بطالن‬
‫الوصية ببناء القباب وغريها من األبنية العظيمة‪ ،‬وإنفاق األموال الكثرية‪ ،‬فال‬
‫ريب يف حترميه‪.‬‬
‫مطلقا‪ ،‬وذكر يف‬
‫قلت‪ :‬وجزم النووي يف «شرح املهذب» بتحرمي البناء ً‬
‫جيص القرب‬‫أيضا‪ .‬وقال القرطيب يف حديث جابر‪ :‬هنى أن َّ‬ ‫«شرح مسلم» حنوه ً‬
‫أو يبى عليه‪ ،‬وبظاهر هذا احلديث قال مالك‪ ،‬وكره البناء واجل على القبور‬
‫وقد أجازه غريه‪ ،‬وهذا احلديث حجة عليه‪....‬‬
‫(المفاسد المترتبة على بناءات القبور)‪:‬‬
‫واعلم أنه قد وقع بسبب البناء على القبور من املفاسد اليت ال حييط هبا على‬
‫التفصيل إالَّ اهلل‪ ،‬ما يغضب من أجله كل من يف قلبه رائحة إميان‪ ،‬كما نبَّه عليه‬
‫ابن القيم وغريه‪.‬‬
‫فمنها‪ :‬اعتيادها للصالة عندها‪ ،‬وقد هنى النيب ‪ ‬عن ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬حتري الدعاء عندها‪ .‬ويقولون‪ :‬من دعا اهلل عند قرب فالن استجاب‬
‫اجملرب‪ ،‬وهذا بدعة منكرة‪.‬‬
‫له‪ ،‬وقرب فالن الرتياق َّ‬
‫ومنها‪ :‬ظنهم أن هلا خصوصيات بأنفسها يف دفع البالء وجلب النعماء‪،‬‬
‫ويقولون‪ :‬إن البالء يدفع عن أهل البلدان بقبور من فيها من الصاحلني‪ ،‬وال ريب‬
‫أن هذا خمالف للكتاب والسنَّة واإلمجا ‪ .‬فالبيت املقدس كان عنده من قبور‬
‫األنبياء والصاحلني ما شاء اهلل‪ ،‬فلما عصوا الرسول وخالفوا ما أمرهم اهلل به‪،‬‬
‫سلَّط اهلل عليهم من انتقم منهم‪ .‬وكذلك أهل املدينة ملا تغريوا بعض التغري‪،‬‬
‫احلرة من النهب والقتل وغري ذلك من املصائب ما ل جير‬ ‫جرى عليهم عام َّ‬
‫عليهم قبل ذلك‪ .‬وهذا أكثر من أن حيصر‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬الدخول يف لعنة رسول اهلل ‪ ،‬باختاذ املساجد عليها وإيقاد‬

‫‪-255-‬‬
‫السرج عليها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن ذلك يتضمن عمارة املشاهد‪ ،‬وخراب املساجد كما هو الواقع‪،‬‬
‫ودين اهلل بضد ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬اجتماعهم لزيارهتا واختالط النساء بالرجال‪ ،‬وما يقع يف ضمن ذلك‬
‫حتملها عنهم‪ ،‬بل‬
‫من الفواحش وترك الصلوات‪ ،‬ويزعمون أن صاحب الرتبة َّ‬
‫اشتهر أن البغايا يسقطن أجرهتن على البغاء يف أيام زيارة املشايخ‪ ،‬كالبدوي‬
‫وغريه تقربًا إىل اهلل بذلك‪ ،‬فهل بعد هذا يف الكفر غاية؟‬
‫ومنها‪ :‬كسوهتا بالثياب النفيسة املنسوجة باحلرير والذهب والفضة وحنو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬جعل اْلزان واألموال ووقف الوقوف ملا حيتاج إليه من ترميمها وحنو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬إهداء األموال ونذر النذور لسدنتها العاكفني عليها‪ ،‬الذين هم أصل‬
‫كل بلية وكفر‪ ،‬فإهنم الذين يكذبون على اجلهال والطغام بأن فالنًا دعا صاحب‬
‫الرتبة فأجابه‪ ،‬واستغاثه فأغاثه ومرادهم بذلك تكثري النذر واهلدايا هلم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬جعل السدنة هلا كسدنة عباد األصنام‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬اإلقسام على اهلل يف الدعاء باملدفون فيها‪.‬‬
‫الزوار إذا رأى البناء الذي على قرب صاحب الرتبة سجد‬
‫كثريا من َّ‬
‫ومنها‪ :‬أن ً‬
‫له‪.‬‬
‫وال ريب أن هذا كفر بن الكتاب والسنَّة وإمجا األمة‪ ،‬بل هذا هو عبادة‬
‫األوثان‪ ،‬ألن السجود للقبة عبادة هلا‪ ،‬وهو من جنس عبادة النصارى للصور اليت‬
‫يف كنائسهم على صور من يعبدونه بزعمهم الباطل‪ ،‬فإهنم عبدوها ومن هي‬
‫صورته‪ ،‬وكذلك عباد القبور ملا بنوا القباب على القبور آل هبم إىل‬

‫‪-254-‬‬
‫عز وجل‪.‬‬ ‫أن عبدت القباب ومن بنيت عليه من دون اهلل َّ‬
‫ومنها‪ :‬النذر للمدفون فيها‪ ،‬وفرض نصيب من املال والولد‪ ،‬وهذا هو الذي‬
‫صيبًا فَـ َقالواْ َهـ َذا لِلي ِه‬ ‫قال اهلل فيه‪﴿ :‬وجعلواْ لِلي ِه ِممِّا َذرأَ ِمن ْ ِ‬
‫ث واألَنْـعاِم نَ ِ‬
‫احلَْر َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ََ‬
‫بَِز ْع ِم ِه ْم َوَهـ َذا لِشَرَكآئِنَا﴾ [األنعام‪ ،]935 :‬بل هذا أبلغ فإن املشركني ما كانوا‬
‫يبيعون أوالدهم ألوثاهنم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن املدفون فيها أعظم يف قلوب عباد القبور من اهلل وأخوف‪ ،‬وهلذا‬
‫لو طلبت من أحدهم اليمني باهلل تعاىل أعطاك ما شئت من األميان كاذبًا أو‬
‫صادقًا‪ ،‬وإذا طلبت بصاحب الرتبة ل يقدم إن كان كاذبًا‪.‬‬
‫وال ريب أن عباد األوثان ما بلغ شركهم إىل هذا احلد‪ ،‬بل كانوا إذا أرادوا‬
‫(‪)1‬‬
‫تغليظ اليمني‪ ،‬غلَّظوها باهلل كما يف قصة القسامة وغريها ‪.‬‬
‫(‪ )1‬أخرج اإلمام البخاري يف صحيحه‪ ،‬عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال‪َّ « :‬‬
‫إن َّأول قَ َسامة كانت‬
‫يف اجلاهلية لفينا بن هاشم‪ :‬كان رجل من بن هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى‬
‫انقطعت غروة جوالقه فقال‪ :‬أغثْن بعقال أش ُّد‬ ‫ْ‬ ‫فمر به رجل من بن هاشم قد‬ ‫فانطلق معه يف إبله‪َّ ،‬‬
‫لت اإلبل إالَّ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫به عروةَ جوالقي ال تَنف ِر اإلبل‪ ،‬فأعطاه عقاالً َّ‬
‫فشد به عروَة جوالقه‪ .‬فلما َنزلوا عق ً‬
‫احدا‪ ،‬فقال الذي استأجره‪ :‬ما شأن هذا البعري ل يع َق ْل من بني اإلبل؟ قال‪ :‬ليس له عقال‪.‬‬ ‫بعريا و ً‬
‫ً‬
‫فمر به رجل من أهل اليمن‪ ،‬فقال‪ :‬أتشهد‬ ‫ِ‬
‫قال‪ :‬فأين عقاله؟ قال فح َذفَه بعصا كان فيها أجله‪َّ .‬‬
‫املوسم؟ قال‪ :‬ما أشهد ورَّمبا ش ِهدته‪ .‬قال‪ :‬هل أنت مْبلِغ عن رسال ًة مرًة من الدهر؟ قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫فناد يا آل بن هاشم‪ ،‬فإن‬ ‫فناد يا آل قريش‪ ،‬فإذا أجابوك ِ‬ ‫قال فكتب‪ .‬إذا أنت شهدت املوسم ِ‬
‫َ‬
‫أن فالنًا قَـتلن يف عقال‪ .‬ومات املستأجر‪ .‬فلما ِ‬
‫قد َم الذي‬ ‫َّ‬ ‫ه‬‫رب‬ ‫فأخ‬ ‫طالب‬ ‫أجابوك فاسأل عن أيب‬
‫َ‬ ‫َْ‬
‫فعل صاحبنا؟ قال‪ :‬مرض فأحسنت القيام عليه‪ ،‬فوليت دفنْه‪.‬‬ ‫استأجَره أتاه أبو طالب فقال‪ :‬ما َ‬‫َ‬
‫املوسم‬
‫َ‬ ‫اىف‬‫و‬ ‫عنه‬ ‫بلغ‬
‫َ‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫إليه‬ ‫أوصى‬ ‫الذي‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫الرج‬ ‫إن‬ ‫مث‬
‫َّ‬ ‫ا‬ ‫حين‬
‫َ ً‬ ‫فمكث‬ ‫‪.‬‬ ‫منك‬ ‫ذلك‬ ‫أهل‬ ‫كان‬ ‫قد‬ ‫قال‪:‬‬
‫فقال‪ :‬يا آل قريش‪ ،‬قالوا‪ :‬هذه قريش‪ .‬قال يا بن هاشم‪ ،‬قالوا‪ :‬هذه بنو هاشم‪ .‬قال أين أبو‬
‫أن فالنًا قتله يف عقال‪ .‬فأتاه أبو‬ ‫أمري فالن أن أبلِغَك رسالةً َّ‬ ‫طالب؟ قالوا‪ :‬هذا أبو طالب‪ .‬قال َ‬
‫صاحبنا‪،‬‬
‫تلت َ‬ ‫فإنك قَ َ‬
‫تؤدي مائةً من اإلبل َ‬ ‫اخرت منَّا إحدى ثالث‪ :‬إن شئت أن ِّ‬ ‫طالب فقال له‪َ :‬‬
‫شئت حلف مخسون من قومك إنك ل تقتله‪ ،‬وإن أبيت قتلناك به‪ .‬فأتى قومه فقالوا حنلف‪.‬‬‫ِ‬
‫وإن َ‬
‫أحب أن جت َيز ابن‬
‫فأتته امرأة من بن هاشم كانت حتت رجل منه َو َلدت له فقالت‪ :‬يا أبا طالب ُّ‬
‫صرب ميينَه حيث تصبَـر األميان‪ ،‬ففعل‪ .‬فأتاه رجل منهم فقال‪ :‬يا أبا‬ ‫ِ‬
‫هذا برجل من اْلمسني وال ت ْ‬
‫طالب أردت مخسني رجالً أن حيلفوا مكان مائة من اإلبل‪ ،‬يصيب كل رجل بَعريان‪ ،‬هذان بعريان‬
‫=‬

‫‪-251-‬‬
‫ومنها‪ :‬سؤال امليت قضاء احلاجات‪ ،‬وتفريج الكربات‪ ،‬واإلخالص له من‬
‫دون اهلل يف أكثر احلاالت‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬التضر عند مصار األموات‪ ،‬والبكاء باهليبة واْلشو ملن فيها أعظم‬
‫مما يفعلونه مع اهلل يف املساجد والصلوات‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬تفضيلها على خري البقا وأحبها إىل اهلل‪ ،‬وهي املساجد‪ ،‬فيعتقدون‬
‫أن العبادة والعكوف فيه أفضل من العبادة والعكوف يف املساجد‪ ،‬وهذا أمر ما‬
‫بلغ إليه شرك األولني‪ ،‬فإهنم يعظمون املسجد احلرام أعظم من بيوت األصنام‬
‫يرون فضله عليها‪ ،‬وهؤالء يرون العكوف يف املشاهد أفضل من العكوف يف‬
‫املساجد‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الذي شرعه الرسول ‪ ‬يف زيارة القبور إمنا هو تذكرة اآلخرة‪ ،‬كما‬
‫بالرتحم عليه‪،‬‬
‫قال‪« :‬زوروا القبور فإهنا تذكركم اآلخرة»‪ ،‬واإلحسان إىل املزور ُّ‬
‫والدعاء له واالستغفار‪ ،‬وسؤال العافية له‪ ،‬فيكون الزائر حمسنًا إىل نفسه وإىل‬
‫فقلب عبَّاد القبور األمر‪ ،‬وعكسوا الدين‪ ،‬وجعلوا املقصود بالزيارة‪ :‬الشرك‬
‫امليت‪َ ،‬‬
‫وسؤاله‬ ‫به‪،‬‬ ‫والدعاء‬ ‫ودعاءه‬ ‫بامليت‬
‫حـوائجهم ونصرهم على األعداء وحنو ذلك‪ .‬فصاروا مسيئني إىل نفوسهم‬

‫=‬
‫تصرب َميين حيث تصبَـر األميان فقبلهما‪ .‬وجاء مثانية وأربعون فحلفوا‪ .‬قال ابن‬
‫فاقْبلهما من وال ْ‬
‫عبَّاس‪ :‬فوالذي نفسي بيده ما حال احلول ومن الثمانية وأربعني عني تَط ِرف»‪ .‬ارجع فتح الباري‬
‫ج‪ 4‬كتاب مناقب األنصار‪ ،‬باب القسامة يف اجلاهلية‪( :‬ص‪ )919 – 915‬حتقيق‪ :‬حممد الدين‬
‫اْلطيب‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الريان للرتاث بالقاهرة‪.‬‬

‫‪-251-‬‬
‫وإىل امليت‪ ،‬ولو ل يكن إالَّ حبرمانه بركة ما شرعه اهلل من الدعاء والرتحم‬
‫عليه واالستغفار له‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬إيذاء أصحاهبا مبا يفعله عباد القبور هبا‪ ،‬فإنه يؤذيهم ما يفعلونه عند‬
‫قبورهم‪ ،‬ويكرهونه غاية الكراهة‪ ،‬كما أن املسيح ‪ ‬يكره ما يفعله النصارى‪،‬‬
‫وكذلك غريه من األنبياء واألولياء‪ ،‬يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم‪،‬‬
‫ويوم القيامة يتربءون منهم كما قال تعاىل‪﴿ :‬ومن أَض ُّل ِممَّن ي ْدعو ِمن د ِ‬
‫ون اللَّ ِه‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ َ‬
‫َمن َّال يَ ْستَ ِجيب لَه إِ َىل يَ ِوم الْ ِقيَ َام ِة َوه ْم َعن د َعائِ ِه ْم َغافِلو َن * َوإِ َذا ح ِشَر النَّاس‬
‫ِ ِ ِِ ِ‬
‫ين﴾ [األحقاف‪.]5 ،6 :‬‬ ‫َكانوا َهل ْم أ َْع َداء َوَكانوا بعَب َادهت ْم َكاف ِر َ‬
‫حمادة اهلل ورسوله‪ ،‬ومناقضة ما شرعه فيها‪.‬‬ ‫ومنها‪َّ :‬‬
‫ومنها‪ :‬التعب العظيم مع الوزر الكبري‪ ،‬واإلمث العظيم‪.‬‬
‫وكل هذه املفاسد العظيمة وغريها مما ل يذكر‪ ،‬إمنا حدثت بسبب البناء‬
‫على القبور‪ ،‬وهلذا جتد القبور اليت ليس عليها قباب ال يأتيها أحد ال يعتادها‬
‫لشيء مما ذكر إالَّ ما شاء اهلل‪ ،‬وصاحب الشر أعلم مبا يؤول إليه هذا األمر‪،‬‬
‫فلذلك غلَّط فيه وأبدأ وأعاد‪ ،‬ولعن من فعله‪ ،‬فاْلري واهلدى يف طاعته‪ ،‬والشر‬
‫والضالل يف معصيته وخمالفته‪.‬‬
‫والعجب ممن يشاهد هذه املفاسد العظيمة عند القبور‪ ،‬مث يظن أن النيب ‪‬‬
‫إمنا هنى عن اختاذ املساجد عليها ألجل النجاسة‪ ،‬كما يظنه بعض متأخري‬
‫الفقهاء‪ ،‬ولو كان ذلك ألجل النجاسة‪ ،‬لكان ذكر اجملازر واحلشوش‪ ،‬بل ذكر‬
‫التحرز من البول والغائط أوىل‪ .‬وإمنا ذلك ألجل جناسة الشرك‪ ،‬اليت وقعت من‬
‫عبَّاد القبور‪ ،‬ملا خالفوا ذلك‪ ،‬ونبذوه وراء ظهورهم‪ ،‬واشرتوا به مثنًا قليالً‪ ،‬فبئس‬
‫(‪)1‬‬
‫ما يشرتون» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)221 ،229‬‬

‫‪-245-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫أشهر شبهات أهل القبور‪ ،‬والرد الباهر عليها‬
‫لقد ظن املشركون يف قوله ‪« :‬ال جتعلوا قربي ً‬
‫عيدا»‪ ،‬أن املراد‪ :‬اقصدوه يف‬
‫كل ساعة ووقت‪ ،‬وال جتعلوه كالعيد الذي‪ ،‬يكون من احلول إىل احلول‪.‬‬
‫قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل يف شرحه على كتاب التوحيد‪:‬‬
‫عن أيب هريرة قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬ال جتعلوا بيوتكم ً‬
‫قبورا‪ ،‬وال جتعلوا‬
‫علي فإن صالتكم تبلغن حيث كنتم» رواه أبو داود بإسناد‬ ‫عيدا‪ ،‬وصلوا ي‬ ‫قربي ً‬
‫حسن‪ .‬رواته ثقات‪.‬‬
‫عيدا»‪ ،‬قال شيخ اإلسالم‪ :‬العيد اسم ملا يعود من‬ ‫قوله‪« :‬وال جتعلوا قربي ً‬
‫عائدا إما بعود السنة أو بعود األسبو ‪ ،‬أو‬ ‫االجتما العام على وجه معتاد‪ً ،‬‬
‫الشهر‪ ،‬وحنو ذلك‪ ،‬وتقدم ذلك‪.‬‬
‫وقال ابن القيم رمحه اهلل تعاىل‪ :‬العبد ما يعتاد جميئه وقصده من زمان‬
‫ومكان‪ ،‬مأخوذ من املعاودة واالعتياد‪ ،‬فإن كان امسًا للمكان فهو املكان الذي‬
‫يقصد فيه االجتما وانتيابه للعبادة‪ ،‬أو لغريها‪ ،‬كما أن املسجد احلرام ومى‬
‫عيدا للحنفاء ومثابة‪ ،‬كما جعل أيام العيد‬ ‫ومزدلفة وعرفة واملشاعر جعلها اهلل ً‬
‫عيدا‪ ،‬وكان للمشركني أعياد زمانية ومكانية‪ ،‬فلما جاء اهلل باإلسالم أبطلها‬ ‫فيها ً‬
‫عوضهم عن أعياد‬ ‫وعوض احلنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام مى‪ ،‬كما َّ‬ ‫َّ‬
‫املشركني املكانية بالكعبة ومى ومزدلفة وعرفة واملشاعر‪.‬‬
‫وقال غريه‪ :‬هذا أمر مبالزمة قربه والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه‪،‬‬

‫‪-249-‬‬
‫وهنى أن جيعل كالعيد الذي إمنا يكون يف العام مرة أو مرتني‪ ،‬فكأنه قال‪:‬‬
‫ال جتعلوه كالعيد الذي يكون من احلول إىل احلول‪ ،‬واقصدوه كل ساعة وكل‬
‫وقت‪.‬‬
‫وحمادة ومناقضة ملا قصده الرسول ‪‬‬ ‫قال ابن القيم رمحه اهلل‪ :‬وهذا مراغمة َّ‬
‫وقلب للحقائق‪ ،‬ونسبة الرسول ‪ ‬إىل التلبيس والتدليس بعد التناقض‪ ،‬فقاتل اهلل‬
‫أهل الباطل أن يؤفكون‪.‬‬
‫وال ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر ومالزمته وكثرة انتيابه بقوله‪ :‬ال جتعلوا‬
‫عيدا‪ ،‬فهو إىل التلبيس وضد البيان أقرب منه إىل الداللة والبيان‪ ،‬وهكذا غريت‬ ‫ً‬
‫أديان الرسل‪ ،‬ولوال أن اهلل أقام لدينه األنصار واألعوان الذابِّني عنه‪ ،‬جلرى عليه‬
‫ما جرى على األديان قبله‪ ،‬ولو أراد رسول اهلل ‪ ‬ما قاله هؤالء الضالَّل ل ينه‬
‫عن اختاذ قبور األنبياء مساجد‪ ،‬ويلعن فاعل ذلك‪ ،‬فإنه إذا لعن من اختذها‬
‫مساجد يعبد اهلل فيها‪ ،‬فكيف يأمر مبالزمتها والعكوف عندها‪ ،‬وأن يعتاد‬
‫قصدها وانتياهبا‪ ،‬وال جتعل كالعيد الذي جييء من احلول إىل احلول؟ وكيف‬
‫يسأل ربه أن ال جيعل قربه وثنًا يعبد؟ وكيف يقول أعلم اْللق بذلك؟ «ولوال‬
‫مسجدا»‪ ،‬وكيف يقول‪« :‬ال جتعلوا‬ ‫ً‬ ‫ذلك ألبرز قربه‪ ،‬ولكن خشي أن يتخذ‬
‫علي حيثما كنتم؟»‪.‬‬‫عيدا‪ ،‬وصلوا ي‬
‫قربي ً‬
‫وكيف ال يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك‪ ،‬ما فهمه هؤالء الضالل‪ ،‬الذين‬
‫مجعوا بني الشرك والتحريف؟! وهذا أفضل التابعني من أهل بيته علي بن احلسني‬
‫يتحرى الدعاء عند قربه ‪ ،‬واستدل‬ ‫رضي اهلل عنهما‪ ،‬هنى ذلك الرجل أن َّ‬
‫باحلديث وهو الذي رواه ومسعه من أبيه احلسني عن جده علي رضي اهلل عنهما‪،‬‬
‫وهو أعلم مبعناه من هؤالء الضالل‪ ،‬وكذلك ابن عمه احلسن بن احلسن شيخ‬
‫أهل بيته‪ ،‬كره أن يقصد الرجل القرب إذا ل يكن يريد املسجد‪ ،‬ورأى أن ذلك‬
‫عيدا‪ .‬انتهى‪....‬‬
‫من اختاذه ً‬

‫‪-242-‬‬
‫رخ فيه‪- ،‬‬ ‫أحدا‪ ،‬أي‪ :‬من علماء السلف َّ‬
‫قال شيخ اإلسالم‪ :‬ما علمت ً‬
‫عيدا‪ ،‬ويدل‬
‫أي‪ :‬قصد الرجل القرب ألجل السالم ‪ -‬ألن ذلك نو من اختاذه ً‬
‫أيضا على أن قصد القرب للسالم إذا دخل املسجد ليصلي منهي عنه‪ ،‬ألن ذلك‬ ‫ً‬
‫عيدا‪ ،‬وكره مالك ألهل املدينة كلما دخل إنسان املسجد أن يأيت قرب‬
‫من اختاذه ً‬
‫النيب ‪ ،‬ألن السلف ل يكونوا يفعلون ذلك‪ .‬قال‪ :‬ولن يصلح آخر هذه األمة‬
‫إالَّ ما أصلح أوهلا‪ ،‬بل كان الصحابة والتابعون يأتون إىل مسجده ‪ ‬فيصلون‬
‫خلف أيب بكر وعمر وعثمان وعلي ‪ ،‬مث إذا قضوا الصالة قعدوا‪ ،‬أو خرجوا‪،‬‬
‫ول يكونوا يأتون القرب للسالم‪ ،‬لعلمهم أن الصالة والسالم عليه يف الصالة‬
‫أكمل وأفضل‪....‬‬
‫السالم عليه عند قربه‪،‬‬
‫واملقصود أن الصحابة ما كانوا يعتادون الصالة و َّ‬
‫كما يفعله من بعدهم من اْللوف‪ ،‬وإمنا كان بعضهم يأيت من خارج فيسلم‬
‫عليه‪ ،‬إذا قدم من سفر‪ ،‬كما كان ابن عمر ‪ ‬يفعل‪.‬‬
‫قال عبيد اهلل بن عمر عن نافع‪ :‬كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قرب‬
‫النيب ‪ ‬فقال‪ :‬السالم عليك يا رسول اهلل‪ ،‬السالم عليك يا أبا بكر‪ ،‬السالم‬
‫عليك يا أبتاه‪ ،‬مث ينصرف‪.‬‬
‫أحدا من أصحاب النيب ‪ ‬فعل ذلك إالَّ ابن عمر‪.‬‬‫قال عبيد اهلل‪ :‬ما نعلم ً‬
‫وهذا يدل على أنه ال يقف عند القرب للدعاء إذا سلم كما يفعله كثري‪ .‬قال‬
‫(‪)1‬‬
‫شيخ اإلسالم‪ :‬إن ذلك ل ينقل عن أحد من الصحابة‪ ،‬فكان بدعة حمضة ‪.‬‬
‫ويف «املبسوط» قال مالك‪ :‬ال أرى أن يقف عند قرب النيب ‪ ‬ولكن ليسلم‬
‫وميضي‪.‬‬
‫واحلكاية اليت رواها القاضي عياض بإسناده عن مالك يف قصته مع‬

‫اإلمام أمحد بن حنبل رمحه اهلل تعاىل هلذه املسألة يف الصفحة القادمة‪.‬‬ ‫(‪ )1‬انظر لن‬

‫‪-243-‬‬
‫املنصور‪ ،‬وأنه قال ملالك‪ :‬يا أبا عبد اهلل أستقبل القبلة وأدعو‪ ،‬أم أستقبل‬
‫رسول اهلل ‪‬؟ فقال‪ :‬ول تصرف وجهك عنه‪ ،‬وهو وسيلتك‪ ،‬ووسيلة أبيك آدم‬
‫إىل اهلل يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به يشفعه اهلل فيك‪ .‬فهذه الرواية‬
‫ضعيفة‪ ،‬أو موضوعة ألن يف إسنادها من يتهم حممد بن محيد‪ ،‬ومن جيهل حاله‪.‬‬
‫ون أمحد أنه يستقبل القبلة‪ ،‬وجيعل احلجرة عن يساره‪ ،‬لئال يستدبره وذلك‬
‫بعد حتيته والسالم عليه‪ ،‬فظاهر هذا أنه يقف للدعاء بعد السالم‪ .‬وذكر‬
‫أصحاب مالك أنه يدعو مستقبالً القبلة يوليه ظهره‪.‬‬
‫وباجلملة فقد اتفق األئمة على أنه إذا دعا ال يستقبل القرب‪ ،‬وتنازعوا هل‬
‫يستقبله عند السالم أم ال؟ ومن احلجة يف ذلك ما روى ابن زبالة وهو يف‬
‫«أخبار املدينة» عن عمر بن هارون‪ ،‬عن سلمة بن وردان ‪-‬ومها ساقطان‪ -‬قال‪:‬‬
‫رأيت أنس بن مالك يسلم على النيب ‪ ‬مث يسند ظهره إىل جدار القرب‪ ،‬مث‬
‫يدعو‪.‬‬
‫(تحريم شد الرحال إلى القبور‪ ،‬ألنه من أعظم أسباب الشرك بها‪،‬‬
‫وبأصحابها)‬
‫(‪)1‬‬
‫ويف احلديث دليل على منع شد الرحال إىل قربه ‪ ،‬وإىل غريه من القبور‬
‫أعيادا‪ ،‬بل من أعظم أسباب اإلشراك‬ ‫ً‬ ‫واملشاهد‪ ،‬ألن ذلك من اختاذها‬
‫بأصحاهبا‪ ،‬كما وقع من عبَّاد القبور الذين يشدون إليها الرحال‪ ،‬وينفقون يف‬
‫ذلك الكثري من األموال‪ ،‬وليس هلم مقصود إالَّ جمرد الزيارة للقبور تربًكا بتلك‬
‫القباب واجلدران فوقعوا يف الشرك‪.‬‬
‫هذه املسألة اليت أفىت فيها شيخ اإلسالم‪ ،‬أعن من سافر جملرد زيارة قبور‬
‫األنبياء والصاحلني‪ ،‬ومشاهدهم‪ ،‬ونقل فيها اختالف العلماء يف اإلباحة‬

‫(‪ )1‬أي‪ :‬قوله ‪« :‬ال جتعلوا قربي ً‬


‫عيدا»‪.‬‬

‫‪-244-‬‬
‫واملنع‪ ،‬فمن مبيح لذلك كأيب حامد الغزايل وأيب حممد املقدسي‪ ،‬ومن منع‬
‫لذلك كابن بطة وابن عقيل وأيب حممد اجلوين والقاضي عياض‪ ،‬وهو قول‬
‫اجلمهور ن عليه مالك‪ ،‬ول يكن خيالفه أحد من األئمة وهو الصواب‪ .‬فقام‬
‫مطلقا وهو ل‬
‫عليه بعض املعاصرين له كالسبكي وحنوه فنسبه إىل إنكار الزيارة ً‬
‫ينكر منها إالَّ ما كان بشد رحل‪ ،‬كما أنكره مجهور العلماء قبله أو الزيارة اليت‬
‫يكون فيها دعاء األموات‪ ،‬واالستغاثة هبم يف امللمات‪ ،‬مع ما ينضم إىل ذلك‬
‫من أنوا املنكرات‪.‬‬
‫ومما يدل على النهي عن شد الرحل إىل القبور وحنوها‪ ،‬ما أخرجاه يف‬
‫«الصحيحني» عن أيب سعيد عن النيب ‪ ‬قال‪« :‬ال تشد الرحال إالَّ إىل ثالثة‬
‫مساجد‪ :‬املسجد احلرام‪ ،‬ومسجدي هذا‪ ،‬واملسجد األقصى»‪ ،‬فدخل يف ذلك‬
‫شدمها لزيارة القبور واملشاهد‪ ،‬فإما أن يكون هنيًا‪ ،‬وإما أن يكون نفيًا‬
‫لالستحباب‪ .‬وقد جاء يف رواية يف «الصحيح» بصيغة النهي صرحيًا فتعني أن‬
‫يكون للنهي‪.‬‬
‫وهلذا فهم منه الصحابة املنع‪ ،‬كما يف «املوطأ» و«السنن» عن بصرة بن‬
‫أيب بصرة الغفاري أنه قال أليب هريرة وقد أقبل من الطور‪ :‬لو أدركتك قبل أن‬
‫خترج إليه ملا خرجت‪ ،‬مسعت رسول اهلل ‪« :‬ال تعمل املطي إالَّ إىل صالة‬
‫مساجد‪ :‬املسجد احلرام‪ ،‬ومسجدي هذا‪ ،‬واملسجد األقصى»‪.‬‬
‫وروى اإلمام أمحد‪ ،‬وعمر بن شبة يف «أخبار املدينة» بإسناد جيد عن قزعة‬
‫قال‪ :‬أتيت ابن عمر فقلت‪ :‬إي أريد الطور‪ .‬فقال‪ :‬إمنا تشد الرحال إىل ثالثة‬
‫مساجد‪ :‬املسجد احلرام‪ ،‬ومسجد املدينة‪ ،‬واملسجد األقصى‪ ،‬فد عنك الطور‬
‫فال تأته‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬عن شهر بن حوشب قال‪ :‬مسعت‬ ‫وروى أمحد وعـمر بن شبة ً‬

‫‪-246-‬‬
‫أبا سعيد وذكر عنده الصالة يف الطور‪ ،‬فقال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬ال‬
‫ينبغي للمطي أن تشد رحاهلا إىل مسجد يبتغى فيه الصالة غري املسجد احلرام‪،‬‬
‫ومسجدي هذا‪ ،‬واملسجد األقصى»‪ ،‬فأبو سعيد جعل الطور مما هني عن شد‬
‫الرحال إليه‪ ،‬مع أن اللفظ الذي ذكر إمنا فيه النهي عن شدها إىل املساجد‪،‬‬
‫فدل على أنه علم أنه غري املساجد أوىل بالنهي‪ ،‬والطور إمنا يسافر من يسافر‬
‫إليه لفضيلة البقعة‪ ،‬وأن اهلل تعاىل مساه الوادي املقدس والبقعة املباركة‪ ،‬وكلَّم اهلل‬
‫(‪)1‬‬
‫موسى هناك» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫قياسا على جواز‬


‫* لقد ظن عبَّاد القبور‪ :‬جواز التوجه إىل اهلل باألموات ً‬
‫التوجه إليه سبحانه بدعاء األحياء‪ ،‬مث جعلوا ذلك سلَّ ًما إىل عبادة األموات‪،‬‬
‫برب األرض والسموات‪.‬‬
‫وإىل الشرك والتنديد ِّ‬
‫قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل يف شرحه على كتاب التوحيد‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫كثريا منها يف‬
‫ً‬ ‫املصنف‬ ‫ذكر‬ ‫شبهات‪،‬‬ ‫«ولكن لعباد القبور على هذا‬
‫«كشف الشبهات» وحنن نذكر هنا ما ل يذكره‪.‬‬
‫فمن ذلك أهنم احتجوا حبديث رواه الرتمذي يف «جامعه» حيث قال‪:‬‬
‫حدثنا حممود بن غيالن‪ ،‬ثنا عثمان بن عمرو‪ ،‬ثنا شعبة عن أيب جعفر عن‬
‫عمارة بن خزمية بن ثابت‪ ،‬عن عثمان بن حنيف‪ ،‬أن رجالً ضرير البصر أتى‬
‫النيب ‪ ‬فقال‪ :‬اد اهلل أن يعافين‪ ،‬قال‪« :‬إن شئت دعوت‪ ،‬وإن شئت صربت‪،‬‬
‫فهو خري لك» قال‪ :‬فادعه‪ ،‬فأمره أن يتوضأ‪ ،‬وحيسن وضوءه‪ ،‬ويدعو هبذا‬
‫الدعاء‪« :‬اللهم إي أسألك‪ ،‬وأتوجه إليك بنبيك حممد نيب الرمحة‪ ،‬إي‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)243 – 235‬‬


‫(‪ )2‬أي على جواز دعاء األموات‪ ،‬فيما ال يقدر عليه إال رب األرض والسموات‪.‬‬

‫‪-245-‬‬
‫يف»‪ ،‬قال‪ :‬هذا‬ ‫توجهت به إىل ريب يف حاجيت هذه لتقضى‪ ،‬اللهم فشفِّعه َّ‬
‫حديث حسن صحيح غريب‪ ،‬ال نعرفه إالَّ من رواية أيب جعفر‪ ،‬وهو غري‬
‫اْلطمي‪ ،‬هكذا رواه الرتمذي‪ ،‬ورواه النسائي‪ ،‬وابن شاهني‪ ،‬والبيهقي كذلك‪،‬‬
‫ويف بعض الروايات «يا حممد إي أتوجه» إىل آخره‪.‬‬
‫وهذه اللفظة هي اليت تعلق هبا املشركون‪ ،‬وليست عند هؤالء األئمة‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫فلو كان دعاء غري اهلل شرًكا ل يعلم النيب ‪ ‬األعمى هذا الدعاء الذي فيه نداء‬
‫غري اهلل‪.‬‬
‫والجواب من وجوه‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن هذا احلديث من أصله‪ ،‬وإن صححه الرتمذي‪ ،‬فإن يف ثبوته‬
‫نقدا‪،‬‬
‫نظرا‪ ،‬ألن الرتمذي يتساهل يف التصحيح كاحلاكم‪ ،‬لكن الرتمذي أحسن ً‬ ‫ً‬
‫أن أبا جعفر الذي‬ ‫كما ن ي على ذلك األئمة‪ ،‬ووجه عدم ثبوته أنه قد ن ‪َّ :‬‬
‫عليه مدار هذا احلديث هو غري اْلطمي‪ ،‬وإذا كان غريه‪ ،‬فهو ال يعرف‪ ،‬ولعل‬
‫عمدة الرتمذي يف تصحيحه أن شعبة ال يروي إالَّ عن ثقة‪ ،‬وهذا فيه نظر‪ ،‬فقد‬
‫قال عاصم بن علي‪ :‬مسعت شعبة يقول‪ :‬لو ل أحدثكم إالَّ عن ثقة ل أحدثكم‬
‫إالَّ عن ثالثة‪ ،‬ويف نسخة عن ثالثني‪ ،‬ذكره احلافظ العراقي‪ ،‬وهذا اعرتاف منه‬
‫بأنه يروي عن الثقة وغريه فينظر يف حاله‪ ،‬ويتوقف االحتجاج به على ثبوت‬
‫صحته‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه يف غري حمل النزا ‪ ،‬فأين طلب األعمى من النيب ‪ ‬أن يدعو له‪،‬‬
‫وتوجهه بدعائه مع حضوره‪ ،‬من دعاء األموات والسجود هلم ولقبورهم‪ ،‬والتوكل‬
‫عليهم‪ ،‬وااللتجاء إليه يف الشدائد والنذر والذبح هلم‪ ،‬وخطاهبم باحلوائج من‬
‫األمكنة البعيدة‪ :‬يا سيدي يا موالي افعل يب كذا؟!‬
‫فحديث األعمى شيء‪ ،‬ودعاء غري اهلل تعاىل واالستغاثة به شيء آخر‪،‬‬

‫‪-244-‬‬
‫فليس يف حديث األعمى شيء غري أنه طلب من النيب ‪ ‬أن يدعو له‪،‬‬
‫يف»‬ ‫ويشفع له‪ ،‬فهو توسل بدعائه وشفاعته‪ ،‬وهلذا قال يف آخره‪« :‬اللهم فشفعه َّ‬
‫فعلم أنه شفع له‪.‬‬
‫ويف رواية أنه طلب من النيب ‪ ‬أن يدعو له‪ ،‬فدل احلديث على أنه ‪ ‬شفع‬
‫له بدعائه‪ ،‬وأن النيب ‪ ‬أمره هو أن يدعو اهلل ويسأله قبول شفاعته‪ ،‬فهذا من‬
‫أعظم األدلة على أن دعاء غري اهلل شرك‪ ،‬ألن النيب ‪ ‬أمره أن يسأل قبول‬
‫شفاعته‪ ،‬فدل على أن النيب ‪ ‬ال يدعى‪ ،‬وألنه ‪ ‬ل يقدر على شفائه إالَّ‬
‫بدعاء اهلل له‪.‬‬
‫فأين هذا من تلك الطوام؟ والكالم إمنا هو يف سؤال الغائب‪ ،‬أو سؤال‬
‫شخصا خياطبك فتسأله أن‬ ‫ً‬ ‫املخلوق فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل‪ ،‬أما أن تأيت‬
‫يدعو لك‪ ،‬فال إنكار يف ذلك‪ ،‬على ما يف حديث األعمى‪ ،‬فاحلديث سواء‬
‫صحيحا أو ال‪ ،‬وسواء ثبت قوله فيه‪( :‬يا حممد) أو ال‪ ،‬ال يدل على سؤال‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫الغائب‪ ،‬وال على سؤال املخلوق‪ ،‬فيما ال يقدر عليه إال اهلل بوجه من وجوه‬
‫الدالالت‪ .‬ومن ادعى ذلك‪ ،‬فهو مفرت على اهلل وعلى رسوله ‪ ،‬ألنه إن كان‬
‫سأل النيب ‪ ‬نفسه‪ ،‬فهو ل يسأل منه إالَّ ما يقدر عليه‪ ،‬وهو أن يدعو له‪،‬‬
‫وهذا ال إنكار فيه وإن كان توجه به من غري سؤال منه نفسه‪ ،‬فهو ل يسأل‬
‫متوجها بدعائه‪ ،‬كما هو ن أول‬ ‫ً‬ ‫منه‪ ،‬وإمنا سأل من اهلل به‪ ،‬سواء كان‬
‫متوجها بذاته على قول ضعيف‪.‬‬
‫ً‬ ‫احلديث وهو الصحيح‪ ،‬أو كان‬
‫(التوجه إلى الخالق بذوات المخلوقين بدعة منكرة‪ ،‬وأجنبية عن‬
‫الشريعة وفهم حامليها)‬
‫فإن التوجه بذوات املخلوقني‪ ،‬واإلقسام هبم على اهلل بدعة منكرة‪ ،‬ل تأت‬
‫عن النيب ‪ ،‬وال عن أحد من أصحابه‪ ،‬والتابعني هلم بإحسان‪ ،‬وال‬

‫‪-241-‬‬
‫األئمة األربعة وحنوهم من أئمة الدين‪.‬‬
‫قال أبو حنيفة‪ :‬ال ينبغي ألحد أن يدعو اهلل إالَّ به‪ ،‬وقال أبو يوسف‪ :‬أكره‬
‫حبق فالن وحبق أنبيائك ورسلك‪ ،‬وحبق البيت‪ ،‬واملشعر احلرام‪ ،‬وقال القدوري‪:‬‬
‫املسألة حبق املخلوق ال جتوز‪ ،‬فال يقول‪ :‬أسألك بفالن‪ ،‬أو مبالئكتك‪ ،‬أو‬
‫أنبيائك‪ ،‬وحنو ذلك‪ ،‬ألنه ال حق للمخلوق على اْلالق‪ ،‬واختاره العز بن عبد‬
‫السالم‪ ،‬إالَّ يف حق النيب ‪ ‬خاصة إن ثبت احلديث‪ ،‬يشري إىل حديث األعمى‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وقد تقدم أنه على تقدير ثبوته ليس فيه إالَّ أنه توسل بدعائه ال بذاته» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫* لقد جزم عباد القبور بالتجربة العملية املعتادة‪ ،‬وبأخبار شيعتهم املتواترة‪:‬‬
‫بأن الدعاء عند القبور هو الدواء الشايف لكافة األدواء الدنيوية واألخروية‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ‪ -‬رحمهما اهلل تعالى ‪ -‬نقالا‬
‫عن شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪:-‬‬
‫(‪)2‬‬
‫«مث أورد سؤاالً يورده من يتربك بالدعاء عند القبور‪ ،‬ويرى فضله‪ .‬قال‬
‫فإن قيل‪ :‬فقد نقل عن بعضهم أنه قال‪ :‬قرب معروف الرتياق اجملرب‪.‬‬
‫ويروى عن معروف أنه أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قربه‪ .‬وذكر أبو علي‬
‫اْلرقي يف قص من هجره أمحد‪ :‬أن بعض هؤالء املهجورين كان جييء إىل قرب‬
‫أمحد‪ ،‬ويتوخى الدعاء عنده‪ ،‬وأظنه ذكر ذلك عن املروزي‪ ،‬ونقل عن مجاعات‬
‫أهنم دعوا عند قبور مجاعات من األنبياء والصاحلني‪ ،‬من أهل‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)954 – 954‬‬


‫(‪ )2‬أي‪ :‬شيخ اإلسالم ابن تيمية‪.‬‬

‫‪-241-‬‬
‫البيت وغريهم‪ ،‬فاستجيب هلم الدعاء‪ ،‬وعلى هذا عمل كثري من الناس‪...‬‬
‫وإمنا ذكرت هذا السؤال مع بعده عن طريق العلم والدين‪ ،‬ألنه غاية ما‬
‫يتمسك به القبوريون‪.‬‬
‫َّ‬
‫مث أجاب عن هذا السؤال بقوله‪ :‬قلنا الذي ذكرنا كراهته‪ ،‬ال ينقل يف‬
‫استحبابه شيء ثابت عن القرون الثالثة‪ ،‬اليت أثى النيب ‪ ‬عليها حيث قال‪:‬‬
‫«خري أميت القرن الذي بعثت فيهم‪ ،‬مث الذين يلوهنم‪ ،‬مث الذين يلوهنم»‪ ،‬مع شدة‬
‫املقتضى فيهم لذلك‪ ،‬لو كان فيه فضيلة‪ ،‬فعد أمرهم وفعلهم لذلك مع قوة‬
‫املقتضى لو كان فيه فضل يوجب القطع بأن ال فضل فيه‪ ،‬وأما من بعد هؤالء‬
‫فأكثر ما يفرض أن األمة اختلفت‪ ،‬فصار كثري من العلماء إىل فعل ذلك‪،‬‬
‫وصار بعضهم إىل النهي عن ذلك‪ ،‬فإنه ال ميكن أن يقال‪ :‬قد اجتمعت األمة‬
‫على استحباب ذلك‪ ،‬لوجهني‪:‬‬
‫كثريا من األمة كره ذلك وأنكره قدميًا وحديثًا‪.‬‬
‫أحدمها‪ :‬أن ً‬
‫الثاي‪ :‬أنه من املمتنع أن تتفق األمة على استحباب فعل‪ ،‬لو كان حسنًا‬
‫لفعله املتقدِّمون‪ ،‬ول يفعلوه‪ ،‬فإن هذا من باب تناقض اإلمجاعات‪ ،‬وهي ال‬
‫تتناقض‪ .‬وإذا اختلف فيه املتأخرون‪ ،‬فالفاصل بينهم هو الكتاب‪ ،‬أو السنة‪،‬‬
‫نصا واستنباطًا‪ ،‬فكيف واحلمد هلل‪ ،‬ل ينقل هذا عن إمام‬ ‫وإمجا املتقدمني‪ً ،‬‬
‫معروف وال عال متبع؟‬
‫بل املنقول يف ذلك إما أن يكون كذبًا على صاحبه‪ ،‬مثل ما حكى بعضهم‬
‫عن الشافعي رمحه اهلل أنه قال‪« :‬إي إذا نزلت بني شدة أجيء فأدعو عند قرب‬
‫كالما هذا معناه‪.‬‬
‫أيب حنيفة‪ ،‬فأجاب» أو ً‬
‫وهذا كذب معلوم كذبه باالضطرار‪ ،‬عند من له معرفة بالنقل‪ ،‬فإن‬
‫الشافعي ملا قدم بغداد‪ ،‬ل يكن ببغداد أليب حنيفة‪ ،‬وال غريه قرب ينتاب‬

‫‪-215-‬‬
‫للدعاء عنده البتة‪ ،‬بل ول يكن هذا معروفًا على عهد الشافعي‪ ،‬وقد رأى‬
‫الشافعي باحلجاز واليمن والعراق والشام ومصر من قبور األنبياء والصحابة‬
‫والتابعني‪ ،‬من كان أصحاهبا عنده‪ ،‬وعند املسلمني أفضل من أيب حنيفة وأمثاله‬
‫من العلماء‪ ،‬فما باله ل يتوخ الدعاء إالَّ عند أيب حنيفة؟‬
‫مث أصحاب أيب حنيفة الذين أدركوه مثل‪ :‬أيب يوسف وحممد وزفر واحلسن‬
‫يتحرون الدعاء عند قرب أيب حنيفة وال غريه‪ .‬مث قد‬
‫بن زياد وطبقتهم‪ ،‬ل يكونوا ُّ‬
‫تقدم عن الشافعي‪ ،‬ما هو ثابت يف كتابه‪ ،‬من كراهة تعظيم قبور املخلوقني‬
‫(‪)1‬‬
‫خشية الفتنة هبا‪ ،‬وإمنا يضع مثل هذه احلكايات من يقل علمه ودينه» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫* لقد اعتقد كثري من املشركني‪ :‬بأن الذي ميلك النفع والضر هو اهلل‪ ،‬وظنوا‬
‫أن هذا هو لب التوحيد‪ ،‬ومن مث جعلوا بينهم وبني اهلل وسائط يف عبادته‪،‬‬
‫ليقربوهم إليه زلفى ‪ -‬بزعم أن هذا ال ينقض التوحيد‪ ،-‬وفرقوا يف هذا املقام بني‬
‫التوجه إىل اهلل باألصنام واألحجار‪ ،‬والتوجه باألنبياء واألولياء والصاحلني‪ ،‬وهبذا‬
‫وعضوا عليه بالنواجذ‪.‬‬ ‫ترسخ الشرك يف قلوهبم‪ُّ ،‬‬
‫قال اإلمام حممد بن عبد الوهاب رمحهما اهلل تعاىل يف إبطال هذا اإلفك‪:‬‬
‫«فال إله إالَّ اهلل‪ ،‬نفي‪ ،‬وإثبات اإلهلية كلها هلل‪ .‬فمن قصد شيئًا من قرب‪ ،‬أو‬
‫شجر‪ ،‬أو جنم‪ ،‬أو ملك مقرب‪ ،‬أو نيب مرسل‪ ،‬جللب نفع‪ ،‬وكشف ضر‪ ،‬فقد‬
‫اختذه إهلًا من دون اهلل‪ ،‬مكذب بال إله إالَّ اهلل‪ ،‬يستتاب‪ ،‬فإن تاب وإالَّ قتل‪.‬‬
‫فإن قال هذا املشرك‪ :‬ل أقصد إالَّ التربك‪ ،‬وإي ألعلم أن اهلل هو الذي ينفع‬
‫ويضر‪ ،‬فقل له‪ :‬إن بن إسرائيل ما أرادوا إالَّ ما أردت كما أخرب اهلل عنهم أهنم‬
‫َصنَام َّهل ْم قَالواْ يَا‬
‫ملا جاوزوا البحر‪﴿ :‬فَأَتَـ ْواْ َعلَى قَـ ْوم يَـ ْعكفو َن َعلَى أ ْ‬

‫(‪« )1‬راجع منهاج التأسيس والتقديس»‪( :‬ص‪.)955 – 941‬‬

‫‪-219-‬‬
‫اج َعل لَّنَا إِلَ ًـها َك َما َهل ْم ِآهلَة﴾ [األعراف‪ ،]931 :‬فأجاهبم بقوله‪:‬‬ ‫وسى ْ‬ ‫م َ‬
‫﴿إِنَّك ْم قَـ ْوم َْجت َهلو َن﴾ [األعراف‪.]931 :‬‬
‫وحديث أيب واقد الليثي قال‪ :‬خرجنا مع رسول اهلل ‪ ‬إىل حنني‪ ،‬وحنن‬
‫حدثاء عهد بكفر‪ ،‬وللمشركني سدرة يعكفون عندها‪ ،‬وينوطون هبا أسلحتهم‪،‬‬
‫يقال هلا ذات أنواط‪ ،‬فمررنا بسدرة‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬اجعل لنا ذات أنواط‪،‬‬
‫كما هلم ذات أنواط‪ ،‬فقال رسول اهلل ‪« :‬اهلل أكرب‪ ،‬إهنا السنن‪ ،‬قلتم والذي‬
‫اج َعل لَّنَا إِلَ ًـها َك َما َهل ْم ِآهلَة﴾‬
‫نفسي بيده‪ ،‬كما قالت بنو إسرائيل ملوسى‪ْ ﴿ :‬‬
‫[األعراف‪ ]931 :‬لرتكنب سنن من كان قبلكم»‪.‬‬
‫ت َوالْعَّزى﴾ [النجم‪ ،]91 :‬ويف الصحيح عن‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬أَفَـرأَيْـتم َّ‬
‫الال َ‬ ‫َ‬
‫ابن عباس وغريه‪ :‬كان يلت السويق للحاج‪ ،‬فمات‪ ،‬فعكفوا على قربه‪.‬‬
‫فريجع هذا املشرك‪ ،‬يقول‪ :‬هذا يف الشجر‪ ،‬واحلجر‪ ،‬وأنا اعتقد يف أناس‬
‫صاحلني‪ ،‬أنبياء وأولياء‪ ،‬أريد منهم الشفاعة عند اهلل‪ ،‬كما يشفع ذو احلاجة عند‬
‫امللوك‪ ،‬وأريد منهم القربة إىل اهلل‪ ،‬فقل له‪ :‬هذا دين الكفار بعينه‪ ،‬كما أخرب‬
‫ين َّاختَذوا ِمن دونِِه أ َْولِيَاء َما نَـ ْعبده ْم إَِّال لِيـ َقِّربونَا إِ َىل اللَّ ِه‬ ‫َّ ِ‬
‫سبحانه بقوله‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫ون اللي ِه َما الَ يَضُّره ْم َوالَ يَ َنفعه ْم‬ ‫زلْ َفى﴾ [الزمر‪ ،]3 :‬وقوله‪﴿ :‬ويـعبدو َن ِمن د ِ‬
‫ََْ‬
‫ند اللي ِه﴾ [يونس‪.]91 :‬‬ ‫َويَـقولو َن َهـؤالء ش َف َعاؤنَا ِع َ‬
‫أناسا يعبدون املسيح وعز ًيرا‪ ،‬فقال اهلل‪ :‬هؤالء عبيدي‪ ،‬يرجون‬ ‫وقد ذكر ً‬
‫رمحيت كما ترجوهنا‪ ،‬وخيافون عذايب كما ختافونه‪ ،‬وأنزل اهلل سبحانه‪﴿ :‬ق ِل ْادعواْ‬
‫ف الضُِّّر َعنك ْم َوالَ َْحت ِويالً﴾ [اإلسراء‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َز َع ْمتم ِّمن دونه فَالَ ميَْلكو َن َك ْش َ‬ ‫الذ َ‬
‫مج ًيعا مثَّ يَـقول لِْل َم َالئِ َك ِة أ ََهؤَالء إِيَّاك ْم َكانوا‬
‫‪ .]65‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ويـوم َحيشرهم َِ‬
‫ََْ َ ْ ْ‬
‫ك‪ ﴾...‬اآليتني [سبأ‪.]49 ،45 :‬‬ ‫يَـ ْعبدو َن * قَالوا سْب َحانَ َ‬
‫والقرآن‪ ،‬بل والكتب السماوية من أوهلا إىل آخرها مصرحة ببطالن هذا‬

‫‪-212-‬‬
‫الدين‪ ،‬وكفر أهله‪ ،‬وأهنم أعداء اهلل ورسوله‪ ،‬وأهنم أولياء الشيطان‪ ،‬وأنه‬
‫سبحانه ال يغفر هلم‪ ،‬وال يقبل عمالً منهم‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن الليهَ الَ يَـ ْغ ِفر‬
‫ك لِ َمن يَ َشاء﴾ [النساء‪ ،]41 :‬وقال تعاىل‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أَن ي ْشَرَك بِِه َويَـ ْغفر َما دو َن َذل َ‬
‫﴿ َوقَ ِد ْمنَا إِ َىل َما َع ِملوا ِم ْن َع َمل فَ َج َعْلنَاه َهبَاء َّمنث ًورا﴾ [الفرقان‪ ،]23 :‬وقال‬
‫ِ‬
‫تعاىل‪﴿ :‬فَالَ َْجت َعلواْ للي ِه أ َ‬
‫َنداداً َوأَنت ْم تَـ ْعلَمو َن﴾ [البقرة‪.]22 :‬‬
‫قال ابن مسعود وابن عباس‪ :‬ال جتعلوا له أ ْكفاء من الرجال‪ ،‬تطيعوهنم يف‬
‫ندا؟‬‫معصية اهلل‪ ،‬وقال رجل للنيب ‪ :‬ما شاء اهلل وشئت‪ ،‬قال‪« :‬أجعلتن هلل ً‬
‫قل‪ :‬ما شاء اهلل وحده»‪ ،‬وقال ‪ ‬ألصحابه‪« :‬أخوف ما أخاف عليكم‪ :‬الشرك‬
‫األصغر»‪ ،‬فسئل عنه فقال‪« :‬الرياء»‪.‬‬
‫وباجلملة‪ :‬فأكثر أهل األرض‪ ،‬مفتونون بعبادة األصنام واألوثان‪ ،‬ول يتخل‬
‫من ذلك إالَّ احلنفاء‪ ،‬أتبا ملة إبراهيم ‪ ،‬وعبادهتا يف األرض من قبل قوم نوح‬
‫كما ذكر اهلل‪ ،‬وهي كلها‪ ،‬ووقوفها‪ ،‬وسدانتها‪ ،‬وحجابتها‪ ،‬والكتب املصنفة يف‬
‫ن أَن نـَّ ْعب َد‬ ‫اجنْب ِن َوبَِ َّ‬
‫شرائع عبادهتا‪ ،‬طبق األرض‪ ،‬قال إمام احلنفاء‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫َصنَ َام﴾ [إبراهيم‪ ،]36 :‬وقد ق َّ اهلل ذلك عنهم يف القرآن‪ ،‬وأجنى الرسل‬ ‫األ ْ‬
‫(‪)1‬‬
‫وأتباعهم من املوحدين» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫قرر املشركون أن دينهم قائم على أصل أصيل‪ ،‬وركن‬ ‫آخرا‪َّ :‬‬
‫أخريا ال ً‬
‫*و ً‬
‫ركني‪ ،‬أال وهو إمجا املسلمني‪ ،‬فالعلماء ‪ -‬بزعمهم ‪ -‬من كافة األمصار‪،‬‬
‫واألمة من ورائهم تبع ‪ -‬قد استحسنوا دعاء األموات‪ ،‬ول يرونه شرًكا وال بدعة‪،‬‬
‫منكرا من القول!!!‬
‫بل وال ً‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)11 – 14 /2( :‬‬

‫‪-213-‬‬
‫وها هو الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين نراه يهدم هذا األصل‬
‫الذي ليس أصيالا‪ ،‬والركن غير الركين‪ ،‬فقد سئل ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪-‬‬
‫سؤالا جاء فيه‪:‬‬
‫تقرون‪ :‬أن إمجا األمة حجة‪ ،‬وأهنا ال جتتمع‬‫قال السائل‪ :‬إن قال قائل‪ُّ ،‬‬
‫على ضاللة‪ ،‬وأنتم قد خالفتم مجيع العلماء‪ ،‬من أهل األمصار قاطبة‪ ،‬وادعيتم‬
‫أمرا أنكرته مجيع‬
‫ما ل يدعه غريكم‪ ،‬وأنكرم ما ل ينكر يف مجيع األرض‪ ،‬وافرتيتم ً‬
‫علماء األمة‪ ،‬واإلشارة هنا إىل التوحيد‪ ،‬وما دعا إليه الشيخ حممد بن عبد‬
‫الوهاب‪ ،‬وتكفري من أشرك باهلل يف ألوهيته عند املشاهد وغريها‪ ،‬فما اجلواب‬
‫لذلك؟‬
‫فأجاب قدس اهلل روحه‪ :‬أما دعوى هذا املبطل إمجا العلماء‪ ،‬على جواز‬
‫دعاء أهل القبور واالستغاثة هبم‪ ،‬والتقرب إليهم بالنذور‪ ،‬والذبائح‪ ،‬فهذا كذب‬
‫ظاهر‪ ،‬وشبهته‪ :‬أن هذه األمور ظاهرة يف مجيع األمصار‪ ،‬ول يسمعوا أن عاملا‬
‫ً‬
‫أنكره‪ ،‬فيقال بل‪ :‬أنكره كثري من علماء هذا الزمان‪ ،‬ووافق عليه خواص من‬
‫علماء احلرمني واليمن‪ ،‬ومسعنا منهم مشافهة‪ ،‬ولكن الشوكة لغريهم‪ .‬وصنَّف فيه‬
‫مجاعة‪ .‬كالنعمي من أهل اليمن‪ ،‬له مصنف يف ذلك حسن‪ ،‬وكذلك الشوكاي‪،‬‬
‫مصنفا لعال من أهل جبل سليمان يف‬ ‫ً‬ ‫وحممد بن إمساعيل‪ ،‬وغريهم‪ ،‬ورأيت‬
‫إنكار ذلك‪ ،‬وهذا مصداق قول النيب ‪« :‬ال تزال طائفة من أميت على احلق‬
‫دائما وبالسيف أحيانًا‪.‬‬
‫ظاهرين»‪ ،‬وليس املراد الظهور بالسيف‪ ،‬بل احلجة ً‬
‫ولو قال هذا اجملادل‪ :‬إن أكثر الناس على ما يرى‪ ،‬لكان صادقًا‪ ،‬وهذا‬
‫مصداق احلديث‪« :‬بدأ اإلسالم غريبًا‪ ،‬وسيعود غريبًا كما بدأ»‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬فالبناء على القبور وإسـراجها وجتـصيصها‪ :‬ظاهر غالب يف‬
‫و ً‬

‫‪-214-‬‬
‫األمصار اليت نعرف‪ ،‬مع أن النهي عن ذلك ثابت عن النيب ‪ ،‬ومنصوص‬
‫على النهي يف مجيع املذاهب‪ ،‬فهل ميكن هذا املبطل‪ ،‬أن يقول‪ :‬إن األمة جممعة‬
‫ظاهرا يف األمصار؟ واهلل سبحانه إمنا افرتض علي اْللق‬ ‫على جواز ذلك لكونه ً‬
‫طاعته‪ ،‬وطاعة رسوله‪ ،‬وأمرهم أن يردوا إىل كتابه وسنَّة رسوله‪ ،‬ما تنازعوا فيه‪،‬‬
‫وأمجع العلماء على أنه ال جيوز التقليد يف التوحيد والرسالة‪.‬‬
‫فإذا عرف‪ :‬أن الشرك عبادة غري اهلل‪ ،‬وعرف معى العبادة‪ ،‬وعلم كل قول‬
‫وعمل حيبه اهلل ويرضاه‪ ،‬ومن أعظم ذلك الدعاء‪ ،‬ألنه مخ العبادة‪ ،‬وعلم ما‬
‫يفعل عند القبور‪ ،‬من دعاء أصحاهبا بسؤاهلم قضاء احلاجات‪ ،‬وتفريج الكربات‪،‬‬
‫والتقرب إليهم بالنذور والذبائح‪ ،‬عرف أن هذا هو الشرك األكرب الذي هو‬
‫عبادة غري اهلل تعاىل‪ ،‬فإذا حتقق اإلنسان ذلك‪ ،‬عرف احلق‪ ،‬ول يبال مبخالفة‬
‫أكثر الناس‪ ،‬ويعتقد أن األمة ال جتتمع على ذلك‪ ،‬ألنه ضاللة‪.‬‬
‫فإن قال هذا اجملادل‪ :‬إن هذه األفعال اليت تفعل عند القبور‪ ،‬وعلي القبور‬
‫شرعا‪ ،‬فهو حماد هلل ولرسوله‪ ،‬وإن قال‪ :‬هذه األمور ال جتوز‪ ،‬لكنها ليست‬ ‫جائزة ً‬
‫شرًكا‪ ،‬مع دعواه أن علماء الزمان أمجعوا على ذلك‪ ،‬فيلزمه أن األمة أمجعت على‬
‫تبني له احلق‪ ،‬ل يستوحش من قلة املوافقني وكثرة‬ ‫ضاللة‪ ،‬واإلنسان إذا َّ‬
‫املخالفني‪ ،‬ال سيما يف آخر هذا الزمان‪.‬‬
‫حقا ما خفي على فالن وفالن‪ ،‬هذه دعوى‬ ‫وقول اجلاهل‪ :‬لو كان هذا ً‬
‫الكفار‪ ،‬يف قوهلم‪﴿ :‬لَْو َكا َن َخْيـًرا َّما َسبَـقونَا إِلَْي ِه﴾ [األحقاف‪،]99 :‬‬
‫﴿أ ََهـؤالء َم َّن الليه َعلَْي ِهم ِّمن بَـْينِنَا﴾ [األنعام‪ ،]63 :‬وقد قال علي ‪ :‬اعرف‬
‫احلق تعرف أهله‪.‬‬
‫وأما الذي يف َحرية ولبس‪ ،‬فكل شبهة تروج عليه‪ ،‬فلو كان أكثر الناس‬
‫(‪)1‬‬
‫اليوم على احلق‪ ،‬ل يكن اإلسالم غريبًا‪ ،‬وهو واهلل اليوم يف غاية الغربة» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)459 – 311/95( :‬‬

‫‪-216-‬‬
-215-
‫الفصل الرابع‬
‫الشفاعة‪ ،‬أنواعها‪ ،‬وشروطها‬
‫وأسباب تحصيلها‪ ،‬وموانع الحرمان منها‬

‫وفيه ثالثة مباحث‪:‬‬

‫املبحث األول ‪ :‬الشفاعة وشروطها‪.‬‬


‫املبحث الثاي ‪ :‬عدم فقه الفرق بني الشفاعة عند اْلالق‪ ،‬ولدى املخلوق‪،‬‬
‫َّورث الشرك وأصله يف نفوس أهله‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬الفرق بني الشفاعة املثبتة واملنفية يف القرآن العظيم‪.‬‬

‫‪-214-‬‬
-211-
‫المبحث األول‬
‫الشفاعة شروطها وأنواعها‬
‫إن اهلل له ملك السموات واألرض وما فيهن وما بينهما‪ ،‬وكل ما دونه من‬
‫جل يف عاله الغن‬ ‫الكائنات‪ ،‬خملوق مربوب فقري مملوك لسيده سبحانه‪ ،‬وهو َّ‬
‫بذاته املقدسة عن كل ما سواه‪ ،‬وكل خملوقاته يف أشد ما يكونوا حاجة إليه‪ ،‬واهلل‬
‫سبحانه ليس له شريك يف ملكه‪ ،‬وال معاون وال ظهري‪ ،‬وال حيتاج ألحد من‬
‫خلقه حىت يشفع عنده بغري إذنه‪ ،‬وذلك لكماله املطلق‪ ،‬وملكه التام‪ ،‬اللذين ال‬
‫نق فيهما بوجه من الوجوه‪ ،‬ومن مث كان لز ًاما على كل عاقل لبيب أن يطلب‬
‫ويفوض أمره إليه‪ ،‬علَّه‬
‫ويتضر إليه وحده فيها‪ِّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫الشفاعة بشروطها من مالكها‪،‬‬
‫يفوز حبظ وافر منها‪ ،‬ويكتب من أهلها‪.‬‬
‫قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«الشفاعة لغة‪ :‬الوسيلة والطلب‪ .‬وعرفًا‪ :‬سؤال اْلري للغري‪ .‬وقيل‪ :‬هي من‬
‫الشفع الذي هو ضد الوتر‪ ،‬فكأن الشافع ضم سؤاله إىل سؤال املشفو له‪.‬‬
‫والشفاعة حق إذا حتققت شروطها‪ ،‬وهي أن تكون بإذن اهلل تعاىل‪ ،‬ورضاه‬
‫عن املشفو له‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬وَكم ِّمن َّملَك ِيف َّ ِ‬
‫اعتـه ْم‬ ‫الس َم َاوات َال تـ ْغ ِن َش َف َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضى﴾‬ ‫َشْيئًا إَِّال من بَـ ْعد أَن يَأْ َذ َن اللَّه ل َمن يَ َشاء َويَـ ْر َ‬
‫[النجم‪.]25 :‬‬
‫ففي هذه اآلية الكرمية أن الشفاعة ال تنفع إالَّ بشرطني‪:‬‬
‫األول‪ :‬إذن اهلل للشافع أن يشفع‪ ،‬ألن الشفاعة ملكه سبحانه‪﴿ :‬قل لِّلَّ ِه‬
‫مج ًيعا﴾ [الزمر‪.]44 :‬‬‫َّفاعة َِ‬
‫الش َ َ‬
‫الثاني‪ :‬رضاه عن املشفو فيه بأن يكون من أهل التوحيد‪ ،‬ألن املشرك‬

‫‪-211-‬‬
‫ني﴾‬ ‫ِِ‬
‫اعة الشَّافع َ‬ ‫ال تنفعه الشفاعة‪ ،‬كما قال تعاىل‪ ﴿ :‬فَ َما تَ َنفعه ْم َش َف َ‬
‫[املدثر‪.]41 :‬‬
‫فتبني هبذا بطالن ما عليه القبوريون اليوم‪ ،‬الذين يطلبون الشفاعة من‬
‫ويتقربون إليهم بأنوا القربات‪ ،‬كما قال اهلل يف سلفهم‪َ ﴿ :‬ويَـ ْعبدو َن‬ ‫األموات‪َّ ،‬‬
‫ند اللي ِه﴾‬ ‫ون اللي ِه َما الَ يَضُّره ْم َوالَ يَ َنفعه ْم َويَـقولو َن َهـؤالء ش َف َعاؤنَا ِع َ‬ ‫ِمن د ِ‬
‫ون اللَّ ِه ش َف َعاء ق ْل أ ََولَْو َكانوا الَ‬
‫[يونس‪ ،]91 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬أَِم َّاختَذوا ِمن د ِ‬
‫ض مثَّ‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫َّف َ ِ َّ‬
‫اعة َمج ًيعا له مْلك َّ َ َ‬ ‫ميَْلِكو َن َشْيئًا َوالَ يَـ ْع ِقلو َن * قل لِّلَّ ِه الش َ‬
‫إِلَْي ِه تـ ْر َجعو َن﴾ [الزمر‪.]44 ،43 :‬‬
‫وقد أعطي نبينا ‪ ‬الشفاعة‪ ،‬فيشفع ملن أذن اهلل له فيه‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل‪« :‬وله ‪ ‬ثالث شفاعات‪:‬‬
‫اجع‬
‫أما الشفاعة األوىل‪ :‬فيشفع يف أهل املوقف حىت يقض بينهم بعد أن ترت َ‬
‫األنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مرمي عن الشفاعة حىت تنتهي‬
‫إليه‪.‬‬
‫وأما الشفاعة الثانية‪ :‬فيشفع يف أهل اجلنة أن يدخلوا اجلنة‪ ،‬وهاتان‬
‫الشفاعتان خاصتان له‪.‬‬
‫وأما الشفاعة الثالثة‪ :‬فيشفع فيمن استحق النار‪ ،‬وهذه الشفاعة له ولسائر‬
‫النبيني والصدِّيقني وغريهم‪ ،‬فيشفع فيمن استحق النار أن ال يدخلها‪ ،‬ويشفع‬
‫فيمن دخلها أن خيرج منها»‪.‬‬
‫وقال رمحه اهلل‪« :‬وأما شفاعته ألهل الذنوب من أمته‪ ،‬فمتفق عليها بني‬
‫الصحابة والتابعني هلم بإحسان وسائر أئمة املسلمني األربعة وغريهم‪ ،‬وأنكرها‬
‫كثري من أهل البد من اْلوارج واملعتزلة والزيدية‪ ،‬وقال هؤالء‪ :‬من يدخل النار‬
‫ال خيرج منها ال بشفاعة وال غريها‪ ،‬وعند هؤالء ما مث إال‬
‫مـن يدخل اجلنة فال يدخل النار‪ ،‬ومـن يدخل النار فال يدخل اجلنة‪ ،‬وال‬

‫‪-215-‬‬
‫جيتمع عندهم يف الشخ الواحد ثواب وعقاب‪ .»...‬إىل أن قال‪:‬‬
‫«واحتج هؤالء املنكرون للشفاعة بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬واتـَّقواْ يَـ ْوماً الَّ َْجت ِزي نَـ ْفس َعن‬
‫اعة َوالَ يـ ْؤ َخذ ِمْنـ َها َع ْدل﴾ [البقرة‪ ،]41 :‬وبقوله‪:‬‬ ‫ِ‬
‫نـَّ ْفس َشْيئاً َوالَ يـ ْقبَل مْنـ َها َش َف َ‬
‫محيم َوَال َش ِفيع يطَا ﴾ [غافر‪ ،]91 :‬وبقوله‪﴿ :‬فَ َما تَ َنفعه ْم‬ ‫﴿ما لِلظَّالِ ِمني ِمن َِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ني﴾ [املدثر‪.]41 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اعة الشَّافع َ‬ ‫َش َف َ‬
‫وجواب أهل السنة‪ :‬أن هذا يراد به شيئان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أهنا ال تنفع املشركني‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ما َسلَ َكك ْم ِيف َس َقَر *‬
‫ني‬ ‫قَالوا َل نَك ِمن الْمصلِّني * وَل نَك نطْعِم الْ ِمس ِكني * وكنَّا َخنوض مع ْ ِ ِ‬
‫اْلَائض َ‬ ‫ََ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ َ َ َْ‬ ‫ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني﴾‬ ‫اعة الشَّافع َ‬ ‫* َوكنَّا ن َك ِّذب بِيَـ ْوم الدِّي ِن * َح َّىت أَتَانَا الْيَقني * فَ َما تَ َنفعه ْم َش َف َ‬
‫كفارا‪.‬‬
‫[املدثر‪ ،]41 - 42 :‬فهؤالء ال تنفعهم شفاعة الشافعني ألهنم كانوا ً‬
‫والثاني‪ :‬أنه يراد بذلك الشفاعة اليت يثبتها أهل الشرك‪ ،‬ومن شاهبهم‪ ،‬من‬
‫أهل البد من أهل الكتاب واملسلمني‪ ،‬الذين يظنون أن للخلق عند اهلل من‬
‫(‪)1‬‬
‫القدر أن يشفعوا عنده بغري إذنه‪ ،‬كما يشفع الناس يف بعضهم عند بعض» ‪.‬‬
‫قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل في أثناء شرحه على كتاب التوحيد‪:‬‬
‫قوله‪ :‬فنفى أن يكون لغريه ملك‪ ،‬وذلك يف قوله تعاىل‪﴿ :‬الَ ميَْلِكو َن ِمثْـ َق َال‬
‫ض﴾ [سبأ‪ .]22 :‬ومن ال ميلك هذا املقدار فليس‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َوالَ ِيف األ َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫َذ َّرة يف َّ َ َ‬
‫بأهل أن يدعى‪.‬‬
‫قوله‪ :‬أو قسط منه‪ ،‬أي من امللك‪ ،‬والقسط ‪ -‬بكسر القاف ‪ -‬هو‬
‫النصيب من الشيء‪ ،‬وذلك يف قوله‪َ ﴿ :‬وَما َهل ْم فِي ِه َما ِمن ِش ْرك﴾ [سبأ‪،]22 :‬‬
‫أي ملن تدعون من املالئكة وغريها فيهـا‪ ،‬أي‪ :‬يف السمـاوات واألرض من‬

‫(‪« )1‬اإلرشاد إىل تصحيح االعتقاد»‪( :‬ص‪.)216 – 213‬‬

‫‪-219-‬‬
‫شرك‪ ،‬ومن ليس مبالك وال شريك للمالك فكيف يدعى من دون اهلل؟‬
‫قوله‪ :‬أو أن يكون عونًا هلل‪ ،‬ويف ذلك قوله‪َ ﴿ :‬وَما لَه ِمْنـهم ِّمن ظَ ِهري﴾‬
‫[سبأ‪ ،]22 :‬أي‪ :‬ما هلل ممن تدعوهنم عون‪.‬‬
‫قوله‪ :‬ول يبق إالَّ الشفاعة‪ ،‬فتبني أهنا ال تنفع إالَّ ملن أذن له الرب‪ ...‬إخل‪.‬‬
‫مجلة الشروط اليت ال بد وأن يكون أحدها يف املدعو‪ ،‬أربعة حىت يقدر على‬
‫إجابة من دعاه‪:‬‬
‫ات َوالَ ِيف‬ ‫السماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األول‪ :‬امللك‪ ،‬فنفاه بقوله‪﴿ :‬الَ ميَْلكو َن مثْـ َق َال َذ َّرة يف َّ َ َ‬
‫ض﴾ [سبأ‪.]22 :‬‬ ‫األ َْر ِ‬
‫الثاني‪ :‬إذا ل يكن مال ًكا فيكون شري ًكا للمالك‪ ،‬فنفاه بقوله‪َ ﴿ :‬وَما َهل ْم‬
‫فِي ِه َما ِمن ِش ْرك﴾ [سبأ‪.]22 :‬‬
‫الثالث‪ :‬إذا ل يكن مال ًكا وال شري ًكا للمالك فيكون عونًا ووز ًيرا‪ ،‬فنفاه‬
‫بقوله‪َ ﴿ :‬وَما لَه ِمْنـهم ِّمن ظَ ِهري﴾ [سبأ‪.]22 :‬‬
‫شفيعا‪ ،‬فنفى سبحانه‬ ‫الرابع‪ :‬إذا ل يكن مال ًكا وال شري ًكا وال عونًا فيكون ً‬
‫وتعاىل الشفاعة عنده إالَّ بإذنه‪ ،‬فهو الذي يأذن للشافع ابتداء فيشفع‪ .‬فبنفي‬
‫هذه األمور بطلت دعوة غري اهلل‪ ،‬إذ ليس عند غريه من النفع والضر ما يوجب‬
‫قصده بشيء من العبادة‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َّاختَذوا ِمن دونِِه ِآهلَةً الَّ َخيْلقو َن‬
‫ضًّرا َوالَ نَـ ْف ًعا َوالَ ميَْلِكو َن َم ْوتًا َوالَ َحيَا ًة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َشْيئًا َوه ْم خيْلَقو َن َوالَ ميَْلكو َن ألَنفس ِه ْم َ‬
‫ون اللَّ ِه ِآهلَةً لَ َعلَّه ْم‬
‫والَ نشورا﴾ [الفرقان‪ ،]3 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬و َّاختَذوا ِمن د ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ضرو َن﴾ [يس‪»]46 ،44 :‬‬ ‫صَره ْم َوه ْم َهل ْم جند ُّْحم َ‬ ‫نصرو َن * الَ يَ ْستَطيعو َن نَ ْ‬ ‫ي َ‬
‫(‪)1‬‬
‫‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪.)916/4( :‬‬

‫‪-212-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫عدم فقه الفرق بين الشفاعة عند الخالق‬
‫ولدى المخلوق‪ ،‬ورث الشرك وأصله في نفوس أهله‬

‫الفرق بني الشفاعة عند اهلل سبحانه‪ ،‬والشفاعة املعهودة لدى بن البشر‪،‬‬
‫كالفرق بني‪ :‬اْلالق‪ ،‬الرب‪ ،‬السيد‪ ،‬املالك‪ ،‬الغن‪ ،‬الذي ال حاجة له إىل أحد‬
‫من خلقه‪ ...‬واملخلوق‪ ،‬املربوب‪ ،‬العبد‪ ،‬اململوك‪ ،‬الفقري‪ ،‬احملتاج إىل غريه من‬
‫كافة الوجوه‪.‬‬
‫ترسخ الشرك يف قلوهبم‪ ،‬طلبًا لشفاعة‬ ‫وملا ل يفقه املشركون ذلك الفرق‪َّ ،‬‬
‫قياسا منهم على طلبهم ملا لدى املخلوقني بعضهم من بعض‬ ‫أندادهم عند اهلل‪ً ،‬‬
‫أمثاهلم‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن ‪ -‬رحمهما اهلل تعالى ‪ -‬مبيناا سر‬
‫الشرك‪ ،‬وعلته‪ ،‬مع كيفية الرد الباهر عليه‪:‬‬
‫جردوا‬
‫«أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة‪ :‬أهل التوحيد الذين َّ‬
‫التوحيد وخلَّصوه من تعلقات الشرك وشوائبه‪ ،‬وهم الذين ارتضى اهلل سبحانه‪.‬‬
‫ِ‬
‫ضى﴾ [األنبياء‪ ،]21 :‬وقال تعاىل‪:‬‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وال يَ ْش َفعو َن إِالَّ ل َم ِن ْارتَ َ‬
‫اعة إِالَّ َم ْن أ َِذ َن لَه َّ‬
‫الر ْمحَن َوَر ِض َي لَه قَـ ْوالً﴾ [طه‪.]951 :‬‬ ‫﴿يَـ ْوَمئِذ الَّ تَ َنفع الش َ‬
‫َّف َ‬
‫فأخرب أنه ال حتصل يومئذ شفاعة تنفع إالَّ بعد رضا قول املشفو له‪ ،‬وإذنه‬
‫للشافع‪ ،‬فأما املشرك فإنه ال يرضاه وال يرضى قوله‪ ،‬فال يأذن للشفعاء أن يشفعوا‬
‫فيه فإنه سبحانه علَّقها بأمرين‪ :‬رضاه عن املشفو له‪ ،‬وإذنه للشافع‪ ،‬فما ل‬
‫يوجد جممو األمرين ل توجد الشفاعة‪.‬‬

‫‪-213-‬‬
‫وسر ذلك أن األمر كله هلل وحده‪ ،‬فليس ألحد معه من األمر شيء‪ ،‬وأعلى‬
‫املقربون‪ ،‬وهم عبيد حمض ال‬ ‫اْللق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل واملالئكة َّ‬
‫يسبقونه بالقول‪ ،‬وال يتقدمون بني يديه‪ ،‬وال يفعلون شيئًا إالَّ من بعد إذنه هلم‪،‬‬
‫وال سيما يوم ال َتلك نفس لنفس شيئًا‪ ،‬فهم مملوكون مربوبون‪ ،‬أفعاهلم مقيدة‬
‫بأمره وإذنه‪ ،‬فإذا أشركهم به املشرك‪ ،‬واختذهم شفعاء من دونه‪ ،‬ظنًا منه أنه إذا‬
‫فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند اهلل‪ ،‬فهو من أجهل الناس حبق الرب سبحانه‪،‬‬
‫وما جيب له وميتنع عليه‪ ،‬فإن هذا حمال ممتنع يشبه قياس الرب سبحانه على‬
‫امللوك والكرباء‪ ،‬حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم‬
‫يف احلوائج‪.‬‬
‫(علة عظيمة تبيِّن فساد قياس الخالق على المخلوق في مسألة‬
‫الشفاعة)‬
‫وهبذا القياس الفاسد عبدت األصنام‪ ،‬و َّاختذ املشركون من دون اهلل الشفيع‬
‫والويل‪ ،‬والفرق بينهما‪ :‬هو الفرق بني اْلالق واملخلوق‪ ،‬والرب واملربوب‪ ،‬والسيد‬
‫والعبد‪ ،‬واملالك واململوك‪ ،‬والغن والفقري‪ ،‬والذي ال حاجة به إىل أحد قط‪،‬‬
‫واحملتاج من كل وجه إىل غريه‪.‬‬
‫فالشفعاء عند املخلوقني هم شركاؤهم‪ ،‬فإن قيام مصاحلهم هبم‪ ،‬وهم‬
‫أعواهنم وأنصارهم‪ ،‬الذين قيام أمر امللوك والكرباء هبم‪ ،‬ولوالهم ملا انبسطت‬
‫أيديهم وألسنتهم يف الناس‪ ،‬فلحاجتهم إليهم حيتاجون إىل قَبول شفاعتهم‪ ،‬وإن‬
‫ل يأذنوا فيها‪ ،‬ول يرضوا عن الشافع‪ ،‬ألهنم خيافون أن يردوا شفاعتهم‪ ،‬فتنق‬
‫طاعتهم هلم‪ ،‬ويذهبون إىل غريهم‪ ،‬فال جيدون ب يدا من قبول شفاعتهم على الكره‬
‫والرضا‪.‬‬
‫فأما الذي غناه من لوازم ذاته‪ ،‬وكل ما سواه فقري إليه لذاته‪ ،‬وكل من يف‬

‫‪-214-‬‬
‫مصرفون مبشيئته‪ ،‬لو أهلكهم‬ ‫السماوات واألرض عبيد له مقهورون لقهره‪َّ ،‬‬
‫مجيعا ل ينق من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإهليته مثقال ذرة‪....‬‬ ‫ً‬
‫فمتَّخذ الشفيع ال تنفعه شفاعته وال يشفع فيه‪ ،‬ومتخذ الرب وحده إهله‬
‫ومعبوده وحمبوبه ومرجوه وخموفه‪ ،‬الذي يتقرب إليه وحده‪ ،‬ويطلب رضاه‪ ،‬ويتباعد‬
‫من سخطه‪ ،‬هو الذي يأذن اهلل سبحانه للشفيع أن يشفع له‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫ون اللي ِه َما الَ يَضُّره ْم َوالَ يَ َنفعه ْم َويَـقولو َن َهـؤالء ش َف َعاؤنَا ِع َ‬
‫ند‬ ‫﴿ويـعبدو َن ِمن د ِ‬
‫ََْ‬
‫السماو ِ‬
‫ات َوالَ ِيف األ َْر ِ‬
‫ض سْب َحانَه َوتَـ َع َاىل َع َّما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الليه ق ْل أَتـنَبِّئو َن الليهَ مبَا الَ يَـ ْعلَم يف َّ َ َ‬
‫ي ْش ِركو َن﴾ [يونس‪.]91 :‬‬
‫فبني سبحانه وتعاىل أن متَّخذي الشفعاء‪ :‬مشركون‪ ،‬وأن الشفاعة ال حتصل‬
‫باختاذهم‪.‬‬
‫وسر الفرق بني الشفاعتني‪ :‬أن شفاعة املخلوق للمخلوق‪ ،‬وسؤاله للمشفو‬
‫أمرا وال إذنًا‪ ،‬بل هو سبب‬
‫خلقا وال ً‬
‫عنده ال يفتقر فيها إىل املشفو عنده‪ ،‬ال ً‬
‫حمرك له من خارج كسائر األسباب‪ ،‬وهذا السبب احملرك قد يكون عند احملرك‬
‫ألجله ما يوافقه‪ ،‬كمن يشفع عنده يف أمر حيبه ويرضاه‪ ،‬وقد يكون عنده ما‬
‫خيالفه كمن يشفع إليه يف أمر يكرهه‪ ،‬مث قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من‬
‫املعارض‪ ،‬فيقبل شفاعة الشافع‪ ،‬وقد يكون املعارض الذي عنده أقوى من‬
‫مرتددا بني ذلك‬
‫ً‬ ‫شفاعة الشافع فريدها‪ ،‬وقد يتعارض عنده األمران فيبقى‬
‫املعارض الذي يوجب الرد‪ ،‬وبني الشفاعة اليت تقتضي القبول فيتوقف إىل أن‬
‫يرتجح عنده أحد األمرين مبرجح‪.‬‬
‫وهذا خبالف الشفاعة عند الرب سبحانه وتعاىل‪ ،‬فإنه ما ل خيلق شفعة‬
‫الشافع‪ ،‬ويأذن له فيها‪ ،‬وحيبها منه‪ ،‬ويرضى عن الشافع ل ميكن أن توجد‪،‬‬
‫والشافع ال يشفع عنده مبجرد امتثال أمره وطاعته له‪ ،‬فهو مأمور بالشفاعة‬

‫‪-216-‬‬
‫أحدا من األنبياء واملالئكة ومجيع املخلوقات ال‬
‫مطيع بامتثال األمر‪ ،‬فإن ً‬
‫يتحرك بشفاعة وال غريها إالَّ مبشيئة اهلل وخلقه‪.‬‬
‫(العلم بالفرق بين الشفاعة عند الخالق ولدى المخلوق‪ ،‬يبيِّن حقيقة‬
‫الفرق بين التوحيد والشرك)‪.‬‬
‫فالرب تعاىل هو الذي حيرك الشفيع حىت يشفع‪ ،‬والشفيع عند املخلوق هو‬
‫الذي حيرك املشفو إليه حىت يقبل‪ ،‬والشافع عند املخلوق مستغن عنه يف أكثر‬
‫أموره‪ ،‬وهو يف احلقيقة شريكه ولو كان مملوكه‪ ،‬وعبده‪ ،‬فاملشفو عنده حمتاج إليه‬
‫فيما يناله من النفع والضر واملعاونة وغري ذلك‪ .‬كما أن الشافع حمتاج إليه فيما‬
‫يناله من رزق أو نصر أو غريه‪ ،‬فكل منهما حمتاج إىل اآلخر‪.‬‬
‫ومن وفَّقه اهلل لفهم هذا املوضو ‪ ،‬تبني له حقيقة التوحيد والشرك‪ ،‬والفرق‬
‫نورا فما له‬
‫بني ما أثبته اهلل من الشفاعة‪ ،‬وما نفاه وأبطله‪ .‬ومن ل جيعل اهلل له ً‬
‫من نور‪ ،‬ومن له خربة مبا بعث اهلل به رسوله‪ ،‬ومبا عليه أهل الشرك والبد اليوم‬
‫علم‪ :‬أن بني السلف وبني هؤالء اْللوف من البعد‪ ،‬أبعد مما بني املشرق‬
‫واملغرب‪ ،‬وأهنم على شيء والسلف على شيء‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫ومعرب‬
‫مشرق ِّ‬
‫شتان بين ِّ‬ ‫مغرباا‬
‫مشرقة وسرت ِّ‬
‫سارت ِّ‬
‫واألمر واهلل أعظم مما ذكرناه‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وبه كمل اجلواب‪ ،‬واحلمد هلل الذي هدانا لدينه الذي رضيه لعباده‪ ،‬وما كنا‬
‫لنهتدي لوال أن هدانا اهلل‪.‬‬
‫وصلَّى اهلل على سيد املرسلني‪ ،‬وإمام املتقني‪ ،‬نبينا حممد‪ ،‬وعلى آله وصحبه‬
‫(‪)1‬‬
‫كثريا» ‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أمجعني‪ ،‬وسلم تسلي ًما ً‬

‫(‪« )1‬جممو الرسائل واملسائل النجدية»‪.)214 – 212/4( :‬‬

‫‪-215-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫الفرق بين الشفاعة المثبتة‪ ،‬والمنفية في القرآن العظيم‬
‫لقد أثبت القرآن الشفاعة يف موضع‪ ،‬ونفاها يف آخر‪ ،‬ليتجلَّى بذلك‬
‫اإلثبات والنفي‪ :‬الفرق بني حقيقة التوحيد والشرك‪.‬‬
‫والشفاعة املثبتة هي شفاعة العبد‪ ،‬اململوك‪ ،‬املربوب‪ ،‬املأمور من قبل سيده‬
‫أن يشفع فيمن حقَّقوا شروطها‪ ،‬واجتنبوا موانعها‪.‬‬
‫والشفاعة املنفية‪ :‬هي شفاعة الشريك‪ ،‬واملعاون‪ ،‬والوزير‪ ....‬ألن اهلل‬
‫مسي له‪ ،‬وال ند‪ ،‬وال‬
‫سبحانه واحد يف صفاته‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬وربوبيته‪ ،‬وألوهيته‪ ،‬ال َّ‬
‫جردوه‬
‫نظري‪ .‬ومن مث كان أسعد الناس بالشفاعة‪ :‬أهل التوحيد اْلل ‪ ،‬الذين َّ‬
‫من شوائب الشرك ومتعلَّقاته‪ ،‬وأما أهل الشرك والتنديد فليس هلم منها أدىن‬
‫نصيب‪:‬‬
‫قال الشيخ عبد الرمحن بن حسن رمحهما اهلل تعاىل‪:‬‬
‫«الشفاعة نوعان‪ :‬شفاعة منفية يف القرآن‪ ،‬وهي الشفاعة للكافر واملشرك‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫اعة﴾ [البقرة‪:‬‬ ‫يت يَـ ْوم الَّ بَـْيع فيه َوالَ خلَّة َوالَ َش َف َ‬ ‫قال تعاىل‪ِّ ﴿ :‬من قَـْب ِل أَن يَأْ َ‬
‫ني﴾ [املدثر‪ ،]31 :‬وقال‪َ ﴿ :‬واتـَّقواْ‬ ‫ِِ‬
‫اعة الشَّافع َ‬ ‫‪ ،]264‬وقال‪﴿ :‬فَ َما تَ َنفعه ْم َش َف َ‬
‫اعة َوالَ يـ ْؤ َخذ ِمْنـ َها َع ْدل‬ ‫ِ‬
‫يَـ ْوماً الَّ َْجت ِزي نَـ ْفس َعن نـَّ ْفس َشْيئاً َوالَ يـ ْقبَل مْنـ َها َش َف َ‬
‫والَ هم ينصرو َن﴾ [البقرة‪ ،]41 :‬وحنو هذه اآليات كقوله‪﴿ :‬ويـعبدو َن ِمن د ِ‬
‫ون‬ ‫ََْ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ند اللي ِه ق ْل أَتـنَبِّئو َن الليهَ ِمبَا‬
‫اللي ِه َما الَ يَضُّره ْم َوالَ يَ َنفعه ْم َويَـقولو َن َهـؤالء ش َف َعاؤنَا ِع َ‬
‫ض سْب َحانَه َوتَـ َع َاىل َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [يونس‪:‬‬ ‫ات َوالَ ِيف األ َْر ِ‬ ‫السماو ِ‬ ‫ِ‬
‫الَ يَـ ْعلَم يف َّ َ َ‬
‫‪.]91‬‬
‫خيرب تعاىل على أن من اختذ هؤالء شفعاء عند اهلل‪ ،‬أنه ال يعلم أهنم يشفعون‬
‫له بذلك وما ال يعلمه ال وجود له‪ ،‬فنفى وقو هذه الشفاعة‪ ،‬وأخرب‬

‫‪-214-‬‬
‫أهنا شرك بقوله‪﴿ :‬سْب َحانَه َوتَـ َع َاىل َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [يونس‪ ،]91 :‬وقال‬
‫اهلل زلْفى‬ ‫تعاىل‪ ﴿ :‬وال ِذين اتخذوا ِمن دونِِه أولِياء ما نـ ْعبدهم إِل لِيـق ِّربونا إِلى ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫اذب كفار ﴾ [الزمر‪.]3 :‬‬ ‫﴾‪ ،‬إىل قوله تعاىل‪ ﴿ :‬إِن اهلل ل يـ ْه ِدي من هو ك ِ‬
‫ْ‬
‫يقربه إىل اهلل وهو يبعده عنه وعن‬ ‫شفيعا يزعم أنه ِّ‬ ‫فأبطل شفاعة من اختذ ً‬
‫رمحته ومغفرته‪ ،‬ألنه جعل هلل شري ًكا يرغب إليه ويرجوه ويتوكل عليه وحيبه‪ ،‬كما‬
‫حيب اهلل تعاىل أو أعظم‪.‬‬
‫(النو الثاي)‪ :‬الشفاعة اليت أثبتها القرآن‪ ،‬وهي خالصة ألهل اإلخالص‬
‫وقيَّدها تعاىل بأمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬إذنه للشافع أن يشفع‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬من َذا الَّ ِذي يَ ْش َفع ِعْن َده‬
‫إِالَّ بِِإ ْذنِِه﴾ [البقرة‪ .]266 :‬وإذنه تعاىل ال يصدر إالَّ إذا رحم عبده املوحد‬
‫املذنب‪ ،‬فإذا رمحه تعاىل أذن للشافع أن يشفع له‪.‬‬
‫عمن أذن للشافع أن يشفع فيه‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَال‬ ‫األمر الثاي‪ :‬رضاه َّ‬
‫ِ‬
‫ضى﴾ [األنبياء‪.]21 :‬‬ ‫يَ ْش َفعو َن إَِّال ل َم ِن ْارتَ َ‬
‫فاإلذن بالشفاعة له بعد الرضا‪ ،‬كما يف هذه اآلية‪ ،‬وهو سبحانه ال يرضى‬
‫(‪)1‬‬
‫إالَّ التوحيد» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ حممد بن عبد الوهاب يف كتابه التوحيد‪ ،‬وحفيده عبد الرمحن‬
‫مجيعا يف شرحه عليه أثناء احلديث عن الشفاعة‪:‬‬ ‫بن حسن رمحهم اهلل ً‬
‫ون اللَّ ِه الَ ميَْلِكو َن ِمثْـ َق َال‬
‫قال‪ :‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬ق ِل ْادعوا الَّ ِذين زعمتم ِّمن د ِ‬
‫َ ََْ‬
‫ض َوَما َهل ْم فِي ِه َما ِمن ِش ْرك َوَما لَه ِمْنـهم ِّمن ظَ ِهري‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َوالَ ِيف األ َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫َذ َّرة يف َّ َ َ‬
‫نده إِالَّ لِ َم ْن أ َِذ َن لَه﴾ [سبأ‪.]23 ،22 :‬‬ ‫اعة ِع َ‬ ‫َّف َ‬
‫* َوالَ تَ َنفع الش َ‬
‫قال ابن القيم رمحه اهلل تعاىل يف الكالم على هذه اآليات‪ :‬وقد قطع اهلل‬

‫املوحدين»‪( :‬ص‪.)14‬‬
‫(‪« )1‬قرة عيون ِّ‬

‫‪-211-‬‬
‫األسباب اليت يتعلق هبا املشركون مجيعها‪ ،‬فاملشرك إمنا يتخذ معبوده ملا‬
‫حيصل له من النفع‪ ،‬والنفع ال يكون إالَّ ممن فيه خصلة من هذه األربع‪ :‬إما‬
‫مالك ملا يريد عابده منه‪ ،‬فإن ل يكن مال ًكا كان شري ًكا للمالك‪ ،‬فإن ل يكن‬
‫شفيعا عنده‪.‬‬
‫ظهريا كان ً‬
‫وظهريا‪ ،‬فإن ل يكن معينًا وال ً‬‫ً‬ ‫شري ًكا له كان معينًا له‬
‫فنفى اهلل سبحانه املراتب األربع نفيًا مرتبًا‪ ،‬منتقالً من األعلى إىل األدىن‪،‬‬
‫فنفى‪ :‬امللك والشركة واملظاهرة والشفاعة اليت يطلبها املشرك‪ ،‬وأثبت شفاعة ال‬
‫نصيب فيها ملشرك‪ ،‬وهي الشفاعة بإذنه‪.‬‬
‫وقطعا ألصل الشرك ومواده‬‫يدا للتوحيد‪ً ،‬‬ ‫نورا وبرهانًا وجتر ً‬
‫فكفى هبذه اآلية ً‬
‫ملن عقلها‪.‬‬
‫والقرآن مملوء من أمثاهلا ونظائرها‪ ،‬ولكن أكثر الناس ال يشعرون بدخول‬
‫وتضمنه له‪ ،‬ويظنوهنا يف نو وقوم قد خلوا من قبل ول يعقبوا وارثًا‪،‬‬ ‫الواقع حتته ُّ‬
‫فهذا هو الذي حيول بني القلب وبني فهم القرآن‪.‬‬
‫ولعمر اهلل‪ ،‬إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم‬
‫أو دوهنم‪ ،‬وتناول القرآن هلم كتناوله ألولئك‪...‬‬
‫وهذا الذي ذكره اإلمام يف معى اآلية هو حقيقة دين اإلسالم‪ ،‬كما قال‬
‫ِ َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم‬ ‫َح َسن دينًا ِّمم َّْن أ ْ‬
‫َسلَ َم َو ْج َهه هلل َوه َو ْحمسن واتـَّبَ َع ملةَ إبْـَراه َ‬ ‫تعاىل‪َ ﴿ :‬وَم ْن أ ْ‬
‫يم َخلِيالً﴾ [النساء‪.]926 :‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫َحن ًيفا َواختَ َذ الليه إبْـَراه َ‬
‫قوله‪ :‬قال أبو العباس هذه كنية شيخ اإلسالم أمحد بن عبد احلليم بن عبد‬
‫احلراي إمام املسلمني رمحه اهلل‪.‬‬ ‫السالم بن تيمية َّ‬
‫(نفى اهلل عما سواه كل عالئق المشركين)‬
‫قوله‪ :‬نفى اهلل عما سواه كل ما يتعلق به املشركون‪ ،‬فنفى أن يكون لغريه‬
‫ملك أو قسط منه‪ ،‬أو يكون عـونًا هلل‪ .‬فلم يبق إالَّ الشفاعة‪ ،‬فبني أهنا ال‬

‫‪-211-‬‬
‫تنفع إالَّ ملن أذن له الرب‪ ،‬كما قال تعاىل عن املالئكة‪َ ﴿ :‬وَال يَ ْش َفعو َن إَِّال‬
‫ِ‬
‫ضى﴾ [األنبياء‪.]21 :‬‬ ‫ل َم ِن ْارتَ َ‬
‫فهذه الشفاعة اليت يظنها املشركون‪ ،‬هي منتفية يوم القيامة‪ ،‬كما نفاها‬
‫القرآن‪ ،‬وأخرب النيب ‪« :‬أنه يأيت فيسجد لربه وحيمده»‪ ،‬ال يبدأ بالشفاعة َّأوالً‪.‬‬
‫مث يقال له‪« :‬ارفع رأسك وقل تسمع‪ ،‬وسل تعط‪ ،‬واشفع تشفع»‪ .‬قال له أبو‬
‫خالصا من‬ ‫ً‬ ‫هريرة‪ :‬من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال‪« :‬من قال ال إله إالَّ اهلل‬
‫قلبه»‪.‬‬
‫فتلك الشفاعة ألهل اإلخالص بإذن اهلل‪ ،‬وال تكون ملن أشرك باهلل‪،‬‬
‫وحقيقتها‪ :‬أن اهلل سبحانه وتعاىل هو الذي يتفضل على أهل اإلخالص‪ ،‬فيغفر‬
‫هلم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه‪ ،‬وينال املقام احملمود‪.‬‬
‫فالشفاعة اليت نفاها القرآن ما كان فيها شرك‪ ،‬وهلذا أثبت الشفاعة بإذنه يف‬
‫مواضع‪ ،‬وقد َّبني النيب ‪ ‬أهنا ال تكون إالَّ ألهل التوحيد واإلخالص‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫قوله‪ :‬وقال أبو هريرة إىل آخره‪ .‬هذا احلديث رواه البخاري والنسائي عن أيب‬
‫هريرة ورواه أمحد وصححه ابن حبان وفيه‪« :‬وشفاعيت ملن قال ال إله إالَّ اهلل‬
‫خملصا‪ ،‬يصدق قلبه لسانه‪ ،‬ولسانه قلبه»‪ ،‬وشاهده يف صحيح مسلم عن أيب‬ ‫ً‬
‫فتعجل كل بن‬ ‫هريرة قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬لكل نيب دعوة مستجابة‪َّ ،‬‬
‫دعوته‪ ،‬وإي اختبأت دعويت شفاعة ألميت يوم القيامة‪ ،‬فهي نائلة إن شاء اهلل من‬
‫مات ال يشرك باهلل شيئًا»‪.‬‬
‫وقد ساق املصنف رمحه اهلل كالم شيخ اإلسالم هنا‪ ،‬فقام مقام الشرح‬
‫والتفسري ملا يف هذا الباب من اآليات‪ ،‬وهو كاف واف بتحقيق مع اإلجياز‪.‬‬
‫واهلل أعلم‪.‬‬
‫وقد عرف اإلخالص بتعريف حسن فقال‪« :‬اإلخالص حمبة اهلل وحده‬

‫‪-355-‬‬
‫وإرادة وجهه»‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال ابن القيم رمحه اهلل يف معى حديث أيب هريرة‪ :‬تأمل هذا احلديث‬
‫كيف جعل أعظم األسباب اليت تنال هبا شفاعته جتريد التوحيد‪ ،‬عكس ما عند‬
‫املشركني أن الشفاعة تنال باختاذهم شفعاء وعبادهتم ومواالهتم‪ ،‬فقلب النيب ‪‬‬
‫ما يف زعمهم الكاذب‪ ،‬وأخرب أن سبب الشفاعة جتريد التوحيد‪ ،‬فحينئذ يأذن‬
‫اهلل للشافع أن يشفع‪.‬‬
‫شفيعا أنه يشفع له وينفعه‬ ‫ومن جهل املشرك‪ :‬اعتقاده أن من اختذ ولييا أو ً‬
‫عند اهلل‪ ،‬كما يكون خواص الوالة وامللوك تنفع من واالهم‪ ،‬ول يعلموا أنه ال‬
‫يشفع عنده أحد إالَّ بإذنه يف الشفاعة‪ ،‬وال يأذن يف الشفاعة إالَّ ملن يرضى قوله‬
‫وعمله‪ ،‬كما قاله يف الفصل األول‪ ﴿ :‬م ْن ذا ال ِذي ي ْشفع ِعْنده إِل بِِإ ْذنِِه﴾‬
‫ِ‬
‫ضى﴾ [األنبياء‪:‬‬ ‫[البقرة ‪ ،]266 :‬ويف الفصل الثاي‪َ ﴿ :‬وَال يَ ْش َفعو َن إَِّال ل َم ِن ْارتَ َ‬
‫‪ ،]21‬وبقى فصل ثالث‪ ،‬وهو أنه ال يرضى من القول والعمل إالَّ توحيده واتبا‬
‫رسوله ‪ ،‬فهذه ثالثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب من عقلها ورعاها‪.‬‬
‫اهـ‪.‬‬
‫أيضا رمحه اهلل تعاىل أن الشفاعة ستة أنوا ‪:‬‬ ‫وذكر ً‬
‫األول‪ :‬الشفاعة الكربى‪ ،‬اليت يتأخر عنها أولو العزم عليهم الصالة والسالم‬
‫حىت تنتهي إليه ‪ ‬فيقول‪« :‬أنا هلا»‪ ،‬وذلك حني يرغب اْلالئق إىل األنبياء‬
‫ليشفعوا هلم إىل رهبم حىت يرحيهم من مقامهم يف املوقف‪ ،‬وهذه شفاعة خيت‬
‫هبا وال يشركه فيها أحد‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬شفاعته ألهل اجلنة يف دخوهلا‪ .‬وقد ذكرها أبو هريرة يف حديثه‬
‫الطويل املتفق عليه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوهبم‪،‬‬

‫‪-359-‬‬
‫فيشفع هلم أن ال يدخلوها‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬شفاعته يف العصاة من أهل التوحيد‪ ،‬الذين يدخلون النار بذنوهبم‪.‬‬
‫واألحاديث هبا متواترة عن النيب ‪ .‬وقد أمجع عليها الصحابة وأهل السنة‬
‫قاطبة‪ ،‬وبدَّعوا من أنكرها‪ ،‬وصاحوا به من كل جانب‪ ،‬ونادوا عليه بالضالل‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬شفاعته لقوم من أهل اجلنة يف زيادة ثواهبم ورفعة درجاهتم‪ ،‬وهذه‬
‫مما ل يناز فيها أحد‪.‬‬
‫شفيعا‪،‬‬
‫وكلها خمتصة بأهل اإلخالص الذين ل يتخذوا من دون اهلل ولييا وال ً‬
‫س َهلم ِّمن دونِِه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ َّ ِ‬
‫ين َخيَافو َن أَن ْحي َشرواْ إ َىل َرِّهب ْم لَْي َ‬
‫كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وأَنذ ْر به الذ َ‬
‫َوِيل َوالَ َش ِفيع﴾ [األنعام‪.]69 :‬‬
‫السادس‪ :‬شفاعته يف بعض أهله الكفار من أهل النار‪ ،‬حىت خيفَّف عذابه‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وهذه خاصة بأيب طالب وحده» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬فتح اجمليد»‪( :‬ص‪.)251 – 259‬‬

‫‪-352-‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫المشرك مغبون في دينه إلخالله‬
‫بكل قيود الكلمة العاصمة إل بمجرد التلفظ بها‬

‫وفيه مبحثان‪:‬‬

‫المبحث األول‪ :‬جيب إخالص مجيع أنوا العبادة هلل وحده‪ ،‬فمن صرف‬
‫وخارجا عن ملَّة‬
‫ً‬ ‫أيًا منها لغريه سبحانه يكون بذلك مشرًكا‬
‫املسلمني‪.‬‬
‫أخل بكل شروط الكلمة‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬كل من عبد غري اهلل‪ ،‬فقد َّ‬
‫جمرد التلفظ هلا‪ ،‬ولو أتى بعد ذلك بقراب‬ ‫العاصمة‪ ،‬إالَّ َّ‬
‫األرض طاعة‪ ،‬فلن يقبل منه‪ ،‬وهو يف اآلخرة من اْلاسرين‪.‬‬

‫‪-353-‬‬
-354-
‫المبحث األول‬
‫يجب إخالص جميع أنواع العبادة هلل وحده فمن صرف أياا منها‬
‫وخارجا عن ملة المسلمين‬
‫ا‬ ‫لغيره يكون بذلك مشراكا‬
‫قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل ‪-‬بعد أن تكلم عن معنى اإلسالم‪،‬‬
‫والتوحيد‪:-‬‬
‫وقد تضمن ذلك مجيع أنوا العبادة‪ ،‬فيجب إخالصها هلل تعاىل‪ ،‬فمن أشرك‬
‫بني اهلل تعاىل وبني غريه يف شيء فليس مبسلم‪.‬‬
‫فمنها‪ :‬احملبة‪ ،‬فمن أشرك بني اهلل تعاىل وبني غريه يف احملبة اليت ال تصلح إالَّ‬
‫ون اللي ِه أ َ‬
‫َنداداً‬ ‫َّخذ ِمن د ِ‬
‫َّاس من يـت ِ‬ ‫ِ‬
‫هلل‪ ،‬فهو مشرك‪ .‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وم َن الن ِ َ َ‬
‫ني ِم َن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِحيبُّونَـهم َكح ِّ ِ‬
‫ب الليه﴾ [البقرة‪ ،]956 :‬إىل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما هم خبَا ِرج َ‬ ‫ْ‬
‫النَّا ِر﴾ [البقرة‪.]954 :‬‬
‫ومنها‪ :‬التوكل‪ ،‬فال يتوكل على غري اهلل فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل‪ ،‬قال اهلل‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني﴾ [املائدة‪ ،]23 :‬والتوكل على غري‬ ‫تعاىل‪َ ﴿ :‬و َعلَى الليه فَـتَـ َوَّكلواْ إِن كنتم ُّم ْؤمن َ‬
‫اهلل فيما يقدر عليه شرك أصغر‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬اْلوف‪ ،‬فال خياف خوف السر إالَّ من اهلل‪ ،‬ومعى خوف السر‪ ،‬هو‬
‫أن خياف العبد من غري اهلل تعاىل أن يصيبه مكروه مبشيئته وقدرته وإن ل يباشره‪،‬‬
‫فهذا شرك أكرب‪ ،‬ألنه اعتقاد للنفع والضر يف غري اهلل‪.‬‬
‫ون﴾ [النحل‪ ،]69 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬فَالَ َختْ َشواْ‬ ‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬فَإيَّاي فَارهب ِ‬
‫َ َْ‬
‫ك الليه بِضر فَالَ‬ ‫اخ َش ْو ِن﴾ [املائدة‪ ،]44 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِن ميَْ َس ْس َ‬ ‫َّاس َو ْ‬
‫الن َ‬
‫صيب بِِه َمن يَ َشاء ِم ْن ِعبَ ِاد ِه‬ ‫آد لَِف ْ ِ ِ‬
‫ضله ي َ‬ ‫ف لَه إِالَّ ه َو َوإِن ي ِرْد َك ِخبَْري فَالَ َر َّ‬ ‫ِ‬
‫َكاش َ‬
‫الرِحيم﴾ [يونس‪.]954 :‬‬ ‫َوه َو الْغَفور َّ‬

‫‪-356-‬‬
‫ومنها‪ :‬الرجاء فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل كمن يدعو األموات أو غريهم‬
‫ِ َّ ِ‬
‫راجيًا حصول مطلوبه يف جهتهم فهذا شرك أكرب‪ .‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين‬
‫ت اللي ِه َوالليه َغفور‬ ‫َّ ِ‬
‫اهدواْ ِيف َسبِ ِيل اللي ِه أ ْولَـئِ َ‬
‫ك يَـ ْرجو َن َر ْمحَ َ‬ ‫اجرواْ َو َج َ‬‫ين َه َ‬ ‫َآمنواْ َوالذ َ‬
‫ون عبد إالَّ ربه‪.‬‬ ‫َّرِحيم﴾ [البقرة‪ ،]291 :‬وقال علي ‪ :‬ال يرج َّ‬
‫ك َو ْاحنَْر﴾‬ ‫ومنها‪ :‬الصالة والركو والسجود‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬فَ ِ‬
‫ص ِّل لَربِّ َ‬‫َ‬
‫[الكوثر‪.]2 :‬‬
‫اسجدوا َو ْاعبدوا َربَّك ْم﴾ [احلج‪:‬‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َآمنوا ْارَكعوا َو ْ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬يَا أَيُّـ َها الذ َ‬
‫‪.]44‬‬
‫ومنها‪ :‬الدعاء فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل‪ ،‬سواء كان طلبًا للشفاعة أو غريها‬
‫من املطالب‪.‬‬
‫ين تَ ْدعو َن ِمن دونِِه َما ميَْلِكو َن ِمن قِطْ ِمري * إِن‬ ‫َّ ِ‬
‫قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫استَ َجابوا لَك ْم َويَـ ْوَم الْ ِقيَ َام ِة يَكْفرو َن‬ ‫ِ‬
‫تَ ْدعوه ْم َال يَ ْس َمعوا د َعاءك ْم َولَْو َمسعوا َما ْ‬
‫ك ِمثْل َخبِري﴾ [فاطر‪ ،]94 ،93 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَ َال َربُّكم‬ ‫بِ ِش ْركِك ْم َوَال يـنَبِّئ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ادع ِوي أ ِ‬
‫َّم‬
‫ين يَ ْستَكْربو َن َع ْن عبَ َاديت َسيَ ْدخلو َن َج َهن َ‬ ‫ب لَك ْم إ َّن الذ َ‬ ‫َستَج ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫ين﴾ [غافر‪.]55 :‬‬ ‫َداخ ِر َ‬
‫ت‬ ‫ك َوالَ يَضُّرَك فَِإن فَـ َعْل َ‬ ‫ون اللي ِه َما الَ يَ َنفع َ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬والَ تَ ْد ِمن د ِ‬
‫َ‬
‫ون اللَّهِ‬ ‫ك إِ ًذا ِّمن الظَّالِ ِمني﴾ [يونس‪ ،]955 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬أَِم َّاختَذوا ِمن د ِ‬ ‫فَِإنَّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مج ًيعا لَّه‬‫َّفاعة َِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ش َف َعاء ق ْل أ ََولَْو َكانوا الَ ميَْلكو َن َشْيئًا َوالَ يَـ ْعقلو َن * قل لِّلَّه الش َ َ‬
‫ض مثَّ إِلَْي ِه تـ ْر َجعو َن﴾ [الزمر‪.]44 ،43 :‬‬ ‫ات َواأل َْر ِ‬‫السماو ِ‬
‫مْلك َّ َ َ‬
‫اي َوممََ ِايت لِلي ِه‬ ‫ِ‬
‫صالَيت َونسكي َوَْحميَ َ‬
‫ومنها‪ :‬الذبح‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬قل إِ َّن َ ِ‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني﴾ [األنعام‪:‬‬ ‫ك أم ْرت َوأَنَاْ أ ََّول الْم ْسلم َ‬ ‫يك لَه َوبِ َذل َ‬ ‫ني * الَ َش ِر َ‬ ‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫َر ِّ‬
‫‪ ،]953 ،952‬والنسك‪ :‬الذبح‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬النذر‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬ولْيوفوا نذ َوره ْم﴾ [احلج‪ ،]21 :‬وقال‬
‫تعاىل‪﴿ :‬يوفو َن بِالنَّ ْذ ِر َوَخيَافو َن يَـ ْوًما َكا َن َشُّره م ْستَ ِط ًريا﴾ [اإلنسان‪.]4 :‬‬

‫‪-355-‬‬
‫ت‬ ‫ومنها‪ :‬الطواف‪ ،‬فال يطاف إالَّ ببيت اهلل‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ولْيطََّّوفوا بِالْبـي ِ‬
‫َْ‬ ‫ََ‬
‫الْ َعتِ ِيق﴾ [احلج‪.]21 :‬‬
‫وب إِالَّ‬ ‫الذن َ‬‫ومنها‪ :‬التوبة فال يتاب إالَّ اهلل‪ .‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬وَمن يَـ ْغ ِفر ُّ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الليه﴾ [آل عمران‪ ،]936 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وتوبوا إِ َىل اللَّه َمج ًيعا أَيُّـ َها الْم ْؤمنو َن‬
‫لَ َعلَّك ْم تـ ْفلِحو َن﴾ [النور‪.]39 :‬‬
‫ب‬ ‫ومنها‪ :‬االستعاذة فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ق ْل أَعوذ بَِر ِّ‬
‫َّاس﴾ [الناس‪.]9 :‬‬ ‫ب الن ِ‬ ‫الْ َفلَ ِق﴾ [الفلق‪ ،]9 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ق ْل أَعوذ بَِر ِّ‬
‫ومنها‪ :‬االستغاثة فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬إِ ْذ تَ ْستَغِيثو َن‬
‫اب لَك ْم﴾ [األنفال‪.]1 :‬‬ ‫استَ َج َ‬
‫َربَّك ْم فَ ْ‬
‫فمن أشرك بني اهلل تعاىل وبني خملوق فيما خيت باْلالق تعاىل من هذه‬
‫العبادات أو غريها‪ ،‬فهو مشرك‪.‬‬
‫وإمنا ذكرنا هذه العبادات خاصة‪ ،‬ألن عبَّاد القبور صرفوها لألموات من‬
‫دون اهلل تعاىل‪ ،‬أو أشركوا بني اهلل تعاىل وبينهم فيها‪ ،‬وإالَّ فكل نو من أنوا‬
‫أشرك بني اهلل تعاىل وبني غريه فيه‪ ،‬فهو مشرك‪.‬‬ ‫َ‬ ‫العبادة‪ ،‬من صرفه لغري اهلل‪ ،‬أو‬
‫قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬و ْاعبدواْ الليهَ َوالَ ت ْش ِركواْ بِِه َشْيئًا﴾ [النساء‪. ]35 :‬‬
‫(‪)1‬‬

‫وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهم اهلل تعالى‪،‬‬
‫جميعا‪:‬‬
‫مبيناا حقيقة العتقاد الذي دان هلل به هو وآباؤه رحمهم اهلل ا‬
‫فاعلموا ‪ -‬أن حقيقة ما حنن عليه‪ ،‬وما ندعو إليه‪ ،‬وجناهد على التزامه‪،‬‬
‫والعمل به ‪ -‬أنا ندعو إىل دين اإلسالم‪ ،‬والتزام أركانه‪ ،‬وأحكامه‪،‬‬
‫الذي أصله وأساسه‪ :‬شهادة أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬واألمر بعبادة اهلل وحده‬
‫ال شـريك له‪ ،‬وهذه العبادة مبنية على أصلني‪ :‬كمال احلب هلل‪ ،‬مع كمال‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)21 – 25‬‬

‫‪-354-‬‬
‫اْلضو والذل له‪.‬‬
‫أجل أنوا العبادة‪،‬‬ ‫والعبادة هلا أنوا كثرية‪ ،‬فمن أنواعها‪ :‬الدعاء‪ ،‬هو من ِّ‬
‫ومساه اهلل عبادة‪ ،‬يف عدة مواضع من كتابه‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَ َال َربُّكم‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ادع ِوي أ ِ‬
‫َّم‬ ‫ب لَك ْم إ َّن الذ َ‬
‫ين يَ ْستَكْربو َن َع ْن عبَ َاديت َسيَ ْدخلو َن َج َهن َ‬ ‫َستَج ْ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫ين﴾ [غافر‪ ،]55 :‬ونظائر هذا يف القرآن كثري‪ ،‬ويف احلديث‪« :‬الدعاء مخ‬ ‫َداخ ِر َ‬
‫العبادة»‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬ال يدعى إالَّ اهلل‪ ،‬وال يستغاث يف الشدائد‪ ،‬وجلب الفوائد إالَّ به‪،‬‬
‫وال يذبح القربان إالَّ له‪ ،‬وال ينذر إالَّ له‪ ،‬وال خياف خوف السر إالَّ منه وحده‪،‬‬
‫وال يتوكل إالَّ عليه‪ ،‬وال يستعان وال يستعاذ إالَّ به‪ ،‬وليس ألحد من اْللق شيء‬
‫من ذلك‪ ،‬ال املالئكة‪ ،‬وال األنبياء‪ ،‬وال األولياء‪ ،‬وال الصاحلني‪ ،‬وال غريهم فلله‬
‫حق ال يكون لغريه‪ ،‬وحقه تعاىل‪ :‬إفراده جبميع أنوا العبادة‪ ،‬فال تأله القلوب‬
‫وتعظيما‪ ،‬وخوفًا‪ ،‬ورجاء‪ ،‬إالَّ اهلل‪ ،‬فهذه‪ ،‬هي‪ :‬احلكمة الشرعية‬ ‫ً‬ ‫حمبة‪ ،‬وإجالالً‪،‬‬
‫الدينية‪ ،‬واألمر املقصود يف إجياد الربية‪.‬‬
‫ون﴾ [الذاريات‪،]65 :‬‬ ‫اإلنس إَِّال لِيـعبد ِ‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما َخلَ ْقت ِْ ِ‬
‫َْ‬ ‫اجل َّن َو ْ َ‬
‫يوحدون‪ ،‬والعبادة هي‪ :‬التوحيد‪ ،‬ألن اْلصومة بني الرسل‬ ‫ومعى‪ :‬يعبدون‪ِّ ،‬‬
‫اجتَنِبواْ‬ ‫ِ‬
‫وأممهم فيه‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولََق ْد بَـ َعثْـنَا ِيف ك ِّل أ َّمة َّرسوالً أَن ْاعبدواْ الليهَ َو ْ‬
‫ك ِمن َّرسول إَِّال‬ ‫ِ‬
‫وت﴾ [النحل‪ ،]35 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما أ َْر َسْلنَا ِمن قَـْبل َ‬ ‫الطَّاغ َ‬
‫ون﴾ [األنبياء‪ ،]26 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وأ َّ‬
‫َن‬ ‫اعبد ِ‬ ‫وحي إِلَْي ِه أَنَّه َال إِلَهَ إَِّال أَنَا فَ ْ‬
‫نِ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫َح ًدا﴾ [اجلن‪.]91 :‬‬ ‫الْ َم َساج َد للَّه فَ َال تَ ْدعوا َم َع اللَّه أ َ‬
‫فمن دعا غري اهلل‪ ،‬من ميت‪ ،‬أو غائب‪ ،‬أو استغاث به‪ ،‬فهو مشرك كافر‪،‬‬
‫التقرب إىل اهلل‪ ،‬وطلب الشفاعة عنده»‪.‬‬ ‫جمرد ُّ‬‫وإن ل يقصد إالَّ َّ‬

‫‪-351-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫كل من عبد غير اهلل‪ ،‬فقد أخل بكل شروط الكلمة العاصمة‪،‬‬
‫إل مجرد التلفظ بها‪ ،‬ولو أتى بعد ذلك بقراب األرض طاعة‪،‬‬
‫فلن يقبل منه‪ ،‬وهو في اآلخرة من الخاسرين‬

‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬


‫ب‬‫َنداداً ِحيبُّونَـه ْم َكح ِّ‬
‫ون اللي ِه أ َ‬
‫َّخذ ِمن د ِ‬
‫َّاس من يـت ِ‬ ‫ِ‬
‫وقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وم َن الن ِ َ َ‬
‫ندا هلل‪ ،‬يدعوه من دون اهلل‪ ،‬ويرغب إليه‪،‬‬ ‫اللي ِه﴾ [البقرة‪ ،]956 :‬فكل من اختذ ً‬
‫ويرجوه ملا يؤمله منه من قضاء حاجاته وتفريج كرباته ‪ -‬كحال عبَّاد القبور‬
‫والطواغيت واألصنام ‪ -‬فال بد أن يعظموهم وحيبوهم لذلك‪ ،‬فإهنم أحبوهم مع‬
‫اهلل وإن كانوا حيبون اهلل تعاىل ويقولون‪« :‬ال إله إالَّ اهلل»‪ ،‬ويصلون ويصومون‪،‬‬
‫فقد أشركوا باهلل يف احملبة مبحبة غريه وعبادة غريه‪.‬‬
‫فاختاذهم األنداد حيبوهنم كحب اهلل‪ ،‬يبطل كل قول يقولونه‪ ،‬وكل عمل‬
‫يعملونه‪ .‬ألن املشرك ال يقبل منه عمل‪ ،‬وال يصح منه‪.‬‬
‫وهؤالء وإن قالوا‪« :‬ال إله إالَّ اهلل» فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة‬
‫أيضا مبعناها‬
‫العظيمة‪ :‬من العلم مبدلوهلا‪ .‬ألن املشرك جاهل مبعناها‪ ،‬ومن جهله ً‬
‫جعل هلل شري ًكا يف احملبة وغريها‪ ،‬وهذا هو اجلهل املنايف للعلم مبا دلت عليه من‬
‫اإلخالص‪ .‬ول يكن صادقًا يف قوهلا‪ ،‬ألنه ل ينف ما نفته من الشرك‪ ،‬ول يثبت‬
‫أيضا‪ .‬ألنه لو عرف معناها‪ ،‬وما دلت عليه‬
‫ما أثبتته من اإلخالص‪ .‬وترك اليقني ً‬
‫ألنكره أو شك فيه‪ ،‬ول يقبله وهو احلق‪.‬‬

‫‪-351-‬‬
‫ول يكفر مبا يعبد من دون اهلل‪ ،‬كما يف احلديث‪ ،‬بل آمن مبا يعبد من دون‬
‫ين‬ ‫َّ ِ‬
‫اهلل باختاذه الند وحمبته له وعبادته إياه من دون اهلل‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫َش ُّد حبًّا لِّلي ِه﴾ [البقرة‪ ،]956 :‬ألهنم أخلصوا له احلب فلم حيبوا إالَّ إياه‪،‬‬ ‫َآمنواْ أ َ‬
‫مجيعا هلل‪ ،‬ويكفرون مبا عبد من دون اهلل‪.‬‬ ‫وحيبون من أحب‪ ،‬وخيلصون أعماهلم ً‬
‫فبهذا يتبني ملن وفَّقه اهلل تعاىل ملعرفة احلق وقَبوله داللة هذه اآليات العظيمة على‬
‫معى شهادة أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وعلى التوحيد الذي هو معناها‪ ،‬الذي دعا إليه‬
‫(‪)1‬‬
‫مجيع املرسلني‪ .‬فتدبَّر» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرمحن‪ :‬قال الشيخ حممد بن عبد‬
‫الوهاب‪:‬‬
‫«وجمرد اإلتيان بلفظ الشهادة‪ ،‬من غري علم مبعناها‪ ،‬وال عمل مبقتضاها‪ ،‬ال‬
‫مسلما‪ ،‬بل هو حجة على ابن آدم‪ .‬خالفًا ملن زعم أن اإلميان‬ ‫يكون به املكلَّف ً‬
‫كالكرامية‪ ،‬أو جمرد التصديق كاجلهمية‪ .‬وقد أكذب اهلل املنافقني‬ ‫َّ‬ ‫جمرد اإلقرار‬
‫فيما أتوا به وزعموه من الشهادة وسجل على كذهبم‪ ،‬مع أهنم أتوا بألفاظ‬
‫مؤكدة بأنوا من التأكيدات‪.‬‬
‫ك لََرسول اللَّ ِه َواللَّه يَـ ْعلَم‬ ‫ِ‬
‫اءك الْمنَافقو َن قَالوا نَ ْش َهد إِنَّ َ‬
‫قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َذا َج َ‬
‫ني لَ َك ِاذبو َن﴾ [املنافقون‪ ،]9 :‬فأكدوا بلفظ‬ ‫ِِ‬
‫ك لََرسوله َواللَّه يَ ْش َهد إِ َّن الْمنَافق َ‬‫إِنَّ َ‬
‫الشهادة و«إن» املؤكدة‪ ،‬والالم‪ ،‬واجلملة االمسية‪ ،‬فأكذهبم‪ ،‬وأكد تكذيبهم‪،‬‬
‫أكدوا به شهادهتم سواء بسواء‪ ،‬وزاد التصريح باللقب الشنيع والعلم‬ ‫مبثل ما َّ‬
‫البشيع الفظيع‪.‬‬
‫مسمى اإلميان ال بد فيه من الصدق والعمل‪ ،‬ومن شهد أن‬ ‫وهبذا تعلم أن َّ‬
‫ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وعبد غريه معه فال شهادة له‪ ،‬وإن صلَّى وزَّكى وصام‪ ،‬وأتى‬
‫بعضا‪:‬‬
‫ورد ً‬ ‫بشيء من أعمال اإلسالم‪ .‬قال تعاىل ملن آمن ببعض الكـتاب َّ‬

‫(‪« )1‬فتح اجمليد»‪( :‬ص‪.)953 ،952‬‬

‫‪-395-‬‬
‫اب َوتَكْفرو َن بِبَـ ْعض﴾ [البقرة‪ ،]16 :‬وقال تعاىل‪:‬‬ ‫ض الْ ِكتَ ِ‬ ‫﴿أَفَـتـ ْؤِمنو َن بِبَـ ْع ِ‬
‫ني اللي ِه َورسلِ ِه َويقولو َن نـ ْؤِمن‬ ‫ِ ِِ‬
‫ين يَكْفرو َن بِالليه َورسله َوي ِريدو َن أَن يـ َفِّرقواْ بَـ ْ َ‬
‫ِ َّ ِ‬
‫﴿إ َّن الذ َ‬
‫ك َسبِيالً﴾ [النساء‪،]965 :‬‬ ‫َّخذواْ بـ ِ‬ ‫بِبـعض ونَكْفر بِبـعض وي ِريدو َن أَن يـت ِ‬
‫ني َذل َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َْ َ‬
‫ند َربِِّه إِنَّه‬
‫آخَر َال بـ ْرَها َن لَه بِ ِه فَِإَّمنَا ِح َسابه ِع َ‬ ‫ِ‬
‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَمن يَ ْد َم َع اللَّه إِ َهلًا َ‬
‫َال يـ ْفلِح الْ َكافِرو َن‪ ﴾...‬اآلية [املؤمنون‪.]994 :‬‬
‫والكفر نوعان‪ :‬مطلق ومقيد‪.‬‬
‫فاملطلق‪ :‬أن يكفر جبميع ما جاء به الرسول‪.‬‬
‫واملقيد‪ :‬أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول‪ ،‬حىت إن بعض العلماء كفَّر من‬
‫جممعا عليه‪ ،‬كتوريث اجلد واألخت وإن صلَّى وصام‪ ،‬فكيف مبن‬ ‫فرعا ً‬ ‫أنكر ً‬
‫يدعو الصاحلني ويصرف هلم خال العبادة ولبَّها؟‬
‫وهذا مذكور يف املختصرات من كتب املذاهب األربعة‪ ،‬بل كفَّروا ببعض‬
‫األلفاظ اليت جترى على ألسن بعض اجلهال وإن صلَّى وصام من جرت على‬
‫لسانه‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل‪ :‬والصحابة كفَّروا من منع الزكاة وقاتلوهم مع إقرارهم‬
‫بالشهادتني واإلتيان بالصالة والصوم واحلج‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل‪ :‬واجتمعت األمة على كفر بن عبيد اهلل القداح مع أهنم كانوا‬
‫يتكلمون بالشهادتني‪ ،‬ويصلون‪ ،‬ويبنون املساجد يف قاهرة مصر وغريها‪.‬‬
‫وذكر أن ابن اجلوزي صنَّف كتابًا يف وجوب غزوهم وقتاهلم مسَّاه (النصر‬
‫على مصر) قال‪ :‬وهذا يعرفه من له أدىن إملام بشيء من العلم والدين‪.‬‬
‫فشبه عبَّاد القبور بأهنم يصلون ويصومون ويؤمنون بالبعث‪ ،‬جمرد تعمية على‬
‫العوام‪ ،‬وتلبيس لينفق شركهم‪ ،‬ويقال‪ :‬بإسالمهم وإمياهنم‪ .‬ويأىب اهلل ذلك ورسوله‬
‫(‪)1‬‬
‫واملؤمنون» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬منهاج التأسيس والتقديس»‪( :‬ص‪.)49 ،55‬‬

‫‪-399-‬‬
‫وحتدَّث الشيخ عبد الرمحن بن حسن رمحه اهلل تعاىل عن حكم املشرك يف‬
‫اآلخرة‪ ،‬أثناء شرحه لكتاب التوحيد فقال‪:‬‬
‫«قال املصنف رمحه اهلل تعاىل‪ :‬وملسلم عن جابر أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬من‬
‫لقي اهلل ال يشرك به شيئًا دخل اجلنة‪ ،‬ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار»‪....‬‬
‫قوله‪« :‬من لقي اهلل ال يشرك به شيئًا» قال القرطيب‪ :‬أي ل يتخذ معه‬
‫شري ًكا يف اإلهلية‪ ،‬وال يف اْللق‪ ،‬وال يف العبادة‪.‬‬
‫ومن املعلوم من الشر اجملمع عليه عند أهل السنة‪ :‬أن من مات على ذلك‬
‫فال بد له من دخول اجلنة‪ ،‬وإن جرت عليه قبل ذلك أنوا من العذاب واحملنة‪.‬‬
‫وأن من مات على الشرك ال يدخل اجلنة وال يناله من اهلل رمحة‪ ،‬وخيلد يف النار‬
‫تصرم آماد‪.‬‬
‫أبد اآلباد‪ ،‬من غري انقطا عذاب وال ُّ‬
‫وقال النووي‪ :‬أما دخول املشرك النار فهو على عمومه‪ ،‬فيدخلها وخيلد‬
‫فيها‪ ،‬وال فرق فيه بني الكتايب اليهودي والنصراي‪ ،‬وبني عبدة األوثان وسائر‬
‫عنادا وغريه‪ ،‬وال بني من خالف ملة‬‫الكفرة‪ ،‬وال فرق عند أهل احلق بني الكافر ً‬
‫اإلسالم وبني من انتسب إليها مث حكم بكفره جبحده وغري ذلك‪.‬‬
‫وأما دخول من مات غري مشرك اجلنة فهو مقطو له به‪ .‬لكن إن ل يكن‬
‫مصرا عليها دخل اجلنة أوالً‪ ،‬وإن كان صاحب كبرية مات‬ ‫صاحب كبرية مات ً‬
‫مصرا عليها فهو حتت املشيئة‪ ،‬فإن عفا اهلل عنه دخل اجلنة أوالً‪ ،‬وإالَّ عذب يف‬
‫(‪)1‬‬
‫النار مث أخرج من النار وأدخل اجلنة» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬فتح اجمليد»‪( :‬ص‪.)41 ،41‬‬

‫‪-392-‬‬
‫الفصل السادس‬
‫أشهر شبهات المشركين وعلمائهم‬
‫مع سهام الردود عليها‬

‫وفيه مبحثان‪:‬‬

‫املبحث األول‪ :‬الرد على أشهر شبهات املشركني‪.‬‬


‫املبحث الثاي ‪ :‬الرد على أشهر شبهات علماء املشركني‪.‬‬

‫‪-393-‬‬
-394-
‫المبحث األول‬
‫الرد على أشهر شبهات المشركين‬
‫* لقد خان املشركون أنفسهم عندما أومهوها بأن اآليات اليت نزلت يف ذكر‬
‫الكفار واملشركني‪ ،‬كانت يف قوم قد خلوا‪ ،‬ول يعقبوا وارثًا‪ ،‬وزين هلم ذلك علماء‬
‫فتأصل الشرك بذلك يف أفئدهتم‪ ،‬وظنوا باهلل ظن السوء‪،‬‬ ‫السوء يف قلوهبم‪َّ ،‬‬
‫بورا‪.‬‬
‫وصاروا قوًما ً‬
‫جميعا نقالا‬
‫قال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم اهلل ا‬
‫عن اإلمام ابن القيم رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫والذي قام بقلوب هؤالء املشركني وسلفهم أن آهلتهم تشفع هلم عند اهلل‪،‬‬
‫وهذا عني الشرك‪ ،‬وقد أنكر اهلل عليهم ذلك يف كتابه‪ ،‬وأبطله‪ ،‬وأخرب أن‬
‫الشفاعة كلها له‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ف الضُِّّر‬
‫ين َز َع ْمتم ِّمن دونه فَالَ ميَْلكو َن َك ْش َ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ق ِل ْادعواْ الذ َ‬
‫عنكم والَ َْحت ِويالً﴾ [اإلسراء‪ ،]65 :‬وقوله‪﴿ :‬ق ِل ْادعوا الَّ ِذين زعمتم ِّمن د ِ‬
‫ون‬ ‫َ ََْ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ض َوَما َهل ْم فِي ِه َما ِمن ِش ْرك‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َوالَ ِيف األ َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اللَّه الَ ميَْلكو َن مثْـ َق َال َذ َّرة يف َّ َ َ‬
‫نده إِالَّ لِ َم ْن أ َِذ َن لَه﴾ [سبأ‪،22 :‬‬ ‫اعة ِع َ‬ ‫َوَما لَه ِمْنـهم ِّمن ظَ ِهري * َوالَ تَ َنفع الش َ‬
‫َّف َ‬
‫‪.]23‬‬
‫والقرآن مملوء من أمثال هذه اآلية‪ ،‬ولكن أكثر الناس ال يشعر بدخول الواقع‬
‫حتته‪ ،‬ويظنه يف قوم قد خلوا‪ ،‬ول يعقبوا وارثًا‪ ،‬وهذا هو الذي حيول بني املرء وبني‬
‫فهم القرآن‪ ،‬كما قال عمر بن اْلطاب ‪ :‬إمنا تنقض عرى اإلسالم عروة عروة‪،‬‬
‫إذا نشأ يف اإلسالم من ال يعرف اجلاهلية‪.‬‬
‫وهذا ألنه إذا ل يعرف الشرك‪ ،‬وما عابه القرآن وذمه‪ ،‬وقع فيه‪ ،‬وأقره‬

‫‪-396-‬‬
‫وهو ال يعرف أنه الذي كان عليه أهل اجلاهلية‪ ،‬فتنتقض بذلك عرى‬
‫منكرا واملنكر معروفًا‪ ،‬والبدعة سنة والسنة بدعة‪ ،‬ويكفَّر‬
‫اإلسالم‪ ،‬ويعود املعروف ً‬
‫ويبد بتجريد متابعة الرسول ‪ ‬ومفارقة‬ ‫الرجل مبحض اإلميان وجتريد التوحيد‪َّ ،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫األهواء والبد ‪ ،‬ومن له بصرية وقلب حي يرى ذلك عيانًا‪ ،‬فاهلل املستعان» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل بعد أن أبان وقرر كفر‬
‫طواغيت عصره‪:‬‬
‫«فإن جادل منافق‪ ،‬بكون اآلية نزلت يف الكفار‪ ،‬فقولوا له‪ :‬هل قال أحد‬
‫من أهل العلم أوهلم وآخرهم‪ :‬إن هذه اآليات ال تعم من عمل هبا من‬
‫املسلمني؟ من قال هذا قبلك؟‬
‫أيضا فقولوا له‪ :‬هذا رد على إمجا املسلمني‪ ،‬فإن استدالهلم باآليات‬
‫و ً‬
‫النازلة يف الكفار‪ ،‬على من عمل هبا ممن انتسب إىل اإلسالم‪ ،‬أكثر من أن‬
‫(‪)2‬‬
‫تذكر» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين‪:‬‬
‫«وأما من يقول‪ :‬إن اآليات اليت نزلت حبكم املشركني األولني‪ ،‬فال تتناول‬
‫من فعل فعلهم‪ ،‬فهذا كفر عظيم‪ ،‬مع أن هذا قول ال يقوله إالَّ ثور مرتكس يف‬
‫اجلهل‪.‬‬
‫فهل يقول‪ :‬إن احلدود املذكورة يف القرآن والسنة ألناس كانوا وانقرضوا‪ ،‬فال‬
‫حيد الزاي اليوم‪ ،‬وال تقطع يد السارق‪ ،‬وحنو ذلك‪ ،‬مع أن هذا قول يستحيا من‬
‫ذكره‪ .‬أفيقول هذا ‪ -‬أحد اجملادلني عن املشركني‪:-‬‬

‫(‪« )1‬عقيدة املوحدين»‪ ،‬الكلمات النافعة‪( :‬ص‪.)233‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)61 ،61/95( :‬‬

‫‪-395-‬‬
‫إن املخاطبني بالصالة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬وسائر شرائع اإلسالم‪ ،‬انقرضوا وبطل‬
‫(‪)1‬‬
‫حكم القرآن؟» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫* لقد استند املشركون إىل اجلهال الذين ظهروا هلم بلباس العلماء‬
‫وقرروا هلم أن املقصود من التوحيد‪ :‬جمرد التلفظ بالشهادتني‪ ،‬وال‬ ‫والصلحاء‪َّ ،‬‬
‫فحسنوها‬
‫يضر بعد ذلك فعل شيء‪ ،‬مث حضروا حفالت شركهم ونوادي إفكهم َّ‬
‫هلم‪ ،‬ومن ل حيسنها ل ينكرها‪ ،‬فاطمئن عبَّاد القبور واملشركون إىل ذلك‪،‬‬
‫وثلجت به صدورهم‪ ،‬وظنوا أهنم مانعتهم حصوهنم من براهني املوحدين‪ ،‬وحجج‬
‫املتحنِّفني‪ ،‬فعلَت بذلك رايتهم‪ ،‬وارتفع إفكهم‪ ،‬وساد شركهم‪.‬‬
‫رد هذا‬ ‫قال الشيخ محد بن ناصر بن معمر اإلمام العالمة رمحه اهلل يف ِّ‬
‫اإلفك املبني‪:‬‬
‫كثريا من العلماء‬ ‫وأما قوله ‪ -‬أي أحد اجملادلني عن املشركني ‪ -‬ومنها‪ :‬أن ً‬
‫الكبار فعلوا هذه األمور‪ ،‬وفعلت حبضرهتم‪ ،‬ول تنكر‪ ،‬ومن ذلك تتابعهم على‬
‫أعيادا يف الغالب‪ ،‬فلكل شيخ يوم معروف‪ ،‬يف‬ ‫بناء القباب على القبور‪ ،‬واختاذها ً‬
‫شهر معلوم‪ ،‬يؤتى إليه من النواحي‪ ،‬وقد حيضرهم بعض العلماء فال ينكر‪.‬‬
‫فالجواب من وجوه‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬أن يقال‪ :‬قد افرتض اهلل على اْللق طاعة رسول اهلل ‪،‬‬
‫ول فَـ َق ْد أَطَا َ‬ ‫وأخرب أن من أطاعه فقد أطا اهلل‪ ،‬فقال تعاىل‪َّ ﴿ :‬م ْن ي ِط ِع َّ‬
‫الرس َ‬
‫الليهَ﴾ [النساء‪ ،]15 :‬وقال‪﴿ :‬ق ْل إِن كنت ْم ِحتبُّو َن الليهَ فَاتَّبِع ِوي ْحيبِْبكم الليه﴾‬
‫[آل عمران‪ ،]39 :‬وقال‪َ ﴿ :‬وإِن ت ِطيعوه تَـ ْهتَدوا﴾ [النور‪.]64 :‬‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل»‪ ،)935/2( :‬رسائل وفتاوى عبد اهلل أيب بطني‪.‬‬

‫‪-394-‬‬
‫الرسول فَخذوه َوَما نَـ َهاك ْم َعْنه فَانتَـهوا﴾ [احلشر‪،]4 :‬‬ ‫وقال‪َ ﴿ :‬وَما آتَاكم َّ‬
‫ول َوأ ْوِيل األ َْم ِر ِمنك ْم‬
‫الرس َ‬ ‫َطيعواْ الليه وأ ِ‬
‫َطيعواْ َّ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنواْ أ ِ‬
‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ول‪[ ﴾...‬النساء‪ ]61 :‬اآلية‪.‬‬ ‫الرس ِ‬ ‫فَِإن تَـنَ َاز ْعت ْم ِيف َش ْيء فَـرُّدوه إِ َىل اللي ِه َو َّ‬
‫حمرم أو‬‫فإذا اختلف الناس يف شيء من أمور الدين‪ ،‬هل هو واجب أو َّ‬
‫جائز‪ ،‬وجب رد ما وقع فيه االختالف إىل اهلل والرسول‪ ،‬وجيب على املؤمن إذا‬
‫ِِ‬
‫مسعا وطاعة‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬إَِّمنَا َكا َن قَـ ْوَل الْم ْؤمن َ‬
‫ني‬ ‫دعي إىل ذلك أن يقول‪ً :‬‬
‫إِ َذا دعوا إِ َىل اللَّ ِه َوَرسولِِه لِيَ ْحك َم بَـْيـنَـه ْم أَن يَـقولوا َِمس ْعنَا َوأَطَ ْعنَا﴾ [النور‪،]69 :‬‬
‫فنحن حناكم من نازعنا يف هذه املسألة وغريها من املسائل‪ ،‬إىل اهلل والرسول‪ ،‬ال‬
‫إىل أقوال الرجال وآرائهم‪.‬‬
‫فنقول ملن أجاز بناء القباب على القبور باجل واآلجر‪ ،‬وأسرجها وفرشها‬
‫بالرخام‪ ،‬وعلَّق عليها قناديل الفضة وبيض النعام‪ ،‬وكساها كما يكسى بيت اهلل‬
‫وحث عليه؟ أم هنى عنه وأمر بإزالة مع وضع‬ ‫احلرام‪ :‬هل أمر رسول اهلل ‪ ‬هبذا َّ‬
‫من ذلك عليه؟‪ .‬فما أمرنا به ائتمرنا‪ ،‬وما هنانا عنه انتهينا‪ ،‬وسنته هي احلاكمة‬
‫بيننا وبني خصومنا يف حمل النزا ‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬قد ثبت يف صحيح مسلم عن أيب اهلياج األسدي‪ ،‬قال‪ :‬قال يل‬
‫علي بن أيب طالب ‪ :‬أال أبعثك على ما بعثن عليه رسول اهلل ‪« :‬أن ال أد‬
‫أيضا‪ :‬عن مثامة بن‬ ‫قربا مشرفًا إالَّ سويته»‪ .‬ويف صحيحه ً‬ ‫َتثاالً إالَّ طمسته‪ ،‬وال ً‬
‫شفي اهلماي‪ ،‬قال‪ :‬كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم‪ ،‬فتويف صاحب لنا‪،‬‬
‫فسوي‪ ،‬مث قال‪ :‬مسعت رسول اهلل ‪« :‬يأمر‬ ‫فأمر فضالة بن عبيد بقربه ِّ‬
‫أيضا‪ ،‬عن جابر بن عبد اهلل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بتسويتها»‪ ،‬ويف صحيحه‬
‫قال‪« :‬هنى رسول اهلل ‪ ‬عن جتصي القرب‪ ،‬وأن يقعد عليه‪ ،‬وأن يبى‬
‫عليه»‪ .‬ويف سنن أيب داود‪ ،‬والرتمذي‪ ،‬عن جابر ‪« :‬أن رسول اهلل ‪‬‬

‫‪-391-‬‬
‫هنى أن جتص القبور‪ ،‬وأن يبى عليها‪ ،‬ويكتب عليها»‪ ،‬قال الرتمذي‪:‬‬
‫حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫وعن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال‪« :‬لعن رسول اهلل ‪ ‬زائرات القبور‪،‬‬
‫واملتخذين عليها املساجد والسرج» رواه اإلمام أمحد‪ ،‬وأهل السنن‪.‬‬
‫فنهى رسول اهلل ‪ ‬عن البناء عليها‪ ،‬وأمر هبدمه بعدما يبى‪ ،‬وهنى عن‬
‫الكتابة عليها‪ ،‬ولعن من أسرجها‪ ،‬فنحن نأمر مبا أمر به رسول اهلل ‪ ‬من‬
‫تسويتها‪ ،‬وننهى عن البناء عليها‪ ،‬كما هنى عنه رسول اهلل ‪ ،‬فهو الذي افرتض‬
‫اهلل علينا طاعته واتباعه‪....‬‬
‫(منزلة الصحابة في التباع)‬
‫الوجه الثاي‪ :‬أن يقال‪ :‬إذا ل يقنع ول يطمئن قلبك مبا جاء عن رسول اهلل‬
‫‪ ،‬وقلت‪ :‬العلماء أعلم منا بالسنة‪ ،‬وأطو هلل ولرسوله ‪.‬‬
‫فنقول أعلم الناس مبا أمر به رسول اهلل ‪ ‬وما هنى عنه أصحابه ‪ ،‬فهم‬
‫أعلم الناس بسنته‪ ،‬وأطوعهم ألمره‪ ،‬وهم الذين رضي اهلل عنهم ورضوا عنه‪،‬‬
‫عمن اتبعهم بإحسان‪.‬‬‫ورضي َّ‬
‫ويف حديث العرباض بن سارية ‪ :‬عن رسول اهلل ‪ ،‬أنه قال‪« :‬عليكم‬
‫َتسكوا هبا وعضوا عليها‬
‫بسنيت‪ ،‬وسنة اْللفاء الراشدين املهديني من بعدي‪َّ ،‬‬
‫بالنواجذ‪ ،‬وإياكم وحمدثات األمور‪ ،‬فإن كل بدعة ضاللة»‪.‬‬
‫ويف الصحيح عنه ‪ ‬أنه قال‪« :‬خري القرون قري الذي بعثت فيه‪ ،‬مث الذين‬
‫يلوهنم‪ ،‬مث الذين يلوهنم»‪.‬‬
‫فليسنت مبن قد مات‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وقال عبد اهلل بن مسعود ‪ :‬من كان منكم مستنًا‬
‫فإن احلي ال تؤمن عليه الفتنة‪ ،‬أولئك أصحاب حممد ‪ ،‬أبر هذه األمة قلوبًا‪،‬‬
‫تكلفا‪ ،‬قوم اختارهم اهلل لصحبة نبيه‪ ،‬وإقامة دينه‪،‬‬
‫علما‪ ،‬وأقلها ً‬
‫وأعمقها ً‬

‫‪-391-‬‬
‫فاعرفوا هلم حقهم‪ ،‬وَتسكوا هبديهم‪ ،‬فإهنم كانوا على الصراط املستقيم‪.‬‬
‫القراء‪ ،‬استقيموا وخذوا طريق من‬ ‫وقال حذيفة بن اليمان ‪ :‬يا معشر َّ‬
‫بعيدا‪ ،‬ولئن أخذم ميينًا ومشاالً‪ ،‬لقد ضللتم ضالالً‬
‫سبقا ً‬
‫قبلكم‪ ،‬فواهلل لقد سبقتم ً‬
‫بعيدا‪.‬‬
‫ً‬
‫فإن احتج أحد علينا مبا عليه املتأخرون‪ ،‬قلنا احلجة مبا عليه الصحابة‬
‫والتابعون الذين هم خري القرون‪ ،‬ال مبا عليه اْللف‪ ،‬الذين يقولون ما ال يفعلون‪،‬‬
‫ويفعلون ما ال يؤمرون‪ ،‬فهؤالء أصحاب رسول اهلل ‪ ،‬هل نقل عنهم‪ :‬أهنم‬
‫عقدوا القباب على القبور‪ ،‬وأسرجوها وخلَّقوها وكسوها احلرير؟ أم هذا مما‬
‫حدث بعدهم من احملدثات‪ ،‬اليت هي بد وضالالت‪.‬‬
‫ومعلوم‪ :‬أن عندهم من قبور الصحابة‪ ،‬الذين ماتوا يف حياة رسول اهلل ‪‬‬
‫وبعد وفاته ما ال حيصى‪ ،‬هل بنوا على قبورهم وعظَّموها‪ ،‬ودعوا عندها‪،‬‬
‫َتسحوا هبا فضالً عن أن يسألوها حوائجهم؟ أو يسألوا اهلل بأصحاهبا؟‬
‫و َّ‬
‫فمن كان عنده يف هذا أثر صحيح أو حسن‪ ،‬فلريشدنا إليه وليدلنا عليه‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫أىن له بذلك؟ فهذه سنة رسول اهلل ‪ ‬يف القبور وسنة خلفائه الراشدين» ‪.‬‬ ‫و َّ‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫* لقد توارثت طوائف املشركني على خمتلف العصور والدهور‪ :‬شبهة‬
‫االحتجاج بفعل اآلباء للشرك‪ ،‬الذين هم حمل الثقة لديهم‪ ،‬وال جيتمعون ‪-‬‬
‫بزعمهم ‪ -‬إالَّ على هدى ورشاد‪ ،‬ولذا فلزم االتبا دون االبتدا ‪.‬‬
‫آد َم ِمن‬‫ك من بَِن َ‬
‫وصدق اهلل إذ يقول‪﴿ :‬وإِ ْذ أَخ َذ ربُّ َ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ت بَِربِّك ْم قَالواْ بَـلَى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ظهوِره ْم ذ ِّريـَّتَـه ْم َوأَ ْش َه َده ْم َعلَى أَنفس ِه ْم أَلَ ْس َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ني *‬ ‫َش ِه ْدنَا أَن تَـقولواْ يَـ ْوَم الْقيَ َامة إِنَّا كنَّا َع ْن َه َذا َغافل َ‬
‫أ َْو تَـقولواْ إَِّمنَا أَ ْشَرَك آبَاؤنَا ِمن قَـْبل َوكنَّا ذ ِّريَّةً ِّمن بَـ ْع ِد ِه ْم أَفَـتـ ْهلِكنَا ِمبَا فَـ َع َل‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)13 – 44 /99( :‬‬

‫‪-325-‬‬
‫ات َولَ َعلَّه ْم يَـ ْرِجعو َن﴾ [األعراف‪- 942 :‬‬ ‫صل اآلي ِ‬
‫َ‬ ‫ك نـ َف ِّ‬ ‫ِ‬
‫الْمْب ِطلو َن * َوَك َذل َ‬
‫‪.]944‬‬
‫قال الشيخ صالح الفوزان رحمه اهلل تعالى في معرض إيراده لبعض شبه‬
‫المشركين والرد عليها‪:‬‬
‫إنه بسبب رواج الشبه واحلكايات‪ ،‬اليت ضل هبا أكثر الناس‪ ،‬وعدوها أدلة‬
‫يستندون إليها يف تربير ضاللتهم وشركهم‪ ،‬استمرؤوا ما هم عليه‪ ،‬فكان ال بد‬
‫ِ‬
‫ك َعن بَـيِّـنَة َوَْحي َىي َم ْن َح َّي َعن‬ ‫ك َم ْن َهلَ َ‬ ‫من كشف زيفها‪ ،‬وبيان بطالهنا ﴿لِّيَـ ْهل َ‬
‫بَـيِّـنَة﴾ [األنفال‪ .]42 :‬وهذه الشبهة منها‪ :‬ما هو قدمي أدىل به املشركون من‬
‫األمم السابقة‪ ،‬ومنها‪ :‬ما أدىل به مشركو هذه األمة‪.‬‬
‫ومن هذه الشبه‪:‬‬
‫أولا‪ :‬شبهة تكاد مشرتكة بني طوائف املشركني يف خمتلف األمم‪ ،‬وهي شبهة‬
‫خلفا عن‬ ‫االحتجاج مبا كان عليها اآلباء واألجداد‪ ،‬وأهنم ورثوا هذه العقيدة ً‬
‫ك ِيف قَـ ْريَة ِّمن نَّ ِذير إَِّال‬ ‫ِ‬
‫ك َما أ َْر َسْلنَا ِمن قَـْبل َ‬
‫ِ‬
‫سلف‪ ،‬كما قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬وَك َذل َ‬
‫وها إِنَّا َو َج ْدنَا آبَاءنَا َعلَى أ َّمة َوإِنَّا َعلَى آثَا ِرِهم ُّم ْقتَدو َن﴾ [الزخرف‪:‬‬ ‫قَ َال مْتـَرف َ‬
‫‪.]23‬‬
‫وهذه حجة يلجأ إليها من يعجز عن إقامة الدليل على دعواه‪ ،‬وهي حجة‬
‫داحضة‪ ،‬ال يقام هلا وزن يف سوق املناظرة‪ ،‬فإن هؤالء اآلباء الذين قلَّدوهم ليسوا‬
‫ردا‬
‫على هدى‪ ،‬ومن كان كذلك‪ ،‬ال جتوز متابعته واالقتداء به‪ ،‬قال تعاىل َّ‬
‫دم َعلَْي ِه آبَاءك ْم﴾ [الزخرف‪،]24 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عليهم‪﴿ :‬قَ َال أ ََولَْو جْئتكم بِأ َْه َدى ممَّا َو َج ُّْ‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬أ ََولَْو َكا َن آبَاؤه ْم الَ يَـ ْعلَمو َن َشْيئًا َوالَ يَـ ْهتَدو َن﴾ [املائدة‪:‬‬
‫‪ ،]954‬وقال‪﴿ :‬أ ََولَْو َكا َن آبَاؤه ْم الَ يَـ ْع ِقلو َن َشْيئاً َوالَ يَـ ْهتَدو َن﴾ [البقرة‪:‬‬
‫‪.]945‬‬
‫حممودا إذا كانوا على حق‪ ،‬كما قال تعاىل عن‬ ‫ً‬ ‫وإمنا يكون االقتداء باآلباء‬
‫وب َما‬ ‫يوسف ‪ ،‬أنه قال‪﴿ :‬واتَّـبـ ْعت ِملَّةَ آبآئِـي إِبْـر ِاه ِ‬
‫يم َوإ ْس َح َق َويَـ ْعق َ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬

‫‪-329-‬‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫َكا َن لَنَا أَن نُّ ْش ِرَك بالليه من َش ْيء﴾ [يوسف‪ ،]31 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫ين‬
‫َحلَْقنَا هبِِ ْم ذ ِّريَّـتَـه ْم﴾ [الطور‪.]29 :‬‬ ‫َآمنوا َواتَّـبَـ َعْتـه ْم ذ ِّريَّـتـهم بِِإميَان أ ْ‬
‫وشبهة االحتجاج مبا كان عليه اآلباء الضالون متغلغلة يف نفوس املشركني‪،‬‬
‫يقابلون هبا دعوات األنبياء عليهم الصالة والسالم‪:‬‬
‫فقوم نوح ملا قال هلم نوح‪﴿ :‬يَا قَـ ْوِم ْاعبدوا اللَّهَ َما لَكم ِّم ْن إِلَه َغْيـره أَفَ َال‬
‫ين َك َفروا ِمن قَـ ْوِم ِه َما َه َذا إَِّال بَ َشر ِّمثْـلك ْم ي ِريد أَن‬ ‫َّ ِ‬
‫تَـتَّـقو َن * فَـ َق َال الْ َم َأل الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ني﴾‬ ‫َنزَل َم َالئ َكةً َّما َمس ْعَنا هبَ َذا ِيف آبَائنَا ْاأل ََّول َ‬
‫َّل َعلَْيك ْم َولَْو َشاء اللَّه َأل َ‬ ‫يَـتَـ َفض َ‬
‫[املؤمنون‪.]24 ،23 :‬‬
‫فجعلوا ما عليه آباؤهم حجة يعارضون هبا ما جاءهم به نبيهم نوح ‪.‬‬
‫وقوم صاحل يقولون له‪﴿ :‬أَتَـْنـ َهانَا أَن نـَّ ْعب َد َما يَـ ْعبد آبَاؤنَا﴾ [هود‪.]52 :‬‬
‫ك يَـ ْف َعلو َن﴾ [الشعراء‪:‬‬ ‫ِ‬
‫وقوم إبراهيم يقولون له‪﴿ :‬بَ ْل َو َج ْدنَا آبَاءنَا َك َذل َ‬
‫‪.]44‬‬
‫وىل﴾ [طه‪.]69 :‬‬ ‫ون ْاأل َ‬‫وفرعون يقول ملوسى ‪﴿ :‬فَما بال الْقر ِ‬
‫َ َ‬
‫ومشركو العرب يقولون حملمد ‪ ‬ملا قال هلم‪« :‬قولوا ال إله إالَّ اهلل»‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫اختِالَق﴾ [ص‪. »]4 :‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫﴿ َما َمس ْعنَا هبَ َذا ِيف الْملَّة ْاآلخَرةِ إِ ْن َه َذا إَِّال ْ‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬اإلرشاد إىل تصحيح االعتقاد»‪( :‬ص‪.)54 – 59‬‬

‫‪-322-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫الرد على أشهر شبهات علماء المشركين‬

‫وقرر بعض علماء املشركني بأن دعاء املوتى‪ ،‬واالستغاثة هبم يف‬
‫لقد قطع‪َّ ،‬‬
‫الشدائد‪ ،‬من أنوا الشرك العملي األصغر‪ ،‬الذي ال يكفر به صاحبه إالَّ أن‬
‫يستحلَّه‪ ،‬هذا من حيث الفعل والقول‪ ،‬وأما بالنظر إليه من حيث االعتقاد‪ ،‬فهو‬
‫كالطرية اليت هي من الشرك األصغر بغري خالف‪.‬‬
‫قال اإلمام العالمة الشيخ حمد بن ناصر رحمه اهلل تعالى في التصدي‬
‫لبيان هذا الفتراء العظيم‪:‬‬
‫فيقال ملن أنكر أن يكون دعاء املوتى‪ ،‬واالستغاثة هبم يف الشدائد شرًكا‬
‫أكرب‪ :‬أخربنا عن هذا الشرك الذي عظمه اهلل‪ ،‬وأخرب أنه ال يغفره أتظن أن اهلل‬
‫حيرمه هذا التحرمي‪ ،‬وال يبينه لنا؟ ومعلوم أن اهلل سبحانه نزل كتابه تبيانًا لكل‬
‫شيء‪ ،‬وهدى ورمحة وبشرى للمسلمني‪.‬‬
‫وضوحا في كتاب اهلل تعالى)‬
‫ا‬ ‫(الشرك وبيان حرمته من أعظم األمور‬
‫وقد أخرب يف كتابه‪ :‬أنه أكمل لنا الدين‪ ،‬وأم علينا النعمة‪ ،‬ورضي لنا‬
‫اإلسالم دينًا‪ ،‬فكيف جيوز أن يرتك بيان الشرك الذي هو أعظم ذنب عصي اهلل‬
‫به سبحانه؟! فإذا أصغى اإلنسان إىل كتاب اهلل وتدبره‪ ،‬وجد فيه اهلدى‬
‫ضلِ ِل الليه فَ َما لَه ِم ْن َهاد﴾ [الرعد‪َ ﴿ ،]33 :‬وَمن َّلْ َْجي َع ِل‬
‫والشفاء ﴿ َوَمن ي ْ‬
‫اللَّه لَه ن ًورا فَ َما لَه ِمن نُّور﴾ [النور‪.]45 :‬‬
‫يضا‪ :‬قد أمرنا اهلل سبحانه بدعائه وسؤاله‪ ،‬وأخرب أنه جييب دعوة‬ ‫وقال أ ً‬
‫وطمعا‪ ،‬فإذا مسع اإلنسان قوله تعاىل‪:‬‬
‫الدا إذا دعاه‪ ،‬وأمرنا أن ندعوه خوفًا ً‬

‫‪-323-‬‬
‫ب لَك ْم﴾ [غافر‪ ،]55 :‬وقوله‪ْ ﴿ :‬ادعواْ َربَّك ْم‬ ‫﴿وقَ َال ربُّكم ادع ِوي أ ِ‬
‫َستَج ْ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫ضُّر ًعا َوخ ْفيَةً﴾ [األعراف‪ ،]66 :‬وأطا اهلل ودعاه‪ ،‬وأنزل به حاجته‪ ،‬وسأله‬ ‫تَ َ‬
‫تضرعا وخفية‪ ،‬فمعلوم أن هذا عبادة‪ ،‬فيقال‪ :‬فإن دعا يف تلك احلاجة نبيًا‪ ،‬أو‬ ‫ً‬
‫عبدا صاحلًا‪ ،‬هل أشرك يف هذه العبادة؟ فال بد أن يقر بذلك إالَّ أن‬ ‫مل ًكا‪ ،‬أو ً‬
‫يكابر ويعاند‪.‬‬
‫ك َو ْاحنَْر﴾ [الكوثر‪ ،]2 :‬وأطعت اهلل‪،‬‬ ‫ويقال أيضا‪ :‬إذا قال اهلل‪﴿ :‬فَ ِ‬
‫ص ِّل لَربِّ َ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫وحنرت له‪ ،‬هل هذا عبادة؟ فال بد أن يقول‪ :‬نعم‪ ،‬فيقال له‪ :‬فإذا ذحبت ملخلوق‬
‫نيب أو ملك أو غريمها‪ ،‬هل أشركت يف هذه العبادة؟ فال بد أن يقول‪ :‬نعم إالَّ‬
‫أن يكابر ويعاند‪ ،‬وكذلك السجود عبادة‪ ،‬فلو سجد لغري اهلل لكان شرًكا‪.‬‬
‫ومعلوم‪ :‬أن اهلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬ذكر يف كتابه النهي عن دعاء غريه‪،‬‬
‫وتكاثرت نصوص القرآن على النهي عن ذلك‪ ،‬أعظم مما ورد يف النهي عن‬
‫السجود لغري اهلل‪.‬‬
‫فإذا كان من سجد لقرب نيب‪ ،‬أو ملك أو عبد صاحل‪ ،‬ال يشك أحد يف‬
‫كفره‪ ،‬وكذلك لو ذبح له القربان‪ ،‬ل يشك أحد يف كفره‪ ،‬ألنه أشرك يف عبادة‬
‫اهلل غريه‪ ،‬فيقال‪ :‬السجود عبادة‪ ،‬وذبح القربان عبادة‪ ،‬والدعاء عبادة‪ ،‬فما‬
‫الفارق بني السجود والذبح‪ ،‬وبني الدعاء إذ الكل عبادة‪ ،‬والدعاء عبادة؟ وما‬
‫الدليل على أن السجود لغري اهلل والذبح لغري اهلل شرك أكرب‪ ،‬وما الدعاء مبا ال‬
‫يقدر عليه إالَّ اهلل شرك أصغر؟‬
‫أيضا‪ :‬قد ذكر أهل العلم من أهل كل مذهب‪ ،‬باب حكم املرتد‪،‬‬ ‫ويقال ً‬
‫اعا كثرية‪ ،‬كل نو منها يكفر به الرجل‪ ،‬وحيل دمه وماله‪ ،‬ول يرد‬ ‫وذكروا فيه أنو ً‬
‫نوعا من أنوا الكفر والردة ورد فيه‬ ‫يف واحد منها ما ورد يف الدعاء‪ ،‬بل ال نعلم ً‬
‫من النصوص مثل ما ورد يف دعاء غري اهلل‪ ،‬بالنهي عنه والتحذير من فعله‪،‬‬
‫والوعيد عليه‪....‬‬

‫‪-324-‬‬
‫(األدلة على كفر من دعا غير اهلل)‬
‫وأما كالم العلماء‪ :‬فنشري إيل قليل من كثري‪ ،‬ونذكر كالم من حكى‬
‫اإلمجا على ذلك‪ ،‬قال يف اإلقنا وشرحه‪ :‬من جعل بينه وبني اهلل وسائط‬
‫إمجاعا‪ ،‬ألن هذا كفعل عابدي‬ ‫ً‬ ‫يدعوهم‪ ،‬ويتوكل عليهم‪ ،‬ويسأهلم‪ ،‬كفر‬
‫األصنام‪ ،‬قائلني‪َ ﴿ :‬ما نَـ ْعبده ْم إَِّال لِيـ َقِّربونَا إِ َىل اللَّ ِه زلْ َفى﴾ [الزمر‪ .]3 :‬انتهى‪.‬‬
‫وقال الشيخ تقي الدين رمحه اهلل‪ :‬وقد سئل عن رجلني تناظراـ فقال أحدمها‪:‬‬
‫ال بد لنا من واسطة بيننا وبني اهلل‪ ،‬فإنا ال نقدر أن نصل إليه إالَّ بذلك‪.‬‬
‫(يجوز إثبات الواسطة بين الخالق والمخلوق باعتبار ول يجوز باعتبار آخر)‬
‫فأجاب بقوله‪ :‬إن أراد بذلك أنه ال بد من واسطة تبلغنا أمر اهلل‪ ،‬فهذا حق‪.‬‬
‫فإن اْللق ال يعلمون ما حيبه اهلل ويرضاه‪ ،‬وما أمر به وما هنى عنه إالَّ‬
‫بالرسل‪ ،‬الذين أرسلهم اهلل إىل عباده‪ ،‬وهذا مما أمجع عليه أهل امللل من‬
‫املسلمني واليهود والنصارى‪ ،‬فإهنم يثبتون الوسائط بني اهلل وبني عباده‪ ،‬وهم‬
‫صطَِفي ِم َن‬ ‫الرسل الذين بلغوا عن اهلل أوامره ونواهيه‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬اللَّه يَ ْ‬
‫َّاس﴾ [احلج‪ ،]46 :‬ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر‬ ‫الْ َم َالئِ َك ِة رس ًال َوِم َن الن ِ‬
‫بإمجا أهل امللل‪.‬‬
‫وإن أراد بالواسطة‪ :‬أنه ال بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبني اهلل‪ ،‬يف‬
‫جلب املنافع ودفع املضار‪ ،‬مثل أن يكون واسطة يف رزق العباد‪ ،‬ونصرهم‬
‫وهداهم‪ ،‬يسألونه ذلك‪ ،‬ويرجعون إليه‪ ،‬فهذا من أعظم الشرك الذي كفر اهلل به‬
‫املشركني‪ ،‬حيث اختذوا من دون اهلل أولياء وشفعاء‪ ،‬جيتلبون هبم املنافع‪ ،‬ويدفعون‬
‫هبم املضار‪ ،‬لكون الشفاعة ل يأذن اهلل له فيها‪....‬‬
‫ني أ َْربَابًا أَيَأْمركم بِالْك ْف ِر بَـ ْع َد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال تعاىل‪َ﴿ :‬والَ يَأْمَرك ْم أَن تَـتَّخذواْ الْ َمالَئ َكةَ َوالنِّبِِّيـ ْ َ‬
‫إِ ْذ أَنتم ُّم ْسلِمو َن﴾ [آل عمران‪ ،]15 :‬فبني اهلل سبحانه وتعاىل أن اختاذ‬

‫‪-326-‬‬
‫املالئكة والنبيني أربابًا كفر‪ ،‬فمن جعل املالئكة واألنبياء وسائط‪ ،‬يدعوهم‬
‫ويتوكل عليهم‪ ،‬ويسأهلم جلب املنافع ودفع املضار‪ ،‬مثل أن يسأهلم غفران‬
‫الذنوب‪ ،‬وهداية القلوب‪ ،‬وتفريج الكربات‪ ،‬وسد الفاقات‪ ،‬فهو كافر بإمجا‬
‫املسلمني‪....‬‬
‫كاحلجاب الذين بني امللك‬‫َّ‬ ‫فمن أثبت الوسائط‪ :‬بني اهلل وبني خلقه‪،‬‬
‫ورعيته‪ ،‬حبيث يكونون هم يرفعون إىل اهلل حوائج خلقه‪ ،‬وأن اهلل تعاىل إمنا يهدي‬
‫عباده ويرزقهم بتوسطهم‪ ،‬مبعى‪ :‬أن اْللق يسألوهنم‪ ،‬وهم يسألون اهلل‪ ،‬كما أن‬
‫الوسائط عند امللوك‪ ،‬يسألون امللوك حوائج الناس بقرهبم منهم‪ ،‬والناس يسألون‬
‫أدبًا منهم أن يباشروا سؤال امللك‪ ،‬أو ألن طلبهم من الوسائط أنفع هلم من‬
‫طلبهم من امللك‪ ،‬لكوهنم أقرب إىل امللك من الطلب‪.‬‬
‫فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه‪ ،‬فهو كافر مشرك‪ ،‬جيب أن يستتاب‪،‬‬
‫فإن تاب وإالَّ قتل‪ ،‬وهؤالء مشبِّهون شبَّهوا اْلالق باملخلوق‪ ،‬وجعلوا هلل ً‬
‫أندادا‪،‬‬
‫ويف القرآن من الرد على هؤالء‪ ،‬ما ال تتسع له هذه الفتوى‪....‬‬
‫وأما قوله الثاي‪ :‬إن نظر فيه من حيثية القول‪ ،‬فهو كاحللف بغري اهلل‪ ،‬وقد‬
‫ورد أنه شرك وكفر‪ ،‬مث َّأولوه باألصغر‪ ،‬وإن نظر فيه من حيثية االعتقاد‪ ،‬فهو‬
‫كالطرية وهي من األصغر‪.‬‬

‫(الفرق بين دعاء غير اهلل‪ ،‬والحلف بغيره سبحانه)‬

‫فنقول‪ :‬هذا كالم باطل‪ ،‬وليس خيفى ما بينهما من الفرق‪ ،‬فأي مشاهبة بني‬
‫أحدا من خلقه‪ ،‬وأنزل حاجاته كلها باهلل‪،‬‬‫وحد اهلل وعبده‪ ،‬ول يشرك معه ً‬ ‫من َّ‬
‫واستغاث به يف تفريج كرباته‪ ،‬وإغاثة هلفاته‪ ،‬لكنه حلف بغري اهلل ميينًا جمردة ل‬
‫يقصد هبا تعظيمه على ربه‪ ،‬ول يسأله ول يستغث به‪ ،‬وبني من‬

‫‪-325-‬‬
‫استغاث بغري اهلل‪ ،‬وسأله جلب الفوائد وكشف الشدائد؟!‬
‫فإن هذا صرف مخ العبادة‪ ،‬الذي هو لبها وخالصها لغري اهلل‪ ،‬وأشرك مع‬
‫أجل العبادات وأفضل القربات اليت أمرنا اهلل هبا يف غري موضع من‬
‫اهلل غريه يف ِّ‬
‫كتابه‪ ،‬وأخرب النيب ‪ ‬أنه هو العبادة‪ ،‬كما تقدم يف حديث النعمان بن بشري‬
‫«أن الدعاء هو العبادة»‪ ،‬ويف حديث أنس «الدعاء مخ العبادة»‪ ،‬وأخرب النيب‬
‫‪ :‬أن اهلل حيب ِّ‬
‫امللحني فيه‪ ،‬وأن من ل يسأل اهلل يغضب عليه‪.‬‬
‫ففي الرتمذي عن ابن مسعود عن النيب ‪« :‬سلوا اهلل من فضله‪ ،‬فإن اهلل‬
‫أيضا‪:‬‬
‫امللحني يف الدعاء»‪ .‬وفيه ً‬
‫أيضا‪« :‬إن اهلل حيب ِّ‬‫حيب أن يسأل»‪ .‬وفيه ً‬
‫«من ل يسأل اهلل يغضب عليه»‪ .‬ويف الرتمذي وابن ماجه‪ ،‬عن أيب هريرة ‪‬‬
‫قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬ليس شيء أكرم على اهلل من الدعاء»‪.‬‬
‫اح َفظواْ أ َْميَانَك ْم﴾‬
‫وأما احللف‪ :‬فلم يأمرنا اهلل به‪ ،‬بل أمرنا حبفظه‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫[املائدة‪ ،]11 :‬قيل املعى‪ :‬ال حتلفوا‪ ،‬وقيل‪ :‬ال حتنثوا‪ ،‬وال يرد على هذا ما روي‬
‫عن النيب ‪ ‬أنه حلف يف مواضع‪ ،‬فاليمني تستحب إذا كان فيها مصلحة‬
‫راجحة‪ ،‬وعلى هذا محل العلماء ما روي يف ذلك عن النيب ‪ ،‬فهو حيلف‬
‫ملصاحل مطلوبة لألمة‪ ،‬كزيادة إمياهنم‪ ،‬وطمأنينة قلوهبم‪ ،‬كما أمره اهلل بذلك يف‬
‫مشروعا‪ ،‬بل يباح إذا‬ ‫ً‬ ‫ثالثة مواضع من كتابه‪ ،‬وأما احللف لغري مصلحة فليس‬
‫كان صادقًا‪.‬‬
‫وأما الدعاء‪ :‬فهو حمبوب مشرو هلل‪ ،‬بل مسَّاه اهلل يف كتابه‪ :‬الدين‪ ،‬وأمر‬
‫(‪)1‬‬
‫بإخالصه له‪ ،‬ومسَّاه رسوله ‪ ‬العبادة‪ ،‬ومخ العبادة‪ ،‬فكيف يقال‪ :‬هو احللف‬
‫؟‬

‫(‪ )1‬هكذا يف األصل‪ ،‬ولعلها‪ :‬كاحللف‪.‬‬

‫‪-324-‬‬
‫فمن صرف الدعاء لغري اهلل‪ ،‬فقد أشرك يف الدين الذي أمر اهلل بإخالصه‪،‬‬
‫ويف العبادة اليت أمر اهلل هبا‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬فإن الداعي راغب راهب‪ ،‬فالعبد يدعو ربه رغبًا ورهبًا‪ ،‬ويتوكل عليه‬ ‫و ً‬
‫يف حصول مطلوبه‪ ،‬ودفع مرهوبه‪ ،‬فإذا طلب فوائده‪ ،‬وكشف شدائده من غري‬
‫اهلل‪ ،‬فقد أشرك مع اهلل يف الرغبة والرهبة‪ ،‬والرجاء والتوكل‪ ،‬فإن هذا من لوازم‬
‫ب﴾‬ ‫الدعاء‪ ،‬وهو من العبادة اليت أمر اهلل هبا‪ ،‬كقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ َىل َربِّ َ‬
‫ك فَ ْار َغ ْ‬
‫ون﴾ [النحل‪ ،]69 :‬وقال‪َ ﴿ :‬و َعلَى‬ ‫[الشرح‪ ،]1 :‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬فَإيَّاي فَارهب ِ‬
‫َ َْ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني﴾ [املائدة‪....]23 :‬‬ ‫الليه فَـتَـ َوَّكلواْ إِن كنتم ُّم ْؤمن َ‬
‫يما من الحلف بغير اهلل)‬ ‫(الشرك أسبق تحر ا‬
‫أيضا‪ :‬من املعلوم باالضطرار من دين اإلسالم‪ ،‬أن اهلل تعاىل بعث‬ ‫ويقال ً‬
‫حممدا ‪ ‬يدعو إىل التوحيد‪ ،‬وينهى عن اإلشراك‪ ،‬فكان أول آية أرسله اهلل هبا‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫الر ْجَز فَ ْاهج ْر﴾‬
‫ك فَطَ ِّه ْر * َو ُّ‬ ‫ك فَ َكبِّـ ْر * َوثِيَابَ َ‬
‫﴿يَا أَيُّـ َها الْم َّدثـِّر * ق ْم فَأَنذ ْر * َوَربَّ َ‬
‫[املدثر‪.]6 - 9 :‬‬
‫كرب اهلل‪ ،‬وعظمه بالتوحيد‪.‬‬ ‫فأنذر عن الشرك‪ ،‬وهجر األوثان‪ ،‬و َّ‬
‫فاستجاب له من استجاب من املسلمني‪ ،‬وصربوا على األذى من قومهم‪،‬‬
‫وقاسوا الشدائد العظيمة‪ ،‬فهاجروا وأخرجوا من ديارهم‪ ،‬وأوذوا يف اهلل‪ ،‬وَتيز‬
‫الكافر من املسلم‪ .‬ومات من املسلمني من استوجب اجلنة‪ ،‬ومات من الكفار‬
‫من استوجب النار‪ ،‬هذا كله قبل النهي عن احللف بغري اهلل‪.‬‬
‫فاالستغاثة بأهل القبور‪ ،‬واستنجادهم واستنصارهم‪ ،‬ل يبح يف شرائع الرسل‬
‫كلهم‪ ،‬بل بعث اهلل مجيع رسله بالنهي عن ذلك‪ ،‬واألمر بعبادته وحده ال شريك‬
‫له‪.‬‬
‫وأما احللف‪ :‬فكان الصحابة حيلفون بآبائهم‪ ،‬وحيلفون بالكعبة وغري ذلك‪،‬‬
‫ول ينهوا عن ذلك إالَّ بعد مدة طويلة‪ ،‬فقال هلم النيب ‪« :‬إن اهلل تعاىل ينهاكم‬
‫حالفا فليحلف باهلل أو ليصمت»‪.‬‬ ‫أن حتلفوا بآبائكم»‪ ،‬وقال‪« :‬من كان ً‬

‫‪-321-‬‬
‫ومن ال مييز بني دعاء امليت واحللف به‪ ،‬ال يعرف الشرك الذي بعث اهلل‬
‫حممدا ‪ ،‬ينهى عنه‪ ،‬ويقاتل أهله‪.‬‬
‫ً‬
‫وأي جامع بني احللف واالستغاثة؟ فاملستغيث طالب سائل‪ ،‬واحلالف ل‬
‫يطلب ول يسأل‪ ،‬فإن كان اجلامع بينهما عند القائل باحتادمها‪ :‬أن كالً منهما‬
‫قول باللسان‪.‬‬
‫فيقال له‪ :‬واإلنكار والدعوات‪ ،‬وقول الزور وقذف احملصنات‪ ،‬كل ذلك قول‬
‫باللسان‪ ،‬ولو قال أحد‪ :‬إهنا ألفاظ متقاربة لع َّد من اجملانني‪.‬‬
‫وإن أراد هذا القائل احتادمها يف املعى‪ ،‬فهذا باطل كما تقدَّم بيانه‪ ،‬وأي‬
‫مشاهبة بني من جعل هلل ندا من خلقه‪ ،‬يدعوه ويرجوه‪ ،‬ويستنصره ويستغيث به‪،‬‬
‫وبني من ال يدعو إالَّ اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأخل له يف عبادته؟‬
‫فاألول‪ :‬أشرك مع اهلل يف قوله وفعله واعتقاده‪ ،‬خبالف احلالف‪ ،‬بل لو اعتقد‬
‫احلالف تعظيم املخلوق على اْلالق‪ ،‬لصار مشرًكا شرًكا أكرب كما تقدم‪....‬‬
‫(الرد على من سوى بين دعاء غير اهلل‪ ،‬والطيرة في الحكم)‬
‫وأما قوله‪ :‬وإن نظر فيه من جهة االعتقاد‪ ،‬فهو كالطرية‪ ،‬فهذا كالم باطل‬
‫أيضا‪ ،‬يظهر بطالنه مما تقدم‪ ،‬فيقال‪ :‬وأين اجلامع بني شرك من جعل بينه وبني‬
‫ً‬
‫اهلل واسطة يدعوه ويسأله قضاء حاجاته‪ ،‬وكشف كرباته‪ ،‬ويقول‪ :‬هذا وسيليت‬
‫إىل اهلل‪ ،‬وباب حاجيت إليه‪ ،‬وبني من عبد اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬ودعاه خوفًا‬
‫وتربأ من عبادة كل معبود سواه‬
‫وطمعا‪ ،‬وأنزل به حاجاته كلها‪َّ ،‬‬
‫ً‬

‫‪-321-‬‬
‫ولكن وقع يف قلبه شيء من الطرية؟ فاألول‪ :‬هو دين أيب جهل وأصحابه‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وهو دين أعداء الرسل‪ ،‬من لدن نوح إىل يومنا هذا» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫أصلوا هلم‪ :‬أن‬
‫* لقد قرر كثري من أساطني الشرك ألتباعهم ومريديهم‪ ،‬و َّ‬
‫أدل على ذلك من أن‬ ‫زبدة الرسالة تتمثل يف جمرد التلفظ بكلمة التوحيد‪ ،‬وال ي‬
‫النيب ‪ ‬ل يطالب قومه بتحقيق معناها‪ ،‬بل وعلى ذلك الدرب سار صحابته‬
‫مبجرد النطق دون العلم‬
‫الكرام يف فتوحاهتم لبالد العجم‪ ،‬فقد قنعوا منهم َّ‬
‫والعمل‪ ،‬هكذا زعموا!!!‬
‫وذب‬
‫ومن مث فمن وقع يف حقيقة الكفر‪ ،‬وصريح الشرك‪ ،‬وواىل أصحابه‪َّ ،‬‬
‫مسلما معصوم الدم واملال‪ ،‬وذلك لعدم مساسه حبقوق‬ ‫ً‬ ‫عنهم‪ ...‬فما زال‬
‫جمرد التلفظ هبا!!!‬ ‫الشهادتني‪ ،‬اليت ال حق هلا إالَّ َّ‬
‫ت َكلِ َمةً َختْرج ِم ْن أَفْـ َو ِاه ِه ْم إِن يَـقولو َن إَِّال َك ِذبًا﴾ [الكهف‪.]6 :‬‬
‫﴿ َكبـَر ْ‬
‫قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كشف هذه الشبهة الخبيثة‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫«لكن‪ :‬العجب العجاب‪ ،‬استدالله ‪ :‬أن رسول اهلل ‪ ‬دعا الناس إىل‬
‫قول‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ول يطالبهم مبعناها‪ ،‬وكذلك أصحاب رسول اهلل ‪ ‬فتحوا‬
‫بالد األعاجم‪ ،‬وقنعوا منهم بلفظها‪ ،‬إىل آخر كالمه‪ ،‬فهل يقول هذا الكالم من‬
‫يتصور ما يقول؟!‬
‫فنقول‪ ،‬أوالً‪ :‬هو الذي نقض كالمه‪ ،‬وكذبه‪ ،‬بقوله‪ :‬دعاهم إىل ترك عبادة‬
‫األوثان‪ ،‬فإذا كان ل يقنع منهم إالَّ برتك عبادة األوثان‪ ،‬تبني أن النطق هبا ال‬
‫ينفع‪ ،‬إالَّ بالعمل مبقتضاها‪ ،‬وهو‪ :‬ترك الشرك‪ ،‬وهذا هو املطلوب‪،‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)49 – 91 /99( :‬‬


‫(‪« )2‬أحد املنافحني عن الشرك واملشركني‪.‬‬

‫‪-335-‬‬
‫وحنن إمنا هنينا عن األوثان‪ ،‬اجملعولة على قرب الزبري وطلحة وغريمها‪ ،‬يف الشام‬
‫وغريه‪.‬‬
‫فإن قلتم‪ :‬ليس هذا من األوثان‪ ،‬وإن دعاء أهل القبور‪ ،‬واالستغاثة هبم يف‬
‫الشدائد‪ ،‬ليست من الشرك‪ ،‬مع كون املشركني الذين يف عهد رسول اهلل ‪،‬‬
‫خيلصون هلل يف الشدائد‪ ،‬وال يدعون أوثاهنم‪ ،‬فهذا‪ :‬كفر‪ ،‬وبيننا وبينكم‪ :‬كالم‬
‫العلماء‪ ،‬من األولني‪ ،‬واآلخرين‪ ،‬احلنابلة وغريهم‪.‬‬
‫وتبني أن قول‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ال ينفع إالَّ‬
‫وإن أقررم‪ :‬أن ذلك كفر‪ ،‬وشرك‪َّ ،‬‬
‫مع ترك الشرك‪ ،‬فهذا هو املطلوب‪ ،‬وهو الذي نقول‪ ،‬وهو الذي أكثرم النكري‬
‫فيه‪ ،‬وزعمتم أنه ال خيرج إالَّ من خراسان‪ ،‬وهذا القول‪ ،‬كما يف أمثال العامة‪ :‬ال‬
‫وجه مسح‪ ،‬وال بنت رجال‪ ،‬ال أقول صواب‪ ،‬بل خطأ ظاهر‪ ،‬وسب لدين اهلل‬
‫بعضا‪ ،‬ال يصدر إالَّ ممن هو أجهل الناس‪.‬‬ ‫أيضا‪ :‬متناقض‪ ،‬يكذب بعضه ً‬
‫وهو ً‬
‫وأما دعواه‪ :‬أن الصحابة ل يطلبوا من األعاجم‪ ،‬إالَّ جمرد هذه الكلمة‪ ،‬ول‬
‫يعرفوهم مبعناها‪ ،‬فهذا قول من ال يفرق بني دين املرسلني‪ ،‬ودين املنافقني‪ ،‬الذين‬
‫هم يف الدرك األسفل من النار‪ ،‬فإن املؤمنني يقولوهنا‪ ،‬واملنافقني يقولوهنا‪ ،‬لكن‬
‫املؤمنني يقولوهنا‪ ،‬مع معرفة قلوهبم مبعناها‪ ،‬وعمل جوارحهم مبقتضاها‪ ،‬واملنافقون‬
‫يقولوهنا من غري فهم ملعناها‪ ،‬وال عمل مبقتضاها‪ ،‬فمن أعظم املصائب‪ ،‬وأكرب‬
‫(‪)1‬‬
‫اجلهل من ال يعرف الفرق‪ ،‬بني الصحابة واملنافقني» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ‪ -‬رحمهما اهلل تعالى‪:-‬‬
‫«وجمرد التلفظ مـن غري التزام ملا دلت عليه كلمة الشهادة‪ ،‬ال جيدي‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)44 – 46/2( :‬‬

‫‪-339-‬‬
‫شيئًا‪ ،‬واملنافقون يقولوهنا‪ ،‬وهم يف الدرك األسفل من النار‪ ،‬نعم إذا قاهلا‬
‫املشرك ول يتبني منه ما خيالفها‪ ،‬فهو ممن يكف عنه مبجرد القول‪ ،‬وحيكم‬
‫بإسالمه‪.‬‬
‫وأما إذا تبني منه وتكرر‪ ،‬عدم التزام ما دلت عليه‪ ،‬من اإلميان باهلل‬
‫وتوحيده‪ ،‬والكفر مبا يعبد من دونه‪ ،‬فهذا ال حيكم له باإلسالم‪ ،‬وال كرامة له‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ونصوص الكتاب والسنة‪ ،‬وإمجا األمة يدل على هذا» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫وقرر بعضهم أن الشرك إذا وقع مع اْلطأ والتأويل فهو مغفور لصاحبه‪،‬‬ ‫* َّ‬
‫األخوة اإلميانية‪ ،‬لعدم إخالله حبقوقها‪:‬‬ ‫وجيب على املسلمني أن ينظموه يف سبيل َّ‬
‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫مث إن اجلاهل املرتاب‪ ،‬قال يف أوراقه قوالً‪ ،‬قد تقدم اجلواب عنه‪ ،‬وال بد من‬
‫اإلميَ ِ‬
‫ين َسبَـقونَا بِ ِْ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان﴾‬ ‫ذكره‪ ،‬قال‪ :‬فإذا قال املسلم‪َ ﴿ :‬ربَّـنَا ا ْغف ْر لَنَا َوِِإل ْخ َوانَنا الذ َ‬
‫[احلشر‪.]95 :‬‬
‫يقصد من سبقه من قرون األمة باإلميان‪ ،‬وإن كان قد أخطأ يف تأويل‬
‫كفرا‪ ،‬أو فعله‪ ،‬وهو ال يعلم أنه يضاد الشهادتني‪ ،‬فإنه من إخوانه‬ ‫تأوله‪ ،‬أو قال ً‬‫َّ‬
‫الذين سبقوه باإلميان‪.‬‬
‫فأقول‪ :‬انظر إىل هذا التهافت والتخليط‪ ،‬والتناقض‪ ،‬وال ريب أن الكفر‬
‫ينايف اإلميان‪ ،‬ويبطله‪ ،‬وحيبط األعمال بالكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬وإمجا املسلمني‪ ،‬قال‬
‫اآلخرةِ ِمن ْ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ان فَـ َق ْد َحبِ َ‬ ‫اهلل تعاىل‪﴿ :‬ومن يكْفر بِا ِإلميَ ِ‬
‫ين﴾‬‫اْلَاس ِر َ‬ ‫ط َع َمله َوه َو يف َ َ‬ ‫ََ َ ْ‬
‫[املائدة‪.]6 :‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)244 – 243/92( :‬‬

‫‪-332-‬‬
‫ويقال‪ :‬وكل كافر قد أخطأ‪ ،‬واملشركون ال بد هلم من تأويالت‪ ،‬ويعتقدون‬
‫أن شركهم بالصاحلني‪ ،‬تعظيم هلم‪ ،‬ينفعهم ويدفع عنهم‪ ،‬فلم يعذروا بذلك‬
‫ين َّاختَذوا ِمن دونِِه أ َْولِيَاء َما‬ ‫َّ ِ‬
‫اْلطأ‪ ،‬وال بذلك التأويل‪ ،‬بل قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫نَـ ْعبده ْم إَِّال لِيـ َقِّربونَا إِ َىل اللَّ ِه زلْ َفى إِ َّن اللَّهَ َْحيكم بَـْيـنَـه ْم ِيف َما ه ْم فِ ِيه َخيْتَلِفو َن إِ َّن‬
‫اللَّهَ َال يَـ ْه ِدي َم ْن ه َو َك ِاذب َكفَّار﴾ [الزمر‪.]3 :‬‬
‫ون اللي ِه َوَْحي َسبو َن أَنـَّهم‬ ‫اطني أَولِياء ِمن د ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬إنـَّهم اختَذوا الشَّيَ َ ْ َ‬
‫َخ َس ِر َ‬
‫ين أ َْع َماًال‬ ‫ُّم ْهتَدو َن﴾ [األعراف‪ ،]35 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ق ْل َه ْل نـنَبِّئك ْم بِ ْاأل ْ‬
‫احلَيَاةِ ُّ‬ ‫َّ ِ‬
‫ك‬ ‫الدنْـيَا َوه ْم َْحي َسبو َن أَنـَّه ْم ْحي ِسنو َن صْنـ ًعا * أولَئِ َ‬ ‫ض َّل َس ْعيـه ْم ِيف ْ‬ ‫ين َ‬ ‫* الذ َ‬
‫ت أ َْع َماهل ْم فَ َال ن ِقيم َهل ْم يَـ ْوَم الْ ِقيَ َام ِة َوْزنًا﴾‬ ‫ِ ِ ِ ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َك َفروا بِآيَات َرِّهب ْم َول َقائه فَ َحبِطَ ْ‬ ‫الذ َ‬
‫[الكهف‪.]956 – 953 :‬‬
‫فأين ذهب عقل هذا عن هذه اآليات‪ ،‬وأمثاهلا من اآليات احملكمات؟!‪،‬‬
‫والعلماء رمحهم اهلل تعاىل سلكوا منهج االستقامة‪ ،‬وذكروا باب حكم املرتد‪ ،‬ول‬
‫كفرا‪ ،‬وهو ال يعلم أنه يضاد‬ ‫كفرا‪ ،‬أو فعل ً‬ ‫يقل أحد منهم‪ :‬أنه إذا قال ً‬
‫الشهادتني‪ ،‬أنه ال يكفر جلهله‪.‬‬
‫وقد َّبني اهلل يف كتابه‪ :‬أن بعض املشركني جهال مقلِّدون فلم يدفع عنهم‬
‫َّاس َمن جيَ ِادل ِيف اللَّ ِه‬ ‫عقاب اهلل جبهلهم وتقليدهم‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وِم َن الن ِ‬
‫اب‬‫بِغَ ِْري ِعْلم ويـتَّبِع ك َّل َشْيطَان َّم ِريد﴾ [احلج‪ ،]3 :‬إىل قوله‪﴿ :‬إِ َىل َع َذ ِ‬
‫ََ‬
‫السعِ ِري﴾ [احلج‪.]4 :‬‬ ‫َّ‬
‫َّاس َمن جيَ ِادل‬ ‫مث ذكر الصنف الثاي‪ :‬وهم املبتدعون‪ ،‬بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وِم َن الن ِ‬
‫ِيف اللَّ ِه بِغَ ِْري ِعْلم َوَال ه ًدى َوَال كِتَاب ُّمنِري﴾ [احلج‪ ،]1 :‬فسلبهم العلم واهلدى‪،‬‬
‫اغرت هبم األكثرون‪ ،‬ملا عندهم من الشبهات واْلياالت‪ ،‬فضلُّوا‬ ‫ومع ذلك فقد َّ‬
‫وأضلوا‪ ،‬كما قال تعاىل يف آخر السورة‪َ ﴿ :‬ويَـ ْعبدو َن ِمن‬

‫‪-333-‬‬
‫ني ِمن‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫س َهلم بِه عْلم َوَما للظَّالم َ‬
‫دون الله َما َلْ يـنَـِّزْل به سْلطَانًا َوَما لَْي َ‬
‫صري﴾ [احلج‪ ،]49 :‬وتقرير هذا املقام‪ ،‬قد سلف يف كالم العالمة ابن القيم‪،‬‬ ‫نَّ ِ‬
‫(‪)1‬‬
‫وكالم شيخ اإلسالم» ‪.‬‬
‫ولقد نص أعضاء لجنة الفتوى الدائمة على أن‪:‬‬
‫«املخطئ املعذور‪ :‬من أخطأ يف املسائل النظرية االجتهادية‪ ،‬ال من أخطأ‬
‫فيما ثبت بن صريح‪ ،‬وال فيما هو معلوم من الدين بالضرورة‪.‬‬
‫وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم‪.‬‬
‫اللجنة العلمية للبحوث العلمية واإلفتاء‬
‫الرئيس‬ ‫نائب رئيس اللجنة‬
‫(‪)2‬‬
‫عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز»‬ ‫عبد الرزاق عفيفي‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫* وعلَّل بعض علماء املشركني باستحالة وقو الشرك ‪ -‬ال سيما بني أهل‬
‫اجلزيرة العربية ‪ -‬بقول النيب ‪« :‬إن الشيطان قد يئس أن يعبده املصلون يف‬
‫جزيرة العرب»‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين رمحه اهلل تعاىل يف بيان هذا‬
‫االشتباه ‪ -‬يف أثناء تصديه لبعض اجملادلني عن املشركني‪:-‬‬
‫وأما قوله ‪« :‬إن الشيطان قد يئس أن يعبده املصلون يف جزيرة العرب»‬
‫فقد حيتج هبذا احلديث من زعم أن هذه األمور الشركية اليت تفعل عند القبور‪،‬‬
‫ومع اجلن مثل سؤاهلم قضاء احلاجات‪ ،‬وتفريج الكربات‪ ،‬واالستعاذة هبم‪،‬‬
‫والتقرب إليهم بالذبح هلم والنذر هلم‪ ،‬وغري ذلك من أنوا‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)441 ،441/99( :‬‬


‫(‪« )2‬فتاوى اللجنة الدائمة»‪.)31/2( :‬‬

‫‪-334-‬‬
‫العبادة‪ ،‬ليست عبادة هلم وال شرًكا‪.‬‬
‫فيقال أوالًك إن النيب ‪ ‬نسب اإلياس إىل الشيطان‪ ،‬ول يقل‪ :‬إن اهلل آيسه‪،‬‬
‫فاإلياس الصائر من الشيطان ال يلزم حتقيقه واستمراره‪ ،‬ولكن عدو اهلل ملا رأى ما‬
‫ساءه من ظهور اإلسالم يف جزيرة العرب وعلوه‪ ،‬يئس من ترك املسلمني دينهم‬
‫الذي أكرمهم اهلل به‪ ،‬ورجوعهم إىل الشرك األكرب‪ ،‬وهذا كما أخرب اهلل سبحانه‬
‫ين َك َفرواْ ِمن ِدينِك ْم﴾ [املائدة‪.]3 :‬‬ ‫عن الكفار‪ ،‬يف قوله‪﴿ :‬الْيـوم يئِ َّ ِ‬
‫س الذ َ‬ ‫ََْ َ َ‬
‫قال املفسرون‪ :‬ملا رأى الكفار ظهور اإلسالم يف أرض العرب وَتكنه فيها‪،‬‬
‫يئسوا من رجو املسلمني عن اإلسالم إىل الكفر‪ ،‬قال ابن عباس وغريه من‬
‫املفسرين‪ :‬يئسوا أن ا دينهم‪ ،‬قال ابن كثري‪ :‬وعلى هذا يرد احلديث الثابت يف‬
‫الصحيح أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬إن الشيطان قد يئس أن يعبده املصلون يف‬
‫جزيرة العرب‪ ،‬ولكن يف التحريش بينهم»‪ ،‬يعى‪ :‬أن إياس الشيطان مثل إياس‬
‫الكفار‪ ،‬وأن الكل يئس من ارتداد املسلمني وتركهم دينهم‪ ،‬وال يلزم من ذلك‬
‫امتنا وجود الكفر يف أرض العرب‪.‬‬
‫(األدلة على وقوع الكفر في جزيرة العرب)‬
‫وهلذا قال ابن رجب على احلديث‪ :‬يئس أن جتتمع األمة على الشرك‬
‫األكرب‪ ،‬يوضح ذلك ما حصل من ارتداد أكثر أهل اجلزيرة بعد موت النيب ‪،‬‬
‫وقتال الصديق والصحابة هلم على اختالف تنوعهم يف الردة‪ ،‬قال أبو هريرة‪ :‬ملا‬
‫مات النيب ‪ ‬وكفر من كفر من العرب‪ ،‬وردة بن حنيفة مشهورة‪.‬‬
‫وقول النيب ‪« :‬إن الشيطان قد يئس أن يعبده املصلون»‪ ،‬معناه‪ :‬أنه يئس‬
‫أن يطيعه املصلون يف الكفر جبميع أنواعه‪ ،‬ألن طاعته يف ذلك هي‬
‫آد َم أَن َّال تَـ ْعبدوا الشَّْيطَا َن إِنَّه لَك ْم َعدو‬
‫عبادته‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬أَ َلْ أ َْع َه ْد إِلَْيك ْم يَا بَِن َ‬

‫‪-336-‬‬
‫ُّمبِني﴾ [يس‪.]55 :‬‬
‫ومن استدل باحلديث على امتنا وجود كفر يف جزيرة العرب‪ ،‬فهو ضال‬
‫مضل‪ ،‬فماذا يقول هذا الضال يف الذين قاتلهم الصديق ‪ ‬والصحابة من‬
‫كفارا؟! فالزم دعوى هذا الضال‪ :‬أنه ل يكفر أحد من‬‫العرب‪ ،‬ومسُّوهم‪ :‬مرتدين ً‬
‫العرب بعد موته ‪ ،‬وأن الصحابة أخطؤوا يف قتاهلم‪ ،‬واحلكم عليهم بالردة‪.‬‬
‫وقد ثبت يف احلديث الصحيح‪ ،‬عن النيب ‪ ‬أنه قال‪« :‬ال تقوم الساعة حىت‬
‫تعبد الالت والعزى» ومكاهنما معلوم‪ ،‬وقال ‪« :‬ال تقوم الساعة حىت تضطرب‬
‫أليات نساء دوس عند ذي اْللصة» وهو صنم لدوس رهط أيب هريرة‪ ،‬بعث‬
‫رسول اهلل ‪ ‬جرير بن عبد اهلل البجلي وهدمه‪ ،‬ويف احلديث الصحيح من خرب‬
‫الدجال‪ :‬أنه ال يدخل املدينة‪ ،‬بل ينزل بالسبخة‪ ،‬فرتجف املدينة ثالث رجفات‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫كفارا ومنافقني» ‪.‬‬
‫فيخرج منها كل كافر ومنافق‪ ،‬فأخرب أن يف املدينة إذ ذاك ً‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫يدا هبما‬
‫آخرا‪ ،‬ن مجهورهم على أن من نطق بالشهادتني‪ ،‬مر ً‬‫أخريا ال ً‬
‫*و ً‬
‫اإلسالم‪ .‬قد جيوز تكفريه حبال‪:‬‬
‫ورد على الشيخ عبد اهلل بن حممد بن عبد الوهاب ‪ -‬رمحهم اهلل تعاىل ‪-‬‬
‫سؤال جاء فيه‪ :‬ما حكم من يقول‪ :‬إن من تكلم بالشهادتني ل جيز تكفريه؟‬
‫فأجاب رمحه اهلل بقوله‪« :‬وأما قول‪ ،‬من يقول‪ :‬إن من تكلَّم بالشهادتني ما‬
‫جيوز تكفريه‪ ،‬وقائل هذا القول ال بد أن يتناقض‪ ،‬وال ميكنه طرد قوله يف‬

‫أيضا رسالة قيمة للشيخ أيب بطني‬


‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪ ،)933 – 939/92( :‬ويراجع يف هذا املعى ً‬
‫يف الدرر السنية‪.)991 – 993/92( :‬‬

‫‪-335-‬‬
‫مثل‪ :‬من أنكر البعث‪ ،‬أو شك فيه مع إتيانه بالشهادتني‪ ،‬أو أنكر نبوة‬
‫أحد من األنبياء الذين مساهم اهلل يف كتابه‪ ،‬أو قال‪ :‬الزنا حالل‪ ،‬أو حنو ذلك‪،‬‬
‫فال أظن يتوقف يف كفر هؤالء وأمثاهلم‪ ،‬إالَّ من يكابر ويعاند‪.‬‬
‫فإن كابر وعاند وقال‪ :‬ال يضر شيء من ذلك‪ ،‬وال يكفر به من أتى‬
‫بالشهادتني وصلَّى وصام‪ ،‬ال جيوز تكفريه‪ ،‬وإن عبد غري اهلل فهو كافر‪ ،‬ومن‬
‫شك يف كفره فهو كافر‪ ،‬ألن قائل هذا القول مكذب هلل ورسوله وإمجا‬
‫املسلمني كما قدمنا‪ ،‬ونصوص الكتاب والسنة يف ذلك كثرية‪ ،‬مع اإلمجا‬
‫القطعي‪ ،‬الذي ال يسرتيب فيه من له أدىن نظر يف كالم العلماء‪ ،‬لكن التقليد‬
‫واهلوى يعمي ويصم ﴿ َوَمن َّلْ َْجي َع ِل اللَّه لَه ن ًورا فَ َما لَه ِمن نُّور﴾‬
‫(‪)1‬‬
‫[النور‪. »]45 :‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪" )1‬الدرر السنية" (‪.)269 ،265/95‬‬

‫‪-334-‬‬
-331-
‫الفصل السابع‬
‫األدلة الجلية من الشريعة الربانية‬
‫على كفر من عبد غير اهلل تعالى‬

‫وفيه مبحثان‪:‬‬

‫املبحث األول ‪ :‬داللة الكتاب والسنة واإلمجا ‪ ،‬بفهم األئمة العلماء‪ ،‬على‬
‫كفر من عبد غري اهلل‪ ،‬وإن صلَّى وصام‪ ،‬وزعم أنه مسلم‬
‫حرام الدم واملال‪.‬‬
‫املبحث الثاي ‪ :‬فعل اإلنسان يف الظاهر دليل على عقيدته يف الباطن‪ ،‬ومن‬
‫مثي كانت األقوال واألعمال واألفعال دالئل منضبطة على‬
‫وجود الكفر واإلميان‪ ،‬وهبا تتكيَّف األحكام سلبًا وإجيابًا‪.‬‬

‫‪-331-‬‬
-345-
‫المبحث األول‬
‫دللة الكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬واإلجماع‪ ،‬بفهم األئمة العلماء‪،‬‬
‫على كفر من عبد غير اهلل‪ ،‬وإن صلى وصام‪،‬‬
‫وزعم أنه مسلم حرام الدم والمال‬
‫قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫«فاعلم أن العلماء أمجعوا‪ :‬على أن من صرف شيئًا من نوعي الدعاء لغري‬
‫اهلل‪ ،‬فهو مشرك‪ ،‬ولو قال‪ :‬ال إله إالَّ اهلل حممد رسول اهلل‪ ،‬وصلى‪ ،‬وصام‪ ،‬إذ‬
‫شرط اإلسالم مع التلفظ بالشهادتني أن ال يعبد إالَّ اهلل‪ ،‬فمن أتى بالشهادتني‬
‫وعبد غري اهلل فما أتى هبما حقيقة‪ ،‬وإن تلفظ هبما كاليهود الذين يقولون‪ :‬ال‬
‫إله إالَّ اهلل وهم مشركون‪ ،‬وجمرد التلفظ هبما ال يكفي يف اإلسالم بدون العمل‬
‫إمجاعا‪.‬‬
‫مبعنامها واعتقاده ً‬
‫ذكر شيء من كالم العلماء يف ذلك‪ ،‬وإن كنا غنيني بكتاب ربنا وسنة‬
‫نبينا ‪ ‬عن كل كالم‪ ،‬إالَّ أنه قد صار بعض أناس منتسبًا إىل طائفة معينة‪ ،‬فلو‬
‫أتيته بكل آية من كتاب اهلل وكل سنة عن رسول اهلل ‪ ‬ل يقبل حىت تأتيه‬
‫بشيء من كالم العلماء‪ ،‬أو بشيء من كالم طائفته اليت ينتسب إليها‪.‬‬
‫قال اإلمام أبو الوفاء علي بن عقيل احلنبلي صاحب كتاب «الفنون» الذي‬
‫ألَّفه يف حنو أربعمائة جملد‪ ،‬وغريه من التصانيف‪ .‬قال يف الكتاب املذكور‪ :‬ملا‬
‫اجلهال والطغام‪ ،‬عدلوا عن أوضا الشر إىل تعظيم‬ ‫صعبت التكاليف على َّ‬
‫أوضا وضعوها ألنفسهم‪ ،‬فسهلت عليهم إذ ل يدخلوا هبا حتت أمر غريهم‪،‬‬
‫وهم عندي كفار هلذه األوضا ‪ ،‬مثل تعظيم القبور‪ ،‬وخطاب املوتى باحلوائج‪،‬‬
‫وكتب الرقا فيها‪ :‬يا موالي افعل يب كذا وكذا‪،‬‬

‫‪-349-‬‬
‫أو إلقاء اْلرق على الشجر اقتداء مبن عبد الالَّت والعَّزى‪ .‬نقله غري واحد‪،‬‬
‫مقررين له‪ ،‬راضني به‪ ،‬منهم اإلمام أبو الفرج بن اجلوزي‪ ،‬واإلمام ابن مفلح‬
‫صاحب كتاب «الفرو » وغريمها‪.‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم يف «الرسالة السنية»‪ :‬فإذا كان على عهد النيب ‪ ‬من‬
‫انتسب إىل اإلسالم من مرق منه مع عبادته العظيمة‪ ،‬فليعلم أن املنتسب إىل‬
‫أيضا من اإلسالم وذلك بأسباب‪:‬‬ ‫أيضا قد ميرق ً‬ ‫اإلسالم والسنة يف هذه األزمان ً‬
‫منها‪ :‬الغلو الذي ذمه اهلل يف كتابه حيث قال‪﴿ :‬يا أ َْهل الْ ِكتَ ِ‬
‫اب الَ تَـ ْغلواْ‬ ‫َ َ‬
‫ِيف ِدينِك ْم﴾ [النساء‪ .]949 :‬وكذلك الغلو يف بعض املشايخ‪ ،‬بل الغلو يف‬
‫علي بن أيب طالب ‪ ‬بل الغلو يف املسيح ‪ ،‬فكل من غال يف نيب أو رجل‬
‫نوعا من اإلهلية‪ ،‬مثل أن يقول‪ :‬يا سيدي فالن انصري‪ ،‬أو‬ ‫صاحل وجعل فيه ً‬
‫أغثن‪ ،‬أو ارزقن‪ ،‬أو اجربي‪ ،‬أو أنا يف حسبك‪ ،‬وحنو هذه األقوال‪ ،‬فكل هذا‬
‫شرك وضالل‪ ،‬يستتاب صاحبه‪ ،‬فإن تاب وإالَّ قتل‪ ،‬فإن اهلل إمنا أرسل الرسل‬
‫وأنزل الكتب ليعبد وحده‪ ،‬وال يدعى معه إله آخر‪ ،‬والذين يدعون مع اهلل آهلة‬
‫أخرى‪ ،‬مثل املسيح‪ ،‬واملالئكة‪ ،‬واألصنام‪ ،‬ل يكونوا يعتقدون أهنا ختلق اْلالئق‬
‫أو تنزل املطر‪ ،‬أو تنبت النبات‪ ،‬وإمنا كانوا يعبدوهنم أو يعبدون قبورهم‪ ،‬أو‬
‫يعبدون صورهم‪ ،‬يقولون‪َ ﴿ :‬ما نَـ ْعبده ْم إَِّال لِيـ َقِّربونَا إِ َىل اللَّ ِه زلْ َفى﴾ [الزمر‪،]3 :‬‬
‫ويقولون‪َ ﴿ :‬هـؤالء ش َف َعاؤنَا ِعن َد اللي ِه﴾ [يونس‪ ،]91 :‬فبعث اهلل رسله تنهى أن‬
‫يدعى أحد من دونه ال دعاء عبادة‪ ،‬وال دعاء استغاثة‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وقد ن احلافظ أبو بكر أمحد بن علي املقريزي صاحب كتاب «اْلطط»‬
‫يف كتاب له يف التوحيد على أن دعاء غري اهلل شرك‪.‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم‪ :‬من جعل بينه وبني اهلل وسائط يتوكل عليهم‬

‫‪-342-‬‬
‫إمجاعا‪ ،‬نقله عنه غري واحد مقررين له‪ ،‬منهم‪ :‬ابن‬
‫يدعوهم ويسأهلم‪ ،‬كفر ً‬
‫مفلح يف «الفرو »‪ ،‬وصاحب «اإلنصاف»‪ ،‬وصاحب «الغاية»‪ ،‬وصاحب‬
‫«اإلقنا » وشارحه وغريهم‪ ،‬ونقله صاحب «القواطع» يف كتابه عن صاحب‬
‫«الفرو »‪ .‬قلت‪ :‬وهو إمجا صحيح معلوم بالضرورة من الدين‪ ،‬وقد ن‬
‫العلماء من أهل املذاهب األربعة‪ ،‬وغريهم يف باب حكم املرتد‪ ،‬على أن من‬
‫أشرك باهلل فهو كافر‪ ،‬أي‪ :‬عبد مع اهلل غريه بنو من أنوا العبادات‪ .‬وقد ثبت‬
‫(‪)1‬‬
‫بالكتاب والسنة واإلمجا أن دعاء اهلل عبادة له‪ ،‬فيكون صرفه لغري اهلل شرًكا»‬
‫‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين‪:‬‬
‫«قال القاضي عياض يف كتابه الشفاء‪« :‬فصل يف بيان ما هو من املقاالت‬
‫البني يف هذا أن كل مقالة صرحت بنفي الربوبية‪،‬‬ ‫كفر» إىل أن قال‪ :‬والفصل ِّ‬
‫أو الوحدانية‪ ،‬أو عبادة غري اهلل‪ ،‬أو مع اهلل فهي كفر‪ ،‬إىل أن قال‪ :‬والذين‬
‫أشركوا بعبادة األوثان‪ ،‬أو أحد املالئكة‪ ،‬أو الشياطني‪ ،‬أو الشمس‪ ،‬أو النجوم‪،‬‬
‫أو النار‪ ،‬أو أحد غري اهلل من مشركي العرب‪ ،‬أو أهل اهلند‪ ،‬أو السودان‪ ،‬أو‬
‫مدبرا فذلك كله كفر‬ ‫صانعا سوى اهلل أو ً‬
‫غريهم‪ ،‬إىل أن قال‪ :‬أو أن مثي للعال ً‬
‫بإمجا املسلمني‪.‬‬
‫فانظر حكاية إمجا املسلمني على كفر من عبد غري اهلل من املالئكة‬
‫وغريهم‪ ،‬وهذا ظاهر وهلل احلمد»‪.‬‬
‫أيضا رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫وقال ا‬
‫«قال رمحه اهلل تعاىل‪ :‬وأما ما سألت عنه من أنه هل جيوز تعيني إنسان بعينه‬
‫بالكفر إذا ارتكب شيئًا من املكفرات؟‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪.)964 – 966/ ( :‬‬

‫‪-343-‬‬
‫فاألمر الذي دل الكتاب والسنة وإمجا العلماء عليه أنه كفر‪ ،‬مثل الشرك‬
‫بعبادة غري اهلل سبحانه‪ ،‬فمن ارتكب شيئًا من هذا النو ‪ ،‬أو حسنه فهذا ال‬
‫شك يف كفره‪ ،‬وال بأس مبن حتققت منه شيئًا من ذلك أن تقول كفر فالن هبذا‬
‫الفعل‪.‬‬
‫يبني هذا أن الفقهاء يذكرون يف باب حكم املرتد أشياء كثرية يصري هبا‬
‫كافرا‪ ،‬ويستفتحون هذا الباب بقوهلم‪ :‬من أشرك باهلل كفر وحكمه‬ ‫تدا ً‬
‫املسلم مر ً‬
‫أن يستتاب فإن تاب وإالَّ قتل‪ ،‬واالستتابة إمنا تكون مع معني‪ ،‬وملا قال بعض‬
‫أهل البد عند الشافعي‪ :‬أن القرآن خملوق قال‪ :‬كفرت باهلل العظيم‪ .‬وكالم‬
‫املعني كثري‪.‬‬
‫العلماء يف تكفري َّ‬
‫وأعظم أنوا الكفر الشرك بعبادة غري اهلل‪ ،‬وهو كفر بإمجا املسلمني‪ ،‬وال‬
‫مانع من تكفري من اتصف بذلك‪ ،‬كما أن من زىن قيل فالن زان‪ ،‬ومن راىب قيل‬
‫فالن مراب واهلل أعلم‪( .‬منقولة حرفًا حبرف‪ ،‬وصلَّى اهلل على حممد وصحبه‬
‫(‪)1‬‬
‫وسلم)» ‪.‬‬
‫وسئلت اللجنة الدائمة‪« :‬السؤال األول من الفتوى رقم ‪:»0441‬‬
‫س‪ :‬إذا كان إنسان إمام مسجد ويستغيث بالقبور ويقول‪ :‬هذه قبور ناس‬
‫أولياء‪ ،‬ونستغيث هبم من أجل الواسطة بيننا وبني اهلل‪ ،‬هل جيوز يل أن أصلي‬
‫كثريا يف هذا‬ ‫خلفه وأنا إنسان أدعو إىل التوحيد‪ ،‬وأرجو منكم توضحوا يل ً‬
‫مواضيع النذر واالستغاثة والتوسل‪.‬‬
‫جـ‪ :‬من ثبت لديك أنه يستغيث بأصحاب القبور‪ ،‬أو ينذر هلم‪ ،‬فال يصح‬
‫أن تصلي خلفه ألنه مشرك‪ ،‬واملشرك ال تصح إمامته‪ ،‬وال صالته‪ ،‬وال جيوز‬
‫للمسلم أن يصلي خلفه‪ ،‬لقول اهلل سبحانه‪َ ﴿ :‬ولَْو أَ ْشَركواْ َحلَبِ َ‬
‫ط َعْنـهم َّما َكانواْ‬
‫ين ِم ْن‬ ‫وحي إِلَي ِ َّ ِ‬
‫يَـ ْع َملو َن﴾ [األنعام‪ ،]11 :‬وقوله عز وجل‪َ ﴿ :‬ولََق ْد أ ِ َ ْ َ‬
‫ك َوإ َىل الذ َ‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪.)623/6( :‬‬

‫‪-344-‬‬
‫ين * بَ ِل اللَّهَ فَ ْ‬ ‫ك ولَتكونَ َّن ِمن ْ ِ‬ ‫قَـبلِ َ ِ‬
‫اعب ْد َوكن‬ ‫اْلَاس ِر َ‬ ‫َ‬ ‫ت لَيَ ْحبَطَ َّن َع َمل َ َ َ‬
‫ك لَئ ْن أَ ْشَرْك َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫ين﴾ [الزمر‪.]55 ،56 :‬‬ ‫ِّم ْن الشَّاك ِر َ‬
‫وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم‪.‬‬
‫اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‬
‫الرئيس‬ ‫نائب رئيس اللجنة‬ ‫عضو‬
‫(‪)1‬‬
‫عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز»‬ ‫عبد الرزاق عفيفي‬ ‫عبد اهلل بن غديان‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬فتاوى اللجنة الدائمة»‪.)53/9( :‬‬

‫‪-346-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫فعل اإلنسان في الظاهر دليل على عقيدته في الباطن‪،‬‬
‫ومن ثم كانت األقوال واألعمال واألفعال دلئل منضبطة‬
‫سلبا وإيجاباا‬
‫على وجود الكفر واإليمان‪ ،‬وبها تتكيف األحكام ا‬

‫قال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن الجبرين حفظه اهلل تعالى‪:‬‬
‫شخصا وقف عند‬
‫ً‬ ‫«فنحن نستدل بفعل اإلنسان على عقيدته‪ ،‬فمىت رأينا‬
‫قرب إنسان معظَّم يف نفسه‪ ،‬وخضع برأسه‪ ،‬وتذلل‪ ،‬وأهطع‪ ،‬وأقنع‪ ،‬وخشع‪،‬‬
‫وخفض صوته‪ ،‬وسكنت جوارحه‪ ،‬وأحضر قلبه ولبه أعظم مما يفعل يف الصالة‬
‫بني يدي ربه عز وجل‪ ،‬وهتف باسم ذلك املقبور‪ ،‬وناداه نداء من وثق منه‬
‫بالعطاء‪ ،‬وعلق عليه الرجاء وحنو ذلك‪ ،‬فإنا ال نشك أنه واحلالة هذه يعتقد أن‬
‫يعطيه سؤله‪ ،‬ويدفع عنه السوء‪ ،‬وأنه يستطيع التصرف يف أمر اهلل‪.‬‬
‫ففعله هذا دليل سوء معتقده‪ ،‬فال حاجة لنا أن نسأله‪ :‬هل أنت تعتقد أنه‬
‫يضر وينفع من غري إذن اهلل؟‬
‫فاهلل تعاىل ما كلفنا أن ننقب عن قلوب الناس‪ ،‬وإمنا نأخذهم مبوجب‬
‫أفعاهلم وأقواهلم الظاهرة‪ ،‬وهذا الشخ قد خالف قول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬والَ تَ ْد ِمن‬
‫ِِ‬ ‫ون اللي ِه َما الَ يَ َنفع َ‬
‫د ِ‬
‫ني﴾ [يونس‪:‬‬ ‫ك إِذًا ِّم َن الظَّالم َ‬
‫ت فَِإنَّ َ‬
‫ك َوالَ يَضُّرَك فَِإن فَـ َعْل َ‬
‫‪.]955‬‬
‫وقد رأينا خشوعه وتذللـه أمام هذا املخلوق امليت‪ ،‬وذلك هو عني العبادة‬
‫كما عرفنا‪ ،‬فنحكم عليه مبوجب فعله وقوله‪ ،‬بأنه قد أشرك باهلل وتأله سواه‪.‬‬
‫فإن اإلله‪ :‬هو الذي تأهله القلوب وتعظمه‪ ،‬وحتبه وترج ـوه‪ ،‬وختافه‬

‫‪-345-‬‬
‫وتعامله مبا ال يصلح إالَّ هلل‪ ،‬ولو ل يسمه الفاعل إهلًا‪ ،‬ولو ل يسم فعله‬
‫وتعبدا‪ ،‬فإن العربة باحلقائق وما يف نفس األمر خبالف األمساء‪.‬‬
‫تأهلًا ً‬
‫فأهل هذا الزمان‪ :‬ملا جهلوا حقيقة العبادة والتأله والدعاء وحنوه ‪ -‬الذي هو‬
‫من حق اهلل ‪ -‬ول يعرفوا معانيها وأصل وضعها صرفوها لغري اهلل‪ ،‬ومسوا‪ :‬ذلك‬
‫وتربًكا واحرت ًاما‪ ،‬وهو عني عبادة ذلك املخلوق‪ ،‬وعني الشرك‪،‬‬
‫استشفاعا ُّ‬
‫ً‬ ‫توسالً و‬
‫ُّ‬
‫(‪)1‬‬
‫توعد اهلل عليه بالنار‪ ،‬وحرمان اجلنة» ‪.‬‬‫الذي َّ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الكنز الثمني»‪.)212 ،219/9( :‬‬

‫‪-344-‬‬
-341-
‫الفصل الثامن‬
‫علة قتال المشركين‪ ،‬ووجوب البراءة منهم‪،‬‬
‫وحكم الدار إذا غلبت عليها أحكام الشرك‬

‫وفيه أربعة مباحث‪:‬‬

‫املبحث األول ‪ :‬اآلثار الوخيمة النامجة عن اْلروج على أصل الوالء والرباء‪.‬‬
‫املبحث الثاي ‪ :‬اإلمجا على حرمة التحيز للمشركني‪ ،‬وجمامعتهم إال ملن‬
‫قدر على إظهار الرباءة منهم ومن شركهم‪.‬‬
‫املبحث الثالث ‪ :‬تعريف دار الشرك‪ ،‬وواجب املسلمني حنوها‪.‬‬
‫املبحث الرابع ‪ :‬وجوب قتال املشركني حىت يكون الدين كله هلل‪.‬‬

‫‪-341-‬‬
-365-
‫المبحث األول‬
‫اآلثار الوخيمة الناجمة‬
‫عن الخروج على أصل الولء والبراء‬

‫أرى ‪ -‬يف هذا املقام ‪ -‬أنه من ضرورة البيان‪ ،‬وكمال البالغ‪ :‬معاودة التذكري‬
‫بواجب مواالة املسلمني والرباءة من املشركني‪ ،‬وعقوبة اْلروج عن هذا األصل‬
‫العظيم‪ ،‬مع بيان آثاره الوخيمة على اإلسالم وأهله‪ ،‬حىت نستطيع أن نضع‬
‫أيدينا على علة وصول األمة إىل احلالة املزرية من اْليبة واْلسار‪ ،‬واالنكسار بني‬
‫يدي األعداء‪ ،‬جراء التفريط يف القيام حبقوق هذا األصل األصيل‪.‬‬
‫قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«وهذا وبعد انتهائنا من هذا البيان املختصر ألصول العقيدة اإلسالمية نشري‬
‫إىل أنه جيب على كل مسلم يدين هبذه العقيدة أن يوايل أهلها ويعادي‬
‫أعداءها‪ ،‬فيحب أهل التوحيد واإلخالص ويواليهم‪ ،‬ويبغض أهل اإلشراك‬
‫ويعاديهم‪.‬‬
‫وذلك من ملة إبراهيم والذين معه‪ ،‬الذي أمرنا باالقتداء هبم‪ ،‬حيث يقول‬
‫ين َم َعه إِ ْذ قَالوا‬ ‫سبحانه وتعاىل‪﴿ :‬قَ ْد َكانَت لَكم أسوة حسنة ِيف إِبـر ِاه َّ ِ‬
‫يم َوالذ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ْ ْ ْ َ َ ََ‬
‫ِ‬ ‫لَِقوِم ِهم إِنَّا بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ‬
‫ون اللَّه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا بَـْيـنَـنَا َوبَـْيـنَكم‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫ْ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤمنوا بِاللَّه َو ْح َده﴾ [املمتحنة‪.]4 :‬‬ ‫الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ود‬
‫ين َآمنواْ الَ تَـتَّخذواْ الْيَـه َ‬ ‫وهو من دين حممد ‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬يَا أَيـُّ َها الذ َ‬
‫َّص َارى أ َْولِيَاء بَـ ْعضه ْم أ َْولِيَاء بَـ ْعض َوَمن يَـتَـ َوَّهلم ِّمنك ْم فَِإنَّه ِمْنـه ْم إِ َّن الليهَ الَ‬
‫َوالن َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني﴾ [املائدة‪ ،]69 :‬وهذه يف حترمي مواالة أهل‬ ‫يَـ ْهدي الْ َق ْوَم الظَّالم َ‬

‫‪-369-‬‬
‫ين‬ ‫َّ ِ‬
‫عموما‪﴿ :‬يَا أَيُّـ َها الذ َ‬ ‫خصوصا‪ .‬وقال يف حترمي مواالة الكفار ً‬ ‫ً‬ ‫الكتاب‬
‫َآمنوا َال تَـتَّ ِخذوا َعد ِّوي َو َعد َّوك ْم أ َْولِيَاء﴾ [املمتحنة‪.]9 :‬‬
‫بل لقد حرم اهلل على املؤمنني مواالة الكفار‪ ،‬ولو كانوا من أقرب الناس إليه‬
‫َّخذواْ آبَاءك ْم َوإِ ْخ َوانَك ْم أ َْولِيَاء إَ ِن‬ ‫نسبا‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنواْ الَ تَـت ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ً‬
‫ك هم الظالمو َن﴾ [التوبة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫استَ َحبُّواْ الْك ْفَر َعلَى اإلميَان َوَمن يَـتَـ َوهلم ِّمنك ْم فَأ ْولَـئ َ‬ ‫ْ‬
‫‪ ،]23‬وقال تعاىل‪َ﴿ :‬ال َِجتد قَـ ْوًما يـ ْؤِمنو َن بِاللَّ ِه َوالْيَـ ْوِم ْاآل ِخ ِر يـ َو ُّادو َن َم ْن َح َّاد‬
‫اللَّهَ َوَرسولَه َولَْو َكانوا آبَاءه ْم أ َْو أَبْـنَاءه ْم أ َْو إِ ْخ َوانَـه ْم أ َْو َع ِش َريتَـه ْم﴾ [اجملادلة‪:‬‬
‫‪.]22‬‬
‫وقد جهل كثري من الناس هذا األصل العظيم‪ ،‬حىت لقد مسعت بعض‬
‫املنتسبني إىل العلم والدعوة يف إذاعة عربية يقول عن النصارى‪ :‬إهنم إخواننا! ويا‬
‫هلا من كلمة خطرية!‬
‫وكما أن اهلل سبحانه حرم مواالة الكفار أعداء العقيدة اإلسالمية‪ ،‬فقد‬
‫أوجب سبحانه مواالة املؤمنني وحمبتهم‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬إَِّمنَا َولِيُّكم الليه َوَرسوله‬
‫ِ‬
‫الزَكا َة َوه ْم َراكعو َن * َوَمن يَـتَـ َوَّل الليهَ‬ ‫الصالََة َويـ ْؤتو َن َّ‬‫ين ي ِقيمو َن َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َآمنواْ الذ َ‬
‫َّ ِ‬
‫َوالذ َ‬
‫ب اللي ِه هم الْغَالِبو َن﴾ [املائدة‪ ،]65 ،66 :‬وقال‬ ‫ِ ِ‬
‫ين َآمنواْ فَإ َّن ح ْز َ‬
‫َّ ِ‬
‫َوَرسولَه َوالذ َ‬
‫ين َم َعه أ َِشدَّاء َعلَى الْكفَّا ِر ر َمحَاء بَـْيـنَـه ْم﴾ [الفتح‪:‬‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫تعاىل‪ُّ ﴿ :‬حمَ َّمد َّرسول اللَّه َوالذ َ‬
‫‪ ،]21‬وقال تعاىل‪﴿ :‬إَِّمنَا الْم ْؤِمنو َن إِ ْخ َوة﴾ [احلجرات‪.]95 :‬‬
‫فاملؤمنون إخوة يف الدين والعقيدة‪ ،‬وإن تباعدت أنساهبم وأوطاهنم وأزماهنم‪،‬‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َجاؤوا من بَـ ْعده ْم يَـقولو َن َربَّـنَا ا ْغف ْر لَنَا َوِِإل ْخ َواننَا الذ َ‬
‫ين‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫ك َرؤوف َّرِحيم﴾‬ ‫ِ ًّ ِّ ِ‬ ‫سبـقونَا بِ ِْ ِ‬
‫ين َآمنوا َربَّـنَا إِنَّ َ‬ ‫ِ‬
‫اإلميَان َوَال َْجت َع ْل يف قـلوبِنَا غال للَّذ َ‬ ‫ََ‬
‫[احلشر‪.]95 :‬‬
‫فاملؤمنون من أول اْلليقة إىل آخرها مهما تباعدت أوطاهنم وامتدت أزماهنم‬
‫إخوة متحابون‪ ،‬يقتدي آخـرهم بأوهلم‪ ،‬ويـدعو بعضهم لبعض‪،‬‬

‫‪-362-‬‬
‫ويستغفر بعضهم لبعض‪ .‬وللوالء والرباء مظاهر تدل عليهما‪.‬‬
‫فمن مظاهر مواالة الكفار‪:‬‬
‫‪ -9‬التشبه هبم يف امللبس والكالم وغريمها؛ ألن التشبه هبم يف امللبس‬
‫والكالم وغريمها يدل على حمبة املتشبِّه للمتشبَّه به‪ ،‬وهلذا قال النيب ‪« :‬من‬
‫تشبه بقوم‪ ،‬فهو منهم»‪ ،‬فيحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم ومن‬
‫عاداهتم وعبادهتم ومستهم وأخالقهم‪ ،‬كحلق اللحى‪ ،‬وإطالة الشوارب‪ ،‬والرطانة‬
‫بلغتهم إالَّ عند احلاجة‪ ،‬ويف هيئة اللباس واألكل والشرب وغري ذلك‪.‬‬
‫‪ -2‬اإلقامة يف بالدهم‪ ،‬وعدم االنتقال منها إىل بلد املسلمني ألجل الفرار‬
‫بالدين‪ ،‬ألن اهلجرة هبذا املعى وهلذا الغرض واجبة على املسلم‪ .‬ألن إقامته يف‬
‫بالد الكفر تدل على مواالة الكافرين‪ ،‬ومن هنا حرم اهلل إقامة املسلم بني الكفار‬
‫إذا كان يقدر على اهلجرة‪....‬‬
‫‪ -3‬ومن مظاهر مواالة الكفار السفر إىل بالدهم لغرض النزهة ومتعة‬
‫حمرم إال عند الضرورة‪ ،‬كالعالج‪ ،‬والتجارة‪،‬‬ ‫النفس‪ .‬والسفر إىل بالد الكفار َّ‬
‫والتعلم للتخصصات النافعة‪ ،‬اليت ال ميكن احلصول عليها إالَّ بالسفر إليهم‪،‬‬
‫فيجوز بقدر احلاجة‪ ،‬وإذا انتهت احلاجة‪ ،‬وجب الرجو إىل بالد املسلمني‪،‬‬
‫مبتعدا‬
‫معتزا بإسالمه‪ً ،‬‬ ‫ويشرتط كذلك جلواز هذا السفر أن يكون مظْ ِهًرا لدينه‪ً ،‬‬
‫حذرا من دسائس األعداء ومكائدهم‪ ،‬وكذلك جيوز السفر أو‬ ‫عن مواطن الشر‪ً ،‬‬
‫جيب إىل بالدهم إذا كان ألجل الدعوة إىل اهلل ونشر اإلسالم‪.‬‬
‫‪ -4‬ومن مظاهر مواالة الكفار إعانتهم ومناصرهتم على املسلمني‪ ،‬ومدحهم‬
‫والذب عنهم‪ ،‬وهذا من نواقض اإلسالم وأسباب الردة‪ ،‬نعوذ باهلل من ذلك‪.‬‬

‫‪-363-‬‬
‫‪ -6‬ومن مظاهر مواالة الكفار‪ :‬االستعانة هبم‪ ،‬والثقة هبم‪ ،‬وتوليتهم‬
‫املناصب اليت فيها أسرار املسلمني‪ ،‬واختاذهم بطانة ومستشارين‪....‬‬
‫خصوصا التاريخ الذي‬
‫ً‬ ‫‪ -5‬ومن مظاهر مواالة الكفار التأريخ بتأرخيهم‪،‬‬
‫يعرب عن طقوسهم وأعيادهم‪ ،‬كالتاريخ امليالدي‪ ،‬والذي هو عبارة عن ذكرى‬
‫مولد املسيح ‪ ،‬والذي ابتدعوه من أنفسهم‪ ،‬وليس هو من دين املسيح ‪،‬‬
‫فاستعمال هذا التاريخ فيه مشاركة يف إحياء شعارهم وعيدهم‪....‬‬
‫‪ -4‬ومن مظاهر مواالة الكفار مشاركتهم يف أعيادهم‪ ،‬أو مساعدهتم يف‬
‫إقامتها‪ ،‬أو هتنئتهم مبناسبتها‪ ،‬أو حضور إقامتها‪ ،‬وقد فسر قوله سبحانه وتعاىل‪:‬‬
‫الز َور﴾ [الفرقان‪ ،]42 :‬أي‪ :‬من صفات عباد الرمحن‪:‬‬ ‫ين الَ يَ ْش َهدو َن ُّ‬ ‫َّ ِ‬
‫﴿ َوالذ َ‬
‫أهنم ال حيضرون أعياد الكفار‪.‬‬
‫‪ -1‬ومن مظاهر مواالة الكفار‪ :‬مدحهم‪ ،‬واإلشادة مبا هم عليه من املدنية‬
‫واحلضارة‪ ،‬واإلعجاب بأخالقهم ومهارهتم‪ ،‬دون نظر إىل عقائدهم الباطلة‬
‫ودينهم الفاسد‪....‬‬
‫التسمي بأمسائهم‪ ،‬حبيث يسمون أبنائهم‬ ‫ِّ‬ ‫‪ -1‬ومن مظاهر مواالة الكفار‬
‫وبناهتم بأمساء أجنبية‪ ،‬ويرتكون أمساء آبائهم وأمهاهتم وأجدادهم وجداهتم‪،‬‬
‫واألمساء املعروفة يف جمتمعهم‪ ،‬وقد قال النيب ‪« :‬خري األمساء عبد اهلل وعبد‬
‫الرمحن»‪ ،‬وبسبب تغري األمساء‪ ،‬فقد وجد جيل حيمل أمساء غربية‪ ،‬مما يسب‬
‫االنفصال بني هذا اجليل واألجيال السابقة‪ ،‬ويقطع التعارف بني األسر اليت‬
‫كانت تعرف بأمسائها اْلاصة‪.‬‬
‫‪ -95‬ومن مظاهر مواالة الكفار االستغفار هلم والرتحم عليهم‪ ،‬وقد حرم‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫اهلل ذلك بقوله تعاىل‪﴿ :‬ما َكا َن لِلنِ َّ ِ‬
‫ين َآمنواْ أَن يَ ْسَتـ ْغفرواْ لْلم ْش ِرك َ‬
‫ني َولَْو‬ ‫َّيب َوالذ َ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬

‫‪-364-‬‬
‫اجلَ ِحي ِم﴾ [التوبة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َص َحاب ْ‬ ‫َكانواْ أ ْوِيل قـ ْرَىب من بَـ ْعد َما تَـبَـ َّ َ‬
‫ني َهل ْم أَنـَّه ْم أ ْ‬
‫(‪)1‬‬
‫‪ .]993‬ألن هذا يتضمن حبهم وتصحيح ما هم عليه ‪.‬‬
‫مظاهر مواالة املؤمنني قد بيَّنها الكتاب والسنة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ -9‬اهلجرة إىل بالد املسلمني‪ ،‬وهجر بالد الكافرين‪ ،‬واهلجرة هي‪ :‬االنتقال‬
‫من بالد الكفار إىل بالد املسلمني ألجل الفرار بالدين‪.‬‬
‫واهلجرة هبذا املعى وألجل هذا الغرض واجبة وباقية إىل طلو الشمس من‬
‫مغرهبا عند قيام الساعة‪....‬‬
‫‪ -2‬مناصرة املسلمني ومعاونتهم بالنفس واملال واللسان فيما حيتاجون إليه‬
‫يف دينهم ودنياهم‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬والْم ْؤِمنو َن َوالْم ْؤِمنَات بَـ ْعضه ْم أ َْولِيَاء بَـ ْعض﴾‬
‫َّصر إِالَّ َعلَى‬ ‫ِ‬
‫نصروك ْم ِيف الدِّي ِن فَـ َعلَْيكم الن ْ‬ ‫استَ َ‬‫[التوبة‪ ،]49 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِن ْ‬
‫قَـ ْوم بَـْيـنَك ْم َوبَـْيـنَـهم ِّميثَاق﴾ [األنفال‪.]42 :‬‬
‫‪ -3‬التأل ألمله ِم والسرور بسرورهم‪ ،‬قال النيب ‪« :‬مثل املسلمني يف‬
‫توادهم وتعاطفهم وترامحهم كاجلسد الواحد‪ ،‬إذا اشتكى منه عضو‪ ،‬تداعى له‬
‫أيضا ‪« :‬املؤمن للمؤمن كالبنيان‪ ،‬يشد‬ ‫سائر اجلسد باحلمى والسهر»‪ ،‬وقال ً‬
‫بعضا (وشبك بني أصابعه ‪.)‬‬ ‫بعضه ً‬

‫اترا‪ :‬أن الدين عند اهلل اإلسالم‪ ،‬وأن الكافرين به‬‫(‪ )1‬من املعلوم من الدين بالضرورة‪ ،‬واملنقول نقالً متو ً‬
‫هم أصحاب النار‪ ،‬وأن املشركني ال حظ هلم من مغفرة اهلل ورمحته‪.‬‬
‫ولقد رأينا ومسعنا‪ ،‬بل وال زلنا نسمع ونرى من كثري من األقالم املسمومة‪ ،‬وألسنة الكفر والزندقة‬
‫واإلحلاد‪ :‬جواز الرتحم على أموات اليهود والنصارى والشيوعيني‪ ،‬وما ذاك إالَّ إلذابة حاجز البغض‬
‫جيدا ‪ -‬ومن مث َترير‬‫واملعاداة بني املسلمني والكافرين ‪ -‬من جانب واحد فقط وهم يدركون ذلك ً‬
‫شرعية األديان احلالية‪ ،‬على أصحاب امللة احلنيفية ‪ -‬دون غريها من امللل‪ ،-‬وأهنا طرق إىل اهلل‬
‫كاملذاهب األربعة يف اإلسالم‪ ،‬جيوز التعبد بأي واحد منها‪ ،‬فينبغي احلذر احلذر من هذا الشر‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني َسبِيل الْم ْج ِرم َ‬
‫ني﴾ [األنعام‪.]66 :‬‬ ‫املستطر‪ ،‬وصدق اهلل القائل‪َ ﴿ :‬ولتَ ْستَبِ َ‬

‫‪-366-‬‬
‫‪ -4‬النصح هلم وحمبة اْلري هلم وعدم غشهم وخديعتهم‪ ،‬قال ‪« :‬ال يؤمن‬
‫أحدكم حىت حيب ألخيه ما حيب لنفسه»‪ ،‬وقال‪« :‬املسلم أخو املسلم‪ ،‬ال‬
‫حيقره‪ ،‬وال خيذله‪ ،‬وال يسلمه‪ ،‬حبسب امرئ من الشر أن حيقر أخاه املسلم‪ ،‬كل‬
‫املسلم على املسلم حرام‪ ،‬دمه‪ ،‬وماله وعرضه»‪ ،‬وقال ‪« :‬ال تباغضوا‪ ،‬وال‬
‫تدابروا‪ ،‬وال تناجشوا‪ ،‬وال يبع بعضكم على بيع بعض‪ ،‬وكونوا عباد اهلل‬
‫(‪)1‬‬
‫إخوانًا» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬اإلرشاد إىل صحيح االعتقاد»‪( :‬ص‪.)396 – 354‬‬

‫‪-365-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫اإلجماع على حرمة التحيز للمشركين‪ ،‬ومجامعتهم‪،‬‬
‫إل لمن قدر على إظهار البراءة منهم ومن شركهم‬

‫قال الشيخ سعد بن محد بن عتيق ‪ -‬يف الرد على سؤال ورد عليه‪:-‬‬
‫«وأما االنتقال من بالد اإلسالم‪ ،‬إىل بالد القبوريني‪ ،‬والتحيز إىل مجاعة‬
‫املشركني‪ ،‬وعدم املباالة يف ذلك‪ ،‬فمن املصائب العظام‪ ،‬والدواهي الكبار‪ ،‬اليت‬
‫وقع فيها كثري من الناس وتساهلوا فيها‪ ،‬واستصغروها وخف شأهنا عند كثري من‬
‫وقل نصيبهم من معرفة ما‬ ‫الناس‪ ،‬الذين ضعفت بصائرهم يف دين اإلسالم‪َّ ،‬‬
‫بعث اهلل به نبينا حممد ‪ ‬وما كان عليه الصحابة‪ ،‬ومن تبعهم من األئمة‬
‫األعالم‪.‬‬
‫ذمه‪ ،‬وذم من‬ ‫وما زال األمر بالناس‪ ،‬حىت صار النهي عن ذلك‪ ،‬والكالم يف ِّ‬
‫بأسا‪ ،‬وينسبون من ينهى‬ ‫فعله من املستنكر عند األكثر‪ ،‬وصاروا ال يرون بذلك ً‬
‫عنه وينكره على من فعله‪ ،‬إىل الغلو يف الدين‪ ،‬والتشديد على املسلمني‪.‬‬
‫(األدلة على وجوب البراءة من المشركين‪ ،‬وحرمة التحيز إليهم)‬
‫ويف القرآن الكرمي‪ ،‬والسنة النبوية‪ :‬ما يدل من يف قلبه حياة على املنع من‬
‫صرحوا بالنهي عن إقامة املسلم بني‬ ‫ذلك‪ ،‬وكالم العلماء مرشد إىل ذلك‪ ،‬فإهنم َّ‬
‫ين‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫أظهر املشركني‪ ،‬من غري إظهار دينه‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬والَ تَـ ْرَكنواْ إ َىل الذ َ‬
‫ين‬ ‫َّ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ظَلَمواْ‪ ﴾...‬اآلية [هود‪ ،]993 :‬وقال‪﴿ :‬تَـَرى َكث ًريا ِّمْنـه ْم يَـتَـ َول ْو َن الذ َ‬
‫اسقو َن﴾ [املائدة‪:‬‬ ‫ـك َّن َكثِريا ِّمْنـهم فَ ِ‬
‫َك َفرواْ﴾ [املائدة‪ ،]15 :‬إىل قوله‪﴿ :‬ولَ ِ‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫‪.]19‬‬
‫ين تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئِ َكة ظَالِ ِمي أَنْـف ِس ِه ْم﴾ [النساء‪:‬‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫يما﴾ [النساء‪.]955 :‬‬ ‫ِ‬
‫‪ ،]14‬إىل قوله‪َ ﴿ :‬وَكا َن الليه َغف ًورا َّرح ً‬

‫‪-364-‬‬
‫قال ابن كثري يف الكالم على هذه اآلية‪ ،‬وهذه اآلية‪ :‬عامة يف كل من أقام‬
‫بني أظهر املشركني‪ ،‬وهو قادر على اهلجرة‪ ،‬وليس متمكنًا من إقامة الدين‪ ،‬فهو‬
‫مرتكب حر ًاما باإلمجا ‪ ،‬ون هذه اآلية‪ ،‬واآليات يف هذا املعى كثرية‪ ،‬يعرفها‬
‫من قرأ القرآن وتدبَّره‪.‬‬
‫ويف األحاديث املأثورة‪ ،‬عن النيب ‪ ‬ما يدل على ما دل عليه القرآن‪ ،‬مثل‬
‫قوله ‪« :‬من جامع املشرك وسكن معه فإنه مثله»‪ ،‬وقوله ‪« :‬وال تستضيئوا‬
‫بنار املشركني»‪ ،‬وحديث هبز بن حكيم‪« :‬أن تفر من شاهق إىل شاهق‬
‫بدينك»‪ ،‬قال ابن كثري معناه‪ :‬ال تقاربوهم يف املنازل‪ ،‬حبيث تكونوا معهم يف‬
‫بالدهم‪ ،‬بل تباعدوهم‪ ،‬وهتاجروا من بالدهم‪ ،‬وهلذا روى أبو داود فقال‪« :‬ال‬
‫تراءى نارمها»‪.‬‬
‫ويف قصة إسالم جرير‪ ،‬ملا قال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬بايعن واشرتط‪ ،‬فقال‪« :‬أن‬
‫تعبد اهلل وال تشرك به شيئًا‪ ،‬وتقيم الصالة‪ ،‬وتؤيت الزكاة‪ ،‬وتفارق املشركني»‪،‬‬
‫وعن عبد اهلل بن عمرو‪ ،‬أنه قال‪ :‬من بى بأرض املشركني‪ ،‬وصنع نريوزهم‬
‫ومهرجاهنم‪ ،‬وتشبَّه هبم حىت ميوت‪ ،‬حشر معهم يوم القيامة‪.‬‬
‫وكالم العلماء يف املنع من اإلقامة عند املشركني‪ ،‬وحترمي جمامعتهم‪ ،‬ووجوب‬
‫خصوصا أئمة هذه الدعوة اإلسالمية‪ ،‬كالشيخ حممد‬ ‫ً‬ ‫مباينتهم‪ ،‬كثري معروف‪،‬‬
‫بن عبد الوهاب‪ ،‬وأوالده‪ ،‬وأتباعهم من أهل العلم والدين‪ ،‬ففي كتبهم من ذلك‬
‫الس ْم َع َوه َو َش ِهيد﴾ [ق‪.]34 :‬‬
‫ما يكفي ويشفي من ﴿ َكا َن لَه قَـْلب أ َْو أَلْ َقى َّ‬
‫(حكم المقيم في دار تعلوها شعائر الشرك‪ ،‬وتهدم فيها شعائر اإلسالم)‬
‫فمن ذلك ما قال الشيخ عبد اللطيف‪ ،‬يف بعض رسائله‪ :‬إن اإلقامة ببلد‬
‫يعلو فيها الشرك والكفر‪ ،‬ويظهر فيها دين اإلفرنج والروافض‪ ،‬وحنوهم من املعطلة‬
‫للربوبية واأللوهية‪ ،‬وترفع فيها شعائرهم‪ ،‬ويهدم اإلسالم والتوحيد‪،‬‬

‫‪-361-‬‬
‫ويعطل التسبيح والتكبري والتحميد‪ ،‬وتقلع قواعد امللة واإلميان‪ ،‬وحيكم‬
‫بينهم حبكم اإلفرنج واليونان‪ ،‬ويشتم السابقون من أهل بدر‪ ،‬وبيعة الرضوان‪.‬‬
‫فاإلقامة بني ظهرانيهم ‪ -‬واحلالة هذه ‪ -‬ال تصدر عن قلب باشره حقيقة‬
‫اإلسالم واإلميان والدين‪ ،‬وعرف ما جيب من حق اهلل يف اإلسالم على املسلمني‪،‬‬
‫نبيا‪ ،‬فإن الرضا‬
‫بل ال يصدر عن قلب رضي باهلل ربًا‪ ،‬وباإلسالم دينًا‪ ،‬ومبحمد ً‬
‫هبذه األصول الثالثة‪ ،‬قطب رحى الدين‪ ،‬وعليه تدور حقائق العلم واليقني‪،‬‬
‫وذلك يتضمن من حمبة اهلل وإيثار مرضاته‪ ،‬والغرية لدينه واالحنياز إىل أوليائه‪ ،‬ما‬
‫يوجب الرباءة كل الرباءة‪ ،‬والتباعد كل التباعد‪ ،‬عمن تلك حنلته وذلك دينه‪ ،‬بل‬
‫نفس اإلميان املطلق يف الكتاب والسنة‪ ،‬ال جيامع هذه املنكرات‪ .‬انتهى كالمه‬
‫رمحه اهلل‪.‬‬
‫(حكم المقيم في بالد المشركين)‬
‫وأما السؤال عن حكم املقيم يف بلدان املشركني‪ ،‬من املنتسبني إىل اإلسالم‪،‬‬
‫فهذا اجلنس من الناس مشرتكون يف فعل ما هنى اهلل عنه ورسوله‪ ،‬إالَّ من عذره‬
‫ني﴾ [النساء‪ ،]11 :‬مث هم خمتلفون يف‬ ‫القرآن يف قوله‪﴿ :‬إِالَّ الْمست ِ‬
‫ض َعف َ‬ ‫َْ ْ‬
‫املراتب‪ ،‬متفاوتون يف الدرجات‪ ،‬حبسب أحواهلم‪ ،‬وما حيصل منهم‪ ،‬من مواالة‬
‫كفرا‪ ،‬وقد يكون دونه‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫املشركني‪ ،‬والركون إليهم‪ ،‬فإن ذلك قد يكون ً‬
‫ك بِ َغافِل َع َّما يَـ ْع َملو َن﴾ [األنعام‪»]932 :‬‬ ‫ِ‬
‫﴿ َولكل َد َر َجات ِّممَّا َع ِملواْ َوَما َربُّ َ‬
‫(‪)1‬‬
‫‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)452 – 461/1( :‬‬

‫‪-361-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫تعريف دار الشرك‪ ،‬وواجب المسلمين نحوها‬
‫إذا صار الشرك وتوابعه‪ ،‬فاشيًا يف بلد‪ ،‬وبات التحاكم والدعوة فيها لغري‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬أصبحت الدار دار كفر وشرك بإمجا العلماء املستند لقواعد‬
‫التنزيل‪.‬‬
‫توجب على أهلها من املسلمني‪:‬‬ ‫دال على ذلك‪ ،‬ومن مثي َّ‬ ‫فالقرآن كله ي‬
‫(‪)1‬‬
‫الرباءة واإلنكار ملعتقد أهل الكفر والضالل‪ ،‬وإالَّ فالفرار الفرار ‪.‬‬
‫قال الشيخ حمد بن عتيق في جوابه لمن ناظره في حكم أهل مكة‪ ،‬وما‬
‫يقال في البلد نفسه؟‬
‫َنت الْ َعلِيم‬
‫كأ َ‬‫ك الَ ِعْل َم لَنَا إِالَّ َما َعلَّ ْمتَـنَا إِنَّ َ‬
‫فأجاب بقوله‪﴿ :‬قَالواْ سْب َحانَ َ‬
‫احلَ ِكيم﴾ [البقرة‪ ،]32 :‬جرت املذاكرة يف كون مكة بلد كفر‪ ،‬أم بلد إسالم‪.‬‬ ‫ْ‬
‫حممدا ‪ ‬بالتوحيد الذي هو دين مجيع‬ ‫فنقول وباهلل التوفيق‪ :‬قد بعث اهلل ً‬
‫الرسل‪ ،‬وحقيقته‪ :‬هو مضمون شهادة أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وهو أن يكون اهلل معبود‬
‫اْلالئق‪ ،‬فال يتعبَّدون لغريه بنو من أنوا العبادة‪ ،‬ومخ العبادة هو‪ :‬الدعاء‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬اْلوف والرجاء والتوكل واإلنابة والذبح والصالة وأنوا العبادة كثرية‪،‬‬
‫وهذا األصل العظيم هو شرط يف صحة كل عمل‪.‬‬
‫واألصل الثاي‪ :‬هو طاعة النيب ‪ ‬يف أمره‪ ،‬وحتكـيمه يف دقيق األمور‬

‫(‪ )1‬أخي القارئ‪ :‬حنب أن نلفت نظرك الكرمي إىل أن أحكام الديار والقتال‪ ،‬سنفرد لكل منهما فصالً‬
‫مفصالً ‪ -‬إن شاء اهلل ‪ -‬يف كتاب األحكام املرتتبة على التوحيد والشرك‪ .‬ولكن آثرت ذكرمها‬
‫ههنا بنو من االختصار‪ ،‬حفاظًا على الوحدة املوضوعية‪ ،‬وحىت تكتمل الصورة بوضوح يف معى‬
‫الشرك‪ ،‬واألحكام املرتتبة عليه‪ ،‬بدالً من أن خترج باهتة بال مضمون‪ ،‬ودون واقع عملي حمسوس‬
‫ملموس‪.‬‬

‫‪-355-‬‬
‫وجليلها‪ ،‬وتعظيم شرعه ودينه‪ ،‬واإلذعان ألحكامه يف أصول الدين وفروعه‪.‬‬
‫(فاألول)‪ :‬ينايف الشرك وال يصح مع وجوده‪.‬‬
‫(والثاي)‪ :‬ينايف البد وال يستقيم مع حدوثها‪ ،‬فإذا حتقق وجود هذين‬
‫علما وعمالً ودعوة‪ ،‬وكان هذا دين أهل البلد‪ ،‬أي بلد كان بأن عملوا‬ ‫األصلني ً‬
‫موحدون‪.‬‬
‫به‪ ،‬ودعوا إليه‪ ،‬وكانوا أولياء ملن دان به‪ ،‬ومعادين ملن خالفه فهم ِّ‬
‫وأما إذا كان الشرك فاشيًا مثل‪ :‬دعاء الكعبة واملقام واحلطيم‪ ،‬ودعاء األنبياء‬
‫والصاحلني‪ ،‬وإفشاء توابع الشرك مثل‪ :‬الزنا والربا وأنوا الظلم ونبذ السنن وراء‬
‫الظهر‪ ،‬وفشو البد والضالالت‪ ،‬وصار التحاكم إىل األئمة الظلمة ونواب‬
‫معلوما يف أي بلد‬
‫املشركني‪ ،‬وصارت الدعوة إىل غري القرآن والسنة‪ ،‬وصار هذا ً‬
‫كان‪ ،‬فال يشك من له أدىن علم أن هذه البالد حمكوم عليها بأهنا‪ :‬بالد كفر‬
‫وشرك‪ ،‬ال سيما إذا كانوا معادين أهل التوحيد‪ ،‬وساعني يف إزالة دينهم ويف‬
‫ختريب بالد اإلسالم‪.‬‬
‫وإذا أردت إقامة الدليل على ذلك وجدت القرآن كله‪ ،‬فيه‪ ،‬وقد أمجع عليه‬
‫العلماء فهو معلوم بالضرورة عند كل عال‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وأما قول القائل ما ذكرم من الشرك إمنا هو من األفاقية ‪ ،‬ال من أهل‬
‫البلد‪.‬‬
‫فيقال له أوالً‪ :‬هذا إما مكابرة‪ ،‬وإما عدم علم بالواقع‪.‬‬
‫فمن املتقرر أن أهل اآلفاق تبع ألهل تلك البالد يف دعاء الكعبة واملقام‬
‫واحلطيم‪ ،‬كما يسمعه كل سامع ويعرفه كل موحد‪.‬‬
‫معلوما فذاك كاف يف املسألة‪ ،‬ومن الذي‬ ‫ويقال ثانيًا‪ :‬إذا تقرر وصار هذا ً‬
‫فرق يف ذلك‪ ،‬ويا هلل العجب إذا كنتم ختفون توحيدكم يف بالدكم‪ ،‬وال تقدرون‬
‫تصرحوا بدينكم‪ ،‬وختافتون بصالتكم ألنكم علمت عداوهتم‬ ‫أن ِّ‬

‫(‪ )1‬أي‪ :‬الذين يأتون إىل مكة املكرمة زائرين‪ ،‬ال أهل البلد األصليني‪.‬‬

‫‪-359-‬‬
‫هلذا الدين‪ ،‬وبغضهم ملن دان به‪ ،‬فكيف يقع لعاقل إشكال‪ ،‬أرأيتم لو قال‬
‫رجل منكم ملن يدعو الكعبة أو املقام أو احلطيم‪ ،‬ويدعو الرسول والصحابة‪ :‬يا‬
‫هذا ال تد غري اهلل‪ ،‬أو أنت مشرك‪ ،‬هل تراهم يساحمونه أم يكيدونه؟ فليعلم‬
‫اجملادل أنه ليس على توحيد اهلل‪ ،‬فواهلل ما عرف التوحيد وال حتقق بدين الرسول‬
‫‪ .‬أرأيت رجالً عندهم قائالً هلؤالء‪ :‬راجعوا دينكم أو اهدموا البناءات اليت على‬
‫القبور‪ ،‬وال حيل لكم دعاء غري اهلل‪ ،‬هل ترى يكفيهم فيه فعل قريش مبحمد ‪‬‬
‫ال واهلل ال واهلل‪.‬‬
‫وإذا كانت الدار‪ :‬دار إسالم ‪ -‬ألي شيء ‪ِ -‬لَ تدعوهم إىل اإلسالم‬
‫وتأمرهم هبدم القباب واجتناب الشرك وتوابعه؟‬
‫غركم أهنم يصلون أو حيجون أو يصومون ويتصدَّقون‪ ،‬فتأملوا‪:‬‬ ‫فإن يكن قد َّ‬
‫األمر من أوله‪ ،‬وهو أن التوحيد قد تقرر يف مكة بدعوة إمساعيل بن إبراهيم‬
‫اْلليل عليهما السالم‪ ،‬ومكث أهل مكة عليه مدة من الزمان‪ ،‬مث إنه فشا فيهم‬
‫الشرك بسبب عمرو بن حلي‪ ،‬وصاروا مشركني‪ ،‬وصارت البالد بالد شرك‪ ،‬مع‬
‫حيجون ويتصدقون على احلاج‬ ‫أنه قد بقي معهم أشياء من الدين‪ ،‬وكما كانوا ُّ‬
‫وغري احلاج‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وقد بلغكم شعر عبد املطلب الذي أخل فيه يف قصة الفيل‪ ،‬وغري‬

‫(‪ )1‬قام عبد املطلب‪ ،‬فأخذ حبلقة باب الكعبة‪ ،‬وقام معه نفر من قريش يدعون اهلل‪ ،‬ويستنصرونه على‬
‫أبرهة‪ ،‬فقال عبد املطلب‪ ،‬وهو آخو حبلقة باب الكعبة‪.‬‬
‫يا رب فامنع منهم محاكا‬ ‫يا رب ال أرجو هلم سواكا‬
‫امنعهم أن خيربوا فناكا‬ ‫إن عدو البيت من عاداكا‬
‫وله شعر آخر يف هذا األمر‪ ،‬ال يدعو فيه إالَّ اهلل وحده‪ ،‬وال يستنصر فيه ً‬
‫أحدا سواه‪.‬‬
‫انظر‪ :‬الكامل يف التاريخ لإلمام ابن األثري‪ )344 ،343/9( :‬ذكر أمر الفيل‪ :‬حتقيق عبد اهلل القاضي‬
‫‪ -‬دار الكتب العلمية ‪ -‬الطبعة الثانية ‪9496‬هـ‪9116 ،‬م‪.‬‬

‫‪-352-‬‬
‫ذلك من البقايا ول مينع الزمان ‪ -‬أي‪ :‬أن وقتهم وقت فرتة واهلل أعلم ‪-‬‬
‫ذلك من تكفريهم وعداوهتم‪ ،‬بل الظاهر عندنا وعند غرينا أن شركهم اليوم‬
‫أعظم من ذلك الزمان‪ ،‬بل قبل هذا كله أنه مكث أهل األرض بعد آدم عشرة‬
‫قرون على التوحيد‪ ،‬حىت حدث فيهم الغلو يف الصاحلني فدعوهم مع اهلل‬
‫نوحا ‪ ‬يدعو إىل التوحيد‪.‬‬ ‫فكفروا‪ ،‬فبعث اهلل إليهم ً‬
‫فتأمل ما ق اهلل عنهم‪ ،‬وكذا ما ذكر اهلل عن هود ‪ ‬أنه دعاهم إىل‬
‫إخالص العبادة هلل ألهنم ل ينازعوه يف أصل العبادة‪ ،‬وكذلك إبراهيم دعا قومه‬
‫إىل إخالص التوحيد وإالَّ فقد أقروا هلل باإلهلية‪.‬‬
‫ومجا األمر أنه إذا ظهر يف بلد دعاء غري اهلل‪ ،‬وتوابع بذلك‪ ،‬واستمر أهلها‬
‫عليه‪ ،‬وقاتلوا عليه‪ ،‬وتقررت عندهم عداوة أهل التوحيد‪ ،‬وأبوا عن االنقياد للدين‬
‫فكيف ال حيكم عليهما بأهنا بلد كفر؟‬
‫ولو كانوا ال ينتسبون ألهل الكفر‪ ،‬وأهنم منهم بريئون مع مسبتهم هلم‪،‬‬
‫وختطئتهم ملن دان به‪ ،‬واحلكم عليهم بأهنم خوارج أو كفار‪ ،‬فكيف إذا كانت‬
‫هذه األشياء كلها موجودة؟ فهذه مسألة عامة كلية‪.‬‬
‫وأما القضايا اجلزئية فنقول‪ :‬قد دل القرآن والسنَّة على أن املسلم إذا‬
‫حصلت منه مواالة أهل الشرك‪ ،‬واالنقياد هلم‪ ،‬ارتد بذلك عن دينه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ني َهلم‬ ‫ين ْارتَ ُّدوا َعلَى أ َْدبَا ِرهم ِّمن بَـ ْعد َما تَـبَـ َّ َ‬
‫فتأمل قوله تعاىل‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين َك ِرهوا َما نَـَّزَل اللَّه‬ ‫ِِ‬ ‫ا ْهل َدى الشَّْيطَان س َّوَل َهلم وأ َْملَى َهلم * َذلِ َ ِ‬
‫ك بأَنـَّه ْم قَالوا للَّذ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ض ْاأل َْمر َوالله يَـ ْعلَم إ ْسَر َاره ْم﴾ [حممد‪ ،]25 ،26 :‬مع قوله‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َسن ِطيعك ْم ِيف بَـ ْع ِ‬
‫﴿ َوَمن يَـتَـ َوَّهلم ِّمنك ْم فَِإنَّه ِمْنـه ْم﴾ [املائدة‪ ،]69 :‬وأمعن النظر يف قوله تعاىل‬
‫﴿فَالَ تَـ ْقعدواْ َم َعه ْم َح َّىت َخيوضواْ ِيف َح ِديث َغ ِْريهِ إِنَّك ْم إِ ًذا ِّمثْـله ْم﴾ [النساء‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫‪. »]945‬‬

‫(‪« )1‬جممو الرسائل واملسائل النجدية»‪.)446 – 442/9( :‬‬

‫‪-353-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫وجوب قتال المشركين حتى يكون الدين كله هلل‬

‫جيب قتال املشركني‪ ،‬حىت ينخلعوا من الشرك‪ ،‬وخيلصوا أعماهلم هلل‪ ،‬ويلتزموا‬
‫إمجاعا‪ ،‬وعلى ذلك جرد النيب ‪‬‬ ‫أحكامه‪ ،‬فإن أبوا ذلك‪ ،‬أو بعضه قوتلوا ً‬
‫وأصحابه سيوف اجلهاد لقتال املشركني‪ ،‬فالقتال دائر مع الشرك حيث دار‪ ،‬حىت‬
‫يكون الدين كله هلل‪ ،‬ويلنزم العباد دين اهلل القومي‪ ،‬ويسلكوا صراطه املستقيم‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ تَكو َن فِْتـنَة َويَكو َن الدِّين كلُّه لِليه﴾‬
‫ني َحْيث َو َج ُّ‬ ‫ِ‬
‫دَتوه ْم َوخذوه ْم‬ ‫[األنفال‪ ،]31 :‬وقال‪﴿ :‬فَاقْـتـلواْ الْم ْش ِرك َ‬
‫الزَكا َة فَ َخلُّواْ‬ ‫صد فَِإن تَابواْ َوأَقَامواْ َّ‬
‫الصالََة َوآتَـواْ َّ‬ ‫احصروه ْم َواقْـعدواْ َهل ْم ك َّل َم ْر َ‬
‫َو ْ‬
‫َسبِيلَه ْم﴾ [التوبة‪.]6 :‬‬
‫أمر بقتاهلم حىت يتوبوا من الشرك وخيلصوا أعماهلم هلل تعاىل‪ ،‬ويقيموا‬
‫إمجاعا‪.‬‬
‫الصالة‪ ،‬ويؤتوا الزكاة‪ ،‬فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا ً‬
‫مرفوعا‪« :‬أمرت أن أقاتل الناس حىت‬ ‫ً‬ ‫ويف صحيح مسلم عن أيب هريرة‬
‫يشهدوا أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ويؤمنوا يب ومبا جئت به‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك عصموا من‬
‫دماءهم وأمواهلم إالَّ حبقها وحساهبم على اهلل»‪.‬‬
‫ويف الصحيحني عن ابن عمر قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬أمرت أن أقاتل‬
‫حممدا رسول اهلل‪ ،‬ويقيموا الصالة ويؤتوا‬ ‫الناس حىت يشهدوا أن ال إله إالَّ اهلل وأن ً‬
‫الزكاة‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك عصموا مى دماءهم وأمواهلم إالَّ حبقها وحساهبم على‬
‫اهلل»‪ ،‬وهذان احلديثان تفسري اآليتني‪ :‬آية األنفال‪ ،‬وآية براءة‪.‬‬

‫‪-354-‬‬
‫وقد أمجع العلماء على أن من قال‪« :‬ال إله إالَّ اهلل»‪ ،‬ول يعتقد معناها ول‬
‫يعمل مبقتضاها‪ ،‬أنه يقاتل حىت يعمل مبا دلت عليه من النفي واإلثبات‪.‬‬
‫قال أبو سليمان اْلطايب رمحه اهلل يف قوله‪« :‬أمرت أن أقاتل الناس حىت‬
‫يقولوا ال إله إالَّ اهلل»‪ :‬معلوم أن املراد هبذا أهل عبادة األوثان‪ ،‬دون أهل‬
‫الكتاب‪ ،‬ألهنم يقولون‪« :‬ال إله إالَّ اهلل» مث يقاتلون وال يرفع عنهم السيف‪.‬‬
‫وقال القاضي عياض‪ :‬اختصاص عصمة املال والنفس مبن قال‪« :‬ال إله إالَّ‬
‫اهلل» تعبري عن اإلجابة إىل اإلميان‪ ،‬وأن املراد بذلك مشركو العرب وأهل األوثان‪،‬‬
‫فأما غريهم ممن يقر بالتوحيد‪ ،‬فال يكتفى يف عصمته بقول‪« :‬ال إله إالَّ اهلل» إذ‬
‫ملخصا‪.‬‬
‫ً‬ ‫كان يقوهلا يف كفره‪ .‬انتهى‬
‫وقال النووي‪ :‬ال بد مع هذا من اإلميان جبميع ما جاء به الرسول ‪ ‬كما‬
‫جاء يف الرواية «ويؤمنوا يب ومبا جئت به»‪.‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم‪ ،‬ملا سئل عن قتال التتار فقال‪ :‬كل طائفة ممتنعة عن‬
‫التزام شرائع اإلسالم الظاهرة من هؤالء القوم أو غريهم فإنه جيب قتاهلم حىت‬
‫يلتزموا شرائعه‪ ،‬وإن كانوا مع ذلك ناطقني بالشهادتني وملتزمني ببعض شرائعه‪،‬‬
‫كما قاتل أبو بكر والصحابة ‪ ‬مانعي الزكاة‪ ،‬وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأميا طائفة امتنعت عن بعض الصلوات املفروضات‪ ،‬أو الصيام‪ ،‬أو‬
‫احلج‪ ،‬أو عن التزام حترمي الدماء‪ ،‬أو األموال أو اْلمر أو امليسر أو‪ ،‬نكاح ذوات‬
‫احملارم‪ ،‬أو عن التزام جهاد الكفار‪ ،‬أو غري ذلك من التزام واجبات الدين‬
‫وحمرماته اليت ال عذر ألحد يف جحودها أو تركها‪ ،‬اليت يكفر‬
‫الـواحد جبحودها‪ ،‬فإن الطـائفة املمتنعة تـقاتل عليها‪ ،‬وإن كـانت مقرة‬

‫‪-356-‬‬
‫هبا‪ ،‬وهذا مما ال أعلم فيه خالفًا بني العلماء‪ .‬قال‪ :‬وهؤالء عند احملققني‬
‫(‪)1‬‬
‫ليسوا مبنزلة البغاة‪ ،‬بل هم خارجون عن اإلسالم‪ .‬انتهى» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«اعلم وفَّقنا اهلل وإياك لإلميان باهلل ورسوله‪ :‬أن اهلل سبحانه قال يف كتابه‪:‬‬
‫ني َحْيث َو َج ُّ‬ ‫ِ‬
‫احصروه ْم َواقْـعدواْ َهل ْم ك َّل‬‫دَتوه ْم َوخذوه ْم َو ْ‬ ‫﴿فَاقْـتـلواْ الْم ْش ِرك َ‬
‫الزَكا َة فَ َخلُّواْ َسبِيلَه ْم﴾‬
‫الصالََة َوآتَـواْ َّ‬
‫َّ‬ ‫صد فَِإن تَابواْ َوأَقَامواْ‬ ‫َم ْر َ‬
‫[التوبة‪.]6 :‬‬
‫فتأمل هذا الكالم‪ :‬أن اهلل أمر بقتلهم وحصرهم‪ ،‬والقعود هلم كل مرصد‪،‬‬
‫أيضا فقد قال ‪:‬‬ ‫إىل أن يتوبوا من الشرك‪ ،‬ويقيموا الصالة‪ ،‬ويؤتوا الزكاة‪ ،‬و ً‬
‫حممدا رسول اهلل‪،‬‬ ‫«أمرت أن أقاتل الناس حىت يشهدوا أال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وأن ً‬
‫ويقيموا الصالة‪ ،‬ويؤتوا الزكاة‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك عصموا من دماءهم وأمواهلم‪ ،‬إالَّ‬
‫حبق اإلسالم‪ ،‬وحساهبم على اهلل تعاىل»‪.‬‬
‫فهذا كالم رسوله ‪ ،‬وقد أمجع العلماء عليه من كل مذهب‪ ،‬وخالف‬
‫ذلك من هؤالء اجلهال‪ ،‬الذين يسمون العلماء‪ ،‬فقالوا‪ :‬من قال ال إله إالَّ اهلل‪،‬‬
‫فهو املسلم حرام الدم واملال‪ ،‬وقد َّبني النيب ‪ ‬اإلسالم من حديث جربيل ‪ -‬ملا‬
‫سأله عن اإلسالم ‪ -‬فقال‪« :‬اإلسالم أن تشهد أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وأن ً‬
‫حممدا‬
‫رسول اهلل‪ ،‬وتقيم الصالة‪ ،‬وتؤيت الزكاة‪ ،‬وتصوم رمضان‪ ،‬وحتج البيت إن‬
‫استطعت إليه سبيالً» فهذا تفسري رسول اهلل ‪.‬‬
‫وهؤالء يقولون‪ :‬إن البدو إسالم‪ ،‬ألهنم يقولون‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬فمن مسع‬
‫كالمهم‪ ،‬ومسع كالم رسول اهلل ‪ ‬فال بد له من أحد أمرين‪ ،‬إما أن يصدق اهلل‬
‫ورسوله‪ ،‬ويتربأ منهم ويكذهبم‪ ،‬وإما أن يصدقهم‪ ،‬ويكذب اهلل ورسوله‪ ،‬فنعوذ‬
‫باهلل من ذلك‪ ،‬واهلل أعلم‪....‬‬

‫(‪« )1‬فتح اجمليد»‪( :‬ص‪.)993 ،992‬‬

‫‪-355-‬‬
‫أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى‪:‬‬ ‫وقال ا‬
‫الذي أقروا أن التوحيد أكرب من كل كبري‪ ،‬واختلفوا هل نقاتل من ل يرتكه‪،‬‬
‫وإذا قال ال إله إالَّ اهلل وانتسب إىل امللة‪ ،‬فحكم الكتاب بينهم بقوله تعاىل‪:‬‬
‫﴿ َوقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ تَكو َن فِْتـنَة َويَكو َن الدِّين كلُّه لِليه﴾ [األنفال‪ ،]31 :‬وقال‬
‫َو َج ُّ‬ ‫ِ‬
‫دَتوه ْم﴾‬ ‫َحْيث‬ ‫الْم ْش ِرك َ‬
‫ني‬ ‫﴿فَاقْـتـلواْ‬ ‫تعاىل‪:‬‬ ‫اهلل‬
‫(‪)1‬‬
‫[التوبة‪. »]6 :‬‬
‫وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل رحمهما اهلل تعالى‪ ،‬مبيناا سبب قتال‬
‫المشركين في أثناء شرحه على كتاب التوحيد‪:‬‬
‫قوله‪« :‬من قال ال إله إال اهلل‪ ،‬وكفر مبا يعبد من دون اهلل»‪ ،‬اعلم أن النيب‬
‫‪ ‬يف هذا احلديث علق عصمة واملال والدم بأمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬قول ال إله إالَّ اهلل‪.‬‬
‫الثاي‪ :‬الكفر مبا يعبد من دون اهلل‪ ،‬فلم يكتف باللفظ اجملرد عن املعى‪ ،‬بل‬
‫ال بد من قوهلا والعمل هبا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وقد أمجع العلماء على معى ذلك‪ ،‬فال بد يف العصمة من اإلتيان‬
‫بالتوحيد‪ ،‬والتزام أحكامه‪ ،‬وترك الشرك‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ‬
‫تَكو َن فِْتـنَة َويَكو َن الدِّين كلُّه لِليه﴾ [األنفال‪ ،]31 :‬والفتنة هنا‪ :‬الشرك‪ ،‬فدل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫على أنه إذا وجد الشرك‪ ،‬فالقتال باق حباله كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَاتلواْ الْم ْش ِرك َ‬
‫ني‬
‫َكآفَّةً َك َما يـ َقاتِلونَك ْم َكآفَّةً﴾ [األنفال‪.]31 :‬‬
‫ني َحْيث َو َج ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫دَتوه ْم‬ ‫احلرم فَاقْـتـلواْ الْم ْش ِرك َ‬‫انسلَ َخ األَ ْشهر ْ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬فَإ َذا َ‬
‫الزَكا َة‬ ‫صد فَِإن تَابواْ َوأَقَامواْ َّ‬
‫الصالََة َوآتَـواْ َّ‬ ‫احصروه ْم َواقْـعدواْ َهل ْم ك َّل َم ْر َ‬‫َوخذوه ْم َو ْ‬
‫فَ َخلُّواْ َسبِيلَه ْم﴾ [التوبة‪.]6 :‬‬
‫فأمر بقتاهلم على فعل التـوحيد وتـرك الشـرك‪ ،‬وإقامة شعائر الدين‬

‫(‪ )1‬الدرر السنية (‪.)231 ،234/1‬‬

‫‪-354-‬‬
‫الظاهر‪ ،‬فإذا فعلوها خلي سبيلهم‪ ،‬ومىت أبوا عن فعلها أو فعل شيء منها‪،‬‬
‫إمجاعا‪ ،‬ولو قالوا‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪.‬‬
‫فالقتال باق حباله ً‬
‫وكذلك النيب ‪ ‬علَّق العصمة مبا علَّقها اهلل به يف كتابه كما يف هذا‬
‫مرفوعا‪« :‬أمرت أن أقاتل الناس‬‫احلديث‪ .‬ويف «صحيح مسلم»‪ ،‬عن أيب هريرة ً‬
‫حىت يشهدوا أن ال إله إالَّ اهلل ويؤمنوا يب ومبا جئت به‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك عصموا‬
‫من دماءهم وأمواهلم إالَّ حبقها وحساهبم على اهلل»‪.‬‬
‫ويف «الصحيحني» عنه قال‪ :‬ملا تويف رسول اهلل وكفر من كفر من العرب‪،‬‬
‫فقال عمر بن اْلطاب أليب بكر‪ :‬كيف تقاتل الناس‪ ،‬وقد قال رسول اهلل ‪:‬‬
‫«أمرت أن اقتل الناس حىت يقولوا ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬فمن قال‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬فقد‬
‫عصم من ماله ونفسه إالَّ حبقه وحسابه على اهلل»؟‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬واهلل ألقاتلن‬
‫من فرق بني الصالة والزكاة‪ ،‬فإن الزكاة حق املال‪ ،‬واهلل لو منعوي عقاالً كانوا‬
‫يؤدونه إىل رسول اهلل ‪ ‬لقاتلتهم على منعه‪ .‬فقال عمر بن اْلطاب‪ :‬فواهلل ما‬
‫هو إالَّ أن رأيت اهلل قد شرح صدر أيب بكر للقتال‪ ،‬فعرفت أنه احلق‪ .‬لفظ‬
‫مسلم‪.‬‬
‫فانظر كيف فهم صدِّيق األمة أن النيب ‪ ‬ل يرد جمرد اللفظ هبما من غري‬
‫إلزام ملعناها وأحكامها‪ ،‬فكان ذلك هو الصواب‪ ،‬واتفق عليه الصحابة‪ ،‬ول‬
‫خيتلف فيه منهم اثنان إالَّ ما كان من عمر حىت رجع إىل احلق‪ .‬وكان فهم‬
‫(‪)1‬‬
‫الصديق هو املوافق لنصوص القرآن والسنة» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)959 – 11‬‬

‫‪-351-‬‬
‫ملخص مفيد ألهم مسائل وفوائد الباب الثاني‬

‫ـ الشرك األكرب‪ :‬تشبيه املخلوق باْلالق يف خصائ اإلهلية‪.‬‬


‫ـ الشرك األكرب‪ :‬جعل شريك هلل تعاىل فيما يستحقه‪ ،‬وخيت به من العبادة‬
‫الباطنة والظاهرة‪.‬‬
‫ـ شرك التعطيل‪ :‬هو أقبح أنوا الشرك‪ ،‬كشرك فرعون‪ ،‬والشرك ومطلق‬
‫التعطيل متالزمان‪.‬‬
‫ـ الشرك يف اإلرادات والنيات؛ فذلك البحر الذي ال ساحل له‪ ،‬وقلد من‬
‫ينجو منه‪.‬‬
‫ـ الشرك األكرب‪ :‬قبحه مستقر يف كل فطرة وعقل‪ ،‬ومن احملال أن تأيت به أي‬
‫شريعة من الشرائع‪.‬‬
‫ـ الشرك األكرب‪ :‬سوء ظن باهلل‪ ،‬وهو أعظم الذنوب عند اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ـ الشرك األكرب‪ :‬ال يغفره اهلل بغري توبة‪ ،‬ويوجب اْللود يف النريان‪ ،‬وليس‬
‫حترميه وقبحه مبجرد النهي عنه فقط‪ ،‬بل يستحيل على اهلل أن يشرعه لعباده‪.‬‬
‫جرد توحيده هلل‪ ،‬وتقرب مبقت‬ ‫ـ ما جنا من َشَرك الشرك األكرب‪ ،‬إال من ي‬
‫املشركني إىل اهلل‪.‬‬
‫ـ بعث النيب ‪ ‬بتكفري من ل يتب من الشرك األكرب‪ ،‬وقتاله‪ ،‬ومعاداته‪.‬‬
‫ـ الشرك‪ :‬ثالثة أنوا ‪ :‬شرك أكرب‪ ،‬وشرك أصغر‪ ،‬وشرك خفي‪.‬‬
‫ـ الشرك األكرب‪ :‬هو الذنب الذي ال يغفر‪ ،‬وال عذر ملكلف يف اجلهل به‪،‬‬
‫وال جيوز فيه التقليد‪ ،‬ألن تركه هو أصل األصول‪.‬‬
‫مسلما إال بالتجرد من الشرك األكرب‪،‬‬‫ً‬ ‫ـ أمجع العلماء‪ :‬أن املرء ال يكون‬
‫والرباءة منه‪ ،‬وممن فعله‪.‬‬

‫‪-351-‬‬
‫ـ مشركو العرب كان شركهم يف اإلهلية‪ ،‬وأما مشركو هذا الزمان فكان يف‬
‫اإلهلية والربوبية‪.‬‬
‫ـ حكم الشيء تابع حلقيقته‪ ،‬ال المسه‪ ,‬وال العتقاد فاعله‪ .‬فاملشرك مشرك‬
‫شاء أم أىب‪ ،‬وإن فر من تسمية شركه‪ :‬تأهلا‪ ،‬وعبادة‪ ،‬وشرًكا‪.‬‬
‫ـ إمنا حرم الشرك لقبحه يف نفسه‪ ،‬وكونه متضمنًا‪ :‬مسبة الرب‪ ،‬وتنقصه‪،‬‬
‫وتشبيهه باملخلوقني‪ ...‬وهذه املفاسد ال تزول بتغيري اسم الشرك‪.‬‬
‫ـ الغلو يف الصاحلني من أسباب املروق من الدين‪ ،‬والكفر برب العاملني‪.‬‬
‫ـ الشرك قرين اجلهل‪ ،‬والتوحيد قرين العلم‪.‬‬
‫ـ من جعل املالئكة واألنبياء وسائط‪ ،‬يدعوهم‪ ،‬ويتوكل عليهم‪ ،‬ويسأهلم‬
‫جلب املنافع‪ ،‬ودفع املضار‪ ،‬فهو كافر بإمجا املسلمني‪.‬‬
‫ـ دين املشركني عباد األوثان قائم على إثبات وسائط بني اهلل وخلقه‪،‬‬
‫كالوسائط اليت تكون بني امللوك والرعية‪.‬‬
‫ـ لبس احللقة‪ ،‬واْليط‪ ،‬وحنومها بقصد رفع البالء أو دفعه‪ ،‬هو من فعل‬
‫اجلاهلية‪.‬‬
‫ـ تعليق التمائم غري جائز‪ ،‬ولو كانت من القرآن‪.‬‬
‫ـ التربك بقبور الصاحلني كالتربك بالالت‪ ،‬والتربك باألحجار واألشجار‬
‫بالعزى ومناة‪.‬‬
‫كالتربك ي‬
‫ـ السحر عمل شيطاي‪ ،‬وكثري منه ال يتوصل إليه إال بالشرك‪ ،‬والتقرب إىل‬
‫األرواح اْلبيثة‪.‬‬
‫ـ الكهانة شرك‪ ،‬من ادعاها‪ ،‬أو صدق من يدعيها‪ ،‬فقد جعل هلل شري ًكا‬
‫فيما هو من خصائصه‪.‬‬

‫‪-345-‬‬
‫ـ التطري من جنس الشرك‪ ،‬لكونه تعلُّق على غري اهلل‪.‬‬
‫ـ التنجيم كفر برب العاملني‪.‬‬
‫ـ االستسقاء باألنواء من جنس الشرك‪.‬‬
‫ـ جيب االبتعاد‪ ،‬واحلذر من كل لفظ فيه سوء أدب مع اهلل‪ ،‬ألن هذا خيل‬
‫بالعقيدة‪ ،‬وينق التوحيد‪.‬‬
‫ـ اتفق العلماء‪ :‬على املنع من التمسح حبجرة النيب ‪ ،‬وعدم تقبيلها‪.‬‬
‫ـ شرار اْللق عند اهلل‪ :‬من يتخذون القبور مساجد‪ ،‬وهو من سنن اليهود‬
‫والنصارى‪ ،‬ومن أعظم أسباب الشرك‪ ،‬وموجبات اللعنة من اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ـ هنى النيب ‪ ‬عن‪ :‬جتصي القبور‪ ،‬والبناء عليها‪ ،‬والكتابة‪.‬‬
‫ـ أمجع العلماء‪ :‬على حرمة البناء على القبور‪ ،‬ووجوب هدمه‪.‬‬
‫ـ التوجه بذات املخلوقني يف الدعاء‪ ،‬واإلقسام هبم على اهلل بدعة منكرة‪،‬‬
‫وحمدثة يف الدين‪.‬‬
‫ـ شفاعة النيب ‪ ‬ألهل الذنوب ‪ -‬دون الشرك األكرب ‪ -‬من أمته‪ ،‬متفق‬
‫عليها بني عامة األمة‪ ،‬ول ينكرها إال أهل البد ‪.‬‬
‫ـ املشركون حمرومون من الشفاعة باإلمجا ‪.‬‬
‫ـ أسعد الناس بالشفاعة‪ :‬أهل التوحيد اجملرد من تعلقات الشرك‪ ،‬وشوائبه‪.‬‬
‫ـ عبدت األصنام بواسطة الشفاعة الشركية‪.‬‬
‫ـ الفرق بني الشفاعة املثبتة يف القرآن والشفاعة املنفية فيه‪ ،‬كالفرق بني‬
‫التوحيد والشرك‪ ،‬واإلميان والكفر‪.‬‬
‫ـ من دعا غري اهلل ‪ -‬فيما ال يقدر عليه إال اهلل ‪ -‬فهو مشرك كافر‪ ،‬وإن ل‬
‫يقصد إال جمرد التقرب إىل اهلل‪ ،‬وطلب الشفاعة عنده‪.‬‬

‫‪-349-‬‬
‫ـ املشرك أخل بكل شروط «ال إله إال اهلل» إال جمرد التلفظ هبا‪.‬‬
‫ـ الشرك حيبط كل قول وعمل‪ ،‬ويبطله‪ ،‬ويضاد اإلميان بالكلية‪ ،‬وذلك ثابت‬
‫بالكتاب والسنة واإلمجا ‪.‬‬
‫ـ يأىب اهلل‪ ،‬ورسوله ‪ ‬واملؤمنون أن يقال‪ :‬بإسالم عباد القبور‪.‬‬
‫ـ من جعل بينه وبني اهلل وسائط يدعوهم‪ ،‬ويتوكل عليهم‪ ،‬ويسأهلم‪ ،‬كفر‬
‫إمجاعا‪.‬‬
‫ً‬
‫ـ املشركون خمطئون ومتأولون‪ ،‬إال أهنم ل يعذروا باْلطأ وال بالتأويل‪.‬‬
‫ـ أمجع العلماء‪ :‬على كفر من عبد غري اهلل‪ ،‬ولو نطق بالشهادتني‪ ،‬وصلى‪،‬‬
‫وصام‪.‬‬
‫ـ الشرك‪ :‬أعظم أنوا الكفر‪ ،‬ويعني فاعله به‪ ،‬ويستتاب فإن تاب وإال قتل‪.‬‬
‫ـ املشرك ال تصح إمامته‪ ،‬وال صالته‪ ،‬وال جيوز للمسلم أن يصلي خلفه‪.‬‬
‫ـ مواالة املسلمني‪ ،‬والرباءة من املشركني‪ ،‬ركن من أركان هذا الدين‪.‬‬
‫ـ مواالة املشركني ردة عن الدين‪ ،‬وكفر برب العاملني‪.‬‬
‫ـ جيب قتال املشركني حىت يتوبوا من الشرك إىل التوحيد‪ ،‬ويلتزموا بأحكام‬
‫إمجاعا‪.‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬فإن أبوا عن ذلك‪ ،‬أو بعضه قوتلوا ً‬
‫ـ أمجع العلماء على أن من قال‪« :‬ال إله إال اهلل»‪ ،‬ول يعتقد معناها‪ ،‬ول‬
‫يعمل مبقتضاها‪ ،‬أنه يقاتل حىت يعمل مبا دليت عليه من النفي واإلثبات‪.‬‬
‫ـ كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع اإلسالم الظاهرة املتواترة‪ ،‬فإنه جيب قتاهلا‬
‫حىت تلتزم تلك الشرائع‪ ،‬وإن كانت ناطقة بالشهادتني‪ ،‬وملتزمة ببقية الشرائع‪،‬‬
‫وهذا بغري خالف بني العلماء‪.‬‬

‫‪-342-‬‬
‫الباب الثالث‬
‫األحكام المترتبة‬
‫على مفهوم التوحيد والشرك‬

‫وفيه تسعة فصول‪:‬‬

‫الفصل األول‪ :‬شروط عصمة الدم واملال‪.‬‬


‫الفصل الثاني‪ :‬حكم الشك يف كفر الكافر وصوره‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬العذر باجلهل‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬العالقة بني إقامة احلجة‪ ،‬والكفر وأحكامه‪.‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬أنوا الكفر وحكم تكفري املعني‪.‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬أحكام الديار‪.‬‬
‫الفصل السابع‪ :‬أحكام القتال‪ ،‬ومشروعية اجلهاد‪.‬‬
‫الفصل الثامن‪ :‬نواقض اإلسالم‪ ،‬وأحكام ي‬
‫الردة واملرتدِّين‪.‬‬
‫الفصل التاسع‪ :‬أشهر الشبهات املثارة على أئمة الدعوة‪ ،‬و ي‬
‫الرد الوافر عليها‪.‬‬

‫‪-343-‬‬
-344-
‫الفصل األول‬
‫شروط عصمة الدم والمال‬

‫وفيه أربعة مباحث‪:‬‬

‫املبحث األول ‪ :‬شروط عصمة الدم واملال بني أهل السنة‪ ،‬واملرجئة‬
‫واْلوارج‪.‬‬
‫اجملرد عن املعى ال يدخل صاحبه يف اإلسالم‪ ،‬ومن‬ ‫املبحث الثاي ‪ :‬اللفظ َّ‬
‫مشروعا حىت اإلتيان بالتوحيد مع‬
‫ً‬ ‫َمثَّ كان قتال املشركني‬
‫إمجاعا‪.‬‬
‫االخنال من الشرك ً‬
‫املبحث الثالث ‪ :‬اقرتان النطق بالشهادتني مع فعل الشرك‪ ،‬ال أثر له‪.‬‬
‫املبحث الرابع ‪ :‬من أتى بالتوحيد‪ ،‬ول يأت مبا ينافيه‪ ،‬والتزم شرائع‬
‫اإلسالم‪ ،‬وجب الكف عنه‪ ،‬واحلكم له باإلسالم يف الظاهر‪،‬‬
‫واهلل َّ‬
‫يتوىل السرائر‪.‬‬

‫‪-346-‬‬
-345-
‫المبحث األول‬
‫شروط عصمة الدم والمال‬
‫بين أهل السنة‪ ،‬والمرجئة والخوارج‬
‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن‪:‬‬
‫«فال إله إالَّ اهلل‪ ،‬هي‪ :‬كلمة اإلسالم‪ ،‬ال يصح إسالم أحد إالَّ مبعرفة ما‬
‫وضعت له‪ ،‬ودلَّت عليه‪ ،‬وقَبوله‪ ،‬واالنقياد للعمل به‪ ،‬وهي‪ :‬كلمة اإلخالص‬
‫املنايف للشرك‪ ،‬وكلمة التقوى‪ ،‬اليت تقي قائلها من الشرك باهلل‪ ،‬فال تنفع قائلها‬
‫إالَّ بشروط سبعة‪:‬‬
‫األول‪ :‬العلم مبعناها‪ ،‬نفيًا وإثباتًا‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬اليقني‪ ،‬وهو كمال العلم هبا‪ ،‬املنايف للشك والريب‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬اإلخالص املنايف للشرك‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الصدق املانع من النفاق‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬احملبة هلذه الكلمة وملا دلَّت عليه‪ ،‬والسرور بذلك‪.‬‬
‫القبول املنايف للرد‪ ،‬فقد يقوهلا من يعرفها‪ ،‬لكن ال يقبلها ممن‬ ‫السادس‪َ :‬‬
‫وتكربا‪ ،‬كما قد وقع من كثري‪.‬‬ ‫دعاه إليها تعصبًا ً‬
‫إخالصا‪ ،‬وطلبًا‬ ‫ً‬ ‫السابع‪ :‬االنقياد حبقوقها‪ ،‬وهي‪ :‬األعمال الواجبة‬
‫(‪)1‬‬
‫ملرضاته» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل يف شرحه على كتاب التوحيد‪:‬‬
‫«إن النطق بكلميت الشهادة دليل العصمة ال أنه عصمة‪ ،‬أو يقال‪ :‬هو‬
‫ين َآمنواْ إِ َذا‬ ‫َّ ِ‬
‫العـصمة لكن بشرط العمل‪ ،‬يدل على ذلك قوله تعاىل‪﴿ :‬يَا أَيُّـ َها الذ َ‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)245/2( :‬‬

‫‪-344-‬‬
‫ضَربْـت ْم ِيف َسبِ ِيل اللي ِه فَـتَبَـيَّـنواْ‪[ ﴾...‬النساء‪ ،]14 :‬ولو كان النطق‬
‫َ‬
‫عاصما ل يكن للتثبت معى‪ ،‬يدل على ذلك قوله تعاىل‪ ﴿ :‬فِإ ْن‬ ‫ً‬ ‫بالشهادتني‬
‫تابوا ﴾ [التوبة‪ ،]99 :‬أي‪ :‬عن الشرك وفعلوا التوحيد ﴿ وأقاموا الصالة وآتـوا‬
‫الزكاة فخلوا سبِيله ْم ﴾ [التوبة‪ ،]6 :‬فدل على أن القتال يكون على هذه‬
‫مسلما‪،‬‬
‫األمور‪ ،‬وفيه أن هلل تعاىل حقوقًا يف اإلسالم من ل يأت هبا ل يكن ً‬
‫(‪)1‬‬
‫كإخالص العبادة له والكفر مبا يعبد من دونه» ‪.‬‬
‫وشارحا شروط الشهادتني‪:‬‬
‫ً‬ ‫وقال الشيخ عبد الرمحن اجلربين‪ ،‬مبينًا‬
‫«ذكر العلماء لكلمة اإلخالص سبعة شروط‪ ،‬نَظَ َمها بعضهم بقوله‪:‬‬
‫محبة وانقياد والقبول لها‬ ‫علم يقين وإخالص وصدقك مع‬
‫وهذه الشروط مأخوذة باالستقراء والتتبع لألدلة من الكتاب والسنة‪ ،‬وقد‬
‫أضاف بعضهم إليها شرطًا ثامنًا‪ ،‬ونظمه بقوله‪:‬‬
‫سوى اإلله من األنداد قد ألها‬ ‫وزيد ثامنها الكفران منك بما‬
‫وأخذ هذا الشرط من قوله ‪« :‬من قال ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وكفر مبا يعبد من‬
‫دون اهلل حرم ماله ودمه» رواه مسلم‪.‬‬
‫وذكره الشيخ حممد بن عبد الوهاب يف كتاب التوحيد مث قال بعده‪ :‬وهذا‬
‫عاصما للدم‬
‫ً‬ ‫يبني معى ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬فإنه ل جيعل التلفظ هبا‬
‫من أعظم ما ِّ‬
‫واملال‪ ،‬بل وال معرفة معناها مع لفظها‪ ،‬بل وال اإلقرار بذلك‪ ،‬بل وال كونه ال‬
‫يدعو إالَّ اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬بل ال حيرم ماله ودمه حىت يضيف إىل ذلك‬
‫الكفر مبا يعبد من دون اهلل فإن شك أو تردد ل حيرم ماله ودمه‪ ...‬إخل‪.‬‬
‫ومعى هذا الشرط‪ :‬أن يعـتقد بطالن عبادة من سوى اهلل‪ ،‬وأن كل من‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪.)13 ،12( :‬‬

‫‪-341-‬‬
‫صرف شيئًا من خال حق اهلل لغريه فهو ضال مشرك‪ ،‬وأن كل املعبودات‬
‫سوى اهلل من قبور وبقا وغريها‪ ،‬نشأت من جهل املشركني وخرافاهتم‪ ،‬فمن‬
‫تردد يف صواهبم‪ ،‬أو شك يف بطالن ما هم عليه فليس‬ ‫أقرهم على ذلك‪ ،‬أو َّ‬ ‫َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫مبوحد‪ ،‬ولو قال‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ولو ل يعبد غري اهلل» ‪.‬‬
‫ِّ‬

‫وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬


‫«وقد غلط كثري من املشركني يف هذه األعصار‪ ،‬وظنوا أن من كفَّر من‬
‫تلفظ بالشهادتني فهو من اْلوارج‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬بل التلفُّظ بالشهادتني ال‬
‫مانعا من التكفري إالَّ ملن عرف معنامها‪ ،‬وعمل مبقتضامها‪ ،‬وأخل العبادة‬ ‫يكون ً‬
‫هلل‪ ،‬ول يشرك به سواه‪ ،‬فهذا تنفعه الشهادتان‪.‬‬
‫وأما من قاهلما‪ ،‬ول حيصل منه انقياد ملقتضامها‪ ،‬بل أشرك باهلل‪ ،‬واختذ‬
‫وقرب‬‫الوسائط والشفعاء من دون اهلل‪ ،‬وطلب منهم ما ال يقدر عليه إالَّ اهلل‪َّ ،‬‬
‫هلم القرابني‪ ،‬وفعل هلم ما يفعله أهل اجلاهلية من املشركني‪ ،‬فهذا ال تنفعه‬
‫اءك الْمنَافِقو َن‬
‫الشهادتان‪ ،‬بل هو كاذب يف شهادته‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َذا َج َ‬
‫ِِ‬
‫ك لََرسوله َواللَّه يَ ْش َهد إِ َّن الْمنَافق َ‬
‫ني‬ ‫ك لََرسول اللَّ ِه َواللَّه يَـ ْعلَم إِنَّ َ‬
‫قَالوا نَ ْش َهد إِنَّ َ‬
‫لَ َك ِاذبو َن﴾ [املنافقون‪.]9 :‬‬
‫ومعى شهادة أن ال إله إالَّ اهلل هو‪ :‬عبادة اهلل‪ ،‬وترك عبادة ما سواه‪ ،‬فمن‬
‫استكرب عن عبادته ول يعبده‪ ،‬فليس ممن يشهد أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ومن عبده‬
‫(‪)2‬‬
‫وعبد معه غريه‪ ،‬فليس هو ممن يشهد أن ال إله إالَّ اهلل» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الكنز الثمني»‪( :‬ص‪.)965 ،941‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)254 ،253/92( :‬‬

‫‪-341-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫اللفظ المجرد عن المعنى ل يدخل صاحبه في اإلسالم‬
‫مشروعا حتى اإلتيان بالتوحيد‬
‫ا‬ ‫ومن ثم كان قتال المشركين‬
‫إجماعا‬
‫ا‬ ‫مع النخالع من الشرك‬

‫اللفظ اجملرد عن املعى ال يدخل صاحبه يف اإلسالم‪ ،‬إالَّ عند من ورثوا‪ :‬إرث‬
‫أعىت فرق اإلرجاء‪ ،‬وأما الذين هنلوا من معني السلف‪ ،‬وانتهجوا هنجهم‪ :‬قوالً‪،‬‬
‫تقرر لديهم أن اإلميان والتوحيد‪ ،‬قول وعمل‪ ،‬ومن مث فمن‬ ‫اعتقادا‪ ،‬فقد َّ‬
‫وعمالً و ً‬
‫مسلما وال مؤمنًا‪ .‬ولقد‬
‫أتى بالقول يف أي واحد منهما دون العمل فال يكون ً‬
‫انعقد اإلمجا على وجوب اإلتيان بالتوحيد‪ ،‬مع االخنال من الشرك‪ ،‬والرباءة‬
‫منه‪ ،‬ومن أهله حىت تتحقق عصمة الدم واملال‪ ،‬وتلك هي غاية قتال املسلمني‬
‫للمشركني يدور معها حيث دارت‪.‬‬
‫قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫قال اإلمام حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل‪« :‬وجمرد اإلتيان بلفظ‬
‫مسلما‪،‬‬
‫الشهادة من غري علم مبعناها‪ ،‬وال عمل مبقتضاها‪ ،‬ال يكون به املكلف ً‬
‫لكرامية‬
‫بل هو حجة على ابن آدم‪ ،‬خالفًا ملن زعم‪ :‬أن اإلميان جمرد اإلقرار‪ ،‬كا َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫وجمرد التصديق كاجلهمية» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى‪ :‬وقرر‬
‫اإلمام محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫جمرد اإلتيان بلفظ الشهادة مع خمالفة ما دلت عليه من األصول املقررة‪،‬‬ ‫«أن َّ‬
‫ومع الشرك األكـرب يف العبـادة ال يـدخل املكلف يف اإلسالم‪ .‬إذ‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)623 ،622/9( :‬‬

‫‪-315-‬‬
‫(‪)1‬‬
‫املقصود من الشهادتني‪ :‬حقيقة األعمال اليت ال يقوم اإلميان بدوهنا» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل يف كتابه التوحيد‪،‬‬
‫وحفيده الشيخ عبد الرمحن بن حسن رمحهما اهلل يف شرحه عليه‪:‬‬
‫ويف الصحيح عن النيب ‪ ‬أنه قال‪« :‬من قال ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وكفر مبا يعبد‬
‫من دون اهلل‪ ،‬حرم ماله ودمه وحسابه على اهلل عز وجل»‪.‬‬
‫وشرح هذه الرتمجة‪ :‬وما بعدها من األبواب‪.‬‬
‫[الشرح]‬
‫قوله‪« :‬من قال ال إله إالَّ اهلل وكفر مبا يعبد من دون اهلل» اعلم أن النيب ‪‬‬
‫علق عصمة املال والدم يف هذا احلديث بأمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬قول «ال إله إالَّ اهلل» عن علم ويقني‪ ،‬كما هو قيد يف قوهلا يف غري‬
‫ما حديث كما تقدم‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬الكفر مبا يعبد من دون اهلل‪ ،‬فلم يكتف باللفظ اجملرد عن املعى‪،‬‬
‫بل ال بد من قوهلا والعمل هبا‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ك‬ ‫قلت‪ :‬وفيه معى‪﴿ :‬فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ‬
‫استَ ْم َس َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص َام َهلَا﴾ [البقرة‪.]265 :‬‬ ‫بِالْع ْرَوة الْوثْـ َق َى الَ انف َ‬
‫قال املصنف رمحه اهلل تعاىل‪ :‬وهذا من أعظم ما يبني معى ال إله إالَّ اهلل‪،‬‬
‫عاصما للدم واملال‪ ،‬بل وال معرفة معناها مع لفظها‪ ،‬بل‬ ‫ً‬ ‫فإنه ل جيعل التلفظ هبا‬
‫وال اإلقرار بذلك‪ ،‬بل وال كونه ال يدعو إالَّ اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬بل ال حيرم‬
‫ماله ودمه حىت يضيف إىل ذلك الكفر مبا يعبد من دون اهلل‪ ،‬فإن شك أو تردد‬
‫ل حيرم ماله ودمه‪ ،‬فيا هلا من مسألة ما أجلها ويا له من بيان ما أوضحه‪،‬‬
‫وحجة ما أقطعها للمناز »‪ .‬انتهى‪.‬‬

‫(‪« )1‬منهاج التأسيس والتقديس»‪( :‬ص‪.)95‬‬

‫‪-319-‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا هو الشرط املصحح لقوله «ال إله إالَّ اهلل» فال يصح قوهلا بدون‬
‫هذه اْلمس اليت ذكرها املصنف رمحه اهلل أصالً‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تَكو َن فْتـنَة َويَكو َن الدِّين كلُّه لليه﴾ [األنفال‪ ،]31 :‬وقال‪﴿ :‬فَاقْـتـلواْ الْم ْش ِرك َ‬
‫ني‬
‫صد فَِإن تَابواْ َوأَقَامواْ‬ ‫احصروه ْم َواقْـعدواْ َهل ْم ك َّل َم ْر َ‬
‫دَتوه ْم َوخذوه ْم َو ْ‬ ‫َحْيث َو َج ُّ‬
‫الزَكا َة فَ َخلُّواْ َسبِيلَه ْم﴾ [التوبة‪ ،]6 :‬أمر بقاتلهم حىت يتوبوا من‬ ‫الصالََة َوآتَـواْ َّ‬
‫َّ‬
‫الشرك وخيلصوا أعماهلم هلل تعاىل‪ ،‬ويقيموا الصالة‪ ،‬ويؤتوا الزكاة فإن أبوا عن‬
‫إمجاعا‪...‬‬
‫ذلك أو بعضه قوتلوا ً‬
‫قوله‪« :‬وحسابه على اهلل»‪ ،‬أي‪ :‬اهلل تبارك وتعاىل هو الذي يتوىل حساب‬
‫الذي يشهد بلسانه هبذه الشهادة‪ ،‬فإن كان صادقًا جازاه جبنات النعيم‪ ،‬وإن‬
‫منافقا عذبه العذاب األليم‪ .‬وأما يف الدنيا فاحلكم على الظاهر‪ ،‬فمن أتى‬ ‫كان ً‬
‫ظاهرا والتزم شرائع اإلسالم وجب الكف عنه‪.‬‬ ‫بالتوحيد ول يأت مبا ينافيه ً‬
‫قلت‪ :‬وأفاد احلديث أن اإلنسان قد يقول «ال إله إالَّ اهلل» وال يكفر مبا‬
‫يعبد من دون اهلل فلم يأت مبا يعصم دمه وماله‪ ،‬كما دل على ذلك اآليات‬
‫(‪)1‬‬
‫احملكمات واألحاديث» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل في شرحه على كتاب التوحيد‪:‬‬
‫قوله‪« :‬من قال ال إله إالَّ اهلل وكفر مبا يعبد من دون اهلل»‪ .‬اعلم أن النيب ‪‬‬
‫يف هذا احلديث علق عصمة املال والدم بأمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬قول ال إله إالَّ اهلل‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬الكفر مبا يعبد من دون اهلل‪.‬‬
‫فلم يكتف باللفظ جملرد عن املعى‪ ،‬بل ال بد من قوهلا والعمل هبا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وقد أمجع العلماء على معى ذلك فال بد يف العصمة من اإلتيان‬
‫بالتوحيد‪ ،‬والتزام أحكامه‪ ،‬وترك الشرك كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ‬

‫(‪« )1‬فتح اجمليد»‪( :‬ص‪.)993 – 999‬‬

‫‪-312-‬‬
‫تَكو َن فِْتـنَة َويَكو َن الدِّين كلُّه لِليه﴾ [األنفال‪...]31 :‬‬
‫وقد أمجع العلماء‪ :‬على أن من قال ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وهو مشرك أنه يقاتل‬
‫(‪)1‬‬
‫حىت يأيت بالتوحيد» ‪.‬‬
‫وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬عمن يقول‪ :‬ل إله إل‬
‫اهلل‪ ،‬ويدعو غير اهلل‪ ،‬هل يحرم ماله ودمه‪ ،‬بمجرد قولها‪ ،‬أم ل؟‬
‫فأجاب‪ :‬ال إله إالَّ اهلل كلمة اإلخالص‪ ،‬وكلمة التقوى‪ ،‬والعروة الوثقى‪،‬‬
‫وهي احلنيفية ملة إبراهيم ‪ ،‬جعلها كلمة باقية يف عقبه‪ ،‬وقد تضمنت ثبوت‬
‫اإلهلية هلل تعاىل‪ ،‬ونفيها عما سواه‪ ،‬واإلله هو‪ :‬الذي تأهله القلوب‪ ،‬حمبة وإنابة‬
‫وتوكالً‪ ،‬واستعانة ودعاء‪ ،‬وخوفًا ورجاء‪ ،‬وحنو ذلك‪...‬‬
‫فمن حتقق مبدلول هذه الكلمة العظيمة‪ ،‬من إخالص العبادة هلل تعاىل‪،‬‬
‫والرباءة من عبادة ما سواه؛ باجلَنان واألركان‪ ،‬وعمل مبا اقتضته من فرائض‬
‫اإلسالم واإلميان‪ ،‬كان معصوم الدم واملال‪ ،‬ومن ال‪ ،‬فال‪.‬‬
‫الزَكا َة فَ َخلُّواْ َسبِيلَه ْم﴾‬ ‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬فَِإن تَابواْ َوأَقَامواْ َّ‬
‫الصالََة َوآتَـواْ َّ‬
‫[التوبة‪ ،]6 :‬فدلت هذه اآلية الكرمية‪ ،‬على أن عصمة الدم واملال‪ ،‬ال حتصل‬
‫(‪)2‬‬
‫بدون هذه الثالث‪ ،‬لرتتبها عليها ترتب اجلزاء على الشرط» ‪.‬‬
‫وقال بعض علماء جند‪ :‬فال يعصم دم العبد وماله حىت يأيت هبذين األمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬قول ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬واملراد‪ :‬معناها‪ ،‬ال جمرد لفظها‪ ،‬ومعناها‪ :‬هو‬
‫توحيد اهلل جبميع أنوا العبادة‪.‬‬
‫األمر الثاني‪ :‬الكفر مبا يعبد من دون اهلل‪ ،‬واملراد بذلك‪ :‬تكفري املشركني‬
‫(‪)3‬‬
‫والرباءة منهم‪ ،‬ومما يعبدون مع اهلل» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪( :‬ص‪.)955 – 11‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)341/1( :‬‬
‫(‪« )3‬الدرر السنية»‪.)929/1( :‬‬

‫‪-313-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫اقتران النطق بالشهادتين مع فعل الشرك‪ ،‬ل أثر له‬
‫من نطق بالشهادتني وهو مقيم على شركه‪ ،‬أو وقع فيه بعد تلفظه بكلمة‬
‫التوحيد فال عصمة لدمه وماله‪ ،‬وإن صلَّى وصام‪ ،‬وزعم اإلسالم واإلميان‪...‬‬
‫ألن ما قام به من الشرك يناقض ما تكلَّم به من كلمة التوحيد‪ ،‬وألنه تكلم‬
‫دل عليه‪.‬‬
‫مبا ل يعمل به‪ ،‬ول يعتقد ما ي‬
‫قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر‪:‬‬
‫«وأما املسألة الثانية‪ ،‬فقالوا‪ :‬من قال ال إله إالَّ اهلل حممد رسول اهلل‪ ،‬ول‬
‫مومنا؟‬
‫يصل‪ ،‬ول يزك‪ ،‬هل يكون ً‬
‫فنقول‪ :‬أما من قال ال إله إالَّ اهلل حممد رسول اهلل‪ ،‬وهو مقيم على شركه‪،‬‬
‫يدعو املوتى‪ ،‬ويسأهلم قضاء احلاجات‪ ،‬وتفريج الكربات‪ ،‬فهذا كافر مشرك‪،‬‬
‫حالل الدم واملال‪ ،‬وإن قال‪ :‬ال إله إالَّ اهلل حممد رسول اهلل‪ ،‬وصلَّى وصام‪ ،‬وزعم‬
‫أنه مسلم‪ ،‬كما تقدم بيانه‪.‬‬
‫وحد اهلل تعاىل‪ ،‬ول يشرك به‪ ،‬ولكنه ترك الصالة‪ ،‬ومنع الزكاة‪ ،‬فإن‬
‫وأما‪ :‬إن َّ‬
‫إمجاعا‪ ،‬وأما إن اقر بالوجوب‪ ،‬ولكنه ترك‬
‫جاحدا للوجوب‪ ،‬فهو كافر ً‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫(‪)1‬‬
‫الصالة تكاسالً عنها‪ ،‬فهذا قد اختلف العلماء يف كفره» ‪.‬‬

‫وقال الشيخ محمد بن إبراهيم‪:‬‬


‫كثريا من الناس ينتسبون إىل اإلسالم‪ ،‬وينطقون بالشهادتني‪ ،‬ويؤدون‬ ‫«فإن ً‬
‫أركان اإلسالم الظاهرة‪ ،‬وال يكتفى بذلك يف احلكم بإسالمهم‪ ،‬وال حتل ذكاهتم‪،‬‬
‫لشركهم باهلل يف العبادة بدعاء األنبياء والصاحلني واالستغاثة‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)353/95( :‬‬

‫‪-314-‬‬
‫هبم‪ ،‬وغري ذلك من أسباب الردة عن اإلسالم‪ .‬وهذا التفريق بني املنتسبني‬
‫إىل اإلسالم أمر معلوم باألدلة من الكتاب والسنة وإمجا سلف األمة‬
‫(‪)1‬‬
‫وأئمتها» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«فاملقصود من ال إله إالَّ اهلل‪ :‬الرباءة من الشرك وعبادة غري اهلل؛ ومشركو‬
‫العرب يعرفون املراد منها‪ ،‬ألهنم أهل اللسان؛ فإذا قال أحدهم‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪،‬‬
‫فقد تربأ من الشرك‪ ،‬وعبادة غري اهلل‪ .‬فلو قال‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وهو مصر على‬
‫عبادة غري اهلل‪ ،‬ل تعصمه هذه‪ ،‬لقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ تَكو َن فِْتـنَة﴾‪،‬‬
‫الدين كلُّه لِليه﴾ [األنفال‪ ،]31 :‬وقوله‪﴿ :‬فَاقْـتـلواْ‬ ‫أي‪ :‬شرك‪َ ﴿ .‬ويَكو َن ِّ‬
‫ني﴾ إىل قوله‪﴿ :‬فَِإن تَابواْ﴾‪ ،‬أي‪ :‬عن الشرك ﴿ َوأَقَامواْ َّ‬ ‫ِ‬
‫الصالََة َوآتَـواْ‬ ‫الْم ْش ِرك َ‬
‫الزَكا َة فَ َخلُّواْ َسبِيلَه ْم﴾ [التوبة‪.]6 :‬‬
‫َّ‬
‫وقال النيب ‪« :‬بعثت بالسيف بني يدي الساعة‪ ،‬حىت يعبد اهلل وحده ال‬
‫شريك له»‪ .‬وهذا معى قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ تَكو َن فِْتـنَة َويَكو َن الدِّين‬
‫كلُّه لِليه﴾‪ ،‬أي الطاعة والعبادة (هلل) [البقرة‪ .]913 :‬وهذا معى ال إله إالَّ اهلل‪،‬‬
‫نسأل اهلل أن جيعلها آخر كالمنا؛ وصلَّى اهلل على عبده ورسوله حممد‪ ،‬وعلى آله‬
‫(‪)2‬‬
‫كثريا إىل يوم الدين» ‪.‬‬ ‫تسليما ً‬
‫وصحبه‪ ،‬وسلم ً‬
‫وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫«إن التهليل إذا صدر من املشرك‪ ،‬حال استمراره على شركه غري معترب‪،‬‬
‫ملتزما ملقتضاه كما قال تعاىل‪:‬‬ ‫فوجوده كعدمه‪ ،‬وإمنا ينفع إذا قاله‪ :‬عاملًا مبعناه‪ً ،‬‬
‫احلَ ِّق َوه ْم يَـ ْعلَمو َن﴾ [الزخرف‪ .]15 :‬قال ابن جرير كغريه‪:‬‬ ‫﴿إَِّال َمن َش ِه َد بِ ْ‬
‫(‪)3‬‬
‫وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬عقيدة املوحدين»‪( :‬ص‪.)312‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)939 – 935/92( :‬‬
‫(‪« )3‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪.)93 ،92/2( :‬‬

‫‪-316-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫من أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه والتزم شرائع اإلسالم‬
‫وجب الكف عنه واحلكم له باإلسالم يف الظاهر واهلل يتوىل السرائر‬
‫اعتقادا وقوالً‬
‫علما و ً‬
‫ال يصح اإلسالم ألحد‪ ،‬حىت يقوم بكلمة التوحيد‪ً :‬‬
‫وعمالً‪ ،‬وحيقق الوالء ألهلها‪ ،‬والرباءة من أعدائها‪.‬‬
‫نقرر مع هذا ونؤكد‪ :‬أن من أتى بالتوحيد‪ ،‬ول يأت مبا ينافيه‪ ،‬والتزم‬
‫ولكننا ِّ‬
‫شرائع اإلسالم‪ ،‬وجب الكف عنه‪ ،‬واحلكم له باإلسالم يف الظاهر‪ ،‬واهلل يتويل‬
‫السرائر‪ ،‬فإذا قام به ناقض من نواقض الشهادتني‪ ،‬ارتد بذلك‪ ،‬وارتفعت عنه‬
‫العصمة بالكلية‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫«ال يصح ألحد إسالم‪ ،‬إالَّ مبعرفة مادلَّت عليه هذه الكلمة من ‪ :‬نفي‬
‫الشرك يف العبادة‪ ،‬والرباءة منه‪ ،‬وممن فعله‪ ،‬ومعاداته‪ ،‬وإخالص العبادة هلل وحده‬
‫(‪)1‬‬
‫ال شريك له‪ ،‬واملواالة يف ذلك» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫«وأهل العلم واإلميان ال خيتلفون يف أن من صدر منه‪ :‬قول‪ ،‬أو فعل يقتضي‬
‫كفره‪ ،‬أو شركه‪ ،‬أو فسقه‪ ،‬أنه حيكم عليه مبقتضى ذلك‪ ،‬وإن كان ممن يقر‬
‫بالشهادتني ويأيت ببعض األركان‪.‬‬
‫وإمنا يكف عن الكافر األصلي إذا أتى هبما‪ ،‬ول يتبني منه خالفهما‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ومناقضتهما» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل»‪.)644/6( :‬‬


‫(‪« )2‬جمموعة الرسائل واملسائل»‪.)226/3( :‬‬

‫‪-315-‬‬
‫وقال بعض علماء جند‪:‬‬
‫«ومعى ال إله إالَّ اهلل‪ :‬توحيده يف عبادته مع التربي من كل معبود سواه‬
‫كما أخرب اهلل عن نبيه إبراهيم ‪ ‬بقوله تعاىل‪ ﴿ :‬إِنَِّن بَـَراء ِّممَّا تَـ ْعبدو َن * إَِّال‬
‫الَّ ِذي فَطََرِي﴾ [الزخرف‪....]24 ،25 :‬‬
‫وقال ‪« :‬من قال ال إله إالَّ اهلل وكفر مبا يعبد من دونه حرم ماله ودمه‬
‫وحسابه على اهلل» رواه مسلم‪.‬‬
‫فحينئذ من ال يكفر بكل معبود سوى اهلل ال حيرم دمه وماله‪ ،‬وال يكون‬
‫مسلما مبجرد التلفظ بال إله إالَّ اهلل إالَّ إذا أضاف إليها الكفر مبا يعبد من دون‬ ‫ً‬
‫اهلل‪ ،‬وال مبعرفة معناها مع التلفظ هبا‪ ،‬بل وال كونه ال يدعو إالَّ اهلل‪ ،‬ول يكفر مبا‬
‫مسلما بذلك فال حيرم ماله ودمه‪.‬‬ ‫يعبد من دون اهلل‪ ،‬ل يكن ً‬
‫فهذا أصل ال مرية فيما تضمنه وال شك فيه‪ ،‬وأنه ال يتم إميان أحد حىت‬
‫يعلمه ويعمل له‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬قد أنكر ‪ ‬على أسامة‪ :‬قتله ملن قال ال إله إالَّ اهلل؟‬
‫فاجلواب‪ :‬أنه ال شك أن من قال ال إله إالَّ اهلل من الكفار‪ ،‬حقن دمه وماله‬
‫ين َآمنواْ‬ ‫َّ ِ‬
‫حىت يتبني منه ما خيالف ما قاله‪ ،‬ولذا أنزل اهلل يف قصته‪﴿ .‬يَا أَيُّـ َها الذ َ‬
‫ضَربْـت ْم ِيف َسبِ ِيل اللي ِه فَـتَبَـيَّـنواْ﴾ اآلية [النساء‪.]14 :‬‬
‫إِ َذا َ‬
‫فإن تبني التزامه ملعناها‪ ،‬وهو‪ :‬إفراد اإلهلية والعبودية هلل تعاىل‪ ،‬كان له ما‬
‫للمسلمني وعليه ما عليهم‪.‬‬
‫تبني خالفه ل حيقن مبجرد التلفظ ماله ودمه‪ ،‬وهكذا كل من أظهر‬ ‫وإن َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫التوحيد‪ ،‬وجب الكف عنه‪ ،‬إىل أن يتبني منه ما خيالف ذلك» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬جممو الرسائل واملسائل النجدية»‪.)549 ،545/6( :‬‬

‫‪-314-‬‬
-311-
‫الفصل الثاني‬
‫حكم الشك في كفر الكافر‪ ،‬وصوره‪.‬‬

‫وفيه أربعة مباحث‪:‬‬

‫املبحث األول‪ :‬تكفري املشركني املستند إىل الربهان والدليل‪ ،‬من أعظم‬
‫دعائم الدين‪.‬‬
‫املبحث الثاي‪ :‬حكم الشك يف كفر الكافر‪ ،‬وصوره ومناطاته‪ ،‬وبأدىن نظر‬
‫فيها جند أهنا ليست على رتبة واحدة‪ ،‬وحكم واحد مطرد‬
‫فيها‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬مىت يعذر الشاك يف كفر الكافر حىت تقام عليه احلجة‪،‬‬
‫وتبني له األدلة؟!‬
‫املبحث الرابع‪ :‬عدم تكفري املشركني‪ ،‬أو الشك يف كفرهم‪ ،‬يوجب اجلهاد‬
‫ألهله‪.‬‬

‫‪-311-‬‬
-315-
‫المبحث األول‬
‫تكفير المشركين المستند إلى البرهان والدليل‬
‫من أعظم دعائم الدين‬

‫إن تكفري املشركني‪ ،‬املستند إىل الربهان والدليل من‪ :‬كتاب اهلل تعاىل‪ ،‬وسنة‬
‫نبيه ‪ ‬من أعظم دعائم الدين‪.‬‬
‫فيه ينقمع الشرك واملشركني‪ ،‬وتعلو وجتلو‪ :‬أعظم أصول امللة املتمثلة يف‪:‬‬
‫الكفر بالطاغوت‪ ،‬والرباءة من الشرك وأهله‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في معرض الحديث عن متى‬
‫يصح التكفير‪ ،‬ومتى ل يصح‪:‬‬
‫«وأما إن كان‪ :‬املكفِّر ألحد من هذه األمة‪ ،‬يستند يف تكفريه له إىل ن‬
‫احا‪ ،‬كالشرك باهلل‪ ،‬وعبادة‬ ‫كفرا بو ً‬
‫وبرهان‪ ،‬من كتاب اهلل وسنة نبيه‪ ،‬وقد رأى ً‬
‫ما سواه‪ ،‬واالستهزاء به تعاىل‪ ،‬أو بآياته‪ ،‬أو رسله‪ ،‬أو تكذيبهم‪ ،‬أو كراهة ما‬
‫أنزل اهلل من اهلدى ودين احلق‪ ،‬أو جحد صفات اهلل تعاىل ونعوت جالله‪ ،‬وحنو‬
‫ذلك‪ ،‬فاملكفر هبذا وأمثاله‪ ،‬مصيب مأجور‪ ،‬مطيع هلل ورسوله‪ ....‬والتكفري‪:‬‬
‫برتك هذه األصول‪ ،‬وعدم اإلميان هبا‪ ،‬من أعظم دعائم الدين‪ ،‬يعرفه كل من‬
‫(‪)1‬‬
‫كانت له هنمة‪ ،‬يف معرفة دين اإلسالم ‪.‬‬
‫وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«ومعى الكفر بالطاغوت‪ :‬أن تربأ من كل ما يعتقد فيه غري اهلل‪ ،‬من جن‪،‬‬
‫أو إنسي‪ ،‬أو شجر أو حجر‪ ،‬أو غري ذلك‪ ،‬وتشهد عليه بالكفر والضالل‪،‬‬
‫وتبغضه‪ ،‬ولو كان أنه أبوك‪ ،‬أو أخوك‪ ،‬فأمـا من قال‪ :‬أنـا ال أعـبد إالَّ‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)929/2( :‬‬

‫‪-319-‬‬
‫اهلل‪ ،‬وأنا ال أتعرض السادة والقباب على القبور‪ ،‬وأمثال ذلك‪ ،‬فهذا كاذب‬
‫(‪)1‬‬
‫يف قول ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ول يؤمن باهلل ول يكفر بالطاغوت» ‪.‬‬
‫أيضا رحمه اهلل تعالى‪:‬‬ ‫وقال ا‬
‫من اهلل عليه باإلسالم‪ ،‬وعرف أن ما من إله إالَّ اهلل‪ ،‬ال تظن‬ ‫«وأنت يا من َّ‬
‫أنك إذا قلت‪ :‬هذا هو احلق‪ ،‬وأنا تارك ما سواه‪ ،‬لكن ال أتعرض للمشركني‪ ،‬وال‬
‫أقول فيهم شيئًا‪ ،‬ال تظن أن ذلك حيصل لك به الدخول يف اإلسالم‪ ،‬بل‪ :‬ال بد‬
‫من بغضهم‪ ،‬وبغض من حيبهم‪ ،‬ومسبَّتهم‪ ،‬ومعاداهتم‪ ،‬كما قال أبوك إبراهيم‪،‬‬
‫والذين معه‪﴿ :‬إِنَّا بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ‬
‫ون اللَّ ِه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا بَـْيـنَـنَا‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤمنوا بالله َو ْح َده﴾ [املمتحنة‪ ،]4 :‬وقال‬ ‫َوبَـْيـنَكم الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ‬
‫ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى‪﴾...‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫تعاىل‪﴿ :‬فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ‬
‫اسَت ْم َس َ‬
‫اآلية [البقرة‪ ،]265 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولََق ْد بَـ َعثْـنَا ِيف ك ِّل أ َّمة َّرسوالً أ َِن ْاعبدواْ‬
‫الليه و ِ‬
‫وت﴾ [النحل‪.]35 :‬‬ ‫اجتَنبواْ الطَّاغ َ‬ ‫ََ ْ‬
‫ولو يقول رجل‪ :‬أنا ابتع النيب ‪ ‬وهو على احلق‪ ،‬لكن‪ :‬ال أتعرض الالت‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫علي منه‪ ،‬ل يصح إسالمه» ‪.‬‬ ‫والعزى‪ ،‬وال أتعرض أبا جهل وأمثاله ما َّ‬
‫وقال الشيخ حسين‪ ،‬والشيخ عبد اهلل‪ ،‬ابنا الشيخ محمد رحمهم اهلل‬
‫تعالى‪ ،‬في أثناء جواب لهما‪ ،‬المسألة الحادية عشرة‪:‬‬
‫رجل دخل هذا الدين وأحبه‪ ،‬ولكن ال يعادي املشركني‪ ،‬أو عاداهم ول‬
‫يكفرهم‪ ،‬أو قال‪ :‬أنا مسلم لكن ال اقدر أن أكفر أهل ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ولو ل‬
‫يعرفوا معناها‪ ،‬ورجل دخل هذا الدين وأحـبه‪ ،‬ولكـن يقول‪ :‬ال أتعرض‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)951/2( :‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق‪.‬‬

‫‪-312-‬‬
‫للقباب‪ ،‬وأعلم أهنا ال تنفع وال تضر‪ ،‬ولكن ما أتعرضها‪.‬‬
‫مسلما‪ ،‬إالَّ إذا عرف التوحيد‪ ،‬ودان به‪ ،‬وعمل‬ ‫اجلواب‪ :‬أن الرجل ال يكون ً‬
‫مبوجبه‪ ،‬وصدق الرسول ‪ ‬فيما أخرب به‪ ،‬وأطاعه فيما هنى عنه‪ ،‬وأمر به‪ ،‬وآمن‬
‫به ومبا جاء به‪ ،‬فمن قال‪ :‬ال أعادي املشركني‪ ،‬أو عاداهم ول يكفرهم‪ ،‬أو قال‬
‫ال أتعرض أهل ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ولو فعلوا الكفر والشرك وعادوا دين اهلل‪ ،‬أو قال‪:‬‬
‫مسلما‪ ،‬بل هو ممن قال اهلل فيهم‪َ ﴿ :‬ويقولو َن‬ ‫ال أتعرض للقباب‪ ،‬فهذا ال يكون ً‬
‫َّخذواْ بـ ِ‬
‫ك هم‬ ‫ك َسبِيالً * أ ْولَـئِ َ‬‫ني َذل َ‬
‫َْ َ‬
‫نـ ْؤِمن بِبـعض ونَكْفر بِبـعض وي ِريدو َن أَن يـت ِ‬
‫َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َْ َ‬
‫الْ َكافِرو َن َحقًّا﴾ [النساء‪. »]969 ،965 :‬‬
‫(‪)1‬‬

‫وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬


‫«لو عرف العبد معى‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬لعرف أن من شك‪ ،‬أو تردد يف كفر‬
‫(‪)2‬‬
‫من أشرك مع اهلل غريه‪ ،‬أنه ل يكفر بالطاغوت ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين‪:‬‬
‫«إن فعل مشركي الزمان عند القبور‪ ،‬من دعاء أهل القبور‪ ،‬وسؤاهلم قضاء‬
‫احلاجات‪ ،‬وتفريج الكربات‪ ،‬والذبح والنذر هلم‪ ،‬وقولنا‪ :‬إن هذا شرك أكرب‪ ،‬وأن‬
‫من فعله فهو كافر‪ ،‬والذين يفعلون هذه العبادات عند القبور كفار بال شك‪،‬‬
‫وقول اجلهال‪ :‬إنكم تكفرون املسلمني فهذا ما عرف اإلسالم‪ ،‬وال التوحيد‪.‬‬
‫والظاهر‪ :‬عدم صحة إسالم هذا القائل‪ ،‬فإن ل ينكر هذه األمور اليت‬
‫(‪)3‬‬
‫يفعلها املشركون اليوم‪ ،‬وال يراها شيئًا فليس مبسلم» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)945 – 931/95( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪ ،)623/99( :‬بتصرف بسيط‪.‬‬
‫(‪« )3‬جمموعة الرسائل واملسائل»‪ :‬القسم الثالث (‪.)544/9‬‬

‫‪-313-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫حكم الشك في كفر الكافر‪ ،‬وصوره ومناطاته‪ ،‬وبأدنى نظر فيها‬
‫نجد أنها ليست على رتبة واحدة‪ ،‬وحكم واحد مطرد فيها‬

‫قال الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب رمحهما اهلل تعاىل يف نواقض‬
‫اإلسالم‪:‬‬
‫صحح مذهبهم‬ ‫«الثالث‪ :‬من ل يكفر املشركني‪ ،‬أو شك يف كفرهم‪ ،‬أو َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫كفر» ‪.‬‬
‫أيضا رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫وقال ا‬
‫ردهتم‪ ،‬فمنهم من كذب النيب ‪ ‬ورجعوا إىل عبادة‬ ‫«إن املرتدين افرتقوا يف َّ‬
‫أقر‬
‫األوثان وقالوا‪ :‬لو كان نبيًا ما مات؛ ومنهم من ثبت على الشهادتني‪ ،‬ولكن َّ‬
‫بنبوة مسيلمة‪ ،‬ظنًا أن النيب ‪ ‬أشركه يف النبوة‪ ،‬ألن مسيلمة أقام شهود زور‬
‫شهدوا له بذلك‪ ،‬فصدقهم كثري من الناس‪ .‬ومع هذا‪ :‬أمجع العلماء أهنم‬
‫(‪)2‬‬
‫مرتدُّون ولو جهلوا ذلك‪ ،‬ومن شك يف ردهتم فهو كافر» ‪.‬‬
‫أيضا رحمه اهلل‪:‬‬
‫وقال ا‬
‫«وما أحسن ما قاله واحد من البوادي‪ ،‬ملا قدم علينا‪ ،‬ومسع شيئًا من‬
‫اإلسالم‪ ،‬قال‪ :‬أشهد أننا كفار ‪ -‬يعن هو ومجيع البوادي ‪ -‬وأشهد أن املطو‬
‫(‪)3‬‬
‫إسالما أنه كافر‪ ،‬وصلَّى اهلل على سيدنا حممد» ‪.‬‬
‫الذي يسمينا ً‬
‫وقال الشيخ أبو بطين رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«وقد أمجع املسلمون‪ :‬على كفر من ل يكفر اليهود والنصارى‪ ،‬أو شك‬

‫(‪« )1‬عقيدة املوحدين»‪( :‬ص‪.)465‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)991/1( :‬‬
‫(‪« )3‬الدرر السنية»‪.)991/1( :‬‬

‫‪-314-‬‬
‫يف كفرهم‪ ،‬وحنن نتيقن أن أكثرهم جهال‪.‬‬
‫سب الصحابة رضوان اهلل‬ ‫وقال الشيخ تقي الدين رمحه اهلل تعاىل‪ :‬من َّ‬
‫احدا منهم‪ ،‬واقرتن بسبه دعوى أن عليًا إله أو نيب‪ ،‬أو أن جربائيل‬ ‫عليهم‪ ،‬أو و ً‬
‫غلط‪ ،‬فال شك يف كفر هذا‪ ،‬بل ال شك يف كفر من توقف يف تكفريه‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول اهلل ‪ ،‬إالَّ ً‬
‫نفرا قليالً ال‬
‫يبلغون بضعة عشر‪ ،‬أو أهنم فسقوا‪ ،‬فال ريب يف كفر قائل ذلك‪ ،‬بل من شك‬
‫(‪)1‬‬
‫يف كفره فهو كافر» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب‪:‬‬
‫«قال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ :‬قال حممد بن سحنون أحد األئمة من‬
‫أصحاب مالك‪ :‬أمجع العلماء على أن شام الرسول كافر‪ ،‬وحكمه عند األئمة‬
‫(‪)2‬‬
‫القتل‪ ،‬ومن شك يف كفره‪ ،‬كفر» ‪.‬‬
‫أيضا رمحه اهلل عن شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل تعاىل‪ :‬كفر من ل‬ ‫ونقل ً‬
‫(‪)3‬‬
‫يكفِّر من دان بغري اإلسالم‪ ،‬أو شك يف كفرهم ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫أيضا رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫وقال ا‬
‫وأما قول من يقول‪ :‬إن تكلم بالشهادتني ما جيوز تكفريه‪ ،‬وقائل هذا القول‬
‫البد أن يتناقض‪ ،‬وال ميكنه طرد قوله‪ ،‬يف مثل من أنكر البعث‪ ،‬أو شك فيه مع‬
‫إتيانه بالشهادتني‪ ،‬أو أنكر نبوة أحد من األنبياء الذين مسَّاهم اهلل يف كتابه‪ ،‬أو‬
‫قال الزنا حالل‪ ،‬أو حنو ذل‪ ،‬فال أظن يتوقف يف كفر هؤالء وأمثاهلم إالَّ من‬
‫يكابر ويعاند‪...‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)45 ،51/92( :‬‬


‫(‪« )2‬عقيدة املوحدين»‪ ،‬الكلمات النافعة‪( :‬ص‪.)231‬‬
‫(‪« )3‬املصدر السابق»‪( :‬ص‪.)251‬‬

‫‪-316-‬‬
‫فمن قال‪ :‬إن التلفظ بالشهادتني ال يضر معهما شيء‪ ،‬أو قال‪ :‬من أتى‬
‫بالشهادتني وصلَّى وصام ال جيوز تكفريه‪ ،‬وإن عبد غري اهلل‪ ،‬فهو كافر‪ ،‬ومن‬
‫شك يف كفره فهو كافر‪ ،‬ألن قائل هذا القول مكذب هلل ورسوله؛ وإمجا‬
‫املسلمني كما قدمنا‪ ،‬ونصوص الكتاب والسنَّة يف ذلك كثرية‪ ،‬مع اإلمجا‬
‫القطعي‪ ،‬الذي ال يسرتيب فيه من له أدىن نظر يف كالم العلماء‪ ،‬لكن التقليد‬
‫واهلوى يعمي ويصم‪َ ﴿ ،‬وَمن َّلْ َْجي َع ِل اللَّه لَه ن ًورا فَ َما لَه ِمن نُّور﴾ [النور‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫‪. »]45‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«قال القاضي عياض يف كتابه الشفاء‪( :‬فصل يف بيان ما هو من املقاالت‬
‫صرحت بنفي‬ ‫البني يف هذا‪ :‬أن كل مقالة َّ‬ ‫كفر) ‪ -‬إىل أن قال‪ :-‬والفصل ِّ‬
‫الربوبية‪ ،‬أو الوحدانية‪ ،‬أو عبادة غري اهلل‪ ،‬أو مع اهلل‪ ،‬فهي كفر‪ .‬إىل أن قال‪:‬‬
‫والذين اشركوا بعبادة األوثان‪ ،‬أو أحد املالئكة‪ ،‬أو الشياطني‪ ،‬أو الشمس‪ ،‬أو‬
‫النجوم‪ ،‬أو النار‪ ،‬أو أحد غري اهلل من‪ :‬مشركي العرب‪ ،‬أو أهل اهلند‪ ،‬أو‬
‫صانعا سوى اهلل‪ ،‬أو‬
‫السودان‪ ،‬أو غريهم‪ - .‬على أن قال‪ :-‬أو أن مثي للعال ً‬
‫مدبِّـًرا‪ ،‬فذلك كله كفر بإمجا املسلمني‪ ،‬فانظر حكاية إمجا املسلمني على‬
‫كفر من عبد غري اهلل من املالئكة‪ ،‬وغريهم‪ ،‬وهذا ظاهر وهلل احلمد‪.‬‬
‫ونصوص القرآن يف ذلك كثرية‪ ،‬فمن قال‪ :‬إن من أتى بالشهادتني‪ ،‬وصلَّى‬
‫وصام ال جيوز تكفريه‪ ،‬أو عبد غري اهلل‪ ،‬فهذا كافر‪ ،‬ومن شك يف كفره فهو‬
‫(‪)2‬‬
‫كافر ‪ -‬إىل أن قال ـ ‪ :‬على هذا القول‪ :‬فهو مكذب هلل ولرسوله ولإلمجا‬
‫(‪)3‬‬
‫القطعي» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)265/95( :‬‬


‫اختصارا‪.‬‬
‫ً‬ ‫(‪ )2‬هكذا باألصل‪ :‬وليس‬
‫(‪« )3‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪.)555 ،561/9( :‬‬

‫‪-315-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫متى يعذر الشاك في كفر الكافر‬
‫حتى تقام عليه الحجة‪ ،‬وتبين له األدلة؟!‬
‫قال الشيخ اإلمام محمد بن عبد الوهاب رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬
‫إىل اإلخوان‪ ،‬سالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬
‫وبعد‪ :‬ما ذكرم من قول الشيخ‪ ،‬كل من جحد كذا وكذا‪ ،‬وقامت عليه‬
‫احلجة؛ وأنكم ُّ‬
‫شاكون يف هؤالء الطواغيت وأتباعهم‪ ،‬هل قامت عليهم احلجة؛‬
‫فهذا من العجب‪ ،‬كيف ُّ‬
‫تشكون يف هذا وقد أوضحته لكم مر ًارا؟!‬
‫فإن الذي ل تقم عليه احلجة‪ ،‬هو الذي حديث عهد اإلسالم‪ ،‬والذي نشأ‬
‫ببادية بعيدة‪ ،‬أو يكون ذلك يف مسألة خفية‪ ،‬مثل الصرف والعطف‪ ،‬فال يكفر‬
‫حىت يعرف‪.‬‬
‫وأما أصول الدين اليت أوضحها اهلل وأحكمها يف كتابه‪ ،‬فإن حجة اهلل هي‬
‫القرآن‪ ،‬فمن بلغه القرآن فقد بلغته احلجة‪ ،‬ولكن أصل اإلشكال‪ ،‬أنكم ل تفرقوا‬
‫بني قيام احلجة‪ ،‬وبني فهم احلجة‪ ،‬فإن أكثر الكفار واملنافقني من املسلمني‪ ،‬ل‬
‫يفهموا حجة اهلل مع قيامها عليهم‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬أ َْم َْحت َسب أ َّ‬
‫َن أَ ْكثَـَره ْم‬
‫ِ‬
‫َض ُّل َسبِ ًيال﴾ [الفرقان‪،]44 :‬‬ ‫يَ ْس َمعو َن أ َْو يَـ ْعقلو َن إِ ْن ه ْم إَِّال َك ْاألَنْـ َع ِام بَ ْل ه ْم أ َ‬
‫وقيام احلجة نو ‪ ،‬وبلوغها نو ‪ -‬وقد قامت عليهم‪ ،-‬وفهمهم إياها نو آخر‪،‬‬
‫وكفرهم ببلوغها إياهم‪ ،‬وإن ل يفهموها‪.‬‬
‫إن أشكل عليكم ذلك‪ ،‬فانظروا قوله ‪ ‬يف اْلوارج‪« ،‬أينما لقيتموهم‬
‫شر قتلى حتت أدمي السماء»‪ ،‬مـع كـوهنم يف عـصر‬ ‫فاقتلوهم»‪ ،‬وقوله‪ُّ « :‬‬

‫‪-314-‬‬
‫الصحابة‪ ،‬وحيقر اإلنسان عمل الصحابة معهم‪ ،‬ومع إمجا الناس أن الذي‬
‫أخرجهم من الدين‪ ،‬هو‪ :‬التشدد والغلو واالجتهاد‪ ،‬وهم يظنون أهنم يطيعون‬
‫اهلل‪ ،‬وقد بلغتهم احلجة‪ ،‬ولكن ل يفهموها‪.‬‬
‫وكذلك قتل علي ‪ ‬الذين اعتقدوا فيه‪ ،‬وحتريقهم بالنار‪ ،‬مع كوهنم تالميذ‬
‫الصحابة‪ ،‬ومع عبادهتم وصالهتم وصيامهم‪ ،‬وهم يظنون أهنم على حق‪.‬‬
‫وكذلك إمجا السلف‪ ،‬على تكفري غالة القدرية وغريهم‪ ،‬مع علمهم وشدة‬
‫صنعا‪ ،‬ول يتوقف أحد من السلف يف‬ ‫عبادهتم‪ ،‬وكوهنم حيسبون أهنم حيسنون ً‬
‫تكفريهم‪ ،‬ألجل كوهنم ل يفهموا‪ ،‬فإن هؤالء كلهم ل يفهموا‪.‬‬
‫إذا علمتم ذلك‪ :‬فإن هذا الذي أنتم فيه‪ :‬كفر‪ ،‬الناس يعبدون الطواغيت‪،‬‬
‫ويعادون دين اإلسالم‪ ،‬فيزعمون أنه ليس ردة‪ ،‬لعلَّهم ما فهموا احلجة‪ ،‬كل هذا‬
‫ِّبني‪.‬‬
‫حرقهم علي‪ ،‬فإنه يشابه هذا‪ ،‬وأما إرسال كالم‬ ‫وأظهر مما تقدم‪ :‬الذين َّ‬
‫الشافعية وغريهم‪ ،‬فال يتصور يأتيكم أكثر مما أتاكم‪ ،‬فإن كان معكم بعض‬
‫(‪)1‬‬
‫اإلشكال‪ ،‬فارغبوا إىل اهلل تعاىل أن يزيله عنكم‪ ،‬والسالم» ‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين‪:‬‬
‫جمتهدا‪ ،‬أو خمطئًا‪ ،‬أو مقلِّ ًدا‪ ،‬أو‬
‫متأوالً‪ ،‬أو ً‬
‫«فاملدعي أن مرتكب الكفر‪ِّ :‬‬
‫جاهالً‪ ،‬معذور‪ ،‬خمالف للكتاب والسنَّة واإلمجا بال شك‪ ،‬مع أنه ال بد أن‬
‫ينقض أصله‪ ،‬فلو طرد أصله‪ ،‬كفر بال ريب‪ ،‬كما لو توقف يف تكفري من شك‬
‫(‪)2‬‬
‫يف رسالة حممد ‪ ،‬وحنو ذلك» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)16 – 13/95( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)43 ،42/92( :‬‬

‫‪-311-‬‬
‫وسئل الشيخ حممد بن عبد اللطيف رمحهما اهلل تعاىل عن‪ :‬حكم األفعال‬
‫الشركية اليت تفعل عند القبور‪ ،‬واألعياد املقامة عليها؟ فأجاب‪:‬‬
‫«اجلواب وباهلل التوفيق‪ :‬اعلم أن هذه األفعال‪ ،‬هي من دين اجلاهلية‪ ،‬اليت‬
‫بعث رسول اهلل ‪ ‬بإنكارها وإزالتها‪ ،‬وحمو آثارها‪ ،‬ألهنا من الشرك األكرب‪ ،‬اليت‬
‫دلت اآليات احملكمات على حترميه‪ ،‬وهذه األعياد‪ ،‬تشبه‪ :‬أعياد اجلاهلية‪ ،‬فمن‬
‫اعتقد جوازه وحله‪ ،‬وأنه عبادة ودين‪ ،‬فهو من أكفر خلق اهلل وأضلهم‪ ،‬ومن‬
‫(‪)1‬‬
‫شك يف كفره بعد قيام احلجة عليهم‪ ،‬فهو كافر» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل رمحهما اهلل تعاىل‪:‬‬
‫«وأما قول السائل‪ :‬فإن كان ما يقدر من نفسه أن يتلفظ بكفرهم وسبِّهم‬
‫‪-‬أي يف أهل بلد مرتدين‪ ،‬وهكذا كان ن السؤال‪ -‬ما حكمه؟‬
‫فاجلواب‪ :‬ال خيلو ذلك عن أن يكون شا ًكا يف كفرهم أو جاهالً به‪ ،‬أو يقر‬
‫بأهنم كفرة هم وأشباههم‪ ،‬ولكن ال يقدر على مواجهتهم وتكفريهم أو يقول‪:‬‬
‫غري كفار‪ ،‬ال أقول إهنم كفار؛ فإن كان شا ًكا يف كفرهم أو جاهالً بكفرهم‪،‬‬
‫بينت له األدلة من كتاب اهلل وسنَّة رسوله ‪ ‬على كفرهم‪ ،‬فإن شك بعد ذلك‬
‫تردد‪ ،‬فإنه كافر بإمجا العلماء‪ ،‬على أن من شك يف كفر الكافر‪ ،‬فهو‬ ‫أو َّ‬
‫كافر‪.‬‬
‫وإن كان يقر بكفرهم‪ ،‬وال يقدر على مواجهتهم بتكفريهم‪ ،‬فهو مداهن‬
‫هلم‪ ،‬ويدخل يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وُّدوا لَْو ت ْد ِهن فَـي ْد ِهنو َن﴾ [القلم‪ ،]1 :‬وله حكم‬
‫أمثاله من أهل الذنوب‪.‬‬
‫وإن كان يقول‪ :‬أقول غريهم كفار‪ ،‬وال أقول هم كفار‪ ،‬فهذا حكم منه‬
‫كفارا فهم‬
‫بإسالمهم‪ ،‬إذ ال واسطة بني الكفر واإلسالم‪ ،‬فـإن ل يـكونوا ً‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)445 ،431/95( :‬‬

‫‪-311-‬‬
‫إسالما‪ ،‬أو مسى الكفار مسلمني‪ ،‬فهو‬
‫ً‬ ‫مسلمون؛ وحينئذ فمن مسى الكفر‬
‫(‪)1‬‬
‫كافرا» ‪.‬‬
‫كافر فيكون هذا ً‬
‫وقال أعضاء اللجنة الدائمة بعد أن تكلموا عن أحوال املشركني وأحكامهم‪،‬‬
‫وبيَّنوا أن أصل الدين ال يقبل االجتهاد فيه‪ ،‬وإمنا يقع فيما دونه من الفرو‬
‫العملية الظنية‪:‬‬
‫«وبذا يعلم أنه ال جيوز لطائفة املوحدين‪ ،‬الذين يعتقدون كفر عباد القبور‬
‫أن يكفروا إخواهنم املوحدين‪ ،‬الذين توقفوا يف كفرهم حىت تقام عليهم احلجة‪،‬‬
‫ألن توقفهم عن تكفريهم له شبهة‪ ،‬وهي‪ :‬اعتقادهم أنه ال بد من إقامة احلجة‬
‫على أولئك القبوريني قبل تكفريهم‪ ،‬خبالف من ال شبهة يف كفره كاليهود‬
‫والنصارى والشيوعيني وأشباههم‪ ،‬فهؤالء ال شبهة يف كفرهم وال يف كفر من ل‬
‫يكفرهم‪ ،‬واهلل ويل التوفيق‪.‬‬
‫ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال املسلمني وأن مينحهم الفقه يف الدين‪ ،‬وأن‬
‫يعيذنا وإياهم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬ومن القول على اهلل‬
‫سبحانه وعلى رسوله ‪ ‬بغري علم إنه ويل ذلك والقادر عليه»‪.‬‬

‫اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‬


‫الرئيس‬ ‫نائب رئيس اللجنة‬ ‫عضو‬ ‫عضو‬
‫( ‪)2‬‬
‫عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز»‬ ‫عبد الرزاق عفيفي‬ ‫عبد اهلل بن غديان‬ ‫عبد اهلل بن قعود‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)959 ،955/1( :‬‬


‫(‪« )2‬فتاوى اللجنة الدائمة»‪.)955 ،11/2( :‬‬

‫‪-455-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫عدم تكفير المشركين‪ ،‬أو الشك في كفرهم‪،‬‬
‫يوجب الجهاد ألهله‬

‫إن مما يوجب اجلهاد ملن اتصف به‪ :‬عدم تكفري املشركني‪ ،‬أو الشك يف‬
‫كفرهم‪ ،‬ألن ذلك من نواقض اإلسالم ومبطالته‪ ،‬ومما تزول به عصمة الدم‬
‫واملال‪ .‬ومن مث كان من أعظم حقوق املسلمني على ويل أمرهم أن يتوىل بنفسه‪:‬‬
‫القضاء على فتنة الذين ينهون عن تكفري املشركني‪ ،‬لئال تتجرأ السفلة من عامة‬
‫األمة على الشك‪ ،‬والردة عن أصول الدين‪ ،‬بسبب أمنهم من سيف الشر‬
‫املسلول على رءوس املشركني واملرتدين‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى في رسالة بعث بها‬
‫إلى إمام وقته فيصل بن تركي‪ ،‬يذكره فيها ببعض واجبات اإلمامة‪:‬‬
‫«وكذلك جيب على ويل األمر أن يقدم على من نسب عنه طعن وقدح يف‬
‫شيء من دين اهلل ورسوله‪ ،‬أو تشبيه على املسلمني يف عقائدهم ودينهم‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫من ينهى عن تكفري املشركني‪ ،‬وجيعلهم من خري أمة أخرجت للناس ألهنم‬
‫يدَّعون اإلسالم‪ ،‬ويتكلَّمون بالشهادتني‪.‬‬
‫خصوصا على العوام ضرر عظيم خيشى منه‬‫ً‬ ‫وهذا اجلنس ضرره على اإلسالم‬
‫الفتنة‪ ،‬وأكثر الناس ال علم له باحلجج اليت تنفي شبه املشبهني وزيغ الزائغني‪ ،‬بل‬
‫جتده والعياذ باهلل سلس القياد لكل من قاده أو دعاه‪ ،‬كما قال فيهم أمري‬
‫املؤمنني علي بن أيب طالب ‪ :‬ل يستضيئوا بنور العلم ول يلجؤوا على ركن وثيق‬
‫(‪)1‬‬
‫شبها هبم‪ :‬األنعام السارحة» ‪.‬‬‫أقرب ً‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪ ،‬تكملة رسائل عبد الرمحن ابن حسن‪.)4/2( :‬‬

‫‪-459-‬‬
‫وقال بعض علماء نجد في بيان بعض األمور التي يوجب كل واحد‬
‫منها جهاد أهله‪:‬‬
‫«األمر الثاني‪ :‬مما يوجب اجلهاد ملن اتصف به‪ ،‬عدم تكفري املشركني‪ ،‬أو‬
‫الشك يف كفرهم‪ ،‬فإن ذلك من نواقض اإلسالم ومبطالته‪ ،‬فمن اتصف به فقد‬
‫كفر‪ ،‬وحل دمه وماله‪ ،‬ووجب قتاله حىت يكفر املشركني‪.‬‬
‫والدليل على ذلك قوله ‪« :‬من قال ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وكفر مبا يعبد من دون‬
‫اهلل‪ ،‬حرم ماله ودمه»‪ ،‬فعلق عصمة املال والدم بأمرين‪:‬‬
‫األمر األول‪ :‬قول‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الكفر مبا يعبد من دون اهلل‪.‬‬
‫فال يعصم دم العبد وماله‪ ،‬حىت يأيت هبذين األمرين‪ ،‬األول قوله‪ :‬ال إله إالَّ‬
‫اهلل‪ ،‬واملراد معناها ال جمرد لفظها‪ ،‬ومعناها‪ :‬هو توحيد اهلل جبميع أنوا العبادة؛‬
‫األمر الثاني‪ :‬الكفر مبا يعبد من دون اهلل‪ ،‬واملراد بذلك تكفري املشركني‪ ،‬والرباءة‬
‫منهم‪ ،‬ومما يعبدون مع اهلل‪.‬‬
‫فمن ل يكفر املشركني من الدولة الرتكية‪ ،‬وعباد القبور‪ ،‬كأهل مكة‬
‫وغريهم‪ ،‬ممن عبد الصاحلني‪ ،‬وعدل عن توحيد اهلل إىل الشرك‪ ،‬وبدل سنَّة رسوله‬
‫‪ ‬بالبد ‪ ،‬فهو كافر مثلهم‪ ،‬وإن كان يكره دينهم‪ ،‬ويبغضهم‪ ،‬وحيب اإلسالم‬
‫واملسلمني؛ فإن الذي ال يكفر املشركني‪ ،‬غري مصدق بالقرآن‪ ،‬فإن القرآن قد‬
‫كفَّر املشركني‪ ،‬وأمر بتكفريهم وعداوهتم وقتاهلم‪.‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬حممد بن عبد الوهاب‪ ،‬رمحه اهلل يف نواقض اإلسالم؛ الثالث‪:‬‬
‫صحح مذهبهم‪ ،‬كفر؛ وقال‬ ‫من ل يكفر املشركني‪ ،‬أو شك يف كفرهم‪ ،‬أو َّ‬
‫شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل‪ :‬من دعا علي بن أيب طالب‪ ،‬فقد كفر‪ ،‬ومن‬
‫(‪)1‬‬
‫شك يف كفره فقد كفر» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)212 ،219/1( :‬‬

‫‪-452-‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫العذر بالجهل‬
‫وفيه سبعة مباحث‪:‬‬
‫المبحث األول‪ :‬الزمان‪ ،‬زمان فرتة‪.‬‬
‫المبحث الثاني ‪ :‬حكم من مات يف الفرتة مشرًكا‪ ،‬ول تقم عليه حجة‬
‫البالغ‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬من عبد غري اهلل فليس مبسلم‪ ،‬ولو كان جاهالً ول تقم‬
‫عليه حجة البالغ‪ ،‬مع استعراض ألحكام الناس قبل ظهور‬
‫دعوة الشيخ يف الدارين‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬مقتطفات من رسالتني إلمامني من أئمة الدعوة يف حكم‬
‫العذر باجلهل‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬األدلة الصحيحة الصرحية الدالة على ثبوت وصف‬
‫الشرك‪ ،‬وحكمه ملن وقع يف عبادة غري اهلل‪ ،‬ولو كان جاهالً‬
‫متأوالً‪ ،‬ول تقم عليه حجة البالغ‪.‬‬
‫أو ِّ‬
‫المبحث السادس‪ :‬حرمة الشرك األكرب وفاقية التحرمي‪ ،‬وإمجاعية املنع‬
‫والتأثيم‪ ،‬وال توجد شبهة سائغة عليها تدرأ حكم الكفر عن‬
‫أصحاهبا‪ ،‬ومن مث انتفى العذر باجلهل فيها‪.‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬العذر باْلطأ يف الشرك األكرب‪ ،‬يلزم منه عدم تكفري‬
‫طوائف من الكفار والزنادقة قد أمجعت األمة على كفرها‪،‬‬
‫وكفر من شك يف كفرها‪ ،‬مع بيان أن احلكم بإسالم‬
‫املشركني اجلاهلني ليس عليه دليل إال جمرد الدعوى اجملردة‪.‬‬

‫‪-453-‬‬
-454-
‫المبحث األول‬
‫الزمان‪ ،‬زمان فترة‬
‫لقد حلق زمان اإلمام حممد بن عبد الوهاب وأحفاده بزمان أهل الفرتة‪،‬‬
‫وذلك لبعد العهد‪ ،‬وغربة الدين‪ ،‬وعجمة اللسان‪ ،‬اليت حالت دون الفهم‬
‫والبيان‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في رسالة بعث بها إلى علي‬
‫بن حمد بن سليمان جاء فيها‪:‬‬
‫«والزمان‪ :‬زمان فرتة‪ ،‬يشبه زمن اجلاهلية‪ ،‬وإن كانت الكتب موجودة‪ ،‬فهي‬
‫ال تغن ما ل يساعدهم التوفيق‪ ،‬وتؤخذ املعاي واحلدود واألحكام‪ ،‬من عال‬
‫(‪)1‬‬
‫رباي» ‪.‬‬
‫أيضا رمحه اهلل تعاىل يف رسالة بعث هبا إىل بعض إخوانه من املسلمني‪:‬‬
‫وقال ً‬
‫من اهلل عليكم رمحكم اهلل يف هذا الزمن‪ ،‬الذي غلبت فيه اجلهاالت‪،‬‬ ‫«وقد َّ‬
‫وفشت بني أهله الضالالت‪ ،‬والتحق بعصر الفرتات‪ ،‬من جيدد لكم أمر هذا‬
‫الدين‪ ،‬ويدعو إىل ما جاء به الرسول األمني‪ ،‬من اهلدى الواضح املستبني‪ ،‬وهو‬
‫شيخ اإلسالم واملسلمني‪ ،‬وجمدِّد ما اندرس من معال امللة والدين‪ ،‬الشيخ حممد‬
‫فبصر العدد العديد من العماية‪ ،‬وهدى مبا دعا‬
‫بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل‪َّ ،‬‬
‫إليه من الضاللة‪ ،‬وأغى مبا فتح عليكم وعليه من العالة‪ ،‬وحصل من العلم ما‬
‫يستعبد على أمثالكم يف العادة‪ ،‬حىت ظهرت احلجة البيضاء‪ ،‬اليت كان عليها‬
‫(‪)2‬‬
‫صدر هذه األمة وأئمتها» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)934 ،345/929( :‬‬


‫(‪« )2‬جمموعة الرسائل واملسائل»‪.)434/4( :‬‬

‫‪-456-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫حكم من مات في الفترة مشراكا ولم تقم عليه حجة البالغ‬
‫قال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين في رسالة بعث بها‪ ،‬إلى‬
‫عبد الرحمن بن محمد بن نافع‪:‬‬
‫وأما حكم من مات يف زمان الفرتات ول تبلغه دعوة رسول‪ ،‬فاهلل سبحانه‬
‫أعلم هبم‪ ،‬واسم الفرتة ال خيت بأمة دون أمة كما قال اإلمام أمحد يف خطبة‬
‫على الزنادقة واجلهمية‪ :‬احلمد هلل الذي جعل يف كل زمان فرتة من الرسل‪ ،‬بقايا‬
‫من أهل العلم‪ ،‬ويروى هذا اللفظ عن عمر ‪.‬‬
‫والكالم يف حكم أهل الفرتة لسنا مكلفني به‪ ،‬واْلالف يف املسألة معروف‪،‬‬
‫ملا تكلم يف الفرو على حكم أطفال املشركني‪ ،‬وكذا من بلغ منهم جمنونًا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ويتوجه مثلهما من ل تبلغه الدعوة وقاله‪ :‬شيخنا‪.‬‬
‫مطلقا إىل‬
‫ويف الفنون عن أصحابنا‪ :‬ال يعاقب‪ ،‬وذكر عن ابن حامد يعاقب ً‬
‫ث َرسوالً﴾‬ ‫أن قال القاضي أبو يعلى يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما كنَّا م َع ِّذبِ َ‬
‫ني َح َّىت نَـْبـ َع َ‬
‫(‪)1‬‬
‫[اإلسراء‪ ،]96 :‬ويف هذا دليل أن عرفة اهلل ال جتب عقالً ‪ ،‬وإمنا جتب‬
‫بالشر ‪ ،‬وهو بعثة الرسل‪ ،‬وأنه لو مات اإلنسان قبل ذلك ل يقطع عليه بالنار‪.‬‬
‫انتهى‪.‬‬
‫وقال ابن القيم رحمه اهلل تعالى في طبقات المكلفين‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫الطبقة الرابعة عشر ‪ :‬قوم ال طاعة هلم وال معصية وال كفر وال إميان‪،‬‬

‫(‪ )1‬أي‪ :‬الوجوب املستحق به العقوبة على املخالفة‪ ،‬وامض إىل آخر كالم القاضي‪ :‬جتده فيه‪.‬‬
‫(‪ )2‬امتحان املشركني‪ ،‬من أهل الفرتات‪ ،‬ومن ل تبلغهم الدعوة يوم القيامة قبل حتديد مصريهم‪ ،‬دليل‬
‫قاطع على كوهنم غري مسلمني‪ ،‬إذ لو كانوا كذلك لدخلوا اجلنة دون سابق امتحان‪ ،‬وكذلك ل‬
‫يكونوا كافرين‪ ،‬الكفر املعذب عليه‪ ،‬إذ لو كانوا كذلك‪ ،‬لدخلوا النار‪ ،‬دون عقد امتحان‪.‬‬
‫واعتذارهم عن شركهم‪ ،‬بني يدي عالَّم الغيوب سبحانه‪ ،‬دليل على خمالفتهم حلجة ‪ -‬على األقل ‪-‬‬
‫وإالَّ فمن أي شيء يكون االعتذار؟!!‬
‫أخي احلبيب‪ :‬اصغ هلذا التفصيل‪ ،‬جتد بفضل العليم اْلبري‪ ،‬انسياب األدلة وتدفقها بسهولة ويسر‬
‫=‬

‫‪-455-‬‬
‫قال‪ :‬وهؤالء أصناف‪ :‬منهم من ل تبلغه الدعوة حبال وال مسع هلا خبرب‪،‬‬
‫أبدا‪،‬‬
‫ومنهم اجملنون الذي ال يعقل شيئًا‪ ،‬ومنهم األصم الذي ال يسمع شيئًا ً‬
‫ومنهم أطفال املشركني‪ ،‬الذين ماتوا قبل أن مييِّزوا شيئًا‪.‬‬
‫كثريا‪ ،‬وذكر األقوال واختار ما‬ ‫فاختلفت األمة يف حكم هذه الطبقة اختالفًا ً‬
‫اختاره شيخه أهنم يكلفون يوم القيامة‪ ،‬واحتج مبا رواه أمحد يف مسنده عن‬
‫مرفوعا قال‪« :‬أربعة ميتحنون يوم القيامة‪ :‬رجل أصم ال يسمع‪،‬‬ ‫األسود بن سريع ً‬
‫ورجل أمحق‪ ،‬ورجل هرم‪ ،‬ورجل مات يف الفرتة»‪.‬‬
‫أما األصم فيقول‪ :‬رب لقد جاء اإلسالم وأنا ما أمسع شيئًا‪ ،‬وأما األمحق‬
‫فيقول‪ :‬رب لقد جاء اإلسالم والصبيان يرمونن بالبعر‪ ،‬وأما اهلرم فيقول‪ :‬رب‬
‫لقد جاء اإلسالم‪ ،‬وما أعقل‪ ،‬وأما الذي مات يف الفرتة فيقول‪ :‬رب ما أتاي من‬
‫رسول‪ ،‬فيأخذ مواثيقهم ليطيعنَّه‪ ،‬فريسل إليهم رسوالً أن ادخلوا النار‪ ،‬فوالذي‬
‫وسالما»‪ ،‬مث رواه من حديث أيب‬ ‫ً‬ ‫بردا‬
‫نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم ً‬
‫هريرة مبثله وزاد يف آخره‪ ،‬ومن ل يدخلها رد إليها‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫ث‬ ‫وذكر ابن كثري عند تفسري قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما كنَّا م َع ِّذبِ َ‬
‫ني َح َّىت نَـْبـ َع َ‬
‫َرسوالً﴾ [اإلسراء‪ ،]96 :‬قال‪ :‬وهنا مسألة اختلف األئمة فيها‪ ،‬وهي مسألة‬
‫الولدان‪ ،‬الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار‪ ،‬وكذا اجملنون واألصم واْلرف‬
‫ومن مات‬

‫=‬
‫وسالسة على موارده‪ ،‬دون منازعة وال ممناعة‪.‬‬
‫كتايب‪ :‬العذر باجلهل حتت اجملهر الشرعي‪ ،‬وآثار حجج التوحيد يف مؤاخذة‬ ‫وإن شئت أن ترجع إىل َّ‬
‫العبيد‪ ،‬جتد فيهما إن شاء اهلل األدلة ا لواضحة على تلك املسألة‪ .‬واهلل ويل التوفيق‪.‬‬

‫‪-454-‬‬
‫يف الفرتة‪ ،‬وقد روي يف شأهنم أحاديث أنا ذاكرها بعون اهلل‪ ،‬وتوفيقه‪.‬‬
‫مث ذكر يف املسألة‪ :‬عشرة أحاديث افتتحها باحلديث الذي ذكرناه مث اشار‬
‫إىل اْلالف‪.‬‬
‫مث قال‪ :‬ومن العلماء من ذهب إىل أهنم ميتحنون يوم القيامة‪ ،‬فمن أطا‬
‫دخل اجلنة‪ ،‬وانكشف علم اهلل فيه‪ ،‬ومن عصى دخل النار وانكشف علم اهلل‬
‫فيه‪ ،‬وهذا القول جيمع بني األدلة‪.‬‬
‫صرحت به األحاديث املتقدمة املتعاضدة‪ ،‬الشاهد بعضها لبعض‪ ،‬وهذا‬ ‫وقد َّ‬
‫قول حكاه األشعري عن أهل السنة‪ ،‬مث رد قول من عارض ذلك بأن اآلخرة‬
‫ليست بدار تكليف إىل أن قال‪ :‬وملا كان الكالم يف هذه املسألة حيتاج إىل‬
‫دالئل صحيحة‪ ،‬وقد يتكلم فيها من ال علم عنده‪ ،‬كره مجاعة من العلماء‬
‫الكالم فيها‪ ،‬روي ذلك عن ابن عباس وابن احلنفية والقاسم ابن حممد وغريهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬وليعلم أن اْلالف يف الولدان خمصوص بأوالد املشركني‪.‬‬
‫فأما ولدان املؤمنني فال خالف بني العلماء‪ ،‬حكاه القاضي أبو يعلى‬
‫احلنبلي عن اإلمام أمحد أنه قال‪ :‬ال خيتلف فيهم أهنم من أهل اجلنة‪.‬‬
‫فأما ما ذكره ابن عبد الرب أهنم توقفوا يف ذلك‪ ،‬وأن الولدان كلهم حتت‬
‫املشيئة‪ ،‬وهو يشبه ما رسم مالك يف موطَّئِه يف أبواب القدر فهذا غريب ً‬
‫جدا‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وذكر القرطيب يف التذكرة حنوه» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل»‪.)293 – 299/9( :‬‬

‫‪-451-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫من عبد غير اهلل فليس بمسلم‪ ،‬ولو كان جاهالا‬
‫ولم تقم عليه حجة البالغ‪ ،‬مع استعراض ألحكام الناس‬
‫قبل ظهور دعوة الشيخ في الدارين‬
‫فعل التوحيد وترك الشرك‪ ،‬هو أصل األصول االعتقادية‪ ،‬واحلجة على الناس‬
‫فيه قامت بالرسول والقرآن‪.‬‬
‫ومتأولني‪ ،‬فليسوا مبسلمني عند شيخ‬
‫عبَّاد القبور‪ ،‬وإن كانوا جاهلني ِّ‬
‫امتدادا ملدرسة شيخ اإلسالم ابن‬
‫ً‬ ‫اإلسالم حممد بن عبد الوهاب وأحفاده‪،‬‬
‫تيمية‪ ،‬وتلميذه اإلمام ابن القيم‪ ،‬ولذلك عندما يطلقون القول بالعذر‪ ،‬فهو مقيد‬
‫بعبَّاد القبور وأمثاهلم من املشركني‪ ،‬لعدم دخوهلم يف عداد املسلمني لديهم‪.‬‬
‫ولقد كانت أحكام الناس قبل ظهور دعوة الشيخ حممد بن عبد الوهاب‪،‬‬
‫على النحو اآليت‪:‬‬
‫من كان عامالً باإلسالم‪ ،‬وتارًكا للشرك‪ ،‬فهو مسلم‪.‬‬
‫ونفوض حكمه‬ ‫اقعا يف عبادة اهلل سبحانه‪ ،‬فهذا ظاهره الكفر‪ِّ ،‬‬
‫ومن كان و ً‬
‫(‪)1‬‬
‫يف الباطن إىل اهلل تعاىل‪ ،‬الحتمال كونه ل تقم عليه حجة البالغ‪.‬‬
‫يضحى له‪ ،‬وال يستغفر له‪ ،‬وال‬‫فإن مات على ذلك‪ ،‬فال يتصدق عنه‪ ،‬وال َّ‬
‫حيكم برباءة ذمته من الطاعات‪ ،‬كاحلج مثالً‪ ،‬إن قام به حال شركه‪ ،‬ألن حتقيق‬
‫اإلسالم شرط من شروط قبول الطاعات‪ ،‬وهو منتف لديه‪.‬‬
‫ومن مات منهم جمهول احلال فال حيكمون بإسالمه‪ ،‬ألنه ل يكن أصالً‬
‫لديهم للحكم به على أقوامهم‪ ،‬وكذا ال حيكمون بكفره‪ ،‬ألهنـم يعتقـدون‬

‫(‪ )1‬املقصود حبكم الباطن هنا‪ :‬أي الكفر املعذب عليه يف اآلخرة‪.‬‬

‫‪-451-‬‬
‫أن اهلل ل يكلفهم بذلك‪.‬‬
‫كافرا يف الظاهر‬
‫مسلما‪ ،‬أدخل اهلل اجلنة‪ ،‬ومن كان ً‬ ‫ً‬ ‫فمن كان منهم‬
‫والباطن‪ ،‬خلَّده يف ناره‪ ،‬ومن ل تقم عليه احلجة‪ ،‬وكان و ً‬
‫اقعا يف الشرك األكرب‪،‬‬
‫فحكمه حكم أهل الفرتات‪ ،‬وليس مبسلم على أية حال‪.‬‬
‫وكذلك حكم أئمة الدعوة يف أموال أهل زماهنم‪ :‬حبكم أموال الكفار‬
‫األصليني‪ ،‬أي‪ :‬يستحقون التوارث فيما بينهم‪ ،‬مث من اسلم منهم على شيء من‬
‫املال فهو له‪ ،‬ول يقولوا‪ :‬بردة أقوامهم‪ ،‬ألن املرتد ال يرث‪ ،‬وال يورث‪ ،‬ألن طرد‬
‫ذلك القول‪ :‬جيعل مجيع أمول الكفار يف زماهنم مستحقة لبيت املال‪ ،‬ألهنم‬
‫مرتدون‪ ،‬وورثوها عن آبائهم املرتدين‪ ،‬وكذا األموال اليت بأيدي املسلمني‪ ،‬حىت‬
‫تدا‪.‬‬
‫يثبت أحدهم أن أباه ل يكن مر ً‬
‫وكذلك سلك أئمة الدعوة مع أقوامهم يف الدعوة والقتال‪ :‬مسلك الكفار‬
‫األصليني‪ ،‬الذي ل تقم عليهم حجة البالغ‪ ،‬فال يقاتلوهنم حىت يبلغوهم إياها‪،‬‬
‫فمن قبلها ودان باإلسالم قاتلوا به من وراءه‪ ،‬ومن أباها‪ ،‬قاتلوه قتال املشركني‪،‬‬
‫وملا حتققوا من ظهور دعوهتم‪ ،‬وبلوغها ملن حوهلم من الديار ل يتوجب عليهم‬
‫الدعوة قبل القتال‪.‬‬
‫ولقد وردت أسئلة على أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب‪ ،‬وحمد ابن‬
‫جميعا منها جاء فيها‪:‬‬
‫ناصر رحمهم اهلل ا‬
‫«وأما السؤال الثالث‪ ،‬وهو قولكم ورد‪« :‬اإلسالم يهدم ما قبله» ويف رواية‪:‬‬
‫جيب ما قبله»‪ ،‬ويف حديث حجة الودا ‪« :‬أال إن دم اجلاهلية كله موضو »‬ ‫« ُّ‬
‫إخل‪ ،‬وظهر لنا من جوابكم‪ :‬أن املؤمن باهلل ورسوله‪ ،‬إذا قال أو فعل ما يكون‬
‫كفرا‪ ،‬جهالً منه بذلك‪ ،‬فال تكفرونه حىت تقوم عليه احلجة‬ ‫ً‬
‫الرسالية‪ ،‬فهل لو قتل من هذا حاله‪ ،‬قبل ظهور هذه الدعوة‪ ،‬موضو أو ال؟‬

‫‪-495-‬‬
‫فنقول‪ :‬إذا كان يعمل بالكفر والشرك‪ ،‬جلهله‪ ،‬أو عدم من ينبهه‪ ،‬بل‬
‫الحنكم بكفره حىت تقام عليه احلجة‪ ،‬ولكن ال حنكم بأنه مسلم‪ ،‬بل نقول‪:‬‬
‫عمله هذا كفر‪ ،‬يبيح املال والدم‪ ،‬وإن كان ال حنكم على هذا الشخ لعدم‬
‫كافرا فهو مسلم‪ ،‬بل نقول عمله عمل‬ ‫قيام احلجة عليه‪ ،‬ال يقال إن ل يكن ً‬
‫الكفار‪ ،‬وإطالق احلكم على هذا الشخ بعينه‪ ،‬متوقف على بلوغ احلجة‬
‫الرسالية‪ ،‬وقد ذكر أهل العلم‪ :‬أن أصحاب الفرتات‪ ،‬ميتحنون يوم القيامة يف‬
‫العرصات‪ ،‬ول جيعلوا حكمه حكم الكفار‪ ،‬وال حكم األبرار‪.‬‬
‫وأما حكم هذا الشخ إذا قتل‪ ،‬مث أسلم قاتله‪ ،‬فإنا ال حنكم بديته على‬
‫جب ما قبله‪ ،‬ألن القاتل قتله يف حال كفره‪،‬‬
‫قاتله إذا أسلم‪ ،‬بل نقول‪ :‬اإلسالم َّ‬
‫واهلل سبحانه وتعاىل أعلم‪....‬‬
‫وأما قولكم‪ :‬وهل ينفع هذا املؤمن املذكور‪ ،‬ما معه من أعمال الرب‪ ،‬وأفعال‬
‫اْلري‪ ،‬قبل حتقيق التوحيد؟‬
‫فيقال ال يطلق على الرجال املذكور اسم اإلسالم‪ ،‬فضالً عن اإلميان‪ ،‬بل‬
‫يقال‪ :‬الرجل الذي يفعل الكفر‪ ،‬أو يعتقده يف حال جهله‪ ،‬وعدم من ينبهه‪ ،‬إذا‬
‫فعل شيئًا من أفعال الرب‪ ،‬وأفعال اْلري‪ ،‬أثابه اهلل على ذلك‪ ،‬إذا صحح إسالمه‬
‫وحقق توحيده‪ ،‬كما يدل عليه حديث حكيم بن حزام‪« :‬أسلمت على ما‬
‫أسلفت من خري»‪.‬‬
‫وأما احلحج الذي فعله يف تلك احلالة‪ ،‬فال حنكم برباءة ذمته‪ ،‬بل نأمره‬
‫بإعادة احلج‪ ،‬ألنا ال حنكم بإسالمه يف تلك احلالة‪ ،‬واحلج من شرط صحته‪:‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬فكيف حنكم بصحة حجة وهو يفعل الكفر‪ ،‬أو يعتقده؟‬
‫ولكنا ال نكفره إالَّ بعد قيام احلجة عليه‪ ،‬فإذا قامت عليه احلجة وسلك‬
‫(‪)1‬‬
‫سبيل احملجة‪ ،‬أمرناه بإعادة احلج‪ ،‬ليسقط الفرض عنه بيقني» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)931 – 935/95( :‬‬

‫‪-499-‬‬
‫وسئل الشيخ حمد بن ناصر رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫عن قول الفقهاء‪ ،‬إن املرتد ال يرث وال يورث‪ ،‬فكفار أهل زماننا هل هم‬
‫مرتدُّون؟ أن حكمهم حكم عبدة األوثان‪ ،‬وأهنم مشركون؟‬
‫فأجاب‪« :‬أما من دخل يف دين اإلسالم مث ارتد‪ ،‬فهؤالء مرتدون‪ ،‬وأمرهم‬
‫عندك واضح‪ ،‬وأما من ل يدخل يف دين اإلسالم‪ ،‬بل أدركته الدعوة اإلسالمية‪،‬‬
‫وهو على كفره‪ ،‬كعبدة األوثان‪ ،‬فحكمه حكم الكفار األصلي‪ ،‬ألنا ال نقول‬
‫األصل إسالمهم‪ ،‬والكفر طارئ عليهم‪.‬‬
‫بل نقول‪ :‬الذين نشؤوا بني الكفار‪ ،‬وأدركوا آباءهم على الشرك باهلل‪ ،‬هم‬
‫ينصرانه‪،‬‬
‫يهودانه‪ ،‬أو ِّ‬
‫كآبائهم‪ ،‬كما دل عليه احلديث الصحيح يف قوله «فأبواه ِّ‬
‫ميجسانه»‪ ،‬فإن كان دين آبائهم الشرك باهلل‪ ،‬فنشأ هؤالء واستمروا عليه‪ ،‬فال‬ ‫أو ِّ‬
‫نقول األصل اإلسالم والكفر طارئ‪ ،‬بل نقول‪ :‬هم الكفار األصليون‪ ،‬وال يلزمنا‬
‫على هذا تكفري من مات يف اجلاهلية قبل ظهور الدين‪ ،‬فإنا ال نكفر الناس‬
‫بالعموم‪ ،‬كما أمنا ال نكفر اليوم بالعموم‪.‬‬
‫بل نقول‪ :‬من كان من أهل اجلاهلية عامالً باإلسالم‪ ،‬تارًكا للشرك‪ ،‬فهو‬
‫مسلم‪.‬‬
‫وأما من كان يعبد األوثان‪ ،‬ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدين‪ ،‬فهذا‬
‫ظاهره الكفر‪ ،‬وإن كان حيتمل أنه ل تقم عليه احلجة الرسالية‪ ،‬جلهله وعدم من‬
‫ينبهه‪ ،‬ألنا حنكم على الظاهر‪ ،‬وأما احلكم على الباطن فذلك إىل اهلل‪ ،‬واهلل‬
‫أحدا إالَّ بعد قيام احلجة عليه‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما كنَّا‬
‫تعاىل ال يعذب ً‬
‫ث َرسوالً﴾ [اإلسراء‪.]96 :‬‬ ‫م َع ِّذبِ َ‬
‫ني َح َّىت نَـْبـ َع َ‬
‫(حكم مجهول الحال)‬
‫وأما مـن مـات منهـم جمهول احلال‪ ،‬فهـذا ال نتعرض له‪ ،‬وال حنكم‬

‫‪-492-‬‬
‫ت َهلَا َما‬ ‫بكفره وال بإسالمه‪ ،‬وليس ذلك مما كلفنا به‪﴿ ،‬تِْل َ‬
‫ك أ َّمة قَ ْد َخلَ ْ‬
‫ت َولَكم َّما َك َسْبت ْم َوالَ ت ْسأَلو َن َع َّما َكانوا يَـ ْع َملو َن﴾ [البقرة‪.]934 :‬‬
‫َك َسبَ ْ‬
‫كافرا أدخله اهلل النار‪.‬‬
‫مسلما أدخله اهلل اجلنة‪ ،‬ومن كان ً‬ ‫فمن كان منهم ً‬
‫ومن كان منهم ل تبلغه الدعوة‪ ،‬فأمره إىل اهلل‪.‬‬
‫وقد علمت اْلالف يف أهل الفرتات‪ ،‬ومن ل تبلغهم احلجة الرسالية‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬فإنه ال ميكن أن حنكم يف كفار زماننا‪ ،‬مبا حكم به الفقهاء يف‬ ‫و ً‬
‫املرتد‪ :‬أنه ال يرث وال يورث‪ ،‬ألن من قال ال يرث وال يورث‪ ،‬جيعل ماله فيئًا‬
‫لبيت مال املسلمني‪ ،‬وطرد هذا القول‪ ،‬أن يقال‪ :‬مجيع أمالك الكفار اليوم بيت‬
‫مال‪ ،‬ألهنم ورثوها عن أهليهم‪ ،‬وأهلوهم مرتدون ال يورثون‪ ،‬وكذلك الورثة‬
‫مرتدون ال يرثون‪ ،‬ألن املرتد ال يرث وال يورث‪.‬‬
‫وأما إذا حكمنا فيهم حبكم الكفار األصليني‪ ،‬ل يلزم شيء من ذلك‪ ،‬بل‬
‫يتوارثون‪ ،‬فإذا اسلموا فمن أسلم على شيء فهو له‪ ،‬وال نتعرض ملا مضى منهم‬
‫(‪)1‬‬
‫يف جاهليتهم‪ ،‬ال املوارث وال غريها» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ محد بن ناصر‪ ،‬رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬بعد أن َّبني أن اهلل أرسل الرسل‬
‫لئال تكون للناس حجة عليه سبحانه بعد إرساهلم‪ ،‬وأن عبادة اهلل وحده ال‬
‫شريك له‪ ،‬معلومة بالضرورة من الدين‪ ،‬وأن احلجة عليها بلوغ القرآن‪ ،‬فقال رمحه‬
‫اهلل تعاىل‪:‬‬
‫«إذا تقرر هذا‪ ،‬فنقول‪ :‬إن هؤالء الذين ماتوا قبل ظهور هذه الدعوة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وظاهر حاالهم الشرك‪ ،‬ال نتعرض هلم‪ ،‬وال حنكم بكفرهم وال‬
‫ووحد اهلل‪،‬‬
‫بإسالمهم‪ ،‬بل نقول‪ :‬من بلغته هذه الدعوة احملمدية‪ ،‬وانقاد هلا‪َّ ،‬‬
‫وعبده وحده ال شريك له‪ ،‬والتزم شرائع اإلسالم‪ ،‬وعـمل مبـا أمر اهلل به‪،‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)334 – 336/95( :‬‬

‫‪-493-‬‬
‫وجتنَّب ما هناه عنه‪ ،‬فهذا من املسلمني املوعودين باجلنة‪ ،‬يف كل زمان ويف كل‬
‫مكان‪.‬‬
‫وأما من كانت حاله حال أهل اجلاهلية‪ ،‬ال يعرف التوحيد الذي بعث اهلل‬
‫رسوله يدعو إليه‪ ،‬وال الشرك الذي بعث اهلل رسوله ينهى عنه‪ ،‬ويقاتل عليه‪،‬‬
‫فهذا ال يقال إنه مسلم جلهله‪ ،‬بل من كان ظاهر عمله الشرك باهلل‪ ،‬فظاهره‬
‫الكفر‪ ،‬فال يستغفر له وال يتصدَّق عنه‪ ،‬ونكل حاله إىل اهلل الذي يبلو السرائر‪،‬‬
‫ويعلم ما ختفي الصدور‪.‬‬
‫(تكفير المعين‪ :‬أي‪ :‬الكفر المعذب عليه‪ ،‬ل يكون إل بعد إقامة‬
‫الحجة)‬
‫كافرا‪ ،‬ألنا نفرق بني املعني وغريه‪ ،‬فال حنكم على‬‫وال نقول‪« :‬فالن مات ً‬
‫معني بكفر‪ ،‬ألنا ال نعلم حقيقة حاله وباطن أمره‪ ،‬بل نكل ذلك إىل اهلل‪ ،‬وال‬
‫نسب األموات‪ ،‬بل نقول أفضوا إىل ما قدَّموا‪ ،‬وليس هذا من الدين الذي أمرنا‬
‫اهلل به‪ ،‬بل الذي أمرنا به أن نعبد اهلل وحده وال نشرك به‪ ،‬ونقاتل من أىب عن‬
‫أصر وعاند َّ‬
‫كفرناه‪،‬‬ ‫ذلك‪ ،‬بعد ما ندعوه إىل ما دعا إليه رسول اهلل ‪ ،‬فإذا َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫وقاتلناه» ‪.‬‬
‫وقال الشيخان حسني وعبد اهلل ابنا حممد بن عبد الوهاب رحم اهلل اجلميع‪،‬‬
‫يف اجلواب على مسألة وردت عليهم‪ ،‬ضمن مسائل عدة‪:‬‬
‫(املسألة الثالثة عشرة)‪ :‬فيمن مات قبل هذه الدعوة‪ ،‬ول يدرك اإلسالم‪،‬‬
‫وهذه األفعال اليت يفعلها الناس اليوم يفعلها‪ ،‬ول تقم عليه احلجة ما احلكم فيه؟‬
‫وهل يلعن أو يسب أو يكف عنه؟ وهل جيوز البنه الدعاء له؟ وما الفرق بني‬
‫من ل يدرك هذه الدعوة‪ ،‬وبني من أدركها‪ ،‬ومات معاديًا هلذا الدين وأهله؟‬
‫الجواب‪ :‬أن من مات من أهل الشرك‪ ،‬قبل بلوغ هذه الدعوة‪ ،‬فالذي‬
‫حيكم عليه أنه إذا كان معروفًا بفعل الشرك‪ ،‬ويدين به‪ ،‬ومات على ذلك فهذا‬
‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)44 – 46/99( :‬‬

‫‪-494-‬‬
‫ظاهره أنه مات على الكفر‪ ،‬فال يدعى له‪ ،‬وال يضحى له‪ ،‬وال يتصدق‬
‫عليه‪.‬‬
‫وأما حقيقة أمره فإىل اهلل تعاىل‪ ،‬فإن كان قد قامت عليه احلجة يف حياته‪،‬‬
‫وعاند فهذا كافر يف الظاهر والباطن‪ ،‬وإن كان ل تقم عليه احلجة فأمره إىل اهلل‬
‫تعاىل‪.‬‬
‫مطلقا‪ ،‬كما يف صحيح‬ ‫سب األموات ً‬ ‫وأما سبه ولعنه فال جيوز‪ ،‬بل ال جيوز ُّ‬
‫البخاري عن عائشة رضي اهلل عنها أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪« :‬ال تسبوا األموات‬
‫فإهنم قد أفضوا إىل ما قدموا»‪ ،‬إالَّ إن كان أحد من أئمة الكفر وقد اغرت الناس‬
‫(‪)1‬‬
‫به فال بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية‪ ،‬واهلل أعلم ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد العزيز (قاضي الدرعية)‪ ،‬ومن حوله من العلماء‪ ،‬يف‬
‫املسماة‪( :‬املسائل الشرعية إىل علماء الدرعية)‪:‬‬
‫رسالتهم َّ‬
‫وأما السؤال الثالث وهو قولكم‪ :‬قد ورد‪« :‬اإلسالم يهدم ما قبله»‪ ،‬ويف‬
‫جيب ما قبله» ويف حديث حجة الودا ‪« :‬أال إن دم اجلاهلية كله‬ ‫رواية‪ُّ « :‬‬
‫موضو » إخل‪...‬‬
‫كفرا‬
‫وظهر لنا من جوابكم أن املؤمن باهلل ورسوله إذا قال أو فعل ما يكون ً‬
‫جهالً منه بذلك فال تكفرونه حىت تقوم عليه احلجة الرسالية‪ ،‬فهل لو قتل من‬
‫هذا حاله قبل ظهور هذه الدعوة موضو أو ال؟‬
‫فنقول‪ :‬إذا كان يعمل بالكفر والشرك جلهله وعدم من ينبهه ال حنكم بكفره‬
‫(‪)2‬‬
‫حىت تقام عليه احلجة‪ ،‬ولكن حنكم بأنه مسلم ‪ ،‬بل نقول‪ :‬عمله‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)942/95( :‬‬


‫حتما‪ :‬لكن ال حنكم بأنه مسلم‪ .‬والدليل على ذلك‪:‬‬
‫(‪ )2‬هكذا يف األصل‪ ،‬وإن كان السياق يقتضي ً‬
‫هدر دمه‪ ،‬إذا قوتل‬
‫كافرا فهو مسلم‪ ...‬وال أدل على ذلك من ْ‬
‫قوله بعد هذا‪ :‬ال يقال إن ل يكن ً‬
‫يف حاله كفره‪.‬‬

‫‪-496-‬‬
‫هذا كفر يبيح املال والدم‪.‬‬
‫وإن كنا ال حنكم على هذا الشخ لعدم قيام احلجة عليه ال يقال‪ :‬إن ل‬
‫كافرا فهو مسلم بل نقول‪ :‬عمله عمل الكفار وإطالق احلكم على هذا‬ ‫يكن ً‬
‫الشخ بعينه متوقف على بلوغ احلجة الرسالية إليه‪.‬‬
‫العرصات‪،‬‬
‫وقد ذكر أهل العلم أن أصحاب الفرتات ميتحون يوم القيامة يف َ‬
‫ول جيعلوا حكمهم حكم الكفار‪ ،‬وال حكم األبرار‪ .‬وأما حكم هذا الشخ‬
‫إذا قتل مث أسلم قاتله فإنا ال حنكم بديته على قاتله إذا أسلم‪ ،‬بل نقول اإلسالم‬
‫جيب ما قبله؛ ألن القاتل قتله يف حال كفره‪ ،‬واهلل أعلم‪...‬‬
‫ُّ‬
‫وأما قولكم وهل ينفع هذا املؤمن املذكور ما يصدر منه من أعمال الرب‬
‫وأفعال الرب وأفعال اْلري قبل حتقيق التوحيد جاهالً‪ ،‬فيقال‪ :‬ال يطلق على الرجل‬
‫املذكور اسم اإلسالم فضالً عن اإلميان‪ ،‬بل يقال‪ :‬الرجل الذي يفعل الكفر‪ ،‬أو‬
‫يعتقده يف حال جهله وعدم من ينبهه‪ ،‬إذا فعل شيئًا من أفعال الرب وأفعال اْلري‬
‫صحح إسالمه وحقَّق توحيده‪ ،‬كما يدل عليه حديث‬ ‫أثابه اهلل على ذلك إذا َّ‬
‫حكيم بن حزام‪« :‬أسلمت على ما أسلفت من خري»‪.‬‬
‫وأما احلج الذي فعله يف تلك احلالة فال حنكم برباءة ذمته به بل نأمره بإعادة‬
‫احلج‪ ،‬ألنا ال حنكم بإسالمه يف تلك احلالة‪ ،‬واحلج من شرط صحته‪ :‬اإلسالم‪،‬‬
‫حجه وهو يفعل الكفر أو يعتقده؟‬ ‫فكيف حيكم بصحة ِّ‬
‫ولكنا ال نكفِّره لعدم قيام احلجة عليه‪ ،‬فإذا قامت عليه احلجة وسلك غري‬
‫(‪)1‬‬
‫سبيل احملجة‪ ،‬أمرناه بإعادة احلج ليسقط الفرض عنه بيقني» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪.)644 – 644/6( :‬‬

‫‪-495-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫مقتطفات من رسالتي إلمامين من أئمة الدعوة‬
‫في حكم العذر بالجهل‬
‫وإليكم‪ :‬بعض مقتطفات من رسائل أئمة الدعوة‪ ،‬اليت سطَّروها بأيديهم‬
‫ليتقرب به إىل اهلل‬
‫ليجلوا فيها‪ :‬حكم من وقع يف الشرك األكرب جبهل وتأويل‪َّ ،‬‬
‫زلفى يف وقت حال فيه‪ :‬اجلهل‪ ،‬وعجمة اللسان‪ ،‬وخفاء العلم‪ ،‬مع شيو‬
‫التلبيس والتحريف‪ ،‬عن إقامة احلجة‪.‬‬
‫وقرر هؤالء األئمة األعالم‪ :‬أن القيام بالتوحيد‪ ،‬واالخنال من الشرك‪ ،‬هو‬
‫أصل األصول االعتقادية‪ ،‬ولقد قامت احلجة فيه على الناس بالرسول والقرآن‪.‬‬
‫وأن التعريف يكون يف‪ :‬املسائل اْلفية دون اجللية‪ .‬وأن عباد القبور ليسوا‬
‫مسمى اإلسالم‪ ،‬ومن مث فعندما يطلق األئمة‪ :‬النهي‬ ‫مبسلمني‪ ،‬وال يدخلون يف َّ‬
‫عن تكفري املسلمني‪ ،‬فهو مقيد بعبَّاد القبور وأمثاهلم من املشركني‪ ،‬ألهنم ليسوا‬
‫من أهل القبلة‪ ،‬فالشرك األكرب مناف للتوحيد واإلسالم‪ ،‬ومضاد هلما من كل‬
‫مسلما‪ ،‬إالَّ بفعل التوحيد والتزام أحكامه‪ ،‬مع‬
‫وجه‪ ،‬والعبد يستحيل أن يكون ً‬
‫الرباءة واالخنال من الشرك واملشركني‪.‬‬
‫وأن املشرك اجلاهل من هذه األمة‪ ،‬الذي ل يتمكن من معرفة احلق لعجزه‪،‬‬
‫ول تقم عليه حجة البالغ‪ ،‬فحكمه ‪ -‬على أقل األحوال ‪ -‬حكم أهل الفرتات‪،‬‬
‫وليس مبسلم على أية حال‪.‬‬
‫وأن عدم إعذار املشرك جبهله وخروجه من عداد املسلمني‪ ،‬مسألة وفاقية‪،‬‬
‫وال تشكل إالَّ على مدخول عليه يف اعتقاده‪.‬‬
‫وأنه يلزم من إعذار املشرك جبهله‪ :‬عدم تكفري اليهود والنصارى‪.‬‬
‫وأن العذاب يف الدارين ال يكون إالَّ بعد بلوغ احلجة‪.‬‬

‫‪-494-‬‬
‫مقتطفات من الرسالة األولى‬
‫(حكم تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة‪ ،‬وفهم الحجة)‬
‫بقلم‪ :‬الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن رحمه اهلل تعالى‪:‬‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬وال عدوان إالَّ على الظاملني والعاقبة للمتقني‪ ،‬وأشهد‬
‫أن ال إله إالَّ اهلل األحد الصمد‪ ،‬الذي ال يستغاث يف الشدائد وال يدعى إالَّ‬
‫حممدا عبده‬
‫إياه‪ ،‬فمن عبد غريه فهو‪ :‬املشرك الكفور‪ ،‬بن القرآن‪ ،‬وأشهد أن ً‬
‫ورسوله وخليله‪ ،‬صلَّى اهلل عليه وعلى آله وصحبه أمجعني‪ ،‬الذي قامت به احلجة‬
‫على العاملني‪ ،‬فال نيب بعده وال رسول‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫فقد بلغنا ومسعنا من فريق ممن يدَّعي العلم والدين‪ ،‬وممن هو بزعمه مؤم‬
‫بالشيخ حممد بن عبد الوهاب‪ :‬أن من أشرك باهلل وعبد األوثان ال يطلق عليه‬
‫الكفر والشرك بعينه‪ .‬ذلك أن بعض من شافهن منهم بذلك مسع من بعض‬
‫اإلخوان أنه أطلق الشرك والكفر على رجل دعا النيب ‪ ‬واستغاث به‪ ،‬فقال له‬
‫الرجل‪ :‬ال تطلق عليه الكفر حىت تعرفه‪...‬‬
‫رغبوا عن رسائل الشيخ حممد بن عبد الوهاب ‪ -‬قدَّس اهلل روحه ‪ -‬ورسائل‬
‫سيمر‪ .‬ومن له أدىن معرفة إذا‬
‫جدا كما ُّ‬ ‫بنيه‪ ،‬فإهنا كفيلة بتبيني مجيع هذه الشبه ً‬
‫جدا‪ ،‬وال حول‬‫حتري ً‬‫رأى حال الناس اليوم‪ ،‬ونزر إىل اعتقاد املشايخ املذكورين َّ‬
‫وال قوة إالَّ باهلل‪ ،‬وذلك أن بعض من أشرنا إليه‪ ،‬حبثته عن هذه املسألة فقال‪:‬‬
‫نقول ألهل هذه القباب الذين يعبدوهنا ومن فيها‪ :‬فعلك هذا شرك وليس هو‬
‫مبشرك‪ ،‬فانظر ترى‪ ،‬وامحد ربك واسأله العافية‪ .‬فإن هذا‬

‫‪-491-‬‬
‫(‪)1‬‬
‫اجلواب من بعض أجوبة العراقي ‪ ،‬اليت يرد عليها الشيخ عبد اللطيف‪.‬‬
‫وذكر الذي حدثن عن هذا أنه سأله بعض الطلبة عن ذلك وعن مستدهلم‪،‬‬
‫فقال‪ :‬نكفر النو وال نعني الشخ إالَّ بعد التعريف‪ ،‬ومستندنا ما رأيناه يف‬
‫قدس اهلل روحه‪ -‬على أنه امتنع من تكفري من عبد‬ ‫بعض رسائل الشيخ حممد ‪َّ -‬‬
‫قبة الكواز وعبد القادر من اجلهال لعدم من ينبِّه‪...‬‬
‫وحنن نقول‪ :‬احلمد هلل وله الثناء‪ ،‬ونسأله املعونة والسداد‪ ،‬وال نقول إالَّ كما‬
‫قال مشاخينا‪ ،‬الشيخ حممد يف إفادة املستفيد‪ ،‬وحفيده يف رده على العراقي‪،‬‬
‫وكذلك هو قول أئمة الدين قبلهم‪ ،‬ومما هو معلوم باالضطرار من دين اإلسالم‪:‬‬
‫أن املرجع يف مسائل أصول الدين إىل الكتاب والسنة وإمجا األمة املعترب‪ ،‬وهو‬
‫ما كان عليه الصحابة‪ ،‬وليس املرجع إىل عال بعينه يف ذلك‪.‬‬
‫فمن تقرر عنده هذا األصل تقر ًيرا ال يدفعه شبهة وأخذ بشراشري قلبه‪ ،‬هان‬
‫عليه ما قد يراه من الكالم املشتبه يف بعض مصنفات أئمته‪ ،‬إذ ال معصوم إالَّ‬
‫النيب ‪.‬‬
‫ومسألتنا هذه وهي‪ :‬عبادة اهلل وحده ال شريك له والرباءة من عبادة ما‬
‫سواه‪ ،‬وأن من عبد مع اهلل غريه فقد أشرك الشرك األكرب‪ ،‬الذي ينقل عن امللَّة‪،‬‬
‫هي أصل األصول‪ ،‬وهبا أرسل اهلل الرسل وأنزل الكتب‪ ،‬وقامت على الناس‬
‫احلجة بالرسول وبالقرآن وهكذا جتد اجلواب من أئمة الدين يف ذلك األصل عند‬
‫تكفري من أشرك باهلل‪ ،‬فإنه يستتاب فإن تاب وإالَّ قتل‪ ،‬وال يذكرون التعريف يف‬
‫مسائل األصول‪ ،‬إمنا يـذكرون التعريـف يف املسائل‬

‫(‪ )1‬هو داود بن جرجيس‪ ،‬أحد املنافحني عن الشرك وأهله‪ ،‬واملناوئني لدعوة الشيخ حممد بن عبد‬
‫رد عليه الشيخان عبد اهلل بن عبد الرمحن أبو بطني‪ ،‬وعبد اللطيف بن‬
‫الوهاب رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬وقد َّ‬
‫مجيعا‪ ،‬وأسكنهم فسيح جناته‪.‬‬
‫عبد الرمحن بن حسن‪ ،‬رمحهم اهلل ً‬

‫‪-491-‬‬
‫اْلفية‪ ،‬اليت قد خيفي دليلها على بعض املسلمني‪ ،‬كمسائل ناز هبا بعض‬
‫أهل البد ‪ ،‬كالقدرية واملرجئة‪ ،‬أو يف مسألة خفية‪ :‬كالصرف والعطف‪.‬‬
‫مسمى‬ ‫وكيف يعرفون عبَّاد القبور‪ ،‬وهم ليسوا مبسلمني‪ ،‬وال يدخلون يف َّ‬
‫اجلَنَّةَ َح َّىت‬
‫اإلسالم‪ ،‬وهل يبقى مع الشرك عمل واهلل تعاىل يقول‪َ ﴿ :‬والَ يَ ْدخلو َن ْ‬
‫اط﴾ [األعراف‪َ ﴿ ،]45 :‬وَمن ي ْش ِرْك بِاللَّ ِه فَ َكأََّمنَا َخَّر‬ ‫اْلِي ِ‬ ‫يَلِ َج ْ‬
‫اجلَ َمل ِيف َس ِّم ْ َ‬
‫الريح ِيف َم َكان َس ِحيق﴾ [احلج‪،]39 :‬‬ ‫الس َماء فَـتَ ْخطَفه الطَّْيـر أ َْو تَـ ْه ِوي بِِه ِّ‬
‫ِم َن َّ‬
‫﴿إِ َّن الليهَ الَ يَـ ْغ ِفر أَن ي ْشَرَك بِِه﴾ [النساء‪« ،]41 :‬ومن يشرك باهلل فقد حبط‬
‫(‪)1‬‬
‫عمله» ‪ .‬إىل غري ذلك من اآليات‪ ،‬ولكن هذا املعتقد يلزم منه معتقد قبيح‪،‬‬
‫وهو‪ :‬أن احلجة ل تقم على هذه األمة بالرسول والقرآن‪ ،‬نعوذ باهلل من سوء‬
‫الفهم الذي أوجب هلم نسيان الكتاب والرسول‪ .‬بل أهل الفرتة الذين‪ ،‬ل‬
‫تبلغهم الرسالة والقرآن‪ ،‬وماتوا على اجلاهلية ال يسمون مسلمني باإلمجا وال‬
‫يستغفر هلم‪ ،‬وإمنا اختلف أهل العلم يف تعذيبهم يف اآلخرة‪...‬‬
‫قال الشيخ حممد بن عبد الوهاب قدَّس اهلل روحه يف الرسالة اليت كتب إىل‬
‫أمحد بن عبد الكرمي صاحب األحساء‪ ،‬أحد الصلحاء أوالً‪ ،‬وقبل أن يفتنت‪،‬‬
‫نصها‪:‬‬ ‫فنذكر منها شيئًا ملشاهبة من رددنا عليه كصاحب الرسالة وهذا ُّ‬
‫«من حممد بن عبد الوهاب إىل أمحد بن عبد الكرمي سالم على املرسلني‪،‬‬
‫واحلمد هلل رب العاملني‪ ،‬أما بعد وصل مكتوبك تقرر املسألة اليت ذكرت‪ ،‬وتذكر أن‬
‫عليك إشكال تطلب إزالته‪ ،‬مث ورد منك رسالة تذكر أنك عثرت على كالم شيخ‬
‫اإلسالم أزال عنك اإلشكال‪ ،‬فنسأل اهلل أن يهديك لدين اإلسالم‪ ،‬وعلى أي‬
‫شيء يدل كالمه على أن من عبد األوثان عبادة الالَّت والعزى‪،‬‬
‫وسب دين الرسول بعد ما شهد به‪ ،‬مثل سب أيب جهل‪ ،‬أنه ال يكفر بعينه‪ ،‬بل‬ ‫َّ‬

‫(‪ )1‬ال توجد آية يف القرآن هبذا الرتتيب‪.‬‬

‫‪-425-‬‬
‫العبارة صرحية واضحة يف تفكري مثل‪ :‬ابن فريوز وصاحل بن عبد اهلل‬
‫ظاهرا ينقل عن امللة فضالً عن غريمها‪ ،‬هذا صريح واضح من‬ ‫كفرا ً‬ ‫وأمثاهلما‪ً ،‬‬
‫كالم ابن القيم‪ ،‬ويف كالم الشيخ الذي ذكرت أنه أزال عنك اإلشكال يف كفر‬
‫من عبد الوثن‪ ،‬الذي على قرب يوسف وأمثاله‪ ،‬ودعاهم يف الشدائد والرخا‪،‬‬
‫أقر هبا‪...‬‬‫أقر وشهد به‪ ،‬ودان بعبادة األوثان بعدما َّ‬ ‫وسب دين الرسول‪ ،‬بعدما َّ‬
‫َّ‬
‫مث قال الشيخ رمحه اهلل تعاىل يف تلك الرسالة بعدما ذكر كثرة من ارتد عن‬
‫اإلسالم بعد النيب ‪ ،‬كالذين يف زمن أيب بكر ‪ ‬حكموا عليهم بالردة مبنع‬
‫الزكاة‪ ،‬وكأصحاب علي وأهل املسجد الذين بالكوفة‪ ،‬وبنو عبيد القدَّاح‪ ،‬كل‬
‫هؤالء حكموا عليهم بالردة بأعياهنم‪ ،‬مث قال‪ :‬وأما عبارة شيخ اإلسالم ابن تيمية‬
‫كثريا من‬
‫اليت لبسوا هبا عليك فهي أغلظ من هذا كله‪ ،‬ولو نقول هبا لكفرنا ً‬
‫املعني ال يكفر إالَّ إذا قامت عليه احلجة‪،‬‬ ‫املشاهري بأعياهنم فإنه صرح فيها‪ :‬بأن َّ‬
‫املعني يكفر إذا قامت عليه احلجة‪ ،‬فمن املعلوم‪ :‬أن قيامها ليس معناه‬ ‫فإذا كان َّ‬
‫أن يفهم كالم اهلل ورسوله‪ ،‬مثل أيب بكر الصديق ‪ ،‬بل إذا بلغه كالم اهلل‬
‫ورسوله وخال عن ما يعذر به‪ ،‬فهو كافر‪ ،‬كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم‬
‫احلجة بالقرآن مع قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬إِنَّا َج َعْلنَا َعلَى قـلوهبِِ ْم أَكِنَّةً أَن يَـ ْف َقهوه﴾‬
‫َّ ِ‬ ‫ند اللي ِه ُّ‬
‫ين الَ‬‫الص ُّم الْبكْم الذ َ‬ ‫اب ِع َ‬ ‫َّو َّ‬ ‫ِ‬
‫[الكهف‪ ،]64 :‬وقوله‪﴿ :‬إ َّن َشَّر الد َ‬
‫يَـ ْع ِقلو َن﴾ [األنفال‪.]22 :‬‬
‫(المقالت الخفية‪ ،‬والمسائل الجزئية‪ ،‬هي التي ل يكفر المعين فيها إل‬
‫بعد إقامة الحجة)‬
‫وإذا كان كالم الشيخ ليس يف الردة والشرك‪ ،‬بل يف املسائل اجلزئيات‪ ،‬مث‬
‫قال‪ :‬يوضح ذلك أن املنافقني إذا أظهروا نفاقهم صاروا مرتدين‪ ،‬فأين نسبتك أنه‬
‫أحدا بعينه‪.‬؟!‬
‫ال يكفر ً‬

‫‪-429-‬‬
‫أيضا يف كالمه على املتكلمني‪ ،‬ومن شاكلهم‪ ،‬ملا ذكر من أئمتهم‬ ‫وقال ً‬
‫شيئًا من أنوا الردة‪ ،‬والكفر قال رمحه اهلل تعاىل‪ :‬وهذا إذا كان يف املقاالت‬
‫اْلفية فقد يقال‪ :‬إنه خمطئ ضال ل تقم عليه احلجة اليت يكفر تاركها‪ ،‬لكن يقع‬
‫يف طوائف منهم يف هذه األمور الظاهرة‪ ،‬اليت يعلم املشركون واليهود والنصارى‬
‫مدا ‪ ‬بعث هبا وكفَّر من خالفها‪ ،‬مثل‪ :‬أمره بعبادة اهلل وحده ال شريك‬ ‫أن حم ً‬
‫له‪ ،‬وهنيه عن عبادة أحد سواه من النبيني واملالئكة وغريهم‪ ،‬فإن هذا أظهر‬
‫كثريا من رؤسائهم وقعوا يف هذه األنوا فكانوا مرتدين‪،‬‬
‫شعائر اإلسالم‪ .‬مث جتد ً‬
‫وكثري تارة يرتد عن اإلسالم ردة صرحية‪ - ،‬إىل أن قال‪ :-‬وأبلغ من ذلك أن‬
‫منهم من صنف يف الردة‪ ،‬كما صنف‪ :‬الرازي يف عبادة الكواكب‪ ،‬وهذه ردة‬
‫عن اإلسالم باتفاق املسلمني‪.‬‬
‫هذا لفظه حبروفه‪ ،‬فتأمل كالمه يف التفرقة بني املقاالت اْلفية‪ ،‬وبني ما حنن‬
‫فيه يف كفر املعني‪ ،‬وتأمل تكفريه رؤسائهم فالنًا وفالنًا بأعياهنم وردهتم ردة‬
‫صرحية‪ ،‬وتأمل تصرحيه حبكاية اإلمجا على ردة الفخر الرازي عن اإلسالم‪ ،‬مع‬
‫كونه من أكابر أئمة الشافعية‪ ،‬هل يناسب هذا من كالمه أن املعني ال يكفر‪،‬‬
‫أحب عبد اهلل بن عوف‪ ،‬وزعم أن‬ ‫ولو دعا عبد القادر يف الرخا والشدة‪ ،‬ولو َّ‬
‫دينه حسن‪ ،‬مع عبادته أليب حديدة‪....‬‬
‫انتهى كالم الشيخ من الرسالة املذكورة حبروفه مع بعض االختصار‪ ،‬فراجعها‬
‫جدا‪....‬‬
‫من التاريخ فإنه نافعة ً‬
‫ومن الدليل على مسألتنا ما كتب الشيخ رمحه اهلل تعاىل إىل عيسى بن‬
‫قاسم وأمحد بن سويلم‪ ،‬ملا سأاله عن قول شيخ اإلسالم تقي الدين ‪-‬قدس اهلل‬
‫روحه‪ -‬من جحد ما جاء به الرسول وقامت عليه احلجة فهو كافر‪.‬‬
‫فأجاب بقوله‪ :‬إىل األخوين عيسى بن قاسم وأمحد بن سويلم سالم‬

‫‪-422-‬‬
‫عليكم ورمحة اهلل وبركاته وبعد‪:‬‬
‫ما ذكرَتوه من كالم الشيخ كل من جحد كذا وكذا‪ ،‬وأنكم تسألوه عن‬
‫هؤالء الطواغيت وأتباعهم هل قامت عليهم احلجة أم ال؟ فهذا من العجب‬
‫تشكون يف هذا‪ ،‬وقد وضحت لكم مر ًارا أن الذي ل تقم عليه‬ ‫العجاب كيف ُّ‬
‫احلجة‪ ،‬هو الذي حديث عهد باإلسالم‪ ،‬أو الذي نشأ ببادية بعيدة‪ ،‬أو يكون‬
‫ذلك يف مسائل خفية‪ ،‬مثل‪ :‬الصرف والعطف‪ ،‬فال يكفر حىت يعرف‪.‬‬
‫وأما أصول الدين اليت وضَّحها اهلل يف كتابه فإن حجة اهلل هي‪ :‬القرآن‪،‬‬
‫فمن بلغه القرآن فقد بلغته احلجة‪ ،‬ولكن أصل اإلشكال أنكم ل تفرقوا بني قيام‬
‫احلجة وفهم احلجة‪ ،‬فإن أكثر الكفار واملنافقني ل يفهموا حجة اهلل مع قيامها‬
‫َن أَ ْكثَـَره ْم يَ ْس َمعو َن أ َْو يَـ ْع ِقلو َن إِ ْن ه ْم إَِّال‬
‫عليهم‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬أ َْم َْحت َسب أ َّ‬
‫َض ُّل َسبِيالً﴾ [الفرقان‪.]44 :‬‬ ‫َك ْاألَنْـ َع ِام بَ ْل ه ْم أ َ‬
‫وقيام احلجة وبلوغها نو ‪ ،‬وفهمهم إياها نو آخر‪....‬‬
‫وقد ذكر الشيخ سليمان بن عبد اهلل رمحه اهلل تعاىل يف شرح التوحيد يف‬
‫مواضع منه‪ :‬أن من تكلم بكلمة التوحيد وصلَّى وزكى‪ ،‬ولكن خالف ذلك‬
‫بأفعاله وأقواله من دعاء الصاحلني واالستغاثة هبم والذبح هلم‪ ،‬أنه شبيه باليهود‬
‫والنصارى يف تكلمهم بكلمة التوحيد وخمالفتهم‪.‬‬
‫فعلى هذا يلزم من قال‪ :‬بالتعريف للمشركني أن يقول‪ :‬بالتعريف باليهود‬
‫والنصارى‪ ،‬وال يكفرهم إالَّ بعد التعريف‪ ،‬وهذا ظاهر باالعتبار ً‬
‫جدا‪.‬‬
‫وأما كالم الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرمحن رمحه اهلل تعاىل على هذه‬
‫يسريا ألن املسألة وفاقية‪ ،‬واملقام مقام‬
‫جدا‪ ،‬فنذكر من ذلك شيئًا ً‬‫املسألة فكثري ً‬
‫اختصار‪ ،‬فلنذكر من كالمه ما ينبهك على الشبه‪ ،‬اليت استدل هبا من ذكرنا يف‬
‫الذي يعبد قبة الكواز‪ ،‬وأن الشيخ توقف يف تكفريه‪ ،‬ونذكر أوالً‬

‫‪-423-‬‬
‫مساق اجلواب وما الذي سيق ألجله وهو‪ :‬أن الشيخ حممد رمحه اهلل‪ ،‬ومن‬
‫حكى عنه هذه القصة يذكرون ذلك معذرة له عن ما يدعيه خصومه عليه من‬
‫تكفري املسلمني‪ ،‬وإالَّ فهي نفسها دعوى ال تصلح أن تكون حجة‪ ،‬بل حتتاج‬
‫لدليل وشاهد من القرآن والسنة‪ ،‬ومن فتح اهلل بصريته‪ ،‬وعويف من التعصب‪،‬‬
‫وكان ممن اعتى ببيان هذه املسألة بيانًا شافيًا‪ ،‬وجزم بكفر املعني يف مجيع‬
‫مصنفاته‪ ،‬وال يتوقف يف شيء منها‪ ،‬ولنرجع إىل مساق اجلواب الذي أشرنا إليه‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اللطيف رمحه اهلل على قول العراقي‪ :‬قد كفِّرم احلرمني‬
‫وأهلها‪ ،‬فذكر كالمه وأجاب عنه إىل أن قال‪ :‬قال العراقي‪ :‬ومن املعلوم أن املنع‬
‫من تكفري املسلمني الذين تكلموا يف هذا الباب وإن أخطأوا‪ ،‬من أحق األغراض‬
‫الشرعية‪ ،‬وهو إذا اجتهد فله أجران إن اصاب‪ ،‬وإن أخطأ فله أجر واحد‪ .‬انتهى‬
‫كالم العراقي‪ .‬واجلواب أن يقال‪ :‬هذا الكالم من جنس حتريفه الذي قررناه‪ ،‬ويف‬
‫هذا حتريفني‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنه أسقط السؤال وفرضه يف التكفري‪ ،‬يف املسائل اليت وقع فيها‬
‫نزا وخالف بني أهل السنة واجلماعة واْلوارج والروافض‪ ،‬فإهنم كفروا املسلمني‬
‫(‪)1‬‬
‫أصلوه ووضعوه وانتحلوه ما سقط هذا‬ ‫وأهل السنة مبخالفتهم فيما ابتدعوه و َّ‬
‫خوفًا من أن يقال دعا أهل القبور وسؤاهلم واالستغاثة هبم من هذا الباب‪ ،‬ول‬
‫يتناز فيها املسلمون‪ ،‬بل هي جممع على أهنا من الشرك املكفر كما حكاه شيخ‬
‫اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬وجعلها مما ال خالف يف التكفري هبا‪ ،‬فال يصح محل كالمه‬
‫هنا على ما جزم هو بأنه كفر جممع عليه‪،‬‬

‫(‪ )1‬هكذا يف األصل‪ ،‬وإن كان السياق يقتضي‪ :‬وأسقط‪.‬‬

‫‪-424-‬‬
‫خمتلفا‪ ،‬وقد نزهه اهلل وصانه عن‬
‫ولو صح محل هذا العراقي لكان قوله قوالً ً‬
‫هذا‪ ،‬فكالمه متفق يشهد بعضه لبعض‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا عرفت حتريف العراقي يف إسقاطه بعض الكالم وحذفه‪،‬‬
‫أيضا فاحلذف ألصل الكالم خيرجه عن وجهه وإرادة املقصود‪.‬‬ ‫و ً‬
‫التحريف الثاني‪ :‬أن الشيخ رمحه اهلل قال‪ :‬أصل التكفري للمسلمني‪،‬‬
‫مسمى املسلمني‪ ،‬كما سننقل من‬ ‫وعبارات الشيخ أخرجت عبَّاد القبور من َّ‬
‫كالمه يف احلكم عليهم بأهنم ال يدخلون يف املسلمني يف مثل هذا الكالم‪،‬‬
‫كالما فيما أخطأ من املسلمني يف بعض الفرو ‪ -‬إىل أن قال‪ :-‬فمن‬ ‫فذكر ً‬
‫اعتقد يف بشر أنه إله‪ ،‬أو دعا ميتًا وطلب منه الرزق والنصر واهلداية وتوكل عليه‬
‫وسجد له‪ ،‬فإنه يستتاب فإن تاب وإالَّ ضربت عنقه‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫فبطل استدالل العراقي واهندم من أصله كيف جيعل النهي عن تكفري‬
‫املسلمني متناوالً ملن يدعو الصاحلني‪ ،‬ويستغيث هبم مع اهلل‪ ،‬ويصرف هلم من‬
‫العبادات ما ال يستحق إالَّ اهلل؟! وهذا باطل بنصوص الكتاب والسنة وإمجا‬
‫علماء األمة‪.‬‬
‫ومن عجيب جهل العراقي أنه حيتج على خصمه بنفس الدعوى‪ ،‬والدعوى‬
‫قاطعا على‬
‫ال تصلح دليالً‪ ،‬فإن دعوى العراقي إلسالم عباد القبور حتتاج دليالً ً‬
‫إسالمهم‪ ،‬فإذا ثبت إسالمهم منع من تكفريهم‪ ،‬والتفريع ليس مشكالً‪....‬‬
‫وقال ‪ -‬أي اإلمام حممد بن عبد الوهاب ‪ -‬وقد سئل عن مثل هؤالء‬
‫وتأهل ملعرفتها يكفر بعبادة القبور‪ ،‬وأما‬
‫اجلهال‪ ،‬فقرر‪ :‬أن من قامت عليه احلجة َّ‬
‫من أخلد إىل األرض واتبع هواه فال أردي ما حاله‪ .‬وقد سبق من كالمه ما فيه‬
‫العالَّمة ابن القيم رمحه اهلل جزم بكفر املقلدين ملشاخيهم يف‬
‫كفاية‪ ،‬مع أن َ‬
‫وتأهلوا لذلك‪،‬‬
‫املسائل املكفرة إذا َتكنوا من طلب احلق ومعرفته َّ‬

‫‪-426-‬‬
‫وأعرضوا‪ ،‬ول يلتفتوا‪ ،‬ومن ل يتمكن‪ ،‬ول يتأهل ملعرفة ما جاءت به الرسل‪،‬‬
‫فهو عنده من جنس أهل الفرتة‪ ،‬ممن ل تبلغه دعوة لرسول من الرسل‪.‬‬
‫مسمى املسلمني‪ ،‬حىت‬
‫كال النوعني ال حيكم بإسالمهم‪ ،‬وال يدخلون يف َّ‬
‫عند من ل يكفر بعضهم ‪ -‬وسيأتيك كالمه‪ .-‬وأما الشرك فهو يصدق عليهم‪،‬‬
‫وامسه يتناوهلم‪ ،‬وأي إسالم يبقى مع مناقضة أصله وقاعدته الكربى‪ :‬شهادة أن‬
‫ال إله إالَّ اهلل‪....‬‬
‫قلت ‪ -‬أي الشيخ إسحاق صاحب الرسالة‪ :-‬وهذا من أعظم ما يبني‬
‫اجلواب عن قوله يف اجلاهل العابد لقبة الكواز‪ ،‬ألنه ل يستثن يف ذلك ال جاهالً‬
‫مطلقا وتوقفه رمحه اهلل يف بعض‬
‫وال غريه‪ ،‬وهذه طريقة القرآن‪ :‬تكفري من أشرك ً‬
‫أيضا فإنه كما ترى توقف مرة كما‬‫األجوبة‪ ،‬حيمل على أنه ألمر من األمور‪ ،‬و ً‬
‫يف قوله‪ :‬وأما من أخلد إىل األرض فال أدري ما حاله‪.‬‬
‫فيا هلل العجب كيف يرتك قول الشيخ يف مجيع املواضع‪ ،‬مع دليل الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬وأقوال شيخ اإلسالم وابن القيم‪ ،‬كما يف قوله من بلغه القرآن فقد‬
‫قامت عليه احلجة‪ ،‬ويقبل يف موضع واحد من اإلمجال‪....‬‬
‫كالما البن القيم ذكره يف طبقات املكلفني نقله عنه الشيخ «عبد‬‫ولنذكر ً‬
‫اللطيف» يف رده على العراقي مثل التفسري ملا ذكرنا لك‪ ،‬وجيلو عنك بقايا هذه‬
‫الشبهة‪.‬‬
‫قال ابن القيم رمحه اهلل تعاىل يف كتاب طبقات املكلفني‪ ،‬ملا ذكر رءوس‬
‫صدوا عن سبيل اهلل‪ ،‬وأن عذاهبم مضاعف‪ ،‬مث قال‪ :‬الطبقة‬ ‫الكفار‪ ،‬الذين ُّ‬
‫السابعة عشر‪ ،‬طبقة املقلِّدين َّ‬
‫وجهال الكفر وأتباعهم ومحريهم‪ ،‬الذين هم معهم‬
‫تبع‪ ،‬يقولون‪ :‬إنا وجدنا آباءنا على أمة‪ ،‬ولنا أسوة هبم‪ ،‬ومع هذا فهم مساملون‬
‫ألهل اإلسالم غري حماربني هلم‪ ،‬كنساء احملاربني وخدمهم‬

‫‪-425-‬‬
‫وأتباعهم‪ ،‬الذين ل ينصبوا أنفسهم ملا نصب له أولئك أنفسهم من السعي‬
‫يف إطفاء نور اهلل‪ ،‬وهدم دينه‪ ،‬وإمخاد كلماته‪ ،‬بل هم مبنزلة الدواب‪ ،‬وقد‬
‫أن هذه الطبقة كفار‪ ،‬وإن كانوا جهاالً مقلدين لرؤساءهم‬ ‫اتفقت األمة على َّ‬
‫وأئمتهم‪ ،‬إالَّ ما حيكى عن بعض أهل البد ‪ ،‬أنه ل حيكم هلؤالء بالنار‪ ،‬وجعلهم‬
‫مبنزلة من ل تبلغه الدعوة‪ ،‬وهذا مذهب ل يقل به أحد‪ ،‬من أئمة املسلمني وال‬
‫الصحابة وال التابعون وال من بعدهم‪ ،‬وإمنا يعرف عن بعض أهل الكالم احملدث‬
‫يف اإلسالم‪.‬‬
‫صح عن النيب ‪ ‬أنه قال‪« :‬ما من مولد إالَّ وهو يولد على الفطرة‬ ‫وقد َّ‬
‫فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو ميجسانه»‪ ،‬فأخرب أن أبواه ينقالنه عن الفطرة إىل‬
‫اليهودية أو النصرانية أو اجملوسية‪ ،‬ول يعترب يف ذلك غري املرىب واملنشأ على ما‬
‫عليه األبوان‪ ،‬وصح عن النيب ‪ ‬أنه قال‪« :‬إن اجلنة ال يدخلها إالَّ نفس‬
‫مسلمة»‪ ،‬وهذا املقلد ليس مبسلم‪ ،‬وهو عاقل مكلف‪ ،‬والعاقل ال خيرج عن‬
‫اإلسالم أو الكفر‪ ،‬وأما من ل تبلغه الدعوة فليس مبكلف يف تلك احلال‪ ،‬وهو‬
‫مبنزلة األطفال واجملانني‪ ،‬وقد تقدم الكالم عليهم‪.‬‬
‫ـ قلت‪ :‬وهذا الصنف أعن من ل تبلغهم الدعوة‪ ،‬هم الذين استثناهم شيخ‬
‫اإلسالم ابن تيمية فيما نقل العراقي‪ ،‬واستثناهم شيخنا حممد بن عبد الوهاب‬
‫رمحه اهلل تعاىل‪.‬‬
‫واإلسالم‪ :‬هو توحيد اهلل وعبادته وحده ال شريك له‪ ،‬واإلميان برسوله‬
‫كافرا‬
‫واتباعه فيما جاء به‪ .‬فما ل يأت العبد هبذا فليس مبسلم‪ ،‬وإن ل يكن ً‬
‫معاندا‪ ،‬فهو كافر جاهل‪ ،‬فغاية هذه الطبقة أهنم‪ :‬كفار جهال غري معاندين‪،‬‬ ‫ً‬
‫كفارا‪ ،‬فإن الكافر‪ :‬من جحد توحيد اهلل‬‫وعدم عنادهم‪ ،‬ال خيرجهم عن كوهنم ً‬
‫وتقليدا ألهل العناد‪.‬‬
‫عنادا‪ ،‬وإما جهالً ً‬
‫كذب رسوله‪ ،‬إما ً‬ ‫تعاىل‪ ،‬و َّ‬

‫‪-424-‬‬
‫فهذا وإن كان غايته أنه غري معاند‪ ،‬فهو متَّبع ألهل العناد‪.‬‬
‫وقد أخرب اهلل تعاىل يف القرآن يف غري موضع‪ :‬بعذاب املقلدين ألسالفهم من‬
‫يتحاجون يف النار (مث ذكر آيات يف‬
‫ُّ‬ ‫الكفار‪ ،‬وأن األتبا مع متبوعهم‪ ،‬وأهنم‬
‫هذا وأحاديث مث قال)‪ ،‬وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إمنا هو‪ :‬جمرد‬
‫اتباعهم وتقليدهم‪ .‬نعم ال بد يف هذا املقام من تفصيل به يزول اإلشكال‪ ،‬وهو‬
‫الفرق بني‪ :‬ملقد َتكن من العلم ومعرفة احلق فأعرض عنه‪ ،‬ومقلد ل يتمكن من‬
‫ذلك بوجه‪ ،‬والقسمان واقعان يف الوجود‪ ،‬فاملتمكن واملعرض‪ ،‬مفرط تارك‬
‫للواجب عليه‪ ،‬ال عذر له عند اهلل‪ ،‬وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي ال‬
‫يتمكن من العلم بوجه‪ ،‬فهم قسمان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬مريد للهدى‪ ،‬مؤثر له‪ ،‬حمب له‪ ،‬غري قادر عليه‪ ،‬وال على طلبه‬
‫لعدم مرشد‪ ،‬فهذا حكمه حكم أرباب الفرتات‪ ،‬ومن ل تبلغه الدعوة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬معرض ال إرادة له وال حيدث نفسه بغري ما هو عليه‪.‬‬
‫خريا مما أنا عليه‪ ،‬لدنت به وتركت ما‬
‫فاألول يقول‪ :‬يا رب لو أعلم لك دينًا ً‬
‫أنا عليه‪ ،‬ولكن ال أعرف سوى ما أنا عليه‪ ،‬وال اقدر على غريه‪ ،‬فهو غاية‬
‫جهدي وهناية معرفيت‪.‬‬
‫والثاي‪ :‬راض مبا عو عليه ال يؤثر غريه عليه وال تطلب نفسه سواه‪ ،‬وال فرق‬
‫عنده بني حال عجزه وقدرته‪ .‬وكالمها عاجز‪ ،‬وهذا ال جيب أن يلحق األول ملا‬
‫بينهما من الفرق‪ ،‬فاألول‪ :‬كما طلب الدين يف الفرتة فلم يظفر به‪ ،‬فعدل عنه‬
‫عجزا وجهالً‪ ،‬والثاي‪ :‬كمن ل يطلب بل مات على‬ ‫بعد استفراغ الوسع يف طلبه ً‬
‫شركه‪ ،‬ولو كان طلبه لعجز عنه‪ ،‬ففرق بني عجز الطالب وعجز املعرض‪ .‬واهلل‬
‫يقضي بني عباده يوم القيامة بعدله وحكمته‪ ،‬وال يعذب إالَّ من قامت عليه‬
‫حجته بالرسل‪ ،‬فهذا مقطو به يف مجلة‬

‫‪-421-‬‬
‫اْللق‪ ،‬وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه احلجة أم ال‪ ،‬فذلك مما ال‬
‫ميكن الدخول بني اهلل وعباده فيه‪.‬‬
‫بل الواجب على العبد أن يعتقد‪ :‬أن كل من دان بدين غري دين اإلسالم‬
‫أحدا إالَّ بعد قيام احلجة عليه بالرسول‪ ،‬هذا‬ ‫فهو كافر‪ ،‬وأن اهلل تعاىل ال يعذب ً‬
‫يف اجلملة‪ ،‬والتعيني موكول إىل علم اهلل‪ ،‬وحكمه هذا يف أحكام الثواب‬
‫والعقاب‪ ،‬وأما أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر األمر‪ ،‬فأطفال الكفار‬
‫وجمانينهم كفار يف أحكام الدنيا هلم حكم أوليائهم‪.‬‬
‫وهبذا التفصيل يزول اإلشكال يف هذه املسألة وهو مبن على أربعة أصول‪:‬‬
‫أحدا إالَّ بعد قيام احلجة عليه كما قال‬ ‫أحدها‪ :‬أن اهلل سبحانه ال يعذب ً‬
‫ث َرسوالً﴾ [اإلسراء‪ ،]96 :‬وقال‪ُّ ﴿ :‬رسالً‬ ‫تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما كنَّا م َع ِّذبِ َ‬
‫ني َح َّىت نَـْبـ َع َ‬
‫الرس ِل﴾ [النساء‪:‬‬ ‫ين لِئَالَّ يَكو َن لِلن ِ‬
‫َّاس َعلَى اللي ِه ح َّجة بَـ ْع َد ُّ‬ ‫ِِ‬
‫ين َومنذر َ‬ ‫ُّمبَ ِّش ِر َ‬
‫‪ ،]956‬وذكر آيات مث قال‪ :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما ظَلَ ْمنَاه ْم َولَ ِكن َكانوا هم‬
‫ِِ‬
‫ني﴾ [الزخرف‪.]45 :‬‬ ‫الظَّالم َ‬
‫والظال‪ :‬من عرف ما جاء به الرسول ‪ ،‬أو َتكن من معرفته مث خالفه‬
‫وأعرض عنه‪ ،‬وأما من ل يكن عنده من الرسول علم أصالً‪ ،‬وال َتكن من‬
‫معرفته بوجه‪ ،‬وعجز عن ذلك فكيف يقال أنه ظال‪.‬‬
‫األصل الثاني‪ :‬أن العذاب يستحق بشيئني‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬اإلعراض عن احلجة وعدم إرادهتا والعمل هبا ومبوجبها‪.‬‬
‫الثاي‪ :‬العناد هلا بعد قيامها‪ ،‬وترك إرادة موجبها‪.‬‬
‫فاألول‪ :‬كفر إعراض‪ ،‬والثاي‪ :‬كفر عناد‪.‬‬
‫وأما كفر اجلهل مع عدم قيام احلجة وعدم التمكن من معرفتها‪ ،‬فهذا هو‬
‫الذي نفى اهلل التعذيب عليه حىت تقوم حجته بالرسل‪.‬‬
‫األصل الثالث‪ :‬أن قيام احلجة خيتلف باختالف األزمنة واألمكنة‬

‫‪-421-‬‬
‫واألشخاص‪ ،‬فقد تقوم حجة اهلل على الكفار يف زمان دون زمان‪ ،‬ويف‬
‫بقعة وناحية دون أخرى‪ ،‬كما أهنا تقوم على شخ دون آخر‪ ،‬إما لعدم عقله‬
‫وَتيزه كالصغري واجملنون‪ ،‬وإما لعدم فهمه لكونه ال يفهم ول حيضر ترمجان يرتجم‬
‫له‪ ،‬فهذا مبنزلة األصم الذي ال يسمع شيئًا‪ ،‬وال يتمكن من التفهم وهو أحد‬
‫األربعة الذين يدلون على اهلل باحلجة يوم القيامة‪ ،‬كما تقدم يف حديث األسود‬
‫وأيب هريرة وغريمها إىل آخره‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫مث قال الشيخ رمحه اهلل‪ :‬فقف هنا وتأمل هذا التفصيل البديع‪ ،‬فإنه رمحه‬
‫اهلل ل يستثن إالَّ من عجز عن إدراك احلق‪ ،‬مع شدة طلبه وإرادته له‪ ،‬فهذا‬
‫الصنف هو املراد يف كالم شيخ اإلسالم وابن القيم وأمثاهلما من احملققني‪ ،‬وأما‬
‫العراقي وإخوانه املبطلون فشبهوا بأن الشيخ ال يكفر اجلاهل‪ ،‬وأنه يقول هو‬
‫ترسا يدفعون به اآليات‬
‫معذور‪ ،‬وأمجلوا القول ول يفصلوا‪ ،‬وجعلوا هذه الشبهة ً‬
‫القرآنية‪ ،‬واألحاديث النبوية‪ ،‬وصاحوا على عباد اهلل املوحدين‪ ،‬كما جرى‬
‫ألسالفهم من عباد القبور واملشركني‪.‬‬
‫وإىل اهلل املصري وهو احلاكم بني عباده فيما كانوا فيه خيتلفون إىل آخر ما‬
‫ذكر الشيخ رمحه اهلل‪.‬‬
‫صمم على الباطل‪،‬‬ ‫فتأمل إن كنت ممن يطلب احلق بدليله‪ ،‬وإن كنت ممن َّ‬
‫وأراد أن يستدل عليه مبا أمجل من كالم العلماء‪ ،‬فال عجب‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وصلَّى اهلل على حممد النيب األمي وعلى آله وصحبه أمجعني» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪ )1‬أي عبد اللطيف بن عبد الرمحن بن حسن‪.‬‬


‫(‪« )2‬عقيدة املوحدين» الرسالة السادسة حكم تكفري املعني‪ ،‬والفرق بني قيام احلجة‪ ،‬وفهم احلجة‪:‬‬
‫(ص‪.)953 – 931‬‬

‫‪-435-‬‬
‫مقتطفات من الرسالة الثانية‬
‫بقلم الشيخ‬
‫عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫احلمد هلل وحده‪ ،‬والصالة والسالم على من ال نيب بعده‪.‬‬


‫اعلم‪ :‬أيها الطالب للحق‪ ،‬الراغب يف معرفة اإلخالص والصدق‪ ،‬أنه ورد‬
‫علينا أوراق صدرت من رجل سوء‪ ،‬تتضمن التحذير من التكفري‪ ،‬من غري حتقيق‬
‫وال حترير‪ ،‬يقول فيها‪ :‬قال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬يف الرد على أهل الرفض من‬
‫اْلوارج واالعنزال‪....‬‬
‫وهذا الرجل قد أخذ بطريقة من يكفِّر بتجريد التوحيد‪ ،‬فإذا قلنا‪ :‬ال يعبد إالَّ‬
‫اهلل وال يدعى إالَّ هو‪ ،‬وال يرجى سواه وال يتوكل إالَّ عليه‪ ،‬وحنو ذلك من أنوا‬
‫العبادة اليت ال تصلح إالَّ هلل‪ ،‬وأن من توجه هبا لغري اهلل فهو كافر مشرك‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ابتدعتم وكفرم أمة حممد‪ ،‬أنتم خوارج‪ ،‬أنتم مبتدعة‪.‬‬
‫وأخذ من كالم شيخ اإلسالم يف أهل البد ‪ ،‬ما كتبه يعرض بأهل التوحيد‪،‬‬
‫وال خيفى ما قاله شيخ اإلسالم‪ :‬فيمن أشرك باهلل‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل تعاىل‪ :‬من جعل بينه وبني اهلل وسائط يدعوهم‪ ،‬ويسأهلم‬
‫إمجاعا‪....‬‬
‫ويتوكل عليهم‪ ،‬كفر ً‬
‫السنية» وكل من غال يف نيب‪ ،‬أو رجال صاحل‪ ،‬وجعل فيه‬ ‫وقال يف «الرسالة َّ‬
‫نوعا من اإلهلية‪ ،‬مثل أن يقول‪ :‬يا سيدي فالن انصري‪ ،‬أو أغثن أو ارزقن‪ ،‬أو‬ ‫ً‬
‫اجربي‪ ،‬أو أنا يف حسبك‪ ،‬وحنـو هـذه األقـوال‪ ،‬فكـل هذا‬

‫‪-439-‬‬
‫شرك‪ ،‬وضالل‪ ،‬يستتاب صاحبه‪ ،‬فإن تاب وإالَّ قتل‪....‬‬
‫واملقصود‪ :‬بيان ما كان عليه شيخ اإلسالم‪ ،‬وإخوانه من أهل السنَّة‬
‫واجلماعة من إنكار الشرك أألكرب الواقع يف زماهنم‪ ،‬وذكرهم األدلة من الكتاب‬
‫والسنَّة على كفر من فعل هذا الشرك أو اعتقده‪ ،‬فإنه حبمد اهلل يهدم ما بناه ‪-‬‬
‫هذا اجلاهل املفرتي ‪ -‬على شفا جرف هار‪....‬‬
‫وال ريب‪ :‬أن اهلل تعاىل ل يعذر أهل اجلاهلية‪ ،‬الذين ال كتاب هلم‪ ،‬هبذا‬
‫الشرك األكرب‪ ،‬كما يف حديث عياض بن محار‪ :‬عن النيب ‪« :‬إن اهلل نظر إىل‬
‫أهل األرض‪ ،‬فمقتهم عرهبم وعجمهم‪ ،‬إالَّ بقايا من أهل الكتاب»‪ ،‬فكيف‬
‫يعذر أمة كتاب اهلل بني أيديهم‪ ،‬يقرؤونه‪ ،‬ويسمعونه‪ ،‬وهو حجة اهلل على‬
‫َّاس ولِين َذرواْ بِِه ولِيـعلَمواْ أََّمنَا هو إِلَـه و ِ‬ ‫ِّ‬
‫احد‬ ‫َ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫عباده‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬هـ َذا بَالَغ للن ِ َ‬
‫اب﴾ [إبراهيم‪.]62 :‬‬ ‫ولِي َّذ َّكر أولواْ األَلْب ِ‬
‫َ‬ ‫ََ َ ْ‬
‫كذلك سنَّة رسول اهلل ‪ ،‬اليت َّبني فيها‪ :‬افرتاق األمة‪ ،‬إىل ثالث وسبعني‬
‫فرقة‪ ،‬كلها يف النار إالَّ واحدة‪ ،‬وهي اجلماعة‪.‬‬
‫مث جييء من ميوه على الناس‪ ،‬ويفتنهم عن التوحيد‪ ،‬بذكر عبارات ألهل‬
‫العلم‪ ،‬يزيد فيها وينق ‪ ،‬وحاصلها‪ :‬الكذب عليهم؛ ألنه يف أناس هلم إسالم‬
‫ودين‪ ،‬وفيهم مقاالت كفرهم هبا طائفة من أهل العلم‪ ،‬وتوقف بعضهم يف‬
‫تكفريهم حىت تقوم عليهم احلجة‪ ،‬ول يذكرهم بعض العلماء يف جنس املشركني‪،‬‬
‫وإمنا ذكروهم يف الفساق‪ ،‬كما ستقف عليه يف كالم العالَّمة ابن القيم‪ ،‬إن شاء‬
‫اهلل تعاىل‪...‬‬

‫(الفرق بين‪ :‬المشرك والمبتدع)‬


‫وقد سلف الوعد‪ :‬بأن نذكر ما قاله العالَّمة ابن القيم‪.‬‬

‫‪-432-‬‬
‫قال رمحه اهلل‪ :‬وفسق االعتقاد كفسق أهل البد ‪ ،‬الذين يؤمنون باهلل‬
‫حرمه اهلل ورسوله‪ ،‬ويوجبون ما أوجبه اهلل؛‬ ‫ورسوله‪ ،‬واليوم اآلخر‪ ،‬وحيرمون ما َّ‬
‫وتقليدا للشيوخ‪ ،‬ويثبتون‬
‫ً‬ ‫كثريا مما أثبته اهلل ورسوله‪ ،‬جهالً وتأويالً‪،‬‬
‫لكن ينفون ً‬
‫ما ل يثبته اهلل ورسوله كذلك‪ ،‬وهؤالء كاْلوارج املارقة‪ ،‬وكثري من الروافض‪،‬‬
‫والقدرية‪ ،‬واملعتزلة‪ ،‬وكثري من اجلهمية‪ ،‬الذين ليسوا غالة يف التجهم‪.‬‬
‫وأما غالية اجلهمية‪ :‬فكغالة الرافضة‪ ،‬وليس للطائفتني يف اإلسالم نصيب؛‬
‫ولذلك أخرجهم مجاعة من السلف من الثنتني وسبعني فرقة وقالوا‪ :‬هم مباينون‬
‫للملَّة‪ ...‬إىل أن قال‪ :‬فتوبة هؤالء الفساق‪ ،‬من جهة االعتقادات الفاسدة‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬حىت يبينوا فساد ما كانوا‬ ‫مبحض اتبا السنَّة‪ ،‬وال يكتفي منهم بذلك ً‬
‫عليه من البدعة‪ ،‬إذ التوبة من كل ذنب هي بفعل ضده‪ .‬انتهى املقصود‪ .‬فتأمل‬
‫كيف جعل أهل هذه البد يف جنس الفساق‪ ،‬ألهنم يؤمنون باهلل ورسوله‪ ،‬واليوم‬
‫اآلخر‪....‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬يف الفتاوى املصرية‪ :‬قد قال بعض الناس‬
‫(‪)1‬‬
‫إنه جتوهر‪ ،‬وهذا قول قوم داوموا على الرياضة مدة‪ ،‬فقالوا‪ :‬ال نبايل مبا علمنا‬
‫‪ ،‬وإمنا األمر والنهي رسم العوام‪ ،‬ولو جتوهروا سقط عنهم‪ ،‬وحاصل النبوة يرجع‬
‫إىل احلكمة واملصلحة‪ ،‬واملراد منها ضبط العوام‪ ،‬ولسنا من العوام فندخل يف‬
‫التكليف؛ ألنا قد جتوهرنا‪ ،‬وعرفنا احلكمة‪.‬‬
‫فهؤالء أكفر من اليهود والنصارى‪ ،‬بل هم أكفر أهل األرض‪ ،‬فإن اليهود‬
‫والنصارى آمنوا ببعض‪ ،‬وكفروا ببعض‪ ،‬وهؤالء كفروا باجلميع‪ ،‬خارجون عن‬
‫التزام شيء من احلق؛ مث قال‪ :‬ومن جحد بعض الواجبات‬
‫احملرمات الظاهرة‪ ،‬كالفواحـش والظـلم‪،‬‬ ‫الظاهرة املتواترة‪ ،‬أو جحد بعض َّ‬

‫(‪ )1‬هكذا يف األصل‪ ،‬ولعلها‪« :‬عملنا»‪.‬‬

‫‪-433-‬‬
‫واْلمر والزنا والربا‪ ،‬أو جحد حل بعض املباحات الظاهرة املتواترة‪ ،‬كاْلبز‬
‫واللحم والنكاح‪ ،‬فهو كافر مرتد‪ ،‬يستتاب فإن تاب وإالَّ قتل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ول يقل شيخ اإلسالم‪ :‬إهنم يعذرون باجلهل‪ ،‬بل كفَّرهم‪ ،‬وقال‪ :‬إهنم‬
‫ارتدوا؛ قال‪ :‬ومن أضمره فهو منافق‪ ،‬ال يستتاب عند أكثر العلماء؛ ومن هؤالء‪:‬‬
‫من يستحل بعض الفواحش‪ ،‬كمواخات النساء األجانب‪ ،‬واْللوة هبن‪ ،‬واملباشرة‬
‫حمرًما يف الشريعة‪.‬‬‫هلن‪ ،‬يف عامة أن حيصل هلن الربكة‪ ،‬مبا يفعله معهن‪ ،‬وإن كان َّ‬
‫وكذلك من يستحل ذلك يف املردان‪ ،‬ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم‪،‬‬
‫ومباشرهتم‪ ،‬هو طريق لبعض السالكني‪ ،‬حىت يرتقى يف حمبة املخلوق إىل حمبة‬
‫اْلالق‪ ،‬ويأمرون مبقدمات الفاحشة الكربى‪ ،‬كما يستحلها من يقول‪ :‬إن اللواط‬
‫مباح مبلك اليمني‪ ،‬هؤالء كلهم كفار باتفاق أئمة املسلمني‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فنحن ‪-‬حبمد اهلل‪ -‬ننكر هذه الكفريات‪ ،‬ونعادي أهلها‪ ،‬فإن أىب‬
‫املنحرف‪ ،‬إالَّ أن يطعن علينا بقوله‪ :‬كفَّرم أمة حممد؛ قلنا‪ :‬معاذ اهلل‪ ،‬ال نكفر‬
‫مسلما‪ ،‬وال جنحد ما أعطى اهلل أمة حممد ‪ ‬من الفضائل‪ ،‬اليت ل يعطها أمة‬ ‫ً‬
‫قبلها‪ ،‬وهم األمة الوسط بن الكتاب‪...‬‬
‫(المشرك‪ :‬أثبت ما نفته ل إله إل اهلل‪ ،‬ونفى ما أثبتته‪ ،‬فكيف يكون‬
‫مسلما)؟‬
‫ا‬
‫وقد اغرت كثري من الناس يف أمر الدين‪ ،‬مبجرد التلفظ بال إله إالَّ اهلل‪ ،‬مع‬
‫اعتقادا‪ ،‬فيثبت ما نفته ال إله إالَّ‬ ‫اجلهل مبدلوهلا‪ ،‬وخمالفة مضموهنا‪ ،‬قوالً وعمالً و ً‬
‫اهلل‪ ،‬ومن الشرك باهلل‪ ،‬وينفي ما أثبتته ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬من إخالص العبادة هلل‪،‬‬
‫ِّين حنَـ َفاء َوي ِقيموا‬
‫ني لَه الد َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما أمروا إَِّال ليَـ ْعبدوا اللَّهَ ْخملص َ‬
‫ك ِدين الْ َقيِّ َم ِة﴾ [البينة‪.]6 :‬‬ ‫ِ‬ ‫الص َال َة َويـ ْؤتوا َّ‬
‫الزَكا َة َو َذل َ‬ ‫َّ‬
‫فإذا دعا غري اهلل‪ ،‬واستغاث به فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل؛ وقال له‬
‫املوحدون‪:‬‬ ‫ِّ‬

‫‪-434-‬‬
‫ال يعبد إالَّ اهلل‪ ،‬والعبادة جبميع أنواعها مقصورة على اهلل؛ قال‪ :‬تنقَّصتم‬
‫الصاحلني‪ ،‬وأمثال ذلك من العبارات‪ ،‬املتضمنة للكفر مبعى ال إله إالَّ اهلل‪،‬‬
‫واإلنكار على من دعا إىل مضمون ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وهو إخالص العبادة هلل‪ ،‬كما‬
‫ين َال يـ ْؤِمنو َن بِ ْاآل ِخَرةِ َوإِ َذا‬ ‫َّ ِ‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ َذا ذكَِر اللَّه َو ْح َده ْ‬
‫َّت قـلوب الذ َ‬ ‫امشَأَز ْ‬
‫ين ِمن دونِِه إِ َذا ه ْم يَ ْستَْب ِشرو َن﴾ [الزمر‪.]46 :‬‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ذكَر الذ َ‬
‫فما أشبه هؤالء مبن نزلت فيهم هذه اآلية‪....‬‬
‫مث إن اجلاهل املرتاب‪ ،‬قال يف أوراقه قوالً‪ ،‬قد تقدَّم اجلواب عنه‪ ،‬وال بد من‬
‫اإلميَ ِ‬
‫ين َسبَـقونَا بِ ِْ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان ﴾‬ ‫ذكره‪ ،‬قال‪ :‬فإذا قال املسلم‪َ ﴿ :‬ربَّـنَا ا ْغف ْر لَنَا َوِِإل ْخ َواننَا الذ َ‬
‫[احلشر‪ .]95 :‬يقصد من سبقه من قرون األمة باإلميان‪ ،‬وإن كان قد أخطأ يف‬
‫كفرا‪ ،‬أو فعله‪ ،‬وهو ال يعلم أنه يضاد الشهادتني‪ ،‬فإنه من‬ ‫تأويل تأوله‪ ،‬أو قال ً‬
‫إخوانه الذين سبقوه باإلميان‪.‬‬
‫(األدلة على عدم العذر بالجهل‪ ،‬أو بالخطأ في الشرك األكبر)‬
‫فأقول‪ :‬انظر إىل هذا التهافت والتخليط‪ ،‬والتناقض‪ ،‬وال ريب‪ :‬أن الكفر‬
‫ينايف اإلميان‪ ،‬ويبطله‪ ،‬وحيبط األعمال‪ ،‬بالكتاب والسنَّة وإمجا املسلمني‪ ،‬قال‬
‫اآلخرةِ ِمن ْ ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫اهلل تعاىل‪﴿ :‬ومن يكْفر بِا ِإلميَ ِ‬
‫ان فَـ َق ْد َحبِ َ‬
‫اْلَاس ِر َ‬
‫ين﴾‬ ‫ط َع َمله َوه َو يف َ َ‬ ‫ََ َ ْ‬
‫[املائدة‪.]6 :‬‬
‫ويقال‪ :‬كل كافر قد أخطأ‪ ،‬واملشركون ال بد هلم من تأويالت‪ ،‬ويعتقدون‬
‫أن شركهم بالصاحلني‪ ،‬تعظيم هلم ينفعهم‪ ،‬ويدفع عنهم‪ ،‬فلم يعذروا بذلك‬
‫ين َّاختَذوا ِمن دونِِه أ َْولِيَاء َما‬ ‫َّ ِ‬
‫اْلطأ‪ ،‬وال بذلك التأويل‪ ،‬بل قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫نَـ ْعبده ْم إَِّال لِيـ َقِّربونَا إِ َىل اللَّ ِه زلْ َفى إِ َّن اللَّهَ َْحيكم بَـْيـنَـه ْم ِيف َما ه ْم فِ ِيه َخيْتَلِفو َن إِ َّن‬
‫اللَّهَ َال يَـ ْه ِدي َم ْن ه َو َك ِاذب َكفَّار﴾ [الزمر‪.]3 :‬‬
‫ون اللي ِه َوَْحي َسبو َن أَنـَّهم‬ ‫اطني أَولِياء ِمن د ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬إنـَّهم اختَذوا الشَّيَ َ ْ َ‬
‫ُّم ْهتَدو َن﴾ [األعراف‪.]35 :‬‬

‫‪-436-‬‬
‫َّ ِ‬
‫ض َّل َس ْعيـه ْم ِيف‬ ‫ين َ‬ ‫ين أ َْع َم ًاال * الذ َ‬ ‫وقال تعاىل‪ ﴿ :‬ق ْل َه ْل نـنَبِّئك ْم بِ ْاأل ْ‬
‫َخ َس ِر َ‬
‫ك الَّ ِذين َك َفروا بِآي ِ‬
‫ات َرِّهبِ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫احلَيَاةِ ُّ‬
‫َ‬ ‫الدنْـيَا َوه ْم َْحي َسبو َن أَنـَّه ْم ْحيسنو َن صْنـ ًعا * أولَئ َ َ‬ ‫ْ‬
‫ت أ َْع َماهل ْم فَ َال ن ِقيم َهل ْم يَـ ْوَم الْ ِقيَ َام ِة َوْزنًا ﴾ [الكهف‪– 953 :‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫َول َقائه فَ َحبِطَ ْ‬
‫‪.]956‬‬
‫فأين ذهب عقل هذا عن هذه اآليات‪ ،‬وأمثاهلا من اآليات احملكمات؟!‬
‫والعلماء رمحهم اهلل تعاىل سلكوا منهج االستقامة‪ ،‬وذكروا باب حكم املرتد‪،‬‬
‫كفرا‪ ،‬وهو ال يعلم أنه يضاد‬ ‫كفرا‪ ،‬أو فعل ً‬ ‫ول يقل أحد منهم‪ :‬أنه إذا قال ً‬
‫الشهادتني‪ ،‬أنه ال يكفر جلهله‪ .‬وقد َّبني اهلل يف كتابه‪ :‬أن بعض املشركني جهال‬
‫مقلدون‪ ،‬فلم يدفع عنهم عقاب اهلل جبهلهم وتقليدهم‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وِم َن‬
‫َّاس َمن جيَ ِادل ِيف اللَّ ِه بِغَ ِْري ِعْلم َويَـتَّبِع ك َّل َشْيطَان َّم ِريد﴾ إىل قوله‪﴿ :‬إِ َىل‬ ‫الن ِ‬
‫السعِ ِري﴾ [احلج‪.]4 - 3 :‬‬ ‫اب َّ‬ ‫َع َذ ِ‬
‫َّاس َمن جيَ ِادل‬ ‫مث ذكر الصنف الثاي‪ :‬وهم املبتدعون‪ ،‬بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وِم َن الن ِ‬
‫ِيف اللَّ ِه بِغَ ِْري ِعْلم َوَال ه ًدى َوَال كِتَاب ُّمنِري﴾ [احلج‪ .]1 :‬فسلبهم العلم واهلدى‪،‬‬
‫اغرت هبم األكثرون ملا عندهم من الشبهات واْلياالت‪ ،‬فضلُّوا‬ ‫ومع ذلك فقد َّ‬
‫ون اللَّ ِه َما َلْ يـنَـِّزْل بِِه‬
‫وأضلُّوا‪ ،‬كما قال تعاىل يف آخر السورة‪﴿ :‬ويـعبدو َن ِمن د ِ‬
‫ََْ‬
‫صري﴾ [احلج‪.]49 :‬‬ ‫سْلطَانًا وما لَيس َهلم بِِه ِعْلم وما لِلظَّالِ ِمني ِمن نَّ ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ََ ْ َ‬
‫وقد دلت اآليات احملكمات‪ :‬على كفر من أِشرك باهلل غريه يف عبادته‪ ،‬قال‬
‫نسا َن ضر َد َعا َربَّه منِيبًا إِلَْي ِه مثَّ إِ َذا َخ َّولَه نِ ْع َمةً ِّمْنه نَ ِس َي َما‬ ‫تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َم َّ ِ‬
‫س ْاإل َ‬
‫َّع بِك ْف ِرَك قَلِ ًيال‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َند ًادا لِّيض َّل َعن َسبِيله ق ْل َتََت ْ‬
‫ِ‬
‫َكا َن يَ ْدعو إِلَْي ِه ِمن قَـْبل َو َج َع َل للَّ ِه أ َ‬
‫اب النَّا ِر﴾ [الزمر‪.]1 :‬‬ ‫َصح ِ‬ ‫إِنَّ َ ِ‬
‫ك م ْن أ ْ َ‬
‫وهلا نظائر كثرية سوى ما تقدَّم‪ ،‬كقوله‪﴿ :‬قَالواْ أَيْ َن َما كنت ْم تَ ْدعو َن ِمن‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين﴾ [األعراف‪:‬‬ ‫ضلُّواْ َعنَّا َو َشهدواْ َعلَى أَنفسه ْم أَنـَّه ْم َكانواْ َكاف ِر َ‬ ‫دون الليه قَالواْ َ‬
‫‪.]34‬‬
‫ففي هذه اآلية من البيان‪ :‬أن معظم شركهم هو‪ :‬دعاؤهم‪ ،‬وأنه كفر باهلل‪،‬‬

‫‪-435-‬‬
‫فال اعتبار مبن أعمى اهلل بصريته‪ ،‬عن تدبُّر كتاب اهلل‪ ،‬وسنَّة رسوله ‪.‬‬
‫وهذا اجلاهل يدَّعي أنه ينقل من «منهاج السنَّة» لشيخ اإلسالم‪ ،‬وقد‬
‫عرفت ما يف ذلك من فساد قصده‪ ،‬ووضعه العبارة يف غري من هي له‪ ،‬وما قصد‬
‫هبا‪ .‬وهذا كالم شيخ اإلسالم‪ ،‬رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬يف املنهاج‪ ،‬يطابق ما قد أسلفناه‬
‫عنه يف هذا اجلواب‪.‬‬
‫بالردة‪ :‬خصوم أيب بكر الصديق ‪‬‬ ‫قال رمحه اهلل تعاىل‪ :‬وأشهر الناس َّ‬
‫وأتباعه‪ ،‬كمسيلمة الكذاب‪ ،‬وأتباعه‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫حرقهم علي ‪ ‬بالنار‪ ،‬ملا ادعوا فيه‬ ‫ردة‪ :‬الغالية الذين َّ‬
‫ومن أظهر الناس َّ‬
‫اإلهلية؛ والسبئية أتبا عبد اهلل بن سبأ‪ ،‬الذي أظهر سب أيب بكر وعمر‪.‬‬
‫وأول من ظهر عنه دعوة النبوة‪ ،‬من املنتسبني إىل اإلسالم‪ :‬املختار بن أيب‬
‫عبيد‪ ،‬وكان من الشيعة‪ ،‬فعلم‪ :‬أن أعظم الناس ردة هم الشيعة أكثر منهم يف‬
‫سائر الطوائف؛ وهلذا ال يعرف أسوأ ردة من ردة الغالية‪ ،‬كالنصريية‪ ،‬ومن ردة‬
‫اإلمساعيلية الباطنية‪ ،‬وحنوهم‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫جهال‪ ،‬يظنون أهنم على احلق‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫كثريا من هؤالء َّ‬
‫ومن املعلوم‪ :‬أن ً‬
‫حكم شيخ اإلسالم بسوء ردهتم‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬وأشهر الناس بقتال املرتَّدين‪ ،‬هو أبو بكر الصديق ‪ ،‬فال‬ ‫وقال ً‬
‫يكون املرتدون يف طائفة أكثر مما يف خصوم أيب بكر‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫أخرج البخاري ومسلم يف صحيحهما‪ ،‬عن أيب هريرة ‪ :‬أن رسول اهلل ‪‬‬
‫قال‪« :‬يرد عل َّي يوم القيامة رهط من أصحايب‪ ،‬أو قال من أميت‪ ،‬فيجلون عن‬
‫احلوض؛ فأقول‪ :‬أصحايب أصحايب‪ ،‬فيقال‪ :‬إنه ال علم لك مبا أحدثوا بعدك‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫إهنم ارتدوا على أدبارهم القهقري»‪ ،‬ويف رواية‪« :‬فَـي َحلَّئون» ‪.‬‬

‫(‪ )1‬أي‪ :‬يطردون‪ ،‬كذا يف «فتح الباري»‪.)444/99( :‬‬

‫‪-434-‬‬
‫وللبخاري‪ ،‬قال رسول اهلل ‪« :‬بيما أنا قائم على احلوض‪ ،‬إذا زمرة‪ ،‬حىت‬
‫هلم؛ فقلت‪ :‬إىل أين؟ قال‪ :‬إىل‬‫إذا عرفتهم‪ ،‬خرج رجل من بين وبينهم‪ ،‬قال‪َّ :‬‬
‫النار واهلل؛ قلت‪ :‬فما شأهنم؟ قال‪ :‬إهنم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري‪ ،‬مث‬
‫هلم؛ فقلت‪ :‬إىل‬
‫إذا زمرة‪ ،‬حىت إذا عرفتهم‪ ،‬خرج رجل من بين وبينهم‪ ،‬فقال‪َّ :‬‬
‫أين؟ قال‪ :‬إىل النار واهلل؛ قلت‪ :‬فما شأهنم؟ قال‪ :‬إهنم ارتدوا على أدبارهم‪ ،‬وال‬
‫(‪)1‬‬
‫أراه خيل منهم إالَّ مثل مهالء النعم» ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فدلَّت األحاديث‪ ،‬على أن يف خري قرون األمة‪ ،‬من قد ارتد عن‬
‫وصرح به يف منهاج‬
‫اإلسالم؛ وذكر شيخ اإلسالم‪ :‬أن ذلك وقع يف طوائف‪َّ ،‬‬
‫السنَّة وغريه‪ .‬وأخبار هؤالء الطوائف‪ ،‬وذكر مقاالهتم‪ ،‬وكفرياهتم‪ ،‬مبسوط يف‬
‫كتب العلماء‪ ،‬وتواريخ اإلسالم‪ ،‬ال خيفى ذلك إالَّ على من هو أجهل الناس‬
‫بالعلم والعلماء‪ ،‬كهذا اجلاهل البليد‪ ،‬الذي أخذ عن أشياخه عداوة‬
‫(‪)2‬‬
‫التوحيد» ‪.‬‬
‫* * *‬

‫(‪ )1‬الرواية يف البخاري‪« :‬مهل النعم»‪ ،‬قال احلافظ‪ :‬واهلَ َمل بفتحتني‪ :‬اإلبل بال را ‪ .‬وقال اْلطايب‪:‬‬
‫اهلمل ما ال يرعى‪ ،‬وال يستعمل‪ ،‬ويطلق على الضوال‪ .‬واملعى‪ :‬أنه ال يرده منهم إالَّ القليل‪ ،‬ألن‬
‫اهلمل يف اإلبل قليل بالنسبة لغريه‪ .‬اهـ‪« .‬فتح الباري»‪.)413/99( :‬‬
‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪ ،)445/99( :‬ويراجع يف هذا املقام ‪ -‬على سبيل املثال ال احلصر ـ‪ :‬مفيد‬
‫املستفيد يف كفر تارك التوحيد إلمام الدعوة حممد بن عبد الوهاب‪ ،‬واالنتصار حلزب اهلل املوحدين‪،‬‬
‫وبيان الشرك أليب بطني‪...‬‬

‫‪-431-‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫األدلة الصحيحة الصريحة الدالة على ثبوت وصف الشرك‬
‫وحكمه لمن وقع في عبادة غير اهلل‪ ،‬وإن كان جاهالا أو متأولا‬
‫ولم تقم عليه حجة البالغ‬

‫قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى‪:‬‬


‫إذا عرفت أن اإلنسان يكفر بكلمة‪ ،‬خيرجها من لسانه‪ ،‬وقد يقوهلا وهو‬
‫تقربه إىل اهلل‪.‬‬ ‫جاهل مبعناها‪ ،‬فال يعذر باجلهل‪ ،‬وقد يقوهلا‪ ،‬وهو يظن أهنا ِّ‬
‫خصوصا‪ :‬إن أهلمك اهلل ما ق َّ عن قوم موسى‪ ،‬مع صالحهم وعلمهم‪،‬‬ ‫ً‬
‫اج َعل لَّنَا إِلَ ًـها َك َما َهل ْم ِآهلَة قَ َال إِنَّك ْم قَـ ْوم َْجت َهلو َن﴾‬
‫أهنم أتوه قائلني‪ْ ﴿ :‬‬
‫[األعراف‪.]931 :‬‬
‫(‪)1‬‬
‫فحينئذ‪ :‬يعظم خوفك‪ ،‬وحرصك على ما خيلصك من هذا أو أمثاله» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«ومن العجب أن بعض الناس إذا مسع من يتكلم يف معى هذه الكلمة نفيًا‬
‫وإثباتًا عاب ذلك‪ ،‬وقال‪ :‬لسنا مكلَّفني بالناس والقول فيهم‪ .‬فيقال له‪ :‬بل أنت‬
‫مكلَّف مبعرفة التوحيد الذي خلق اهلل اجلن واإلنس ألجله‪ ،‬وأرسل مجيع الرسل‬
‫يدعون إليه‪ ،‬ومعرفة ضده وهو‪ :‬الشرك الذي ال يغفر وال عذر ملكلَّف يف اجلهل‬
‫بذلك‪ ،‬وال جيوز فيه التقليد ألنه أصل األصول‪ .‬فمن ل يعرف املعروف وينكر‬
‫املنكر فهو هالك‪ ،‬ال سيما أعظم املعروف وهو التوحيد‪ ،‬وأكرب املنكرات وهو‬
‫(‪)2‬‬
‫الشرك» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)49/9( :‬‬


‫املوحدين‪( :‬ص‪.)99‬‬
‫(‪« )2‬عقيدة املوحدين»‪ ،‬رسالة االنتصار حلزب اهلل ِّ‬

‫‪-431-‬‬
‫أيضا رحمه اهلل‪:‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين ا‬
‫يبني أن اجلهل ليس بعذر يف اجلملة‪ ،‬قوله ‪ ‬يف اْلوارج ما قال‪ ،‬مع‬ ‫«ومما ِّ‬
‫عبادهتم العظيمة‪ .‬ومن املعلوم‪ :‬أنه ل يوقعهم ما وقعوا فيه إالَّ اجلهل‪ ،‬وهل صار‬
‫عذرا هلم؟‬
‫اجلهل ً‬
‫يوضح ما ذكرنا‪ :‬أن العلماء من كل مذهب‪ ،‬يذكرون يف كتب الفقه‪ :‬باب‬
‫حكم« املرتد» وهو املسلم الذي يكفر بعد إسالمه‪.‬‬
‫وأول شيء يبدأون به من أنوا الكفر‪ :‬الشرك‪ ،‬يقولون‪ :‬من اشرك باهلل‬
‫كفر‪ ،‬ألن الشرك عندهم أعظم أنوا الكفر‪ ،‬ول يقولوا إن كان مثله ال جيهله‪،‬‬
‫كما قالوا فيما دونه‪ ،‬وقد قال النيب ‪ ‬ملا سئل‪ :‬أي الذنب أعظم إمثًا عند اهلل؟‬
‫ندا وهو خلقك»‪ ،‬فلو كان اجلاهل أو املقلد‪ ،‬غري حمكوم‬ ‫قال‪« :‬أن جتعل هلل ً‬
‫بردته إذا فعل الشرك‪ ،‬ل يغفلوه‪ ،‬وهذا ظاهر‪.‬‬
‫َّ‬
‫(األدلة على عدم اإلعذار بالجهل في الشرك األكبر)‬
‫وقد وصف اهلل سبحانه أهل النار باجلهل‪ ،‬كقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَالوا لَْو كنَّا‬
‫السعِ ِري﴾ [امللك‪.]95 :‬‬ ‫َصح ِ‬ ‫ِ‬
‫اب َّ‬ ‫نَ ْس َمع أ َْو نَـ ْعقل َما كنَّا ِيف أ ْ َ‬
‫نس َهل ْم قـلوب الَّ يَـ ْف َقهو َن ِهبَا‬ ‫اجلِ ِّن َوا ِإل ِ‬
‫َّم َكثِ ًريا ِّم َن ْ‬ ‫ِ‬
‫وقال‪َ ﴿ :‬ولََق ْد َذ َرأْنَا جلَ َهن َ‬
‫ِ‬ ‫وَهلم أَعني الَّ يـب ِ ِ‬
‫ك َكاألَنْـ َع ِام بَ ْل ه ْم‬‫صرو َن هبَا َوَهل ْم آ َذان الَّ يَ ْس َمعو َن هبَا أ ْولَـئِ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ ْ‬
‫ك هم الْغَافِلو َن﴾ [األعراف‪.]941 :‬‬ ‫َض ُّل أ ْولَـئِ َ‬
‫أَ‬
‫احلياةِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ض َّل َس ْعيـه ْم ِيف ََْ‬ ‫ين َ‬ ‫ين أ َْع َم ًاال * الذ َ‬ ‫وقال‪﴿ :‬ق ْل َه ْل نـنَبِّئك ْم بِ ْاأل ْ‬
‫َخ َس ِر َ‬
‫الدنْـيَا َوه ْم َْحي َسبو َن أَنـَّه ْم ْحي ِسنو َن صْنـ ًعا﴾ [الكهف‪.]954 ،953 :‬‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬
‫الضالَلَة إِنـَّهم َّاختَذوا الشَّيَاط َ‬
‫ني‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬فَ ِري ًقا َه َدى َوفَِري ًقا َح َّق َعلَْي ِهم َّ‬
‫ون اللي ِه َوَْحي َسبو َن أَنـَّهم ُّم ْهتَدو َن﴾ [األعراف‪.]35 :‬‬ ‫أَولِياء ِمن د ِ‬
‫َْ‬

‫‪-445-‬‬
‫(‪)1‬‬
‫‪ -‬عند تفسري هذه اآلية ‪ -‬وهذا يدل على أن اجلاهل غري‬ ‫قال ابن جرير‬
‫معذور‪.‬‬
‫ومن املعلوم‪ :‬أن أهل البد الذين كفَّرهم السلف والعلماء بعدهم‪ ،‬أهل علم‬
‫حرقهم علي بن‬ ‫وعبادة وفهم وزهد‪ .‬ول يوقعهم فيما ارتكبوه إالَّ اجلهل‪ .‬والذين َّ‬
‫أيب طالب بالنار‪ ،‬هل أفنهم إالَّ اجلهل؟ ولو قال إنسان‪ :‬أنا أشك يف البعث بعد‬
‫املوت‪ ،‬ل يتوقف من له أدىن معرفة يف كفره‪ ،‬والشاك جاهل‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ َذا‬
‫اعة إِن نَّظ ُّن إَِّال‬ ‫ب فِ َيها قـْلتم َّما نَ ْد ِري َما َّ‬
‫الس َ‬ ‫اعة َال َريْ َ‬ ‫يل إِ َّن َو ْع َد اللَّ ِه َحق َو َّ‬
‫الس َ‬
‫ِ‬
‫ق َ‬
‫ني﴾ [اجلاثية‪.]32 :‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫ظَنًّا َوَما َْحنن مب ْستَـْيقن َ‬
‫وقد قال اهلل تعاىل عن النصارى‪َّ ﴿ :‬اختَذواْ أَحبارهم ورهبانَـهم أَربابا ِّمن د ِ‬
‫ون‬ ‫ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َْ ً‬
‫اللي ِه والْم ِسيح ابن مرَمي وما أ ِمرواْ إِالَّ لِيـعبدواْ إِلَـها و ِ‬
‫اح ًدا الَّ إِلَـهَ إِالَّ ه َو سْب َحانَه‬ ‫ً َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ َ ْ َ َْ َ َ َ‬
‫َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [التوبة‪.]39 :‬‬
‫قال عدي بن حام للنيب ‪ :‬ما عبدناهم‪ ،‬قال ‪« :‬أليس حيلُّون ما حرم‬
‫فتحرمونه؟» قال‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪« :‬فتلك‬ ‫وحيرمونه ما أحل اهلل ِّ‬ ‫اهلل فتحلُّونه؟ ِّ‬
‫عبادهتم» فذمهم اهلل سبحانه‪ ،‬ومسَّاهم مشركني‪ ،‬مع كوهنم ل يعلموا أن فعلهم‬
‫معهم هذا عبادة هلم‪ ،‬فلم يعذروا باجلهل‪.‬‬
‫ولو قال إنسان عن الرافضة يف هذا الزمان‪ :‬إهنم معذورون يف سبِّهم‬
‫الشيخني وعائشة‪ ،‬ألهنم جهال مقلِّدون‪ ،‬ألنكر عليه اْلـاص والعام‪ ،‬وما‬

‫(‪ )1‬نقل احلافظ ابن كثري رمحه اهلل يف هذه اآلية عن اإلمام ابن جرير الطربي قوله وأقره عليه‪« :‬وهذا‬
‫أحدا على معصية ركبها‪ ،‬أو ضاللة‬ ‫من أبني الداللة على خطأ من زعم ‪ :‬أن اهلل ال يعذب ً‬
‫عنادا منه لربه فيها ‪ ،‬ألن ذلك لو‬
‫اعتقدها‪ ،‬إالي أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها‪ ،‬فريكبها ً‬
‫كان كذلك ‪ ،‬ل يكن بني فريق الضاللة الذي ضل ‪ ،‬وهو حيسب أنه هاد‪ ،‬وفريق اهلدى‪ ،‬فرق‪.‬‬
‫وقد َّفرق اهلل تعاىل بني أمسائهما وأحكامهما يف هذه اآلية»‪ ،‬وقال اإلمام البغوي فيها‪« :‬وفيه دليل‬
‫على أن الكافر‪ ،‬الذي يظن أنه يف دينه على احلق‪ ،‬واجلااحد ‪ ،‬واملعاند ‪ ،‬سواء»‪.‬‬

‫‪-449-‬‬
‫تقدم من حكاية شيخ اإلسالم رمحه اهلل‪ ،‬إمجا املسلمني على‪ :‬أن من‬
‫جعل بينه وبني اهلل وسائط‪ ،‬يتوكل عليهم‪ ،‬ويسأهلم جلب املنافع ودفع املضار‪،‬‬
‫أنه كافر مشرك‪ ،‬يتناول اجلاهل وغريه‪.‬‬
‫(الشرك التعبدي ل يقع إل مع الجهل)‬
‫ألنه من املعلوم‪ :‬أنه إذا كان إنسان يقر برسالة حممد ‪ ‬ويؤمن بالقرآن‪،‬‬
‫ويسمع ما ذكر اهلل سبحانه يف كتابه‪ ،‬من تعظيم أمر الشرك‪ ،‬بأنه ال يغفره‪ ،‬وأن‬
‫صاحبه خملد يف النار‪ ،‬مث يقدم عليه وهو يعرف أنه شرك‪ ،‬هذا مما ال يفعله‬
‫عاقل‪ ،‬وإمنا يقع فيه من جهل أنه شرك‪ ،‬وقد قدمنا كالم ابن عقيل يف جزمه‬
‫بكفر الذين وصفهم باجلهل فيما ارتكبوه‪ ،‬من الغلو يف القبور‪ ،‬نقله عنه ابن‬
‫القيم مستحسنًا له‪.‬‬
‫والقرآن يرد على من قال‪ :‬إن املقلد يف الشرك معذور‪ ،‬فقد افرتى وكذب‬
‫على اهلل‪ ،‬وقد قال اهلل تعاىل عن املقلدين من أهل النار‪﴿ :‬إِنَّا أَطَ ْعنَا َس َادتَـنَا‬
‫السبِ َيال﴾ [األحزاب‪ .]54 :‬وقال سبحانه حاكيًا عن الكفار‬ ‫َضلُّونَا َّ‬
‫َوكبَـَراءنَا فَأ َ‬
‫قوهلم‪﴿ :‬إِنَّا َو َج ْدنَا آبَاءنَا َعلَى أ َّمة َوإِنَّا َعلَى آثَا ِرِهم ُّم ْهتَدو َن﴾ [الزخرف‪.]22 :‬‬
‫ويف اآلية األخرى‪﴿ :‬إِنَّا َو َج ْدنَا آبَاءنَا َعلَى أ َّمة َوإِنَّا َعلَى آثَا ِرِهم ُّم ْقتَدو َن﴾‬
‫[الزخرف‪.]23 :‬‬
‫واستدل العلماء هبذه اآلية وحنوها‪ ،‬على أنه ال جيوز التقليد يف التوحيد‪،‬‬
‫فرضا على كل مكلف أن يعرف التوحيد بدليله‪،‬‬ ‫والرسالة‪ ،‬وأصول الدين‪ ،‬وأن ً‬
‫وكذلك الرسالة‪ ،‬وسائر أصول الدين‪ ،‬ألن أدلة هذه األصول ظاهرة وهلل احلمد‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ال خيت مبعرفتها العلماء» ‪.‬‬
‫أيضا رحمه اهلل تعالى‪:‬‬ ‫وقال ا‬
‫(‪)2‬‬
‫«أمجع العلماء‪ :‬على أنه ال جيوز التقليد يف التوحيد والرسالة» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)314 – 319/95( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)455 – 311/95( :‬‬

‫‪-442-‬‬
‫أيضا رحمه اهلل مبيِّـناا الفرق بين أهل السنة والمعنزلة في صحة‬ ‫وقال ا‬
‫اإليمان المقلِّد‪:‬‬
‫«وفرض على كل أحد‪ :‬معرفة التوحيد‪ ،‬وأركان اإلسالم بالدليل‪.‬‬
‫وال جيوز التقليد يف ذلك‪ ،‬لكن العامي الذي ال يعرف األدلة إذا كان يعتقد‬
‫وحدانية الرب سبحانه‪ ،‬ورسالة حممد ‪ ،‬ويؤمن بالبعث بعد املوت‪ ،‬وباجلنة‬
‫والنار‪ ،‬وأن هذه األمور الشركية اليت تفعل عند هذه املشاهد‪ ،‬باطلة وضالل‪،‬‬
‫جازما ال شك فيه‪ ،‬فهو مسلم وإن ل يرتجم‬ ‫اعتقادا ً‬
‫ً‬ ‫فإذا كان يعتقد ذلك‬
‫بالدليل‪ ،‬ألن عامة املسلمني ولو لقنوا الدليل‪ ،‬فإهنم ال يفهمون املعى غالبًا‪.‬‬
‫ذكر النووي يف شرح مسلم‪ ،‬يف الكالم على حديث ضمام بن ثعلبة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قال أبو عمرو بن الصالح‪ ،‬فيه داللة ملا ذهب إليه أئمة العلماء‪ ،‬من أن العوام‬
‫جزما من غري شك‬ ‫ً‬ ‫املقلدين مؤمنون‪ ،‬وأنه يكتفى منهم مبجرد اعتقاد احلق‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وتزلزل‪ ،‬خالفًا ملن أنكر ذلك من املعتزلة‪ ،‬وذلك ألنه ‪َّ ‬قرر ضمام‬
‫على ما اعتمد عليه يف معرفة رسالته‪ ،‬وصدقه‪ ،‬وجمرد إخباره إياه بذلك‪ ،‬ول‬
‫(‪ )1‬أخرجه اإلمام مسلم يف صحيحه عن أنس بن مالك قال‪« :‬جاء رجل من أهل البداية فقال‪ :‬يا‬
‫حممد أتانا رسولك فزعم لنا أن اهلل أرسلك‪ .‬قال صدق‪ ،‬قال‪ :‬فمن خلق السماء قال‪ :‬اهلل‪ ،‬قال‬
‫فمن خلق األرض؟ قال‪ :‬اهلل‪ .‬قال‪ :‬فمن نصب هذه اجلبال وجعل فيها ما جعل‪ ،‬قال‪ :‬اهلل‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فبالذي خلق السماء وخلق األرض ونصب هذه اجلبال آهلل أرسلك؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬وزعم‬
‫رسولك أن علينا مخس صلوات يف يومنا وليلتنا‪ .‬قال‪ :‬صدق‪ ،‬قال‪ :‬فبالذي أرسلك آهلل أمرك هبذا؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬وزعم رسولك أن علينا زكاة يف أموالنا‪ ،‬قال‪ :‬صدق‪ ،‬قال‪ :‬فبالذي أرسلك آهلل‬
‫أمرك هبذا؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان يف سنتنا‪ ،‬قال‪ :‬صدق‪ .‬قال‪:‬‬
‫فبالذي أرسلك أمرك هبذا؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطا إليه‬
‫وىل‪ .‬قال‪ :‬والذي بعثك باحلق ال أزيد عليهن وال أنق منهن‪.‬‬ ‫سبيالً‪ ،‬قال‪ :‬صدق‪ ،‬قال‪ :‬مث َّ‬
‫‪« :‬لئن صدق ليدخلن اجلنة»‪ .‬قال النيب‬
‫قال اإلمام النووي رمحه اهلل‪ « :‬اعلم أن هذا الرجل الذي جاء من أهل البادية‪ ،‬امسه‪ :‬ضمام بن ثعلبة‬
‫مسمى يف رواية البخاري وغريه»‪.‬‬
‫بكسر الضاد املعجمة‪ ،‬كذا جاء َّ‬
‫صحيح مسلم بشرح النووي‪ ،949 – 951/9 :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان الطبعة األوىل‬
‫‪9344‬هـ ‪9121 -‬م‪.‬‬

‫‪-443-‬‬
‫ينكر عليه ذلك‪ ،‬وال قال جيب عليك النظر يف معجزايت‪ ،‬واالستدالل باألدلة‬
‫(‪)1‬‬
‫القطعية‪ .‬انتهى» ‪.‬‬
‫ولقد ذكر الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل نواقض اإلسالم‬
‫العشرة‪ ،‬ون على استواء حكم اجلاد واهلازل واْلائف حال الوقو فيها إالَّ‬
‫املتأول‪ ،‬أو املخطئ‪ ...‬فقال رمحه اهلل‬
‫املكره‪ ،‬ول يستثن غريه‪ ،‬مثل اجلاهل‪ ،‬أو ِّ‬
‫تعاىل بعد ذكره هلا‪« :‬وال فرق يف مجيع هذه النواقض بني اهلازل واجلاد واْلائف‪،‬‬
‫إالَّ املكره‪.‬‬
‫وقوعا فينبغي للمسلم أن‬
‫خطرا‪ ،‬وأكثر ما يكون ً‬ ‫ومبا أهنا من أعظم ما يكون ً‬
‫حيذرها‪ ،‬وخياف منها على نفسه‪ ،‬نعوذ باهلل من موجبات غضبه وأليم عقابه‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وصلَّى اهلل على خري خلقه حممد وعلى آله وصحبه وسلَّم» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ سليمان بن سحمان‪:‬‬
‫إن الشرك األكرب من عبادة غري اهلل‪ ،‬وصرفها ملن اشركوا به مع اهلل‪ ،‬من‬
‫األنبياء واألولياء والصاحلني‪ ،‬فإن هذا ال يعذر أحد يف اجلهل به‪ ،‬بل معرفته‬
‫(‪)3‬‬
‫واإلميان به من ضروريات اإلسالم ‪ .‬اهـ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)451/95( :‬‬


‫(‪« )2‬عقيدة املوحدين»‪( :‬ص‪ .)464 ،465‬من أراد مراجعة النواقض العشرة‪ ،‬فسوف نذكرها‬
‫مفصلة ‪ -‬إن شاء اهلل ‪ -‬يف الفصل الثامن «نواقض اإلسالم‪ ،‬وأحكام الردة واملرتدين» من الباب‬
‫الثالث‪.‬‬
‫(‪« )3‬كشف الشبهتني»‪( :‬ص‪.)54 ،53‬‬

‫‪-444-‬‬
‫المبحث السادس‬
‫حرمة الشرك األكبر وفاقية التحريم‪ ،‬وإجماعية المنع والتأثيم‪،‬‬
‫ول توجد شبهة سائغة عليها تدرأ حكم الكفر عن أصحابها‪،‬‬
‫ومن ثم انتفى العذر بالجهل فيها‬

‫إن الغالب على كل مشرك‪ :‬وقو شبهة عرضت له‪ ،‬اقتضت كفره وشركه‪،‬‬
‫فلو أطلقنا العنان للعذر بكل شبهة‪ ،‬ملا أمكن تكفري مشركي قريش‪ ،‬وال اليهود‬
‫والنصارى وأشباههم‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ‪ -‬رحمهما اهلل تعالى‪:-‬‬
‫«واحتج العراقي بقول الشيخ‪ :‬وقد يكون له شبهات يعذره اهلل فيها‪.‬‬
‫وليس يف كالم الشيخ العذر بكل شبهة‪ ،‬وال العذر جبنس الشبهة‪ ،‬فإن هذا‬
‫ال يفيده كالم الشيخ‪ ،‬وال يفهمه منه إالَّ من ل ميارس شيئًا من العلوم‪ .‬بل‬
‫عبارته صرحية يف إبطال هذا املفهوم‪ .‬فإهنا تفيد قلة هذا‪ .‬كما يف املسائل اليت ال‬
‫يعرفها إالَّ اآلحاد‪ ،‬خبالف حمل النزا ‪ .‬فإنه أصل اإلسالم وقاعدته‪ ،‬ولو ل يكن‬
‫من األدلة إالَّ ما َّ‬
‫أقر به من يعبد األولياء والصاحلني من ربوبيته تعاىل‪ ،‬وانفراده‬
‫منكرا ملن‬
‫كاشفا هلا‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫باْللق واإلجياد والتدبري لكفى به دليالً مبطالً للشبهة‪،‬‬
‫أعرض عنه‪ ،‬ول يعمل مبقتضاه‪ ،‬من عبادة اهلل وحده ال شريك له‪.‬‬
‫ولذلك حكم على املعينني من املشركني من جاهلية العرب األميني لوضوح‬
‫األدلة‪ ،‬وظهور الرباهني‪ .‬ويف حديث املنتفق‪« :‬ما مررت عليه من قرب دوسي أو‬
‫حممدا يبشرك بالنار»‪.‬‬
‫قرشي فقل له‪ :‬إن ً‬
‫هذا وهم أهل فرتة فكيف مبن نشأ من هذه األمة وهو يسمع اآليات‬
‫القرآنية‪ ،‬واألحاديث النبوية‪ ،‬واألحكام الفقهية يف إجياب التوحيد واألمر به‪،‬‬

‫‪-446-‬‬
‫وحترمي الشرك والنهي عنه؟ فإن كان ممن يقرأ القرآن فاألمر أعظم وأطم‪ ،‬ال‬
‫سيما إن عاند يف إباحة الشرك‪ ،‬ودعا إىل عبادة الصاحلني واألولياء‪ ،‬وزعم أهنا‬
‫مستحبة‪ ،‬وأن القرآن دل عليها‪ ،‬فهذا كفره أوضح من الشمس يف الظهرية‪ ،‬وال‬
‫يتوقف يف تكفريه من عرف اإلسالم وأحكامه وقواعده وحتريره‪.‬‬
‫والغالب على كل مشرك أنه عرضت له شبهة اقتضت كفره وشركه‪ ،‬قال‬
‫ين أَ ْشَركواْ لَْو َشاء الليه َما أَ ْشَرْكنَا َوالَ آبَاؤنَا‪[ ﴾...‬األنعام‪:‬‬ ‫َّ ِ‬
‫تعاىل‪َ ﴿ :‬سيَـقول الذ َ‬
‫‪ ،]941‬وقال‪﴿ :‬لَْو َشاء الليه َما َعبَ ْدنَا ِمن دونِِه ِمن َش ْيء َّْحنن َوال آبَاؤنَا َوالَ‬
‫َحَّرْمنَا ِمن دونِِه ِمن َش ْيء﴾ [النحل‪ ،]36 :‬عرضت هلم شبهة القدرية‪ ،‬فردوا‬
‫أمره تعاىل ودينه وشرعه مبشيئته القدرية الكونية‪ .‬وعلى إطالق هذا العراقي‬
‫وفهمه تكون هذه الشبهة مانعة من تكفري أعياهنم‪.‬‬
‫والنصارى شبهتهم يف القول بالنبوة واألقانيم الثالثة‪ :‬كون املسيح خلق من‬
‫غري أب‪ ،‬بل بالكلمة‪ ،‬فاشتبه األمر عليهم‪ ،‬ألهنم عرفوا من بني سائر األمم‬
‫بالبالدة وعدم اإلدراك يف املسائل الدينية‪ ،‬ول يفرقوا بني اْللق واألمر‪ ،‬ول يعلموا‬
‫أن اْللق يكون بالكلمة‪ ،‬ال هو نفس الكلمة‪ ،‬وقد أشار تعاىل على شبهتهم‬
‫ند اللي ِه‬
‫يسى ِع َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وردها وأبطلها يف مواضع من كتابه‪ ،‬كقوله تعاىل‪﴿ :‬إ َّن َمثَ َل ع َ‬
‫اها إِ َىل َم ْرَميَ﴾ [النساء‪:‬‬ ‫ِ‬
‫آد َم﴾ [آل عمران‪ ،]61 :‬وقوله‪َ ﴿ :‬وَكل َمته أَلَْق َ‬ ‫َك َمثَ ِل َ‬
‫‪ .]949‬وأكثر أعداء الرسل عرضت هلم شبهات‪....‬‬
‫وأما مسألة عبادة القبور ودعائهم مع اهلل‪ ،‬فهي مسألة وفاقية التحرمي‪،‬‬
‫وإمجاعية املنع والتأثيم‪ ،‬فلم تدخل يف كالم الشيخ لظهور برهاهنا‪ ،‬ووضوح‬
‫(‪)1‬‬
‫أدلتها‪ ،‬وعدم اعتبار الشبهة فيها» ‪.‬‬
‫ومن املعلوم بالضرورة من الدين‪ :‬أن اإلسالم‪ ،‬والشرك‪ ،‬نقضيان‪ ،‬ال‬

‫(‪« )1‬منهاج التأسيس والتقديس»‪( :‬ص‪.)956 – 952‬‬

‫‪-445-‬‬
‫جيتمعان‪ ،‬وال يرتفعان‪ ،‬وعليه يستحيل حتت أي شبهة من الشبه‪ ،‬أن يكون‬
‫مسلما‪ ،‬ألن ذلك يؤدي إىل اجتما النقيضني‪ ،‬وقو احملال‪.‬‬
‫املشرك ً‬

‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬


‫«اعلم‪ :‬أن من تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه يف اْلارج وعرف‬
‫ماهتيه بأوصافها اْلاصة‪ ،‬عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده‪.‬‬
‫وإمنا يقع اْلفاء بلبس إحدى احلقيقتني‪ ،‬أو جبهل كال املاهيتني‪ .‬ومع انتفاء‬
‫ذلك وحصول التصور التام هلما ال خيفى وال يلتبس أحدمها باآلخر‪ ،‬وكم هلك‬
‫بسبب قصور العلم وعدم معرفة احلدود واحلقائق من أمة‪ ،‬وكم وقع بذلك من‬
‫غلط وريب وغمة‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬أن اإلسالم والشرك نقيضان ال جيتمعان وال يرتفعان‪ .‬واجلهل‬
‫كثريا من الناس يف الشرك وعبادة الصاحلني‪ ،‬لعدم‬ ‫أوقع ً‬ ‫باحلقيقتني أو إحدامها‬
‫(‪)1‬‬
‫معرفة احلقائق وتصورها» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«وقد أخرب اهلل سبحانه عن الكفار‪ :‬أهنم يف شك مما تدعوهم إليه الرسل‪،‬‬
‫وأهنم يف شك من البعث‪ ،‬وقالوا لرسلهم‪َ ﴿ :‬وإِنَّا لَِفي َشك ِّممَّا تَ ْدعونَـنَا إِلَْي ِه‬
‫م ِريب﴾ [إبراهيم‪ ،]1 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِنـَّه ْم لَِفي َشك ِّمْنه م ِريب﴾ [هود‪:‬‬
‫ِ ِِ‬
‫ني﴾‬ ‫إخبارا عنهم‪﴿ :‬إِن نَّظ ُّن إَِّال ظَنًّا َوَما َْحنن مب ْستَـْيقن َ‬
‫‪ ،]995‬وقال تعاىل ً‬
‫[اجلاثية‪....]32 :‬‬
‫ذم اهلل املقلِّدين‪ ،‬بقوله عنهم‪﴿ :‬إِنَّا َو َج ْدنَا آبَاءنَا َعلَى أ َّمة َوإِنَّا َعلَى‬
‫وقد َّ‬
‫آثَا ِرِهم ُّم ْهتَدو َن﴾ [الزخرف‪ .]22 :‬ومع ذلك كفَّرهم‪ ،‬واستدل العلماء هبذه‬
‫اآلية وحنوها‪ ،‬على أنه ال جيوز التقليد يف معرفة اهلل والرسالة‪ ،‬وحجة اهلل‬

‫(‪« )1‬منهاج التأسيس والتقديس»‪.)92( :‬‬

‫‪-444-‬‬
‫سبحانه قائمة بإرساله الرسل‪ ،‬وإن ل يفهموا حجج اهلل وبيناته‪.‬‬
‫قال الشيخ موفق الدين أبو حممد بن قدامة ‪ -‬رمحه اهلل تعاىل ‪ -‬ملا أجنز‬
‫كالمه‪ :‬هل كل جمتهد مصيب؟ ورجح قول اجلمهور‪ ،‬أنه ليس كل جمتهد‬
‫مصيبًا‪ ،‬بل احلق يف قول واحد من أقوال اجملتهدين‪.‬‬
‫قال‪ :‬وزعم اجلاحظ‪ :‬أن من خالف ملة اإلسالم‪ ،‬إذا نظر فعجز عن إدراك‬
‫احلق‪ ،‬فهو معذور غري آمث‪ ،‬إىل أن قال‪ :‬أما ما ذهب إليه اجلاحظ فباطل يقينًا‪،‬‬
‫قطعا‪ ،‬أن النيب ‪ ‬أمر اليهود‬ ‫وكفر باهلل‪ ،‬ورد عليه‪ ،‬وعلى رسوله‪ ،‬فنعلم ً‬
‫وذمهم على اإلصرار‪ ،‬وقاتلهم مجيعهم‪ ،‬يقتل البالغ‬ ‫والنصارى باإلسالم وإتباعه‪َّ ،‬‬
‫منهم‪ ،‬ونعلم‪ :‬أن املعاند العارف ممن يقل‪ ،‬وإمنا األكثر مقلدة اعتقدوا دين‬
‫تقليدا‪ ،‬ول يعرفوا معجزة الرسول وصدقه‪.‬‬ ‫آبائهم ً‬
‫ين‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ك ظَ ُّن الذ َ‬ ‫واآليات الدالة يف القرآن على هذا كثرية‪ ،‬كقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ذل َ‬
‫َك َفروا‪[ ﴾...‬ص‪ .]24 :‬وقوله‪َ ﴿ :‬و َذلِك ْم ظَنُّكم الَّ ِذي ظَنَنتم بَِربِّك ْم‬
‫أ َْرَداك ْم‪[ ﴾...‬فصلت‪ ،]23 :‬وقوله‪﴿ :‬إِ ْن ه ْم إَِّال يَظنُّو َن﴾ [اجلاثية‪،]24 :‬‬
‫وقوله‪َ ﴿ :‬وَْحي َسبو َن أَنـَّه ْم َعلَى َش ْيء﴾ [اجملادلة‪ ،]91 :‬وقوله‪َ ﴿ :‬وَْحي َسبو َن أَنـَّهم‬
‫ُّم ْهتَدو َن﴾ [الزخرف‪ ،]34 :‬وقوله‪﴿ :‬ق ْل َه ْل نـنَبِّئك ْم بِ ْاأل ْ‬
‫َخ َس ِر َ‬
‫ين أ َْع َم ًاال *‬
‫الدنْـيَا َوه ْم َْحي َسبو َن أَنـَّه ْم ْحي ِسنو َن صْنـ ًعا﴾‬ ‫احلَيَاةِ ُّ‬
‫ض َّل َس ْعيـه ْم ِيف ْ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َ‬
‫الذ َ‬
‫[الكهف‪.]954 ،953 :‬‬
‫مقلدا أو‬ ‫جمتهدا‪ ،‬أو خمطئًا‪ ،‬أو ً‬ ‫ً‬ ‫متأوالً‪ ،‬أو‬
‫فاملدعي أن مرتكب الكفر‪َّ :‬‬
‫جاهالً‪ ،‬معذور‪ ،‬خمالف للكتاب والسنَّة واإلمجا بال شك‪ ،‬مع أنه ال بد أن‬
‫ينقض أصله‪ ،‬فلو طرد أصله كفر بال ريب‪ ،‬كما لو توقف يف تكفري من شك‬
‫(‪)1‬‬
‫يف رسالة حممد ‪ ،‬وحنو ذلك» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)43 – 51 /92( :‬‬

‫‪-441-‬‬
‫المبحث السابع‬
‫العذر بالخطأ في الشرك األكبر‪ ،‬يلزم منه عدم تكفير طوائف‬
‫من الكفار والزنادقة‪ ،‬قد أجمعت األمة على كفرها‪ ،‬وكفر من ِّ‬
‫شك‬
‫في كفرها‪ ،‬مع بيان أن الحكم بإسالم المشركين الجاهلين‬
‫ليس عليه دليل إل مجرد الدعوى المجردة‬
‫لقد ظن فريق من املنافحني‪ ،‬عن املشركني وإسالمهم املزيف‪ :‬أن رخصة‬
‫عمن وقع يف الشرك جاهالً‪ ،‬ول يدر هؤالء أن الزم‬ ‫اْلطأ‪ ،‬تدرأ حكم الكفر َّ‬
‫هذا األمر‪ ،‬اهلوي يف مستنقع عدم تكفري طوائف من الكفار والزنادقة‪ ،‬قد‬
‫أمجعت األمة على كفرها‪ ،‬وكفر من شك يف كفرها‪ ،‬ولو ل يلتزموه تعذر عليهم‬
‫أن يقيموا فرقًا بني ما التزموه‪ ،‬وما ل يلتزموه‪.‬‬
‫َتهد هذا فنقول‪ :‬إن رخصة اْلطأ هلذه األمة خاصة مبن كان مؤمنًا‬ ‫إذا َّ‬
‫موحدا‪ ،‬تارًكا للشرك على علم وبصرية‪ ،‬ومن مثَّ يكون قد حقق وصف االنتساب‬ ‫ً‬
‫املتأول‪،‬‬
‫للقبلة‪ ،‬وحق له التمتع برخ أهلها‪ ،‬من عدم مؤاخذة اجلاهل‪ ،‬و ِّ‬
‫واملخطئ‪...‬‬
‫وتارة يدور هذا الفريق من املنافحني دورة أخرى‪ ،‬ويقرروا مقصودهم عن‬
‫طريق عبارات أئمة اهلدى وأعالم امللة اليت نصوا فيها‪ :‬على منع تكفري املسلمني‪،‬‬
‫وإن وقعوا يف البد املغلظة حىت تقوم عليهم احلجة‪.‬‬
‫ولقد نسي هؤالء القوم‪ ،‬أو تناسوا فيما بينهم‪ :‬أن عبارات هؤالء األئمة قد‬
‫أخرجت عباد القبور من عداد املسلمني‪ ،‬وعليه فاالستدالل باطل قبل التدليل‬
‫به‪ ،‬على حمل النزا ‪.‬‬
‫فلم يبق هلم بعد ذلك إالَّ جمرد الدعوى‪ :‬إن عبَّاد القبور مسلمون ألن عبَّاد‬
‫القبور مسلمون‪.‬‬

‫‪-441-‬‬
‫ومن املعلوم بيقني من أوليات كافة العلوم‪ :‬أن االحتجاج مبجرد الدعوى‬
‫على صحتها‪ ،‬دليل على بطالهنا‪ ،‬لفقداهنا الدليل‪ ،‬ألن الدعوى ال تصلح أن‬
‫تكون دليالً‪ ،‬وإالَّ لكثرت الدعاوي‪ ،‬واستحال إبطال أي منكر مهما طال باعه‬
‫يف الغي والنكران‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في بيان تدليس العراقي أحد‬
‫المنافحين عن المشركين‪ ،‬وشركهم‪:‬‬
‫«قال العراقي‪ :‬النقل السادس عشر‪ :‬قال ‪ -‬أي ابن تيمية ‪ -‬يف الفتوى يف‬
‫جواب سؤال ورد من كيالن‪ ،‬يف مسألة خلق القرآن‪ :‬ما نصه‪ ،‬فمسألة تكفري‬
‫متفرعة على هذا األصل‪ ،‬ويف األدلة الشرعية ما يوجب أن‬
‫أهل األهواء والبد ِّ‬
‫أحدا من هذه األمة على خطأ‪ ،‬وإن عذب املخطئ من غريها ‪-‬‬ ‫اهلل ال يعذب ً‬
‫مث ساق حديث أيب هريرة يف الرجل الذي أمر أوالده بتحريقه‪ ،‬وأن يذروه يف‬
‫البحر‪ ،‬وأنه شك يف قدرة اهلل‪ ،‬ومع ذلك غفر اهلل له ملا معه من خوف اهلل‬
‫واإلميان به‪ ،‬مث ذكر كالم الشيخ يف اْلطأ يف الفرو العملية‪ ،‬وأنه قد وقع من‬
‫بعض السلف ‪ -‬وساق قصة داود وسليمان وحكمهما يف الغنم ‪ -‬مث قال‪ :‬انظر‬
‫إىل كالمه وتأمله فإنه أنذر وأعذر‪ ،‬وحتاشى عن تكفري أهل البد العظام‬
‫القائلني بنفي قدرة اهلل أو عدم البعث‪.‬‬
‫هذا كالمه حبروفه‪ ،‬مث أطال الكالم يف قصة داود وسليمان وزعم أنه معى‬
‫ْما َو ِعْل ًما﴾ [األنبياء‪ ،]41 :‬تصحيح حكم كل‬ ‫ًّ‬
‫قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وكال آتَـْيـنَا حك ً‬
‫أقر حكمهما‪.‬‬ ‫منهما‪ .‬فإن اهلل ِّ‬
‫واجلواب أن يقال‪ :‬قد أكثر هذا العراقي يف التشبيه بعدم تكفري املخطئ‬
‫مر من اجلواب عن هذه الشبه ما فيه كفاية‪ ،‬وأكثر كالمه‬ ‫وعدم تأثيمه‪ ،‬وقد َّ‬
‫تكرير وإسهاب‪ ،‬يوهم اجلهال به أنه قد َّقرر الصواب‪ ،‬وأوضح اْلطاب‪،‬‬

‫‪-465-‬‬
‫وال يروج هذا إالَّ على العوام‪ ،‬ومن ال بصرية له حبقيقة دين اإلسالم‪.‬‬
‫وقد قدمنا أن طرد قول العراقي واستدالله يفيد عدم التأثيم والتكفري يف‬
‫اْلطأ يف مجيع أصول الدين‪ ،‬كاإلميان بوجود اهلل وربوبيته وإهليته وقدره وقضائه‪،‬‬
‫واإلميان بصفات كماله الذاتية والفعلية‪ ،‬ومسألة علمه باحلوادث والكائنات قبل‬
‫رد على من كفر معطلة‬ ‫كوهنا‪ ،‬واملنع من التكفري والتأثيم باْلطأ يف هذا كله‪ ،‬ي‬
‫الذات‪ ،‬ومعطلة الربوبية‪ ،‬ومعطلة األمساء والصفات‪ ،‬ومعطلة إفراده تعاىل‬
‫باإلهلية‪ ،‬والقائلني‪ :‬بأنه ال يعلم الكائنات قبل كوهنا كغالة القدرية‪ ،‬ومن قال‬
‫بإسناد احلوادث إىل الكواكب العلوية‪ ،‬ومن قال باألصلني النور والظلمة‪.‬‬
‫فإن التزم العراقي هذا كله فهو أكفر وأضل من اليهود والنصارى‪ ،‬وإن زعم‬
‫أن مث فارقًا بني هذا وبني مسألة النزا ‪ ،‬اليت هي دعاء األموات والغائبني فيما ال‬
‫يقدر عليه إالَّ رب العاملني فليوجدنا هذا الفرق‪ ،‬وليوجدنا دليالً على صحته‪.‬‬
‫فإن ل يفعل ‪ -‬ولن يفعل ‪ -‬بطل تقريره وتأصيله‪ ،‬وعلم أهل العلم واإلميان أنه‬
‫مدلس مشبه‪ ،‬ليس من أهل الفقه والدين‪ ،‬وال ممن يعرف اإلسالم واملسلمني‪،‬‬
‫ويفرق بني املوحدين واملشركني‪ ،‬بل هو يف ظلمات الطبع واجلهل والشرك املبني‪.‬‬
‫(مناطات رخصة الخطأ)‬
‫وكالم شيخ اإلسالم رمحه اهلل إمنا يعرفه ويدريه من مارس كالمه‪ ،‬وعرف‬
‫أصوله‪ ،‬فإنه قد صرح يف غري موضع أن اْلطأ قد يغفر ملن ل يبلغه الشر ‪ ،‬ول‬
‫تقم عليه احلجة يف مسائل خمصوصة‪ ،‬إذا اتقى اهلل ما استطا واجتهد حبسب‬
‫طاقته‪ ،‬وأين التقوى‪ ،‬وأين االجتهاد الذي يدَّعيه عبَّاد القبور والداعون للموتى‬
‫وللغائبني؟‬

‫‪-469-‬‬
‫وكيف والقرآن يتلى يف املساجد واملدارس والبيوت؟ ونصوص السنة النبوية‬
‫جمموعة مدونة معلومة الصحة والثبوت؟‬
‫واحلديث الذي ذكره الشيخ يف رجل من أهل الفرتات قام به من خشية اهلل‬
‫وخوفه واإلميان بثوابه وعقابه ما أوجب له أن أمر أهله بتحريقه‪ ،‬فأين هذا من‬
‫هؤالء الضالل الذين نبذوا كتاب اهلل وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلوا الشياطني‪،‬‬
‫وبعدا‬
‫فسحقا هلذا اجلاهل املفرتي‪ً ،‬‬
‫ً‬ ‫على دعاء غري اهلل‪ ،‬والشرك برب العاملني؟‬
‫لكل ضال غوي‪.‬‬
‫ومن تأمل كالم الشيخ وسياقه عرف مقصوده‪ ،‬وأن الكالم فيمن كفَّر‬
‫العصاة وأهل الكبائر‪ ،‬وذكر نزا الناس يف ذلك‪.‬‬

‫متفرعة على ضبط حقيقة اإليمان)‬


‫(مسألة التكفير‪ِّ ،‬‬
‫مث قال‪ :‬وأما السلف واألئمة فاتفقوا على أن اإلميان قول وعمل‪ ،‬فيدخل يف‬
‫القول‪ :‬قول القلب واللسان‪ ،‬ويف العمل‪ :‬عمل القلب واألركان‪ ،‬قال‪ :‬وقال‬
‫إن لإلميان أصول وفرو ‪ .‬وهو مشتمل على أركان وواجبات‬ ‫املنتصرون ملذهبهم‪َّ :‬‬
‫ومستحبَّات‪ ،‬مبنزلة اسم احلج والصالة‪ ،‬فإن اسم احلج يتناول كل ما يشر فيه‪:‬‬
‫من فعل وترك‪ .‬مثل‪ :‬اإلحرام‪ ،‬وترك حمظوراته‪ ،‬والوقوف بعرفة ومزدلفة ومى‪،‬‬
‫والطواف والسعي‪ ،‬مث احلج مع هذا مشتمل على أركان مىت تركت ل يصح‬
‫احلج‪ ،‬كالوقوف بعرفة‪ ،‬وعلى ترك حمظور مىت فعل فسد حجه وهو الوطء‪.‬‬
‫عمدا وجيب لرتكها العذر‬ ‫ومشتمل على واجبات من فعل وترك‪ ،‬يأمث برتكها ً‬
‫أو غريه كاجلربان بدم‪ ،‬كاإلحرام من املواقيت‪ ،‬واجلمع بني الليل والنهار بعرفة‪،‬‬
‫وكرمي اجلمار وحنو ذلك‪.‬‬
‫ومشتمل على مستحبات من فعل وترك‪ ،‬يكمل احلج هبا وال يأمث برتكها‪،‬‬

‫‪-462-‬‬
‫دما مثل رفع الصوت باإلهالل‪ ،‬واإلكثار منه‪ ،‬وسوق اهلدي‪،‬‬ ‫وال توجب ً‬
‫وذكر اهلل يف تلك املوضع‪ ،‬وقلة الكالم إالَّ يف أمر وهني‪ ،‬فمن فعل ذلك الواجب‬
‫وترك احملظور فقد مَّ حجه وعمرته‪ .‬وهو مقتصد من أصحاب اليمني يف هذا‬
‫حجا وعمالً‪ ،‬وهو سابق‬ ‫العمل‪ .‬لكن من أتى باملستحب فهو أكمل وأم ً‬
‫مقرب‪.‬‬
‫َّ‬
‫ومن ترك املأمور وفعل احملظور لكنه أتى بأركانه وترك مفسداته فحجه‬
‫ناق ‪ ،‬يثاب على ما فعله من احلج ويعاقب على ما تركه‪ ،‬وقد سقط عنه أصل‬
‫الفرض‪ .‬إىل أن قال‪ :‬فمسألة تكفري أهل األهواء والبد متفرعة على هذا‬
‫األصل‪.‬‬
‫مث ذكر مذاهب األئمة يف ذلك وذكر تكفري اإلمام أمحد للجهمية‪ ،‬وذكر‬
‫كالم السلف يف تكفريهم وإخراجهم من الثالث والسبعني فرقة‪ ،‬وغلَّظ القول‬
‫فيهم‪ ،‬وذكر الروايتني يف تكفري من ل يكفرهم‪.‬‬
‫وذكر أن أصول هذه الفرق‪ ،‬هم اْلوارج والشيعة‪ ،‬واملرجئة والقدرية‪ ،‬مث أطال‬
‫الكالم يف عدم تكفري هذه األصناف‪ ،‬واحتج حبديث أيب هريرة‪ ،‬مث قال‪ :‬وإذا‬
‫كان كذلك فاملخطئ يف بعض املسائل إما أن يلحق بالكفار من املشركني وأهل‬
‫الكتاب‪ ،‬مع مبيانته هلم يف عامة أصول اإلميان‪.‬‬
‫احملرمات الظاهرة‪ :‬هو‬
‫فإن اإلميان بوجوب الواجبات الظاهرة املتواترة‪ ،‬وحترمي َّ‬
‫من أعظم أصول اإلميان‪ ،‬وقواعد الدين‪ .‬وإذا كان ال بد من إحلاق ‪ -‬أي‬
‫شبها من إحلاقه‬
‫املخطئ ‪ -‬بأحد الصنفني‪ ،‬فإحلاقه باملؤمنني املخطئني أشد ً‬
‫كثريا من أهل البد منافقون النفاق‬ ‫باملشركني وأهل الكتاب‪ .‬مع العلم بأن ً‬
‫األكرب‪ ،‬فما أكثر ما يوجد يف الرافضة واجلهمية وحنوهم من زنادقة منافقني‪.‬‬
‫وأولئك يف الدرك األسفل من النار‪.‬‬

‫‪-463-‬‬
‫فتبني هبذا مراد الشيخ‪ ،‬وأنه يف طوائف خمصوصة‪ ،‬وأن اجلهمية غري داخلني‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وكذلك املشركني‪ .‬وأهل الكتاب ل يدخلوا يف هذه القاعدة‪ ،‬فإنه منع إحلاق‬
‫املخطئ هبذه األصناف‪ ،‬مع مباينته هلم يف عامة أصول اإلميان‪ ،‬وهذا هو قولنا‬
‫بعينه‪ .‬فإنه إذا بقيت معه أصول اإلميان‪ .‬ول يقع منه شرك أكرب‪ ،‬وإمنا وقع يف‬
‫نو من البد فهذا ال نكفره‪ ،‬وال خنرجه من امللة‪.‬‬
‫وهذا البيان ينفعك فيما يأيت من التشبيه بأن الشيخ ال يكفر املخطئ‬
‫واجملتهد‪ ،‬وأنه يف مسائل خمصوصة‪ ،‬وبني أن اإلميان يزوال بزوال أركانه وقواعده‬
‫الكبار‪ ،‬كاحلج يفسد برتك ركن من أركانه‪ ،‬وهذا عني قولنا‪ .‬بل هو أبلغ من‬
‫مسألة النزا ‪ ،‬ومن تأمل كالم الشيخ يف هذا الباب عرف املراد‪ ،‬ومن أزاغ اهلل‬
‫قلبه فال حيلة فيه‪.‬‬
‫موحدا ليس من أهل الشرك‪،‬‬ ‫وحديث الرجل الذي أمر أهله بتحريقه كان ً‬
‫فقد ثبت من طريق أيب كامل عن محاد عن ثابت عن ايب رافع عن أيب هريرة‪:‬‬
‫خريا قط إالَّ التوحيد»‪ .‬فبطل االحتجاج به عن مسألة النزا ‪.‬‬ ‫«ل يعمل ً‬
‫وأما اْلطأ يف الفرو واملسائل االجتهادية إذا اتقى اجملتهد ما استطا فلم‬
‫نقل بتكفري أحد بذلك وال بتأثيمه‪ .‬واملسألة ليسة يف حمل النزا فإيراد العراقي هلا‬
‫هنا تكثُّر مبا ليس له‪ ،‬وتكبري حلجم الكتاب مبا ال يغن عنه فتيالً‪.‬‬
‫وهل أوقع االحتادية واحللولية فيما هم عليه من الكفر البواح‪ ،‬والشرك‬
‫العظيم‪ ،‬والتعطيل حلقيقة وجود رب العاملني إالَّ خطائهم يف هذا الباب الذي‬
‫اجتهدوا فيه‪ ،‬فصلُّوا وأضلُّوا عن سواء السبيل؟‬
‫وهل قتل احلالج ‪ -‬باتفاق أهل الفتوى على قتله ‪ -‬إالَّ ضالل اجتهاده؟‬
‫وهل كفر القرامطة وانتحلوا ما انتحلوه من الفضائح الشنيعة‪ ،‬وخلعوا‬

‫‪-464-‬‬
‫ربقة الشريعة إالَّ باجتهادهم فيما زعموا؟‬
‫وهل قالت الرافضة ما قالت‪ ،‬واستباحت‪ ،‬ما استباحت من الكفر والشرك‪،‬‬
‫وعبادة األئمة اإلثى عشر وغريهم‪ ،‬ومسبَّة أصحاب الرسول ‪ ،‬وأم املؤمنني‬
‫الصديقة بنت الصديق رضي اهلل عنهما‪ ،‬إالَّ باجتهادهم فيما زعموا؟ وهؤالء‬
‫سلف العراقي يف قوله‪ :‬إن كل خطأ مغفور‪ .‬وهذا الزم له ال حمي عنه هنا‪.‬‬
‫واستصحب ما ذكر هنا يف رد ما يأيت‪ ،‬ومير عليك من حنو هذه الشبهة‪ ،‬وقد‬
‫كررنا اجلواب لتكرير الشبهة‪ ،‬وإن‬‫تقدم يف أول اجلواب ما فيه كفاية‪ ،‬وإمنا َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫عادت العقرب فالنعل هلا حاضرة» ‪.‬‬
‫أيضا رحمه اهلل تعالى في بيان تلبيس العراقي والرد عليه‪:‬‬
‫وقال ا‬
‫«مث قال العراقي‪ :‬النقل السابع والثالثون‪ :‬قال ابن املقري الشافعي يف خمتصر‬
‫الروضة‪ :‬إن من كان من أهل الشهادة ال يكفر ببدعة على إطالق‪ .‬وما استند‬
‫إىل تأويل يلتبس األمر على مثله‪ ،‬وهو الذي رجحه شيخنا أبو العباس ابن‬
‫تيمية‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬إن هذه العبارة حيتج هبا على العراقي وأمثاله من القائلني‪ :‬إن‬
‫عبادة األولياء والصاحلني شرك أصغر أو مستحبة‪ ،‬كما زعمه هذا الضال‪،‬‬
‫وذلك من وجوه‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن الكالم يف البدعة‪ ،‬والبدعة يف عرف الشر ‪ :‬دون الشرك األكرب‬
‫والكفر‪ ،‬فكالمه يف أهل البد ‪ .‬والعراقي تأويله يف أهل الشرك ولذلك فرق‬
‫الفقهاء بني املبتد ومن يدعو غري اهلل‪ .‬ويستغيث به‪ ،‬ويتوكل عليه‪ ،‬كما ذكره‬
‫ابن القيم وغريه من املصنفني يف الكبائر‪ ،‬كابن حجر اهليتمي‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬أن هذا مقيد مبن كان من أهل الشهادة‪ ،‬وهذا القيد خيرج‬

‫(‪« )1‬منهاج التأسيس والتقديس»‪( :‬ص‪.)291 – 294‬‬

‫‪-466-‬‬
‫عبَّاد القبور‪ .‬ألن املقصود بالشهادة‪ :‬التوحيد‪ ،‬كما يف حديث عبد القيس‪:‬‬
‫«وآمركم باإلميان باهلل وحده‪ ،‬أتدرون ما اإلميان باهلل؟ شهادة أن ال إله إالَّ اهلل‪،‬‬
‫حممدا رسول اهلل‪ ،‬وإقام الصالة وإيتاء الزكاة‪ ،‬وأن تؤدوا من املغنم اْلمس»‪.‬‬ ‫وأن ً‬
‫وأهل الشهادة‪ :‬هم أهل اإلميان باتفاق املسلمني‪ ،‬ومن عداهم ليس من‬
‫أهل الشهادة‪ ،‬وإن قاهلا من قاهلا بلسانه كاليهود واملنافقني‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إن قوله‪ :‬على اإلطالق ال ينايف أنه يكفر ببعض البد املقيدة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إن قوله‪ :‬وما استند إىل تأويل‪ ،‬يلتبس األمر على مثله‪ :‬خمرج لعبَّاد‬
‫الردة‪ ،‬فإنه ال تأويل معهم يلتبس به األمر‪ .‬وهلذا ل يعذر أهل الفرتة‬ ‫القبور وأهل َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫وحنوهم‪ ،‬ممن اختذ مع اهلل إهلًا آخر» ‪.‬‬
‫وسئل الشيخ عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز رمحه اهلل تعاىل‪ :‬هل يعذر‬
‫املسلم إذا فعل شيئًا من الشرك‪ ،‬كالذبح‪ ،‬والنذر لغري اهلل جاهالً؟ فأجاب رمحه‬
‫اهلل تعاىل قوله‪:‬‬
‫األمور قسمان‪ :‬قسم يعذر فيه باجلهل‪ ،‬وقسم ال يعذر فيه باجلهل‪ .‬فإذا‬
‫كان من أتى ذلك بني املسلمني‪ ،‬وأتى الشرك باهلل وعبد غري اهلل‪ ،‬فإنه ال يعذر‬
‫ألنه مقصر ل يسأل‪ ،‬ول يتبصر يف دينه فيكون غري معذور يف عبادته غري اهلل‬
‫من‪ :‬أموات أو أشجار أو أحجار أو أصنام‪ ،‬إلعراضه وغفلته عن دينه‪ ،‬كما‬
‫نذروا م ْع ِرضو َن﴾ [األحقاف‪ ،]3 :‬وألن‬ ‫قال اهلل سبحانه‪﴿ :‬والَّ ِذين َك َفروا ع َّما أ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫النيب ‪ ‬ملا استأذن ربه أن يستغفر ألمه ألهنا ماتت يف اجلاهلية ل يؤذن له‬
‫ليستغفر هلا‪ ،‬ألهنا ماتت على دين قومها عبَّاد األوثان‪.‬‬
‫وألنه ‪ ‬قال لشخ سأله عن أبيه‪ ،‬قال‪« :‬هو يف النار»‪ ،‬فلما رأى ما يف‬
‫وجهه قال‪« :‬إي أيب وأباك يف النار»؛ ألنه مات على الشرك باهلل‪،‬‬

‫(‪« )1‬منهاج التأسيس والتقديس»‪( :‬ص‪.)251 – 251‬‬

‫‪-465-‬‬
‫وعلى عبادة غريه سبحانه وتعاىل‪ ،‬فكيف بالذي بني املسلمني وهو يعبد‬
‫البدوي‪ ،‬أو يعبد احلسني‪ ،‬أو يعبد الشيخ عبد القادر اجليالي‪ ،‬أو يعبد الرسول‬
‫حممدا ‪ ،‬أو يعبد عليًا أو يعبد غريهم؟!‬ ‫ً‬
‫فهؤالء وأِشباههم ال يعذرون من باب أوىل‪ ،‬ألهنم أتوا الشرك األكرب وهم‬
‫بني املسلمني‪ ،‬والقرآن بني أيديهم‪ ،‬وهكذا سنة رسول اهلل ‪ ‬موجودة بينهم‬
‫ولكنهم عن ذلك معرضون‪.‬‬
‫والقسم الثاني‪ :‬من يعذر باجلهل‪ ،‬كالذي ينشأ يف بالد بعيدة عن اإلسالم‬
‫يف أطراف الدنيا أو ألسباب أخرى‪ ،‬كأهل الفرتة‪ ،‬وحنوه‪ ،‬ممن ل تبلغهم الرسالة‪،‬‬
‫فهؤالء معذورون جبهلهم وأمرهم إىل اهلل عز وجل‪ ،‬والصحيح أهنم ميتحنون يوم‬
‫جل‬
‫القيامة فيؤمرون‪ ،‬فإن أجابوا دخلوا اجلنة‪ ،‬وإن عصوا دخلوا النار لقوله َّ‬
‫ث َرسوالً﴾ [اإلسراء‪ ،]96 :‬وألحاديث‬ ‫وعال‪َ ﴿ :‬وَما كنَّا م َع ِّذبِ َ‬
‫ني َح َّىت نَـْبـ َع َ‬
‫(‪)1‬‬
‫صحيحة وردت يف ذلك ‪.‬‬
‫وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‪:‬‬
‫(السؤال الثاني من الفتوى رقم ‪)3366‬‬
‫س‪ :‬هناك من يقول‪ :‬كل من يتقيد برسالة حممد ‪ ‬واستقبل القبلة‬
‫يسمه مشرًكا حىت قال‪ :‬إن حممد بن‬ ‫بالصالة‪ ،‬ولو سجد لشيخه ل يكفر‪ ،‬ول ِّ‬
‫عبد الوهاب الذي يتكلم يف املشركني يف خلودهم يف النار إذا ل يتوبوا قد أخطأ‬
‫وغلط‪ ،‬وقال‪ :‬إن املشركني يف هذه األمة يعذهبم مث خيرجهم إىل اجلنة‪ ،‬وقال‪ :‬إن‬
‫أمة حممد ل خيلد فيهم أحد يف النار‪.‬‬
‫ج‪ :‬كل من آمن برسالة نبينا حممد ‪ ،‬وسائر ما جاء به يف الشريعة‪ ،‬إذا‬
‫تدا‬
‫كافرا مر ً‬
‫سجد بعد ذلك لغري اهلل من ويل وصاحب قرب أو شيخ طريق يعترب ً‬
‫عن اإلسالم مشرًكا مع اهلل غريه يف العبادة‪ ،‬ولو نطق بالشهادتني وقت‬

‫(‪« )1‬جممو فتاوى ومقاالت متنوعة» للشيخ ابن باز‪.)24 ،25/4( :‬‬

‫‪-464-‬‬
‫سجوده؛ إلتيانه مبا ينقض قوله من سجوده لغري اهلل‪ ،‬لكنه قد يعذر جلهله‬
‫إعذارا إليه‬
‫فال تنزل به العقوبة حىت يعلم‪ ،‬وتقام عليه احلجة‪ ،‬وميهل ثالثة أيام ً‬
‫أصر على سجوده لغري اهلل بعد البيان قتل‬ ‫لرياجع نفسه عسى أن يتوب‪ ،‬فإن َّ‬
‫لردته لقول النيب ‪« :‬من بدل دينه فاقتلوه» أخرجه اإلمام البخاري يف صحيحه‬
‫عن ابن عباس رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫ليسمى كا ًفرا بعد‬
‫فالبيان وإقامة احلجة لإلعذار إليه قبل إنزال العقوبة به‪ ،‬ال َّ‬
‫كافرا مبا حدث منه من سجود لغري اهلل‪ ،‬أو نذره قربة‪ ،‬أو‬ ‫يسمى ً‬ ‫البيان‪ ،‬فإنه َّ‬
‫ذحبه شاة مثالً لغري اهلل‪.‬‬
‫وقد دل الكتاب والسنة على أن من مات على الشرك ال يغفر له وخيلد يف‬
‫ك لِ َمن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النار لقوله تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن الليهَ الَ يَـ ْغفر أَن ي ْشَرَك بِِه َويَـ ْغفر َما دو َن ذَل َ‬
‫يشاء﴾ [النساء‪ ،]41 :‬إىل قوله‪﴿ :‬ما َكا َن لِْلم ْش ِركِني أَن يـعمرواْ مس ِ‬
‫اج َد اهلل‬ ‫َ َْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ت أ َْع َماهل ْم َوِيف النَّا ِر ه ْم َخالِدو َن﴾‬
‫ك َحبِطَ ْ‬ ‫ين َعلَى أَنف ِس ِه ْم بِالْك ْف ِر أ ْولَئِ َ‬
‫ِِ‬
‫َشاهد َ‬
‫[التوبة‪.]94 :‬‬
‫وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم‪.‬‬
‫اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‬
‫الرئيس‬ ‫نائب رئيس اللجنة‬ ‫عضو‬ ‫عضو‬
‫( ‪)1‬‬
‫عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز»‬ ‫عبد الرزاق عفيفي‬ ‫عبد اهلل بن غديان‬ ‫عبد اهلل بن قعود‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬فتاوى اللجنة الدائمة»‪.)225/9( :‬‬

‫‪-461-‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫العالقة بين إقامة الحجة‪ ،‬والكفر‪ ،‬وأحكامه‪.‬‬

‫وفيه مبحثان‬

‫المبحث األول‪ :‬عبادة اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬احلجة عليها بلوغ القرآن‪،‬‬
‫مع بيان أصناف الذين ال يكفرون حىت تقام عليهم احلجة‪،‬‬
‫وكذا الفرق بني قيام احلجة وفهمها‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬العقوبة واملؤاخذة ال تكون إالَّ بعد قيام احلجة ووضوح‬
‫جمرد بيان التوحيد بدليله‪.‬‬
‫احملجة‪ ،‬ويكفي يف إقامتها َّ‬
‫َّ‬

‫‪-461-‬‬
-455-
‫المبحث األول‬
‫عبادة اهلل وحده ل شريك له‪ ،‬الحجة عليها بلوغ القرآن‬
‫مع بيان أصناف الذين ل يكفرون حتى تقام عليهم الحجة‬
‫وكذا الفرق بين قيام الحجة وفهمها‬

‫إن الذي ل تقم عليه احلجة‪ ،‬هو من كان حديث عهد باإلسالم‪ ،‬أو من‬
‫نشأ يف بادية بعيدة‪ ،‬أو يكون ذلك يف مسألة من مسائل الدين اْلفية‪ ،‬فال‬
‫يكفر حىت يعرف‪.‬‬
‫أما أصول الدين الواضحة احملكمة‪ ،‬فإن حجة اهلل عليها‪ :‬بلوغ القرآن‪.‬‬
‫وينبغي يف هذا املقام‪ :‬التفريق بني قيام احلجة وفهمها‪ ،‬فقد تقوم احلجة على‬
‫قوم‪ ،‬مع عدم فقههم لوجه الصواب فيها‪ ،‬ومراد الرب منها‪.‬‬
‫قال الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب رمحهما اهلل تعاىل‪:‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬
‫إىل اإلخوان‪ ،‬سالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪ .‬وبعد‪:‬‬
‫ما ذكرم من قول الشيخ‪ ،‬كل من جحد كذا وكذا‪ ،‬وقامت عليه احلجة‪،‬‬
‫وأنكم شاكون يف هؤالء الطواغيت وأتباعهم‪ ،‬هل قامت عليهم احلجة‪ ،‬فهذا من‬
‫العجب‪ ،‬كيف تشكون يف هذا وقد أوضحته لكم مر ًارا؟ فإن الذي ل تقم عليه‬
‫احلجة‪ ،‬هو الذي حديث عهد باإلسالم‪ ،‬والذي نشأ ببادية بعيدة‪ ،‬أو يكون‬
‫ذلك يف مسألة خفية‪ ،‬مثل الصرف والعطف‪ ،‬فال يكفر حىت يعرف‪.‬‬
‫وأما أصول الدين اليت أوضحها اهلل وأحكمها يف كتابه‪ ،‬فإن حجة اهلل هو‬
‫القرآن‪ ،‬فمن بلغه القرآن فقد بلغته احلجة‪ ،‬ولكن أصل اإلشكال‪ ،‬أنكم ل تفرقوا‬
‫بني قيام احلجة‪ ،‬وبني فهم احلجة‪ ،‬فإن أكثر الكفـار واملـنافقني من‬

‫‪-459-‬‬
‫املسلمني‪ ،‬ل يفهموا حجة اهلل مع قيامها عليهم‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬أ َْم‬
‫ِ‬
‫َن أَ ْكثَـَره ْم يَ ْس َمعو َن أ َْو يَـ ْعقلو َن إِ ْن ه ْم إَِّال َك ْاألَنْـ َع ِام بَ ْل ه ْم أ َ‬
‫َض ُّل‬ ‫َْحت َسب أ َّ‬
‫َسبِيالً﴾ [الفرقان‪.]44 :‬‬
‫وقيام احلجة نو ‪ ،‬وبلوغها نو ‪ ،‬وقد قامت عليهم‪ ،‬وفهمهم إياها نو آخر‪،‬‬
‫وكفرهم ببلوغها إياهم‪ ،‬وإن ل يفهموها‪ ،‬إن أشكل عليكم ذلك‪ ،‬فانظروا قوله ‪ ‬يف‬
‫اْلوارج‪« :‬أينما لقيتموهم فاقتلوهم» وقوله‪« :‬شر قتلى حتت أدمي السماء» مع كوهنم‬
‫يف عصر الصحابة‪ ،‬وحيقر اإلنسان عمل الصحابة معهم‪ ،‬ومع إمجا الناس‪ :‬أن الذي‬
‫أخرجهم من الدين‪ ،‬هو التشدد والغلو واالجتهاد‪ ،‬وهم يظنون أهنم يطيعون اهلل‪ ،‬وقد‬
‫بلغتهم احلجة‪ ،‬ولكن ل يفهموها‪.‬‬
‫وكذلك قتل علي ‪ ‬الذين اعتقدوا فيه‪ ،‬وحتريقهم بالنار‪ ،‬مع كوهنم تالميذ‬
‫الصحابة‪ ،‬ومع عبادهتم وصالهتم وصيامهم‪ ،‬وهم يظنون أهنم على حق‪.‬‬
‫وكذلك إمجا السلف‪ :‬على تكفري غالة القدرية وغريهم‪ ،‬مع علمهم وشدة‬
‫صنعا‪ ،‬ول يتوقف أحد من السلف يف‬ ‫عبادهتم‪ ،‬وكوهنم حيسبون أهنم حيسنون ً‬
‫تكفريهم ألجل كوهنم ل يفهموا‪ ،‬فإن هؤالء كلهم ل يفهموا‪ ،‬إذا علمتم ذلك‪:‬‬
‫فإن هذا الذي أنتم فيه كفر‪ .‬الناس يعبدون الطواغيت‪ ،‬ويعادون دين اإلسالم‪،‬‬
‫فيزعمون أنه ليس ردة‪ ،‬لعلهم ما فهموا احلجة‪ ،‬كل هذا َّبني‪.‬‬
‫وأظهر مما تقدم‪ :‬الذين حرقهم علي‪ ،‬فإنه يشابه هذا‪ ،‬وأما إرسال كالم‬
‫الشافعية وغريهم‪ ،‬فال يتصور يأتيكم أكثر مما أتاكم‪ ،‬فإن كان معكم بعض‬
‫(‪)1‬‬
‫اإلشكال‪ ،‬فارغبوا إىل اهلل تعاىل أن يزيله عنكم‪ ،‬والسالم» ‪.‬‬
‫مفندا شبهة ألحد‬ ‫وقال الشيخ محد بن ناصر بن معمر رمحه اهلل تعاىل‪ً ،‬‬
‫اجملادلني عن املشركني‪ ،‬يزعم فيها‪ :‬أن دعاء غري اهلل شرك أصغر‪:‬‬
‫«أما قوله ‪ -‬أي اجملادل عن الشرك واملشركني‪ :-‬إن سلمنا هذا القول ‪-‬أي‪:‬‬
‫أن دعاء غري اهلل شرك أكرب‪ ،-‬وظهر دليله‪ ،‬فاجلاهل معـذور‪ ،‬ألنه ل‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)16 – 13/95( :‬‬

‫‪-452-‬‬
‫يدر ما الشرك والكفر‪ ،‬ومن مات قبل البيان فليس بكافر‪ ،‬وحكمه حكم‬
‫املسلمني يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬ألن قصة ذات أنواط‪ ،‬وبن إسرائيل‪ ،‬حني جاوزوا‬
‫البحر‪ ،‬تدل على ذلك‪ ...‬إىل آخره‪.‬‬
‫مبشرين ومنذرين‪ ،‬لئال يكون‬ ‫فاجلواب أن يقال‪ :‬إن اهلل تعاىل أرسل الرسل ِّ‬
‫للناس على اهلل حجة بعد الرسل‪ ،‬فكل من بلغه القرآن ودعوة الرسول ‪ ‬فقد‬
‫نذ َركم بِِه َوَمن بَـلَ َغ﴾ [األنعام‪.]91 :‬‬ ‫قامت عليه احلجة‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬أل ِ‬
‫ث َرسوالً﴾ [اإلسراء‪.]96 :‬‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما كنَّا م َع ِّذبِ َ‬
‫ني َح َّىت نَـْبـ َع َ‬
‫وقد أمجع العلماء على أن من بلغته دعوة الرسول ‪ ،‬أن حجة اهلل قائمة‬
‫حممدا ‪ ،‬وأنزل عليه الكتاب‬ ‫عليه‪ ،‬ومعلوم باالضطرار من الدين‪ :‬أن اهلل بعث ً‬
‫ليعبد وحده وال يشرك معه غريه‪ ،‬فال يدعى إالَّ هو‪ ،‬وال يذبح إالَّ له‪ ،‬وال ينذر‬
‫إالَّ له‪ ،‬وال يتوكل إالَّ عليه‪ ،‬وال خياف خوف الشر إالَّ منه‪.‬‬
‫اج َد لِلَّ ِه فَ َال تَ ْدعوا َم َع اللَّ ِه‬‫َن الْمس ِ‬
‫والقرآن مملوء من هذا‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬وأ َّ َ َ‬
‫احلَ ِّق﴾ [الرعد‪ ،]94 :‬وقال‪َ ﴿ :‬والَ تَ ْد‬ ‫َح ًدا﴾ [اجلن‪ .]91 :‬وقال‪﴿ :‬لَه َد ْع َوة ْ‬ ‫أَ‬
‫ك‬ ‫ون اللي ِه ما الَ ي َنفعك والَ يضُّرَك﴾ [يونس‪ ،]955 :‬وقال‪﴿ :‬فَ ِ‬ ‫ِمن د ِ‬
‫ص ِّل لَربِّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني﴾ [املائدة‪:‬‬ ‫َو ْاحنَْر﴾ [الكوثر‪ ،]2 :‬وقال‪َ ﴿ :‬و َعلَى الليه فَـتَـ َوَّكلواْ إِن كنتم ُّم ْؤمن َ‬
‫ون﴾‬ ‫اعب ْده وتَـوَّكل علَي ِه﴾ [هود‪ ،]923 :‬وقال‪﴿ :‬وإِيَّاي فَارهب ِ‬
‫َ َ َْ‬ ‫‪ ،]23‬وقال‪﴿ :‬فَ ْ َ َ ْ َ ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني﴾ [آل عمران‪ ،]946 :‬وقال‪:‬‬ ‫[البقرة‪ ،]45 :‬وقال‪َ ﴿ :‬و َخافون إِن كنتم ُّم ْؤمن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾ [التوبة‪.]91 :‬‬ ‫ك أَن يَكونواْ م َن الْم ْهتَد َ‬ ‫ش إِالَّ الليهَ فَـ َع َسى أ ْولَـئِ َ‬ ‫﴿ َوَلْ َخيْ َ‬
‫واآليات الواردة يف هذا املعى كثرية‪.‬‬
‫واهلل تعاىل‪ :‬ال يعذب خلقه إالَّ بعد اإلعذار إليهم‪ ،‬فأرسل رسله وأنزل‬
‫ت أَيْ ِدي ِه ْم فَـيَـقولوا َربَّـنَا لَْوَال‬‫َّم ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫كتبه‪ ،‬لئال يقولوا‪َ ﴿ :‬ولَْوَال أَن تصيبَـهم ُّمصيبَة مبَا قَد َ‬
‫ني﴾ [القص ‪.]44 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ت إِلَْيـنَا َرس ًوال فَـنَتَّبِ َع آيَاتِ َ‬
‫ك َونَكو َن م َن الْم ْؤمن َ‬ ‫أ َْر َسْل َ‬

‫‪-453-‬‬
‫ت إِلَْيـنَا‬ ‫ِِ‬
‫وقال‪َ ﴿ :‬ولَْو أَنَّا أ َْهلَكْنَاهم بِ َع َذاب ِّمن قَـْبله لََقالوا َربَّـنَا لَْوَال أ َْر َسْل َ‬
‫ك ِمن قَـْب ِل أَن نَّ ِذ َّل َوَخنَْزى﴾ [طه‪.]934 :‬‬ ‫َرس ًوال فَـنَتَّبِ َع آيَاتِ َ‬
‫وكل من بلغه القرآن فليس مبعذور‪ ،‬فإن األصول الكبار‪ ،‬اليت هي‪ :‬أصل‬
‫دين اإلسالم‪ ،،‬قد بيَّنها اهلل تعاىل يف كتابه‪ ،‬وأوضحها وأقام هبا حجته على‬
‫جليا‪ ،‬كما يفهمها‬ ‫فهما ً‬ ‫أن) يفهمها اإلنسان ً‬ ‫عباده‪ ،‬وليس املراد بقيام احلجة‪:‬‬
‫(‪1‬‬
‫من هداه اهلل ووفقه‪ ،‬وانقاد ألمره» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أو بطين‪:‬‬
‫إنه ال عذر يف اجلهل بأصول التوحيد‪ ،‬والرسالة وحنوها‪ ،‬بعد بعثته ‪ ‬وبلوغ‬
‫حجج اهلل وبيِّناته‪ ،‬وإن ل يفهمها من بلغته‪ ،‬فحجة اهلل قائمة على عباده ببلوغ‬
‫احلجة‪ ،‬ال بفهمها‪ ،‬فبلوغ احلجة شيء‪ ،‬وفهمها شيء آخر‪ ،‬وهلذا ل يعذر اهلل‬
‫(‪)2‬‬
‫الكفار بعدم فهمهم‪ ،‬بعد أن بلغتهم حجته وبيناته ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال الشيخ سليمان بن مسحان ‪ -‬رمحه اهلل تعاىل‪:-‬‬
‫فمن بلغته رسالة حممد ‪ ،‬وبلغه القرآن فقد قامت عليه احلجة‪ ،‬قال اهلل‬
‫نذ َركم بِِه َوَمن بَـلَ َغ﴾ [األنعام‪.]91 :‬‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬أل ِ‬
‫الرس ِل﴾ [النساء‪:‬‬ ‫َّاس َعلَى اللي ِه ح َّجة بَـ ْع َد ُّ‬‫وقال تعاىل‪﴿ :‬لِئَالَّ يَكو َن لِلن ِ‬
‫‪.]956‬‬
‫فال يعذر أحد يف عدم اإلميان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر‪ ،‬فال‬
‫عذر له بعد ذلك باجلهل‪ ،‬وقد أخرب اهلل سبحانه جبهل كثري من الكفار مع‬
‫تصرحيه بكفرهم‪ ،‬ووصف النصارى باجلهل مع أنه ال يشك مسلم يف كفرهم‪،‬‬
‫جهال مقلَّدون‪ ،‬ونعتقد كفرهم وكفر من‬ ‫ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم َّ‬
‫(‪)3‬‬
‫شك يف كفرهم» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)44 – 49 /99( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪ ،)355 ،361/95( :‬بتصرف بسيط‪.‬‬
‫(‪« )3‬كشف الشبهتني»‪.)14 – 19( :‬‬

‫‪-454-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫العقوبة والمؤاخذة ل تكون إل بعد إقامة الحجة‬
‫ويكفي في إقامتها مجرد بيان التوحيد بدليله‬

‫إن احلجة تقوم من أجل أن حييا من حي عن بينة‪ ،‬ويهلك من هلك عن‬


‫بينة‪ ،‬وتارة تقوم ألداء واجب البيان والبالغ‪ ،‬وعلى كل حال فاملؤاخذة والعقوبة‬
‫ال تكون إالَّ بعد إقامة احلجة ووضوح احملجة‪.‬‬
‫وينبغي اإلحاطة يف هذا املقام‪ :‬بأن بيان التوحيد بدليله كاف يف إقامة‬
‫عددا معينًا إلقامة احلجة‪ ،‬أو تعيني‬
‫احلجة‪ ،‬ويف هذا الرد الوافر على من يشرتط ً‬
‫اإلمام‪ ،‬أو من يقوم مقامه‪ ،‬حىت تقام على وجهها بزعمه‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرمحن أبو بطني يف أثناء الرد على من زعم أن‬
‫حجة اهلل ال تقوم على أصحاهبا إال من خالل اإلمام أو من يقوم مقامه‪:‬‬
‫«وقولك‪ :‬حىت تقوم احلجة الرسالية من إمام أو نائبه‪ ،‬معناه‪ :‬أن احلجة‬
‫اإلسالمية ال تقبل إالَّ من إمام أو نائبه‪ ،‬وهذا خطأ فاحش‪ ،‬ل يقله أحد من‬
‫العلماء‪ ،‬بل الواجب على كل أحد قَبول احلق‪ ،‬ممَّن قاله كائنًا من كان‪.‬‬
‫حمرما‪ ،‬شرًكا فما دونه جبهل‪ ،‬وبني له من‬
‫أمرا ً‬
‫ومقتضى هذا‪ :‬أن من ارتكب ً‬
‫وبني له دليله من الكتاب والسنة أنه‬
‫عنده علم بأدلة الشر ‪ :‬أن ما ارتكبه حرام‪َّ ،‬‬
‫ال يلزمه قبوله‪ ،‬إالَّ أن يكون ذلك من إمام أو نائبه‪ ،‬وأن حجة اهلل ال تقوم عليه‪،‬‬
‫إالَّ أن يكون ذلك من اإلمام أو نائبه‪.‬‬
‫وأظنك‪ :‬مسعت هذا الكالم من بعض املبطلني‪ ،‬وقلَّدته فيه‪ ،‬ما فطنت لعيبه‪،‬‬
‫وإمنا وظيفة اإلمام أو نائبه‪ :‬إقامة احلدود‪ ،‬واستتابة من حكم الشر بقتله‪،‬‬
‫كاملرتد يف بالد اإلسالم‪.‬‬

‫‪-456-‬‬
‫وأظن هذه العبارة مأخوذة‪ ،‬من قول بعض الفقهاء يف تارك الصالة‪ :‬أنه ال‬
‫يقتل حىت يدعوه إمام أو نائبه إىل فعلها‪ ،‬والدعاء إىل فعل شيء‪ ،‬غري بيان‬
‫حقا أو باطالً بأدلة الشر ‪ ،‬فالعال مثالً‪:‬‬
‫احلجة على خطئه أو صوابه‪ ،‬أو كونه ً‬
‫يقيم األدلة الشرعية‪ ،‬على وجوب قتل تارك الصالة‪ ،‬مث اإلمام أو نائبه يدعوه إىل‬
‫(‪)1‬‬
‫فعلها‪ ،‬ويستتيبه» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)316 – 314/95( :‬‬

‫‪-455-‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫أنواع الكفر وحكم تكفير المعين‬

‫وفيه مخسة مباحث‪:‬‬


‫املبحث األول‪ :‬أنوا الكفر والنفاق األكرب واألصغر‪.‬‬
‫مقومات احلكم به‪ ،‬ومىت ال‬ ‫املبحث الثاي‪ :‬مىت يصح التكفري‪ ،‬وما هي ِّ‬
‫يصح‪ ،‬مع بيان أن املكفِّر يدور أمره بني الثواب‪ ،‬والعفو‪،‬‬
‫واإلمث الشديد‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬املشرك اجلاهل الذي ل تقم عليه حجة البالغ‪ ،‬ال يكون‬
‫مسلما ولو نطق بالشهادتني واستقبل القبلة وقام ببعض‬ ‫ً‬
‫الفرائض‪ ،‬إالَّ أنه ال َّ‬
‫يعني بالكفر املستلزم للعقوبة يف الدارين‬
‫إالَّ بعد إقامة احلجة‪.‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬فهم وتأويل أئمة الدعوة ملوقف الشيخني ابن تيمية وحممد‬
‫للمعني ابتداء حىت تقام‬
‫بن عبد الوهاب‪ ،‬من عدم تكفريمها َّ‬
‫احلجة‪.‬‬
‫املبحث اْلامس‪ :‬تكفري ملعيَّنني صادر من أئمة الدعوة رمحهم اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪-454-‬‬
-451-
‫المبحث األول‬
‫أنواع الكفر والنفاق األكبر واألصغر‪.‬‬

‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬


‫«فالكفر كفران‪ :‬كفر خيرج من امللة وهو مخسة أنوا ‪:‬‬
‫(النوع األول)‪ :‬كفر التكذيب‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَم ْن أَظْلَم ِممَّ ِن افْـتَـَرى‬
‫ِّ ِ‬ ‫احلَ ِّق لَ َّما َجاءه أَلَْي ِ‬ ‫ب بِ ْ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين﴾‬ ‫َّم َمثْـ ًوى لْل َكاف ِر َ‬ ‫س يف َج َهن َ‬ ‫َ‬ ‫َعلَى اللَّه َكذبًا أ َْو َك َّذ َ‬
‫[العنكبوت‪.]51 :‬‬
‫(النوع الثاني)‪ :‬كفر اإلباء واالستكبار مع التصديق‪ .‬والدليل قوله تعاىل‪:‬‬
‫استَ ْكبَـَر َوَكا َن ِم َن‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫يس أ ََىب َو ْ‬ ‫آلد َم فَ َس َجدواْ إال إبْل َ‬ ‫اسجدواْ َ‬ ‫﴿ َوإِ ْذ قـْلنَا لْل َمالَئ َكة ْ‬
‫ِ‬
‫ين﴾ [البقرة‪.]34 :‬‬ ‫الْ َكاف ِر َ‬
‫(النوع الثالث)‪ :‬كفر الشك‪ ،‬وهو كفر الظن‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪:‬‬
‫يد َه ِذهِ أَبَ ًدا * َوَما أَظ ُّن‬ ‫ِ‬
‫﴿ َوَد َخ َل َجنَّتَه َوه َو ظَال لِّنَـ ْف ِس ِه قَ َال َما أَظ ُّن أَن تَبِ َ‬
‫احبه‬ ‫دت إِ َىل رِّيب َأل َِج َد َّن خيـرا ِّمْنـها م َنقلَبا * قَ َال لَه ص ِ‬ ‫اعةَ قَائِ َمةً َولَئِن ُّرِد ُّ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َْ ً َ‬ ‫َ‬ ‫الس َ‬
‫َّ‬
‫ك ِمن تـَراب مثَّ ِمن نُّطْ َفة مثَّ َس َّو َاك َرج ًال * لَّ ِكنَّا‬ ‫ِ‬
‫ت بِالَّذي َخلَ َق َ‬ ‫َوه َو حيَا ِوره أَ َك َف ْر َ‬
‫ِ‬
‫َح ًدا﴾ [الكهف‪.]31 – 36 :‬‬ ‫ه َو اللَّه َرِّيب َوَال أ ْش ِرك بَرِّيب أ َ‬
‫َّ ِ‬
‫ين َك َفروا َع َّما‬ ‫(النوع الرابع)‪ :‬كفر اإلعراض‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫نذروا م ْع ِرضو َن﴾ [األحقاف‪.]3 :‬‬ ‫أِ‬
‫ك بِأَنـَّه ْم َآمنوا مثَّ‬ ‫ِ‬
‫(النوع الخامس)‪ :‬كفر النفاق‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ذل َ‬
‫َك َفروا فَطبِ َع َعلَى قـلوهبِِ ْم فَـه ْم َال يَـ ْف َقهو َن﴾ [املنافقون‪.]3 :‬‬
‫ب الليه‬ ‫ضَر َ‬
‫وكفر أصغر ال خيرج من امللة وهو كفر النعمة‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪َ﴿ :‬و َ‬
‫ت بِأَْنـع ِم‬ ‫ِ ِ‬ ‫مثَالً قَـري ًة َكانَ ِ‬
‫ت آمنَ ًة ُّمطْ َمئن ًَّة يَأْت َيها ِرْزقـ َها َرَغ ًدا ِّمن ك ِّل َم َكان فَ َكَفَر ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ‬

‫‪-451-‬‬
‫اجلوِ و ْ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صنَـعو َن﴾ [النحل‪.]992 :‬‬
‫اْلَْوف مبَا َكانواْ يَ ْ‬ ‫الليه فَأَ َذاقَـ َها الليه لبَ َ‬
‫اس ْ َ‬
‫وأما النفاق فنوعان‪ :‬اعتقادي‪ ،‬وعملي‪.‬‬
‫فأما االعتقادي‪ :‬فهو ستة أنوا ‪ :‬تكذيب الرسول ‪ ،‬أو تكذيب بعض ما‬
‫املسرة‬
‫جاء به الرسول‪ ،‬أو بغض الرسول‪ ،‬أو بغض ما جاء به الرسول‪ ،‬أو َّ‬
‫باخنفاض دين الرسول‪ ،‬أو الكراهية النتصار دين الرسول‪ ،‬فهذه األنوا الستة‬
‫صاحبها من أهل الدرك األسفل من النار‪.‬‬
‫وأما العملي‪ :‬فهو مخسة أنوا ‪ ،‬والدليل قوله ‪« :‬آية املنافق ثالث‪ :‬إذا‬
‫كذب‪ ،‬وإذا وعد أخلف‪ ،‬وإذا اؤَتن خان‪ ،‬وإذا خاصم فجر‪ ،‬وإذا عاهد‬ ‫حدَّث َّ‬
‫غدر»‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫نعوذ باهلل من النفاق والشقاق وسوء األدب‪ ،‬واهلل أعلم ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬جمموعة التوحيد‪( :‬ص‪.)456 ،454‬‬

‫‪-445-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫متي يصح التكفير وما هي مقومات الحكم به‬
‫ومتى ل يصح‪ ،‬مع بيان أن المكفر يدور أمره‬
‫بين الثواب‪ ،‬والعفو‪ ،‬واإلثم الشديد‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ‪ -‬رحمهما اهلل تعالى‪:-‬‬
‫متأوالً خمطئًا‪ ،‬وهو ممن يسوغ له‬
‫«إن كان املكفِّر لبعض صلحاء األمة ِّ‬
‫التأويل‪ ،‬فهذا وأمثاله ممن رفع عنه احلرج والتأثيم‪ ،‬الجتهاده‪ ،‬وبذل وسعه‪ ،‬كما‬
‫يف قصة حاطب بن أيب بلتعة‪ ،‬فإن عمر ‪ ‬وصفه بالنفاق‪ ،‬واستأذن رسول اهلل‬
‫‪ ‬يف قتله‪ ،‬فقال له رسول اهلل ‪« :‬وما يدريك أن اهلل اطلع على أهل بدر‪،‬‬
‫فقال‪ :‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»‪.‬‬
‫ومع ذلك فلم يعنف عمر‪ ،‬على قوله حلاطب‪ :‬إنه قد نافق‪ ،‬وقد قال اهلل‬
‫تعاىل‪ ﴿ :‬ربـنا ل تـؤ ِ‬
‫اخ ْذنا إِ ْن ن ِسينا أ ْو أ ْخطأْنا ﴾ [البقرة‪ .]215 :‬وقد ثبت‪:‬‬
‫أن الرب تبارك وتعاىل‪ ،‬قال بعد نزول هذه اآلية‪ ،‬وقراءة املؤمنني هلا‪« :‬قد‬
‫فعلت»‪.‬‬
‫(التكفري برتك اصول اإلميان‪ ،‬من أعظم دعائم الدين)‬
‫وأما إن كان املكفِّر ألحد من هذه األمة‪ ،‬يستند يف تكفريه له إىل ن‬
‫احا‪ ،‬كالشرك باهلل‪ ،‬وعبادة ما‬‫كفرا بو ً‬
‫وبرهان من كتاب اهلل وسنة نبيِّه‪ ،‬وقد رأى ً‬
‫سواه‪ ،‬واالستهزاء به تعاىل‪ ،‬أو بآياته‪ ،‬أو رسله‪ ،‬أو تكذيبهم‪ ،‬أو كراهة ما أنزل‬
‫اهلل من اهلدى ودين احلق‪ ،‬أو جحد صفات اهلل تعاىل ونعوت جالله‪ ،‬وحنو‬
‫ذلك‪ ،‬فاملكفِّر هبذا وأمثاله‪ ،‬مصيب مأجور‪ ،‬مطيع هلل ورسوله‪....‬‬
‫والتكفري برتك هذه األصول‪ ،‬وعدم اإلميان هبا‪ ،‬من أعظم دعائم الدين‪،‬‬
‫يعرفه كل من كانت له هنمة يف معرفة دين اإلسالم‪....‬‬

‫‪-449-‬‬
‫وقد يصدر التكفري لصلحاء األمة‪ ،‬من أعداء اهلل ورسوله‪ ،‬أهل اإلشراك له‬
‫به‪ ،‬واإلحلاد يف أمسائه‪ ،‬فهؤالء يكفِّرون املؤمنني مبحض اإلميان‪ ،‬وجتريد التوحيد‪،‬‬
‫ويعيبون أهل اإلسالم‪ ،‬ويذموهنم على إخالص الدين‪ ،‬وجتريد املتابعة لرسول اهلل‬
‫‪ ،‬بل قد يقاتلوهنم على ذلك‪ ،‬ويستحلُّون دماءهم وأمواهلم‪ ،‬كما قال تعاىل‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫َّم َوَهل ْم‬
‫ني َوالْم ْؤمنَات مثَّ َلْ يَـتوبوا فَـلَه ْم َع َذاب َج َهن َ‬ ‫ين فَـتَـنوا الْم ْؤمن َ‬ ‫﴿إ َّن الذ َ‬
‫احلَ ِر ِيق﴾ [الربوج‪.]95 :‬‬ ‫َع َذاب ْ‬
‫فمن كفَّر املسلمني أهل التوحيد‪ ،‬أو فتنهم بالقتال أو التعذيب‪ ،‬فهو من‬
‫َحلُّواْ قَـ ْوَمه ْم َد َار‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين بَدَّلواْ ن ْع َمةَ الليه ك ْفًرا َوأ َ‬
‫شر أصناف الكفار‪ ،‬ومن‪ ﴿ :‬الذ َ‬
‫س الْ َقَرار﴾ [إبراهيم‪.]21 ،21 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صلَ ْونَـ َها َوبْئ َ‬
‫َّم يَ ْ‬
‫الْبَـ َوار * َج َهن َ‬
‫ويف احلديث‪« :‬من قال ألخيه يا كافر‪ ،‬فقد باء هبا أحدمها»‪.‬‬
‫وأما من أطلق لسانه بالتكفري‪ ،‬جملرد عداوة‪ ،‬أو هوى‪ ،‬أو ملخالفة يف‬
‫البني‪ ،‬والتجاسر على‬‫اجلهال‪ ،‬فهذا من اْلطأ ِّ‬
‫املذهب‪ ،‬كما يقع لكثري من َّ‬
‫احا‪ ،‬عنده فيه من‬ ‫التكفري‪ ،‬أو التفسيق والتضليل‪ ،‬ال يسوغ إالَّ ملن رأى ً‬
‫كفرا بو ً‬
‫اهلل برهان‪ .‬واملخالفة يف املسائل االجتهادية‪ ،‬اليت قد خيفى احلكم فيها على كثري‬
‫فسقا‪ ،‬وقد يكون احلكم فيها قطعيًا جليًا عند‬
‫كفرا وال ً‬
‫من الناس‪ ،‬ال تقتضي ً‬
‫نفسا‬
‫مشتبها خفيًا‪ ،‬واهلل ال يكلف ً‬
‫ً‬ ‫بعض الناس‪ ،‬وعند آخرين يكون احلكم فيها‬
‫إال وسعها‪....‬‬
‫وبقي قسم خامس‪ ،‬وهم الذين يكفرون مبا دون الشرك من الذنوب‪،‬‬
‫كالسرقة والزنا وشرب اْلمر‪ ،‬وهؤالء هم اْلوارج‪ ،‬وهم عند أهل السنة ضالَّل‬
‫مبتدعة‪ ،‬قاتلهم أصحاب رسول اهلل ‪ ،‬ألن احلديث قد صح باألمر بقتاهلم‬
‫والرتغيب فيه‪ ،‬وفيه‪« :‬أهنم يقرأون القرآن ال جياوز حناجرهم»‪.‬‬
‫وقد غلط كثري من املشركني يف هذه األعصار‪ ،‬وظنوا أن من كفَّر من‬

‫‪-442-‬‬
‫تلفظ بالشهادتني‪ ،‬فهو من اْلوارج‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬بل التلفظ بالشهادتني‬
‫مانعا من التكفري إالَّ ملن عرف معنامها‪ ،‬وعمل مبقتضامها‪ ،‬وأخل‬
‫ال يكون ً‬
‫(‪)1‬‬
‫العبادة هلل‪ ،‬ول يشرك به سواه‪ ،‬فهذا تنفعه الشهادتان» ‪.‬‬
‫مسلما فقد كفر»‪:‬‬
‫وسئل الشيخ أبو بطين عن الذي يروي‪« :‬من كفر ا‬
‫«فأجاب عفا اهلل عنه‪ :‬ال أصل هلذا اللفظ فيما نعلم عن النيب ‪ ،‬وإمنا‬
‫احلديث املعروف‪« :‬من قال ألخيه يا كافر فقد باء هبا أحدمها» ومن كفر‬
‫متأوالً‪ ،‬غضبًا هلل تعاىل‪ ،‬فريجى العفو عنه‪ ،‬كما قال‬
‫فسقه‪ ،‬أو نفقه‪ِّ ،‬‬
‫إنسانًا أو َّ‬
‫عمر ‪ ‬يف شأن حاطب بن أيب بلتعة أنه منافق‪ ،‬وكذا جرى من غريه من‬
‫شخصا أو نفَّقه غضبًا لنفسه أو بغري تأويل‪،‬‬
‫ً‬ ‫الصحابة وغريهم‪ ،‬وأما من كفَّر‬
‫فهذا خياف عليه‪.‬‬
‫وأما من جعل سبيل الكفار أهدى من سبيل املؤمنني‪ ،‬فإن كان مراده‪:‬‬
‫حال أهل الزمان اليوم‪ ،‬كأن يقول‪ :‬إن فعل مشركي الزمان عند القبور وغريها‪،‬‬
‫أحسن ممن ال يدعو إالَّ اهلل وال يدعو غريه‪.‬‬
‫فهذا كافر بال شك‪ ،‬وكذا قولنا‪ :‬إن فعل مشركي الزمان عند القبور من‪:‬‬
‫دعاء أهل القبور‪ ،‬وسؤاهلم قضاء احلاجات‪ ،‬وتفريج الكربات‪ ،‬والذبح‪ ،‬والنذر‬
‫هلم‪ ،‬وقولنا‪ :‬إن هذا شرك أكرب‪ ،‬وأن من فعله فهو كافر‪ ،‬والذين يفعلون هذه‬
‫العبادات عند القبور كفار بال شك‪.‬‬
‫اجلهال‪ :‬إنكم تكفِّرون املسلمني‪ ،‬فهذا ما عرف اإلسالم وال التوحيد‪.‬‬
‫وقول َّ‬
‫والظاهر‪ :‬عدم صحة إسالم هذا القائل‪ ،‬فإن ل ينكر هذه األمور اليت يفعلها‬
‫(‪)2‬‬
‫املشركون اليوم‪ ،‬وال يراها شيئًا فليس مبسلم» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)254 – 255/92( :‬‬


‫(‪« )2‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪ ،‬القسم الثالث (‪.)566 ،564/9‬‬

‫‪-443-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫المشرك الجاهل‪ ،‬الذي لم تقم عليه حجة البالغ‬
‫مسلما‪ ،‬ولو نطق بالشهادتين‪ ،‬واستقبل القبلة‪،‬‬
‫ل يكون ا‬
‫وقام ببعض الفرائض‪ ،‬إل أنه ل يعين بالكفر المستلزم‬
‫للعقوبة إل بعد إقامة الحجة‬

‫إذا وقع العبد يف عبادة غري اهلل جاهالً‪ ،‬ول تقم عليه حجة البالغ‪ ،‬يف وقت‬
‫يقاس فيه أهله بأهل الفرتات‪ ،‬فهذا العبد ال حيكم عليه بالكفر حىت تقام عليه‬
‫احلجة‪ ،‬ولكن هذا ال يستلزم احلكم له باإلسالم‪ ،‬ال وكال‪ ،‬ألن لإلسالم حد‪،‬‬
‫من قام به كان من أهله‪ ،‬ومن ل يقم به حتت أي شبهة من الشبهات فهو‬
‫خارج من عداد املسلمني‪ ،‬وماثل يف عداد املشركني‪.‬‬
‫كافرا إالَّ بعد قيام احلجة‪ ،‬ألن‬
‫َتهد هذا‪ ،‬فنقول‪ :‬إن هذا العبد ال يكون ً‬ ‫إذا َّ‬
‫الكفر وصف ومعى متضمن للرد واإلنكار والتكذيب املستلزم للعقوبة‪ ،‬وهذا ال‬
‫يكون إالَّ بعد بلوغ الرسالة وإقامة احلجة‪ ،‬وكذلك احلكم باْللود يف النريان ملن‬
‫أيضا ال يكون إالَّ بعد قيام احلجة بالرسل‪.‬‬
‫مات على الكفر دون توبة منه‪ ،‬فهو ً‬
‫مسلما‪ ،‬وإن نطق‬
‫فاملشرك اجلاهل الذي ل تقم عليه حجة البالغ‪ ،‬ال يكون ً‬
‫بالشهادتني‪ ،‬واستقبل القبلة‪ ،‬وقام ببعض الفرائض‪.‬‬
‫وهذا هو املقصود املتعني من كالم األئمة‪ :‬كابن تيمية‪ ،‬وابن القيم‪ ،‬وحممد‬
‫بن عبد الوهاب‪ ،‬وأحفاده‪.‬‬
‫ولذلك عندما يطلق هؤالء األئمة‪ :‬القول بعدم تكفري املعني‪ ،‬من الذين‬
‫وقعوا يف عبادة غري اهلل‪ ،‬حىت تقام عليه احلجة‪ ،‬فمقصودهم األكيد يف هذا‬

‫‪-444-‬‬
‫الشأن هو‪ :‬الكفر املستلزم للعقوبة يف الدنيا‪ ،‬واْللود يف النريان يف اآلخرة‪.‬‬
‫املعني‪ ،‬الذي وقع يف عبادة غري اهلل‪،‬‬‫وكما قطع هؤالء األئمة بعدم تكفري َّ‬
‫أيضا بعدم إسالمه‪ ،‬وأثبتوا له حكم‬ ‫حىت تقام عليه احلجة‪ ،‬فنجدهم قد جزموا ً‬
‫الشرك ووصفه‪ ،‬ولو ل تقم عليه حجة البالغ‪.‬‬
‫فهؤالء املشركون اجلاهلون يعاملون‪ ،‬معاملة أهل الفرتات‪ ،‬سواء بسواء يف‬
‫الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وهبذا التفصيل‪ ،‬يزول اإلشكال يف هذه املسألة بالكلية‪ ،‬أما الذين يريدون‬
‫الدفع‪ :‬يف حنر نصوص الشريعة الواضحة احلاكمة بعكازة قضايا األعيان‪ ،‬واألدلة‬
‫واألقوال املطلقة من غري تقييد‪ ،‬فشأهنم وما ارتضوه ألنفسهم‪ ،‬إالَّ أن هذا ليس‬
‫من اإلسالم يف شيء‪ ،‬ونقول هلم‪:‬‬
‫واإلل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه الطال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب‬ ‫أي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن المف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر‬
‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرمحن رمحهما اهلل تعاىل‪:‬‬
‫«إن كالم الشيخني ‪ -‬أي ابن تيمية وابن القيم ‪ -‬يف كل موضع فيه البيان‬
‫الشايف أن نفي التكفري ِّ‬
‫باملكفرات قوهلا وفعلها فيما خيفى دليله‪ ،‬ول تقم احلجة‬
‫على فاعله‪ ،‬وأن النفي يراد به نفي تكفري الفاعل وعقابه‪ ،‬قبل قيام احلجة‪ ،‬وأن‬
‫نفي التكفري خمصوص مبسائل النزا بني األمة‪.‬‬
‫امللمات والشدائد‪ ،‬فهذا‬
‫وأما دعاء الصاحلني‪ ،‬واالستغاثة هبم‪ ،‬وقصدهم يف َّ‬
‫ال يناز مسلم يف حترميه‪ ،‬أو احلكم بأنه من الشرك األكرب‪ ،‬وتقدم عن الشيخ أن‬
‫فاعله يستتاب فإن تاب وإالَّ قتل‪ ،‬كما يف عبارة الرسالة السنية‪ ،‬وتقدم قوله‪ :‬من‬
‫إمجاعا‪ ،‬وتقدم‬
‫جعل بينه وبني اهلل وسائط يدعوهم ويسأهلم ويتوكل عليهم‪ ،‬كفر ً‬
‫قوله يف الرد على املتكلمني‪ :‬وهذا إذا كان يف املسائل اْلفية‪ ،‬فقد يقال إنه‬
‫خفي عليهم‪ ،‬ولكنه يقع منهم يف مسائل يعلم‬

‫‪-446-‬‬
‫اْلاصة والعامة أن الرسول قد جاء هبا‪ ...‬إخل‪ .‬وهذا عني كالم شيخنا‬
‫حممد بن عبد الوهاب ضاعف اهلل لنا وله الثواب‪ ،‬وأدخلنا وإياه اجلنة بغري‬
‫(‪)1‬‬
‫حساب‪ ،‬على رغم كل مبري وكذاب» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬
‫من حممد بن عبد الوهاب‪ ،‬إىل أمحد بن عبد الكرمي‪ ،‬سالم على املرسلني‪،‬‬
‫واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬
‫تقرر املسألة اليت ذكرت‪ ،‬وتذكر أن عليك إشكاالً‬
‫أما بعد‪ :‬وصل مكتوبك‪ِّ ،‬‬
‫تطلب إزالته‪ ،‬مث ورد منك مراسلة‪ ،‬تذكر أنك عثرت على كالم للشيخ‪ ،‬أزال‬
‫عنك اإلشكال‪ ،‬فنسأل اهلل أن يهديك لدين اإلسالم‪.‬‬
‫وعلى أي شيء يدل كالمه‪ ،‬على أن من عبد األوثان عبادة‪ ،‬أكرب من‬
‫وسب دين الرسول ‪ ‬بعدما شهد به‪ ،‬مثل َّ‬
‫سب أيب‬ ‫َّ‬ ‫عبادة الالَّت و َّ‬
‫العزى‪،‬‬
‫جهل‪ ،‬أنه ال يكفر بعينه‪ .‬بل العبارة صرحية واضحة يف تكفريه مثل ابن فريوز‪،‬‬
‫ظاهرا ينقل عن امللة‪ ،‬فضالً عن غريمها‪ ،‬هذا‬
‫كفرا ً‬
‫وصاحل بن عبد اهلل‪ ،‬وأمثاهلما‪ً ،‬‬
‫صريح واضح‪ ،‬يف كالم ابن القيم الذي ذكرت‪ ،‬ويف كالم الشيخ الذي أزال‬
‫عنك اإلشكال‪ ،‬يف كفر من عبد الوثن‪ ،‬الذي على قرب يوسف وأمثاله‪ ،‬ودعاهم‬
‫أقر به‪ ،‬ودان بعبادة األوثان بعد‬
‫يف الشدائد والرخاء‪ ،‬وسب دين الرسل بعد ما َّ‬
‫أقر هبا‪....‬‬
‫ما َّ‬
‫وإن كنت تزعم أن اإلنسان‪ ،‬إذا أظهر اإلسالم ال يكفر‪ ،‬ولو أظهر عبادة‬
‫سب دين األنبياء‪ ،‬ومسَّاه دين أهل العارض‪،‬‬
‫األوثان‪ ،‬وزعم أهنا الدين‪ ،‬وأظهر َّ‬
‫وأفىت بقتل من أخل هلل الـدين‪ ،‬وإحراقه‪ ،‬وحل ماله‪ ،‬فهذه مسألتك وقد‬

‫(‪« )1‬منهاج التأسيس والتقديس»‪( :‬ص‪.)396‬‬

‫‪-445-‬‬
‫أحدا‪ ،‬ول‬ ‫َّقررهتا‪ ،‬وذكرت‪ :‬أن من زمن النيب ‪ ‬إىل يومنا هذا ل يقتلوا ً‬
‫يكفِّروه من أهل امللة‪.‬‬
‫(األدلة الجلية على كفر وقتل من أتى بناقض من أهل القبلة)‬
‫ين ِيف قـلوهبِِم‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫أما ذكرت‪ :‬قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬لَئن لْ يَنتَه الْمنَافقو َن َوالذ َ‬
‫ني أَيْـنَ َما ث ِقفوا أ ِخذوا َوقـتـِّلوا تَـ ْقتِ ًيال﴾ [األحزاب‪55 :‬‬ ‫ِ‬
‫َّمَرض﴾‪ ،‬إىل قوله‪َ ﴿ :‬مْلعون َ‬
‫– ‪.]59‬‬
‫ين ي ِريدو َن أَن يَأْ َمنوك ْم َويَأْ َمنواْ قَـ ْوَمه ْم ك َّل َما‬ ‫ِ‬
‫آخ ِر َ‬
‫واذكر قوله‪َ ﴿ :‬ستَجدو َن َ‬
‫رُّد َواْ إِ َىل الْ ِفْتنِ ِة أ ْركِسواْ فِيِ َها﴾ [النساء‪ ،]19 :‬إىل قوله‪﴿ :‬فَِإن َّلْ يَـ ْعتَ ِزلوك ْم َويـْلقواْ‬
‫السلَ َم َويَكف َُّواْ أَيْ ِديَـه ْم فَخذوه ْم َواقْـتـلوه ْم‪[ ﴾...‬النساء‪.]19 :‬‬‫إِلَْيكم َّ‬
‫واذكر قوله يف االعتقاد يف األنبياء‪﴿ :‬أَيَأْمركم بِالْك ْف ِر بَـ ْع َد إِ ْذ أَنتم‬
‫ُّم ْسلِمو َن﴾ [آل عمران‪.]15 :‬‬
‫صح عن رسول اهلل ‪ ‬أنه شخ رجالً معه الراية إىل من تزوج‬ ‫واذكر ما َّ‬
‫امرأة أبيه‪ ،‬ليقتله ويأخذ ماله‪.‬‬
‫تزوج امرأة األب؟ أو سب دين األنبياء بعد معرفته؟‬ ‫فأي هذين أعظم؟ ُّ‬
‫كذب اهلل‬ ‫هم بغزو املصطلق‪ ،‬ملا قيل إهنم منعوا الزكاة‪ ،‬حىت َّ‬ ‫واذكر أنه قد َّ‬
‫من نقل ذلك‪.‬‬
‫اجتهادا‪« :‬لئن أدركتهم ألقتلنهم‬ ‫ً‬ ‫واذكر قوله يف أعبد هذه األمة‪ ،‬وأشدهم‬
‫أجرا ملن قتلهم يوم القيامة»‪.‬‬ ‫قتل عاد‪ ،‬أينما لقيتموهم فاقتلوها‪ ،‬فإن يف قتلهم ً‬
‫واذكر قتال الصدِّيق وأصحابه‪ ،‬مانعي الزكاة‪ ،‬وسيب ذراريهم‪ ،‬وغنيمة أمواهلم‪.‬‬
‫وردهتم‪ ،‬ملا‬ ‫واذكر إمجا الصحابة‪ ،‬على قتل أهل مسجد الكوفة‪ ،‬وكفرهم َّ‬
‫قالوا كلمة يف تقرير نبوة مسيلمة‪ ،‬ولكن الصحابة اختلفوا يف قبول توبتهم ملا‬
‫تابوا‪ ،‬واملسألة يف صحيح البخاري وشرحه يف الكفالة‪.‬‬
‫واذكر إمجـا الصحابة ملا استفتاهم عمر‪ ،‬على أن من زعم‪ :‬أن اْلمر‬

‫‪-444-‬‬
‫ين َآمنوا َو َع ِملوا‬ ‫َّ ِ‬
‫س َعلَى الذ َ‬
‫حتل للخواص‪ ،‬مستدالً بقوله تعاىل‪﴿ :‬لَْي َ‬
‫ات جناح فِيما طَعِموا إِ َذا ما اتـ ََّقوا وآمنوا وع ِملوا َّ ِ‬
‫احل ِ‬
‫ات مثَّ اتـ ََّق ْوا َو َآمنوا‬ ‫احل ِ‬‫َّ ِ‬
‫الص َ‬ ‫َ ْ َ َ ََ‬ ‫َ َ‬ ‫الص َ‬
‫ني﴾ [املائدة‪ ،]13 :‬مع كونه من أهل‬ ‫ِِ‬ ‫َح َسنوا َواللَّه ِحي ُّ‬
‫ب الْم ْحسن َ‬ ‫مثَّ اتـ ََّق ْوا َوأ ْ‬
‫بدر‪.‬‬
‫وأمجع الصحابة على كفر من اعتقد يف علي‪ ،‬مثل اعتقاد هؤالء‪ ،‬يف عبد‬
‫القادر‪ ،‬وردهتم وقتلهم‪ ،‬فأحرقهم علي بن أيب طالب ‪ ‬وهم أحياء‪ ،‬فخالفه ابن‬
‫عباس يف اإلحراق‪ ،‬وقال‪ :‬يقتلون بالسيف‪ ،‬مع كوهنم من أهل القرن األول‪،‬‬
‫أخذوا العلم عن الصحابة‪ .‬واذكر إمجا أهل العلم من التابعني وغريهم‪ ،‬على‬
‫قتل اجلعد بن درهم‪ ،‬وأمثاله‪ ،‬قال ابن القيم‪:‬‬
‫هلل درك من أخي قربان‬ ‫شكر الضحية كل صاحب سنة‬
‫بردته وقتله‪،‬‬
‫ولو ذهبنا نعدِّد من كفَّره العلماء‪ ،‬مع ادعائه اإلسالم‪ ،‬وأفتوا ِّ‬
‫لطال الكالم‪ ،‬لكن من آخر ما جرى قصة بن عبيد‪ ،‬ملوك مصر وطائفتهم‪،‬‬
‫وهم يدعون أهنم من أهل البيت‪ ،‬ويصلُّون اجلمعة واجلماعة‪ ،‬ونصبوا القضاة‬
‫واملفتني‪ ،‬وأمجع العلماء على كفرهم وردهتم وقتاهلم‪ ،‬وأن بالدهم بالد حرب‪،‬‬
‫جيب قتاهلم ولو كانوا مكرهني‪ ،‬مبغضني هلم‪.‬‬
‫اعا كثرية‪،‬‬
‫واذكر كالمه يف اإلقنا وشرحه‪ ،‬يف الردة‪ ،‬كيف ذكروا أنو ً‬
‫كثريا‬
‫عمت البلوى هبذه الفرق‪ ،‬وأفسدوا ً‬ ‫موجودة عندكم‪ ،‬مث قال منصور‪ :‬وقد َّ‬
‫من عقائد أهل التوحيد‪ ،‬نسأل اهلل العفو والعافية‪ ،‬هذا لفظه حبروفه‪ ،‬مث ذكر قتل‬
‫الواحد منهم‪ ،‬وحكم ماله‪.‬‬
‫هل قال واحد من هؤالء من الصحابة‪ ،‬إىل زمن منصور‪ ،‬إن هؤالء‪ :‬يكفر‬
‫أنواعهم ال أعياهنم؟!‪...‬‬
‫ـ مث ذكر كالم ابن تيمية يف تكفري من ذبح لغري اهلل‪ ،‬وحكمه بردة بعض‬
‫كثريا‪ ،‬مث قال‪:-‬‬
‫املتكلمني‪ ،‬السابق نقله من قبل ً‬

‫‪-441-‬‬
‫فانظر كالمه يف التفرقة‪ ،‬بني املقاالت اْلفية‪ ،‬وبني ما حنن فيه‪ ،‬يف كفر‬
‫وتأمل‬
‫املعني‪ ،‬وتأمل تكفريه رءوسهم‪ ،‬فالنًا وفالنًا بأعياهنم‪ ،‬وردهتم ردة صرحية َّ‬
‫َّ‬
‫تصرحيه حبكاية اإلمجا على ردة الفخر الرازي عن اإلسالم‪ ،‬مع كونه عند‬
‫املعني ال‬
‫علمائكم من األئمة األربعة‪ ،‬هل يناسب هذا ملا فهمت من كالمه‪ :‬أن َّ‬
‫يكفر‪ ،‬وال دعا عبد القادر يف الرخاء والشدة‪ ،‬ولو أحب عبد اهلل بن عون‪ ،‬وزعم‬
‫أن دينه حسن‪ ،‬مع عبادته أيب حديدة‪ ،‬ولو أبغضك واستنجسك ‪ -‬مع أنك‬
‫ملتفتا بعض االلتفات إىل التوحيد‪ ،‬مع كونك‬ ‫أقرب الناس إليه ‪ -‬ملا رآك ً‬
‫توافقهم على شيء من شرطهم‪ ،‬وكفرهم؟!‪...‬‬
‫غرك به الشيطان‪ ،‬من الفهم الفاسد‪ ،‬الذي‬‫فتأمل كالمه‪ ،‬وأعرضه على ما َّ‬
‫كذبت به اهلل ورسوله‪ ،‬وإمجا األمة‪ ،‬وحتيَّزت به على عبادة الطواغيت‪ ،‬فإن‬
‫فهمت هذا‪ ،‬وإالَّ أشري عليك أنك تكثر من التضر والدعاء‪ ،‬إىل من اهلداية‬
‫بيده‪ ،‬فإن اْلطر عظيم‪ ،‬فإن اْللود يف النار جزاء الردة الصرحية‪ ،‬ما يسوى‬
‫(‪)1‬‬
‫بضيعة تربح تومان أو نصف تومان» ‪.‬‬
‫ولقد تضافرت األدلة من الكتاب والسنة‪ ،‬بفهم مجهور أهل العلم على أن‪:‬‬
‫ويعني بالكفر إذا قامت احلجة عليه‪ ،‬ولقد قطع‬
‫من عبد غري اهلل يكون مشرًكا‪َّ ،‬‬
‫أئمة الدعوة خبروجه من امللة ولو ل تقم عليه احلجة‪ ،‬وأما ما دون ذلك من‬
‫القدر فالردة فيه متوقفة على قيام احلجة ووضوح احملجة‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫«وكيف ال حيكم الشيخان ‪ -‬أي‪ :‬ابن تيمية وابن القيم ‪ -‬على أحد‬
‫بالكفر‪ ،‬أو الشرك‪ ،‬وقد حكم به اهلل ورسوله‪ ،‬وكافة أهل العلم؟‬
‫وهذان الشيخان حيكمان‪ :‬أن من ارتكب ما يوجب الكفر والردة والشرك‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)44 ،53/95( :‬‬

‫‪-441-‬‬
‫فسقا‪ ،‬إالَّ‬
‫كفرا أو شرًكا أو ً‬
‫حيكم عليه مبقتضى ذلك‪ ،‬ومبوجب ما اقرتف ً‬
‫أن يقوم مانع شرعي مينع من اإلطالق‪ ،‬وهذا له صور خمصوصة‪ ،‬ال يدخل فيها‬
‫(‪)1‬‬
‫مدرا لظهور الربهان‪ ،‬وقيام احلجة بالرسل»‬
‫بشرا أو ً‬
‫قربا أو ً‬
‫صنما أو ً‬‫من عبد ً‬
‫‪.‬‬
‫وقال عبد اهلل وإبراهيم‪ ،‬ابنا عبد اللطيف‪ ،‬وسليمان ابن سحمان‪:‬‬
‫وأما قول القائل‪ :‬نقول بأن القول كفر‪ ،‬وال حنكم بكفر القائل‪ ،‬فإطالق‬
‫هذا جهل صرف‪ ،‬ألن هذه العبارة ال تنطبق إالَّ على املعني‪ ،‬ومسألة تكفري‬
‫كفرا‪ ،‬فيقال‪ :‬من قال هبذا‬
‫املعني‪ ،‬مسألة معروفة إذا قال قوالً يكون القول به ً‬ ‫َّ‬
‫القول فهو كافر‪ ،‬لكن الشخ املعني إذا قال ذلك ال حيكم بكفره حىت تقوم‬
‫عليه احلجة‪ ،‬اليت يكفر هبا تاركها‪ ،‬وهذا يف املسائل اْلفية‪ ،‬اليت قد خيفى دليلها‬
‫على بعض الناس‪ ،‬كما يف مسائل القدر واإلرجاء وحنو ذلك‪ ،‬فما قاله أهل‬
‫أمورا كفرية‪ ،‬من رد أدلة الكتاب والسنة‬ ‫األهواء‪ ،‬فإن بعض أقواهلم تتضمن ً‬
‫كفرا‪ ،‬وال حيكم على قائله‬
‫املتواترة‪ ،‬فيكون القول املتضمن لرد بعض النصوص ً‬
‫بالكفر الحتمال وجود مانع كاجلهل وعدم العلم بنقض الن أو بداللته‪ ،‬فإن‬
‫الشرائع ال تلزم إالَّ بعد بلوغها‪.‬‬
‫ذكر ذلك اهلل شيخ اإلسالم ابن تيمية قدس اهلل روحه‪ ،‬يف كثري من كتبه‪،‬‬
‫أيضا‪ :‬تكفري أناس من أعيان املتكلمني‪ ،‬بعد أن َّقرر هذه املسائل‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وذكر ً‬
‫وهذا إذا كان يف املسائل اْلفية‪ ،‬فقد يقال بعدم التكفري‪ ،‬وأما ما يقع منهم يف‬
‫املسائل الظاهرة اجللية‪ ،‬أو ما يعلم من الدين بالضرورة‪ ،‬فهذا ال يتوقف يف كفر‬
‫(‪)2‬‬
‫قائله ‪ .‬اهـ‪.‬‬

‫(‪« )1‬منهاج التأسيس والتقديس» (ص‪.)325‬‬


‫(‪« )2‬عقيدة املوحدين»‪( :‬ص‪.)469‬‬

‫‪-415-‬‬
‫(ظاهر اآليات واألحاديث‪ ،‬وكالم جمهور العلماء‪ ،‬يدل على تكفير من‬
‫عبد مع اهلل غيره بالتعيين)‬
‫قال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪:-‬‬
‫نقول يف تكفري املعني‪ :‬ظاهر اآليات‪ ،‬واألحاديث‪ ،‬وكالم مجهور العلماء يدل‬
‫على كفر من أشرك باهلل فعبد معه غريه‪ ،‬ول تفرق األدلة بني املعني وغريه‪ .‬قال‬
‫تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن الليهَ الَ يَـ ْغ ِفر أَن ي ْشَرَك بِهِ﴾ [النساء‪ .]41 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬فَاقْـتـلواْ‬
‫ني َحْيث َو َج ُّ‬ ‫ِ‬
‫دَتوه ْم﴾ [التوبة‪ .]6 :‬وهذا عام يف كل واحد من‬ ‫الْم ْش ِرك َ‬
‫املشركني‪.‬‬
‫ومجيع العلماء يف كتب الفقه‪ ،‬يذكرون حكم املرتد‪ ،‬وأول ما يذكرون من‬
‫أنوا الكفر والردة‪ ،‬الشرك‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن من أشرك باهلل كفر‪ ،‬ول يستثنوا اجلاهل‪،‬‬
‫ولدا كفر‪ ،‬ول يستثنوا اجلاهل‪ ،‬ومن قذف عائشة كفر‪،‬‬ ‫ومن زعم هلل صاحبة أو ً‬
‫إمجاعا‪ ،‬لقوله تعاىل‪﴿ :‬الَ تَـ ْعتَ ِذرواْ قَ ْد‬
‫ومن استهزأ باهلل أو رسله أو كتبه‪ ،‬كفر ً‬
‫ِ‬
‫معا على كفر‬ ‫َك َف ْرم بَـ ْع َد إِميَانك ْم﴾ [التوبة‪ ،]55 :‬ويذكرون أنو ً‬
‫اعا كثرية جم ً‬
‫يفرقوا بني املعني وغريه‪.‬‬‫صاحبها‪َ ،‬ول ِّ‬
‫مث يقولون‪ :‬فمن ارتد عن اإلسالم قتل بعد االستتابة‪ ،‬فحكموا بردته قبل‬
‫احلكم باستتابته‪ ،‬فاالستتابة بعد احلكم بالردة‪ ،‬واالستتابة إمنا تكون ملعني‪.‬‬
‫ويذكرون يف هذا الباب‪ :‬حكم من جحد وجوب واحدة من العبادات‬
‫احملرمات‪ ،‬كاْلمر واْلنزير وحنو ذلك‪ ،‬أو شك فيه‬ ‫استحل شيئًا من َّ‬‫َّ‬ ‫اْلمس‪ ،‬أو‬
‫يكفر‪ ،‬إذا كان مثله ال جيهله‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ول يقولوا ذلك يف الشرك وحنوه مما ذكرنا بعضه‪ ،‬بل أطلقوا كفره‬

‫مسلما إالَّ‬
‫(‪ )1‬وذلك ألن الشرائع ال تلزم إالَّ بعد البالغ‪ ،‬أما التوحيد وترك الشرك‪ ،‬فلن يكون العبد ً‬
‫بتحقيقه‪ ،‬بل وأخذ على ذلك امليثاق‪ ،‬وفطر عليه العباد‪ ،‬ورَّكز يف عقوهلم أدلته وحجه وبراهينه‪ ،‬مث‬
‫قامت األدلة الكونية ‪ -‬اليت ال خيلو منها الكون يف أي بقعة من بقاعه‪ ،‬وال يف أي حلظة من‬
‫حلظاته ‪ -‬شاهدة على صحة التوحيد‪ ،‬وآمرة به‪ ،‬وعلى قبح الشرك وناهية عنه‪ .‬مث جاءت الرسل‬
‫=‬

‫‪-419-‬‬
‫ول يقيِّدوه باجلهل‪ ،‬وال َّفرقوا بني املعني وغريه‪ ،‬وكما ذكرنا‪ :‬أن االستتابة إمنا‬
‫تكون ملعني‪.‬‬
‫ولدا؟ أو أن‬‫وهل جيوز ملسلم أن يشك يف كفر من قال إن هلل صاحبة أو ً‬
‫أحدا من األنبياء؟‬
‫جربائيل غلط يف الرسالة؟ أو ينكر البعث بعد املوت؟ أو ينكر ً‬
‫وهل ويفرق مسلم بني املعني وغريه يف ذلك وحنوه؟ وقد قال ‪« :‬من بدل دينه‬
‫(‪)1‬‬
‫يعم املعني وغريه» ‪.‬‬ ‫فاقتلوه»‪ ،‬وهذا ُّ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫=‬
‫كلهم‪ ،‬ختاطب من عبد غري اهلل من أقوامهم بالشرك‪ ،‬وتوجب عليهم التوبة واالخنال منه‪ ،‬كل‬
‫هذا قبل أن تقيم احلجة عليهم‪ ،‬وتبني هلم حرمة الشك‪ ،‬مث تعلمهم أن الدخول يف دينهم ليس له‬
‫احدا ال ثاي له‪ ،‬وهو‪ :‬االخنال من الشرك إىل االستقامة على التوحيد‪ ،‬مع إفرادهم‬ ‫إالَّ طري ًقا و ً‬
‫عليهم السالم بوحدانية املتابعة‪ ،‬وحتذرهم بأن من مات منهم غري مؤمن برسالته‪ ،‬فمصريه نار‬
‫أبدا‪ ،‬وتبشر املؤمنني هبم جبنة عرضها السماوات واألرض‪ ،‬وهكذا كانت القضية‬ ‫خالدا فيها ً‬
‫جهنم ً‬
‫واضحة وحامسة ومتفقة يف كل الرساالت وكافة النبوات والشرائع‪ .‬هذا واهلل أعال وأعلم‪.‬‬
‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)459/95( :‬‬

‫‪-412-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫فهم وتأويل أئمة الدعوة لموقف الشيخين‬
‫ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب‬
‫من عدم تكفيرهما للمعين ابتداء‪ ،‬حتى تقام عليه الحجة‬

‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى‪ ،‬بعد أن ساق‬
‫األدلة الدالة على كفر من عبد غير اهلل سبحانه‪:‬‬
‫«بقي مسألة حدثت‪ ،‬تكلَّم هبا شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬وهو‪ :‬عدم تكفري‬
‫املعني ابتداء‪ ،‬لسب ذكره رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬أوجب له التوقف يف تكفريه‪ ،‬قبل‬ ‫َّ‬
‫إقامة احلجة عليه‪ ،‬قال رمحه اهلل تعاىل‪ :‬وحنن نعلم بالضرورة‪ ،‬أن النيب ‪ ‬ل يشر‬
‫أحدا من األموات‪ ،‬ال األنبياء‪ ،‬وال الصاحلني‪ ،‬وال غريهم‪ ،‬ال‬
‫ألحد‪ ،‬أن يدعو ً‬
‫بلفظ االستغاثة‪ ،‬وال بغريها‪ ،‬كما أنه ل يشر ألمته السجود مليِّت‪ ،‬وال إىل‬
‫أن ذلك من الشرك‬ ‫ميِّت‪ ،‬وحنو ذلك‪ ،‬بل نعلم‪ :‬أنه هنى عن هذه األمور كلها‪ ،‬و َّ‬
‫الذي حرمه اهلل ورسوله ‪ ،‬ولكن‪ :‬لغلبة اجلهل‪ ،‬وقلة العلم بآثار الرسالة‪ ،‬يف‬
‫كثري من املتأخرين‪ ،‬ل ميكن تكفريهم بذلك‪ ،‬حىت يبني ما جاء به الرسول‪ ،‬مما‬
‫خيالفه‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فذكر رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬ما أوجب له عدم إطالق الكفر عليهم‪ ،‬على‬
‫التعيني خاصة‪ ،‬إالَّ بعد البيان واإلصرار‪ ،‬فإنه قد صار أمة وحده‪ ،‬ألن من‬
‫العلماء من كفره بنهيه هلم عن الشرك يف العبادة‪ ،‬فال ميكن أن يعاملهم مبثل ما‬
‫قال‪ ،‬كما جرى لشيخنا حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬يف ابتداء دعوته‪،‬‬
‫يدا بن اْلطاب‪ ،‬قال‪ :‬اهلل خري من‬ ‫فإنه إذا مسعهم يدعون ز ً‬
‫نظرا إىل املصلحة‪ ،‬وعدم‬‫زيـد‪َ ،‬تـرينًا هلم على نفي الشرك‪ ،‬بلني الكالم‪ً ،‬‬

‫‪-413-‬‬
‫(‪)1‬‬
‫النفرة» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل أبو بطين رحمه اهلل‪:‬‬
‫«وقولك‪ :‬إن الشيخ ‪ -‬أي ابن تيمية ‪ -‬يقول‪ ،‬إن من فعل شيئًا من هذه‬
‫احلجة‬
‫األمور الشركية‪ ،‬ال يطلق عليه أنه مشرك كافر‪ ،‬حىت تقوم عليه َّ‬
‫اإلسالمية‪ ،‬فهو ل يقل ذلك يف الشرك األكرب‪ ،‬وعبادة غري اهلل‪ ،‬وحنوه من‬
‫الكفر‪ ،‬وإمنا قال هذا يف‪ :‬املقاالت اْلفية‪ ،‬كما قدَّمنا من قوله‪ :‬وهذا إذا كان‬
‫يف املقاالت اْلفية‪ ،‬فقد يقال ل تقم عليه احلجة اليت يكفر صاحبها‪ ،‬فلم جيزم‬
‫بعدم كفره‪ ،‬وإمنا قال‪ :‬قد يقال‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬قد يقع ذلك يف طوائف منهم‪ ،‬يعلم العامة واْلاصة‪ ،‬بل اليهود‬
‫حممدا بعث هبا‪ ،‬وكفَّر من خالفها‪ ،‬مثل عبادة اهلل وحده‬
‫والنصارى‪ ،‬يعلمون‪ :‬أن ً‬
‫ال شريك له‪ ،‬وهنيه عن عبادة غريه‪ ،‬فإن هذا أظهر شرائع اإلسالم‪ ،‬يعن‪ :‬فهذا‬
‫ال ميكن أن يقال ل تقم عليه احلجة اليت يكفر صاحبها‪.‬‬
‫واألمر بعبادة اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬والنهي عن عبادة غريه‪ ،‬هو ما حنن‬
‫ين لِئَالَّ يَكو َن لِلن ِ‬
‫َّاس َعلَى اللي ِه ح َّجة بَـ ْع َد‬ ‫ِِ‬
‫فيه‪ ،‬قال تعاىل‪ُّ ﴿ :‬رسالً ُّمبَ ِّش ِر َ‬
‫ين َومنذر َ‬
‫ِ‬
‫يما﴾ [النساء‪.]956 :‬‬ ‫الرس ِل َوَكا َن الليه َع ِز ًيزا َحك ً‬
‫ُّ‬
‫وقوله رمحه اهلل‪ :‬بل اليهود والنصارى يعلمون ذلك‪ ،‬حكي لنا من غري واحد‬
‫من اليهود يف البصرة‪ ،‬أهنم عابوا على املسلمني ما يفعلونه عند القبور‪ ،‬قالوا‪ :‬إن‬
‫كان نبيكم أمركم هبذا فليس بنيب‪ ،‬وإن ل يأمركم فقد عصيتموه‪.‬‬
‫وعبادة اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬هي أصل األصول‪ ،‬الذي خلق اهلل اجلن‬
‫اإلنس إَِّال لِيـعبد ِ‬
‫ون﴾‬ ‫اجلِ َّن َو ِْ‬
‫واإلنس ألجله‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما َخلَ ْقت ْ‬
‫َْ‬ ‫َ‬
‫[الذاريات‪ ،]65 :‬أي‪ :‬يعبدوي وحدي‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)299 ،295/2( :‬‬

‫‪-414-‬‬
‫وهو الذي أرسل به مجيع الرسل‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولََق ْد بَـ َعثْـنَا ِيف ك ِّل أ َّمة َّرسوالً‬
‫(‪)1‬‬ ‫أ َِن ْاعبدواْ الليه و ِ‬
‫وت﴾ [النحل‪. »]35 :‬‬ ‫اجتَنبواْ الطَّاغ َ‬
‫ََ ْ‬

‫وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه اهلل تعالى‪:‬‬


‫«وقد قال الشيخ ‪ -‬أي ابن تيمية ‪ -‬رمحه اهلل يف جواب له‪ :‬فمسألة تكفري‬
‫متفرعة على هذا األصل‪ ،‬مث ذكر مذاهب األئمة يف ذلك‪،‬‬ ‫أهل األهواء والبد ِّ‬
‫وذكر تكفري اإلمام أمحد للجهمية‪ ،‬وذكر كالم السلف يف تكفريهم‪ ،‬وإخراجهم‬
‫ظ القول فيهم‪ ،‬وذكر الروايتني يف تكفري من ل‬ ‫من الثالث والسبعني فرقة‪ ،‬وغلَّ َ‬
‫يكفِّرهم‪ ،‬وذكر أن أصول هذه الفرق هم‪ :‬اْلوارج‪ ،‬والشيعة‪ ،‬واملرجئة‪ ،‬والقدرية‪،‬‬
‫مث أطال الكالم يف عدم تكفري هذه األصناف‪ ،‬واحتج حبديث أيب هريرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وإذا كان كذلك فاملخطئ يف بعض املسائل إما أن يلحق بالكفار من‬
‫املشركني وأهل الكتاب مع مباينته هلم يف عامة أصول اإلميان‪ ،‬فإن اإلميان‬
‫احملرمات الظاهرة هو من أعظم أصول‬ ‫بوجوب الواجبات الظاهرة املتواترة‪ ،‬وحترمي َّ‬
‫اإلميان‪ ،‬وقواعد الدين‪ ،‬وإذا كان ال بد من إحلاقه ‪ -‬أي املخطئ ‪ -‬بأحد‬
‫شبها من إحلاقه باملشركني وأهل‬ ‫الصنفني‪ ،‬فإحلاقه باملؤمنني املخطئني أشد ً‬
‫كثريا من أهل البد منافقون النفاق األكرب‪ ،‬فما أكثر ما‬ ‫الكتاب‪ ،‬مع العلم بأن ً‬
‫يوجد يف الرافضة واجلهمية وحنوهم زنادقة‪ ،‬وأولئك يف الدرك األسفل من النار‪.‬‬
‫فتبني هبذا مراد الشيخ‪ ،‬وأن كالمه يف طوائف خمصوصة‪ ،‬وأن‬
‫اجلهمية غري داخلني فيه‪ ،‬وكذلك املشركون‪ ،‬وأهل الكتاب ل يدخلوا يف‬
‫هـذه القاعدة‪ ،‬فإنه منع إحلاق املخطئ هبذه األصناف‪ ،‬مع مباينة هلم يف عامة‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)319 – 311/95( :‬‬

‫‪-416-‬‬
‫أصول اإلميان‪.‬‬
‫قال شيخنا ‪ -‬أي عبد اللطيف بن عبد الرمحن ‪ -‬رمحه اهلل‪ :‬وهذا هو قولنا‬
‫بعينه‪ ،‬فإنه إذا بقيت معه أصول اإلميان‪ ،‬ول يقع منه شرك أكرب‪ ،‬وإمنا وقع يف‬
‫نو من البد فهذا ال نكفره‪ ،‬وال خنرجه من امللة‪ ،‬وهذا البيان ينفعك فيما يأيت‬
‫(‪)1‬‬
‫من التشبيه بأن الشيخ ال يكفِّر املخطئ واجملتهد‪ ،‬وأنه مسائل خمصوصة» ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬كشف الشبهتني»‪( :‬ص‪.)41 ،44‬‬

‫‪-415-‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫تكفير لمعينين صادر من أئمة الدعوة رحمهم اهلل تعالى‬

‫قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته إلى عبد اهلل بن عيسى‪،‬‬
‫وابنه عبد الوهاب جاء فيها‪:‬‬
‫«ولوال أن الناس إىل اآلن‪ ،‬ما عرفوا دين الرسول‪ ،‬وأهنم يستنكرون األمر‬
‫الذي ل يألفوه‪ ،‬لكان شأن آخر‪ ،‬بل واهلل الذي ال إله إالَّ هو‪ ،‬لو يعرف الناس‬
‫حبل دم ابن سحيم وأمثاله‪ ،‬ووجوب قتلهم‪ ،‬كما أمجع‬ ‫األمر على وجهه ألفتيت َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫حرجا من ذلك» ‪.‬‬ ‫على ذلك أهل العلم كلهم ال أجد يف نفسي ً‬
‫أيضا رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫وقال ا‬
‫«وما أحسن ما قاله واحد من البوادي‪ ،‬ملا قدم علينا ومسع شيئًا من‬
‫اإلسالم‪ ،‬قال‪ :‬أشهد أننا كفار ‪-‬يعن‪ :‬هو ومجيع البوادي‪ ،-‬وأشهد أن املطو‬
‫(‪)2‬‬
‫إسالما‪ ،‬أنه كافر» ‪.‬‬
‫يسمينا‪ً :‬‬‫الذي ِّ‬
‫وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن‪:‬‬
‫«وذكر شيخ اإلسالم رمحه اهلل‪ :‬أن الفخر الرازي‪ ،‬صنَّف «السر املكتوم‪ ،‬يف‬
‫تدا إالَّ أن يكون قد تاب بعد ذلك‪ ،‬فقد كفر الرازي‬ ‫عبادة النجوم»‪ ،‬فصار مر ً‬
‫بعينه‪ ،‬ملا زيَّن الشرك‪ ،‬وقال بعد أن ذكر العلة يف النهي عن اختاذ القبور مساجد‪،‬‬
‫والنهي عن الصالة عند طلو الشمس‪ ،‬وعند غروهبا‪.‬‬
‫فسد الذريعة أن ال يصلَّى يف هذه الساعـة‪ ،‬وإن كـان املصلي ال‬
‫قال‪ُّ :‬‬

‫(‪« )1‬مؤلفات الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب»‪ ،‬القسم اْلامس‪ :‬الرسائل الشخصية‪( :‬ص‪،394‬‬
‫‪.)396‬‬
‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)991/1( :‬‬

‫‪-414-‬‬
‫يصلي إالَّ هلل‪ ،‬وال يدعو إالَّ اهلل‪ ،‬لئال يفضي إىل دعائها والصالة هلا‪ ،‬وهذا‬
‫ضل به كثريمن األولني واآلخرين‪ ،‬حىت شا ذلك يف‬ ‫من أسباب الشرك‪ ،‬الذي َّ‬
‫كثري ممن ينتسب إىل اإلسالم‪ ،‬وصنف كتابًا على مذهب املشركني‪ ،‬مثل أيب‬
‫معشر البلخي‪ ،‬وثابت بن قرة‪ ،‬وأمثاهلما ممن دخل يف الشرك‪ ،‬وآمن باجلبت‬
‫ين أوتواْ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫والطاغوت‪ ،‬وهم ينتسبون إىل الكتاب‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬أَ َلْ تَـَر إ َىل الذ َ‬
‫وت﴾ [النساء‪ .]69 :‬انتهى‪.‬‬ ‫ت والطَّاغ ِ‬
‫اب يـ ْؤِمنو َن بِ ِْ ِ‬
‫صيبا ِّمن الْ ِكتَ ِ‬
‫ِ‬
‫اجلْب َ‬ ‫نَ ً َ‬
‫املعني‪،‬‬
‫فانظر إىل هذا اإلمام‪ ،‬الذي نسب عنه من أزاغ اهلل قلبه‪ ،‬عدم تكفري َّ‬
‫كيف ذكر عن الفخر الرازي‪ ،‬وأيب معشر‪ ،‬وغريمها من املصنفني املشهورين‪ ،‬أهنم‬
‫كفروا وارتدوا عن اإلسالم‪.‬‬
‫وتأمل قوله‪ :‬حىت شا ذلك يف كثري ممن ينتسب إىل اإلسالم لتعلم ما وقع‬
‫رده على‬ ‫يف آخر هذه األمة من الشرك باهلل‪ ،‬وقد ذكر الفخر الرازي يف ِّ‬
‫ردة صرحية باتفاق‬ ‫املتكلِّمني‪ ،‬وذكر تصنيفه «السر املكتوم»‪ ،‬وقال‪ :‬فهذه َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫املسلمني» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«وقد تقدم كالم الشيخ يف الرازي تصنيفه يف دين املشركني‪ ،‬وأهنا ِرَّدة‬
‫معني‪ ،‬وتقدم يف كالم الشيخ عبد اللطيف ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬حكاية‬ ‫صرحية‪ ،‬وهو َّ‬
‫معني‪ ،‬وكذلك اجلهم بن‬ ‫إمجا العلماء على تكفري بشر املريسي‪ ،‬وهو رجل َّ‬
‫صفوان‪ ،‬واجلعد بن درهم‪ ،‬وكذلك الطوسي نصري الشرك‪ ،‬والتلمساي‪ ،‬وابن‬
‫سبعني‪ ،‬والفارايب‪ ،‬أئمة املالحدة‪ ،‬وأهل الوحدة‪ ،‬وأيب معشر البلخي‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫املعني ما‬
‫ويف إفادة املستفيد للشيخ حممد بن عبد الوهاب ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬يف تكفري َّ‬
‫(‪)2‬‬
‫يكفي طالب احلق واهلدى» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)463 ،462 /99( :‬‬


‫(‪« )2‬كشف الشبهتني»‪( :‬ص‪.)15‬‬

‫‪-411-‬‬
‫وجاء يف سؤال ورد على املفيت العام‪ ،‬الشيخ عبد العزيز ابن باز رمحه اهلل‬
‫تعاىل‪[ :‬فتوى برقم ‪ 3641‬بتاريخ ‪9459/3/91‬هـ]‪:‬‬
‫«السؤال‪ :‬يقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ما كان لِلنبِ ِّي وال ِذين آمنوا أ ْن ي ْستـ ْغ ِفروا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صحاب‬ ‫للْم ْش ِركين ول ْو كانوا أولي قـ ْربى م ْن بـ ْعد ما تـبـين له ْم أنـه ْم أ ْ‬
‫يم ﴾ [التوبة‪.]993 :‬‬ ‫الْج ِح ِ‬
‫إن ظاهر اآلية السابقة مينع االستغفار للمشركني ولو كانوا من ذوي القرابة‪،‬‬
‫والكثري منا حنن أعراب البادية من له والدان وأقرباء‪ ،‬وقد اعتادوا الذبح عند‬
‫فك الكربات‪ ،‬وشفاء املرضى‪ ،‬وقد ماتوا على ذلك‪ ،‬ول يصلهم من‬ ‫القبور‪ ،‬يف ِّ‬
‫يعرفهم معى التوحيد‪ ،‬ومعى ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ول يصلهم من يعلمهم أن النذور‬
‫والدعاء عبادة ال يصح صرفها إالَّ هلل وحده‪ ،‬فهل يصح املشي يف جنائزهم‪،‬‬
‫والصالة عليهم‪ ،‬والدعاء‪ ،‬واالستغفار هلم‪ ،‬وقضاء حجهم والتصدق عليهم؟‪.‬‬
‫اجلواب‪ :‬من مات على احلالة اليت وصفت‪ ،‬ال جيوز املشي يف جنازته‪ ،‬وال‬
‫الصالة عليه‪ ،‬وال الدعاء‪ ،‬وال االستغفار له‪ ،‬وال قضاء حجه‪ ،‬وال التصدق عنه‪،‬‬
‫ألن أعماله املذكورة أعمال شركية وقد قال سبحانه وتعاىل يف اآلية السابقة‪﴿ :‬‬
‫ما كان لِلنبِ ِّي وال ِذين آمنوا أ ْن ي ْستـ ْغ ِفروا لِلْم ْش ِركِين ول ْو كانوا أولِي قـ ْربى ﴾‬
‫[التوبة‪ ،]993 :‬وملا ثبت عنه ‪ ‬أنه قال‪« :‬استأذنت ريب يف االستغفار ألمي‬
‫فلم يأذن يل‪ ،‬واستأذنته يف زيارة قربها فأذن يل»‪.‬‬
‫وليسوا معذروين مبا يقال عنهم‪ :‬أهنم ل يأهتم من يبني هلم أن هذه األمور‬
‫املذكورة اليت يرتكبوهنا شرك‪ ،‬ألن األدلة عليها يف القرآن الكرمي واضحة‪ ،‬وأهل‬
‫العلم موجدون بني أظهرهم‪ ،‬ففي إمكاهنم السؤال عما هم عليه من الشرك‬
‫(‪)1‬‬
‫لكنهم قد أعرضوا‪ ،‬ورضوا مبا هم عليه» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬عقيدة املوحدين»‪( :‬ص‪« .)452‬فتاوى اللجنة الدائمة»‪.)623 ،622/9( :‬‬

‫‪-411-‬‬
‫وسئلت اللجنة الدائمة سؤال جاء فيه‪:‬‬
‫س‪ :‬كنت سألتكم عن حكم صالة من يصلي مؤَتًا بإمام من املشركني‬
‫املنتسبني إىل اإلسالم مثل‪ :‬الذين يذحبون لألولياء‪ ،‬ويدعوهنم‪ ،‬وينذرون هلم‪،‬‬
‫كثريا ما نسأل عن‬
‫ويطوفون بالقبور‪ ،‬ويشدون هلا الرحال‪ ،‬وغري ذلك‪ .‬ألنه كان ً‬
‫هذا السؤال أثناء جتولنا يف بعض البالد اإلسالمية‪ ،‬وتكرر السؤال عنه من‬
‫اإلخوان أنصار السنة يف السودان لدى زيارتنا للسودان هذه السنة‪ .‬وقد‬
‫مذكرا مساحتكم‪،‬‬
‫استحسنتم أن نكتب لكم هبذا السؤال‪ ،‬وها أنا ذا أكتب ً‬
‫راجيًا إصدار اجلواب‪ ،‬ونشره مفصالً‪ ،‬مع التكرم بالكتابة إلينا به‪ ،‬شكر اهلل‬
‫مساعيكم وأجزل مثوبتكم‪.‬‬
‫احلمد هلل وحده والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه‪ ...‬وبعد‪:‬‬
‫ج‪ :‬من نذر لغري اهلل‪ ،‬أو ذبح لغري اهلل‪ ،‬أو دعا لغري اهلل فيما وراء األسباب‬
‫العادية‪ ،‬كدعائه لشفاء مريض‪ ،‬أو إلعطائه ذرية‪ ،‬أو نداء غائب لتفريج كربة‪،‬‬
‫شد الرحال لشيء من هذه األمور‪ ،‬أو‬ ‫أو ميت لدفع بالء‪ ،‬أو طاف بالقبور‪ ،‬أو َّ‬
‫االستعانة باألصنام وحنوها من اجلمادات فهو مشرك شرًكا أكرب ال تصح صالته‬
‫يف نفسه فال جيوز االئتمام به يف الصالة‪ ،‬وال تصح الصالة وراءه لشركه‪.‬‬
‫وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم‪.‬‬
‫اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‬
‫الرئيس‬ ‫نائب رئيس اللجنة‬ ‫عضو‬ ‫عضو‬
‫(‪)1‬‬
‫عبد اهلل بن قعود عبد اهلل بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز»‬
‫أيضا‪[ :‬فتوى رقم ‪]6116‬‬ ‫وسئلت اللجنة الدائمة ا‬
‫س‪ :‬إن السائل‪ ،‬ومجاعة معه من احلدود الشمالية‪ ،‬جماورون للمراكز‬

‫(‪« )1‬فتاوى اللجنة الدائمة»‪.)456 ،254/2( :‬‬

‫‪-415-‬‬
‫العراقية‪ ،‬وهناك مجاعة على مذهب اجلعفرين‪ ،‬ومنهم من امتنع عن أكل‬
‫علما بأهنم يدعون‬
‫ذبائحهم‪ ،‬ومنهم من أكل‪ ،‬ونقول هل حيل لنا أن نأكل منها ً‬
‫عليًا‪ ،‬واحلسن‪ ،‬واحلسني‪ ،‬وسائر ساداهتم يف الشدة والرخاء؟‬
‫احلمد هلل وحده والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه‪ ...‬وبعد‪:‬‬
‫ج‪ :‬إذا كان األمر كما ذكر السائل‪ ،‬من أن اجلماعة الذين لديه من‬
‫اجلعفرية يدعون عليًا‪ ،‬واحلسن‪ ،‬واحلسني‪ ،‬وسادهتم فهم مشركون مرتدون عن‬
‫اإلسالم والعياذ باهلل‪ ،‬ال حيل األكل من ذبائحهم‪ ،‬ألهنا ميتة ولو ذكروا عليها‬
‫اسم اهلل‪.‬‬
‫وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم‪.‬‬
‫اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‬
‫الرئيس‬ ‫نائب رئيس اللجنة‬ ‫عضو‬ ‫عضو‬
‫عبد اهلل بن قعود عبد اهلل بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز»‬
‫أيضا‪:‬‬
‫وسئلت اللجنة ا‬
‫السؤال األول من الفتوى رقم [‪]4665‬‬
‫س‪ :‬أنا من قبيلة تسكن يف احلدود الشمالية‪ ،‬وخمتلطني حنن وقبائل من‬
‫العراق‪ ،‬ومذهبهم شيعة وثنية يعبدون قببًا ويسموهنا‪ :‬باحلسن واحلسني وعلي‪،‬‬
‫وإذا قام أحدهم قال يا علي يا حسني‪ ،‬وقد خالطهم البعض من قبائلنا يف‬
‫النكاح‪ ،‬ويف كل األحوال‪ ،‬وقد وعظتهم ول يسمعوا وهم يف القرايا واملناصيب‪،‬‬
‫وأنا ما عندي أعظهم بعلم‪ ،‬ولكن إي أكره ذلك‪ ،‬وال أخالطهم‪ ،‬وقد مسعت أن‬
‫ذحبهم ال يؤكل‪ ،‬وهؤالء يأكلون ذحبهم‪ ،‬ول يتقيدوا‪ ،‬نطلب من مساحتكم‬
‫توضيح الواجب حنو ما ذكرنا؟‬
‫احلمد هلل وحده والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه‪ ...‬وبعد‪:‬‬

‫‪-419-‬‬
‫ج‪ :‬إذا كان الواقع كما ذكرت‪ ،‬من دعائهم عليًا‪ ،‬واحلسن‪ ،‬واحلسني‪،‬‬
‫وحنوهم فهم مشركون شرًكا أكرب خيرج من ملة اإلسالم‪ ،‬فال حيل أن نزوجهم‬
‫املسلمات‪ ،‬وال حيل لنا أن نتزوج من نسائهم‪ ،‬وال حيل لنا أن نأكل من‬
‫ات َح َّىت يـ ْؤِم َّن َوأل ََمة ُّم ْؤِمنَة َخْيـر‬
‫نكحواْ الْم ْش ِرَك ِ‬‫ذبائحهم‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬والَ تَ ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني َح َّىت يـ ْؤمنواْ َولَ َعْبد ُّم ْؤمن َخْيـر ِّمن‬ ‫ِّمن ُّم ْش ِرَكة َولَْو أ َْع َجبَْتك ْم َوالَ تنكحواْ الْمشرك َ‬
‫ِ‬
‫اجلن َِّة والْم ْغ ِفرةِ بِِإ ْذنِهِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّم ْش ِرك َولَْو أ َْع َجبَك ْم أ ْولَـئِ َ‬
‫ك يَ ْدعو َن إ َىل النَّار َوالليه يَ ْدع َو إ َىل َْ َ َ َ‬
‫َويـبَـ ِّني آيَاتِِه لِلن ِ‬
‫َّاس لَ َعلَّه ْم يَـتَ َذ َّكرو َن﴾ [البقرة‪.]229 :‬‬
‫وباهلل التوفيق وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم‪.‬‬
‫اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‬
‫الرئيس‬ ‫نائب رئيس اللجنة‬ ‫عضو‬ ‫عضو‬
‫(‪)1‬‬
‫عبد اهلل بن قعود عبد اهلل بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز»‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬فتاوى اللجنة الدائمة»‪.)256 ،254/2( :‬‬

‫‪-412-‬‬
‫الفصل السادس‬
‫أحكام الديار‬
‫وفيه أربعة مباحث‪:‬‬

‫املبحث األول‪ :‬تعريف دار اإلسالم‪ ،‬ودار الشرك‪.‬‬


‫املبحث الثاي‪ :‬صفة الدار اليت جتب اهلجرة منها إالَّ ملن قدر على إظهار‬
‫املتعني من إظهار الدين‪.‬‬
‫دينه‪ ،‬مع حترير املراد و َّ‬
‫الرد على‬
‫املبحث الثالث‪ :‬األدلة الدالة على وجوب التباعد عن املشركني‪ ،‬و ِّ‬
‫حماولة إسقاط فرض اهلجرة من ديار املشركني‪.‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬أحكام وأحوال املقيم بني أظهر املشركني‪.‬‬

‫‪-413-‬‬
-414-
‫المبحث األول‬
‫تعريف دار اإلسالم‪ ،‬ودار الشرك‬
‫دار اإلسالم‪ :‬هي الدار اليت جتري فيها أحكام اإلسالم‪ ،‬ولو ل يكن أهلها‬
‫مسلمني‪ ،‬وما دوهنا فهي دار الكفر‪.‬‬
‫إذا كان الشرك فاشيًا يف بلد‪ ،‬وتوابعه من االحنالل والفجور‪ ،‬وانتشرت به‬
‫البد ‪ ،‬وصارت الدعوة فيه لغري الكتاب والسنة‪ ،‬فالقرآن كله‪ ،‬والعلم الضروري‪،‬‬
‫مع إمجا العلماء يدلُّون على أن هذا البلد يكون‪ :‬دار كفر وشرك‪.‬‬
‫قال الشيخ محد بن عتيق رمحه اهلل تعاىل خماطبًا أحد إخوانه‪ ،‬ليدلِّل له على‬
‫أن بلد اإلحساء دار كفر وشرك يف وقته فقال رمحه اهلل‪:‬‬
‫«ومن له مشاركة فيها َّقرره احملققون‪ ،‬قد اطَّلع على أن البلد‪ ،‬إذا ظهر فيها‬
‫احملرمات‪ ،‬وعطلِّت فيها معال الدين‪ ،‬أهنا تكون بالد كفر‪،‬‬ ‫الشرك‪ ،‬وأعلنت فيها َّ‬
‫تغنم أموال أهلها‪ ،‬وتستباح دماؤهم‪ ،‬وقد زاد أهل هذه البلد‪ ،‬بإظهار املسبَّة هلل‬
‫ولدينه‪ ،‬ووضعوا قوانني ينفذوهنا يف الرعية‪ ،‬خمالفة لكتاب اهلل وسنة نبيه ‪ ،‬وقد‬
‫(‪)1‬‬
‫علمت أن هذه كافية وحدها‪ ،‬يف إخراج من أتى هبا من اإلسالم» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل أبو بطين‪:‬‬
‫«قال األصحاب‪ :‬الدار داران‪ ،‬دار إسالم ودار كفر‪ ،‬فدار اإلسالم‪ :‬هي‬
‫اليت جتري أحكام اإلسالم فيها‪ ،‬وإن ل يكن أهلها مسلمني‪ ،‬وغريها دار‬
‫(‪)2‬‬
‫كفر» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)264/1( :‬‬


‫(‪« )2‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪ ،‬القسم الثالث من اجلزء األول‪( :‬ص‪.)566‬‬

‫‪-416-‬‬
‫وقال الشيخ محد بن عتيق يف جوابه ملن ناظره يف حكم أهل مكة وما يقال‬
‫يف البلد نفسه ‪ -‬بعد أن ذكر وجوب إفراد اهلل بالعبادة‪ ،‬ورسوله ‪ ‬باملتابعة‪:-‬‬
‫علما وعمالً ودعوة‪ ،‬وكان هذا دين أهل‬ ‫فإذا حتقق وجود هذين األصلني ً‬
‫البلد‪ ،‬أي بلد كان‪ ،‬بأن عملوا به‪ ،‬ودعوا إليه‪ ،‬وكانوا أولياء ملن دان به‪،‬‬
‫موحدون‪.‬‬
‫ومعادين ملن خالفه فهم ِّ‬
‫وأما إذا كان الشرك فاشيًا مثل‪ :‬دعاء الكعبة واملقام واحلطيم‪ ،‬ودعاء األنبياء‬
‫والصاحلني‪ ،‬وإفشاء توابع الشرك مثل‪ :‬الزنا والربا وأنوا املظال ونبذ السنن وراء‬
‫الظهر‪ ،‬وفشو البد والضالالت‪ ،‬وصار التحاكم إىل األئمة الظلمة‪ ،‬ونواب‬
‫معلوما يف أي بلد‬
‫املشركني‪ ،‬وصارت الدعوة إىل غري القرآن والسنة‪ ،‬وصار هذا ً‬
‫كان‪ ،‬فال يشك من له أدىن علم أن هذه البالد حمكوم عليها بأهنا بالد كفر‬
‫وشرك‪ ،‬ال سيما إذا كانوا معادين أهل التوحيد‪ ،‬وساعني يف إزالة دينهم‪ ،‬وختريب‬
‫بالد اإلسالم‪.‬‬
‫وإذا أردت إقامة الدليل على ذلك وجدت القرآن كله فيه‪ ،‬وقد أمجع عليه‬
‫العلماء‪ ،‬فهو معلوم بالضرورة عند كل عال‪....‬‬
‫ومجا األمر أنه إذا ظهر يف بلد‪ :‬دعاء غري اهلل‪ ،‬وتوابع ذلك‪ ،‬واستمر أهلها‬
‫وتقررت عندهم عداوة أهل التوحيد‪ ،‬وأبوا عن االنقياد‬ ‫عليه‪ ،‬وقاتلوا عليه‪َّ ،‬‬
‫للدين‪ ،‬فكيف ال حيكم عليها بأهنا بلد كفر ‪ -‬ولو كانوا ال ينتسبون ألهل‬
‫الكفر وأهنم منهم بريئون ‪ -‬مع مسبتهم هلم وختطئتهم ملن دان به‪ ،‬واحلكم‬
‫عليهم بأهنم خوارج أو كفار‪ ،‬فكيف إذا كانت هذه األشياء كلها موجودة‬
‫(‪)1‬‬
‫فهذه مسألة عامة كلية» ‪.‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪ ،‬القسم الثالث من اجلزء األول‪( :‬ص‪.)446 – 442‬‬

‫‪-415-‬‬
‫صفة الدار التي تجب الهجرة منها إل لمن قدر على إظهار دينه‬
‫مع تحرير المراد والمتعين من إظهار الدين‬
‫دل الكتاب والسنة‪ ،‬مع صريح العقل‪ :‬على وجوب اهلجرة من الديار‬ ‫لقد َّ‬
‫اليت تظهر فيها أعالم الكفر وتعلوها شعائر الشرك‪ ،‬ال سيما ملن ل يستطع فيها‬
‫على إظهار دينه‪ ،‬واألمن عليه من الفتنة‪ .‬وإظهار الدين املبيح لإلقامة بني أظهر‬
‫املشركني يعن‪ :‬إعالن املخالفة لكل طائفة كافرة مبا اشتهر عنها من املعتقد‪ ،‬مع‬
‫التصريح بالعداوة هلا‪.‬‬
‫ومبعى آخر‪ :‬القيام بالرباءة من املشركني وآهلتهم املزعومة‪ ،‬وإعالمهم بأن‬
‫حكم ما هم عليه من الشرك والتنديد‪ :‬كفر صريح‪ ،‬وضالل مبني‪ ،‬وانسالخ تام‬
‫من الدين‪ ،‬ال ميكن أن جيتمع بأي حال مع أصل اإلميان والتوحيد‪.‬‬
‫فإذا جلس املسلم بينهم‪ ،‬وآثر دنياه على آخرته‪ ،‬فقد يقع يف موالتهم‬
‫ونصرهتم‪ ،‬وتكثري سوادهم‪ ،‬وتصحيح ما هم عليه من االعتقادات الباطلة‬
‫واألعمال الفاسدة‪ ،‬ال سيما مع طول األمد‪ ،‬وبعد العهد بينه وبني املسلمني‬
‫وديارهم‪.‬‬
‫بل وقد جتب اهلجرة والفرار من ديار اإلسالم إذا عالها الفساد‪ ،‬وعمل فيها‬
‫بالبد واملعاصي دون القدرة على تغيريمها‪ ،‬وإحالل السنة والطاعة حملهما‪ .‬وها‬
‫هنا علة عظيمة ميمونة مباركة ملشروعية اهلجرة‪ ،‬تتمثل يف اعتزال أهل املنكر‬
‫والفساد وَتيز أهل اإلميان والصالح‪ ،‬ومن مث انتصاب علم اجلهاد لقمع أهل‬
‫الشرك والفساد‪.‬‬
‫ولوال اهلجرة ملا قام الدين‪ ،‬وال عبد رب العاملني‪ ،‬وال َتَّت الرباءة من‬
‫املشركني‪...‬‬
‫وهبذا نقطع‪ :‬أن اهلجرة واجلهاد‪ ،‬ماضيان إىل قيام الساعة‪ ،‬حلتمية الصرا ‪،‬‬
‫واستمرار النزال‪ ،‬ودوران النضال بني حزب الرمحن‪ ،‬وحزب الشيطان‪.‬‬
‫قال الشيخ إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد‬

‫‪-414-‬‬
‫بن عبد الوهاب رحمهم اهلل تعالى‪:‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬
‫وبه نستعني‪ ،‬وال حول وال قوة إالَّ باهلل‪ ،‬احلمد هلل الذي رضي لنا اإلسالم‬
‫صحته وبيَّنها تبيينًا‪ ،‬وأعان من أراد هدايته على طاعته‪،‬‬
‫دينًا‪ ،‬ونصب األدلة على ِّ‬
‫وكفى بربك هاديًا ومعينًا‪.‬‬
‫من إسحاق بن عبد الرمحن بن حسن‪ ،‬إىل األخ املكرم‪ :‬عبد اهلل آل أمحد‪،‬‬
‫وفقنا اهلل وإياه لسلوك الطريق األمحد‪.‬‬
‫أما بعد‪ :‬فقد كتبت تسألن عن الصواب عندنا‪ ،‬يف حكم بلدان املشركني‪،‬‬
‫وهل جيوز السفر إليها ملن أظهر دينه؟ وما إظهار الدين الذي تربأ به الذمة؟‬
‫إيل مبا أماله بعض املنتسبني يف إباحة ذلك‪ ،‬وأنه صار عندكم مانع‬ ‫وأرسلت َّ‬
‫وجميز‪ ،‬ونعوذ باهلل من التفرق واالختالف‪....‬‬
‫هذا واعلم‪ :‬أنه بعد التسليم حلكم السنة والقرآن‪ ،‬ووجوب الرد إليهما على‬
‫كل فرد من افراد نو هذا اإلنسان‪ ،‬فقد أمجع علماء السنة‪ :‬أنه إذا تواطأ‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬وصريح العقل على إثبات حكم‪ ،‬فال ميكن أن يعارض ثبوته‬
‫بدليل صحيح صريح ألبتة‪.‬‬
‫قطعا‪ ،‬أو كان املعارض به أخطأ يف‬‫بل إن كان املعارض مسعيًا كان كذبًا ً‬
‫فهمه‪ ،‬أو عقليًا فكذلك‪.‬‬
‫تقرر هذا األصل‪ ،‬فالسؤال عن حكم الدار‪ ،‬ليرتتب عليه ما زعم اجمليز‪:‬‬
‫إذا َّ‬
‫فاسد االعتبار‪ ،‬من وجهني‪:‬‬

‫‪-411-‬‬
‫(علة وجوب الهجرة)‬
‫األول‪ :‬أن أهل العلم رتَّبوا حكم اهلجرة‪ ،‬على وجود الشرك‪ ،‬والبد ‪،‬‬
‫واملعاصي‪ ،‬ملن ال يستطيع إنكارها‪.‬‬
‫ومن املعلوم بالضرورة‪ :‬أن الشرك باألموات والغائبني‪ ،‬والتعلق على األنبياء‬
‫والصاحلني‪ ،‬بل‪ :‬على اجملاذيب واجملانني‪ ،‬قد ظهر يف ديارهم شعاره‪ ،‬وتطاير فيها‬
‫شراره‪ ،‬وثار فيها قتامه وغباره‪ ،‬وعدم فيها للتوحيد أعوانه وأنصاره‪ ،‬مع ما هم‬
‫عليه من البد يف العبادات واالعتقادات‪ ،‬وأصناف املعاصي‪ ،‬اليت تشيب اللمم‬
‫والنواصي‪.‬‬
‫فالسؤال عن الدار‪ :‬هل هي دار إسالم أم ال؟ مبعى أن املقيم فيها‪ ،‬كاملقيم‬
‫يف بلد ساملة من ذلك‪ ،‬خطأ ظاهر‪ ،‬وقد تقرر يف عبارات أئمتنا احلنابلة وغريهم‪:‬‬
‫أهنم يوجبون اهلجرة مبشاهدة ما هو دون ذلك‪ ،‬حىت من بلد تظهر فيها عقائد‬
‫أهل البد ‪ ،‬كاملعتزلة واْلوارج والروافض‪.‬‬
‫وقد حكى ابن العريب املالكي‪ ،‬عن ابن القاسم‪ ،‬قال مسعت مال ًكا يقول‪ :‬ال‬
‫حيل ألحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف؛ وقال يف اإلقنا وشرحه ‪ -‬ملا‬
‫ذكرها ‪ -‬فيخرج منها وجوبًا‪ ،‬إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها‪ ،‬فعلق‬
‫احلكم‪ :‬بالوصف الذي هو وجود البد واملعاصي‪ ،‬ملن ال يستطيع إنكارها‪ ،‬إال‬
‫بالدار‪.‬‬
‫(حكم الدار منوط بالوصف القائم بها‪ ،‬مع ذكر بعض األحكام المترتبة‬
‫عليها)‬
‫وإذا كان من املعلوم‪ :‬أن مصر دار إسالم‪ ،‬فتحها عمرو بن العاص زمن‬
‫اْلليفة الراشد‪ :‬عمر ‪ ،‬فأين إمجا الناس على أهنا دار حرب أيام بن عبيد‬
‫القداح؟! وكذلك جزيرة العرب أيام الردة‪ ،‬مع أن الدار دار إسالم‪ ،‬ال دار كفر‬
‫أصلي باإلمجا ‪.‬‬

‫‪-411-‬‬
‫لكن ملا قام هبم الوصف الذي يبيح الدم واملال‪ ،‬ل يكن لتسميتها دار‬
‫إسالم حكم‪ ،‬وصار احلكم هلذا الوصف الطارئ‪ ،‬تعريف على حمل طاهر تلوث‬
‫به احملل‪ ،‬وللشيء حكم نظريه‪ ،‬فكيف مبا هو اقبح وأشد؟! فبطل ما طرده اجمليز‬
‫من التعلق باسم الدار‪....‬‬
‫الوجه الثاي‪ :‬أن اجمليز علَّق حكم إباحة اإلقامة فيما نقلت عنه‪ ،‬مبا إذا ل‬
‫مصر ًحا بأهنا هي النطق بالشهادتني‪ ،‬والصالة‪،‬‬
‫مينعوك عن واجبات دينك‪ِّ ،‬‬
‫والعبادات البدنية‪ ،‬اليت وافقك عليها املشرك يف هذا الزمان‪ ،‬فإذا كان كذلك‪،‬‬
‫فاملدَّعى أوسع من الدليل‪.‬‬
‫إذ عدم املنع من العبادات البدنية‪ ،‬والدعاء بداعي الفالح‪ ،‬موجود يف أكثر‬
‫بئرا يف الطريق‪،‬‬
‫مطرح من أصله‪ ،‬ولعله السائل جعله ً‬ ‫أقطار األرض‪ ،‬فالسؤال َّ‬
‫وعلى نفسها جتن براقش‪ ،‬وعلينا أن نقول احلق‪ ،‬ال تأخذنا يف اهلل لومة الئم‪،‬‬
‫وهذا جوابنا على املسألة األوىل‪.‬‬
‫وأما املسألة الثانية‪ ،‬وهي‪ :‬ما إظهار الدين؟‬
‫شرعا‪،‬‬
‫فاجلواب ‪ -‬وباهلل التوفيق‪ :-‬أن إظهار الدين على الوجه املطلوب ً‬
‫تباح به اإلقامة بقيد أمن الفتنة‪ ،‬وال تعارض نصوص اهلجرة املنوطة مبجرد‬
‫قطعا‪ ،‬فيتعني‬
‫املساكنة‪ ،‬إذ هي األصل وإبطال دليل اإلباحة‪ ،‬ودليل التحرمي ممتنع ً‬
‫اجلمع مبا تقرر يف األصول‪ ،‬من أن العام يبى على اْلاص وال يعارضه‪.‬‬
‫وإذا كان كذلك‪ ،‬فال بد من ذكر طرف منها قبل الكالم عليها‪ ،‬فأقول‪:‬‬
‫دل الكتاب والسنة واإلمجا ‪ ،‬مع صريح العقل وأصل الوضع‪ ،‬على وجوب‬ ‫قد َّ‬
‫اهلجرة من دار الشرك واملعاصي‪ ،‬وحترمي اإلقامة فيها‪.‬‬
‫ين تَـَوفَّاهم الْ َمآلئِ َكة ظَالِ ِمي أَْنـف ِس ِه ْم‪﴾...‬‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫أما الكتاب‪ ،‬فقد قال تعاىل‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫املفسرين‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫اآلية [النساء‪ ،]14 :‬وهذه اآلية ن يف وجـوب اهلـجرة بإمجا‬

‫‪-655-‬‬
‫وفيها ترتب الوعيد على جمرد املقام مع املشرك‪ ،‬والقرآن إذا أناط احلكم‬
‫رده السلف‪ ،‬وقد ذم اهلل من‬ ‫بعلة أو وصف‪ ،‬فصرفه عنه من التأويل الذي َّ‬
‫أعرض عنه‪ ،‬فكيف مبن عارضه؟!‬
‫اعبد ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫وقد قال تعاىل‪﴿ :‬يا ِعب ِاد َّ ِ‬
‫ون﴾‬ ‫ين َآمنوا إ َّن أ َْرضي َواس َعة فَإيَّ َ‬
‫اي فَ ْ‬ ‫ي الذ َ‬‫َ َ َ‬
‫[العنكبوت‪ .]65 :‬قال أبو جعفر ابن جرير‪ ،‬رمحه اهلل تعاىل‪ :‬يقول اهلل تعاىل‬
‫وحدوي‪ ،‬وآمنوا برسويل‪ ،‬إن أرضي واسعة‬ ‫للمؤمنني من عباده‪ ،‬يا عبادي الذين َّ‬
‫ل تضق عليكم فتقيموا مبوضع منها ال حيل لكم املقام فيه‪ ،‬ولكن إذا عمل‬
‫مبكان منها مبعاصي اهلل‪ ،‬فلم تقدروا على تغيريه‪ ،‬فاهربوا منه‪..‬‬
‫نصا يف عدم وجوب اهلجرة‪ ،‬على من ل مينع‬ ‫فمن غلَّب احلقائق وجعلها ً‬
‫من عبادة ربه اليت هي يف زعمه‪ :‬الصالة‪ ،‬وما يتعلَّق بالبدن‪ ،‬ومحل إظهار الدين‬
‫ون﴾ [العنكبوت‪ ،]65 :‬أي‪:‬‬ ‫اعبد ِ‬
‫اي فَ ْ‬ ‫ِ‬
‫على ذلك‪ ،‬وفهم من قوله تعاىل‪﴿ :‬فَإيَّ َ‬
‫يف كل مكان من دار إسالم أو كفر‪ ،‬فقد عكس القضية وأخطأ يف فهمه‪.‬‬
‫واحلق‪ :‬أن احلكم فيها منوط مبجرد املقام مع املشركني‪ ،‬ومشاهدة احملرمات‪،‬‬
‫قال ابن كثري رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬يف تفسريه على قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ ِذ ْاعتَـَزلْتموه ْم َوَما‬
‫يَـ ْعبدو َن إَِّال اللَّهَ﴾ [الكهف‪ ،]95 :‬وإذا فارقتموهم‪ ،‬وخالفتموهم بأدياتكم‪ ،‬يف‬
‫أيضا بأبدانكم‪ ،‬فحينئذ هربوا إىل الكهف‪.‬‬ ‫عبادهتم غري اهلل‪ ،‬ففارقوهم ً‬
‫وقال يف تفسري آية النساء‪ ،‬ملا ذكر أقوال السلف يف سبب‬
‫نزوهلا‪ :‬فهذه اآلية عامة يف كل من أقام بني ظهراي املشركني‪ ،‬وهو‬
‫قادر على اهلجرة‪ ،‬وليس متمكنًا من إقامة الدين‪ ،‬فهو ظال لنفسه‪،‬‬
‫ِ َّ ِ‬
‫مرتكب حر ًاما باإلمجا ‪ ،‬وبن هذه اآلية‪ ،‬حيث يقول‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين‬
‫تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئِ َكة ظَالِ ِمي أَنْـف ِس ِه ْم﴾ [النساء‪ ،]14 :‬أي‪ :‬برتك‬
‫يم كنت ْم﴾ [النساء‪ ،]14 :‬أي ل مكـثتم ههنا‪ ،‬وتركتم‬ ‫ِ‬
‫اهلـجرة‪﴿ :‬قَالواْ ف َ‬

‫‪-659-‬‬
‫ض﴾ [النساء‪ ]14 :‬اآلية‪ .‬انتهى‪.‬‬ ‫ني ِيف األ َْر ِ‬ ‫اهلجرة؟ ﴿قَالواْ كنَّا مست ِ‬
‫ض َعف َ‬
‫َْ ْ‬
‫والدين كلمة جامعة ْلصال اْلري‪ ،‬أعالها وأغالها التوحيد ولوازمه‪ ،‬فمن‬
‫قصره على العبادات اليت يوافق فيها املشرك‪ ،‬بل يواليك عليها‪ ،‬فقد أخطأ‪.‬‬
‫جدا‪ ،‬منها‪ :‬ما رواه أبو داود واحلاكم‪ ،‬عن مسرة‬ ‫وأما األحاديث فكثري ً‬
‫مرفوعا‪« :‬من جامع املشرك أو سكن معه فهو مثله»‪ ،‬ولفظ احلاكم‪« :‬وساكنهم‬ ‫ً‬
‫أو جامعهم فليس منا»‪ ،‬وقال‪ :‬صحيح على شرط البخاري‪.‬‬
‫مرفوعا‪:‬‬
‫ومنها‪ :‬ما رواه أبو داود والنسائي والرتمذي عن جرير بن عبد اهلل ً‬
‫«أنا برئ من مسلم يقيم بني ظهراي املشركني‪ ،‬ال تراءى نارامها» رواه ابن ماجه‬
‫أيضا‪ ،‬ورجال إسناده ثقات‪ ،‬وهو إن صح مرسالً‪ ،‬فهو حجة من وجوه متعددة‪،‬‬ ‫ً‬
‫يعرفها علماء أصول احلديث‪ ،‬منها‪ :‬أن املرسل إذا اعتضد بشاهد واحد‪ ،‬فهو‬
‫حجة‪.‬‬
‫شاهدا‪ ،‬وتشهد له اآليات‬‫ً‬ ‫وقد اعتضد هذا احلديث بأكثر من عشرين‬
‫احملكمات‪ ،‬مع الكليات من الشر ‪ ،‬وأصول يسلمها أهل العلم‪.‬‬
‫ومنها حديث جرير الذي رواه النسائي وغريه‪« :‬أنه بايع النيب ‪ ‬أن يعبد‬
‫اهلل‪ ،‬ويقيم الصالة‪ ،‬ويؤيت الزكاة‪ ،‬ويفارق املشركني»‪ ،‬ويف لفظ‪« :‬وعلى فراق‬
‫املشركني»‪ ،‬ولو ل يكن إالَّ هذا احلديث لكفى‪ ،‬لتأخر إسالم جرير‪.‬‬
‫مرفوعا‪« :‬من أقام مع املشركني‬
‫ومنها‪ :‬ما روى الطرباي والبيهقي‪ ،‬عن جرير ً‬
‫فقد برئت منه الذمة»‪ ،‬قال املناوي‪ :‬حديث حسن‪ ،‬يقصر عن رتبة الصحيح‪،‬‬
‫وصححه بعضهم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما رواه النسائي وغريه‪ ،‬من حديث َهبز بن حكيم‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن‬
‫مرفوعا‪« :‬ال يقبل اهلل من مشرك عمالً بعد ما أسلم أو يفارق املشركني»‪.‬‬
‫جده ً‬
‫ومنها‪ :‬ما رواه النسائي وغريه‪ ،‬عن أيب سعيد ‪ ‬مرفو ًعا‪« :‬ال تنقطع‬

‫‪-652-‬‬
‫اهلجرة ما قوتل الكفار»‪ ،‬ويف معناه حديث معاوية‪« :‬ال تنقطع اهلجرة حىت‬
‫تنقطع التوبة» احلديث‪ ،‬وما رواه سعيد بن منصور وغريه‪« :‬ال تنقطع اهلجرة ما‬
‫كان اجلهاد»‪.‬‬
‫ففي هذه األحاديث مع تباين خمارجها‪ ،‬واختالف طرقها‪ ،‬هيئة اجتماعية‬
‫يقطع معها هبذا احلكم العظيم‪ ،‬الذي هو من أعظم من مصاحل الشريعة‪.‬‬
‫أجل علماء الشافعية‪ ،‬وأئمة‬
‫قال أبو عبد اهلل احلليمي يف اجملالس‪ ،‬وهو من ِّ‬
‫احلديث يف وقته‪ ،‬وهو يف طبقة احلاكم‪ ،‬ملا ذكر بقاء اهلجرة قال‪ :‬إهنا انتقال من‬
‫الكفر إىل اإلميان‪ ،‬ومن دار احلرب إىل دار اإلسالم‪ ،‬ومن السيئات إىل‬
‫احلسنات‪ ،‬وهذه األشياء باقية ما بقي التكليف‪.‬‬
‫وقال احلافظ ابن حجر يف الفتح‪ :‬وقد أفصح ابن عمر باملراد‪ ،‬فيما ذكره‬
‫اإلمساعيلي بلفظ‪ :‬انقطعت اهلجرة بعد الفتح إىل رسول اهلل ‪ ،‬وال تنقطع ما‬
‫قوتل الكفار‪ ،‬أي‪ :‬ما دام يف الدنيا دار كفر‪ .‬انتهى‪....‬‬
‫وقد بى العالَّمة ابن قدامة‪ ،‬وابن أيب عمر وغريمها‪ ،‬كاحلافظ وغريه‪ ،‬حكم‬
‫اإلباحة على مقدمتني‪ :‬إظهار الدين‪ ،‬وأداء الواجبات‪ ،‬واحلكم إذا علِّق بوصفني‬
‫خصوصا إذا أعيدت األداة‪ ،‬وتكررت الصيغة‪ ،‬وقد أعيدت‬ ‫ً‬ ‫ل يتم بدوهنما‪،‬‬
‫وتكررت‪ ،‬وأعيدت الصيغة‪ ،‬هنا‪ :‬حيث قالوا‪ :‬وال ميكنه إظهار دينه‪ ،‬وال‬‫األداة َّ‬
‫ميكنه إقامة واجبات دينه‪ ،‬وهذا يدل على أن لكل مجلة معى غري الذي‬
‫لألخرى‪....‬‬
‫قال يف اإلقنا وشرحه‪ :‬وجتب اهلجرة على من يعجز عن إظهار دينه بدار‬
‫احلرب‪ ،‬وهو ما يغلب عليها حكم الكفر‪ ،‬زاد مجاعة وجزم يف املنتهى أو بلد‬
‫بغاة‪ ،‬أو بد مضلَّة‪ ،‬كالرافضة واْلوارج‪ ،‬فيخرج منها إىل دار أهل السنة وجوبًا‪،‬‬
‫إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها‪.‬‬

‫‪-653-‬‬
‫فعلم‪ :‬أن إظهار الدين يف عبارة املوفق ومن قبله ومن بعده من األصحاب‪،‬‬
‫هو‪ :‬إظهار التوحيد الذي هو إفراد اهلل بالعبادة‪ ،‬يف بلد خيفى فيه‪ ،‬بل جيعل‬
‫الوهايب اْلارجي‪ ،‬صاحب املذهب اْلامس‪،‬‬ ‫ضده هو الدين‪ ،‬ومن تكلَّم به هو َّ‬
‫الذي يكفر األمة‪.‬‬
‫(إظهار الدين يعن‪ :‬خمالفة كل طائفة عاصية‪ ،‬مبا اشتهر عنها‪ ،‬مع التصريح‬
‫هلا بشدة العداوة)‬
‫وقال الشيخ العالمة محد بن عتيق‪ :‬وأما مسألة إظهار الدين‪ ،‬فكثري من‬
‫الناس قد ظن‪ :‬أنه إذا قدر أن يتلفظ بالشهادتني‪ ،‬وأن يصلي الصالة وال يرد عن‬
‫املساجد‪ ،‬فقد أظهر دينه‪ ،‬وإن كان ببلد املشركني‪ ،‬وقد غلط يف ذلك أقبح‬
‫الغلط‪.‬‬
‫هرا للدين‪ ،‬حىت خيالف كل طائفة مبا اشتهر‬ ‫قال‪ :‬وال يكون املسلم مظ ً‬
‫ويصرح هلا بعداوته‪ ،‬فمن كان كفره بالشرك فإظهار الدين له‪ ،‬أن يصرح‬
‫عنها‪ِّ ،‬‬
‫بالتوحيد والنهي عن الشرك‪ ،‬والتحذير منه‪ ،‬ومن كان كفره جبحد الرسالة‪،‬‬
‫حممدا رسول اهلل‪ ،‬ومن كان كفره برتك‬
‫فإظهار الدين عنده التصريح عنده‪ ،‬بأن ً‬
‫الصالة‪ ،‬فإظهار الدين عنده بفعل الصالة‪.‬‬
‫ومن كان كفره مبواالة املشركني‪ ،‬والدخول يف طاعتهم‪ ،‬فإظهار الدين‬
‫التصريح بعداوته وبراءته منه‪ ،‬ومن املشركني إىل آخر كالمه رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬وقد‬
‫مر لك هذا صرحيًا يف كالم الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل‪ ،‬يف املواضع‬ ‫َّ‬
‫اليت نقلها من السرية‪ ،‬ومسَّاه العالمة عبد اللطيف واجبًا‪ ،‬قال فيه‪ :‬وأي رجل نقل‬
‫عنه‪ ،‬ما هو دون هذا الواجب؟!‬
‫فاحلاصل‪ :‬هو ما قدَّمناه‪ ،‬من أن إظهار الدين الذي تربأ به الذمة‪ ،‬هو‬
‫االمتياز عن عبَّاد األوثان بإظهار املعتقد‪ ،‬والتصريح مبا هـم عـليه‪ ،‬والبعد‬

‫‪-654-‬‬
‫عن الشرك‪ ،‬ووسائله‪ ،‬فمن كان هبذه املثابة إن عرف الدين بدليله وأمن‬
‫الفتنة‪ ،‬جاز له اإلقامة‪ .‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫بقي مسألة العاجز عن اهلجرة‪ :‬ما يصنع؟ قال الوالد رمحه اهلل‪ ،‬ملا سئل عنه‪:‬‬
‫املوحد بني ظهراي أناس من املبتدعة واملشركني‪ ،‬ويعجز عن اهلجرة‪،‬‬ ‫وأما إذا كان ِّ‬
‫فعليه بتقوى اهلل‪ ،‬ويعتزهلم ما استطا ‪ ،‬ويعمل مبا وجب عليه يف نفسه‪ ،‬ومع من‬
‫يوافقه على دينه‪ ،‬وعليهم أن يصربوا على أذى من يؤذيهم يف الدين‪ ،‬ومن قدر‬
‫على اهلجرة وجب عليه‪ ،‬وباهلل التوفيق‪ .‬انتهى جوابه‪ .‬وبه انتهى اجلواب عن‬
‫(‪)1‬‬
‫املسألة‪ ،‬وباهلل التوفيق» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)425 – 313/92( :‬‬

‫‪-656-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫األدلة الدالة على وجوب التباعد عن المشركين‬
‫والرد على محاولة إسقاط فرض الهجرة من ديار المشركين‬

‫اجلهال‪ ،‬إىل حماولة إسقاط‬


‫لقد آل األمر ببعض املنتفعني واملرتزقة‪ ،‬وبعض َّ‬
‫فرض اهلجرة من ديار املشركني‪ ،‬والطعن يف علة الفرار بالدين عند خوف الفتنة‬
‫عليه‪ ،‬ومن مث مسخ مشروعيتها‪ ،‬وتوهني األمر هبا‪.‬‬
‫ولقد راج باطل هؤالء على كثري من عوام املسلمني‪ ،‬بل وأقاموا هلم املعاذير‬
‫اليت حتول دون قيامهم بفرض اهلجرة‪ ،‬الذي هو من أعظم شعب اإلميان‪.‬‬
‫فتصدَّى إلفك هؤالء‪ :‬أئمة الدعوة فسطَّروا الرسائل النافعة‪ ،‬واألجوبة الباهرة‬
‫يف بيان‪ :‬أن اإلميان باهلل‪ ،‬يستلزم الرباءة من املشركني‪ ،‬وأن تكثري سواد املشركني‬
‫قد يؤول إىل الكفر املبني واالنسالخ من الدين‪ ،‬وساقوا األدلة والرباهني من‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬الدالة على وجوب التباعد عن املشركني وعدم مساكنتهم‬
‫وجمامعتهم‪ ،‬وأبانوا رمحهم اهلل تعاىل‪ :‬فوائد اهلجرة‪ ،‬وعواقبها الطيبة يف الدين‬
‫فصلوا رمحهم اهلل تعاىل أحكام‬ ‫ونصحا لألمة‪َّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫والدنيا واآلخرة‪ ،‬وإبراءً للذمة‬
‫وأحوال املقيمني بني أظهر املشركني‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد الرمحن بن حسن رمحهما اهلل تعاىل‪:‬‬
‫قال اإلمام أبو جعفر‪ :‬حممد بن جرير الطربي رمحه اهلل تعاىل‪ :‬قوله تعاىل‪:‬‬
‫ب النَّاس أَن يـْتـَركوا أَن يَـقولوا َآمنَّا َوه ْم َال يـ ْفتَـنو َن﴾ [العنكبوت‪:‬‬ ‫﴿ال * أ ِ‬
‫َحس َ‬
‫َ‬
‫أظن الذين جزعوا يـا حممـد مـن أصحـابك‪ ،‬من‬ ‫‪ ،]2 ،9‬قال معناه‪َّ :‬‬

‫‪-655-‬‬
‫أذى املشركني إياهم أن نرتكهم من غري اختبار‪ ،‬وال ابتالء وامتحان بأن‬
‫قالوا‪ :‬آمنا بك يا حممد‪ ،‬وصدقنك مبا جئتنا به من عند اهلل؟ كال لنختربهنم‪،‬‬
‫ين ِمن قَـْبلِ ِه ْم فَـلَيَـ ْعلَ َم َّن اللَّه‬ ‫َّ ِ‬
‫ليتبني الصادق من الكاذب‪ .‬وقوله‪َ ﴿ :‬ولََق ْد فَـتَـنَّا الذ َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ني﴾ [العنكبوت‪ ،]3 :‬قال‪ :‬نزلت من أجل قوم‪،‬‬ ‫ص َدقوا َولَيَـ ْعلَ َم َّن الْ َكاذبِ َ‬‫ين َ‬ ‫الذ َ‬
‫كانوا قد أظهروا اإلسالم مبكة‪ ،‬وختلَّفوا عن اهلجرة‪.‬‬
‫والفتنة اليت فنت هبا هؤالء‪ ،‬هي‪ :‬اهلجرة اليت امتحنوا هبا‪ ،‬ذكر من قال ذلك‪،‬‬
‫ب النَّاس أَن يـْتـَركوا أَن‬ ‫مث ذكر بسنده عن الشعيب‪ ،‬قال‪ :‬إهنا نزلت‪﴿ :‬ال * أ ِ‬
‫َحس َ‬‫َ‬
‫يَـقولوا َآمنَّا َوه ْم َال يـ ْفتَـنو َن﴾ اآليتني [العنكبوت‪ ،]2 ،9 :‬يف أناس مبكة‪ ،‬قد‬
‫أقروا باإلسالم‪ ،‬فكتب إليهم أصحاب نيب اهلل ‪ :‬أنه ال يقبل منكم إسالم حىت‬ ‫ُّ‬
‫فردوهم‪ ،‬فنزلت فيهم هذه‬ ‫هتاجروا‪ ،‬فخرجوا عامدين إىل املدينة‪ ،‬فتبعهم املشركون ُّ‬
‫اآلية‪ ،‬فكتبوا إليهم أنه قد نزلت فيكم هذه اآلية‪ ،‬آية كذا وكذا‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬خنرج‪ ،‬فإن تبعنا أحد قاتلناه‪ ،‬قال‪ :‬فخرجوا‪ ،‬فاتبعهم املشركون‪ ،‬فقاتلوهم‪،‬‬
‫اجرواْ ِمن بَـ ْع ِد‬ ‫ين َه َ‬
‫فمنهم من قتل‪ ،‬ومنهم من جنا‪ ،‬فأنزل اهلل فيهم‪﴿ :‬مثَّ إِ َّن ربَّ ِ ِ‬
‫ك للَّذ َ‬ ‫َ َ‬
‫ك ِمن بَـ ْع ِد َها لَغَفور َّرِحيم﴾ [النحل‪ ،]995 :‬وقوله‬ ‫صَبـرواْ إِ َّن َربَّ َ‬
‫اهدواْ َو َ‬
‫ِ‬
‫َما فتنواْ مثَّ َج َ‬
‫َّاس َكع َذ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َِّ ِ ِ‬ ‫تعاىل‪َ﴿ :‬وِم َن الن ِ‬
‫اب‬ ‫ي ِيف اللَّه َج َع َل فْتـنَةَ الن ِ َ‬ ‫َّاس َمن يَـقول َآمنَّا بالله فَإذَا أوذ َ‬
‫اللَّهِ‪ ﴾...‬إىل آخر اآلية [العنكبوت‪ ،]95 :‬قال‪ :‬نزلت يف قوم من أهل اإلميان‪،‬‬
‫كانوا مبكة فخرجوا مهاجرين‪ ،‬فأدركوا وأخذوا‪ ،‬فأعطوا املشركني ملا ناهلم أذاهم ما‬
‫أرادوا منهم‪ ،‬ذكر اْلرب بذلك‪.‬‬
‫مث ذكر بسنده عن عكرمة‪ ،‬عن ابن عباس قال‪ :‬كان قوم من أهل مكة‬
‫أسلموا‪ ،‬وكانوا يستفتحون بإسالمهم‪ ،‬فأخرجهم املشركون يوم بدر معهم‪،‬‬
‫فأصيب بعضهم‪ ،‬فقال املسلمون‪ :‬كان أصحاب هؤالء مسلمني وأكرهوا‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ين تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئ َكة ظَالمي أَنْـفسه ْم قَالواْ ف َ‬
‫يم‬ ‫فاستغفروا هلم‪ ،‬فنزلت‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫كنت ْم‪﴾...‬‬

‫‪-654-‬‬
‫[النساء‪ .]14 :‬قال‪ :‬فكتبوا إىل من بقي من املسلمني مبكة هبذه اآلية‪ :‬أن‬
‫ال عذر هلم‪ ،‬فخرجوا‪ ،‬فلحقم املشركون فأعطوهم الفتنة‪ ،‬فنزلت هذه اآلية‪:‬‬
‫َّاس َمن يَـقول َآمنَّا بِاللَّ ِه‪ ﴾...‬إىل آخر اآلية [العنكبوت‪ ،]95 :‬فكتب‬ ‫﴿ َوِم َن الن ِ‬
‫املسلمون إليهم بذلك‪ ،‬فخرجوا وأيسوا من كل خري‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫مث نزلت فيهم‪﴿ :‬مثَّ إِ َّن ربَّ ِ ِ‬
‫اهدواْ‬ ‫اجرواْ من بَـ ْعد َما فتنواْ مثَّ َج َ‬ ‫ين َه َ‬ ‫ك للَّذ َ‬‫َ َ‬
‫ك ِمن بَـ ْع ِد َها لَغَفور َّرِحيم﴾ [النحل‪ ،]995 :‬فكتبوا إليهم‬ ‫صبَـرواْ إِ َّن َربَّ َ‬
‫َو َ‬
‫خمرجا‪ ،‬فخرجوا فأدركهم املشركون‪ ،‬فقاتلوهم حىت‬ ‫بذلك‪ :‬أن اهلل قد جعل لكم ً‬
‫جنا من جنا‪ ،‬وقتل من قتل‪.‬‬
‫فانظر قول املسلمني‪ :‬كان أصحاب هؤالء مسلمني وأكرهوا‪ ،‬فاسغفروا هلم‪،‬‬
‫ين تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئِ َكة‪ ﴾...‬اآلية [النساء‪ ،]14 :‬وظاهرها أهنم‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫فنزلت‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫مسلما‪،‬‬
‫هنوا عن االستغفار الدعاء‪ ،‬ملن قد مات مع سواد املشركني‪ ،‬ولو كان ً‬
‫فما أعز من يتفطن هلذه املسألة‪ ،‬بل ما أعز من يعتقدها دينًا‪....‬‬
‫(وجوب تولي المؤمنين‪ ،‬والبراءة من المشركين)‬
‫ذين َك َفرواْ بَـ ْعضه ْم أ َْولِيَاء‬‫َّ‬
‫أيضا‪ ،‬يف تفسري قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وال َ‬ ‫وقال ابن كثري ً‬
‫ض َوفَ َساد َكبِري﴾ [األنفال‪.]43 :‬‬ ‫بَـ ْعض إِالَّ تَـ ْف َعلوه تَكن فِْتـنَة ِيف األ َْر ِ‬
‫وهذا هو الصنف الثالث من املؤمنني‪ ،‬وهم الذين آمنوا ول يهاجروا‪ ،‬هنى اهلل‬
‫نبيه أن جيعلهم كاملهاجرين يف املغنم وغري ذلك‪ ،‬مما يقتضي الوالية‪.‬‬
‫ذين َك َفرواْ بَـ ْعضه ْم أ َْولِيَاء بَـ ْعض إِالَّ تَـ ْف َعلوه تَكن فِْتـنَة ِيف‬ ‫َّ‬
‫مث قال‪َ ﴿ :‬وال َ‬
‫ض َوفَ َساد َكبِري﴾ [األنفال‪.]43 :‬‬ ‫األ َْر ِ‬
‫ملا ذكر تعاىل أن املؤمنني بعضهم أولياء بعض‪ ،‬قطع املواالة بينهم وبني‬
‫وحذرهم من توليهم‪ ،‬والقيام بني أظهرهم‪.‬‬ ‫الكفار‪َّ ،‬‬
‫مث ذكر بسنده عن أسامة‪ ،‬عن النيب ‪ ‬قال‪« :‬ال يتوارث أهل ملَّتني‪،‬‬

‫‪-651-‬‬
‫ذين َك َفرواْ‬ ‫َّ‬
‫مسلما‪ ،‬مث قرأ قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وال َ‬ ‫كافرا‪ ،‬وال كافر ً‬ ‫وال يرث مسلم ً‬
‫ض َوفَ َساد َكبِري﴾ [األنفال‪:‬‬ ‫بَـ ْعضه ْم أ َْولِيَاء بَـ ْعض إِالَّ تَـ ْف َعلوه تَكن فِْتـنَة ِيف األ َْر ِ‬
‫‪.»]43‬‬
‫مث ذكر عن الزهري‪ ،‬أن رسول اهلل ‪ :‬أخذ على رجل دخل يف اإلسالم‪،‬‬
‫فقال‪« :‬تقيم الصالة‪ ،‬وتؤيت الزكاة‪ ،‬وحتج البيت‪ ،‬وتصوم رمضان‪ ،‬وإنك ال ترى‬
‫نار مشرك إالَّ وأنت له حرب»‪ ،‬وهذا مرسل من هذا الوجه‪ ،‬وقد روي متصالً‬
‫من وجه آخر‪ ،‬عن رسول اهلل ‪ ‬أنه قال‪« :‬أنا بريء من كل مسلم بني ظهراي‬
‫املشركني‪ ،‬ال ترتاءا نارمها»‪.‬‬
‫مث ذكر عن مسرة بن جندب‪ ،‬أما بعد‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬من جامع‬
‫ذين َك َفرواْ بَـ ْعضه ْم أ َْولِيَاء‬ ‫َّ‬
‫املشرك وسكن معه فإنه مثله»‪ ،‬وقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وال َ‬
‫ض َوفَ َساد َكبِري﴾ [األنفال‪ ،]43 :‬أي‪ :‬إن‬ ‫بَـ ْعض إِالَّ تَـ ْف َعلوه تَكن فِْتـنَة ِيف األ َْر ِ‬
‫ل جتانبوا املشركني‪ ،‬وتوالوا املؤمنني‪ ،‬وإالَّ وقعت الفتنة يف الناس‪ ،‬وهو التباس‬
‫األمر‪ ،‬واختالط املسلم بالكافر‪ ،‬ويف ذلك ضعف للدِّين‪ ،‬وقوة للكافرين‪.‬‬
‫َّخذواْ آبَاءك ْم َوإِ ْخ َوانَك ْم أ َْولِيَاء﴾‬ ‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنواْ الَ تَـت ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ب إِلَْيكم ِّم َن اللي ِه َوَرسولِِه َوِج َهاد ِيف َسبِيلِ ِه﴾‬ ‫َح َّ‬‫[التوبة‪ ،]23 :‬إىل قوله‪﴿ :‬أ َ‬
‫[التوبة‪.]24 :‬‬
‫قال‪ :‬يقول تعاىل‪ :‬ال تتخذوا بطانة وأصدقاء‪ ،‬تفشون إليهم أسراركم‪،‬‬
‫وتؤثرون املقام معهم على اهلجرة‪.‬‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬ملا أمر النيب ‪ ‬باهلجرة إىل املدينة‪ ،‬فمنهم من نفر وبادر‪،‬‬
‫ومنهم من تعلَّق به أهله وأوالده‪ ،‬يقولون له‪ :‬ننشدك باهلل أن ال تضيعنا‪ ،‬فريق‬
‫هلم فيقيم عليهم ويد اهلجرة‪ ،‬فأنزل اهلل هذه اآلية‪ ،‬فنهوا عن القيام مع‬
‫املشركني‪ ،‬وتكثري سوادهم‪ ،‬وأخرب أن إيثار هذه األصناف الثمانية‪ ،‬على ما أمر‬
‫يت الليه بِأ َْم ِرِه َوالليه‬‫ِ‬
‫اهلل به من اهلجرة‪ ،‬معصية هلل ورسوله‪ ،‬فقال‪﴿ :‬فَـتَـَربَّصواْ َح َّىت يَأْ َ‬
‫ني﴾ [التوبة‪.]24 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫الَ يَـ ْهدي الْ َق ْوَم الْ َفاسق َ‬

‫‪-651-‬‬
‫قلت‪ :‬ظاهر هذا اْلطاب‪ ،‬ملن ثبت إسالمه‪ ،‬ول يصدر منه ما يناقضه‪ ،‬من‬
‫املواالة والنصرة‪ ،‬واإلعانة بالنفس واملال‪ ،‬والداللة على عورات املسلمني‪ ،‬وَتجيد‬
‫املشركني يف املنابر واحملافل‪ ،‬واالحنناء‪ ،‬وخضع الرأس عند رؤيتهم‪ ،‬كل هذه‬
‫(‪)1‬‬
‫األشياء‪ ،‬أعظم مما حنن فيه‪ ،‬وحيكم على من فعلها حبكم اهلل فيه» ‪.‬‬
‫وبني الشيخ سليمان بن سحمان‪ :‬وجوب اهلجرة على العبد من ديار‬ ‫َّ‬
‫املشركني‪ ،‬والبعد عنهم‪ ،‬وعدم مساكنتهم وجمامعتهم‪ ،‬مث أخذ رمحه اهلل يصف‬
‫دارا من‬
‫أحواالً لكثري من مشركي زمانه‪ ،‬مث جزم بأن هذه األوصاف مىت علت ً‬
‫الديار‪ ،‬تكون دار شرك حيرم السفر إليها‪ ،‬ومساكنة أهلها وجمامعتهم‪ ،‬مث أعقب‬
‫ذلك بذكر شبهة يف هذا الشأن لبعض املنتسبني لطلب العلم‪ ،‬مث استعرض‬
‫الردود عليها‪ ،‬فقال رمحه اهلل‪:‬‬
‫«وقد نقل إلينا عن بعض من ينتسب إىل طلب العلم‪ :‬أن يبيح السفر‬
‫مطلقا إىل من هذا دينه‪ ،‬وهذه حنلته‪ ،‬وهذه حال بلده‪ ،‬مستدالً بسفر أيب بكر‬ ‫ً‬
‫‪ ‬إىل بصرى يف عهد النيب ‪ ،‬وأن النيب ‪ ‬ل ينكر عليه سفره‪ ،‬وأن أبا بكر ‪‬‬
‫ل يكن يظهر دينه‪ ،‬وليس هذا اجلهل بغريب ممن ل يعرف كفر هؤالء‪ ،‬وأن أبا‬
‫جهل وأشياعه ما وصل كفرهم إىل ساحل هذا الكفر العظيم‪ ،‬وال عرف أن‬
‫بالدهم بالد كفر واحلالة هذه‪.‬‬
‫ولكن الذي يعلم به من نصح نفسه‪ ،‬وأراد جناهتا‪ :‬أن االستدالل جلواز سفر‬
‫عوام الناس‪ ،‬الذين ال يعرفون ما أوجب اهلل عليهم‪ ،‬من معاداة املشركني‪،‬‬
‫ومباداهتم بالعداوة والبغضاء‪ ،‬والتصريح هلم بالرباءة منهم‪ ،‬ومما يعبدون‪ ،‬بسفر أيب‬
‫بكر ‪ ،‬من دسائس الشيطان‪ ،‬فإن من املعلوم عند اْلاص‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)219 – 244/1( :‬‬

‫‪-695-‬‬
‫والعام‪ ،‬وال ينكره إالَّ مكابر مبخوس احلظ‪ :‬أن الصحابة يظهرون دينهم‪،‬‬
‫وقد بايعوا رسول اهلل ‪ ‬على أن ال تأخذهم يف اهلل لومة الئم‪ ،‬وإنكارهم ‪‬‬
‫منكرا معروف مشهور‪....‬‬‫وأرضاهم باللسان‪ ،‬على من أحدث حدثًا أو فعل ً‬
‫(قيد مهم في الفرق بين السفر إلى ديار المشركين األصليين‪ ،‬وديار‬
‫المشركين المرتدين)‬
‫ومن املعلوم‪ :‬أن النصارى واجملوس يعلمون أن العرب على غري دينهم‪ ،‬حىت‬
‫يف اجلاهلية‪ ،‬والعرب يعلمون أن هؤالء على غري دين‪ ،‬فالكل منهم متميز عن‬
‫خصوصا بعد البعثة‪ ،‬فإنه من املعلوم‪ :‬أن أهل اإلسالم يكفِّروهنم‪،‬‬
‫ً‬ ‫اآلخر بدينه‪،‬‬
‫ال يشك يف ذلك أهل الكتاب وال غريهم‪ ،‬خبالف عباد القبور اليوم وأشياعهم‪.‬‬
‫فإهنم ينتسبون إىل اإلسالم‪ ،‬ويتلفَّظون بالشهادتني‪ ،‬وغالبهم يصلي ويصوم‬
‫وحيج‪ ،‬ومن ال يفعل ذلك قد يعظم من يفعل ذلك ويرى فضله‪ ،‬ومع هذا كله‪،‬‬
‫فحاهلم كما تقدم قريبًا‪ ،‬من صرفهم خال حق اهلل ملعبوداهتم‪ ،‬ولو علموا ممن‬
‫يسافر إىل ديارهم‪ ،‬أهنم على غري دينهم‪ ،‬وأهنم يكفِّروهنم‪ ،‬ألوقعوا هبم الفتنة‪،‬‬
‫وآلذوهم‪ ،‬فقياس هؤالء الكفرة على أولئك‪ ،‬من القياس الباطل املردود‪ ،‬مع أن‬
‫السفر إىل ديار هؤالء وهؤالء ممنو ‪ ،‬لكن أهل الكتاب واجملوس‪ ،‬يعلمون أهنم‬
‫على غري دينهم‪ ،‬خبالف عباد القبور‪ ،‬فإهنم يظنون أن من سافر إىل بالدهم‬
‫على دينهم‪.‬‬
‫إذا تبني هذا‪ ،‬وعلمته‪ ،‬فسفر أيب بكر ‪ ،‬كان مع إظهار دينه‪ ،‬ومن أظهر‬
‫(‪)1‬‬
‫دينه كما ينبغي‪ ،‬فال مانع من سفره إن أمن على نفسه ودينه» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)449 – 454/1( :‬‬

‫‪-699-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫أحكام وأحوال المقيم بين أظهر المشركين‬
‫قال الشيخ أبو بطين في جواب سؤال ورد عليه‪:‬‬
‫«وما ذكرت من حال من يكون بني ظهراي املشركني‪ ،‬فإن كان يقدر على‬
‫إظهار التوحيد‪ ،‬حبيث يظهر هلم القول‪ ،‬بأن هذه األمور الشركية‪ ،‬اليت تفعل عند‬
‫القبور وغريها‪ ،‬باطل وضاللة‪ ،‬وأنا بريء منه وممن يفعله‪ ،‬فمثل هذا ال جتب عليه‬
‫اهلجرة‪ ،‬وإن كان ال يقدر على إظهار ذلك‪ ،‬مع اعتقاد بطالنه‪ ،‬وأنه الشرك‬
‫(‪)1‬‬
‫العظيم‪ ،‬فهذا ترك واجبًا عليه‪ ،‬وال يكفر بذلك» ‪.‬‬
‫وسئل الشيخان حسني وعبد اهلل ابنا الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحهم‬
‫مجيعا عن‪ :‬رجل دخل الدِّين وأحبه وحيب من دخل فيه‪ ،‬ويبغض الشرك‬ ‫اهلل ً‬
‫يصرحون بعداوة أهل اإلسالم‪ ،‬ويقاتلون أهله‪ ،‬ويعتذر‬
‫وأهله‪ ،‬ولكن أهل بلده ِّ‬
‫كافرا؟ وهل‬
‫مسلما أو ً‬
‫أن ترك الوطن يشق عليه‪ ،‬ول يهاجر عنهم‪ ،‬فهل يكون ً‬
‫يعذر بعدم اهلجرة؟‬
‫الجواب‪ :‬أما الرجل الذي عرف التوحيد وآمن به‪ ،‬وأحبه وأحب أهله‪،‬‬
‫وعرف الشرك وأبغضه‪ ،‬وأبغض أهله‪ ،‬ولكن أهل بلده على الكفر والشرك‪ ،‬ول‬
‫يهاجر‪ ،‬فهذا فيه تفصيل‪:‬‬
‫فإن كان يقدر على إظهار دينه عندهم‪ ،‬ويتربأ مما هم عليه من الكفر‬
‫والشرك‪ ،‬ويظهر هلم كفرهم وعدواهتم‪ ،‬وال يفتنونه عن دينه‪ ،‬ألجل عشريته أو‬
‫ماله‪ ،‬أو غري ذلك‪ ،‬فهذا ال حيكم بكفره‪ ،‬ولكنه إذا قدر على اهلجرة ول يهاجر‪،‬‬
‫ومات بني أظهر املشركني‪ ،‬فيخاف عليه أن يكون قـد دخل يف أهل‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)216/1( :‬‬

‫‪-692-‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫يم كنت ْم‬ ‫ين تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئ َكة ظَالمي أَنْـفسه ْم قَالواْ ف َ‬ ‫هذه اآلية‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫اجرواْ فِ َيها‬‫ض قَالْواْ أَ َل تَكن أَرض اللي ِه و ِاسع ًة فَـتـه ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ني ِيف األ َْر ِ َ ْ ْ ْ‬
‫قَالواْ كنَّا مست ِ‬
‫ض َعف َ‬
‫َْ ْ‬
‫ص ًري ا﴾ [النساء‪.]14 :‬‬ ‫اءت م ِ‬
‫ك َمأَْواه ْم َج َهنَّم َو َس ْ َ‬ ‫فَأ ْولَـئِ َ‬
‫قل أن يوجد‬ ‫فلم يعذر اهلل إالَّ من ال يستطع حيلة وال يهتدي سبيالً‪ ،‬ولكن َّ‬
‫اليوم من هو كذلك‪ ،‬إالَّ أن يشاء اهلل‪ ،‬بل الغالب‪ :‬أن املشركني ال يدعونه بني‬
‫أظهرهم‪ ،‬بل إما قتلوه‪ ،‬وإما أخرجوه إن وجدوا إىل ذلك سبيالً‪.‬‬
‫وأما إن ل يكن له عذر‪ ،‬وجلس بني أظهرهم‪ ،‬وأظهر هلم أنه منهم‪ ،‬وأن‬
‫دينهم حق‪ ،‬ودين اإلسالم باطل‪ ،‬فهذا كافر مرتد‪ ،‬ولو عرف الدين بقلبه‪ ،‬ألنه‬
‫مينعه عن اهلجرة حمبة الدنيا على اآلخرة‪ ،‬ويتكلَّم بكالم الكفر من غري إكراه‪،‬‬
‫فدخل يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬من َك َفَر بِاللي ِه ِمن بَـ ْع ِد إميَانِِه إِالَّ َم ْن أ ْك ِرَه َوقَـْلبه مطْ َمئِن‬
‫ضب ِّم َن اللي ِه َوَهل ْم َع َذاب َع ِظيم‬ ‫ِ ِ‬
‫بِا ِإلميَان َولَـكن َّمن َشَر َح بِالْك ْف ِر َ‬
‫ص ْد ًرا فَـ َعلَْي ِه ْم َغ َ‬
‫َن الليهَ الَ يَـ ْه ِدي الْ َق ْوَم‬ ‫احليا َة الْ ُّدنْـيا علَى ِ‬
‫اآلخَرةِ َوأ َّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬‫َ‬‫استَ َحبُّواْ ْ‬‫ك بِأَنـَّهم ْ‬
‫ِ‬
‫* َذل َ‬
‫(‪)1‬‬ ‫ِ‬
‫ين﴾ [النحل‪. »]954 ،955 :‬‬ ‫الْ َكاف ِر َ‬
‫وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف‪:‬‬
‫«ما يقال يف اهلجرة من بني ظهراي املشركني من البادية واحلاضرة‪ ،‬وفضلها‪،‬‬
‫وما الواجب منها‪ ،‬وما املستحب‪ ،‬وهل بني بادية جند وغريهم كعنزة والظفري‪،‬‬
‫ومن واالهم من بادية الشمال ومن جنوب إىل ما ال خيفى على املسؤول‪.‬‬
‫الجواب‪ :‬اهلجرة من واجبات الدين ومن أفضل األعمال الصاحلة‪ ،‬وهي‬
‫سبب لسالمة دين العبد وحفظ إلميانه وهي أقسام‪:‬‬
‫حرمها اهلل يف كتابه وحرمها رسوله ‪ ‬على مجيع‬ ‫احملرمات اليت َّ‬ ‫األول‪ :‬هجر َّ‬
‫حرمه اهلل عليه‪ .‬وقد‬ ‫املكلَّفني‪ ،‬وأخرب أن من هجرها فقد هجر ما َّ‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)949 ،945/95( :‬‬

‫‪-693-‬‬
‫أخرب ‪ ‬فيما صح عنه‪« :‬املهاجر من هجر ما هنى اهلل عنه»‪ ،‬وهذا أمر‬
‫جممل شامل جلميع احملرمات القولية والفعلية‪.‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬اهلجرة من كل بلد تظهر فيها شعائر الشرك وأعالم الكفر‬
‫باحملرمات‪ ،‬واملقيم فيها ال يقدر على إظهار دينه والتصريح بالرباءة‬ ‫ويعلن فيها َّ‬
‫من املشركني وعداوهتم‪ ،‬ومع هذا يعتقد‪ :‬كفرهم وبطالن ما هم عليه‪ ،‬لكن إمنا‬
‫حمرما وداخل يف‬ ‫شحا باملال والوطن فهذا عاص ومرتكب ً‬ ‫جلس بني ظهرانيهم ً‬
‫ين تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئِ َكة ظَالِ ِمي أَنْـف ِس ِه ْم قَالواْ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫حكم الوعيد‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫ض قَالْ َواْ أَ َلْ تَك ْن أ َْرض اللي ِه َو ِاس َعةً‬
‫ني ِيف األ َْر ِ‬ ‫فِيم كنتم قَالواْ كنَّا مست ِ‬
‫ض َعف َ‬‫َْ ْ‬ ‫َ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اءت َمص ًري ا﴾ [النساء‪ .]14 :‬إىل‬ ‫ك َمأَْواه ْم َج َهنَّم َو َس ْ‬
‫فَـتـ َهاجرواْ ف َيها فَأ ْولَـئ َ‬
‫ك َع َسى الليه أَن يَـ ْعف َو َعْنـه ْم َوَكا َن الليه َعف ًّوا َغف ًورا﴾ [النساء‪:‬‬ ‫قوله‪﴿ :‬فَأ ْولَـئِ َ‬
‫‪.]11‬‬
‫فلم يعذر اهلل إالَّ املستعضف الذي ال يقدر على التخل من أيدي‬
‫املشركني‪ ،‬ولو قدر ما عرف سلوك الطريق وهدايته إىل غري ذلك من األعذار‪.‬‬
‫وقال ‪« :‬من جامع املشرك أو سكن معه فإنه مثله» فال يقال إنه مبجرد‬
‫كافرا‪ ،‬بل املراد أنه من عجز عن اْلروج من بني ظهراي‬ ‫اجملامعة واملساكنة يكون ً‬
‫كرها فحكمه حكمهم يف القتل وأخذ املال ال يف‬ ‫املشركني وأخرجوه معهم ً‬
‫اختيارا وأعاهنم ببدنه وماله‬ ‫طوعا و ً‬ ‫الكفر‪ .‬وأما إن خرج معهم لقتال املسلمني ً‬
‫فال شك أن حكمه حكمهم يف الكفر‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬اهلجرة من بني ظهراي األعراب املتظاهرين بالكفر‬ ‫ومن اهلجرة الواجبة ً‬
‫احملرمات وهو عاجز عن إظهار دينه وال قدرة له على‬ ‫والشرك وارتكاب بعض َّ‬
‫اإلنكار عليهم‪ ،‬فهذا هجرته فرض إذا قدر عليها‪ ،‬فإن تركها مع قدرته‬
‫(‪)1‬‬
‫واستطاعته فحكمه حكم من هو يف بلدان املشركني املتقدم ذكرهم» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪.)936 ،934/2( :‬‬

‫‪-694-‬‬
‫الفصل السابع‬
‫أحكام القتال ومشروعية الجهاد‬

‫وفيه مخسة مباحث‪:‬‬


‫المبحث األول‪ :‬القتال يف اإلسالم منوط باإلصرار على فعل الشرك‪ ،‬وال‬
‫ترتفع السيوف اجملردة عليه‪ ،‬حىت تتم الرباءة منه إىل توحيد اهلل‬
‫اْلال ‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬جمرد االعتصام باإلسالم مع عدم االلتزام بشرائعه‪ ،‬ليس‬
‫مبسقط للقتال‪ ،‬بل ويقاتل أهله قتال كفر وردة‪ ،‬حىت يكون‬
‫الدين كله هلل‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬بعض األسباب املوجبة لقتال أهلها‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬املراد من إنكار النيب ‪ ‬على أحد أصحابه لقتله مشرًكا‬
‫بعد ما تلفظ بالشهادتني‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬اجلهاد ال يسقط حبال عن األمة‪ ،‬والقيام به شرط يف‬
‫صحة اإلمامة‪.‬‬

‫‪-696-‬‬
-695-
‫المبحث األول‬
‫القتال في اإلسالم منوط باإلصرار على فعل الشرك‬
‫ول ترتفع السيوف المجردة عليه‪ ،‬حتى تتم البراءة منه‬
‫إلى توحيد اهلل الخالص‬

‫إن عبادة اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬والكفر مبا يعبد من دونه‪ ،‬مها معى‬
‫جردت السيوف‪ ،‬وشر‬ ‫ومدلول (ال إله إالَّ اهلل)‪ ،‬هذه الكلمة اليت من أجلها‪ِّ :‬‬
‫اجلهاد‪ ،‬واهلجرة من البالد‪ ،‬وامتاز الطيب من خبيث العباد‪ ،‬وهبا حقنت الدماء‬
‫وعصمت األموال‪ ،‬وجعلت مفرق الطريق الوحيد بني املسلمني واملشركني يف‬
‫الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ولقد أمجع العلماء على أن عصمة دماء وأمول اْلالئق متوقفة على‪ :‬اإلتيان‬
‫بالتوحيد‪ ،‬والتزام أحكامه‪ ،‬مع االخنال من الشرك‪ ،‬فمىت أىب قوم عن التزام‬
‫إمجاعا‪.‬‬
‫الشرائع‪ ،‬أو بعض منها‪ ،‬فالقتال باق على حاله ً‬
‫جمرد اإلقرار بالشهادتني‪ ،‬ال يعصم أصحابه على الدوام‪ ،‬إالَّ‬
‫وهبذا نعلم‪ :‬أن َّ‬
‫مع القيام حبقوقهما‪.‬‬
‫ومن أجل هذا قامت احلروب والفنت بني اإلمام اجملدِّد وأحفاده مع‬
‫خصومهم من أجل التوحيد‪ ،‬وفيه كانت اْلصومة‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬
‫إن مدلول شهادة أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬هو االلتزام بعبادة اهلل وحده ال شريك‬
‫له‪ ،‬والكفر مبا يعبد من دون اهلل‪ ،‬وهذا هو أصل الدين وقاعدته‪ ،‬وهلذا كانت‬
‫هذه الكلمة‪ ،‬كلمة اإلسالم‪ ،‬ومفتاح دار السالم‪ ،‬والفارق بني الكافر واملؤمن‬
‫من األنام‪ ،‬وهلا جردت السيوف‪ ،‬وشر اجلهاد وامتاز اْلبيث من طـيب‬

‫‪-694-‬‬
‫(‪)1‬‬
‫العباد‪ ،‬وهبا حقنت الدماء‪ ،‬وعصمت األموال» ‪.‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن حسن رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫إن اهلل أمر بقتال املشركني‪ ،‬حىت يتوبوا من الشرك‪ ،‬وخيلصوا أعماهلم هلل‬
‫تعاىل ويقيموا الصالة‪ ،‬ويؤتوا الزكاة‪ ،‬فإن أبوا عن ذلك أو بعضه‪ ،‬قوتلوا‬
‫(‪)2‬‬
‫إمجاعا ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ً‬
‫وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل يف شرحه على كتاب التوحيد‪:‬‬
‫قوله‪« :‬من قال ال إله إالَّ اهلل وكفر مبا يعبد من دون اهلل»‪ ،‬اعلم أن النيب ‪‬‬
‫يف هذا احلديث علق عصمة املال والدم بأمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬قول ال إله إالَّ اهلل‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الكفر مبا يعبد من دون اهلل‪.‬‬
‫فلم يكتف باللفظ عن املعى‪ ،‬بل ال بد من قوهلا والعمل هبا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وقد أمجع العلماء على معى ذلك‪ ،‬فال بد يف العصمة من اإلتيان‬
‫بالتوحيد‪ ،‬والتزام أحكامه‪ ،‬وترك الشرك كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ‬
‫صري﴾‬ ‫تَكو َن فِْتـنَة ويكو َن الدِّين كلُّه لِليه فَِإ ِن انتَـهواْ فَِإ َّن الليه ِمبَا يـعملو َن ب ِ‬
‫َ َْ َ َ‬ ‫َْ‬ ‫ََ‬
‫[األنفال‪ ،]31 :‬والفتنة هنا‪ :‬الشرك‪ ،‬فدل على أنه إذا وجد الشرك فالقتال باق‬
‫ني َكآفَّةً َك َما يـ َقاتِلونَك ْم َكآفَّةً﴾ [التوبة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حبال‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَاتلواْ الْم ْش ِرك َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني َحْيث‬ ‫احلرم فَاقْـتـلواْ الْم ْش ِرك َ‬ ‫انسلَ َخ األَ ْشهر ْ‬ ‫‪ ،]35‬وقال تعاىل‪﴿ :‬فَإ َذا َ‬
‫صد فَِإن تَابواْ َوأَقَامواْ َّ‬
‫الصالَةَ‬ ‫احصروه ْم َواقْـعدواْ َهل ْم ك َّل َم ْر َ‬ ‫َو َج ُّ‬
‫دَتوه ْم َوخذوه ْم َو ْ‬
‫الزَكا َة فَ َخلُّواْ َسبِيلَه ْم إِ َّن الليهَ َغفور َّرِحيم﴾ [التوبة‪.]6 :‬‬‫َوآتَـواْ َّ‬
‫فأمر بقتاهلم على فعل التوحيد‪ ،‬وترك الشرك‪ ،‬وإقامة شعائر الدين الظاهرة‪،‬‬
‫فإذا فعلوها خلي سبيلهم‪ ،‬ومىت أبوا عن فعلها أو فعل شيء منـها‪،‬‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪ ،)431/4( :‬بتصرف يسري‪.‬‬


‫(‪« )2‬فتح اجمليد‪( :‬ص‪ ،)992‬بتصرف بسيط‪.‬‬

‫‪-691-‬‬
‫إمجاعا‪ ،‬ولو قالوا‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪....‬‬
‫فالقتال باق حباله ً‬
‫أيضا عن عبد اهلل بن عمر قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪:‬‬ ‫ويف «الصحيحني» ً‬
‫«أمرت أن أقاتل الناس حىت يشهدوا أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وأن ً‬
‫حممدا رسول اهلل‪،‬‬
‫ويقيموا الصالة‪ ،‬ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوه عصموا من دماءهم وأمواهلم إالَّ حبقها‬
‫وحساهبم على اهلل»‪.‬‬
‫فهذا احلديث كآية براءة َّبني فيه ما يقاتل عليه الناس ابتداء‪ ،‬فإذا فعلوه‪،‬‬
‫وجب الكف عنهم إالَّ حبقه‪ ،‬فإن فعلوا بعد ذلك ما يناقض هذا اإلقرار‬
‫والدخول يف اإلسالم‪ ،‬وجب القتال حىت يكون الدين كله هلل‪ ،‬بل وأقروا‬
‫حتري‬
‫باألركان اْلمسة وفعلوها‪ ،‬وأبوا عن فعل الوضوء للصالة وحنوه‪ ،‬أو عن ِّ‬
‫إمجاعا‪ ،‬ول‬
‫حمرمات اإلسالم كالربا أو الزنا أو حنو ذلك‪ ،‬وجب قتاهلم ً‬ ‫بعض َّ‬
‫تعصمهم ال إله إالَّ اهلل وال ما فعلوه من األركان‪ ،‬وهذا من أعظم ما يبني معى ال‬
‫إله إالَّ اهلل‪ ،‬وأنه ليس املراد منها جمرد النطق‪ ،‬فإذا كانت ال تعصم من استباح‬
‫حمرًما‪ ،‬أو أىب عن فعل الوضوء مثالً بل يقاتل على ذلك حىت يفعله‪ ،‬فكيف‬ ‫َّ‬
‫تعصم من دان بالشرك وفعله وأحبه ومدحه‪ ،‬وأثن على أهله‪ ،‬وواىل عليه‪،‬‬
‫وعادى عليه‪ ،‬وأبغض التوحيد الذي هو إخالص العبادة هلل‪ ،‬وتربأ منه‪ ،‬وحارب‬
‫أهله‪ ،‬وكفرهم‪ ،‬وصد عن سبيل اهلل كما هو شأن عباد القبور‪.‬‬
‫وقد أمجع العلماء على أن من قال‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وهو مشرك أنه يقاتل‬
‫(‪)1‬‬
‫حىت يأيت بالتوحيد» ‪.‬‬

‫وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمهم اهلل تعالى‪:‬‬

‫«وقد قال علماؤنا رمحهم اهلل تعاىل‪ :‬إذا قال الكافر‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬فقد‬

‫(‪« )1‬تيسري العزيز احلميد»‪.)959 – 11( :‬‬

‫‪-691-‬‬
‫شر يف العاصم لدمه‪ ،‬فيجب الكف عنه‪ ،‬فإن َتَّم ذلك حتقَّقت العصمة‬
‫وإالَّ بطلت‪ ،‬ويكون النيب ‪ ‬قد قال كل حديث يف وقت‪ ،‬فقال‪« :‬أمرت أن‬
‫أقاتل الناس‪ ،‬حىت يقولوا ال إله إالَّ اهلل»‪ ،‬وليعلم املسلمون‪ :‬أن الكافر احملارب‪،‬‬
‫معصوما‪.‬‬
‫ً‬ ‫إذا قاهلا كف عنه‪ ،‬وصار دمه وماله‬
‫مث بني ‪ ‬يف احلديث اآلخر‪ :‬أن القتال ممدود إىل الشهادتني والعبادتني‪،‬‬
‫فقال‪« :‬أمرت أن أقاتل الناس‪ ،‬حىت يشهدوا أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وأن ً‬
‫حممدا رسول‬
‫اهلل‪ ،‬ويقيموا الصالة‪ ،‬ويؤتوا الزكاة»‪ ،‬فبني‪ :‬أن َتام العصمة وكماهلا إمنا حيصل‬
‫بذلك‪ ،‬ولئال تقع الشبهة‪ :‬بأن جمرد اإلقرار يعصم على الدوام‪ ،‬كما وقعت‬
‫(‪)1‬‬
‫لبعض الصحابة‪ ،‬حىت جالها أبو بكر الصديق‪ ،‬مث وافقوه ‪. »‬‬
‫وقال الشيخ عبد الرمحن بن حسن يف جواب على سؤال ورد عليه من ابنه‬
‫مجيعا‪:‬‬
‫عبد اللطيف رمحهم اهلل ً‬
‫«اعلم وفقك اهلل أن أهل جند كانوا قبل ظهور هذه الدعوة اإلسالمية فيهم‬
‫بأَسوأ حال‪.‬‬
‫أما األعراب فال يلتفت أحد منهم لشريعة اإلسالم‪ ،‬ال يف العبادات‪ ،‬وال يف‬
‫غريها من األحكام يف الدماء‪ ،‬وال يف األموال‪ ،‬وال يف النكاح‪ ،‬والطالق‪،‬‬
‫واملواريث‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬وكانوا يف شر عظيم فيما بينهم من احلروب كل طائفة‬
‫تقاتل األخرى‪ ،‬وتستحل دماءها وأمواهلا‪ ،‬واحلضر عندهم يف غاية الذل يأخذون‬
‫كرها‪.‬‬
‫املال منهم ً‬
‫من اهلل هبذه الدعوة‪ ،‬وقام اجلهاد أجلبوا كلهم على‬ ‫فلما َّ‬
‫َّ‬
‫حماربة من دعاهم إىل اإلسالم‪ ،‬والتزام شرائعه‪ ،‬فحصل التأييد من اهلل‬
‫ملن قام بدينه فجاهدوا األعـراب‪ ،‬وغريهم على طاعة رهبم‪ ،‬والتزام ما شرعه‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)395/95( :‬‬

‫‪-625-‬‬
‫فبقوا على جهاد األعراب‪ ،‬كلما أسلمت قبيلة جاهدوا هبا األخرى‪ ،‬فما‬
‫زالوا جياهدوهنم على أن يسلموا‪ ،‬ويصلُّوا‪ ،‬ويزكوا‪ ،‬وأكثرهم ألقى السلم ألهل‬
‫(‪)1‬‬
‫اإلسالم» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ أبو بطين رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫والشيخ حممد بن عبد الوهاب‪ ،‬قاتل من قاتله‪ ،‬ليس لكوهنم بغاة‪ ،‬وإمنا‬
‫(‪)2‬‬
‫قاتلهم على‪ :‬ترك الشرك‪ ،‬وإزالة املنكرات‪ ،‬وعلى إقامة الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة»‬
‫‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬جمموعة الرسائل واملسائل النجدية»‪.)941 ،944/3( :‬‬


‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)1/1( :‬‬

‫‪-629-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫مجرد العتصام باإلسالم مع عدم اللتزام بشرائعه‬
‫ليس بمسقط للقتال‪ ،‬بل ويقاتل أهله قتال كفر وردة‬
‫حتى يكون الدين كله هلل‬

‫إن اهلل سبحانه‪ ،‬اشرتى من املؤمنني‪ :‬أمواهلم وأنفسهم‪ ،‬وأمرهم ببذهلما يف‬
‫سبيله‪ ،‬حىت يكون الدين كله هلل‪ ،‬وتلك بيقني هي علة مشروعية القتال يف‬
‫اإلسالم‪ ،‬وعليه‪ :‬فإذا كان بعض الدين هلل‪ ،‬وبعضه لغري اهلل‪ ،‬وجب القتال‬
‫إمجاعا‪ ،‬حىت يكون الدين كله هلل‪ ،‬ومن مث كان‪ :‬كل طائفة ممتنعة عن التزام‬ ‫ً‬
‫شريعة من شرائع اإلسالم‪ ،‬الظاهرة املتواترة‪ ،‬فإهنا تقاتل عليها‪ ،‬وإن كانت مقرة‬
‫هبا‪ ،‬وناطقة بالشهادتني‪ ،‬وملتزمة لبقية الشرائع‪ ،‬بغري خالف بني العلماء‪.‬‬
‫وتقاتل على ذلك‪ :‬قتال كفر وردة‪ ،‬تغنم أمواهلا‪ ،‬وتسىب ذراريها‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم اهلل تعالى‪:‬‬
‫«قال الشيخ تقي الدين رمحه اهلل تعاىل ‪ -‬ملا سئل عن قتل التتار مع‬
‫التمسك بالشهادتني‪ ،‬وملا زعموا من اتبا أصل اإلسالم ‪ -‬فقال‪ :‬كل طائفة‬
‫ممتنعة عن التزام شرائع اإلسالم الظاهرة املتواترة من هؤالء القوم أو غريهم‪ ،‬فإنه‬
‫جيب قتاهلم حىت يلتزموا شرائعه‪ ،‬وإن كانوا مع ذلك ناطقني بالشهادتني‪،‬‬
‫وملتزمني ببعض شرائعه‪ ،‬كما قاتل أبو بكر والصحابة ‪ ‬مانعي الزكاة‪.‬‬
‫وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم‪ ،‬مع سابقة مناظرة عمر أليب بكر رضي اهلل‬
‫عنهما‪ ،‬فاتفق الصحابة على القتال على حقوق اإلسالم عمالً بالكتاب والسنة‪.‬‬
‫وكذلك ثبت عن النيب ‪ ‬من عشرة أوجه احلديث عن اْلوارج‬
‫واألمـر بقتاهلم‪ ،‬وأخرب أهنم شر اْللق واْلليقة‪ ،‬مع قوله‪« :‬حتقرون صالتكم‬

‫‪-622-‬‬
‫مع صالهتم وصيامكم مع صيامهم»‪ ،‬فعلم‪ :‬أن جمرد االعتصام باإلسالم‬
‫مع عدم التزام شرائعه‪ ،‬ليس مبسقط للقتال‪ ،‬فالقتال واجب حىت يكون الدين‬
‫كله هلل‪ ،‬وحىت ال تكون فتنة‪ ،‬فمىت كان الدين لغري اهلل فالقتال واجب‪.‬‬
‫فأميا طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات املفروضات‪ ،‬أو الصيام‪ ،‬أو‬
‫احلج‪ ،‬أو عن التزام حترمي الدماء‪ ،‬واألموال‪ ،‬أو اْلمر‪ ،‬أو الزنا‪ ،‬أو امليسر‪ ،‬أو‬
‫نكاح احملارم‪ ،‬أو عن التزام جهاد الكفر‪ ،‬أو ضرب اجلزية على أهل الكتاب‪ ،‬أو‬
‫غري ذلك من التزام واجبات الدين‪ ،‬أو حمرماته الىت ال عذر ألحد يف جحودها‪،‬‬
‫أو تركها‪ ،‬واليت يكفر الواحد جبحودها‪ ،‬فإن الطائفة املمتنعة تقاتل عليها وإن‬
‫كانت مقرة هبا‪ ،‬وهذا مما ال أعلم فيه خالفًا بني العلماء‪ ،‬وإمنا اختلف العلماء‬
‫أصرت على ترك بعض السنن كركعيت الفجر أو األذان‬ ‫يف الطائفة املمتنعة‪ ،‬إذا َّ‬
‫أو اإلقامة عند من ال يقول بوجوهبا‪ ،‬وحنو ذلك من الشعائر‪ ،‬فهل تقاتل الطائفة‬
‫املمتنعة على تركها أم ال؟‬
‫فأما الواجبات أو احملرمات املذكورة وحنوها فال خالف يف القتال عليها‪،‬‬
‫وهؤالء عند احملققني من العلماء ليسوا مبنزلة البغاة اْلارجني على اإلمام‪ ،‬أو‬
‫اْلارجني عن طاعته‪ ،‬كأهل الشام مع أمري املؤمنني على بن أىب طالب ‪ ،‬فإن‬
‫أولئك خارجون عن طاعة إمام معني‪ ،‬أو خارجون عليه إلزالة واليته‪ ،‬وأما‬
‫املذكورون فهم خارجون عن اإلسالم‪ ،‬مبنزلة مانعي الزكاة‪ ،‬ومبنزلة اْلوارج الذين‬
‫قاتلهم علي بن أيب طالب ‪ ،‬وهلذا افرتقت سريته ‪ ‬يف قتاله أهل البصرة وأهل‬
‫الشام‪ ،‬ويف قتاله ألهل النهروان‪ ،‬فكانت سريته مع البصريني والشاميني سرية‬
‫األخ مع أخيه‪ ،‬ومع اْلوارج خبالف ذلك‪ ،‬وثبتت النصوص عن النيب ‪ ‬مبا‬
‫استقر عليه إمجا الصحابة من قتال الصديق ‪ ‬ملانعي الزكاة‪ ،‬وقتال علي‬
‫للخوارج‪ .‬انتهى كالمه رمحه اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪-623-‬‬
‫فتأمل رمحك اهلل تعاىل تصريح هذا اإلمام يف هذه الفتوى‪ :‬بأن من امتنع عن‬
‫شريعة من شرائع اإلسالم الظاهرة‪ ،‬كالصلوات اْلمس‪ ،‬والصيام‪ ،‬والزكاة‪ ،‬أو‬
‫احملرمات كالزنا أو حترمي الدماء واألموال‪ ،‬أو شرب اْلمر أو‬
‫احلج‪ ،‬أو ترك َّ‬
‫املسكرات‪ ،‬أو غري ذلك‪ ،‬أنه جيب قتل الطائفة املمتنعة عن ذلك حىت يكون‬
‫الدين كله هلل‪ ،‬ويلتزموا مجيع شرائع اإلسالم‪ ،‬إن كانوا مع ذلك ناطقني‬
‫بالشهادتني‪ ،‬وملتزمني ببعض شرائع اإلسالم‪ ،‬وأن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء‬
‫من سائر الطوائف‪ ،‬الصحابة فمن بعدهم‪ ،‬وأن ذلك عمل بالكتاب والسنة‪.‬‬
‫فتبني لك أن جمرد االعتصام باإلسالم‪ ،‬مع عدم التزام شرائعه ليس مبسقط‬
‫صرح به يف آخر‬
‫للقتال‪ ،‬وأهنم يقاتلون قتال كفر وخروج عن اإلسالم‪ ،‬كما َّ‬
‫الفتوى بقوله‪ :‬وهؤالء عند احملققني من العلماء ليسوا مبنزلة البغاة اْلارجني على‬
‫اإلمام‪ ،‬بل هم خارجون عن اإلسالم مبنزلة مانعي الزكاة‪ .‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫وقال الشيخ رمحه اهلل تعاىل يف آخر كالمه على كفر مانعي الزكاة‪:‬‬
‫والصحابة ل يقولوا هل أنت مقر بوجوهبا أو جاحد هلا؟‬
‫هذا ل يعهد عن الصحابة حبال‪ ،‬بل قال الصدِّيق لعمر رضي اهلل عنهما‪:‬‬
‫واهلل لو منعوي عناقًا كانوا يؤدوهنا إىل رسول اهلل ‪ ‬لقاتلتهم على منعها‪.‬‬
‫فجعل املبيح للقتال‪ :‬جمرد املنع ال جحد الوجوب‪ ،‬وقد روي أن طوائف‬
‫يقرون بالوجوب لكن خبلوا هبا‪ ،‬ومع هذا فسرية اْللفاء فيهم سرية‬
‫منهم كانوا ُّ‬
‫واحدة وهي‪ :‬قتل مقاتلتهم‪ ،‬وسيب ذراريهم‪ ،‬وغنيمة أمواهلم‪ ،‬والشهادة على‬
‫الردة‪ .‬وكان من أعظم فضائل الصدِّيق‬‫مجيعا‪ :‬أهل َّ‬
‫قتالهم بالنار‪ ،‬ومسوهم ً‬
‫عندهم أن ثبته اهلل على قتاهلم‪ ،‬ول يتوقف كما توقف غريه حىت ناظرهم فرجعوا‬
‫إىل قوله‪.‬‬

‫‪-624-‬‬
‫املقرين بنبوة مسيلمة فهؤالء ل يقع بينهم نزا يف قتاهلم‪ ،‬وهذه‬ ‫وأما قتال ِّ‬
‫حجة من قال إن قاتلوا اإلمام عليها كفروا وإالَّ فال‪ ،‬فإن كفر هؤالء وإدخاهلم‬
‫يف أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة املستند إىل نصوص الكتاب والسنة‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫خبالف من ل يقاتل اإلمام عليها» ‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد اهلل أبو بطين رحمه اهلل تعالى‪:‬‬
‫«وأما من ادعى أن من قال‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬فإنه ال جيوز قتله‪ ،‬وإن فعل أي‬
‫ذنب‪ ،‬وال قتال الطائفة املمتنعة إذا قالوا هذه الكلمة‪ ،‬فهذا قول خمالف للكتاب‬
‫كافرا بال شك‪....‬‬
‫والسنة‪ ،‬واإلمجا ‪ ،‬ولو طرد هذا القائل أصله‪ ،‬لكان ً‬
‫(األدلة على كفر وقتل‪ ،‬من فعل ما يستوجبهما أو واح ادا منهما‪ ،‬ممن‬
‫انتسب إلى أهل القبلة)‬
‫ونذكر بعض ما اطلعنا عليه‪ ،‬من كالم فقهاء املذاهب‪ ،‬قال الشيخ‬
‫فرضا أخره لبقاء ركعة بسجدهتا من الضروري‪ ،‬قتل‬ ‫األجهوري املالكي‪ :‬من ترك ً‬
‫كافرا‪،‬‬
‫حدا على املشهور‪ ،‬وقال ابن حبيب ومجاعة خارج املذهب‪ً :‬‬ ‫بالسيف ً‬
‫واختاره ابن عبد السالم‪.‬‬
‫وقال يف فضل األذان‪ ،‬قال املازري‪ :‬يف األذان معنيان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬إظهار شعائر اإلسالم‪ ،‬والتعريف بأن الدار دار إسالم‪ ،‬وهو فرض‬
‫كفاية يقاتل أهل القرية حىت يفعلوه‪ ،‬إن عجز عن قهرهم على إقامته إالَّ بقتال‪،‬‬
‫والثاني‪ :‬الدعاء إىل الصالة واإلعالم بوقتها‪.‬‬
‫وقال اآليب يف شرح مسلم‪ ،‬واملشهور‪ :‬أن األذان فرض كفاية على‬
‫أهـل املصر‪ ،‬ألنه شعار اإلسالم‪ ،‬فقد كان رسول اهلل ‪ ‬إن ل يسمع أذانًا‬

‫(‪« )1‬عقيدة املوحدين»‪ ،‬الكلمات النافعة‪.)231 – 236( :‬‬

‫‪-626-‬‬
‫أغار وإالَّ أمسك‪ ،‬وقول املصنف‪ :‬يقاتلون عليه‪ ،‬ليس القتال عليه من‬
‫خصائ القول بالوجوب‪ ،‬ألنه ن عن عياض يف قول املصنف‪ :‬والوتر غري‬
‫واجب‪ ،‬ألهنم اختلفوا يف التمايل على ترك السنن‪ ،‬هل يقاتلون عليها؟‬
‫والصحيح قتاهلم وإكراههم‪ ،‬ألن يف التمايل على تركها إماتتها‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وقال يف فضل صالة اجلماعة‪ :‬صالة اجلماعة مستحبَّة للرجل يف نفسه‪،‬‬
‫فرض كفاية يف اجلملة‪ ،‬يعن على أهل املصر‪ ،‬قال‪ :‬ولو تركوها قوتلوا‪ ،‬كما‬
‫تقدم‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وقال الشيخ أمحد بن محدان‪ ،‬األذرعي الشافعي‪ ،‬يف «كتاب قوت احملتاج‪،‬‬
‫جاحدا وجوهبا‪ ،‬كفر باإلمجا ‪ ،‬وذلك جار‬ ‫ً‬ ‫يف شرح املنهاج»‪ :‬من ترك الصالة‬
‫معلوما من الدين بالضرورة‪ ،‬فإن تركها كسالً‬ ‫جممعا عليه‪ً ،‬‬ ‫يف أي جحود كان ً‬
‫حدا على الصحيح‪ ،‬واملشهور‪...‬‬ ‫قتل ً‬
‫وقال ابن حجر اهليثمي يف «التحفة»‪ ،‬يف باب حكم تارك الصالة‪ :‬إن ترك‬
‫جاحدا وجوهبا‪ ،‬كفر باإلمجا ‪ ،‬أو تركها كسالً مع اعتقاد وجوهبا‪ ،‬قتل‬ ‫ً‬ ‫الصالة‬
‫الزَكاةَ فَ َخلُّواْ َسبِيلَه ْم﴾ [التوبة‪:‬‬ ‫كما قال تعاىل‪﴿ :‬فَِإن تَابواْ َوأَقَامواْ َّ‬
‫الصالََة َوآتَـواْ َّ‬
‫‪ ،]6‬وحديث‪« :‬أمرت أن أقاتل الناس حىت يشهدوا أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وأن‬
‫حممدا رسول اهلل» احلديث‪ ،‬فإهنما شرطا يف الكف عن القتل واملقاتلة‪ :‬اإلسالم‪،‬‬ ‫ً‬
‫وإقام الصالة وإيتاء الزكاة‪ ،‬لكن الزكاة ميكن اإلمام أخذها ولو باملقاتلة ممن‬
‫امتنعوا وقاتلوا‪ ،‬فكانت فيها على حقيقتها‪ ،‬خبالفها يف الصالة‪ ،‬فإنه ال ميكنه‬
‫(‪)1‬‬
‫فعلها باملقاتلة‪ ،‬فكانت فيها مبعى القتل» ‪ .‬اهـ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)935 – 929/92( :‬‬

‫‪-625-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫بعض األسباب الموجبة لقتال أهلها‬

‫ولقد َّبني العلماء بعض األسباب املوجبة لقتال أهلها منها‪:‬‬


‫‪ -9‬الوقو يف الشرك األكرب املناقض لإلسالم من كل وجه‪.‬‬
‫موحد مقدِّم ألحكام ربه وشريعته على ما‬ ‫‪ -2‬اْلروج على إمام مسلم ِّ‬
‫دوهنما من األحكام والشرائع‪.‬‬
‫‪ -3‬عدم تكفري املشركني‪ ،‬أو الشك يف كفرهم‪.‬‬
‫‪ -4‬مظاهرة املشركني‪ ،‬وإعانتهم على املسلمني بيد‪ ،‬أو لسان‪ ،‬أو مبال‪.‬‬
‫‪ -6‬من منع شيئًا من شعائر اإلسالم الظاهرة‪ ،‬أو امتنع عن أداء شريعة من‬
‫شرائع اإلسالم الظاهرة‪.‬‬
‫‪ -5‬إذا ظهر يف بلد أعالم الشرك‪ ،‬وأعلنت فيه احملرمات‪ ،‬وعطلت معال‬
‫الدين‪ ،‬حىت تصري بالد كفر وشرك‪.‬‬
‫قال بعض علماء جند ‪ -‬رمحهم اهلل تعاىل‪:-‬‬
‫أما بعد‪ :‬فإنه قد بلغن أن بعض الناس‪ ،‬قد أشكل عليه جهاد املسلمني‬
‫ألهل حايل‪ ،‬هل هو شرعي أم ال؟ فأقول وباهلل التوفيق‪ :‬اجلهاد مشرو ألحد‬
‫أمور‪ ،‬منها‪:‬‬
‫األمر األول‪ :‬اْلروج عن طاعة ويل أمر املسلمني‪ ،‬فمن خرج عن طاعته‪،‬‬
‫مسلما‪ ،‬كما جاهد علي بن‬ ‫وجب جهاده على مجيع األمة‪ ،‬ولو كان اْلارج ً‬
‫أيب طالب ‪ ‬اْلوارج‪ ،‬وهو يعتقد إسالمهم‪ ،‬فإنه سئل عن كفرهم‪ ،‬فقال‪ :‬من‬
‫الكفر ُّفروا‪ ،‬وقال مرة أخرى ملا سئل عنهم‪ :‬إخواننا بغوا علينا‪.‬‬
‫والدليل على هذا قوله ‪« :‬من أتاكم وأمركم مجيع على رجـل‪ ،‬يريد‬

‫‪-624-‬‬
‫أن يشق عصاكم‪ ،‬ويفرق مجاعتكم‪ ،‬فاضربوا عنقه كائنًا من كان»‪.‬‬
‫وما زال األئمة يف كل زمان ومكان‪ ،‬جياهدون من خرج عن طاعة إمام‬
‫املسلمني‪ ،‬والعلماء جياهدون معهم وحيضوهنم على ذلك‪ ،‬ويصنفون التصانيف‬
‫يف فضل ذلك‪ ،‬ويف فضل من قام فيه‪ ،‬ال يشك أحد منهم يف ذلك‪ ،‬إالَّ أن يأمر‬
‫اإلمام مبعصية اهلل‪ ،‬فال حتل طاعته ألحد‪ ،‬بل حترم طاعة خملوق يف معصية‬
‫اْلالق‪.‬‬
‫وأهل حائل‪ :‬أمرهم اإلمام بالدخول يف الطاعة‪ ،‬ولزوم السنة واجلماعة‪،‬‬
‫ومنابذة أهل الشرك‪ ،‬وعداوهتم وتكفريهم‪ ،‬فأبوا ذلك وتربءوا منه‪ ،‬واإلمام يقول‬
‫‪-‬من أول األمر إىل يومنا هذا‪ -‬هلم‪ :‬الشريعة‪ ،‬مقدمة بين وبينكم‪ ،‬منشي على‬
‫ما حكمت به‪ ،‬على العني والرأس‪ ،‬فلم يقبلوا ول ينقادوا‪ ،‬فوجب قتاهلم على‬
‫مجيع املسلمني ْلروجهم عن الطاعة‪ ،‬حىت يلتزموا ما أمرهم به اإلمام‪ ،‬من طاعة‬
‫اهلل تعاىل‪.‬‬
‫األمر الثاني‪ :‬مما يوجب اجلهاد ملن اتصف به‪ ،‬عدم تكفري املشركني‪ ،‬أو‬
‫الشك يف كفرهم‪ ،‬فإن ذلك من نواقض اإلسالم ومبطالته‪ ،‬فمن اتصف به فقد‬
‫كفر‪ ،‬وحل دمه وماله‪ ،‬ووجب قتاله حىت يكفر املشركني‪ ،‬والدليل على ذلك‬
‫قوله ‪« :‬من قال ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وكفر مبا يعبد من دون اهلل‪ ،‬حرم ماله ودمه»‪،‬‬
‫فعلَّق عصمة املال والدم بأمرين‪:‬‬
‫والثاني‪ :‬الكفر مبا يعبد من دون اهلل‪.‬‬ ‫األول‪ :‬قول ال إله إالَّ اهلل‪.‬‬
‫األول‪ :‬قوله‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬واملراد معناها ال َّ‬
‫جمرد لفظها‪ ،‬ومعناها هو توحيد‬
‫اهلل جبميع أنوا العبادة‪.‬‬
‫األمر الثاني‪ :‬الكفر مبا يعبد من دون اهلل‪ ،‬واملراد بذلك تكفري املشركني‪،‬‬
‫والرباءة منهم ومما يعبدون مع اهلل‪.‬‬
‫فمن ل يكفِّر املشركني من الدولة الرتكية‪ ،‬وعبَّاد القبور‪ ،‬كأهل مكة‬

‫‪-621-‬‬
‫وغريهم‪ ،‬ممن عبد الصاحلني‪ ،‬وعدل عن توحيد اهلل إىل الشرك‪ ،‬وبدَّل سنَّة‬
‫رسوله ‪ ‬بالبد ‪ ،‬فهو كافر مثلهم‪ ،‬وإن كان يكره دينهم‪ ،‬ويبغضهم‪ ،‬وحيب‬
‫اإلسالم واملسلمني‪ ،‬فإن الذي ال يكفِّر املشركني‪ ،‬غري مصدِّق بالقرآن‪ ،‬فإن‬
‫القرآن قد كفر املشركني‪ ،‬وأمر بتكفريهم‪ ،‬وعداوهتم وقتاهلم‪.‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬حممد بن عبد الوهاب‪ ،‬رمحه اهلل يف نواقض اإلسالم‪.‬‬
‫صحح مذهبهم‪،‬‬ ‫الثالث‪ :‬من ل يكفر املشركني‪ ،‬أو شك يف كفرهم‪ ،‬أو َّ‬
‫كفر‪.‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل‪ :‬من دعا علي بن أيب طالب‪ ،‬فقد‬
‫كفر‪ ،‬ومن شك يف كفره‪ ،‬فقد كفر‪.‬‬
‫األمر الثالث‪ :‬مما يوجب اجلهاد ملن اتصف به‪ ،‬مظاهرة املشركني وإعانتهم‬
‫على املسلمني بيد أو بلسان أو بقلب أو مبال‪ ،‬فهذا كفر خمرج من اإلسالم‪،‬‬
‫فمن أعان املشركني على املسلمني‪ ،‬وأمد املشركني من ماله مبا يستعينون به على‬
‫اختيارا منه‪ ،‬فقد كفر‪.‬‬ ‫حرب املسلمني ً‬
‫قال الشيخ حممد بن عبد الوهاب‪ ،‬يف نواقض اإلسالم‪ ،‬الثامن‪ :‬مظاهرة‬
‫ين َآمنواْ الَ‬ ‫َّ ِ‬
‫املشركني ومعاونتهم على املسلمني‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬يَا أَيُّـ َها الذ َ‬
‫َّص َارى أ َْولِيَاء بَـ ْعضه ْم أ َْولِيَاء بَـ ْعض َوَمن يَـتَـ َوَّهلم ِّمنك ْم فَِإنَّه‬
‫ود َوالن َ‬
‫ِ‬
‫تَـتَّخذواْ الْيَـه َ‬
‫ِمْنـه ْم﴾ [املائدة‪ ،]69 :‬فمن اتصف بشيء من هذه الصفات‪ ،‬مما ينقض‬
‫شيئا من شعائر اإلسالم الظاهرة‪ ،‬أو امتنع عن أداء شريعة من‬ ‫اإلسالم‪ ،‬أو منع ً‬
‫شرائع اإلسالم الظاهرة‪ ،‬فإنه جياهد حىت يقر بذلك ويلتزمه‪.‬‬
‫يتبني لك‪ ،‬أن جهاد أهل حائل‪ ،‬من أفضل اجلهاد‪ ،‬ولكن ال يرى‬ ‫وهبذا َّ‬
‫ذلك إالَّ أهل البصائر‪ ،‬وأما من ال بصرية عنده‪ ،‬فهو ال يرى اجلهاد إالَّ ألهل‬
‫(‪)1‬‬
‫األوثان خاصة‪ ،‬وأما من اقر بالشهادتني‪ ،‬فال يرى جهاده» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)212 – 211/1( :‬‬

‫‪-621-‬‬
‫وقال الشيخ محد بن عتيق‪ ،‬رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬لبعض إخوانه‪:‬‬
‫بلغن ما ساءي‪ ،‬وعسى أن يكون كذبًا‪ ،‬وهو‪ :‬أنك تنكر على من اشرتى‬
‫قهرا‪ ،‬فإن كان صدقًا فال أدري ما‬ ‫من أموال أهل األحساء‪ ،‬اليت تؤخذ منهم ً‬
‫عرض لك‪ ،‬والذي عندنا أنه ال ينكر مثل هذا‪ ،‬إالَّ من يعتقد معتقد أهل‬
‫الضالل‪ ،‬القائلني‪ :‬أن من قال ال إله إالَّ اهلل ال يكفر‪ ،‬وأن ما عليه أكثر اْللق‬
‫من فعل الشرك وتوابعه‪ ،‬والرضا بذلك‪ ،‬وعدم إنكاره‪ ،‬ال خيرج من اإلسالم‪.‬‬
‫وبذلك عارضوا الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل‪ ،‬يف أصل هذه‬
‫الدعوة‪ ،‬ومن له مشاركة فيما َّقرره احملققون‪ ،‬قد اطلع على أن البلد‪ ،‬إذا ظهر‬
‫احملرمات‪ ،‬وعطِّلت فيها معال الدين‪ ،‬أهنا تكون بالد‬ ‫فيها الشرك‪ ،‬وأعلنت فيها َّ‬
‫كفر‪ ،‬تغنم أموال أهلها‪ ،‬وتستباح دماؤهم‪ ،‬وقد زاد أهل هذه البلد‪ ،‬بإظهار‬
‫املسبَّة هلل ولدينه‪ ،‬ووضعوا قوانني ينفذوهنا يف الرعية‪ ،‬خمالفة لكتاب اهلل وسنة نبيه‬
‫(‪)1‬‬
‫‪ ،‬وقد علمت أن هذه كافية وحدها‪ ،‬يف إخراج من أتى هبا من اإلسالم» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)265/1( :‬‬

‫‪-635-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫المراد من إنكار النبي ‪ ‬على أحد أصحابه‬
‫لقتله مشراكا بعد ما تلفظ بالشهادتين‬
‫وأما حديث أسامة بن زيد رضي اهلل عنهما الذي أنكر فيه النيب ‪ :‬قتله‬
‫ملشرك بعد ما تلفظ بـ‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬فإليكم بيانه واملراد منه‪ ،‬وفق األصول‬
‫الكلية‪ ،‬واملقتضيات الشرعية‪.‬‬
‫سئل أبناء الشيخ ومحد بن ناصر‪ ،‬عن املشرك إذا قال ال إله إالَّ اهلل حال‬
‫احلرب؟‬
‫فأجابوا‪ :‬هذا حيتاج إىل تفصيل‪ ،‬فإن كان املشرك ال يتلفظ هبا يف حال‬
‫شركه وكفره‪ ،‬كحال املشركني الذين يف زمن النيب ‪ ،‬فهذا إذا قال‪ :‬ال إله إالَّ‬
‫اهلل‪ ،‬وجب الكف عنه‪ ،‬ألهنا دليل على إسالمه وإقراره‪ ،‬ألن املشركني يف زمن‬
‫النيب ‪ ‬ال يقولوهنا‪ ،‬وإذا قاهلا أحدهم كانت دالة على إسالمه‪ ،‬وهذا معى‬
‫األحاديث اليت جاءت يف الكف عمن قال ال إله إالَّ اهلل‪.‬‬
‫كحديث أيب هريرة املتَّفق عليه‪« :‬أمرت أن أقاتل الناس حىت يقولوا ال إله‬
‫إالَّ اهلل‪ ،‬فإذا قالوها عصموا من دماءهم وأمواهلم إالَّ حبقها‪ ،‬وحساهبم على اهلل‬
‫عز وجل»‪.‬‬
‫وكذلك حديث أسامة‪ ،‬ملا قتل الرجل يف احلرب بعدما قال‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪،‬‬
‫فلما ذكر ذلك لرسول اهلل ‪ ‬أنكر ذلك عليه‪ ،‬وقال‪« :‬أقتلته بعدما قال ال إله‬
‫تعوذًا‪ ،‬ويف رواية‪ :‬إمنا قاهلا خوفًا من‬ ‫إالَّ اهلل؟»‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إمنا قاهلا ُّ‬
‫السالح‪ ،‬فقال‪« :‬أفال شققت عن قلبه»‪.‬‬
‫قال العلماء‪ :‬ويف ذلك أنزل اهلل‪﴿ :‬يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنواْ إِ َذا ضربـتم ِيف سبِ ِيل الليهِ‬
‫َ َْ ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ت م ْؤمنًا‪[ ﴾...‬النساء‪ ،]14 :‬فدلَّت‬ ‫ِ‬ ‫فَـتََبـَّيـنواْ َوالَ تَـقولواْ لِ َم ْن أَلَْقى إِلَْيكم َّ‬
‫السالََم لَ ْس َ‬

‫‪-639-‬‬
‫اآلية على أنه جيب الكف عن املشرك إذا أظهر اإلسالم‪ ،‬ولو ظن أنه إمنا‬
‫قال ذلك خوفًا من السيف‪ ،‬فإن تبني بعد ذلك أنه إمنا أظهر اإلسالم تعو ًذا‪،‬‬
‫التبني هو‪ :‬التثبت والتأي‪،‬‬
‫قتل‪ ،‬وهلذا قال تعاىل‪﴿ :‬فَـتَبَـيَّـنواْ﴾ [النساء‪ ،]14 :‬و ُّ‬
‫حىت يتبني حقيقة األمر‪ ،‬وأما إذا كان املشرك يتلفظ بال إله إالَّ اهلل‪ ،‬يف حال‬
‫وردته‪ ،‬ويفعل من األفعال ما يوجب كفره وأخذ ماله‪ ،‬فهذا يقتل ويباح‬ ‫كفره َّ‬
‫دمه وماله‪ ،‬كما قال الصديق ‪ ،‬لعمر ‪ ،‬ملا ارتدت العرب بعد وفاة رسول اهلل‬
‫‪ ‬وكان فيهم طائفة يشهدون أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وأن ً‬
‫حممدا رسول اهلل‪ ،‬ويصلون‪،‬‬
‫ولكنهم منعوا الزكاة‪....‬‬
‫أحدا يشهد أن ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬أهنم‬
‫وأما قولك‪ :‬إن املسلمني إذا أمسكوا ً‬
‫يقتلونه ويأسرونه‪ ،‬فجواب هذه املسألة‪ ،‬نظري اجلواب يف اليت قبلها‪ ،‬وحنن نقول‪:‬‬
‫ال إله إالَّ اهلل قول وعمل‪ ،‬فمن قال ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ول يعلم معناها‪ ،‬ول يعمل‬
‫مبقتضاها‪ ،‬ل ينفعه ذلك‪ ،‬فإن املنافقني الذين يف الدرك األسفل يف النار‪ ،‬يقولون‬
‫ال إله إالَّ اهلل ول ينفعهم ذلك‪.‬‬
‫وكذلك بنو حنيفة‪ ،‬الذين قاتلهم أصحاب رسول اهلل ‪ ،‬يقولون‪ :‬ال إله إالَّ‬
‫اهلل‪ ،‬ويؤذِّنون‪ ،‬ويصلَّون‪ ،‬وهم كفار باإلمجا ‪ ،‬وقد أراد النيب ‪ ‬أن يغزو بن‬
‫املصطلق ملا قيل له إهنم منعوا الزكاة‪ ،‬وهم يقولون‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ويؤذنون‬
‫ويصلون‪ ،‬وكذلك على حرق الغالية‪ ،‬وهم يقولون‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪.‬‬
‫وكذلك اْلوارج الذين قال فيهم النيب ‪« :‬حيقر أحدكم صالته مع‬
‫صالهتم‪ ،‬وصيامه‪ ،‬مع صيامهم‪ ،‬وقراءته مع قراءهتم»‪ ،‬وأخرب أهنم شر قتيل حتت‬
‫أدمي السماء‪ ،‬وقاتلهم علي ‪ ،‬وهم يقولون‪ :‬ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬ويعملون أعماالً‬
‫(‪)1‬‬
‫شاقة» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)243 – 231/1( :‬‬

‫‪-632-‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫الجهاد ل يسقط بحال عن األمة‬
‫والقيام به شرط في صحة اإلمامة‬

‫إماما إالَّ باجلهاد‪ ،‬ألنه ماضي إىل قيام الساعة‪ ،‬والدين‬


‫إن اإلمام‪ ،‬ال يكون ً‬
‫ال يقوم إالَّ به‪ ،‬ويستحيل أن يسقط فرضه على األمة‪ ،‬ألن قيامها بالعمل املناط‬
‫بنشأهتا وعلة وجودها‪ ،‬متوقف وقائم عليه‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فأي طائفة‪ ،‬جمتمعه‪ ،‬وهلا منعة‪ ،‬فعليها جهاد أعداء اهلل بقدر ما‬
‫مجيعا‪ ،‬بل وال يسقط‬
‫تستطيع‪ ،‬إما باللسان‪ ،‬وإما باليد‪ ،‬وإما بالقلب‪ ،‬وإما هبم ً‬
‫عنها فردها حبال‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى‪ ،‬في ردِّه على أحد‬
‫المثبطين عن الجهاد‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫«وأما قولك‪ :‬وال وجه الستداللك علينا هبذه اآلية ‪ ،‬فإن هذه اآلية‬
‫جهادية مع إمام متبع‪ ،‬وهو رسول اهلل ‪ ،‬فإذا كان هناك إمام متبع‪ِّ ،‬‬
‫فعرفنا‬
‫لعلَّنا نتَّبعه‪.‬‬
‫فأقول‪ :‬قد بيَّنا خطابك يف قولك‪ :‬أن اآلية جهادية‪ ،‬وأنه قول على اهلل ويف‬
‫ش َما ظَ َهَر ِمْنـ َها‬ ‫ِ‬
‫يب الْ َف َواح َ‬ ‫َِّ‬
‫كتابه بال علم‪ ،‬وقد قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ق ْل إمنَا َحَّرَم َرَِّ‬
‫احلَ ِّق َوأَن ت ْش ِركواْ بِاللي ِه َما َلْ يـنَـِّزْل بِِه سْلطَانًا َوأَن‬
‫َوَما بَطَ َن َوا ِإل ْمثَ َوالْبَـ ْغ َي بِغَ ِْري ْ‬
‫تَـقولواْ َعلَى اللي ِه َما الَ تَـ ْعلَمو َن﴾ [األعراف‪.]33 :‬‬
‫ِ‬
‫(‪ )1‬هي قوله تعاىل‪﴿ :‬ق ْل إِن َكا َن آبَاؤك ْم َوأَبْـنَآؤك ْم َوإِ ْخ َوانك ْم َوأ َْزَواجك ْم َو َعش َريتك ْم َوأ َْم َوال اقْـتَـَرفْـتم َ‬
‫وها‬
‫ب إِلَْيكم ِّم َن اللي ِه َوَرسولِِه َوِج َهاد ِيف َسبِيلِ ِه فَـتَـَربَّصواْ‬ ‫َح َّ‬ ‫َوجتَ َارة َختْ َش ْو َن َك َس َاد َها َوَم َساكِن تَـ ْر َ‬
‫ض ْونَـ َها أ َ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني﴾ [التوبة‪.]24 :‬‬ ‫َح َّىت يَأِْيتَ الليه بِأ َْم ِرهِ َوالليه الَ يَـ ْهدي الْ َق ْوَم الْ َفاسق َ‬

‫‪-633-‬‬
‫ويقال‪ :‬بأي كتاب‪ ،‬أم بأية حجة أن اجلهاد ال جيب إالَّ مع إمام متبع؟!‬
‫هذا من الفرية يف الدين‪ ،‬والعدول عن سبيل املؤمنني‪ ،‬واألدلة على إبطال‬
‫هذا القول أشهر من أن تذكر‪ ،‬من ذلك عموم األمر باجلهاد‪ ،‬والرتغيب فيه‪،‬‬
‫ضه ْم بِبَـ ْعض لََّف َس َد ِت‬ ‫َّاس بَـ ْع َ‬
‫ِ‬
‫والوعيد يف تركه‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَْوالَ َدفْع الليه الن َ‬
‫ضهم‬ ‫َّ ِ‬
‫َّاس بَـ ْع َ‬
‫األ َْرض﴾ [البقرة‪ ،]269 :‬وقال يف سورة احلج‪َ ﴿ :‬ولَْوَال َدفْع الله الن َ‬
‫ص َو ِامع﴾ [احلج‪.]45 :‬‬ ‫ت َ‬ ‫ِ‬
‫ببَـ ْعض َّهلد َ‬
‫ِّم ْ‬
‫وكل من قام باجلهاد يف سبيل اهلل‪ ،‬فقد أطا اهلل و َّأدى ما فرضه اهلل‪ ،‬وال‬
‫(‪)1‬‬
‫إماما إالَّ باجلهاد‪ ،‬ألنه ال يكون جهاد إالَّ بإمام‪ ،‬واحلق عكس‬ ‫يكون اإلمام ً‬
‫اح َدة أَن تَـقوموا لِلَّ ِه َمثْـ َى‬ ‫َعظكم بِو ِ‬
‫َ‬
‫ما قلته يا رجل‪ ،‬وقد قال تعاىل‪﴿ :‬قل إَِّمنَا أ ِ‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اه َد فَإمنَا جيَاهد لنَـ ْفسه﴾‬‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َوفـَر َادى‪ ﴾...‬اآلية [سبأ‪ ،]45 :‬وقال‪َ ﴿ :‬وَمن َج َ‬
‫[العنكبوت‪.]5 :‬‬
‫ويف احلديث‪« :‬ال تزال طائفة» احلديث‪ ،‬والطائفة حبمد اهلل موجودة جمتمعة‬
‫على احلق‪ ،‬جياهدون يف سبيل اهلل‪ ،‬ال خيافون لومة الئم‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬يَا أَيُّـ َها‬
‫ف يَأِْيت الليه بَِق ْوم ِحيبُّـه ْم َو ِحيبُّونَه﴾‬ ‫ين َآمنواْ َمن يَـ ْرتَ َّد ِمنك ْم َعن ِدينِ ِه فَ َس ْو َ‬ ‫َّ ِ‬
‫الذ َ‬
‫ضل اللي ِه يـ ْؤتِي ِه َمن يَ َشاء َوالليه َو ِاسع َعلِيم﴾‬ ‫ك فَ ْ‬
‫ِ‬
‫[املائدة‪ ]64 :‬إىل قوله‪َ ﴿ :‬ذل َ‬
‫[املائدة‪ ،]64 :‬أي‪ :‬واسع الفضل والعطاء‪ ،‬عليم مبن يصلح للجهاد‪.‬‬
‫والعرب واألدلة على بطالن ما ألفته‪ ،‬كثري يف الكتاب والسنة والسري‬
‫(‪)2‬‬
‫واألخبار‪ ،‬وأقوال أهل العلم باألدلة واآلثار‪ ،‬ال تكاد ختفى على البليد إذا‬
‫مهاجرا فطلبت قريش من رسول اهلل ‪ ‬أن يرده‬ ‫ً‬ ‫علم بقصة أيب بصري‪ ،‬ملا جاء‬
‫إليهم‪ ،‬بالشرط الذي كان بينهم يف صلح احلديبية‪ ،‬فانفلت منهم حني قتل‬
‫كني‪ ،‬اللذين أتيا يف طلبه‪.‬‬ ‫املشر ْ‬

‫(‪ )1‬هكذا يف األصل وإن كان السياق يقتضي‪ :‬ألنه ‪ ...‬واهلل تعاىل أعلم‪.‬‬
‫(‪ )2‬بياض باألصل (هكذا يف األصل)‪.‬‬

‫‪-634-‬‬
‫فرجع إىل الساحل ملا مسع رسول اهلل ‪ ‬يقول‪« :‬ويل ِّأمه مسعر حرب‪ ،‬لو‬
‫فتعرض لعري قريش ‪ -‬إذا أقبلت من الشام ‪ -‬يأخذ ويقتل‪،‬‬ ‫كان معه غريه»‪َّ ،‬‬
‫فاستقل حبرهبم دون رسول اهلل ‪ ‬ألهنم كانوا معه يف صلح ‪ -‬القصة بطوهلا ‪-‬‬
‫فهل قال رسول اهلل ‪ ‬أخطأم يف قتال قريش‪ ،‬ألنكم لستم مع إمام؟‬
‫سبحان اهلل ما أعظم مضرة اجلهل على أهله؟ عيا ًذا باهلل من معارضة احلق‬
‫وحا َوالَّ ِذي‬ ‫باجلهل والباطل‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬شر لَكم ِّمن الدِّي ِن ما و َّ ِِ‬
‫صى به ن ً‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ك﴾ [الشورى‪....]93 :‬‬ ‫أ َْو َحْيـنَا إِلَْي َ‬
‫وال ريب‪ :‬أن فرض اجلهاد باق إىل يوم القيامة‪ ،‬واملخاطب به املؤمنون‪ ،‬فإذا‬
‫كان هناك طائفة جمتمعة هلا منعة‪ ،‬وجب عليها أن جتاهد يف سبيل اهلل مبا تقدر‬
‫عليه‪ ،‬ال يسقط عنها فرضه حبال‪ ،‬وال عن مجيع الطوائف‪ ،‬ملا ذكرت من‬
‫اآليات‪ ،‬وقد تقدم احلديث‪« :‬ال تزال طائفة» احلديث‪.‬‬
‫فليس يف الكتاب والسنَّة ما يدل على أن اجلهاد يسقط يف حال دون حال‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وال جيب على أحد دون أحد‪ ،‬إالَّ ما استثن يف سورة براءة ‪ ،‬وتأمل قوله‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫﴿ َولَيَنصَر َّن اللَّه َمن يَنصره﴾ [احلج‪. »]45 :‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ين الَ َِجيدو َن َما ي ِنفقو َن‬ ‫َّ ِ‬


‫ضى َوالَ َعلَى الذ َ‬
‫ُّع َفاء َوالَ َعلَى الْ َم ْر َ‬ ‫س َعلَى الض َ‬ ‫َّ‬
‫(‪ )1‬يشري إىل قوله تعاىل‪﴿ :‬لْي َ‬
‫ين إِ َذا َما‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫صحواْ لِلي ِه ورسولِِه َما َعلَى الْم ْح ِسنِ َ ِ ِ‬ ‫َحَرج إِ َذا نَ َ‬
‫ني من َسبيل َوالليه َغفور َّرحيم * َوالَ َعلَى الذ َ‬ ‫ََ‬
‫َّم ِع َحَزنًا أَالَّ َِجيدواْ َما‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫أَتَـو َك لِتَح ِملَهم قـلْت الَ أ َِجد ما أ ِْ‬
‫َمحلك ْم َعلَْيه تَـ َولَّواْ َّوأ َْعيـنـه ْم تَفيض م َن الد ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ ْ َ‬
‫ي ِنفقو َن﴾ [التوبة‪.]12 ،19 :‬‬
‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)253 – 911 /1( :‬‬

‫‪-636-‬‬
-635-
‫الفصل الثامن‬
‫نواقض اإلسالم وأحكام الردة والمرتدين‬

‫وفيه مبحثان‪:‬‬
‫المبحث األول‪ :‬تعريف َّ‬
‫الردة‪ ،‬وأمهية اإلحاطة برءوس مسائلها‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬متعلقات َّ‬
‫الردة‪ ،‬مع ذكر أهم أحكامها‪.‬‬

‫‪-634-‬‬
‫المبحث األول‬
‫تعريف الردة‪ ،‬وأهمية اإلحاطة برءوس مسائلها‬
‫ال نشك يف أن العلم بنواقض اإلسالم‪ ،‬ومبطالت اإلميان‪ ،‬من افرض‬
‫الفرائض‪ ،‬وأهم املطالب‪ ،‬ولذا فينبغي على املسلم اإلحاطة هبا‪ ،‬أو على األقل‬
‫مبعاقد فروعها ومسائلها‪ ،‬لئال يقع يف شيء من حمذوراهتا وهو ال يشعر‪.‬‬
‫حس املسلمني بقدر ما ستظل الفروق‬ ‫وبقدر وضوح هذه النواقض يف ي‬
‫يتسى للمؤمنني‪:‬‬
‫واحلدود بني اإلسالم والكفر‪ ،‬ظاهرة وبينة وفاصلة‪ ،‬ومن مثي ِّ‬
‫القيام بفريضة الوالء والرباء‪ ،‬اليت هي عمود من أعمدة امللة‪ ،‬وركن ركني من‬
‫أركاهنا‪.‬‬
‫والردة‪ :‬هي الكفر بعد اإلسالم‪ ،‬وتكون بالقول‪ ،‬والفعل واالعتقاد‪ ،‬والشك‪،‬‬
‫وليس من شروطها أن يقول املرتد‪ :‬ارتددت عن دين‪ ،‬ولكن إن قاهلا‪ ،‬اعترب قوله‬
‫من أنوا الردة‪.‬‬
‫ولقد كثرت وشاعت نواقض اإلسالم‪ ،‬على ألسنة وجوارح كثري من العامة‪،‬‬
‫من غري أن يعلم أكثرهم بكوهنا ردة خمرجة من امللة‪ ،‬وحمبطة لكل األعمال‬
‫وتوجب التحذير‪ ،‬فلعلها إذا بانت هلم واتضحت‪،‬‬ ‫الصاحلة‪ ،‬فلذا لزم التنبيه‪َّ ،‬‬
‫يتعرضون لسيف الشر املشهر فوق رءوس املرتدين يف‬ ‫سارعوا إىل اجتناهبا‪ ،‬لئال َّ‬
‫الدنيا‪ ،‬وكذا اهلوي يف اْللود األبدي يف نار جهنم يف اآلخرة‪ ،‬أعاذنا اهلل برمحته‬
‫مجيعا منها‪.‬‬
‫ً‬

‫قال اإلمام محمد بن عبد الوهاب رحمهما اهلل تعالى‪:‬‬


‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬
‫اعتقادا أو‬
‫ً‬ ‫نطقا أو ش ًكا أو‬ ‫باب حكم املرتد‪ ،‬الذي يكفر بعد إسالمه‪ً ،‬‬
‫مميزا‪ ،‬أو كان هازالً‪ ،‬لقـوله تعاىل‪﴿ :‬أَبِاللي ِه َوآيَاتِِه َوَرسولِِه كنت ْم‬
‫فعالً‪ ،‬ولو ً‬

‫‪-631-‬‬
‫(‪)1‬‬
‫تَ ْستَـ ْه ِزؤو َن﴾ [التوبة‪]56 :‬؛ فمن أشرك باهلل تعاىل كفر بعد إسالمه‪ ،‬ولو‬
‫مكرها حبق كفر‪ ،‬أو جحد ربوبيته أو وحدانيته كفر‪ ،‬أو جحد صفة من‬ ‫ً‬
‫صفاته‪ ،‬أو َّادعى النبوة‪ ،‬أو صدَّق من َّادعاها بعد النيب ‪ ،‬أو استهزأ باهلل أو‬
‫(‪)2‬‬
‫رسله‪ ،‬أو هزل فيه ذكر اهلل تعاىل» ‪.‬‬
‫أيضا رمحه اهلل تعاىل‪:‬‬
‫وقال ً‬
‫اعلم‪ :‬أن من أعظم نواقض اإلسالم عشرة‪.‬‬
‫األول‪ :‬الشرك يف عبادة اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن‬
‫ك لِ َمن يَ َشاء﴾ [النساء‪،]995 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الليهَ الَ يَـ ْغفر أَن ي ْشَرَك بِِه َويَـ ْغفر َما دو َن َذل َ‬
‫ومنه الذبح لغري اهلل‪ ،‬كمن يذبح للجن‪ ،‬أو القباب‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬من جعل بينه وبني اهلل وسائط‪ ،‬يدعوهم ويسأهلم الشفاعة‪ ،‬كفر‬
‫إمجاعا‪.‬‬
‫ً‬
‫صحح مذهبهم‪،‬‬ ‫الثالث‪ :‬من ل يكفر املشركني‪ ،‬أو شك يف كفرهم‪ ،‬أو َّ‬
‫إمجاعا‪.‬‬
‫كفر ً‬
‫الرابع‪ :‬من اعتقد أن غري هدي النيب ‪ ‬أكمل من هديه‪ ،‬أو أن حكم غريه‬
‫أحسن من حكمه‪ ،‬كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه‪ ،‬فهو كافر‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول ‪ ،‬ولو عمل به‪ ،‬كفر‬
‫ِ‬
‫ط أ َْع َما َهل ْم﴾‬ ‫َحبَ َ‬ ‫ك بِأَنـَّه ْم َك ِرهوا َما أ َ‬
‫َنزَل اللَّه فَأ ْ‬ ‫إمجاعا‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ذل َ‬ ‫ً‬
‫[حممد‪.]1 :‬‬
‫السادس‪ :‬من استهزأ بشيء من دين اهلل‪ ،‬أو ثوابه‪ ،‬أو عقابه‪ ،‬كفر‪ ،‬والدليل‬
‫قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَئِن َسأَلْتَـه ْم لَيَـقول َّن إَِّمنَا كنَّا َخنوض َونَـْل َعب ق ْل أَبِاللي ِه َوآيَاتِِه‬
‫َوَرسولِِه كنت ْم تَ ْستَـ ْه ِزؤو َن * الَ تَـ ْعتَ ِذرواْ قَ ْد َك َف ْرم بَـ ْع َد إِميَانِك ْم﴾ [التوبة‪،56 :‬‬
‫‪.]55‬‬
‫(‪ )1‬هكذا يف األصل ولعلها‪ :‬ال‪.‬‬
‫(‪« )2‬الدرر السنية»‪.)11/11/9( :‬‬

‫‪-631-‬‬
‫السابع‪ :‬السحر ومنه الصرف ولعطف‪ ،‬فمن فعله‪ ،‬أو رضي به‪ ،‬كفر‪،‬‬
‫َحد َح َّىت يَـقوالَ إَِّمنَا َْحنن فِْتـنَة فَالَ تَكْف ْر﴾‬ ‫ِ ِ‬
‫والدليل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما يـ َعلِّ َمان م ْن أ َ‬
‫[البقرة‪.]952 :‬‬
‫الثامن‪ :‬مظاهرة املشركني ومعاونتهم على املسلمني‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪:‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني﴾ [املائدة‪:‬‬ ‫﴿ َوَمن يَـتَـ َوَّهلم ِّمنك ْم فَِإنَّه مْنـه ْم إِ َّن الليهَ الَ يَـ ْهدي الْ َق ْوَم الظَّالم َ‬
‫‪.]69‬‬
‫التاسع‪ :‬من اعتقد أن بعض الناس ال جيب عليه اتباعه ‪ ،‬وأنه يسعه‬
‫اْلروج من شريعته‪ ،‬كما وسع اْلضر اْلروج من شريعة موسى عليهما السالم‪،‬‬
‫فهو كافر‪.‬‬
‫العاشر‪ :‬اإلعراض عن دين اهلل‪ ،‬ال يتعلمه وال يعمل هبا‪ ،‬والدليل قوله تعاىل‪:‬‬
‫ني منتَ ِقمو َن﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َعْنـ َها إِنَّا م َن الْم ْج ِرم َ‬ ‫﴿ َوَم ْن أَظْلَم ممَّن ذ ِّكَر بِآيَات َربِّه مثَّ أ َْعَر َ‬
‫[السجدة‪.]22 :‬‬
‫وال فرق يف مجيع هذه النواقض‪ ،‬بني اهلازل‪ ،‬واجلاد واْلائف‪ ،‬إالَّ املكره‪.‬‬
‫وقوعا‪ ،‬فينبغي للمسلم‬ ‫خطرا‪ ،‬ومن أكثر ما يكون ً‬ ‫وكلها من أعظم ما يكون ً‬
‫أن حيذرها‪ ،‬وخياف منها على نفسه‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫نعوذ باهلل من موجبات غضبه وأليم عقابه‪ ،‬وصلَّى اهلل على حممد» ‪.‬‬
‫خيرا‪:‬‬
‫وسئلت اللجنة الدائمة‪ ،‬جزى اهلل أصحابها عن المسلمين ا‬
‫السؤال الثاني والثالث من الفتوى رقم ‪2606‬‬
‫س‪ :‬يقال إن الردة قد تكون فعلية أو قولية‪ ،‬فالرجاء أن تبينوا يل باختصار‬
‫واضح أنوا الردة الفعلية والقولية واالعتقادية؟‬
‫احلمد هلل والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه‪ ....‬وبعد‪:‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)13 – 19/95( :‬‬

‫‪-645-‬‬
‫ج‪ :‬الردة‪ :‬هي الكفر بعد اإلسالم‪ ،‬وتكون بالقول والفعل واالعتقاد‬
‫والشك‪.‬‬
‫فمن أشرك باهلل‪ ،‬أو جحد ربوبيته‪ ،‬أو وحدانيته‪ ،‬أو صفة من صفاته‪ ،‬أو‬
‫احملرمات‬
‫سب اهلل‪ ،‬أو رسوله‪ ،‬أو جحد شيئًا من َّ‬ ‫بعض كتبه‪ ،‬أو رسله‪ ،‬أو َّ‬
‫اجملمع على حترميها‪ ،‬أو استحله‪ ،‬أو جحد وجوب ركن من أركان اإلسالم‬
‫اْلمسة‪ ،‬أو شك يف وجوب ذلك‪ ،‬أو يف صدق حممد ‪ ،‬أو غريه من األنبياء‪،‬‬
‫أو شك يف البعث‪ ،‬أو سجد لصنم‪ ،‬أو كوكب‪ ،‬وحنوه‪ ،‬فقد كفر‪ ،‬وارتد عن‬
‫دين اإلسالم‪.‬‬
‫وعليك بقراءة أبواب حكم الردة من كتب الفقه اإلسالمي فقد اعتنوا به‬
‫رمحهم اهلل‪ .‬وهبذا تعلم من األمثلة السابقة الردة القولية والعملية واالعتقادية‬
‫وصورة الردة يف الشك‪.‬‬
‫كسب الدين‪ ،‬ويقال‬ ‫ِّ‬ ‫س‪ :‬يقال إن الردة القولية تكون بلفظ كلمة الردة‬
‫أيضا إن من ارتد هبذا السبب أو ما شاهبه فقد بطل ما عمل قبل ذلك من‬ ‫ً‬
‫صالة وصيام وزكاة‪ ...‬إخل‪ ،‬أو نذر نذره على نفسه‪ .‬فهل جيب قضاء ما فات أو‬
‫ما بطل بذلك السبب أو ال إن كان نعم فهل يتم قضاء الصوم بالتتابع يف‬
‫األيام أم ال؟‬
‫ج‪ :‬سبق بيان أنوا الردة‪ ،‬وليس من شرط ذلك أن يقول املرتد ارتددت عن‬
‫دين‪ ،‬لكن لو قال ذلك اعترب قوله من أنوا الردة‪.‬‬
‫وليس على املرتد إذا رجع إىل اإلسالم أن يقضي ما ترك يف حال الردة من‬
‫صالة وصوم وزكاة‪ ...‬إخل‪ .‬وما عمله يف إسالمه قبل الردة من األعمال الصاحلة‬
‫ل يبطل بالردة إذا رجع إىل اإلسالم‪ ،‬ألن اهلل سبحانه علق ذلك مبوته على‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ك‪﴾...‬‬ ‫ين َك َفروا َوَماتوا َوه ْم كفَّار أولَئِ َ‬ ‫الكفر كما قال عز وجل‪ ﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫[البقرة‪ ،]959 :‬اآلية من سورة البقرة‪ ،‬وقال سبحانه‪َ ﴿ :‬وَمن يَـ ْرتَ ِد ْد ِمنك ْم َعن‬
‫اآلخَرةِ‪[ ﴾...‬البقرة‪:‬‬ ‫ك حبِطَت أ َْعماهلم ِيف ا ُّلدنْـيا و ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫َ َ‬ ‫ت َوه َو َكافر فَأ ْولَـئ َ َ ْ َ ْ‬ ‫دينه فَـيَم ْ‬

‫‪-649-‬‬
‫‪ ،]294‬اآلية من سورة البقرة‪.‬‬
‫أما نذره حال إسالمه فهو باق إذا كان النذر طاعة‪ ،‬فعليه أن يويف به بعد‬
‫الرجو إىل اإلسالم‪ ،‬وهكذا ما يف ذمته من حق هلل أو لعبادة قبل أن يرتد فهو‬
‫باق‪.‬‬
‫وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم‪.‬‬
‫اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‬
‫الرئيس‬ ‫نائب رئيس اللجنة‬ ‫عضو‬ ‫عضو‬
‫(‪)1‬‬
‫عبد اهلل بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز‬ ‫عبد اهلل بن قعود‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬فتاوى اللجنة الدائمة»‪.)6 - 3/2( :‬‬

‫‪-642-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫متعلقات الردة‪ ،‬مع ذكر أهم أحكامهما‬
‫لقد مرق من اإلسالم بعض أهله‪ ،‬وذلك على عهد النيب ‪ ‬وخلفائه من‬
‫بعده‪ ،‬مع استقباهلم للقبلة‪ ،‬وما كانوا عليه من العبادة والزهد والور ‪.‬‬
‫فإذا كان كذلك‪ ،‬فليعلم‪ :‬أن املنتسب لإلسالم‪ ،‬بل وللسنَّة‪ ،‬يف هذه‬
‫أيضا من الدين‪ ،‬ويرتد عن امللَّة‪ ،‬بفعل ناقض من نواقض‬ ‫األزمان‪ ،‬قد ميرق ً‬
‫الشهادتني‪.‬‬
‫والردة قد تتعلق بـ‪ :‬حق اهلل سبحانه‪ ،‬أو كتبه‪ ،‬أو أنبيائه‪ ،‬أو مالئكته‪ ،‬أو‬
‫أحكامه وشريعته وأوامره ونواهيه وأخباره‪...‬‬
‫واملسلم إذا وقع يف ناقض من نواقض اإلسالم‪ ،‬ارتد بذلك ونطقه‬
‫بالشهادتني‪ ،‬وانتسابه للملة‪ ،‬مع عمله ببعض الشرائع‪ ،‬ال يدرأ عنه‪ :‬الكفر‪،‬‬
‫والردة‪ ،‬والقتل بعد االستتابة‪.‬‬
‫فإذا أتى الشهادة‪ ،‬حبكم العادة‪ ،‬حال ردته وكفره‪ ،‬ول ختلعه من الكفر الذي‬
‫تائبا من الباب الذي خرج منه‬ ‫حل فيه‪ ،‬فال يرتفع عنه حكمه‪ ،‬حىت يدخل ً‬
‫كافرا‪.‬‬
‫ً‬

‫قطوف من رسالة‬
‫الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة‬

‫للشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم اهلل تعالى‬


‫قال الشيخ بعد أن حمد اهلل‪ ،‬وصلى على بينه ‪:‬‬
‫أما بعد‪ :‬فهذه فصول وكلمات‪ ،‬نقلتها من كالم العلماء اجملتهدين‪،‬‬
‫أصحاب األئمة األربعة‪ ،‬الذين هم أئمة أهل السنة والدين‪ ،‬يف بيان‬
‫املخرجة له من الدين‪ ،‬وأن تلفظه‬
‫بـعض األفعال واألقوال املكفِّرة للمسلم‪ِّ ،‬‬

‫‪-643-‬‬
‫بالشهادتني‪ ،‬وانتسابه إىل اإلسالم‪ ،‬وعمله ببعض شرائع الدين‪ ،‬ال مينع من‬
‫تكفريه وقتله‪ ،‬وإحلاقه باملرتدين‪...‬‬
‫فنقول‪ :‬أما كالم الشافعية‪ :‬فقال ابن حجر يف كتاب «الزواجر عن اقرتاف‬
‫الكبائر» الكبرية األوىل‪ :‬الكفر والشرك‪ ،‬أعاذنا اهلل منه‪ ،‬وملا كان الكفر أعظم‬
‫الذنوب‪ ،‬كان أحق أن يبسط الكالم عليه وعلى أحكامه‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬إِ َّن‬
‫ك لِ َمن يَ َشاء﴾ [النساء‪...]995 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الليهَ الَ يَـ ْغفر أَن ي ْشَرَك بِِه َويَـ ْغفر َما دو َن َذل َ‬
‫مث قال‪« :‬تنبيهات» منها‪ :‬بيان الشرك‪ ،‬وذكر مجلة من أنواعه‪ ،‬لكثرة وقوعها‬
‫يف الناس‪ ،‬وعلى ألسنة العامة‪ ،‬من غري أن يعلموا أهنا كذلك فإذا بانت هلم‬
‫فلعلهم أن جيتنبوها‪ ،‬لئال حتبط أعمال مرتكيب ذلك‪ ،‬وخيلدون يف أعظم العذاب‪،‬‬
‫جدا‪.‬‬
‫وأشد العذاب‪ ،‬ومعرفة ذلك أمر مهم ً‬
‫(أخطار الردة)‪:‬‬
‫مكفرا حتبط مجيع أعماله‪ ،‬وجيب عليه قضاء الواجب منها‪،‬‬ ‫فإن من ارتكب ً‬
‫املكفرات‪،‬‬ ‫توسع أصحابه يف ِّ‬ ‫عند مجاعة من أئمة‪ ،‬كأيب حنيفة‪ ،‬ومع ذلك فقد َّ‬
‫جدا وبالغوا يف ذلك أكثر من بقية أئمة املذاهب‪،‬‬ ‫وعدوا منها مجالً مستكثرة ً‬
‫هذا مع قوهلم‪ :‬إن الردة حتبط مجيع األعمال‪ ،‬وبأن من ارتد بانت منه زوجته‪،‬‬
‫املكفرات؛ فتعني على‬ ‫وحرمت عليه‪ ،‬فمع هذا التشديد‪ ،‬بالغوا يف االتسا يف ِّ‬
‫كل ذي مسكة يف دينه‪ :‬أن يعرف ما قالوه‪ ،‬حىت جيتنبه‪ ،‬وال يقع فيه فيحبط‬
‫عمله‪ ،‬ويلزمه قضاؤه‪ ،‬وتبني منه زوجته عند هؤالء األئمة‪....‬‬
‫فصل‪ :‬وأما كالم احلنفية‪ ،‬فقال يف كتاب تبيني احملارم املذكورة يف القرآن‪،‬‬
‫«باب الكفر»‪ ،‬وهو‪ :‬السرت وجحود احلق‪ ،‬وإنكاره‪ ،‬وهو أول ما ذكره يف القرآن‬
‫ين َك َفرواْ َس َواء َعلَْي ِه ْم أَأَن َذ ْرتَـه ْم أ َْم‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫العظيم من املعاصي‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫نذ ْره ْم الَ يـ ْؤِمنو َن﴾ [البقرة‪.]5 :‬‬ ‫َل ت ِ‬
‫ْ‬

‫‪-644-‬‬
‫وهو أكرب الكبائر على اإلطالق‪ ،‬فال كبرية فوق الكفر ‪ -‬إىل أن قال‪.-‬‬
‫(أنواع الكفر)‪:‬‬
‫أن ما يلزم به الكفر أنوا ‪ ،‬نو يتعلَّق باهلل سبحانه‪ ،‬ونو يتعلَّق‬ ‫واعلم َّ‬
‫بالقرآن وسائر الكتب املنزلة‪ ،‬ونو يتعلق بنبينا حممد ‪ ‬وسائر األنبياء واملالئكة‬
‫والعلماء‪ ،‬ونو يتعلق باألحكام‪.‬‬
‫فأما‪ :‬ما يتعلق باهلل سبحانه‪ ،‬إذا وصف اهلل سبحانه مبا ال يليق به‪ ،‬بأن شبه‬
‫اهلل سبحانه بشيء من املخلوقات أو نفى صفاته‪ ،‬أو قال باحللول واالحتاد‪ ،‬أو‬
‫معه قدمي غريه‪ ،‬أو معه مدبِّر مستقل غريه‪ ،‬أو اعتقد أنه سبحانه جسم‪ ،‬أو‬
‫حمدث‪ ،‬أو غري حي‪ ،‬أو اعتقد أنه ال يعلم اجلزئيات‪ ،‬أو كفر باسم من أمسائه‪،‬‬
‫أو أمر من أمره‪ ،‬أو وعيده أو وعده‪ ،‬أو أنكرمها‪ ،‬أو سجد لغري اهلل‪.‬‬
‫ولدا‪ ،‬أو صاحبة‪ ،‬أو أنه متولد من‬ ‫سب اهلل سبحانه‪ ،‬أو َّادعى أن له ً‬
‫أو َّ‬
‫شيء كائن عنه‪ ،‬أو أشرك بعبادته شيئًا من خلقه‪ ،‬أو افرتى على اهلل سبحانه‬
‫وتعاىل الكذب‪ ،‬بادعاء اإلهلية أو الرسالة‪ ،‬أو نفى أن يكون خالقه ربه‪ ،‬وقال‬
‫ليس يل ربًا‪ ،‬أو قال لذرة من الذرات‪ :‬هذه خلقت عبثًا ومهالً‪ ،‬وما أشبه ذلك‬
‫كبريا؛ يكفر يف هذه الوجوه‬
‫علوا ً‬‫مما ال يليق به‪ ،‬سبحانه وتعاىل عما يقولون ً‬
‫أصر على ذلك‪ ،‬وإن تاب‬ ‫عمدا أو هزالً‪ ،‬ويقتل إن َّ‬
‫كلها باإلمجا ‪ ،‬سواء فعله ً‬
‫تاب اهلل عليه‪ ،‬وسلم من القتل‪ .‬انتهى كالمه حبروفه‪.‬‬
‫فتأمل رمحك اهلل تصرحيه بأن من أشرك يف عبادة اهلل غريه‪ ،‬أنه يكفر‬ ‫َّ‬
‫أصر على ذلك‪....‬‬
‫باإلمجا ‪ ،‬ويقتل إن َّ‬
‫فصل‪ :‬وأما كالم احلنابلة‪ ،‬فقال اإلمام أبو الوفاء ابن عقيل‪:‬‬
‫ملا صعبت التكاليف على اجلهال والطغام‪ ،‬عدلوا عن أوضا الشر ‪ ،‬إىل تعظيم‬
‫أوضا وضعوها ألنفسهم‪ ،‬فسهلت عليهم إذا ل يدخلوا هبا حتت أمر‬

‫‪-646-‬‬
‫غريهم‪ ،‬وهم عندي كفار هبذه األوضا ‪ ،‬مثل تعظيم القبور‪ ،‬وخطاب املوتى‬
‫باحلوائج‪ ،‬وكتب الرقا ‪ ،‬فيها‪ :‬يا موالي افعل يب كذا وكذا‪ ،‬وإلقاء اْلرق على‬
‫الشجر‪ ،‬اقتداءً مبن عبد الالت والعزى‪ .‬انتهى كالمه‪.‬‬
‫فتأمل قوله‪ :‬وهم عندي كفار هبذه األوضا ‪ ،‬وتشبيهه إياهم مبن عبد‬
‫الالت والعزى‪.‬‬
‫وقال الشيخ تقي الدين يف الرسالة السنية‪ ،‬ملا ذكر حديث اْلوارج‪ ،‬ومروقهم‬
‫من الدين‪ ،‬وأمره ‪ ‬بقتاهلم‪ ،‬قال‪ :‬فإذا كان على عهد النيب ‪ ‬وخلفائه من‬
‫انتسب إىل اإلسالم‪ ،‬من مرق منه من عبادته العظيمة‪ ،‬فليعلم‪ :‬أن املنتسب إىل‬
‫أيضا من اإلسالم‪ ،‬وذلك بأسباب‪،‬‬ ‫اإلسالم والسنة يف هذه األزمان‪ ،‬قد ميرق ً‬
‫منها‪ :‬الغلو الذي ذمه اهلل يف كتابه‪ ،‬حيث قال‪﴿ :‬يا أ َْهل الْ ِكتَ ِ‬
‫اب الَ تَـ ْغلواْ ِيف‬ ‫َ َ‬
‫ِدينِك ْم‪ ﴾...‬اآلية [النساء‪....]949 :‬‬
‫وقال رمحه اهلل تعاىل ‪ -‬أي شيخ اإلسالم ‪ ،‬يف الكالم على قوله تعاىل‪:‬‬
‫﴿ َوَما أ ِه َّل بِِه لِغَ ِْري اللي ِه﴾ [البقرة‪ .]943 :‬ظاهرة‪ :‬أنه ما ذبح لغري اهلل‪ ،‬سواء‬
‫لفظ به أو ل يلفظ‪ ،‬وحترمي هذا أظهر من حترمي ما ذحبه للحم‪ ،‬وقال فيه باسم‬
‫متقربني به إىل اهلل‪ ،‬كان أزكى مما ذحبناه للحم‪،‬‬
‫املسيح وحنوه‪ ،‬كما أن ما ذحبناه ِّ‬
‫وقلنا عليه باسم اهلل‪ ،‬فإن عبادة اهلل بالصالة له‪ ،‬والنسك له‪ ،‬أعظم من‬
‫كفرا من االستعانة بغري‬
‫االستعانة بامسه يف فواتح األمور‪ ،‬والعبادة لغري اهلل أعظم ً‬
‫اهلل‪ ،‬فلو ذبح لغري اهلل متقربًا إليه حلرم‪ ،‬وإن قال فيه باسم اهلل‪ ،‬كما قال فعله‬
‫طائفة من منافقي هذه األمة‪ ،‬وإن كان هؤالء مرتدين ال تباح ذبيحتهم حبال‪،‬‬
‫لكن جيتمع يف الذبيحة مانعان‪ ،‬ومن هذا ما يفعل مبكة وغريها من الذبح‬
‫للجن‪ .‬انتهى كالم الشيخ رمحه اهلل‪.‬‬
‫فتأمل رمحك اهلل هذا الكالم‪ ،‬وتصرحيـه فيه‪ :‬بأن من ذبح لغري اهلل مـن‬

‫‪-645-‬‬
‫هذه األمة‪ ،‬فهو كافر مرتد‪ ،‬ال تباح ذبيحته‪ ،‬ألنه جيتمع فيها مانعان‪.‬‬
‫األول‪ :‬أهنا ذبيحة مرتد‪ ،‬وذبيحة املرتد ال تباح باإلمجا ‪.‬‬
‫حرم اهلل ذلك يف قوله‪ ﴿ :‬قل الَّ أ َِجد‬ ‫الثاي‪ :‬أهنا مما أهل به لغري اهلل‪ ،‬وقد َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِيف َما أ ْو ِح َي إِ ََّ‬
‫يل حمََّرًما َعلَى طَاعم يَطْ َعمه إالَّ أَن يَكو َن َمْيتَةً أ َْو َد ًما َّم ْسف ً‬
‫وحا أ َْو‬
‫َحلْ َم ِخن ِزير فَِإنَّه ِر ْجس أ َْو فِ ْس ًقا أ ِه َّل لِغَ ِْري اللي ِه بِِه﴾ [األنعام‪.]946 :‬‬
‫وتأمل قوله‪ :‬ومن هذا ما يفعل مبكة وغريها من الذبح للجن‪ .‬واهلل أعلم‪....‬‬

‫(حكم ساب النبي ‪)‬‬


‫وقال الشيخ رمحه اهلل تعاىل يف كتاب «الصارم املسلول على شام الرسول»‪:‬‬
‫قال اإلمام إسحاق بن راهويه‪ ،‬أحد األئمة‪ ،‬يعدل بالشافعي وأمحد‪ :‬أمجع‬
‫سب اهلل أو رسوله‪ ،‬أو دفع شيئًا مما أنزل اهلل‪ ،‬أنه كافر‬‫املسلمون‪ :‬أن من َّ‬
‫مقرا بكل ما أنزل اهلل‪.‬‬
‫بذلك‪ ،‬وإن كان ً‬
‫وقال حممد بن سحنون ‪ -‬أحد األئمة من أصحاب مالك ‪ -‬أمجع العلماء‬
‫على أن شام الرسول كافر‪ ،‬وحكمه عند األئمة القتل‪ ،‬ومن شك يف كفره‬
‫كفر‪ ،‬قال ابن املنذر‪ :‬أمجع عوام أهل العلم على أن‪ :‬على من سبه القتل‪.‬‬
‫وقال اإلمام أمحد فيمن سبَّه يقتل‪ ،‬قيل له‪ :‬فيه أحاديث؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬منها‪:‬‬
‫حديث األعمى الذي قتل املرأة‪ ،‬وقول ابن عمر‪ :‬من شتم النيب ‪ ‬قتل‪ ،‬وعمر‬
‫بن عبد العزيز يقول‪ :‬يقتل‪ ،‬وقال يف رواية عبد اهلل‪ :‬ال يستتاب‪ ،‬فإن خالد بن‬
‫الوليد قتل رجالً شتم النيب ‪ ‬ول يستتبه‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫سب‬
‫فتأمل رمحك اهلل‪ :‬كالم إسحاق بن راهويه‪ ،‬ونقله اإلمجا على أن من َّ‬
‫مقرا بكل ما‬
‫سب رسوله‪ ،‬أو دفع شيئًا مما أنزل اهلل أنه كافر‪ ،‬وإن كان ً‬
‫اهلل‪ ،‬أو َّ‬
‫سب‬
‫بسب اهلل تعاىل‪ ،‬أو ِّ‬
‫أنزل اهلل‪ ،‬يتبني لك‪ :‬أن من تلفظ بلسانه ِّ‬

‫‪-644-‬‬
‫رسوله فهو كافر مرتد عن اإلسالم‪ ،‬وإن أقر جبميع ما أنزل اهلل‪ ،‬وإن كان‬
‫هازالً بذلك ل يقصد معناه بقلبه‪ ،‬كما قال الشافعي‪ :‬من هزل بشيء من آيات‬
‫بسب اهلل‪ ،‬أو سب رسوله ‪‬؟‬ ‫اهلل فهو كافر‪ ،‬فكيف مبن هزل ِّ‬
‫سب اهلل تعاىل‬ ‫وهلذا قال الشيخ تقي الدين‪ :‬قال أصحابنا وغريهم‪ ،‬من َّ‬
‫جادا‪ ،‬لقوله تعاىل‪ ﴿ :‬ق ْل أَبِاللي ِه َوآيَاتِِه َوَرسولِِه كنت ْم تَ ْستَـ ْه ِزؤو َن‬
‫مازحا أو ً‬
‫كفر‪ً ،‬‬
‫* الَ تَـ ْعتَ ِذرواْ قَ ْد َك َف ْرم بَـ ْع َد إِميَانِك ْم‪[ ﴾...‬التوبة‪ .]55 ،56 :‬قال‪ :‬وهذا هو‬
‫الصواب املقطو به‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫ومعى قول إسحاق رمحه اهلل تعاىل‪ :‬أو دفع شيئًا مما أنزل اهلل‪ ،‬أن يدفع أو‬
‫يرد شيئًا مما أنزل اهلل يف كتابه‪ ،‬أو على لسان رسوله ‪ ‬من الفرائض‪ ،‬أو‬
‫الواجبات‪ ،‬أو املسنونات‪ ،‬أو املستحبات‪ ،‬بعد أن يعرف أن اهلل أنزله يف كتابه‪،‬‬
‫أو أمر به رسوله ‪ ،‬أو هنى عنه‪ ،‬مث دفعه بعد ذلك‪ ،‬فهو كافر مرتد‪ ،‬وإن كان‬
‫مقرا بكل ما أنزل اهلل يف كتابه من الشر ‪ ،‬إالَّ ما دفعه وأنكره‪ ،‬ملخالفته هلواه أو‬ ‫ً‬
‫جممعا عليه‬
‫فرعا ً‬‫عادته‪ ،‬أو عادة أهل بلده‪ ،‬وهذا معى قول العلماء‪ :‬من أنكر ً‬
‫كفر‪ ،‬فإذا كان من أنكر النهي عن األكل بالشمال‪ ،‬أو النهي عن إسبال‬
‫الثياب‪ ،‬بعد معرفته أن الرسول ‪ ‬هنى عن ذلك‪ ،‬فهو كافر مرتد‪ ،‬ولو كان من‬
‫أعبد الناس وأزهدهم‪....‬‬
‫فصل‪ :‬قال يف اإلقنا وشرحه «باب حكم املرتد»‪ ،‬وهو الذي يكفر بعد‬
‫مكرها‪،‬‬‫مميزا‪ ،‬فتصح ردته كإسالمه‪ ،‬ال ً‬ ‫إسالمه‪ ،‬نط ًقا‪ ،‬أو ش ًكا‪ ،‬أو فعالً‪ ،‬ولو ً‬
‫ان﴾ [النحل‪ ،]955 :‬ولو هازالً‪،‬‬ ‫لقوله‪ ﴿ :‬إِالَّ من أ ْك ِره وقَـْلبه مطْمئِن بِا ِإلميَ ِ‬
‫َ‬ ‫َْ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لعموم قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬من يَـ ْرتَ َّد منك ْم َعن دينه﴾ [املائدة‪ ،]64 :‬وأمجعوا على‬
‫وجوب قتل املرتد؛ فمن أشرك باهلل تعاىل‪ ،‬كفر بعد إسالمه‪ ،‬لقوله تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن‬
‫ك لِ َمن يَ َشاء﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الليهَ الَ يَـ ْغفر أَن ي ْشَرَك بِِه َويَـ ْغفر َما دو َن َذل َ‬
‫[النساء‪.]995 :‬‬

‫‪-641-‬‬
‫ولدا‬
‫أو جحد ربوبيته‪ ،‬أو جحد صفة من صفاته‪ ،‬أو اختذ له صاحبة أو ً‬
‫مكذب‬ ‫كفر‪ ،‬أو َّادعى النبوة‪ ،‬أو صدَّق من َّادعاها بعد النيب ‪ ‬كفر‪ ،‬ألنه ِّ‬
‫لقوله تعاىل‪﴿ :‬ولَ ِكن َّرس َ ِ‬
‫ني﴾ [األحزاب‪ ،]45 :‬أو جحد‬ ‫ام النَّبِيِّ َ‬
‫ول اللَّه َو َخ ََ‬ ‫َ‬
‫احدا ممن‬
‫نبيًا‪ ،‬أو كتابًا من كتب اهلل‪ ،‬أو شيئًا منه‪ ،‬أو جحد املالئكة‪ ،‬أو و ً‬
‫سب اهلل ورسوله‬ ‫ثبت أنه ملك كفر‪ ،‬لتكذيبه القرآن‪ ،‬أو جحد البعث كفر‪ ،‬أو َّ‬
‫كفر‪ ،‬أو استهزأ باهلل أو كتبه‪ ،‬أو ورسله‪ ،‬لقوله‪ ﴿ :‬ق ْل أَبِاللي ِه َوآيَاتِِه َوَرسولِِه كنت ْم‬
‫تَ ْستَـ ْه ِزؤو َن﴾ [التوبة‪.]56 :‬‬
‫مبغضا لرسوله‪ ،‬أو ملا جاء به اتفاقًا‪ ،‬أو جعل بينه وبني‬ ‫قال الشيخ‪ :‬أو كان ً‬
‫إمجاعا‪ ،‬ألن ذلك كفعل‬ ‫اهلل وسائط‪ ،‬يتوكل عليهم ويدعوهم ويسأهلم‪ ،‬كفر ً‬
‫عابدي األصنام‪ ،‬قائلني‪َ ﴿ :‬ما نَـ ْعبده ْم إَِّال لِيـ َقِّربونَا إِ َىل اللَّ ِه زلْ َفى﴾ [الزمر‪.]3 :‬‬
‫أو أتى بقول‪ ،‬أو فعل صريح يف االستهزاء بالدين‪ ،‬الذي شرعه اهلل‪ ،‬كفر‪،‬‬
‫لآلية السابقة‪ ،‬أو وجد منه امتهان للقرآن‪ ،‬كفر‪.‬‬
‫وإن أتى بقول خيرجه عن اإلسالم‪ ،‬مثل أن يقول‪ :‬هو يهودي‪ ،‬أو نصراي‪،‬‬
‫فهو كافر‪ ،‬أو سخر بوعد اهلل‪ ،‬أو وعيده‪ ،‬فهو كافر‪ ،‬ألنه كاالستهزاء باهلل‪ ،‬أو‬
‫ل يكفر من دان بغري اإلسالم أو شك يف كفرهم ‪ -‬إىل أن قال ‪ -‬ومن قال‪:‬‬
‫أنا حمتاج إىل حممد‪ ،‬يف علم الظاهر‪ ،‬دون علم الباطن‪ ،‬أو قال‪ :‬من األولياء من‬
‫يسعه اْلروج عن الشريعة‪ ،‬كما وسع اْلضر اْلروج من شريعة موسى‪ ،‬فهو‬
‫كافر‪.‬‬
‫احدا منهم‪ ،‬واقرتن بسبِّه دعوى أن عليًا إله‪ ،‬وأن‬ ‫سب الصحابة ‪ ،‬أو و ً‬ ‫ومن َّ‬
‫جربائيل غلط‪ ،‬فال شك يف كفر هذا‪ ،‬بل ال شك يف كفر من توقف يف‬
‫مطلقا‪ ،‬فهذا حمل اْلالف‪ ،‬توقف أمحد يف تكفريه‬ ‫تكفريه‪ ،‬وأما من لعن‪ ،‬أو قبَّح ً‬
‫(‪)1‬‬
‫وقتله» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)231 – 941/95( :‬‬

‫‪-641-‬‬
-665-
‫الفصل التاسع‬
‫أشهر الشبهات المثارة على أئمة الدعوة‬
‫والرد الوافر عليها‬

‫وفيه أربعة مباحث‪:‬‬

‫التنق مبقام الرب سبحانه‪.‬‬‫المبحث األول‪ :‬الرد على شبهة ُّ‬


‫المبحث الثاني‪ :‬الرد على شبهة التنق حبق النيب ‪ ،‬واالزدراء مبقام‬
‫الرسالة‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬الرد على شبهة تكفري املسلمني واعتزاهلم‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬الرد على أشهر الشبهات املثارة يف حق إمام الدعوة خاصة‬
‫رمحه اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪-669-‬‬
-662-
‫المبحث األول‬
‫الرد على شبهة التنقص بمقام الرب سبحانه‬

‫(شبهة التجسيم)‬
‫تلك الشبهة اليت ل يزل أعداء أهل السنة واجلماعة يرموهنم هبا‪ ،‬وما نقموا‬
‫منهم إالَّ أهنم وصفوا رهبم مبا وصف به نفسه‪ ،‬ووصفه به رسول اهلل ‪ ،‬على‬
‫وجه يليق جبالله وكماله وعظيم سلطانه‪ ،‬من غري تعطيل‪ ،‬وال حتريف‪ ،‬وال تشبيه‪،‬‬
‫متَّبعني يف ذلك ‪ -‬ال مبتدعني ‪ -‬صحابة النيب ‪ ،‬الذين هم أعلم األمة برِّهبا‬
‫ونبيِّها ودينها‪ ،‬وذلك بإمجا األمة‪ ،‬شاء أهل األهواء ذلك أم أبوا‪.‬‬
‫قال أحد المناوئين لدعوة الشيخ اإلمام محمد بن عبد الوهاب رحمه‬
‫اهلل تعالى‪:‬‬
‫[كتهمة الوهابية للذات العلية يعتقدون بأن هلل جسم حمدود‪ ،‬مؤلَّف من‬
‫أعضاء‪ ،‬يد حمسوسة يبطش هبا‪ ،‬ورجل ميشي هبا‪ ،‬جيلس ويقوم‪ ،‬ويغدو ويروح‪،‬‬
‫وينزل ويرتفع‪ ،‬فأصبحوا كإخواهنم النصارى يف الناسوت والالهوت‪ ،‬لعب إبليس‬
‫اجملسمة ليسوا من‬ ‫بلحاهم حىت أرداهم وأخرجهم من دائرة اإلسالم‪ ،‬ألن ِّ‬
‫اإلسالم يف شيء‪ ...‬إخل]‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرمحن اجلربين حفظه اهلل تعاىل يف الرد على هذا‬
‫االفرتاء‪:‬‬
‫واجلواب أن يقال‪ :‬مراده بالوهابية‪ :‬أتبا أئمة الدعوة السلفية‪ ،‬اليت‬
‫قام هبا يف جند الشيخ حممد بن عبد الوهاب جمدِّد القرن الثاي عشر‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وهو وأتباعه رمحهم اهلل هلم مذهب خاص‪ ،‬بل هو يف العقيدة على معتقد‬

‫(‪ )1‬هكذا يف األصل‪ ،‬ولعلها‪ :‬ليس هلم‪...‬‬

‫‪-663-‬‬
‫السلف الصاحل واألئمة األربعة ومن تبعهم بإحسان‪ ،‬وهم يف الفرو على‬
‫مذهب اإلمام أمحد بن حنبل إمام السنة واحلديث‪ ،‬مع أهنم ال يعيبون من تبع‬
‫مذهب إمام من األئمة املعتربين‪ ،‬وإذا تبني هلم احلق والصواب يف غري مذهب‬
‫آنفا أننا متَّبعون للن والدليل ندور معه‬
‫إمامهم‪ ،‬تبعوه مع من كان‪ ،‬وقد ذكرنا ً‬
‫حيث دار‪ ،‬ففيما ذكره هذا القائل عدة أخطاء‪:‬‬

‫األول‪ :‬تسميته لهم بالوهابية‪:‬‬


‫جديدا‪ ،‬وأن كل ما قالوه‪:‬‬
‫بعد أن عرفت أهنم ل خيتصوا بشيء ول يبتدعوا ً‬
‫إهنم متبعون للنصوص وللسلف الصاحل‪ ،‬وألن القائم بالدعوة ليس هو عبد‬
‫الوهاب‬
‫وفرعا‪ ،‬وألن َّ‬
‫الوهاب‪ ،‬وإمنا هو ابنه الشيخ حممد‪ ،‬فهم احملمديون أصالً ً‬
‫اسم من أمساء اهلل تعاىل‪ ،‬فهو الذي وهبهم اهلداية والعلم والعمل‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬رميه لهم بالتجسيم‪:‬‬


‫نفيا‪ ،‬فمن‬
‫أبدا‪ ،‬ول يستعملوا هذه اللفظة إثباتًا وال ً‬
‫فهم ل يقولوا بذلك ً‬
‫أيضا‪ ،‬حيث إن‬‫قال‪ :‬إن اهلل جسم فهو مبتد ‪ ،‬وكذا من نفى اجلسم فهو مبتد ً‬
‫خريا‬
‫هذه اللفظة‪ .‬ل ترد يف النصوص‪ ،‬ول يستعملها السلف واألئمة‪ ،‬ولو كان ً‬
‫لسبقونا إليه‪ ،‬مع أنا نثبت الصفات الواردة ونعتقد حقيقتها‪ ،‬وننفي عنها التشبيه‬
‫(‪)1‬‬
‫والتمثيل‪ ،‬وال يلزم أن تكون جمسمة إذا قلنا‪ :‬بأن اهلل فوق عباده على عرشه‬
‫ووجها وعينًا كما يشاء‪ ،‬أو قلنا‪ :‬إنه ينزل‬
‫يدا ً‬ ‫بائن من خلقه‪ ،‬أو قلنا‪ :‬إن له ً‬
‫وجييء لفصل القضاء كما يشاء‪ ،‬فإن هذه الصفات وحنوها قد وردت هبا‬
‫النصوص‪ ،‬فنحن نعتقد حقيقتها وال منثلها خبصائ املخلوق‪ ،‬وال نثبت هلا‬
‫كيفية أو مثاالً‪ ،‬فكما ل ندرك كْنهَ الذات وماهيتها‪ ،‬فهكذا نقول‬

‫(‪« )1‬هكذا يف األصل»‪ ،‬ولعلها‪ :‬نكون‪.‬‬

‫‪-664-‬‬
‫يف هذه الصفات‪ ،‬فإنا نثبتها إثبات وجود ال إثبات تكيف وحتديد‪ ،‬كما‬
‫قال ذلك أكابر األئمة‪ ،‬فكيف يلزم من ذلك أن تكون جمسمة؟!‬
‫وكذا قوله‪( :‬حمدود)‪ .‬نفضل ترك اْلوض يف احلد‪ ،‬مع أنه من املسائل اليت‬
‫أثبتها بعض السلف ونفاها البعض‪ ،‬ولكن األفضل التوقف‪ ،‬حيث إن البحث‬
‫يف ذلك مْبتَ َد ‪ ،‬وإن اللفظ ل يرد يف األدلة‪ ،‬ومع ذلك فعذر من أثبت احلد‬
‫مقصدا ظاهره الصحة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ومن نفاه أن لكل منهما‬
‫وباجلملة‪ :‬فال اختصاص لنا هبذا دون غرينا‪ ،‬ولكن هذا الكاتب مزجي‬
‫البضاعة يف عقيدة السلف وأقواهلم‪ ،‬وكان األوىل أن يوجه طعنه لومه على علماء‬
‫السلف وأئمتهم‪ ،‬فإن هذه األقوال واملذاهب املأثورة عنهم مدونَّة يف مؤلفاهتم‬
‫(‪)1‬‬
‫املوجود املشهور!!» ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الكنز الثمني»‪( :‬ص‪.)249 – 254‬‬

‫‪-666-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫الرد على شبهة التنقص بحق النبي ‪‬‬
‫والزدراء بمقام الرسالة‬

‫نفث أحد اجملرمني املناوئني للتوحيد والتحنف يف رو أتباعه من املشركني‬


‫بأن الوهابية‪ :‬ل يدركوا طبيعة الرسول ‪ ‬احلقيقية‪ ،‬ووقفوا عند حدود طبيعته‬
‫البشرية‪ ،‬بل وحكموا بكفر من وصف نيب اهلل ومصطفاه ‪ ‬بأنه نور‪ ،‬كيف ال‬
‫واهلل ميد بواسطته كل من أراد هدايته باألنوار واألسرار‪ ،‬مث جفوا كعادهتم‪،‬‬
‫فحكموا بأن التوسل به ‪ ‬شرك صريح خمرج من ملته السمحاء‪.‬‬
‫وليت أمرهم وقف عند هذا‪ ،‬بل قاموا بتجريد الرسول ‪ ‬من كل خصائصه‬
‫ومزاياه‪ ،‬اليت من اهلل هبا عليه‪ ،‬حىت استوى لديهم‪ :‬التوسل به‪ ،‬واالستشفا‬
‫باألصنام‪ ،‬وجعلوها على حد سواء‪...‬‬
‫قال أحد املناوئني لدعوة الشيخ اجملدد رمحه اهلل تعاىل‪[ :‬ومن أسف أن‬
‫الوهابية قالوا‪َ :‬تجيد الرسول مبا خيرجه عن طبيعته البشرية باطل وزور‪ ...‬إخل]‪.‬‬
‫وأجاب الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن الجبرين حفظه اهلل تعالى بقوله‪:‬‬
‫جوابه أن يقال‪ :‬مراده بالوهابية الشيخ حممد بن عبد الوهاب‪ ،‬ومن انتفع‬
‫بدعوته السلفية رمحهم اهلل‪ ،‬وقد علم أنه رمحه اهلل ل يأت جبديد‪ ،‬وإمنا جدَّد‬
‫للناس ما اندرس من معال التوحيد الذي هو حق اهلل على العبيد‪....‬‬
‫(المشروع من محبة النبي ‪:)‬‬
‫فأما الرسول حممد ‪ ،‬فإننا منجـده وحنبه ونقـدِّم حمبته عـلى األنفس‬

‫‪-665-‬‬
‫واألموال فإن ذلك شرط لصحة اإلميان‪ ،‬لقوله ‪« :‬ال يؤمن أحدكم‪،‬‬
‫حىت أكون أحب إليه من ولده‪ ،‬ووالده والناس أمجعني»‪ ،‬ولكن ال خنرجه هبذه‬
‫خالقا‪ ،‬أو رازقًا‪ ،‬وإمنا ميزته‬ ‫احملبة عن طبيعة البشر فنجعله ربًا‪ ،‬أو إهلًا‪ ،‬أو ً‬
‫الرسالة‪ ،‬حيث فضله اهلل على مجيع البشر‪ ،‬وأنزل عليه الوحي وكلفه حبمل‬
‫متصفا بالبشرية وبالعبودية‪.‬‬ ‫الرسالة وتبليغها إىل مجيع الناس‪ ،‬مع أنه ال يزال ً‬
‫يل﴾ [الكهف‪ ،]995 :‬بل‬ ‫وحى إِ ََّ‬ ‫ِ‬
‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ق ْل إَّمنَا أَنَا بَ َشر ِّمثْـلك ْم ي َ‬
‫إن الرسل كلهم ل خيرجوا عن وصف البشرية كما حكى اهلل عن الرسل قوهلم‬
‫ـك َّن الليهَ َمي ُّن َعلَى َمن يَ َشاء ِم ْن ِعبَ ِادهِ﴾‬ ‫وألممهم‪﴿ :‬إِن َّْحنن إِالَّ ب َشر ِّمثْـلكم ولَ ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫[إبراهيم‪ ،]99 :‬وملا تعنَّت بعض املشركني وطلبوا منه بعض اآليات اليت ال يقدر‬
‫َّ‬
‫عليها إالَّ اهلل‪ ،‬قال اهلل تعاىل له‪﴿ :‬ق ْل سْب َحا َن َرِّيب َه ْل كنت إَالَّ بَ َشًرا َّرسوالً﴾‬
‫[اإلسراء‪ .]13 :‬فهل من دليل يفيد أن الرسل ما خرجوا عن طبيعة البشرية‪،‬‬
‫فصاروا يعلمون الغيب وميلكون التصرف يف الكون‪ ،‬ويشاركون الرب يف اإلعطاء‬
‫واملنع‪ ،‬والضر والنفع‪ ،‬وحنو ذلك؟ أليس قد قال اهلل تعاىل لنبيه ‪﴿ :‬ق ْل َما‬
‫وحى إِ ََّ‬
‫يل‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫الرس ِل َوَما أ َْد ِري َما يـ ْف َعل ِيب َوَال بك ْم إ ْن أَتَّبع إَّال َما ي َ‬ ‫كنت بِ ْد ًعا ِّم ْن ُّ‬
‫َوَما أَنَا إَِّال نَ ِذير ُّمبِني﴾ [األحقاف‪.]1 :‬‬
‫بل أمره اهلل تعاىل أن ينفي عن نفسه هذه األمور‪ ،‬حيث قال تعاىل‪﴿ :‬قل‬
‫ب َوال أَقول لَك ْم إِ ِّي َملَك﴾‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫الَّ أَقول لَك ْم عندي َخَزآئن الليه َوال أ َْعلَم الْغَْي َ‬
‫[األنعام‪....]65 :‬‬

‫الرسول ‪ ‬هو النور والسراج المنير‪:‬‬


‫فأما قوله ‪ -‬أي املناوئ السابق‪[ :-‬وحكموا بكفر من وصفه بأنه نور‪،‬‬
‫وغاب عن هؤالء احلمري بأن اهلل قد وصفه بالسراج املنري بصيغة املبالغة‪ ،‬مبعى أن‬
‫اهلل عز وجل ميد بواسطته كل من أراد هدايته باألنوار واألسرار‪ ...‬إخل]‪.‬‬

‫‪-664-‬‬
‫جوابه أن يقال‪ :‬مىت حكمنا بكفر من وصفه بأنه نور؟! أين نصوص علماء‬
‫الدعوة يف ذلك؟! هذا من الكذب الصريح والبهتان املبني‪ ،‬بل هم متَّبعون ملا‬
‫وصفه اهلل به من ذلك‪ ،‬كما يف قوله تعاىل‪﴿ :‬قَ ْد َجاءكم ِّم َن اللي ِه نور َوكِتَاب‬
‫ُّمبِني﴾ [املائدة‪.]96 :‬‬
‫قال أبو جعفر بن جرير الطربي رمحه اهلل يف تفسري هذه اآلية من سورة‬
‫حممدا ‪ ‬الذي أنار اهلل به احلق وأظهر به اإلسالم‪ ،‬وحمق به‬ ‫املائدة‪ :‬يعن بالنور‪ً :‬‬
‫كثريا مما‬
‫الشرك‪ ،‬فهو نور ملن استنار به يبني احلق‪ ،‬ومن إنارته احلق تبيينه لليهود ً‬
‫كانوا خيفون من الكتاب‪.‬‬
‫لكن ال يلزم من هذا الوصف أن يًصرف له شيء من حق اهلل فال يدعى مع‬
‫(‪)1‬‬
‫اهلل وال يعظَّم كتعظيم اهلل‪ ،‬وال يوصف بشيء من خصائ اهلل» ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪« )1‬الكنز الثمني»‪( :‬ص‪.)355 – 211‬‬

‫‪-661-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫الرد على شبهة تكفير المسلمين واعتزالهم‬

‫سلفا‬
‫شبهة تكفري املسلمني‪ :‬الشبهة الدائمة الدوران بدعاة التوحيد‪ ،‬وامل َعدَّة ً‬
‫ودوما من أعدائهم أهل اإلرجاء واْلنو واإلرجاف‪ ،‬إهنم اْلوارج وأهل‬ ‫ً‬
‫التكفري‪ ...‬وقد استباحوا دماء املصلِّني‪ ،‬واستحلوا أعراضهم‪ ،‬وجعلوها مبنزلة‬
‫الكفار األصليني من اليهود والنصارى واملشركني‪.‬‬
‫لقد وقف الغالة من أهل اإلرجاء هذا املوقف ألن الشرك واملعصية عندهم‬
‫على رتبة واحدة‪ ،‬وال فرق يف األمساء واألحكام‪ ،‬ومن مث نظروا إىل من يكفرون‬
‫بالشرك كنظرهتم للذين يكفرون باملعصية‪ ،‬وظنوا بل قطعوا وقَّرروا‪ :‬أن اجلميع قد‬
‫خرج من حتت عباءة اْلوارج‪ ،‬الذين هم أهل التكفري‪ ،‬سبحانك هذا هبتام عظيم‬
‫وإفك مبني‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى في بيان‬
‫هذه الشبهة والرد عليها‪:‬‬
‫«قال العراقي‪ :‬واْلوارج هم كما يف البخاري ومسلم وغريمها من سائر كتب‬
‫احلديث أناس عمدوا إىل آيات نزلت يف الكفار فجعلوها على املؤمنني ‪ -‬وأطال‬
‫الكالم يف اْلوارج‪ ،‬وذكر بعض النصوص فيهم مع تصرف وعدم حتقيق ومعرفة‬
‫للنقل ‪ -‬إىل أن قال ‪ -‬فتبني لك أن عالمة اْلوارج تنزيلهم آيات القرآن النازلة‬
‫أحدا من أهل السنة يتفوه‬‫يف الكفار على املؤمنني من أهل القبلة‪ ،‬وهلذا ما ترى ً‬
‫أحدا‪.‬‬
‫بذلك وال يكفر ً‬
‫ومنشأ هذه البدعة من سوء الظن واتبا العقل ‪ -‬مث ذكر حديث اعرتاض‬
‫ذي اْلويصرة التميمي على قسمة رسول اهلل ‪ ،‬وما قال لـه‪ ،‬ثـم ذكر‬

‫‪-661-‬‬
‫قول اْلوارج «ال حكم إالَّ هلل» وقال بعده‪ :‬وكذلك إخواهنم يف هذا الزمان‬
‫يقولون‪« :‬ال يعبد إالَّ اهلل»‪ ،‬فنقول‪ :‬صدقتم هذه كلمة حق‪ ،‬ولكن أين الذي‬
‫ناطقا بالشهادتني‪ ،‬ويصلي ويصوم ويزكي وحيج؟‬‫مسلما ً‬
‫يعبد غريه إذا كان ً‬
‫والجواب أن يقال‪:‬‬
‫وصحت هبا األخبار يف شأن‬ ‫إن األحاديث واآلثار اليت جاءت هبا السنة َّ‬
‫اْلوارج ووصفهم وذمهم‪ ،‬فهي معروفة مشهورة عند أهل العلم باحلديث واآلثار‪.‬‬
‫وقد ساقها مسلم يف صحيحه من حنو عشرة أوجه‪ .‬وهذا العراقي ليس من رجال‬
‫هذا الشأن وال حيسن احلكاية والنقل‪ ،‬وال َتييز له بني مرفوعها وموقوفها‪،‬‬
‫وصحيحها وسقيمها وغريه‪.‬‬
‫يوضحه قوله‪ :‬واْلوارج هم يف البخاري ومسلم وغريمها من سائر كتب‬
‫احلديث أناس عمدوا إىل آيات نزلت يف الكفار فجعلوها على املؤمنني‪.‬‬
‫فهذا كالم غيب غوي ال يدري الصناعة وال يعرف ما يف تلك البضاعة‪ ،‬فإن‬
‫مرفوعا باتفاق‪ .‬وليس يف سائر كتب احلديث والسنن األربعة‪،‬‬ ‫هذا اللفظ ليس ً‬
‫وصحيحي البخاري ومسلم‪ ،‬وليس فيها هذا اللفظ‪ ،‬فكالمه كالم جاهل‬
‫بصناعة احلديث وروايته ولسنا بصدد بيان جهله وإفالسه من العلوم‪ ،‬وإمنا املراد‬
‫كشف شبهه وردها‪.‬‬
‫وحاصل مقصوده ونقله‪ :‬تشبيه أهل اإلسالم والتوحيد باْلوارج يف تكفريهم‬
‫من عبد األنبياء واألولياء والصاحلني‪ ،‬ودعاهم مع اهلل‪ ،‬ألن عباد القبور عنده‬
‫أهل سنة ومجاعة‪ ،‬وأهل اإلسالم من جنس اْلوارج‪ .‬الذين يكفرون أهل القبلة‪،‬‬
‫هذا حاصل إسهابه ومضمون خطابه‪ ،‬لكن أطال مبا ال طائل حتته‪.‬‬
‫وحنن نتكلَّم على بدء أمر اْلوارج وحقيقة مذهبهم‪ ،‬مث نتكلم على مذهب‬
‫عبَّاد القبور وما هم عليه‪ ،‬مث نتبع ذلك بفصل نافع يف بيـان حـال‬

‫‪-655-‬‬
‫الشيخ حممد رمحه اهلل وتقرير مذهبه‪ ،‬وما كان عليه يف املعتقد والدين‪،‬‬
‫ليعلم الواقف على ما قرنناه حقيقة املذاهب‪ ،‬وحاصل العقائد‪ ،‬فيما وقعت فيه‬
‫قل أن يوجد نظريه‪َّ ،‬بني‬
‫اْلصومة فنقول‪( :‬وأخذ الشيخ يتكلم يف حبث نفيس‪َّ ،‬‬
‫فيه بداية خروج اْلوارج‪ ،‬وحقيقة مذهبهم واألسباب الداعية ْلروجهم‪ ،‬إىل أن‬
‫ملخ أمرهم‪.‬‬ ‫قال رمحه اهلل)‪ :‬هذا َّ‬
‫وقد عرفت شبهتهم اليت جزموا ألجلها بكفر علي وشيعته‪ ،‬ومعاوية‬
‫وأصحابه‪ .‬وبقي معتقدهم يف أناس متفرقني بعد هذه الوقعة‪ ،‬مث اجتمعت هلم‬
‫شوكة ودولة فقاتلهم املهلَّب بن أيب صفرة‪ ،‬وقاتلهم احلجاج بن يوسف‪ ،‬وقاتلهم‬
‫قبله ابن الزبري زمن أخيه عبد اهلل‪ .‬وشا عنهم التكفري بالذنوب‪ ،‬يعن ما دون‬
‫الشرك‪ ،‬وهبذا تعرف حقيقة احلال‪ ،‬ويزول اإلشكال الذي نشأت منه الشبهة‪.‬‬
‫وما أحسن ما قال العالمة ابن القيم يف نونيته‪:‬‬
‫ومـن العجـائب أنهم قالوا لمن‬
‫قـد دان باآلثـار والـقـرآن‬
‫أنتـم بذا مـثل الخـوارج إنهم‬
‫أخذوا الظواهر‪ ،‬ما اهتدوا لمعـان‬
‫وهذا داء قدمي يف أهل الشرك والتعطيل" من كفَّرهم بعبادهتم غري اهلل‬
‫وتعطيل أوصافه وحقائق أمساءه‪ ،‬قالوا له‪ :‬أنت مثل اْلوارج‪ ،‬يكفرون بالذنوب‬
‫ويأخذون بظواهر اآليات‪.‬‬
‫ومعلوم أن الذنوب تتفاوت وختتلف حبسب منافاهتا ألصل احلكمة املقصودة‬
‫بإجياد العال‪ ،‬وخلق اجلن واإلنس‪ ،‬وحبسب ما يرتتب عليها من هضم حقوق‬
‫الربوبية‪ ،‬وتنق رتبة اإلهلية‪ ،‬وقد كفَّر اهلل ورسوله ‪ ‬بكثري‬

‫‪-659-‬‬
‫من جنس الذنوب كالشرك وعبادة الصاحلني‪ ،‬وأخرب ‪ ‬أنه أكرب الكبائر‪،‬‬
‫كما يف الصحيحني من حديث ابن مسعود قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أي‬
‫ندا وهو خلقك‪ ،‬قال قلت‪ :‬مث أي؟ قال‪ :‬أن‬ ‫الذنب أعظم؟ قال‪ :‬أن جتعل هلل ً‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َال يَ ْدعو َن َم َع اللَّه إِ َهلًا َ‬
‫آخَر َوَال‬ ‫تزاي حبليلة جارك‪ .‬فأنزل اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫احلَ ِّق‪[ ﴾...‬الفرقان‪.]51 :‬‬ ‫س الَِّيت َحَّرَم اللَّه إَِّال بِ ْ‬
‫يَـ ْقتـلو َن النَّـ ْف َ‬
‫فمن أنكر التكفري مجلة فهو حمجوج بالكتاب والسنة‪ .‬ومن فرق بني ما فرق‬
‫اهلل ورسوله بينه من الذنوب‪ ،‬ودان حبكم الكتاب والسنة وإمجا األمة يف الفرق‬
‫أحدا بذنب‬‫بني الذنوب فقد أنصف‪ ،‬ووافق أهل السنة واجلماعة‪ ،‬وحنن ل نكفر ً‬
‫دون الشرك األكرب الذي أمجعت األمة على كفر فاعله‪ ،‬إذا قامت عليه احلجة‪،‬‬
‫وقد حكى اإلمجا على ذلك غري واحد‪ ،‬كما حكاه يف اإلعالم البن حجر‬
‫(‪)1‬‬
‫الشافعي» ‪.‬‬
‫(شبهة العتزال)‪:‬‬
‫حتقيقا مللة إبراهيم اْلليل ‪ -‬بالرباءة من املشركني‬ ‫وملا قام أئمة الدعوة ‪ً -‬‬
‫وآهلتهم اليت يعبدوهنا من دون اهلل واعتزاهلم‪ .‬صرخ الشيطان يف آذان حزبه‬
‫ومريديه‪ :‬إن هؤالء من نسل املعتزلة‪ ،‬وخرجوا من ضئضئي عمرو بن عبيد‪،‬‬
‫ت َكلِ َمةً َختْرج ِم ْن أَفْـ َو ِاه ِه ْم‬
‫وواصل بن عطاء إماما االعتزال وأهل الكالم ﴿ َكبـَر ْ‬
‫إِن يَـقولو َن إَِّال َك ِذبًا﴾ [الكهف‪.]6 :‬‬
‫قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى في أثناء رده على‬
‫واحد من المشركين يتهمهم بهذا اإلفك والبهتان‪:‬‬
‫يسمي أهل التوحيد واإلخالص النافني للشرك‪،‬‬ ‫«إن هذا امللحد املبهرج‪ِّ ،‬‬
‫املعادين ألهله‪ :‬معتزلة‪ ،‬واملعتزلة طائفة معروفة‪ ،‬ابتدعوا بنـفي القدر‪ ،‬فنفوا‬

‫(‪« )1‬انظر‪« :‬منهاج التأسيس»‪.)41 – 35( :‬‬

‫‪-652-‬‬
‫ما أثبته اهلل يف كتابه‪ ،‬وما أثبته رسوله ‪ ‬مبا جرى به القلم مبا يكون إىل‬
‫يوم القيامة‪ ،‬واعتزلوا جملس احلسن البصري‪ ،‬رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬ومسُّوا معتزلة لذلك‪،‬‬
‫فإهنم اعتزلوا أهل السنة‪ ،‬وخالفوهم فيما ذكرنا‪ ،‬وقالوا‪ :‬باملنزلة بني املنزلتني‪ ،‬قالوا‬
‫يف صاحب الكبرية فاسق ال مؤمن وال كافر‪ ،‬وقالوا‪ :‬بتخليده يف النار‪.‬‬
‫أيضا ما تواترت به األحاديث‪ :‬أن اهلل يدخل من يشاء من أهل‬ ‫وخالفوا ً‬
‫املعاصي النار‪ ،‬مث خيرجهم منها مبا معهم من التوحيد‪ ،‬فإذا جازاهم اهلل تعاىل‬
‫بإدخاهلم النار‪ ،‬ومكثهم فيها على قدر ذنوهبم‪ ،‬أخرجهم مبا معهم من التوحيد‪،‬‬
‫فأدخلهم اجلنة برمحته‪ ،‬وهذا هو الذي عليه أهل السنة واجلماعة‪ ،‬فإهنم خالفوا‬
‫هذه الطائفة وكل مبتد ‪.‬‬
‫جهما وشيعته‪ ،‬يف نفي الصفات‪ ،‬فنفوا ما أثبته‬
‫مث إن هؤالء املعتزلة‪ :‬وافقوا ً‬
‫اهلل لنفسه يف كتابه‪ ،‬وأثبته له رسوله ‪ ‬يف سنته‪ ،‬من صفات كماله‪ ،‬ونعوت‬
‫جالله‪ ،‬على ما يليق بعظمته‪ ،‬ففارقت هذه الطائفة أهل السنة‪ ،‬هبذه البد‬
‫أيضا‪ ،‬فهذا هو الذي تعلق به املبهرج‬
‫وغريها‪ ،‬فلم يثبتوا الشفاعة ألهل الكبائر ً‬
‫امللحد‪.‬‬
‫احدا‪ ،‬فظن أن من تعلق‬ ‫فإنه جعل الشرك وما دونه من الكبائر بابًا و ً‬
‫بالشفعاء‪ ،‬ورغب إليهم‪ ،‬وسأهلم أن يشفعوا له‪ ،‬أن ذلك يوجب له شفاعتهم‪،‬‬
‫فظن هذا الظن‪ ،‬أنه ال ينكر هذا إالَّ املعتزلة‪ ،‬ألهنم ينكرون الشفاعة يف أهل‬
‫الكبائر‪ ،‬على مذهبهم‪ ،‬وهذه الشفاعة أبطلها القرآن‪ ،‬فالحظ فيها ملشرك‪....‬‬
‫فاملعتزلة الذين تقدم ذكر بدعتهم‪ ،‬لسنا حبمد اهلل يف شيء من مقاالهتم‪ ،‬بل‬
‫ننكرها عليهم‪ ،‬ونعتقد أهنم خالفوا ما تواترت به النصوص‪ ،‬وتظاهرت عليه أدلة‬
‫ني يَ َديْ ِه َوَال ِم ْن َخْل ِف ِه تَن ِزيل‬
‫اطل ِمـن بَـ ْ ِ‬
‫القرآن‪ ،‬الـذي ﴿َال يأْتِ ِيه الْب ِ‬
‫َ َ‬

‫‪-653-‬‬
‫محيد﴾ [فصلت‪....]42 :‬‬ ‫ِّمن ح ِكيم َِ‬
‫ْ َ‬
‫(وجوب البراءة من المشركين)‬
‫فاحلنفاء أهل التوحيد‪ ،‬اعتزلوا هؤالء املشركني‪ ،‬ألن اهلل أوجب على أهل‬
‫التوحيد اعتزاهلم وتكفريهم والرباءة منهم‪ ،‬كما قال تعاىل عن خليله إبراهيم ‪:‬‬
‫ون اللَّ ِه َوأ َْدعو َرِّيب َع َسى أََّال أَكو َن بِد َعاء َرِّيب‬ ‫﴿وأ َْعتَ ِزلكم وما تَ ْدعو َن ِمن د ِ‬
‫ْ ََ‬ ‫َ‬
‫َش ِقيًّا﴾ [مرمي‪ ،]41 :‬إىل قوله‪﴿ :‬فَـلَ َّما ْاعتَـَزَهل ْم َوَما يَـ ْعبدو َن من دون الله﴾‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫[مرمي‪ ،]41 :‬وقال‪﴿ :‬إِنَّا بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ‬
‫ون اللَّ ِه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا‬ ‫َْ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤمنوا بالله َو ْح َده﴾ [املمتحنة‪،]4 :‬‬ ‫بَـْيـنَـنَا َوبَـْيـنَكم الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ‬
‫وقال عن أهل الكهف‪َ ﴿ :‬وإِ ِذ ْاعتَـَزلْتموه ْم َوَما يَـ ْعبدو َن إَِّال اللَّهَ فَأْووا إِ َىل‬
‫ف‪ ﴾...‬اآلية [الكهف‪.]95 :‬‬ ‫الْ َك ْه ِ‬
‫فال يتم ألهل التوحيد توحيدهم‪ ،‬إالَّ باعتزال أهل الشرك‪ ،‬وعداوهتم‬
‫وتكفريهم‪ ،‬فهم معتزلة هبذا االعتبار‪ ،‬ألهنم اعتزلوا أهل الشرك‪ ،‬كما اعتزهلم‬
‫(‪)1‬‬
‫اْلليل إبراهيم ‪. »‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪ )1‬الدرر السنية (‪.)434 -435/99‬‬

‫‪-654-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫الرد على أشهر الشبهات المثارة في حق إمام الدعوة‬
‫محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى‬

‫ولقد أشا املشركون عن إمام الدعوة رمحه اهلل تعاىل‪ :‬أنه ينهى عن الصالة‬
‫على النيب ‪ ،‬وأنه يريد أن يهدم قبته ‪ ،‬وأن الشيخ ِّ‬
‫يقرر‪ :‬أن الناس منذ‬
‫ستمائة سنة ليسوا على شيء‪ ،‬وأنه مبطل كتب املذاهب‪.‬‬
‫قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى في رده على هذه‬
‫التـ ِّرهات‪:‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬
‫حممدا ‪ ‬أن ابن صياح‪:‬‬
‫الذي يعلم من وقف عليه من اإلخوان‪ ،‬املتبعني ً‬
‫سألن عما ينسب إيل؟ فطلب من أن أكتب اجلواب‪ ،‬فكتبته‪:‬‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬أما بعد‪ :‬فما ذكره املشركون على أي أهنى عن‬
‫أمرا‪ ،‬هدمت قبة النيب ‪ ،‬أو أي‬ ‫الصالة على النيب‪ ،‬أو أي أقول‪ :‬لو أن يل ً‬
‫أتكلم يف الصاحلني‪ ،‬أو أهنى عن حمبتهم‪ ،‬فكل هذا كذب وهبتان‪ ،‬افرتاه عل َّي‬
‫الشياطني‪ ،‬الذين يريدون أن يأكلوا الناس بالباطل‪ ،‬مثل أوالد مشسان‪ ،‬وأوالد‬
‫(‪)2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫إدريس الذين يأمرون الناس ينذرون هلم‪ ،‬وينخوهنم ‪ ،‬ويندبوهنم ‪ ،‬وكذلك‬
‫فقراء الشيطان‪ ،‬الذين ينتسبون إىل الشيخ عبد القادر رمحه اهلل‪ ،‬وهو منهم‬
‫بريء‪ ،‬كرباءة علي بن أيب طالب من الرافضة‪....‬‬

‫(‪ )1‬ينخوهنم‪ ،‬أي‪ :‬يعظموهنم‪ ،‬والنخوة‪ :‬العظمة والكرب والفخر‪ .‬انظر‪ :‬لسان العرب ‪ -‬مادة (خنا)‪.‬‬
‫(‪ )2‬الندب‪ :‬فيه تعديد احملاسن‪ ،‬واالستجابة للمندوب راجع‪ :‬املصدر السابق ‪ -‬مادة (ندب)‪.‬‬

‫‪-656-‬‬
‫واجلملة‪ :‬فالذي أنكره‪ :‬االعتقاد يف غري اهلل‪ ،‬مما ال جيوز لغريه‪ ،‬فإن كنت‬
‫قلته من عندي‪ ،‬فارم به‪ ،‬أو من كتاب لقيته ليس عليه عمل فارم به كذلك‪ ،‬أو‬
‫وعما أمجع‬
‫نقلته عن أهل مذهيب فارم به‪ ،‬وإن كنت قلته عن أمر اهلل ورسوله‪َّ ،‬‬
‫عليه العلماء يف كل مذهب‪ ،‬فال ينبغي لرجل يؤمن باهلل واليوم اآلخر أن يعرض‬
‫عنه ألجل أهل زمانه‪ ،‬أو أهل بلده‪ ،‬وأن أكثر الناس يف زمانه أعرضوا عنه‪...‬‬
‫فإذا كان من اعتقد يف عيسي ابن مرمي‪ ،‬مع أنه نيب من األنبياء وندبه وخناه‬
‫فقد كفر‪ ،‬فكيف مبن يعتقدون يف الشياطني‪ ،‬كالكلب‪ :‬أيب حديدة‪ ،‬وعثمان‪،‬‬
‫الذي يف الوادي‪ ،‬والكالب األخر يف اْلرج‪ ،‬وغريهم يف سائر البلدان‪ ،‬الذين‬
‫(‪)1‬‬
‫يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اهلل؟!» ‪.‬‬
‫أيضا رحمه اهلل تعالى في رسالة بعث بها إل أهل القصيم جاء‬
‫وقال ا‬
‫فيها‪:‬‬
‫«مث ال خيفى عليكم‪ :‬أنه بلغن أن رسالة سليمان بن سحيم‪ ،‬قد وصلت‬
‫إليكم‪ ،‬وأنه قبلها وصدَّقها بعض املنتمني للعلم يف جهتكم‪ ،‬واهلل يعلم أن الرجل‬
‫أمورا ل أقلها‪ ،‬ول يأت أكثرها على بايل‪.‬‬
‫افرتى على ً‬
‫فمنها قوله‪ :‬إي مبطل كتب املذاهب األربعة‪ ،‬وإي أقول‪ :‬إن الناس من‬
‫ستمائة سنة ليسوا على شيء‪ ،‬وإي َّادعي االجتهاد‪ ،‬وإي خارج عن التقليد‪،‬‬
‫توسل بالصاحلني‪ ،‬وإي‬
‫وإي أقول‪ :‬إن اختالف العلماء نقمة‪ ،‬وإي أكفر من َّ‬
‫أكفر البوصريي لقوله‪ :‬يا أكرم اْللق‪ ،‬وإي أقول‪ :‬لو اقدر على‬
‫هدم قبة رسول اهلل ‪ ،‬هلدمتها‪ ،‬ولو أقدر على الكعبة ألخذت ميزاهبا‪ ،‬وجعلت‬
‫هلا ميزابًا من خشب‪ ،‬وإي أحرم زيارة قـرب النيب ‪ ،‬وإي أنـكر‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)41 – 44/9( :‬‬

‫‪-655-‬‬
‫(‪)1‬‬
‫أكفر‬ ‫زيارة قرب الوالدين وغريمها‪ ،‬وإي أكفر من حلف بغري اهلل‪ .‬وإي‬
‫(‪ )1‬قول الشيخ رمحه اهلل تعاىل‪ :‬وإي أكفر ابن الفارض وابن عريب‪ ،‬وكذا بعض ما جاء قبله‪ ،‬وبعض ما‬
‫جاء بعده‪ ،‬ال بد فيه من النظر‪ :‬بعني االعتبار والتأمل‪.‬‬
‫وال يسعنا يف ذلك إالَّ تأويل إمام الدعوة الثاي الشيخ عبد الرمحن بن حسن رمحهما اهلل تعاىل ‪ -‬وقد‬
‫مر علينا من قبل ‪ -‬أن هذا الكالم وأمثاله مثل‪ :‬قوله وإن كنا ال نكفر من عبد الصنم عند قرب‬
‫فالن بن فالن‪ ...‬هو من باب السياسة الشرعية القائمة على مراعاة أحوال املدعوين‪ ،‬وحىت‬
‫يتمكن اإلمام من َترين قومه على نفي الشرك‪ ،‬كيف ال وقد قرر الشيخ عبد الرمحن‪ :‬أن ابن عريب‬
‫هو إمام أهل الوحدة الذين هم أكفر أهل األرض‪ .‬اهـ‪ .‬فتح اجمليد‪( :‬ص‪.)954‬‬
‫وهذا مما يؤكد على أن الدعوة الوهابية قد مرت بفرتات متباينة يف اجلهر بأحكام التكفري‪ ،‬وال أدل على‬
‫يما ألفتيت حبل دم ابن سحيم‬ ‫ذلك من قول الشيخ حممد بن عبد الوهاب أن األمر لو كان مستق ً‬
‫مر علينا من قبل‪.‬‬‫ووجوب قتله‪ .‬وقد َّ‬
‫وأما بالنسبة لكفر إمامي الزندقة ابن عريب وابن الفارض فنكتفي هنا بذكر كالم شيخ اإلسالم ابن تيمية‬
‫يف حبث قل نظريه يف بيان كفر الرافضة واالحتادية‪ ،‬قرر فيه الشيخ أن كفرمها أعظم من كفر اليهود‬
‫مسلما يف‬
‫والنصا رى‪ ،‬بل وقد اتفق عليه سائر أهل امللل‪ ،‬بل ويضيف الشيخ إىل هذا‪ :‬أن من كان ً‬
‫الباطن‪ ،‬وهو جاهل معظم لقول إمامي الزندقة فهو منهم‪ ،‬وهبذا نقطع أن ظاهر كالم اإلمام حممد‬
‫بن عبد الوهاب غري مراد وأنه من باب املعاريض املمدوحة‪ ،‬وهلذا ختمه بقوله‪ :‬جوايب عن هذه‬
‫امل سائل أن أقول سبحانك هذا هبتان عظيم‪ ،‬فتأمل أخي بعني اإلنصاف هذه اجلملة جتد ما قررناه‬
‫صحيحا منضطبًا بفضل اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ً‬
‫يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية يف النقل املشار إليه ساب ًقا‪« :‬وهذا الذي ذكرته حال أئمتهم وقادهتم‬
‫العاملني حبقيقة قوهلم‪ ،‬وال ريب أنه قد انضم إليهم من الشيعة والرافضة من ال يكون يف الباطن‬
‫عاملا حبقيقة باطنهم‪ ،‬وال مواف ًقا هلم على ذلك‪ ،‬فيكون من أتبا الزنادقة املرتدين‪ ،‬املوايل هلم‪،‬‬
‫ً‬
‫املناصر هلم‪ ،‬مبنزلة أتبا االحتادية‪ ،‬الذين يوالوهنم ويعظموهنم‪ ،‬وينصروهنم‪ ،‬وال يعرفون حقيقة قوهلم‬
‫يف وحدة الوجود‪ ،‬وأن اْلالق هو املخلوق‪.‬‬
‫مسلما يف الباطن‪ ،‬وهو جاهل معظِّم لقول ابن عريب وابن سبعني‪ ،‬وابن الفارض وأمثاهلم من‬ ‫فمن كان ً‬
‫معظما للقائلني مبذهب احللول واالحتاد‪ ،‬فإن نسبة هؤالء إىل‬
‫أهل االحتاد فهو منهم‪ ،‬وكذا من كان ً‬
‫اجلهمية كنسبة أولئك إىل الرافضة واجلهمية‪ ،‬ولكن القرامطة أكفر من االحتادية بكثري‪ ،‬وهلذا كان‬
‫أحسن عوامهم أن يكونوا رافضة جهمية‪ ،‬وأما االحتادية ففي عوامهم من ليس برافضي‪ ،‬وال‬
‫جهمي صريح‪ ،‬ولكن ال يفهم كالمهم‪ ،‬ويعتقد أن كالمهم كالم األولياء احملققني‪ ،‬وبسط هذا‬
‫اجلواب له مواضع غري هذا‪ .‬واهلل أعلم»‪ .‬انتهى كالمه حبروفه رمحه اهلل تعاىل‪« .‬جممو الفتاوى»‪:‬‬
‫(‪ ، )944/36‬ومن أراد الوقوف على هذا البحث فلرياجع من هذا اجلزء صفحة (‪– 925‬‬
‫‪.)944‬‬

‫‪-654-‬‬
‫ابن الفارض‪ ،‬وابن عريب‪ ،‬وإي أحرق دالئل اْلريات‪ ،‬وروض الرياحني‪ ،‬وأمسيه‬
‫روض الشياطني‪.‬‬
‫جوايب عن هذه املسائل‪ ،‬أن أقول‪ :‬سبحانك هذا هبتان عظيم‪ ،‬وقبله من‬
‫يسب عيسى ابن مرمي‪ ،‬ويسب الصاحلني‪ ،‬فتشاهبت قلوهبم‬ ‫حممدا ‪ ‬أنه ُّ‬‫هبت ً‬
‫ين الَ يـ ْؤِمنو َن﴾‬ ‫بافرتاء الكذب وقول الزور‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬إَِّمنَا يـ ْف ِرتي الْ َك ِذ َّ ِ‬
‫ب الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫[النحل‪ ،]956 :‬هبتوه ‪ ‬بأنه يقول‪ :‬إن املالئكة‪ ،‬وعيسى‪ ،‬وعز ًيزا يف النار‪،‬‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ك َعْنـ َها مْبـ َعدو َن﴾‬ ‫احل ْس َى أ ْولَئِ َ‬
‫ت َهلم ِّمنَّا ْ‬ ‫فأنزل اهلل يف ذلك‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين َسبَـ َق ْ‬
‫[األنبياء‪.]959 :‬‬
‫وأما املسائل األخر وهي‪ :‬أي أقول ال يتم إسالم اإلنسان حىت يعرف معى‬
‫ال إله إالَّ اهلل‪ ،‬وأي أعرف من يأتين مبعناها‪ ،‬وأي أكفر الناذر إذا أراد بنذره‬
‫التقرب لغري اهلل‪ ،‬وأخذ النذر ألجل ذلك‪ ،‬وأن الذبح لغري اهلل كفر‪ ،‬والذبيحة‬
‫حرام‪ ،‬فهذه املسائل حق‪ ،‬وأمنا قائل هبا‪ ،‬ويل عليها دالئل من كالم اهلل وكالم‬
‫سهل اهلل تعاىل‪،‬‬ ‫رسوله‪ ،‬ومن أقوال العلماء املتبعني‪ ،‬كاألئمة األربعة‪ ،‬وإذا َّ‬
‫بسطت اجلواب عليها يف رسالة مستقلة‪ ،‬إن شاء اهلل تعاىل‪.‬‬
‫مث اعلموا وتدبَّروا قوله تعاىل‪﴿ :‬يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنوا إِن جاءكم فَ ِ‬
‫اسق بِنَبَأ‬ ‫َ َ (‪ْ َ )1‬‬ ‫َ َ‬
‫صيبوا قَـ ْوًما ِجبَ َهالَة‪ ﴾...‬اآلية [احلجرات‪. »]5 :‬‬ ‫فَـتَبـيَّـنوا أَن ت ِ‬
‫َ‬

‫(‪« )1‬الدرر السنية»‪.)36 – 33/9( :‬‬

‫‪-651-‬‬
‫ملخص مفيد ألهم مسائل وفوائد الباب الثالث‬

‫ـ ال يصح إسالم أحد إال مبعرفة ما وضع له لفظ الشهادة‪ ،‬ودل عليه‪،‬‬
‫وقبوله‪ ،‬واالنقياد للعمل به‪.‬‬
‫ـ إن النطق بكلميت الشهادة دليل العصمة ال أنه عصمة‪ ،‬أو يقال‪ :‬هو‬
‫العصمة لكن بشرط العمل‪.‬‬
‫عاصما للدم واملال‪ ،‬بل وال معرفة‬
‫ً‬ ‫ـ التلفظ بـ «ال إله إالَّ اهلل» وحده ليس‬
‫معناها مع لفظها‪ ،‬بل وال اإلقرار بذلك‪ ،‬بل وال كون املتلفظ هبا ال‬
‫يدعو إال اهلل وحده‪ ،‬بل ال حيرم ماله ودمه حىت يضيف إىل ذلك‪ :‬الكفر‬
‫مبا يعبد من دون اهلل‪ ،‬فإن شك أو تردد ل حيرم دمه وماله‪.‬‬
‫ـ أمجع العلماء‪ :‬على أن من قال ال إله إال اهلل‪ ،‬وهو مشرك أنه يقاتل حىت‬
‫يأيت بالتوحيد‪.‬‬
‫ـ من أظهر التوحيد وجب الكف عنه‪ ،‬إىل أن يتبني منه ما خيالف ذلك‪.‬‬
‫ـ التكفري برتك أصول التوحيد‪ ،‬وعدم اإلميان هبا‪ ،‬من أعظم دعائم الدين‪.‬‬
‫ـ لو عرف العبد معى‪ :‬ال إله إال اهلل لعرف أن من شك‪ ،‬أو تردد يف كفر‬
‫من أشرك مع اهلل غريه‪ ،‬أنه ل يكفر بالطاغوت‪.‬‬
‫ـ من ل يكفر املشركني‪ ،‬أو شك يف كفرهم‪ ،‬أو صحح مذهبهم كفر‪.‬‬
‫ـ أمجع العلماء‪ :‬على أن شام الرسول ‪ ‬كافر‪ ،‬وحكمه عند األئمة القتل‪،‬‬
‫ومن شك يف كفره كفر‪.‬‬
‫ـ من قال‪ :‬من أتى بالشهادتني‪ ،‬وصلى‪ ،‬وصام‪ ،‬ال جيوز تكفريه‪ ،‬وإن عبد‬
‫غري اهلل‪ ،‬فهو كافر‪ ،‬ومن شك يف كفره فهو كافر‪.‬‬

‫‪-651-‬‬
‫ـ أصول الدين‪ ،‬اليت أوضحها اهلل‪ ،‬وأحكمها يف كتابه‪ ،‬فإن حجة اهلل عليها‬
‫هي القرآن‪ ،‬فمن بلغه القرآن فقد بلغته احلجة‪.‬‬
‫ـ من دعا علي بن أيب طالب فقد كفر‪ ،‬ومن شك يف كفره فقد كفر‪.‬‬
‫ـ أهل الفرتة‪ ،‬الذين ل تبلغهم الرسالة والقرآن‪ ،‬وماتوا على اجلاهلية‪ ،‬ال‬
‫يسمون مسلمني باإلمجا ‪ ،‬وال يستغفر هلم‪ ،‬وإمنا اختلف أهل العلم يف‬
‫تعذيبهم يف اآلخرة‪.‬‬
‫ـ قال حممد بن عبد الوهاب‪ :‬كالم ابن تيمية يف عدم تكفري املعني ليس ىف‬
‫تعذيبهم ىف اآلخرة‪.‬‬
‫ـ قال حممد بن عبد الوهاب‪ :‬كالم ابن تيمية ىف تكفري املعني ليس ىف الردة‬
‫والشرك‪ ,‬بل ىف املسائل اجلزئيات‪.‬‬
‫ـ اإلسالم‪ :‬هو توحيد اهلل وعبادته وحده ال شريك له‪ ,‬واإلميان برسوله ‪,‬‬
‫واتباعه فيما جاء به‪ .‬فما ل يأت العبد هبذا فليس مبسلم‪ ,‬وإن ل يكن‬
‫معندا فهو كافر جاهل‪.‬‬ ‫كافرا ً‬
‫ً‬
‫أحدا إال بعد قيام احلجة عليه‪.‬‬
‫ـ اهلل سبحانه ال يعذب ً‬
‫ـ قيام احلجة خيتلف باختالف األزمنة‪ ،‬واألمكنة‪ ،‬واألشخاص‪.‬‬
‫ـ اهلل سبحانه ل يعذر أهل اجلاهلية‪ ،‬الذين ال كتاب هلم بفعل الشرك‬
‫األكرب‪ ،‬فكيف يعذر أمة‪ ،‬كتاب اهلل بني أيديهم يقرؤونه ويسمعونه‪.‬‬
‫ـ املشرك نفى ما أثبتته «ال إله إال اهلل»‪ ،‬وأثبت ما نفته «ال إله إال اهلل»‪.‬‬
‫ـ كل كافر قد أخطأ‪ ،‬واملشركون ال بد هلم من تأويالت‪ ،‬فلم يعذروا بذلك‬
‫اْلطأ‪ ،‬وال بذلك التأويل‪.‬‬
‫كفرا‪،‬‬
‫كفرا‪ ،‬أو فعل ً‬ ‫ـ ل يقل أحد من العلماء يف باب املرتد‪ :‬أنه إذا قال ً‬
‫وهو ال يعلم أنه يضاد الشهادتني‪ ،‬أنه ال يكفر جلهله‪.‬‬
‫ـ إن اإلنسان يكفر بكملة خيرجها من لسانه‪ ،‬وقد يقوهلا وهو جاهل‬

‫‪-645-‬‬
‫مبعناها‪ ،‬فال يعذر باجلهل‪ ،‬وقد يقوهلا وهو يظن أهنا تقربه إىل اهلل‪.‬‬
‫ـ ال جيوز التقليد يف الشرك ألنه تركه هو أصل األصول‪ ،‬وال عذر ملكلف يف‬
‫اجلهل حبرمته‪.‬‬
‫مقلدا‪ ،‬أو‬
‫جمتهدا‪ ،‬أو خمطئًا‪ ،‬أو ً‬ ‫ـ املدعي‪ :‬أن مرتكب الكفر متأوالً‪ ،‬أو ً‬
‫جاهالً معذور‪ ،‬خمالف للكتاب والسنة واإلمجا بال شك‪ ،‬مع أنه ال بد‬
‫أن ينقض أصله‪ ،‬فلو طرد اصله كفر فال ريب‪.‬‬
‫ـ كل من بلغه القرآن‪ ،‬فليس مبعذور يف األصول الكبار‪ ،‬اليت هي أصل دين‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫ـ عدم تكفري املعني حىت تقام احلجة‪ ،‬ال يكون إال يف املسائل اليت قد خيفى‬
‫دليلها على بعض الناس‪ ،‬كما يف مسائل القدر‪ ،‬واإلرجاء‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫ـ ظاهر اآليات‪ ،‬واألحاديث‪ ،‬وكالم مجهور العلماء يدل‪ :‬على كفر من‬
‫أشرك باهلل فعبد معه غريه‪ ،‬ول تفرق األدلة بني املعني‪ ،‬وغريه‪.‬‬
‫ـ ل يستثن العلماء اجلاهل من حكم الكفر إذا عبد مع اهلل غريه‪ ،‬بل وكفروه‬
‫بعينه‪ ،‬وذلك مبسوط يف كتب الفقه يف باب املرتد‪.‬‬
‫ـ من عبد غري اهلل فهو مشرك شرًكا أكرب‪ ،‬ال تصح صالته يف نفسه‪ ،‬فال‬
‫جيوز االئتمام به يف الصالة‪ ،‬وال تصح الصالة وراءه لشركه‪.‬‬
‫ـ من دعا غري اهلل عبادة فهو مشرك مرتد عن اإلسالم‪ ،‬ال حيل األكل من‬
‫ذبيحته ألهنا ميتة‪ ،‬ولو ذكر اسم اهلل عليها‪.‬‬
‫ـ البلد الذي يظهر فيه الشرك‪ ،‬ويعلم فيه باحملرمات‪ ،‬ويعطل فيه مصاحل‬
‫الدين‪ ،‬يكون بلد كفر‪.‬‬
‫ـ دار اإلسالم‪ :‬هي اليت جتري أحكام اإلسالم فيها‪ ،‬وإن ل يكن أهلها‬
‫مسلمني‪،‬‬

‫‪-649-‬‬
‫وغريها دار كفر‪.‬‬
‫ـ قال اإلمام مالك‪ :‬ال حيل ألحد أن يقم بأرض يسب فيها السلف‪.‬‬
‫ـ قال اإلمام ابن كثري‪ :‬كل من أقام بني ظهراي املشركني‪ ،‬وهو قادر على‬
‫اهلجرة‪ ،‬وليس متمكنًا من إقامة الدين‪ ،‬فهو ظال لنفسه‪ ،‬مرتكب حر ًاما‬
‫باإلمجا ‪.‬‬
‫مظهرا للدين يف دار الكفر‪ ،‬حىت خيالف كل طائفة مبا‬ ‫ـ ال يكون املسلم ً‬
‫اشتهر عنها من الضالل‪ ،‬ويصرح هلا بالعداوة‪.‬‬
‫ـ إذا كان املوحد بني ظهراي أناس من املبتدعة واملشركني‪ ،‬وهو عاجز عن‬
‫اهلجرة‪ ،‬فعليه بتقوى اهلل‪ ،‬ويعتزهلم ما استطا ‪ ،‬ويعمل مبا وجب عليه يف‬
‫نفسه‪ ،‬ومع من يوافقه على دينه‪ ،‬وعليهم الصرب على األذى حىت جيعل‬
‫اهلل هلم خمرجا‪.‬‬
‫ـ قال ابن كثري‪ :‬إن ل جتانبوا املشركني‪ ،‬وتوالوا املؤمنني‪ ،‬وإال وقعت الفتنة يف‬
‫الناس‪ ،‬وهو التباس األمر‪ ،‬واختالط املسلم بالكافر‪ ،‬ويف ذلك ضعف‬
‫للدين‪ ،‬وقوة للكافرين‪.‬‬
‫مكرها لقتال املسلمني‪ ،‬فحكمه حكم الكفار يف‬ ‫ـ من خرج من املشركني ً‬
‫القتل‪ ،‬وأخذ املال ال يف الكفر‪ ،‬وأما إن خرج معهم لقتال املسلمني‬
‫اختيارا‪ ،‬وأعاهنم ببدنه وماله‪ ،‬فال شك أن حكمه حكمهم يف‬ ‫طوعا و ً‬ ‫ً‬
‫الكفر‪.‬‬
‫ـ إن اهلل أمر بقتال املشركني حىت يتوبوا من الشرك‪ ،‬وخيلصوا أعماهلم هلل‬
‫تعاىل‪ ،‬ويقيموا الصالة‪ ،‬ويؤتوا الزكاة‪ ،‬فإن أبوا عن ذلك‪ ،‬أو بعضه‪ ،‬قوتلوا‬
‫إمجاعا‪.‬‬
‫ً‬
‫ـ قال ابن تيمية يف حق التتار‪ :‬كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع اإلسالم‬

‫‪-642-‬‬
‫الظاهرة املتواترة‪ ،‬من هؤالء القوم أو غريهم‪ ،‬فإنه جيب قتاهلم حىت يلتزموا‬
‫شرائعه‪ ،‬وإن كانوا مع ذلك ناطقني بالشهادتني‪ ،‬وملتزمني ببعض‬
‫شرائعه‪ ،‬كما قاتل أبو بكر والصحابة ‪ ‬مانعي الزكاة؛ وعلى ذلك اتفق‬
‫الفقهاء بعدهم‪.‬‬
‫ـ قال ابن تيمية‪ :‬إن جمرد االعتصام باإلسالم مع عدم التزام شرائعه‪ ،‬ليس‬
‫مبسقط للقتال‪ ،‬فالقتال واجب حىت يكون الدين كله هلل‪ ،‬وحىت ال تكون‬
‫فتنة‪ ،‬فمىت كان الدين لغري اهلل فالقتال واجب‪.‬‬
‫ـ إن مما يوجب اجلهاد ملن اتصف به‪ :‬عدم تكفري املشركني‪ ،‬أو الشك يف‬
‫كفرهم‪ ،‬فإن ذلك من نواقض اإلسالم ومبطالته‪ ،‬فمن اتصف به فقد‬
‫وحل دمه وماله‪.‬‬
‫كفر‪ ،‬ي‬
‫ـ إن مما يوجب اجلهاد ملن اتصف به‪ :‬مظاهرة املشركني‪ ،‬وإعانتهم على‬
‫املسلمني‪ ،‬بيد‪ ،‬أو بلسان‪ ،‬أو بقلب‪ ،‬أو مبال‪ ،‬فهذا كفر خمرج من‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫ـ الردة‪ :‬هي الكفر بعد اإلسالم‪ ،‬وتكون بالقول‪ ،‬والفعل‪ ،‬واالعتقاد‪،‬‬
‫والشك‪ .‬وليس من شرطها أن يقول املرتد‪ :‬ارتددت عن دين‪ ،‬لكن لو‬
‫قال ذلك‪ ،‬اعترب قوله من أنوا الردة‪.‬‬
‫ـ احلنفاء أهل التوحيد‪ :‬اعتزلوا أهل الشرك‪ ،‬ألن اهلل أوجب على أهل التوحيد‬
‫اعتزاهلم‪ ،‬وتكفريهم‪ ،‬والرباءة منهم‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪-643-‬‬
-644-
‫الخاتمة‬

‫أسأل اهلل العلى القدير‪ :‬أن أكون قد وفقت يف عرض وإبانة مشولية منهج‬
‫أئمة الدعوة ‪ -‬رمحهم اهلل تعاىل ‪ -‬وأن أكون قد سامهت ولو بقدر ضئيل يف‬
‫تقدمي منهج‪ ،‬وسط‪ ،‬مستقيم يف االعتقاد واألحكام‪ ،‬يصلح أن تنتهجه األمة‬
‫وتصار من قِبَل كافة امللل والنحل‪ ،‬اْلارجة عن هدف‬ ‫َ‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬وهي تصا ِر‬
‫وجود البشرية‪ ،‬واملرتدة عن فطرة اْلليقة‪ ،‬فطرة اهلل‪ ،‬اليت فطر الناس عليها‪.‬‬
‫وال شك أن وسطية‪ ،‬وخريية هذا الرتاث تعود إىل اعتماد أصحابه يف‬
‫االعتقاد‪ ،‬واملسائل‪ ،‬والدالئل على الكتاب والسنة بفهم أصحاب الثالثة القرون‬
‫األوىل‪ ،‬قرون اْلريية واالستقامة‪.‬‬
‫وأريد أن ألفت نظر إخواي الكرام‪ ،‬بعد سؤال كثري منهم عن الكتاب الذي‬
‫نوهت بذكره يف هناية كتاب «فتاوى األئمة النجدية»‪ ،‬اْلاص «بتقريب تراث‬
‫شيخ اإلسالم ابن تيمية يف االعتقاد واألحكام» أي لظروف معينة اضطررت أن‬
‫أخرجه يف صورة رسائل متسلسلة ‪ -‬إن شاء اهلل وأعان ‪ -‬وإن كنت أَتى أن‬
‫ولكن اهلل املستعان‪ ،‬وعليه التكالن‪.‬‬
‫أخرجه كامالً‪ْ ،‬‬
‫يل بالدعاء إىل من بيده ملكوت السماوات‬ ‫وأَتى من إخواي أن ال يبخلوا ي‬
‫واألرض أن يعينن على التوفيق‪ ،‬واإلخالص والسداد يف إخراج هذا الكتاب على‬
‫الوجه الالئق برتاث شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬ذلك العال الرباي‪ ،‬الذي طاملا‬
‫واجه الطواغيت‪ ،‬واملنافقني‪ ،‬والكفار‪ ،‬واملشركني‪ ،‬واملالحدة‪ ،‬واملبتدعني‪ ،‬حيًا‬
‫وميتًا‪.‬‬

‫‪-646-‬‬
‫وأبشركم بأن الرسالة األوىل قد انتهيت منها بفضل اهلل‪ ،‬وهي حتت الطبع‬
‫اآلن إن شاء اهلل تعاىل‪.‬‬
‫خالصا‪ ،‬وأن ال جيعل‬
‫ً‬ ‫أسأل اهلل سبحانه أن جيعل هذا العمل صاحلًا‪ ،‬ولوجه‬
‫ذخرا طيبًا يل‪،‬‬
‫فيه ألحد من دونه من شيء‪ ،‬وأن يبارك فيه‪ ،‬وأن جيعله ً‬
‫وعتقا لنا من النريان يف اآلخرة‪.‬‬
‫وألوالدي‪ ،‬وألهلي يف الدنيا‪ً ،‬‬

‫أخوكم أبو يوسف‬


‫مدحت بن الحسن آل فراج‬
‫الرياض ‪ 66327‬ص‪.‬ب‪ 2167‬جوال ‪6061742150‬‬
‫‪Abo-yosef2003@hotmail.com‬‬

‫‪-645-‬‬
‫فهرس المراجع والمصادر‬
‫ـ تيسري الكرمي الرمحن يف تفسري كالم املنَّان ‪ -‬لعبد الرمحن بن ناصر‬
‫السعدي ‪ -‬تقدمي‪ :‬حممد زهري النجار‪ ،‬الناشر‪ :‬دار املدي‪ ،‬سنة الطبع‬
‫‪9451‬هـ ‪9111 -‬م‪.‬‬
‫ـ الدرر السنية يف األجوبة النجدية ‪ -‬جمموعة رسائل ومسائل علماء جند‬
‫األعالم‪ ،‬من عصر‪ :‬الشيخ حممد بن عبد الوهاب إىل عصرنا هذا ‪-‬‬
‫مجع‪ :‬عبد الرمحن بن حممد بن قاسم العاصمي القحطاي النجدي‬
‫احلنبلي ‪ -‬الطبعة اْلامسة سنة الطبع‪9493 :‬هـ ‪9112 -‬م‪.‬‬
‫ـ جمموعة الرسائل واملسائل النجدية ‪ -‬لبعض علماء جند األعالم ‪ -‬أشرف‬
‫على إعادة الطبع‪ :‬عبد السالم بن برجس بن ناصر آل عبد الكرمي ‪-‬‬
‫الناشر‪ :‬دار العاصمة (الرياض) ‪ -‬الطبعة الثانية يف عام‪9451 :‬هـ‪.‬‬
‫ـ مؤلفات الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب ‪ -‬قام على تصحيحها‬
‫وطباعتها‪ :‬عبد العزيز زيد الرومي‪ ،‬د‪ .‬حممد بلتاجي‪ ،‬د‪ .‬سيد حجاب‪،‬‬
‫الناشر‪ :‬جامعة اإلمام حممد بن سعود اإلسالمية‪.‬‬
‫ـ جمموعة التوحيد ‪ -‬جمموعة رسائل البن تيمية‪ ،‬وحممد بن عبد الوهاب‬
‫وأحفاده ‪ -‬الناشر‪ :‬دار العليان للنشر والنسخ والتصوير (القصيم ‪-‬‬
‫بريدة)‪.‬‬
‫ـ عقيدة املوحدين والرد على الضالل املبتدعني‪ :‬مكتبة الطرفني (الطائف) ‪-‬‬
‫الطبعة األوىل ‪ -‬سنة الطبع‪9499 :‬هـ ‪9119 -‬م‪.‬‬
‫ـ تيسري العزيز احلميد يف شرح كتاب التوحيد ‪ -‬سليمان بن عبد اهلل بن‬
‫حممد بن عبد الوهاب ‪ -‬حتقيق‪ :‬جمدي بن منصور بن سيد الشورى ـ‬

‫‪-644-‬‬
‫الناشر‪ :‬دار الكتب العلمية (بريوت ‪ -‬لبنان) ‪ -‬الطبعة األوىل ‪ -‬سنة‬
‫الطبع‪9495 :‬هـ ‪9115 -‬م‪.‬‬
‫ـ فتح اجمليد شرح كتاب التوحيد ‪ -‬عبد الرمحن بن حسن بن حممد ابن عبد‬
‫الوهاب ‪ -‬حتقيق‪ :‬حممد حامد الفقي ‪ -‬تعليق‪ :‬عبد العزيز بن عبد اهلل‬
‫بن باز ‪ -‬الناشر‪ :‬مكتبة الرتاث اإلسالمي (القاهرة)‪.‬‬
‫ـ التوحيد وقرة عيون املوحدين يف حتقيق دعوة األنبياء واملرسلني ‪ -‬عبد‬
‫الرمحن بن حسن بن حممد بن عبد الوهاب ‪ -‬حتقيق‪ :‬بشري حممد عون ‪-‬‬
‫الناشر‪ :‬مكتبة املؤيد (الطائف)‪ ،‬ومكتبة دار البيان (دمشق) ‪ -‬الطبعة‬
‫األوىل ‪ -‬سنة الطبع‪9499 :‬هـ ‪9115 -‬م‪.‬‬
‫ـ منهاج التأسيس والتقديس يف كشف شبهات داود بن جرجيس ‪ -‬للشيخ‬
‫عبد اللطيف بن عبد الرمحن بن حسن بن حممد بن عبد الوهاب ‪-‬‬
‫الناشر‪ :‬دار اهلداية للطبع والنشر والرتمجة (الرياض) ‪ -‬الطبعة الثانية ‪-‬‬
‫سنة الطبع‪9454 :‬هـ ‪9114 -‬م‪.‬‬
‫ـ كشف الشبهتني ‪ -‬سليمان بن سحمان النجدي احلنبلي ‪ -‬صححه‪:‬‬
‫عبد السالم بن برجس بن ناصر آل عبد الكرمي ‪ -‬الناشر‪ :‬دار العاصمة‬
‫(الرياض) الطبعة األوىل ‪ -‬سنة الطبع‪9451 :‬هـ‪.‬‬
‫ـ فتاوى ورسائل حممد بن إبراهيم ‪ -‬مجع وحتقيق وترتيب‪ :‬حممد بن عبد‬
‫الرمحن بن قاسم ‪ -‬مطبعة احلكومة مبكة املكرمة ‪ -‬الطبعة األوىل ‪ -‬سنة‬
‫الطبع‪9311 :‬هـ‪.‬‬
‫ـ فتاوى عبد اهلل بن محيد ‪ -‬مجعها‪ :‬عمر بن حممد بن عبد الرمحن القاسم ‪-‬‬
‫الناشر‪ :‬دار القاسم للنشر (الرياض) ‪ -‬الطبعة األوىل ‪ -‬سنة الطبع‪:‬‬
‫‪9491‬هـ‪.‬‬

‫‪-641-‬‬
‫ـ فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء ‪ -‬مجع وترتيب‪ :‬أمحد بن‬
‫عبد الرزاق الدويش ‪ -‬الناشر‪ :‬الرئاسة العامة إلدارات البحوث العلمية‬
‫واإلفتاء والدعوة واإلرشاد (الرياض) ‪ -‬طبع‪ :‬مكتبة املعارف بالرياض ‪-‬‬
‫الطبعة األوىل ‪ -‬سنة الطبع‪9499 :‬هـ‪.‬‬
‫ـ جممو فتاوى ومقاالت متنوعة ‪ -‬لعبد العزيز بن عبد اهلل بن باز ‪ -‬مجع‬
‫وإشراف‪ :‬د‪ .‬حممد بن سعد الشويعر ‪ -‬الناشر‪ :‬مكتبة املعارف للنشر‬
‫والتوزيع (الرياض) الطبعة الثانية ‪ -‬سنة الطبع‪9491 :‬هـ ‪9114 -‬م‪.‬‬
‫ـ نقد القومية العربية على ضوء اإلسالم والواقع ‪ -‬عبد العزيز بن عبد اهلل ابن‬
‫باز ‪ -‬الناشر‪ :‬املكتب اإلسالمي ‪ -‬الطبعة السادسة ‪ -‬سنة الطبع‪:‬‬
‫‪9451‬هـ ‪9111 -‬م‪.‬‬
‫ـ الكنز الثمني‪ :‬جممو فتاوى ورسائل عبد اهلل بن عبد الرمحن اجلربين ‪ -‬مجع‬
‫وإعداد‪ :‬أبو أنس على بن حسن أبو لوز ‪ -‬الناشر‪ :‬مكتبة الصقر‬
‫السعودية (الرياض) ‪ -‬الطبعة األويل ‪ -‬سنة الطبع‪9494 :‬هـ‪.‬‬
‫ـ جممو فتاوى ورسائل حممد بن صاحل العثيمني ‪ -‬مجع‪ :‬فهد بن ناصر‬
‫السليمان ‪ -‬الناشر‪ :‬دار الوطن للنشر (الرياض) ‪ -‬الطبعة الثالثة ‪ -‬سنة‬
‫الطبع‪9499 :‬هـ‪.‬‬
‫ـ اإلرشاد إىل تصحيح االعتقاد ‪ -‬صاحل بن فوزان بن عبد اهلل الفوزان ‪-‬‬
‫الناشر‪ :‬دار ابن اجلوزي (الدمام) ‪ -‬الطبعة الرابعة ‪ -‬سنة الطبع‪:‬‬
‫‪9425‬هـ ‪9111 -‬م‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪-641-‬‬
-615-
‫فهرست الموضوعات‬

‫مقدمة املختصر ‪4 .......................................................‬‬


‫املـقـدمـة ‪1 ..............................................................‬‬
‫ترمجة اإلمام شيخ اإلسالم ‪24 ............................................‬‬
‫حممد بن عبد الوهاب ‪ -‬رمحه اهلل تعاىل ـ ‪24 ...............................‬‬
‫الباب األول ‪35 ..........................‬‬
‫أصول اإلسالم والتوحيد واإلميان ‪35 ......................................‬‬
‫مقدمة ‪32 .............................................................‬‬
‫أحوال املشركني بني التبديل والتغيري ‪32 ....................................‬‬
‫(مدخل ضروري وهام لفهم وبيان قضية التوحيد) ‪32 .......................‬‬
‫املأمول من هذه املق يدمة ‪34 ..............................................‬‬
‫املبحث األول‬
‫لقد مأل الشرك األرض‪ ،‬قاصيها ودانيها‪36 ............................... ،‬‬
‫وللشيطان ما يبذل من أهله‪ ،‬وليس للرمحن من ذلك نصيب ‪36 ..............‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫لقد دار الناس مع أمساء‪ ،‬قد خلت من حقائقها ومدلوالهتا ‪31 ...............‬‬
‫الفصل األول‬
‫حقيقة اإلسالم وشروط قبوله ‪42 .........................................‬‬
‫املبحث األول‬
‫حقيقة اإلسالم الفارقة بني املوحدين املسلمني واملشركني الكافرين ‪44 .........‬‬
‫املبحث الثاي‬

‫‪-619-‬‬
‫شروط صحة اإلسالم وقبوله ‪45 ..........................................‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫الرباءة من الشرك وأهله ‪41 ..............................................‬‬
‫شرط يف صحة اإلسالم وقبوله باإلمجا ‪41 ................................‬‬
‫الفصل الثاي‬
‫حقيقة التوحيد وأركانه ومقتضياته وأنواعه ‪62 ...............................‬‬
‫مدخل مفيد لفهم قضية التوحيد ‪64 ......................................‬‬
‫املبحث األول‬
‫معى اإلله الذي ينبغي معرفته‪ ،‬والعمل مبوجبه‪66 .......................... ،‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫ُّ‬
‫حد العبادة وكيفية القيام هبا ‪65 ..........................................‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫من شروط صحة العبادة‪ :‬الكفر بالطاغوت‪61 ........................... ،‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫حقيقة التوحيد‪ ،‬وأنواعه‪ ،‬وحدود العالقة بينها ‪55 ..........................‬‬
‫املبحث اْلامس‬
‫كمال اهلل املطلق من مجيع الوجوه أوجب له سبحانه وحدانيته ‪53 ............‬‬
‫املبحث السادس‬
‫أصول التوحيد العاصمة من الشرك والتنديد ‪56 ............................‬‬
‫املبحث السابع‬
‫شروط وأركان كلمة «ال إله إال اهلل» مع بيان أن املقصود األعظم‬
‫املبحث الثامن‬
‫أحوال وأصناف الناطقني بكلمة التوحيد ‪44 ...............................‬‬

‫‪-612-‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫كيفية اإلميان بالرسالة وحتقيق أركاهنا ومقتضياهتا ‪41 ........................‬‬
‫املبحث األول‬
‫نعمة بعثة الرسل‪ ،‬وحاجة الناس املاسة إليها ‪15 ............................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫علة بعثته‪ ،‬ودالئل نبوته ‪19 ........................................... ‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫مقتضيات الشهادة بالنبوة ولوازمها ‪14 ....................................‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫اإلميان بوحدانية اهلل يف ربوبيته وألوهيته ‪15 .................................‬‬
‫املبحث اْلامس‬
‫كيف بلغ النيب ‪ ‬التوحيد ‪11 ...........................................‬‬
‫وصان جنابه من أي حدث دخيل عليه؟ ‪11 ..............................‬‬
‫املبحث السادس‬
‫حكم من سب النيب ‪ ،‬أو استهزأ حبكم من أحكامه ‪19 ...................‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫أصول اإلميان ومقتضياته ولوازمه ‪14 ......................................‬‬
‫َتهيد هام لسرب أغوار قضية اإلميان ‪15 ....................................‬‬
‫املبحث األول‬
‫اإلميان قول وعمل‪ ،‬يزيد بالطاعة‪ ،‬وينق باملعصية ‪11 ......................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫اإلسالم واإلميان وحدود العالقة بينهما ‪952 ...............................‬‬
‫املبحث الثالث‬

‫‪-613-‬‬
‫أصل اإلميان الذي ال يصح إال بتحقيقه‪954 ..............................‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫وجوب التباين بني أصل اإلميان وشعبه ‪951 ...............................‬‬
‫املبحث اْلامس‬
‫حكم االستثناء يف اإلميان ‪992 ..........................................‬‬
‫املبحث السادس‬
‫كلما عظم اإلميان‪ ،‬اشتد اْلوف من الكفر والنفاق ‪996 ...................‬‬
‫الفصل اْلامس‬
‫الطاغوت وصفة الكفر به ‪991 ..........................................‬‬
‫املبحث األول‬
‫معى الطاغوت وبعض أفراده ‪925 .......................................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫رءوس الطواغيت‪ ،‬وصفة الكفر هبا ‪924 ..................................‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫تكفري الطاغوت وشيعته‪ ،‬والرباءة منهم‪ ،‬شرط يف صحة اإلسالم ‪924 ........‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫الكفر بالطاغوت شطر التوحيد‪ ،‬والتوحيد أساس اإلميان ‪921 ...............‬‬
‫الفصل السادس‬
‫احلكم هلل وحده وحكم من بدل شرائع اإلسالم ‪932 .......................‬‬
‫املبحث األول‬
‫الطاعة يف التحليل والتحرمي ‪934 .........................................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫أمر اهلل املؤمنني برد كل ما تناوعوا فيه من أصول دينهم ‪935 ................‬‬

‫‪-614-‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫من أعظم الفساد يف األرض‪ :‬التحاكم إىل غري اهلل ورسوله‪931 ............ ،‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫من خرج عن حكم اهلل‪ ،‬وعدل إىل ما سواه من األحكام اجلاهلية ‪942 .......‬‬
‫املبحث اْلامس‬
‫أميا طائفة امتنعت عن شريعة من شرائع اإلسالم ‪962 ......................‬‬
‫الفصل السابع‬
‫حقيقة الوالء والرباء ‪966 ................................................‬‬
‫املبحث األول‬
‫األدلة الدالة من القرآن والسنة‪ ،‬والسرية النبوية ‪964 ........................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫مواالة املسلمني‪ ،‬والرباءة من املشركني ‪959 ................................‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫الرباءة من املشركني شرط لصحة التوحيد وقبوله ‪954 .......................‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫مواالة املشركني وصوره املكفرة‪ ،‬والغري مكفرة‪951 ..........................‬‬
‫املبحث اْلامس‬
‫مواالة املشركني املنتسبني للملة ‪949 ......................................‬‬
‫املبحث السادس‬
‫إذا تعذر علو التوحيد‪ ،‬وإظهار الرباءة من املشركني يف بلد ‪944 ..............‬‬
‫الفصل الثامن‬
‫األمساء والصفات ‪941 .................................................‬‬
‫ومنهج السلف يف اإلميان هبا ‪941 .......................................‬‬

‫‪-616-‬‬
‫املبحث األول‬
‫منهج السلف الصاحل يف اإلميان بأمساء اهلل وصفاته ‪919 ....................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫داللة أمساء اهلل احلسى وصفاته العال‪914 .................................‬‬
‫على أنه املعبود وحده بال شريك ‪914 ....................................‬‬
‫الفصل التاسع‬
‫القضاء والقدر ومنهج السلف يف اإلميان به ‪914 ..........................‬‬
‫املبحث األول‬
‫قواعد السلف الذهبية يف اإلميان بالقضاء والقدر ‪911 ......................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫وجوب التسليم لقضاء اهلل‪ ،‬ومقدوراته العامة ‪916 .........................‬‬
‫«باب ما جاء يف اللَّو» ‪916 ............................................‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫مثرات اإلميان بالقضاء والقدر ‪911 .......................................‬‬
‫ملخ مفيد ‪259 .....................................................‬‬
‫ألهم مسائل‪ ،‬وفوائد الباب األول ‪259 ...................................‬‬
‫الباب الثاني‬
‫الشرك واملشركون ‪251 ..................................................‬‬
‫الفصل األول‬
‫حد الشرك ودرجاته وأنواعه وأحكامه ‪299 ................................‬‬ ‫ُّ‬
‫املبحث األول‬
‫تعريف الشرك ‪293 .....................................................‬‬
‫املبحث الثاي‬

‫‪-615-‬‬
‫الشرك أكرب الكبائر‪ ،‬وبيان علة عدم مغفرته ‪294 ..........................‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫أنوا الشرك ودرجاته وأحكامه ‪229 ......................................‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫خطر الشرك‪ ،‬ووجوب احلذر منه بتجنب أسبابه ‪225 ......................‬‬
‫الفصل الثاي‬
‫العلم سبيل النجاة من الشرك ‪221 .......................................‬‬
‫وإال وقع باجلهل والتلبيس وتغيري احلقائق ‪221 .............................‬‬
‫املبحث األول‬
‫الناس مكلفون مبعرفة الشرك‪ ،‬حىت تتحقق الرباءة منه‪239 ................. ،‬‬
‫فهي أصل األصول االعتقادية‪ ،‬وال يصح إسالم املرء إال بالقيام هبا ‪239 ......‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫كيف دخل الشرك يف األمة؟ ‪233 .......................................‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫الغلو‪ :‬من أعظم أسباب املروق من اإلسالم‪235 ......................... ،‬‬
‫(باب) ما جاء أن سبب كفر بن آدم‪234 ...............................‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫اختاذ الوسائط جللب املنافع ودفع املضار ‪245 .............................‬‬
‫املبحث اْلامس‬
‫ضرورة التحذير من الشرك ووسائله ‪243 ..................................‬‬
‫املبحث السادس‬
‫التحذير من ألفاظ ال ينبغي أن تقال يف حق اهلل سبحانه ‪269 ..............‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫‪-614-‬‬
‫الفتنة بالقبور‪ ،‬واملفاسد املرتتبة عليها‪266 ................................ ،‬‬
‫مع الرد على أشهر شبهات أهلها ‪266 ...................................‬‬
‫املبحث األول‬
‫تعظيم القبور من أعظم أسباب الشرك‪ ،‬وعبادة األوثان ‪264 ................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫ال جيوز ختصي القبور بنو من عبادة اهلل سبحانه ‪261 ....................‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫حرمة اختاذ القبور مساجد ‪253 ..........................................‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫أشهر شبهات أهل القبور‪ ،‬والرد الباهر عليها ‪249 .........................‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫الشفاعة‪ ،‬أنواعها‪ ،‬وشروطها وأسباب حتصيلها‪ ،‬وموانع احلرمان منها ‪214 .....‬‬
‫املبحث األول‬
‫الشفاعة شروطها وأنواعها ‪211 ..........................................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫عدم فقه الفرق بني الشفاعة عند اْلالق ‪213 ..............................‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫الفرق بني الشفاعة املثبتة‪ ،‬واملنفية يف القرآن العظيم ‪214 ....................‬‬
‫الفصل اْلامس‬
‫املشرك مغبون يف دينه إلخالله ‪353 ......................................‬‬
‫املبحث األول‬
‫جيب إخالص مجيع أنوا العبادة هلل وحده ‪356 ............................‬‬
‫املبحث الثاي‬

‫‪-611-‬‬
‫كل من عبد غري اهلل‪ ،‬فقد أخل بكل شروط الكلمة العاصمة‪351 ......... ،‬‬
‫الفصل السادس‬
‫أشهر شبهات املشركني وعلمائهم ‪393 ...................................‬‬
‫مع سهام الردود عليها ‪393 .............................................‬‬
‫املبحث األول‬
‫الرد على أشهر شبهات املشركني ‪396 ....................................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫الرد على أشهر شبهات علماء املشركني ‪323 ..............................‬‬
‫الفصل السابع‬
‫األدلة اجللية من الشريعة الربانية ‪331 .....................................‬‬
‫املبحث األول‬
‫داللة الكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬واإلمجا ‪ ،‬بفهم األئمة العلماء‪349 ................ ،‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫فعل اإلنسان يف الظاهر دليل على عقيدته يف الباطن ‪345 ..................‬‬
‫الفصل الثامن‬
‫علة قتال املشركني‪ ،‬ووجوب الرباءة منهم‪341 ............................ ،‬‬
‫املبحث األول‬
‫اآلثار الوخيمة النامجة عن اْلروج على أصل الوالء والرباء ‪369 ..............‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫اإلمجا على حرمة التحيز للمشركني‪ ،‬وجمامعتهم‪364 ..................... ،‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫تعريف دار الشرك‪ ،‬وواجب املسلمني حنوها ‪355 ..........................‬‬
‫املبحث الرابع‬

‫‪-611-‬‬
‫وجوب قتال املشركني حىت يكون الدين كله هلل ‪354 .......................‬‬
‫ملخ مفيد ألهم مسائل وفوائد الباب الثاي ‪351 ........................‬‬
‫الباب الثالث‬
‫األحكام املرتتبة ‪343 ...................................................‬‬
‫على مفهوم التوحيد والشرك ‪343 ........................................‬‬
‫الفصل األول‬
‫شروط عصمة الدم واملال ‪346 ..........................................‬‬
‫املبحث األول‬
‫شروط عصمة الدم واملال ‪344 ..........................................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫اللفظ اجملرد عن املعى ال يدخل صاحبه يف اإلسالم ‪315 ...................‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫اقرتان النطق بالشهادتني مع فعل الشرك‪ ،‬ال أثر له ‪314 ....................‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫من أتى بالتوحيد ول يأت مبا ينافيه والتزم شرائع اإلسالم ‪315 ...............‬‬
‫الفصل الثاي‬
‫حكم الشك يف كفر الكافر‪ ،‬وصوره‪311 ................................ .‬‬
‫املبحث األول‬
‫تكفري املشركني املستند إىل الربهان والدليل من أعظم دعائم الدين ‪319 ......‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫حكم الشك يف كفر الكافر‪ ،‬وصوره ومناطاته‪ ،‬وبأدىن نظر فيها‪314 .........‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫مىت يعذر الشاك يف كفر الكافر ‪314 .....................................‬‬

‫‪-615-‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫عدم تكفري املشركني‪ ،‬أو الشك يف كفرهم‪ ،‬يوجب اجلهاد ألهله ‪459 ........‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫العذر باجلهل ‪453 .....................................................‬‬
‫املبحث األول‬
‫الزمان‪ ،‬زمان فرتة ‪456 ..................................................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫حكم من مات يف الفرتة مشرًكا ول تقم عليه حجة البالغ ‪455 .............‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫من َعبَد غري اهلل فليس مبسلم‪ ،‬ولو كان جاهالً ‪451 .......................‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫مقتطفات من رساليت إلمامني من أئمة الدعوة يف حكم العذر باجلهل ‪494 ...‬‬
‫مقتطفات من الرسالة األوىل ‪491 ........................................‬‬
‫(حكم تكفري املعني والفرق بني قيام احلجة‪ ،‬وفهم احلجة) ‪491 .............‬‬
‫مقتطفات من الرسالة الثانية بقلم الشيخ عبد الرمحن بن حسن بن حممد بن عبد‬
‫الوهاب ‪432 ..........................................................‬‬
‫املبحث اْلامس‬
‫األدلة الصحيحة الصرحية الدالة على ثبوت وصف الشرك ‪445 ..............‬‬
‫املبحث السادس‬
‫حرمة الشرك األكرب وفاقية التحرمي‪ ،‬وإمجاعية املنع والتأثيم ‪445 ..............‬‬
‫املبحث السابع‬
‫العذر باْلطأ يف الشرك األكرب‪ ،‬يلزم منه عدم تكفري طوائف ‪465 ............‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫‪-619-‬‬
‫العالقة بني إقامة احلجة‪ ،‬والكفر‪ ،‬وأحكامه‪455 ...........................‬‬
‫املبحث األول‬
‫عبادة اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬احلجة عليها بلوغ القرآن ‪452 ................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫العقوبة واملؤاخذة ال تكون إال بعد إقامة احلجة ‪455 .......................‬‬
‫ويكفي يف إقامتها جمرد بيان التوحيد بدليله ‪455 ...........................‬‬
‫الفصل اْلامس‬
‫املعني ‪451 .....................................‬‬
‫أنوا الكفر وحكم تكفري ي‬
‫املبحث األول‬
‫أنوا الكفر والنفاق األكرب واألصغر‪445 ................................ .‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫ميت يصح التكفري وما هي مقومات احلكم به‪442 .........................‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫املشرك اجلاهل‪ ،‬الذي ل تقم عليه حجة البالغ ‪446 .......................‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫فهم وتأويل أئمة الدعوة ملوقف الشيخني ‪414 .............................‬‬
‫املبحث اْلامس‬
‫تكفري ملعينني صادر من أئمة الدعوة رمحهم اهلل تعاىل ‪411 ..................‬‬
‫الفصل السادس‬
‫أحكام الديار ‪414 .....................................................‬‬
‫املبحث األول‬
‫تعريف دار اإلسالم‪ ،‬ودار الشرك ‪415 ....................................‬‬
‫املبحث الثاي‬

‫‪-612-‬‬
‫صفة الدار اليت جتب اهلجرة منها إالَّ ملن قدر على إظهار دينه ‪411 ..........‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫األدلة الدالة على وجوب التباعد عن املشركني ‪654 ........................‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫أحكام وأحوال املقيم بني أظهر املشركني ‪693 .............................‬‬
‫الفصل السابع‬
‫أحكام القتال ومشروعية اجلهاد ‪695 .....................................‬‬
‫املبحث األول‬
‫القتال يف اإلسالم منوط باإلصرار على فعل الشرك ‪691 ....................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫جمرد االعتصام باإلسالم مع عدم االلتزام بشرائعه ‪623 ......................‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫بعض األسباب املوجبة لقتال أهلها ‪621 ..................................‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫املراد من إنكار النيب ‪ ‬على أحد أصحابه ‪632 ...........................‬‬
‫املبحث اْلامس‬
‫اجلهاد ال يسقط حبال عن األمة ‪634 ....................................‬‬
‫الفصل الثامن‬
‫الردة واملرتدين ‪631 ..............................‬‬
‫نواقض اإلسالم وأحكام َّ‬
‫املبحث األول‬
‫تعريف الردة‪ ،‬وأمهية اإلحاطة برءوس مسائلها ‪631 .........................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫الردة‪ ،‬مع ذكر أهم أحكامهما ‪644 .............................‬‬ ‫متعلقات َّ‬

‫‪-613-‬‬
‫قطوف من رسالة الكلمات النافعة يف املكفرات الواقعة ‪644 ................‬‬
‫الفصل التاسع‬
‫أشهر الشبهات املثارة على أئمة الدعوة ‪662 ..............................‬‬
‫والرد الوافر عليها ‪662 ..................................................‬‬
‫املبحث األول‬
‫الرد على شبهة التنق مبقام الرب سبحانه ‪664 ...........................‬‬
‫املبحث الثاي‬
‫الرد على شبهة التنق حبق النيب ‪664 ................................. ‬‬
‫واالزدراء مبقام الرسالة ‪664 ..............................................‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫الرد على شبهة تكفري املسلمني واعتزاهلم ‪655 .............................‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫الرد على أشهر الشبهات املثارة يف حق إمام الدعوة ‪655 ...................‬‬
‫حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل ‪655 ................................‬‬
‫ملخ مفيد ألهم مسائل وفوائد الباب الثالث ‪645 ......................‬‬
‫اْلاَتة ‪645 ...........................................................‬‬
‫فهرس املراجع واملصادر ‪641 ............................................‬‬
‫فهرست املوضوعات ‪612 ...............................................‬‬

‫‪-614-‬‬

You might also like