Professional Documents
Culture Documents
في
عقائد أئمة التوحيد
تأليف
أبي يوسف مدحت بن الحسن آل فراج
قدم له
فضيلة الشيخ عبد اهلل السعد
-2-
تـقـديم
احلمد هلل رب العاملني وأصلى وأسلم على نبينا حممد وعلى آله وأصحابه
والتابعني ..أما بعد:
فقط اطلعت على كتاب( :املختصر املفيد يف عقائد أئمة التوحيد) مجع
جدا
وتأليف أىب يوسف مدحت بن احلسن آل فراج ،وهو كتاب قيم ومفيد ً
وذلك ألمور:
أولا :هذا الكتاب يتحدث عن أصول الدين وقواعد امللة ،ففي هذا الكتاب
بيان حلقيقة اإلسالم واإلميان وأركانه ،كما أنه فيه توضيح ألصل األصول وهو
التوحيد ،ونواقض ومفسدات هذا األصل من الشرك وأقسامه ،والكفر وأنواعه،
وما يتبع ذلك من املواالة واملعاداة يف ذلك ،والرباءة من الشرك وأهله ،وصفة
الطاغوت والكفر به ،وإفراد اهلل بالطاعة ،وحتكيم شريعته ،واجلهاد لتحقيق ذلك،
وما يتبع ذلك من اهلجرة من دار الكفر إىل دار اإلسالم ،وبيان الفرق بني
الدارين -دار اإلسالم ودار الكفرـ ،وغري ذلك من القضايا الكلية واملسائل
املصريية ،وال خيفى أمهية ذلك كله؛ ألن اإلسالم ال يتحقق إال مبعرفة ذلك
والعمل به.
اعلَ ْم أَنَّه الَ إِلَهَ إِالَّ
مذكرا نبيه باألصل الذي بعثه من أجله ﴿فَ ْقال تعاىل ً
اللَّه و ِ ِ
ك﴾ [حممد ،]91 :وهذه اآلية الكرمية نزلت بعد البعثة مبدة استَـ ْغف ْر ل َذنبِ َ
َْ
طويلة ألهنا يف سورة مدنية وهى سورة حممد .فمع كونه مبعوثًا هبذه الكلمة
وبقي مدة طويلة وهو يدعو الناس إليها وجياهد من أجلها وهاجر من بلده
لتحقيقها ،ومع ذلك فإن اهلل تعاىل يذكره هبذا األصل العظيم
-3-
وحي إِلَي ِ َّ ِ
ين
ك َوإ َىل الذ َ الذي هو أساس دين اإلسالم .وقال تعاىلَ ﴿ :ولََق ْد أ ِ َ ْ َ
ين * بَ ِل اللَّهَ فَ ْ ك ولَتكونَ َّن ِمن ْ ِ ِمن قَـبلِ َ ِ
اعب ْد اْلَاس ِر َ َ ت لَيَ ْحبَطَ َّن َع َمل َ َ َ ك لَئ ْن أَ ْشَرْك َ ْ ْ
ِ
ين﴾ [الزمر.]55 ،56 : َوكن ِّم ْن الشَّاك ِر َ
الص َمد * َلْ يَلِ ْد َوَلْ يولَ ْد * َوَلْ يَكن لَّه َحد * اللَّه َّ وقال تعاىل﴿ :ق ْل ه َو اللَّه أ َ
َحد﴾ [اإلخالص ،]4 – 9 :ويف هذه اآليات تذكري للرسول كف ًوا أ َ
باألصول اليت بعث من أجلها.
ومن اهتمام إبراهيم اْلليل - -باألصل الذي خلق من أجله وبعث
بسببه خاف أن يقع مبا ينافيه فقال كما ذكر اهلل تعاىل عنهَ ﴿ :وإِ ْذ قَ َال إِبْـَر ِاهيم
ب إِنـَّه َّن أ ْ ِ
َضلَْل َن َصنَ َام * َر ِّن أَن نـَّ ْعب َد األ ْ اجنْب ِن َوبَِ َّ
اج َع ْل َهـ َذا الْبَـلَ َد آمنًا َو ْ
ب ْ َر ِّ
َّاس[ ﴾...إبراهيم.]35 ،36 : َكثِ ًريا ِّم َن الن ِ
ـن
قال أبو جعفر بن جرير يف تفسريه ( :)991/93ومعـى ذلـك :أبعـدي وب ي
ـاس﴾ [إب ـراهيم: ـريا ِّمـ َـن النَّـ ِ ِ ب إِنـَّهـ َّـن أ ْ
َض ـلَْل َن َكثـ ً مــن عبــادة األصــنام ...وقولــهَ ﴿ :ر ِّ
ـريا مـن النـاس عـن طريـق
]35يقول :يا رب إن األصنام أضـللن ،يقـول :أزللـن كث ً
اهلدى وسبيل احلق حىت عبدوهن وكفروا بك .اهـ.
وأخرج عن ابـن محيـد ،ثنـا جريـر ،عـن مغـرية قـال :كـان إبـراهيم التيمـي يقـ
ويقــول يف قصصــه :مــن يــأمن مــن الــبالء بعــد خليــل اهلل إب ـراهيم حــني يقــول :ريب
َصنَ َام﴾ [إبراهيم.]36 : اجنْب ِن َوبَِ َّ
ن أَن نـَّ ْعب َد األ ْ ﴿ َو ْ
كسر األصنام بيده ،وهو الذي أراد أن يذبح ابنه وإبراهيم هو الذي ي
طاعة لربه تعاىل ،وغري ذلك من املقامات العظيمة ،اليت قامها حتقي ًقا للتوحيد
وجل أن
عز َّ وجل ،ومع ذلك كله دعا ربه َّ عز َّ وقياما بواجب العبودية للرب َّ ً
جينبه وبنيه عبادة األصنام.
وقد أرسل اهلل تعاىل جربيل للنيب لكي يسأله عن أصول الدين
-4-
وأركانه وقواعده حىت يتعلم الناس ذلك ،أخرج البخاري ( )65و()4444
ومسلم ( )95 ،1من طريق أىب حيان ،عن أىب زرعة ،عن أىب هريرة قال كان
بارزا للناس فأتاه رجل فقال يا رسول اهلل :ما اإلميان؟ قال: رسول اهلل ً
يوما ً
«أن تؤمن باهلل ومالئكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث اآلخر» .قال يا
رسول اهلل :ما اإلسالم؟ قال« :اإلسالم أن تعبد اهلل ول تشرك به شيئاا وتقيم
الصالة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان» .قال يا رسول
اهلل :ما اإلحسان؟ قال« :أن تعبد اهلل كأنك تراه فإنك إن ل تراه فإنه
يراك»» .قال يا رسول اهلل :مىت الساعة؟ قال« :ما المسؤول عنها بأعلم من
السائل ،ولكن سأحدثك عن أشراطها ،إذا ولدت األمة ربها فذاك من
أشراطها ،وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها وإذا
تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها في خمس ل يعلمهن إل
اهلل ثم تال﴿ :إِن الله ِعنده ِعلْم الساع ِة ويـنـ ِّزل الْغْيث ويـ ْعلم ما فِي األ ْرح ِام
ي أ ْرض تموت إِن الله ْسب غ ادا وما ت ْد ِري نـ ْفس بِأ ِّوما ت ْد ِري نـ ْفس ماذا تك ِ
علِيم خبِير﴾ [لقمان ،]43 :ثم أدبر الرجل فقال رسول اهلل « :ردوا على
الرجل فأخذوه ليردوه فلم يروا شيئاا» فقال رسول اهلل « :هذا جبريل جاء
ليعلم الناس دينهم».
ويف روايــة عنــد مســلم مــن طريــق عمــارة بــن القعقــا ،عــن أىب زرعــة ،عــن أىب
هريرة قال :قال رسول اهلل « :سلوني فهـابوه أن يسـألوه فجـاء رجـل »...ويف
آخرها :فقال رسول اهلل « :هذا جبريل أراد أن تعلموا إذا لم تسألوا».
أيضا من رواية عمر بن اْلطاب وغريه من وقد جاء هذا احلديث ً
الصحابة .
وهـذه القـصة وقعت باملدينة ،بل جاء يف رواية وقعت يف حديث عمر
-6-
أخرجها أبو عبد اهلل بن منده يف «اإليمان» ( )92أن هذه القصة وقعت يف
آخر عمر الرسول .
ومع طول هذه املدة ما بني بعثته وما بني وقو هذه القصة مع أنه ل
يزل منذ بعث وهو يبني اإلسالم واإلميان ،ومع ذلك جاء السؤال عن هذه
تذكريا لألمة بأمهية هذه األصول ووجوب معرفتها والعمل األصول يف آخر حياته ً
هبا.
قال عياض بن موسى رمحه اهلل تعاىل :اشتمل هذا احلديث على مجيع
وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود اإلميان ابتداءً وحاالً ومآالً ،ومن
أعمال اجلوارح ،ومن إخالص السرائر ،والتحفظ من آفات األعمال حىت أن
علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه.
وقال القرطيب رمحه اهلل تعاىل :هذا احلديث يصلح أن يقال له :أم السنة ملا
تضمنه من مجل علم السنة .اهـ من (الفتح.)926/9 :
ثانياا :أن القضايا الىت تقدم ذكرها قد حبثت يف هذا الكتاب وفق الدليل من
الكتاب والسنة ،مع السرب والتقسيم ،وذكر الشروط واحملرتزات املنافية لذلك،
وبيان مذهب السلف الصاحل من الصحابة والتابعني وأتباعهم يف هذه املسائل،
حىت أنه يف كتابه التوحيد الذي هو أنفس مصنفاته -أي اإلمام اجملدد حممد بن
عبد الوهاب -وأمهها ،جعله أبوابًا ،ويف كل باب يذكر اآليات واألحاديث
واآلثار ،مث يعقب كل باب بذكر أهم املسائل اليت تستفاد منه ،حىت أنه يف
بعض تبويباته جيعل عنوان الباب نفسه آية أو حديث ،فمن األول قوله :باب
قول اهلل تعاىل﴿ :أَي ْش ِركو َن َما الَ َخيْلق َشْيئاً َوه ْم خيْلَقو َن﴾ [األعراف]919 :
اآلية.
أيضا باب قول اهلل تعاىلَ ﴿ :ح َّىت إِ َذا فـِّز َ َعن قـلوهبِِ ْم قَالوا َما َذا قَ َال َربُّك ْم
و ً
-5-
ِ
أيضا :باب قول اهللاحلَ َّق َوه َو الْ َعل ُّي الْ َكبِري﴾ [سبأ ،]23 :وقال ً
قَالوا ْ
ِ
ت﴾ [القص ،]65 :ومن الثاي قوله :باب َحبَْب َ تعاىل﴿ :إِنَّ َ
ك الَ تَـ ْهدي َم ْن أ ْ
(ال يقال السالم على اهلل) ،وهذا العنوان جزء من حديث ابن مسعود الذي
أيضا قوله:
أخرجه البخاري( :ال تقولوا السالم على اهلل فإن اهلل هو السالم) .و ً
باب (ال يقل عبدي وأميت) ،وهذا جزء من حديث أخرجه الشيخان (وال يقل
أيضا :باب (ال يسأل بوجه عبدي وأميت وليقل :فتاي وفتايت وغالمي) ،وقال ً
اهلل إال اجلنة) وهذا حديث رواه أبو داود.
وهكذا يف باقي كتبه كلها مبنية على الدليل والسري على طريقة السلف
الصاحل .قال حممد بن على الشوكاي رمحه اهلل تعاىل عن حممد بن عبد الوهاب
رمحه اهلل تعاىل« :وكان حنبليًا ،مث طلب احلديث باملدينة املشرفة فعاد إىل جند
وصار يعمل باجتهادات مجاعة من متأخري احلنابلة كابن تيمية وابن القييم
وأضراهبما .ومها من أشد الناس على معتقدي األموات ،وقد رأيت كتابًا من
صاحب جند -وهو عبد العزيز بن سعود -الذي هو اآلن صاحب تلك
اجلهات أجاب به على بعض أهل العلم ،وقد كاتبه وسأله بيان ما يعتقده
فرأيت جوابه مشتمالً على اعتقاد حسن موافق للكتاب والسنةي فاهلل أعلم حبقيقة
احلال.
وأما أهل مكة فصاروا يك يفرونه ويطلقون عليه اسم الكافر .وبلغنا أنه وصل
إىل مكة بعض علماء جند لقصد املناظرة فناظر علماء مكة حبضرة الشريف يف
مسائل تدل على ثبات قدمه وقدم صاحبه يف الدين .ويف سنة 9296وصل
من صاحب جند املذكور جملدان لطيفان أرسل هبما إىل حضرة موالنا اإلمام
حفظه اهلل أحدمها يشتمل على رسائل حملمد بن عبد الوهاب كلها يف اإلرشاد
إىل إخالص التوحيد والتنفري من الشرك الذي يفعله
-4-
املعتقدون يف القبور .وهى رسائل جيدة مشحونة بأدلة الكتاب والسنة،
واجمللد اآلخر يتضمن الرد على مجاعة من املقصرين من فقهاء صنعاء وصعدة
ذاكروه يف مسائل متعلقة بأصول الدين وجبماعة من الصحابة ،فأجاب عليهم
جوابات حمررة مقررة حمققة تدل على أن اجمليب من العلماء احملققني العارفني
بالكتاب والسنة.
هدم عليهم مجيع ما بنوه ،وأبطل مجيع ما دونوه ألهنم مقصرون وقد ِ
فصار ما فعلوه خزيًا عليهم وعلى أهل صنعاء وصعدة ،وهكذا من متعصبون َ
تصدر ول يعرف مقدار نفسه ،وأرسل صاحب جند مع الكتابني املذكورين
إىل فأجبت عن كتابه مبكاتبة منه إىل سيدي املوىل اإلمام فدفع حفظه اهلل ذلك ي
الذي كتب إىل موالنا اإلمام حفظه اهلل على لسانه مبا معناه أن اجلماعة الذين
أرسلوا إليه باملذاكرة ال ندري من هم وكالمهم يدل على أهنم جهال» (البدر
الطالع )364/9 :يف ترمجة :السيد غالب بن مساعد شريف مكة وأمريها.
وقال حممد بن احلسن احلجوي -وهو من علماء املغرب العريب:-
«وعقيدته السنة الخالصة على مذهب السلف المتمسكين بمحض القرآن
والسنة ،ل يخوض التأويل والفلسفة ،ول يدخلهما في عقيدته .وفي الفروع
مذهبه حنبلي غير جامد على تقليد اإلمام أحمد ول من دونه ،بل إذا وجد
دليالا أخذ به وترك أقوال المذهب ،فهو مستقل الفكر في العقيدة والفروع
معا»( .الفكر السامي.)342/2 /: ا
قلت :وهذا حبمد اهلل تعاىل أمر واضح معروف ،تدل عليه كتبه ورسائله.
قال الشيخ حممد بن عبد الوهاب يف رسالة أرسلها إىل عبد الرمحن بن عبد
اهلل السويدي من علماء العراق( :أخربك أي وهلل احلمد مـتبع لـست
-1-
مببتد عقيديت ودين الذي أدين اهلل به هو :مذهب أهل السنة واجلماعة
الذي عليه أئمة املسلمني مثل األئمة األربعة وأتباعهم إىل يوم القيامة ،ولكنن
بينت للناس إخالص الدين هلل ،وهنيتهم عن دعوة األحياء واألموات من
الصاحلني وغريهم ،وعن إشراكهم فيما يعبد اهلل به من الذبح والنذر والتوكل
والسجود وغري ذلك ،مما هو حق اهلل الذي ال يشركه فيه أحد ،ال ملك مقرب
وال نيب مرسل ،وهو الذي دعت إليه الرسل من أوهلم إىل آخرهم ،وهو الذي
عليه أهل السنة واجلماعة ،وبينت هلم أن أول من أدخل الشرك يف هذه األمة
هم الرافضة الذين يدعون عليًا وغريه ،ويطلبون منهم قضاء احلاجات وتفريج
الكربات ،وأنا صاحب منصب يف قرييت مسمو الكلمة ،فأنكر هذا بعض
الرؤساء لكونه عادات نشئوا عليها )...إىل آخره.
قلت :وهذا الكتاب «المختصر المفيد في عقائد أئمة التوحيد» كله
دليل على ما تقدم وأذكر هنا مسألة واحدة من هذا الكتاب كمثال على ذلك.
قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل بن حممد بن عبد الوهاب عند قوله :- -
«ال جتعلوا قربي عيدا» ،ويف احلديث دليل على منع شد الرحال إىل قربه وإىل
أعيادا ،بل من أعظم أسباب غريه من القبور واملشاهد؛ ألن ذلك من اختاذها ً
اإلشراك بأصحاهبا ،كما وقع من عباد القبور الذين يشدون إليها الرحال،
وينفقون يف ذلك الكثري من األموال ،وليس هلم مقصود إال جمرد الزيارة للقبور
تربًكا بتلك القباب واجلدران فوقعوا يف الشرك( .املختصر املفيد :ص.)244
وأما ما يتعلق بالسرب والتقسيم للمسائل مع ذكر شروطها وبيان حمرتزاهتا وال
خيفى أن هذه الطريقة يف حبث املسائل وفيها من التوضيح والتسهيل الشيء
الكثري.
-1-
قال الشيخ عبد الرمحن بن حسن -رمحه اهلل -يف بيان معى ال إله إال اهلل
وشروطها« :فال إله إال اهلل هى كلمة اإلسالم ،ال يصح إسالم أحد إال مبعرفة
ما وضعت له ،ودلت عليه ،وقبوله ،واالنقياد للعمل به ،وهى كلمة اإلخالص
املنايف للشرك ،وكلمة التقوى اليت تقي قائلها من الشرك باهلل ،فال تنفع قائلها إال
بشروط سبعة:
األول :العلم مبعناها نفيًا وإثباتًا.
الثاني :اليقني ،وهو كمال العلم هبا املنايف للشك والريب.
الثالث :اإلخالص املنايف للشرك.
الرابع :الصدق املانع من النفاق.
الخامس :احملبة هلذه الكلمة وملا دلت عليه والسرور بذلك.
السادس :القبول املنايف للرد ،فقد يقوهلا من يعرفها لكن ال يقبلها ممن دعاه
وتكربا ،كما قد وقع من كثري. إليها تعصبًا ً
إخالصا وطلبًا ملرضاته».
ً السابع :االنقياد حبقوقها ،وهى :األعمال الواجبة
اهـ( .املختصر املفيد.)344 :
وأمــا م ــا يتعل ــق باالهتم ــام مب ــا ك ــان علي ــه الص ــحابة والس ــلف الص ــاحل؛ فق ــال
الشــيخ عبــد اهلل بــن حممــد بــن عبــد الوهــاب يف بيــان مــا هــم عليــه عنــد االخــتالف
الرد إىل كتاب اهلل وإىل سنة رسول اهلل ،مث ما جاء عن الصحابة والتـابعني ،يف
رسـالته إىل عبــد اهلل الصـنعاي( :أمــا بعــد فقـد وصــل جـوابكم ،وسـر اْلــاطر ،وأقــر
الن ـ ـ ـ ـ ــاظر ،حي ـ ـ ـ ـ ــث أخ ـ ـ ـ ـ ــربم أنك ـ ـ ـ ـ ــم عل ـ ـ ـ ـ ــى م ـ ـ ـ ـ ــا حن ـ ـ ـ ـ ــن علي ـ ـ ـ ـ ــه م ـ ـ ـ ـ ــن ال ـ ـ ـ ـ ــدين،
وهــو عبــادة اهلل وحــده ال ش ـريك لــه ،ومتابعــة الرســول األجمــد ،ســيد ولــد آدم ،
وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا أوردم عل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى ذل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن اآلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات الواض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــحات ،واألحادي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــث
ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـباهرات ،وأن الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرد عنـ ـ ـ ـ ـ ــد االخـ ـ ـ ـ ـ ــتالف إىل كتـ ـ ـ ـ ـ ــاب اهلل وسـ ـ ـ ـ ـ ــنة رسـ ـ ـ ـ ـ ــوله
-95-
،مث إىل أقوال الصحابة مث التابعني هلم بإحسان ،فذلك ما حنن عليه وهو
ظاهر عندنا»( .الدرر.)94 – 95/4 :
ثالثاا :أن يف هـذا الكتـاب بيـان لصـور كثـرية مغلوطـة خمالفـة للكتـاب والسـنة،
مع ضرب األمثلة العملية من واقع الناس واليت ختالف الصواب ،وال شك أن مثـل
هــذا وهــو ذكــر الصــور املغلوطــة مــع ضــرب األمثلــة الواقعيــة ممــا يبــني احلــق ويوضــح
الطريق املستقيم ،الذي أمر اهلل عز وجل بـه عبـاده أن يسـلكوه؛ ألن الكـالم علـى
قضــايا اإلميــان والتوحيــد ومــا يضــاد ذلــك مــن الكفــر والشــرك ال يتبــني إال بــذكر
األمثلة من واقع الناس ،وعرض هذا الواقـع علـى الكتـاب والسـنة .ومثـال ذلـك مـا
قالــه الشــيخ حممــد بــن عبــد الوهــاب يف بيــان حقيقــة الــدين :اعلــم رمح ـك اهلل :أن
ديــن اهلل يكــون علــى القلــب باالعتقــاد ،وباحلــب والــبغض ،ويكــون علــى اللســان
بــالنطق وتــرك النطــق بــالكفر ،ويكــون علــى اجل ـوارح بفعــل أركــان اإلســالم ،وتــرك
األفعال اليت تكفر ،فإذا اختل واحدة من هذه الثالث ،كفر وار َّ
تد.
مثال عمل القلب :أن يظن أن هـذا الـذي عليـه أكثـر النـاس مـن االعتقـاد يف
األحيــاء واألم ـوات حــق ،ويســتدل بكــون أكثــر النــاس عليــه ،فهــو كــافر مكـ ِّـذب
للن ــيب ،ول ــو ل ي ــتكلَّم بلس ــانه ،ول يعم ــل إالَّ بالتوحي ــد ،وك ــذلك إذا ش ــك ،ال
يــدري مــن احلــق معــه ،فهــذا لــو ل يكــذب فهــو ل يصــدق النــيب ،فهــو يقــول
يبني احلق ،فهو يف شك ،فهو مرتد ولو ل يتكلَّم إالَّ بالتوحيد. عسى اهلل أن ِّ
ومثال اللسان :أن يؤمن باحلق وحيبه ،ويكفر بالباطل ويبغضه ،ولكنه تكلَّم
شرهم؛ وإمامداراة ألهل األحساء ،وألهل مكة أو غريهم بوجوههم ،خوفًا من ِّ
يصرح هلم مبدح ما هم عليه ،أو بذكر أنه ترك
كالما ِّ
أن يكتب هلم ً
-99-
أيضا لغروره. ما هو عليه ،ويظن أنه ماكر هبم ،وقلبه موقن أنه ال يضره ،وهذا ً
وهو معى قول اهلل تعاىلَ ﴿ :من َك َفَر بِاللي ِه ِمن بَـ ْع ِد إميَانِِه إِالَّ َم ْن أ ْك ِرَه َوقَـْلبه
احليا َة الْ ُّدنْـيا علَى ِ ِ مطْمئِن بِا ِإلميَ ِ
اآلخَرةِ﴾ َ َ ك بِأَنـَّهم ْ
استَ َحبُّواْ ََْ ان﴾ ،إىل قولهَ ﴿ :ذل َ َ
[النحل ،]954 ،955 :فقط ال لتغري عقائدهم.
فمن عرف هذا ،عرف أن اْلطر ،خطر عظيم شديد ،وعرف شدة احلاجة
اعتقادا أو ش ًكا أو ً نطقا أوللتعلم واملذاكرة ،وهذا معى قوله يف اإلقنا يف الردةً ،
فعالً ،واهلل أعلم»( .املختصر املفيد.)41 ،44 :
وما قاله الشيخ سليمان بن عبد اهلل من ذكر بعض الصور واألمثلة اليت يقع
فيها كثري من الناس من تعلقهم بالقبور والبناء عليها:
واعلم أنه قد وقع بسبب البناء على القبور من املفاسد اليت ال حييط هبا على
التفصيل إالَّ اهلل ،ما يغضب من أجله كل من يف قلبه رائحة إميان ،كما نبَّه عليه
ابن القيم وغريه.
فمنها :اعتيادها للصالة عندها ،وقد هنى النيب عن ذلك.
ومنها :حتري الدعاء عندها .ويقولون :من دعا اهلل عند قرب فالن استجاب
اجملرب ،وهذا بدعة منكرة. له ،وقرب فالن الرتياق َّ
ومنها :ظنهم أن هلا خصوصيات بأنفسها يف دفع البالء وجلب النعماء،
ويقولون :إن البالء يدفع عن أهل البلدان بقبور من فيها من الصاحلني ،وال ريب
أن هذا خمالف للكتاب والسنَّة واإلمجا .فالبيت املقدس كان عنده من قبور
األنبياء والصاحلني ما شاء اهلل ،فلما عصوا الرسول وخالفوا ما أمرهم اهلل هبم،
سلَّط اهلل عليهم من انتقم منهم .وكذلك أهل املدينة ملا تغريوا بعض التغري،
احلرة من النهب والقتل وغري ذلك من املصائب ما ل جير جري عليهم عام َّ
عليهم قبل ذلك .وهذا أكثر من أن حيصر.
-92-
ومنها :الدخول يف لعنة رسول اهلل ،باختاذ املساجد عليها وإيقاد السرج
عليها.
ومنها :أن ذلك يتضمن عمارة املشاهد ،وخراب املساجد كما هو الواقع،
ودين اهلل بضد ذلك.
ومنها :اجتماعهم لزيارهتا واختالط النساء بالرجال ،وما يقع يف ضمن ذلك
حتملها عنهم ،بل
من الفواحش وترك الصلوات ،ويزعمون أن صاحب الرتبة َّ
اشتهر أن البغايا يسقطن أجرهتن على البغاء يف أيام زيارة املشايخ ،كالبدوي
وغريه تقربًا إىل اهلل بذلك ،فهل بعد هذا يف الكفر غاية.
ومنها :كسوهتا بالثياب النفيسة املنسوجة باحلرير والذهب والفضة وحنو
ذلك.
ومنها :جعل اْلزائن واألموال ووقف الوقوف ملا حيتاج إليه من ترميمها وحنو
ذلك.
ومنها :إهداء األموال ونذر النذور لسدنتها العاكفني عليها ،الذين هم أهل
كل بلية وكفر ،فإهنم الذين يكذبون على اجلهال والطغام بأن فالنًا دعا صاحب
الرتبة فأجابه ،واستغاثه فأغاثه ومرادهم بذلك تكثري النذر واهلدايا هلم.
ومنها :جعل السدنة هلا كسدنة عباد األصنام.
ومنها :اإلقسام على اهلل يف الدعاء باملدفون فيها.
الزوار إذا رأى البناء الذي على قرب صاحب الرتبة سجد كثريا من َّ
ومنها :أن ً
له.
وال ريب أن هذا كفر بن الكتاب والسنَّة وإمجا األمة ،بل هذا هو عبادة
األوثان ،ألن السجود للقبة عبادة هلا ،وهو من جنس عبادة النصاري للصور اليت
يف كنائسهم على صور من يعبدونه بزعمهم الباطل ،فإهنم عبدوها
-93-
ومن هى صورته ،وكذلك عباد القبور ملا بنوا القباب على القبور آل هبم إىل
وجل.
عز ي أن عبدت القباب ومن بنيت عليه من دون اهلل َّ
ومنها :النذر للمدفون فيها ،وفرض نصيب من املال والولد ،وهذا هو الذي
صيبًا فَـ َقالواْ َهـ َذا لِلي ِه
ث واألَنْـع ِام نَ ِقال اهلل فيه﴿ :وجعلواْ لِلي ِه ِممِّا َذرأَ ِمن ْ ِ
احلَْر َ َ َ َ َ ََ
بَِز ْع ِم ِه ْم َوَهـ َذا لِشَرَكآئِنَا﴾ [األنعام ،]935 :بل هذا أبلغ فإن املشركني ما كانوا
يبيعون أوالدهم ألوثاهنم.
ومنها :أن املدفون فيها أعظم يف قلوب عباد القبور من اهلل وأخوف ،وهلذا
لو طلبت من أحدهم اليمني باهلل تعاىل أعطاك ما شئت من األميان كاذبًا أو
صادقًا ،وإذا طلبت بصاحب الرتبة ل يقدم إن كان كاذبًا.
وال ريب أن عباد األوثان ما بلغ شركهم إىل هذا احلد ،بل كانوا إذا أرادوا
تغليظ اليمني ،غلَّظوها باهلل كما يف قصة القسامة وغريها.
ومنها :سؤال امليت قضاء احلاجات ،وتفريج الكربات ،واإلخالص له من
دون اهلل يف أكثر احلاالت.
ومنها :التضر عند مصار األموات ،والبكاء باهليبة واْلشو ملن فيها أعظم
مما يفعلونه مع اهلل يف املساجد والصلوات.
ومنها :تفضيلها على خري البقا وأحبها إىل اهلل ،وهى املساجد ،فيعتقدون
أن العبادة والعكوف فيه أفضل من العبادة والعكوف يف املساجد ،وهذا أمر ما
بلغ إليه شرك األولني ،فإهنم يعظمون املسجد احلرام أعظم من بيوت األصنام
يرون فضله عليها ،وهؤالء يرون العكوف يف املشاهد أفضل من العكوف يف
املساجد.
ومنها :أن الذي شرعه الرسول يف زيارة القبور إمنا هو تذكرة اآلخرة ،كما
بالرتحم عليه، قال« :زوروا القبور فإهنا تذكركم اآلخرة» ،واإلحسان إىل املزور ُّ
والدعاء له واالستغفار ،وسؤال العافية له ،فيكون
-94-
فقلب عبَّاد القبور األمر ،وعكسوا َ الزائر حمسنًا إىل نفسه وإىل امليت،
الدين ،وجعلوا املقصود بالزيارة :الشرك بامليت ودعاءه والدعاء به ،وسؤاله
حوائجهم ونصرهم على األعداء وحنو ذلك .فصاروا مسيئني إىل نفوسهم وإىل
امليت ،ولو ل يكن إالَّ حبرمانه بركة ما شرعه اهلل من الدعاء والرتحم عليه
واالستغفار له.
ومنها :إيذاء أصحاهبا مبا يفعله عباد القبور هبا ،فإنه يؤذيهم ما يفعلونه عند
قبورهم ،ويكرهونه غاية الكراهة ،كما أن املسيح يكره ما يفعله النصاري،
وكذلك غريه من األنبياء واألولياء ،يؤذيهم ما يفعله أشباه النصاري عند قبورهم،
ويوم القيامة يتربءون منهم كما قال تعاىل﴿ :ومن أَض ُّل ِممَّن ي ْدعو ِمن د ِ
ون اللَّ ِه َ ََ ْ َ
َمن َّال يَ ْستَ ِجيب لَه إِ َىل يَ ِوم الْ ِقيَ َام ِة َوه ْم َعن د َعائِ ِه ْم َغافِلو َن * َوإِ َذا ح ِشَر النَّاس
ِ ِ ِِ ِ
ين﴾ [األحقاف.]5 ،6 : َكانوا َهل ْم أ َْع َداء َوَكانوا بعَب َادهت ْم َكاف ِر َ
ومنها :حم َّادة اهلل ورسوله ،ومناقضة ما شرعه فيها.
ومنها :التعب العظيم مع الوزر الكبري ،واإلمث العظيم.
وكل هذه املفاسد العظيمة وغريها مما ل يذكر ،إمنا حدثت بسبب البناء
على القبور ،وهلذا جتد القبور اليت ليس عليها قباب ال يأتيها أحد ال يعتادها
لشيء مما ذكر إالَّ ما شاء اهلل ،وصاحب الشر أعلم مبا يؤول إليه هذا األمر،
فلذلك غلَّط فيه وأبدأ وأعاد ،ولعن من فعله ،فاْلري واهلدى يف طاعته ،والشر
والضالل يف معصيته وخمالفته.
والعجب ممن يشاهد هذه املفاسد العظيمة عند القبور ،مث يظن أن النيب
إمنا هنى عن اختاذ املساجد عليها ألجل النجاسة ،كما يظنه بعض متأخري
الفقهاء ،ولو كان ذلك ألجل النجاسة ،لكان ذكر اجملازر واحلشوش ،بل ذكر
التحرز من البول والغائط أوىل .وإمنا ذلك ألجل جناسة
-96-
الشرك ،اليت وقعت من عبَّاد القبور ،ملا خالفوا ذلك ،ونبذوه وراء ظهورهم،
واشرتوا به مثنًا قليالً ،فبئس ما يشرتون»( .املختصر املفيد.)245 ،255 :
ابعا :يف هذا الكتاب بيان لكثري من الشبه اليت وقع فيها من ضل عن رً
الطريق املستقيم ،وردها باألدلة من الكتاب والسنة وإمجا القرون املفضلة .قال
الشيخ سليمان بن عبد اهلل« :ولكن لعباد القبور على هذا شبهات ،ذكر
كثريا منها يف «كشف الشبهات» وحنن نذكر هنا ما ل يذكره.املصنف ً
فمن ذلك أهنم احتجوا حبديث رواه الرتمذي يف «جامعه» حيث قال:
حدثنا حممود بن غيالن ،ثنا عثمان بن عمرو ،ثنا شعبة عن أىب جعفر عن
عمارة بن خزمية بن ثابت ،عن عثمان بن حنيف ،أن رجالً ضرير البصر أتى
النيب فقال :اد اهلل أن يعافين ،قال« :إن شئت دعوت ،وإن شئت صربت،
فهو خري لك» قال :فادعه ،فأمره أن يتوضأ ،وحيسن وضوءه ،ويدعو هبذا
الدعاء« :اللهم إي أسألك ،وأتوجه إليك بنبيك حممد نيب الرمحة ،إي توجهت
يف» ،قال :هذا حديث حسن به إىل ريب يف حاجيت هذه لتقضى ،اللهم فشفِّعه َّ
صحيح غريب ،ال نعرفه إالَّ من رواية أىب جعفر ،وهو غري اْلطمي ،هكذا رواه
الرتمذي ،ورواه النسائي ،وابن شاهني ،والبيهقي كذلك ،ويف بعض الروايات «يا
حممد إي أتوجه» إىل آخره.
وهذه اللفظة هى اليت تعلق هبا املشركون ،وليست عند هؤالء األئمة .قالوا:
فلو كان دعاء غري اهلل شرًكا ل يعلم النيب األعمى هذا الدعاء الذي فيه نداء
غري اهلل.
والجواب من وجوه:
األول :أن هذا احلديث من أصله ،وإن صححه الرتمذي ،فإن يف ثبوته
نظرا؛ ألن الرتمذي يتساهل يف التصحيح كاحلاكم ،لكـن الرتمذي أحـسن
ً
-95-
نقدا ،كما ن ي على ذلك األئمة ،ووجه عدم ثبوته أنه قد ن :أنا أبا جعفر ً
الذي عليه مدار هذا احلديث هو غري اْلطمي ،وإذا كان غريه ،فهو ال يعرف،
ولعل عمدة الرتمذي يف تصحيحه أن شعبة ال يروي إالَّ عن ثقة ،وهذا فيه نظر،
فقد قال عاصم بن علي :مسعت شعبة يقول :لو ل أحدثكم إالَّ عن ثقة ل
أحدثكم إالَّ عن ثالثة ،ويف نسخة عن ثالثني ،ذكره احلافظ العراقي ،وهذا
اعرتاف منه بأنه يروي عن الثقة وغريه فينظر يف حاله ،ويتوقف االحتجاج به
على ثبوت صحته.
الثاني :أنه يف غري حمل النزا ،فأين طلب األعمىي من النيب أن يدعو له،
وتوجهه بدعائه مع حضوره ،من دعاء األموات والسجود هلم ولقبورهم ،والتوكل
عليهم ،وااللتجاء إليهم يف الشدائد والنذر والذبح هلم ،وخطاهبم باحلوائج من
األمكنة البعيدة :يا سيدي يا موالي افعل يب كذا؟!
فحديث األعمى شيء ،ودعاء غري اهلل تعاىل واالستغاثة به شيء آخر،
فليس يف حديث األعمى شيء غري أنه طلب من النيب أن يدعو له ،ويشفع
يف» فعلم
له ،فهو توسل بدعائه وشفاعته ،وهلذا قال يف آخره« :اللهم فشفعه َّ
أنه شفع له.
ويف رواية أنه طلب من النيب أن يدعو له ،فدل احلديث على أنه شفع
له بدعائه ،وأن النيب أمره هو أن يدعو اهلل ويسأله قبول شفاعته ،فهذا من
أعظم األدلة على أن دعاء غري اهلل شرك ،ألن النيب أمره أن يسأل قبول
شفاعته ،فدل على أن النيب ال يدعى ،وألنه ل يقدر على شفائه إالَّ
بدعاء اهلل له.
فأين هذا من تلك الطوام؟ ،والكالم إمنا هو يف سؤال الغائب ،أو سؤال
شخصا خياطبك فتسأله أن
ً املخلوق فيما ال يقـدر عليه إالَّ اهلل ،أما أن تأيت
-94-
يدعو لك ،فال إنكار يف ذلك ،على ما يف حديث األعمى ،فاحلديث
صحيحا أو ال ،وسواء ثبت قوله فيه( :يا حممد) أو ال ،ال يدل على ً سواء كان
سؤال الغائب ،وال على سؤال املخلوق فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل بوجه من وجوه
الدالالت .ومن ادعى ذلك ،فهو مفرت على اهلل وعلى رسوله ،ألنه إن كان
سأل النيب نفسه ،فهو ل يسأل منه إالَّ ما يقدر عليه ،وهو أن يدعو له،
وهذا ال إنكار فيه وإن كان توجه به من غري سؤال منه نفسه ،فهو ل يسأل
متوجها بدعائه ،كما هو ن أول ً منه ،وإمنا سأل من اهلل به ،سواء كان
متوجها بذاته على قول ضعيف. ً احلديث وهو الصحيح ،أو كان
(التوجه إلى الخالق بذوات المخلوقين بدعة منكرة ،وأجنبية عن
الشريعة وفهم حامليها).
فإن التوجه بذوات املخلوقني ،واإلقسام هبم على اهلل بدعة منكرة ،ل تأت
عن النيب ،وال عن أحد من أصحابه ،والتابعني هلم بإحسان ،وال األئمة
األربعة وحنوهم من أئمة الدين.
قال أبو حنيفة :ال ينبغي ألحد أن يدعو اهلل إالَّ به ،وقال أبو يوسف :أكره
حبق فالن وحبق أنبيائك ورسلك ،وحبق البيت ،واملشعر احلرام .وقال القدوري:
املسألة حبق املخلوق ال جتوز ،فال يقول :أسألك بفالن ،أو مبالئكتك ،أو
أنبيائك ،وحنو ذلك ،ألنه ال حق للمخلوق على اْلالق ،واختاره العز بن عبد
السالم ،إالَّ يف حق النيب خاصة إن ثبت احلديث ،يشري إىل حديث األعمي،
وقد تقدم أنه على تقدير ثبوته ليس فيه إالَّ أنه توسل بدعائه ال بذاته»
(املختصر املفيد :ص.)241 – 245
خامسا :أن اإلكثار من مدارسة هذه القضايا ومناقشتها ودعوة الناس إليهاا
يثمر أمرين مهمني مها:
األمر األول :قيام جمتمع متمسك باإلسالم الصحيح على ضوء الكتاب
والسنة.
-91-
قال حممد كرد على رمحه اهلل تعاىل يف بيان الثمرة اليت نتجت من الدعوة
اليت قام هبا الشيخ حممد بن عبد الوهاب« :وما ابن عبد الوهاب إال داعية
هداهم من الضالل وساقهم إىل الدين السمح ،وإذا بدت شدة من بعضهم
فهى ناشئة من نشأة البادية ،وقلما رأينا شعب من أهل اإلسالم يغلب عليه
التدين والصدق واإلخالص مثل هؤالء القوم ،وقد اختربنا عامتهم وخاصتهم
سنني طويلة فلم نرهم حادوا عن اإلسالم قيد غلوه» .اهـ.
وقال طه حسني( :قلت :إن هذا املذهب اجلديد قدمي ،والواقع أنه جديد
بالنسبة إىل املعاصرين ولكنه قدمي يف حقيقة األمر ،ألنه ليس إال الدعوة القوية
إىل اإلسالم اْلال النقي املطهر من شوائب الشرك والوثنية ،هو الدعوة إىل
ملغيا كل واسطة بني اهلل وبني
خالصا هلل وحده ًً اإلسالم كما جاء به النيب
الناس ،هو إحياء لإلسالم العريب وتطهري له مما أصابه من نتائج اجلهل ومن
نتائج االختالط بغري العرب فقد أنكر حممد بن عبد الوهاب على أهل جند ما
كانوا قد عادوا إليه من جاهلية يف العقيدة والسرية ،كانوا يعظمون القبور،
ويتخذون بعض املوتى شفعاء عند اهلل ،ويعظمون األشجار واألحجار ،ويرون
أن هلا من القوة ما ينفع ويضر ،وكانوا قد عادوا يف سريهتم إىل حياة العرب
اجلاهلني ،فعاشوا من الغزو واحلرب ونسوا الزكاة والصالة ،وأصبح الدين امسًا ال
مسمى له ،فأراد حممد بن عبد الوهاب أن جيعل من هؤالء األعراب اجلفاة
حقا على حنو ما فعل النيب بأهل احلجاز منذ أكثر من قوما مسلمني ً املشركني ً
أحد عشر قرنًا.
ومن الغريب أن ظهور هذا املذهـب اجلديد يف جنـد قد أحـاطت به
-91-
ظروف تذكر بظهور اإلسالم يف احلجاز فقد دعا صاحبه إليه باللني أول األمر
فتبعه بعض الناس ،مث أظهر دعوته فأصابه االضطراب وتعرض للخطر مث أخذ
يعرض نفسه على األمراء ورؤساء العشائر كما عرض نفسه على القبائل مث
هاجر إىل الدرعية ،وبايعه أهلها على النصر ،كما هاجر النيب إىل املدينة ولكن
ابن عبد الوهاب ل يرد أن يشتغل بأمور الدنيا فرتك السياسة البن سعود واشتغل
هو بالعلم والدين ،واختذ السياسة وأصحاهبا أداة لدعوته فلما م له هذا ،أخذ
يدعو الناس إىل مذهبه فمن أجاب منهم قبل منه ومن امتنع عليه أغرى به
السيف وشب عليه احلرب.
وقد انقاد أهل جند هلذا املذهب وأخلصوا له وضحوا حبياهتم يف سبيله على
حنو ما انقاد العرب للنيب وهاجروا معه.
«ولوال أن الرتك واملصريني اجتمعوا على حرب هذا املذهب وحاربوه يف داره
جدا أن يوحد هذا بقوى وأسلحة ال عهد ألهل البادية هبا لكان من املرجو ً
املذهب كله كلمة العرب يف القرن الثاي عشر والثالث عشر للهجرة كما وحد
ظهور اإلسالم كلمتهم يف القرن األول ولكن الذي يعنينا من هذا املذهب أثره
خطريا من نواح
يف احلياة العقلية واألدبية عند العرب وقد كان هذا األثر عظي ًما ً
خمتلفة ،فهو أيقظ النفوس العربية ووضع أمامها مثالً أعلى أحبته وجاهدت يف
مجيعا وأهل العراق
سبيله بالسيف والقلم والسنان ،وهو قد لفت املسلمني ً
والشام ومصر بنو خاص إىل جزيرة العرب» .اهـ( .ينظر كتاب :حممد بن عبد
الوهاب «ص »932 – 935ألمحد عبد الغفور عطار).
وهذا الذي نبه عليه حممد كرد على وطه حسني قد نبه الشيخ حممد بن
عبد الوهاب بقوله( :ولكنن بينت للناس إخالص الدين هلل ،وهنيتهم عن دعوة
األحياء واألموات من الصاحلني وغريهم ،وعن إشراكهم فيمـا يعبـد اهلل به
-25-
من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغري ذلك مما هو حق اهلل الذي ال يشركه فيه
أحد ،ال ملك مقرب وال نيب مرسل ،وهو الذي دعت إليه الرسل من أوهلم إىل
آخرهم ،وهو الذي عليه أهل السنة واجلماعة ،وبينت هلم أن أول من أدخل
الشرك يف هذه األمة هم الرافضة الذين يدعون عليًا وغريه ،ويطلبون منهم قضاء
احلاجات وتفريج الكربات ،وأنا صاحب منصب يف قرييت مسمو الكلمة،
أيضا ألزمت من حتتفأنكر هذا بعض الرؤساء لكونه عادات نشئوا عليها ،و ً
يدي بإقام الصالة وإيتاء الزكاة وغري ذلك من فرائض اهلل ،وهنيتهم عن الربا
وشرب املسكر وأنوا املنكرات .»...اهـ( .الدرر السنية.)15/9 :
وقال الشيخ عبد اهلل بن الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل( :فنحن
أقمنا الفرائض والشرائع واحلدود والتعزيرات ،ونصبنا القضاة وأمرنا باملعروف وهنينا
عن املنكرات ونصبنا علم اجلهاد على أهل الشرك والعناد فلله احلمد واملنة.
(الدرر السنية.)94/4 :
واألمر الثاي :نتج من هذا اجملتمع املتمسك بالدين الصحيح دولة حتكم
الكتاب والسنة وتدعو إىل ذلك ،كما حصل يف عهد الشيخ حممد بن عبد
الوهاب رمحه اهلل.
وقال عبد العزيز بن حممد بن سعود( :ونأمر مجيع رعايانا باتبا كتاب اهلل
وسنة رسوله ،وإقام الصالة يف أوقاهتا واحملافظة عليها ،وإيتاء الزكاة ،وصوم شهر
رمضان وحج البيت من استطا إليه سبيال ،ونأمر جبميع ما أمر اهلل به ورسوله
من العدل وإنصاف الضعيف من القوي ،ووفاء املكاييل واملوازين ،وإقامة حدود
مجيع عن وننهى والوضيع الشريف على اهلل
ما هنى عنه اهلل ورسوله من البد واملنكرات ،مثل الزنا والسرقة وأكل أموال
-29-
بعضا ونقاتل
الناس بالباطل وأكل الربا وأكل مل اليتيم وظلم الناس بعضهم ً
لقبول فرائض اهلل اليت اجتمعت عليها األمة .فمن فعل ما فرض اهلل عليه فهو
أخونا املسلم وإن ل يعرفنا ونعرفه .»...اهـ.
وقد قام الشيخ مدحت وفقه اهلل جبمع كالم أهل العلم على هذه القضايا
واملسائل من الدرر السنية وجمموعة الرسائل واملسائل وجمموعة التوحيد وشروح
التوحيد وفتاوى اللجنة الدائمة وغريها من املصادر .وقد رتب كالم أهل العلم
وألف بينه ،وذكر أبوابًا تزيد يف توضيح كالم أهل العلم على هذه القضايا ،كما
أنه قدم مبقدمات للقضايا اليت م عرضها يف هذا الكتاب ،مع ختم بعض
خريا وبارك فيه.
األبواب مبلخ ملا تقدم ،فجزاه اهلل ً
كتبه
عبد اهلل بن عبد الرحمن السعد
-22-
مقدمة المختصر
( )1الرد علي اجلهمية )95 – 96( :إلمام أهل السنة ،اإلمام أمحد بن حنبل ،حتقيق د /أمحد بكري
حممود ،دار قتيبة (بريوت -دمشق) الطبعة األويل 9499هـ 9115 -م.
-6-
جدا ،مث
ما شعرت منه تكر ًارا ،ال يفيد املراد من االختصار ،وهو قليل ً
قمت بانتقاء أدق النقول الدالة على املراد من املسائل اليت جاءت يف عناوين
املباحث.
ولقد حذفت من الكتاب امللخ لكل فصل ،املعنون بـ «بكلمات منتقاة
دقيقا لكل
تلخيصا ً
ً مضيئة» ،وكذلك اهلوامش اجلانبية ،ووضعت بدالً منهما:
باب ،يتمثل يف أهم النقاط الرئيسة ،اليت يدور حوهلا ،ويتمحور عليها.
أخريا أسأل اهلل سبحانه أن جيعل كل أعمالنا صاحلة ،وأن جيعلها له و ً
خالصة ،وأن ال جيعل فيها ألحد من دونه من شيء.
أخوكم أبو يوسف
مدحت بن الحسن آل فراج
ص.ب 2167الرياض 66327
Abo_Yosef2003@hotmail.com
جوال6061742150 :
-5-
-4-
المـقـدمـة
إن احلمد هلل ،حنمده ونستعينه ،ونستغفره ،ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا،
وسيِّئات أعمالنا ،من ْيه ِده اهلل فال مضل له ،ومن يضلل فال هادي له ،وأشهد
حممدا عبده ورسوله . أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،وأشهد أن ً
ين َآمنواْ اتَّـقواْ الليهَ َح َّق تـ َقاتِِه َوالَ ََتوت َّن إِالَّ َوأَنتم ُّم ْسلِمو َن﴾ َّ ِ
﴿يَا أَيـُّ َها الذ َ
[آل عمران﴿ .]952 :يَا أَيـُّ َها النَّاس اتـَّقواْ َربَّكم الَّ ِذي َخلَ َقكم ِّمن نـَّ ْفس
ث ِمْنـه َما ِر َجاالً َكثِ ًريا َونِ َساء َواتـَّقواْ الليهَ الَّ ِذياح َدة َو َخلَ َق ِمْنـ َها َزْو َج َها َوبَ َّ وِ
َ
ِ َّ ِ ِ ِِ
تَ َساءلو َن به َواأل َْر َح َام إ َّن الليهَ َكا َن َعلَْيك ْم َرقيبًا﴾ [النساء﴿ .]9 :يَا أَيـُّ َها الذ َ
ين
صلِ ْح لَك ْم أ َْع َمالَك ْم َويَـ ْغ ِف ْر لَك ْم ذنوبَك ْم
يدا * ي ْ
ِ
َآمنوا اتـَّقوا اللَّ َه َوقولوا قَـ ْوًال َسد ً
ِ ِ
يما﴾ [األحزاب.]49 ،45 : َوَمن يط ْع اللَّهَ َوَرسولَه فَـ َق ْد فَ َاز فَـ ْوًزا َعظ ً
أما بعد :لقد أظلتنا سحابة الفنت ،وأمواج احملن ،وظلمات البالء ،وطالت
علينا ليايل الفساد ،حىت عاد الدين غريبًا كما بدأ ،وخرجت فئام ومجاعات من
اجا.
اجا كما دخلوا فيهما من قبل أفو ً
الناس عن جوهره وحقيقته أفو ً
ولقد تكالبت علينا األعداء على اختالف عقائدهم ومناهلهم وتوجهاهتم،
عما بينهم
صفحا من الذكرَّ ،
وصالوا وجالوا بالفساد خالل ديارنا ،بعدما ضربوا ً
وحتزبات ،ريثما يتم هلم القضاء على اإلسالم وأهله.
من مباينات واختالفات ُّ
قوسا واحدة ،بيد واحدة ،حيركها قلب واحد ،ليضربوا هباوأمسك احلاقدون ً
سهام الغدر واملكر واْلبث والدهاء .ولقد صرخ شيطان الكفر
صوبوا سهامكم جتاه القلوب والعقول واملراكز احلساسة حىت
يف شيعته قائالًِّ :
-1-
نصيبهم بالشلل التام ،والغيبوبة القاتلة لئال تكون هلم رجعة ،وينقطع نسلهم من
وجوها ممتلئ بالسموم،
الوجود .وأرض املعركة مشتعلة ،ومساؤها ملبَّدة بالغيومَّ ،
وطيورها تدعو بالويل والثبور ،ودخان الغدر يفوح ،ورائحة اْليانة قد أزكمت
األنوف.
وفصيل الكفر قد جاء مرصوص الصفوف ،مرتجلني بعدما قاموا بعقر
خيوهلم ،وكسر أغمدة سيوفهم ،ونصب سهامهم ،وتصويب رماحهم،
مصطحبني معهم نساءهم وذراريهم ،حىت يستحيل الفرار ،وي ْدبِر اهلروب؛
وعزموا على احلرب اليت ال تعرف إالَّ الدمار واْلراب واالستئصال دون العمار
والبناء والوجود.
بعضا ،وقد سرحوا وأما فصيل املسلمني فقد جاء بصفوف يواجه بعضها ً
صوبوا سهامهم ورماحهم ،لكن خيوهلم ،وأمخدوا سيوفهم يف غمادها ،إالَّ أهنم َّ
جتاه العلماء الربانيني ،والدعاة املخلصني ،واجملاهدين املناضلني ،...منشدين
بذلك السالم واألمان من عدو لدود ال يعرف إالَّ الكيد ،وال يرضى بغري الكفر.
ووسط هذا الزخم الشديد واْلضم اهلائل من الفنت املائجة ،أصبح حال
أمتنا املرير كصيد مثني بني مجاعة من النسور الضارية ،كل واحد منها ينهش منه
كل ما َّلذ له وطاب ،وقت ما شاء ،وميت ما أراد.
موجا ،وميور
وإزاء هذا العداء السافر جند حال أمتنا األليم ،ميوج بصراعاته ً
مورا .ويف كل يوم ،أو باألحرى يف كل ساعة ،تأيت بليَّة عظيمة، بتجزباته ً
وداهية فظيعة ،وتتواىل علينا الفنت العمياء الصماء البكماء ،اليت يرقق بعضها
بعضا ،حىت إذا رأى املؤمن إحداها قال :هذه مهلكيت ،فإذا أدبرت وجاءت ً
األخري قال :هذه هذه...
اللَّ َّ
هم إنا نشكو إليك :ضعفنا وقلة حيـلتنا ،وهواننا على الناس ،ونشكو
-1-
إليك ظلم الطواغيت ،وزندقة املنافقني ،وكل لسان مسموم ،وقلم مأجور
ونشكو إليك كل حمرف ومبدل ،وكل ساكت عن احلق ،أو متكلم بالباطل،
حىت ميَّرر هبم كيد األعداء وخمططاهتم على أمتنا اإلسالمية ،لتظل ضاربة يف
غفلتها ،وتغط يف نومها ،وتستمر مغيبة عن دورها وهدفها وعلة وجودها.
حال طوائف األمة الحالي:
وإن تنظر جتد عجبًا ال ينقضي من حال معظم فصائل األمة جتاه هذا الكيد
الشرس ،الذي ال يرقب أصحابه فينا إالً وال ذمة ،بل وال يعرفون إالَّ طمس
احلقائق ،وتلبيس املفاهيم ،واختالط األوراق ،اليت من شأهنا أن جتعل املسلم
دوما يف حرية من أمره ،غري حمدد املعال واحلدود واهلوية ،هكذا أرادوا.
ً
فنجد :طائفة من األمة قد جعلت أصابعها يف آذاهنا ،واستغشت ثياهبا ،غري
آهبة بشيء من الكيد والعدوان.
ومنها( :طائفة) رفعت لواء التلبيس والتحريف تارًة ،والتبجح بالباطل تارًة،
والسكوت املزري املشني عن إبطاله أخرى ،كل ذلك لتبقىي األمة ضاربة يف
الظلمات بال دليل ،وشاردة يف جنبات الوجود بال زمام.
ومنها( :طائفة) غرقت يف أهنار البد ،وحبار اْلرافات واملخالفات العقدية
والعملية ،تارًة لثقل تكاليف املشرو ،وأحيانًا حلب التجديد تروحيًا على النفوس،
كثريا بسبب جهامة اإللف ،والعادة ،وتقديس دين األباء اْلارج عن سلطان و ً
العلم ،ومرجعية الوحي.
ومنها( :طائفة) سبحت يف حبار الشهوات ،وغاصت يف وحل اهلوى ،وكأن
الدين شأن غريهم.
تفصل ثوبًا ألصول السنَّة واملنهجية السلفية،ومنها( :طائفة) أرادت أن ِّ
جاعلة من أهم وأدق أوصافه أن حيقق ألصحابه تلبية نداء الفطرة ،وأهنم حبق
-95-
محاة الدين دون غريهم ،ولكن بشرط أن ال يدخلهم يف حلبة الصرا
احلقيقي ،بل يف هامشه ،واألوىل أن خيرجهم عن دائرته وحدوده ومعامله بالكلية.
عهدا على االلتزام بأي شعرية من ومنها( :طائفة) عقدت بينها وبني أنفسها ً
شعائر اإلسالم ،لكن بشرط -غري مقروء وال مكتوب وال مسمو -أن ال
شديدا لتحري احلالل، يرتتب عليه أي حرج يف دنياها ،وقد جتد لديها توخيًا ً
واجتناب احلرام ،واملداومة املستمرة على عبادة اهلل ،لكن املهم واملراد أن تبقى
منزوعة املواقف ،ال والء ،وال براء ،ال سيما يف األمور اليت تنبن عليها التكاليف
العظام ،وتكون حبق مفرق طريق بني احلق والطغيان.
ومنها( :طائفة) أخذت على عاتقها نشر فكر اإلرجاء اْلبيث ،وبث آثاره
دوما أجياالً ال تعرف إالَّ التميع ،وسياسة خيرج ً السيئة ،الذي من شأنه أن ِّ
الرتقيع واالستسالم والذلة واملهانة ،مع حماولة تذويب الفواصل واحلدود بني احلق
والباطل ،من أجل التقابل بينهما يف منتصف الطريق ،وهيهات هيهات ملا
يريدون ويؤملون.
رد الفعل؛ومنها( :طائفة) ل تتنب سياسة الفعل ،ولكن تبنَّت سياسة ي
فقامت متعطشة لسفك الدماء ،وانتهاك األعراض ،وترويع اآلمنني ،وأخذت
الردة والتكفري والتبديع والتفسيق،سلطانًا من تلقاء أنفسها جتري به أحكامَّ :
لكل مارق عن هديها أو خارج عن إطار مجاعتها ،وقدمت للعال كله كافة
افرتاءاهتا على أهنا أصل اإلسالم ،وأساس العقيدة الصحيحة املنضبطة ،الذي ال
قدما على سننها هكذا زعموا! يسع طالب احلق إالَّ اتباعها ،واملضي ً
ومنها( :طائفة) أعطت والءها الكامل للنظام القائم ولرايته املرفوعة ،أيًا
كانت وجهتها املعلنة ،سواءً كانت راية إسالمية أو علمانية ،أو قومية ،أو
خالصا للراية
بعثية ،أو راية خملطة ...املهم لديها أن الوالء يعطي ً
-99-
املرفوعة ،وكذلك قامت بإعالن الرباءة من كل الرايات اليت ل حتن الفرصة
بعد لرفعها ،وذلك لعظيم جهلها ،وكبري غفلتها.
ومنها( :طائفة) أرادت عزل الدين ومقوماته ،وشرائعه وأصوله ،عن سياسة
دنيا األمة ،وترسيم منهج حياهتا ،وحتديد جماالت عالقتها بني خمتلف مناحي
قطاعاهتا الداخلية من جانب ،وبني كل من حوهلا من أصحاب األديان وامللل
والنحل من جانب آخر .وأرادت أن تقصر دور الدين ،وحتصره بني العبد وربه
يف بعض الطقوس التعبُّدية وذلك إىل حني ،فإذا َتكنت من خمططها العفن
وكيدها اْلبيث ،قامت باْلطوة الثانية املتمثلة يف إهناء دور الدين بالكلية،
الردة -اليت ال تعرف العودة
التمرد الواضح على كافة تعاليم األديان ،و َّ
وأعلنت ُّ
-عن سائر الشعائر والشرائع.
ومنها( :طائفة) ثارت على كل ما هو باطل ،ومنكر ،وقامت تسبح ضد
تيار عات ،لتحدي سيل الطغيان اجلارف ،ول تبخل يف سبيل ذلك بشيء من
دمائها وأمواهلا ،بل وقدمت نفسها قربانًا لرضا الرب سبحانه ،وفدية لنصرة دينه،
وإقامة شريعته ،وسطرت بدقائق حياهتا وقطرات دمائها الزكية أرو ألوان البطولة
والفداء ،وأبت إالَّ االنطالق من محى اإلخالص لبارئها سبحانه ،حىت تعيد
األمة لطريقها ،وتثبت قواعد دينها الرباي احلنيف .ونراها على قلَّة عددها،
وضعف عدَّهتا ،إالَّ أن اهلل سبحانه قد اصطفاها من الناس ليصنع هبا قدره،
وينفذ هبا وعده ،وقد ألقى هلا الرعب يف قلوب أعدائها.
ولكن بنظرة متأنية خالية من العواطف ،جند أن نقطة الضعف الغائرة يف
جسد هذه الطائفة يكمن يف عدم قيامها وانطالقها من منهج شامل متكامل
متأصل بالرباهني والدالئل ،حىت تستطيع من خالله :حتديد أطر البدايات،
ومستلزمات كل مرحلة من مراحل الصرا ،والتخل من عشوائية
-92-
القرارات ،وإشاكلية تداخل أطوال العمل املنهجي لعودة هذا الدين ،ومن
مث تتمكن من القيام بعرض واقع األزمة الراهنة بكل أبعاده احلقيقية ،مع بيان
مردود فعله اْلطري على كافة أبناء األمة ،ليتجلى بذلك لب الصرا ،وحقيقة
املعركة اهلائلة واحلامسة ،اليت ينبغي أن ختوضها األمة شاءت ذلك أم أبت.
وبعد ما قمنا بتقليب الطرف يف أحوال أمتنا ،يتجلى لنا بوضوح ِّبني:
وجوب البحث احلثيث ،والتنقيب الدائم املستمر عن منهج أصيل ،يتميز
بالشمولية ،ويتَّسم باملرجعية الصحيحة املنضبطة ،قد التحم فيه جانبه العقدي
جبانبه العملي ،وشقه النظري بشقه الواقعي ،ومن مث نستطيع أن نقدمه ألمتنا
على أنه الطريق الوحيد ،والسبيل الفريد للخروج من أزمتها احلالية ،والعبور هبا
من ذلة التبعية إىل عزة الريادة ،وبالتايل حشد كل الطاقات ،وجتنيد كافة
اإلمكانات للسري به وخلفه وحتت لوائه ،حىت يتسى لنا أن نستعيد زمام البشرية
من يد أل يد أعدائها ،وخنرج لديننا احلنيف من غربته الثانية إىل ظهوره وعلوه
وَتكينه الثاي ،كما خرج به الصحابة من غربته األوىل إىل ظهوره وعلوه وَتكينه
األول.
أعود فأقول :كم حنن اليوم يف مسيس احلاجة إىل منهج رباي ،ننطلق منه،
ونصار من قبل كافة امللل والنحل املارقة
َ ونعود إليه ،ونستظل به ،وحنن نصار
عن حقيقة الوجود ،واْلارجة عن علة اْللق واإلجياد ،والضاربة يف عطن الفساد
ومستنقع اإلحلاد.
كم يفقد املسلمون الغايل والثمني ،من دمائهم ،وأنفسهم ،وأمواهلم،
وأعراضهم ،ومقدساهتم ،وأراضيهم ،وذراريهم ...عندما خيوضون جولة من
جوالت الصرا مع أعدائهم ،يف أثناء غياب منهج مشويل متكامل أصيل
التباسا،
مدروس .وكم تزداد احملن قوة ،والفنت ظلمة والشبهات ً
-93-
اسا حينما تفقد األمة اإلسالمية وسائل االرتباط ضياعا واندر ً
ً واحلق
سندا جبميع الرسل والنبيني صلوات اهلل مبنهجها املنضبط القومي -املتصل ً
وسالمه عليهم -حال الصرا والنزال.
وعندنا نقلب صفحات التاريخ اْلالدة -املليئة بالدروس والعرب ،-جند أن
األمة اإلسالمة قد مر عليها كثري من احملن والرزايا ،اليت حتمل من الكيد والدهاء
واْلبث ،ما اهلل به عليم ،حىت كاد بعضها أن يكسر اإلسالم ،ويقصم ظهر
أمته ،ويستأصل وجود أبنائه ،إالَّ أن األمة ما تلبث أن تفيء من سكرهتا،
وتستيقظ من غفلتها إىل منهجها القومي لتصطبغ به ،فتخرج منه وبه أمة أبيَّة
على املكر ،عصيَّة على العداء ،داحرة لكل ظال وطاغ وباغ ،وتنتهي بذلك
إحدى جوالت الصرا -اليت ال تنتهي ما بقي زمان التكليف -بني اإلسالم
والكفر ،لصاحل احلق ،ولعز املسلمني.
ودائما كنا نرى يف هجمات أهل الكفر الشرسة على أهل ملتنا :تكاتف ً
العلماء واألمراء ،ومن ورائهم كافة طبقات األمة ،وتتعانق األيدي والقلوب،
وترص الصفوف ،وتعبأ كل الطاقات ملواجهة هذا الكيد السافر ،حىت ينجلي
مكرهم ،ويرد كيدهم يف حنرهم.
أما يومنا الطويل األسى ،البالغ من احلسرة مداه ،فلألسف الشديد ،نرى:
شديدا ،مع فقدان للثقة بني كثري من فصائل األمة ،وهذا التفكك وخورا ًتفك ًكا ً
قد ورثنا :الذلة واملهانة ،واستمراء الدنية ،واستمرار التبعية ،وورث أعداءنا بدوره:
وسفورا يف العداء.
ً وعلوا،
ومشوخاً ،
استعالءًً ،
وهذا مما يربهن ويؤكد على حاجة األمة الضرورية إىل منهج شامل منضبط
صحيح ،تلوح فيه جبالء :البدايات والنهايات ،والقواعد واألصول والنتائج،
والوسائل واألهداف والغايات.
-94-
وانطالقًا من إجياد حل للمصائب العظام والدواهي الكبار ،اليت حتيط بأمتنا،
وهتدد حبق وجودها وبقائها ،بدأت البحث احلثيث ،والتنقيب الدائم املستمر عن
منهج أصيل منضبط ،يصلح أن يقدم ألمتنا على أنه العالج الناجح الوحيد،
الذي ينبغي أن تنجرعه لتخرج به من أزمتها الراهنة ،وتثبت قدماها على طريق
التحدي الرهيب.
وقد وقع اختياري على تراث اإلمام اجملدد شيخ اإلسالم حممد بن عبد
الوهاب رمحه اهلل تعاىل ،وطيب مثواه ،وذلك لعمق منهجه ،وأصالته ،وقوته،
ومشوليَّته ،وكذا قرب عهده منَّا ،ومشاهبة ظروف وأوضا نشأته لظروفنا وأوضاعنا
َتر هبا يف
احلالية ،فقد كانت األمة اإلسالمية َتر إىل حد كبري بذات األزمة اليت ُّ
فرتتنا اآلنية ،وكذلك واجهت حركته -رمحه اهلل تعاىل -ذات الطواغيت
واملنافقني ومرتزقة األقالم والكلمات ،اليت نصارعها ونواجهها يف جولتنا احلالية.
فلما تشاهبت علل النشأة ،وأحوال املرحلة ،وطبيعة العداء وحجم الصرا ،
على ،الغوص العميق يف ثنايا هذا الرتاث ،الستخراج وتوجب ي رأيت أنه قد تعني َّ
كنوزه ،واغتنام ثرواته ،فقمت -مستعينًا باهلل العليم اْلبري -بتبويت هذا الرتاث
ومارا بالنواقض
منهجيا مشوليًا ،مبتدئًا فيه باملقدمات واألصولً ،ً املتناثر ،تبويبًا
والعوائق ،ومنتهيًا بالنتائج والعواقب.
والقصد من وراء هذا العمل :أن تظهر بوضوح حقيقة تلك الدعوة ،وينجلي
مشوهلا العميق ،ومن مث يستحيل اختزاهلا املراد هلا من قبل أعدائها يف بعض
جوانبها فقط ،لئال تكون قادرة على حماربة الطغيان ،ومنازلة الفساد ،ومقارعة
اْلارجني عن شريعة اهلل وعبوديته ،اليت ما خلقت اْلليقة إالَّ لتعبده وحده ال
شريك له ،وتستظل بشريعته يف كل جوانب حياهتا ،حىت تلقاه سبحانه على
ذلك غري مفرطة ،وال عادلة ،وال مبدلة.
-96-
مميزات هذا المنهج:
لقد اتصف هذا املنهج املبارك -إن شاء اهلل تعاىل -خبصال طيبة،
قل أن توجد جمتمعة لغريه ،منها:وصفات حسنة ،ومميزات أصيلة ،ي
وتطوره الطبيعي ،مع األحداث والوقائع ومتطلبات كل مرحلة من ـ مشوليَّتهُّ ،
مراحل الصرا ،مع مراعاة حدود وطاقات وإمكانيات املسلمني الراهنة.
سندا ومعى ،واحلشد الدائم آلحاد األدلة -مع ـ تأصيله بالرباهني املتواترة ً
مراعاة روح ومقاصد التشريع -لكل مسألة من مسائله ،حىت يتسى اليقني بكل
جزئية من جزئياته ،ومن مثي اجلزم والقطع بكلياته وقواعده.
ـ احلرص الشديد على وجوب اتبا السلف الصاحل ،ال سيما أصحاب
القرون الثالثة األوىل املفضلة ،قرون االتبا واالقتداء.
ـ عدم تقديس أي أحد ،مهما علت مرتبته وارتفع سهمه يف العلم واملكانة،
وجتويز اْلطأ عليه ،مع بيانه إن وقع ،مث االعتذار عنه حبسب احلاجة الداعية
إليه.
ـ بيان قضية التوحيد -اليت هى أصل األصول اإلميانية -وجالء أركاهنا،
وحشد النصوص الدالة عليها واملؤيدة هلا ،مع دحض وإمخاد كافة ألوان الشرك
وأصوله ومواده وذرائعه ووسائله.
وال غرو يف ذلك ،فإن قضية التوحيد هي حبق مفرق الطريق الوحيد ،وحمل
الصرا األبدي الدائم بني املسلمني ،وأعدائهم من كافة امللل والنحل املارقة عن
فطرة الوجود.
ـ االلتحام املصريي بني اجلانب العقائدي ،واجلانب العملي ،دون انفصام
بينهما ،بل ولقد قام أئمة الدعوة -رمحهم اهلل تعاىل -بكل ما قالوه وسطروه
وأصلوه ،دون مهادنة أو مواربة ،وهذا بال شك يبعث على الطمأنينة،
-95-
واليقني يف نفوس أتباعهم ،وأهنم حبق على جادة الطريق ،وكذا جيعل اجلاد
يف دينه -يف كل عصر ومصر -يستطيع أن يرى صورة الصرا كاملة
وبأبعادها احلقيقية ،وأن يبصر معال الطريق واضحة ،ومن مث يستطيع القيام
بتحديد دوره ،واإلحاطة مبتطلبات مرحلته الراهنة بوضوح تام ورؤية شاملة.
ـ اجلرأة يف عرض احلق ،وقبول الصرا ،والتحدي عليه ،ومن أجله.
ـ عدم اْلوف واالنزعاج من النتائج املنبثقة من جتريد عرض احلقائق ،ذلك
نوعا من َتييع األصول ،وعدم الرتتيب املنطقي لألدلة، اْلوف الذي قد يسبب ً
وذلك يوقع ال حمالة يف الفصل بني العلل وأحكامها ،واجلمع بني املتناقضات،
والتفريق بني املتماثالت يف األحكام والغايات.
ـ عدم القبول بأنصاف احللول ،ورفض فكرة االلتقاء يف وسط الطريق بني
شرعا
أهل احلق وأهل الباطل ،ألن هذه السياسة العقيمة -فضالً عن بطالهنا ً
دوما ،أن تعمل على طمس هوية أهل احلق ،وَتييع دورهم ،وتفريغ -من شأهنا ً
هدفهم من حمتواه احلقيقي ،والقضاء على قضيتهم ،والنتيجة املتحتمة واملرتتبة
على ذلك ،هى عجز وقصور أهل احلق عن جهاد أهل الباطل ،وإبطال
قضاياهم املنحرفة ،والتدليل على عدم مشروعيتها ،وهذا من أعظم ما يؤمله أهل
الضالل ويريدونه.
ـ اتبا سياسة حكيمة راشدة يف إمخاد البد ،وحماربة حمدثات األمور ،ال
سيما بدعة اإلرجاء اْلبيثة بدركاهتا املختلفة ،وما َتخض عنها ،من حتلل عن
الشرائع ،وانغماس مزري يف وحل الكفر والفسوق والعصيان ،وكذا إصباغ
الشرعية على كل قوى الطغيان ،بدعوى أن أصحاهبا يقولون« :ال إله إالَّ اهلل»؛
واإلميان العاصم للدماء واألموال -يف زعمهم -ال يكون
-94-
إالَّ مبجرد نطقها ،مع التصديق الكامل هبا!!! وها حنن نرى اليوم ربيب
اإلرجاء اْلبيث ،الذي منا وترعر يف حضانته ،وحتصن حبصنه -الغري حصني -
أال وهو العلمانية اْلبيثة ذات الظالل العفنة والظلمات املرتاكمة.
وكل ذلك كان بسبب عدم مواجهة احلركة اإلسالمية آلثار اإلرجاء العقيمة،
ومقارعة أقطابه ،وبيان فساد منهجه ،وخطورة ردود أفعاله على اإلسالم
واملسلمني.
ـ احلرص الشديد على التسلح بالدليل ،ومنازلة احلجة باحلجة ،ومقارعة
خرجت هذه الربهان بالربهان ،مع رفض التقليد ،وإباء االتبا املذموم ،ومن مثي َّ
ألفا
الدعوة -بفضل اهلل سبحانه -العامي الراسخ يف دينه ،والذي يغلي حبق ً
من علماء املشركني ،ناهيك عن العلماء واحلفاظ والدعاة وطلبة العلم ،الذين
خرجوا وما زالوا يتخرجون من جامعة هذا الرتاث.
امتدادا ضاربًا يف أعماق التاريخ ،ملدرسة العال الرباي،
ً ـ هذه الدعوة َتثل
شيخ اإلسالم أمحد بن عبد احلليم املعروف بابن تيمية احلراي الدمشقي ،ومن
ورائه تلميذه اإلمام العالَّمة ابن قيم اجلوزية.
وبأدىن نظر يف تراث شيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب جند أن كل ،أو
جل مسائله ،ودالئله وردوده ،وتقريراته ،مستقاة كاملة ،أو شبه كاملة من تراث
شيخ اإلسالم إمام األئمة ،جهبذ اجلهابذة ،أمحد ابن تيمية رمحهما اهلل تعاىل،
ولقد صدقت كلمة أحد املستشرقني حيث قال :لقد ترك شيخ اإلسالم أمحد
ألغاما ،فجر بعضها شيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب ،نسأل اهلل أن بن تيمية ً
يعني العلماء الربانيني ،والدعاء املخلصني على تفجري ينابيع احلكمة ،وأنوار
اهلدى ،الساطعة من تراثه الطاهر.
-91-
منهجي في البحث:
لقد كان نصب عين منذ الوهلة األوىل للشرو يف هذا الكتاب ،أن تعرض
أصوله ،وقواعده ،وردوده ،ونتائجه دون أدي شائبة تَ َد ُّخل ،أو وصاية على ما
قرره هؤالء األئمة األعالم ،من أحكام وتقريرات ،لتبقى بصماهتم ،عالية وكاملة
وظاهرة عليها؛ ألي على قناعة تامة ،حباجة األمة الضرورية ،إىل ما قررته أئمتها
األعالم ،وعلماؤها الربانيون ،لكن بشرط عزيز ،وهو أن تعرض كاملة،
وواضحة ،ومركزة ،وبأمانة تامة ،دون أي حذف ،أو شطب ،أو اختزال لشيء
غري مراد من تراثهم ،وما سطرته أيديهم .ولذلك فقد كان مهي األكرب يف هذا
املقام ،أن يقدم هذا اإلرث الطاهر لألمة اإلسالمية يف صورة منهج أصيل
متكامل كما كان يف حس صاحبه ومؤسسه اإلمام حممد بن عبد الوهاب،
مجيعا.
وأحفاده وتالميذه رمحهم اهلل ً
ولقد قمت بتقسيم الكتاب إىل ثالثة أبواب ،الباب األول جاء يف :أصول
التوحيد واإلسالم واإلميان؛ والباب الثاي يف :الشرك واملشركني؛ والباب الثالث
يف :األحكام املرتتبة على مفهوم التوحيد والشرك.
وإفرادي لألحكام املرتتبة على مفهوم التوحيد والشرك يف جزء منفرد عن
جزئي التوحيد والشرك ،من أجل أن يتم الفصل التام بني القيام بالتوحيد مع
الرباءة من الشرك ،كعقيدة جيب القيام هبا ،ليتحقق بذلك أصل الدين ،ويكون
مسلما ،وبني إجراء األحكام املنبثق من تصور َحدَّي التوحيد والشرك، املرء به ً
وطبيعة العالقة بينهما ،حىت ال يأيت اْللط ،ويتم الدمج بني حتقيق أصل الدين
معا يف سلة واحدة ،من من جهة وإجراء األحكام من جهة أخرى ،ووضعهما ً
حيث التأصيل ،والتدليل ،ودرجة املشروعية ،ومن مث حتل الطامة العظمى،
والداهية الكربى املتمثلة يف الغلو املذموم يف التكفري
-91-
وإخراج السواد األعظم جلمهور املسلمني من دينهم وملتهم ،بال دليل وال
برهان ،اللَّهم إالَّ الزعم بأن إجراء األحكام على املشركني واملرتدين من صلب
وماهية أصل الدين ،تلك الدعوى املفرتاة اليت ل يقم عليه صحتها دليل صحيح
صريح من الكتاب ،أو السنَّة ،بفهم أصحاب الثالثة القرون األوىل املفضلة ،وال
إمجاعهم املعصوم ،الواجب االتبا .
وعندنا نقرر هذا ،فينبغي أن نقرر ونعلن يف مقابله :أن العلماء قد ع يدوا
ناقضا من
عدم تكفري املشركني ،أو الشك يف كفرهم ،أو تصحيح مذهبهمً ،
شاسعا ،بني
ً كبريا ،وبونًا
نواقض اإلسالم ،املبيحة للدم واملال ،ولكن هناك فرقًا ً
أن يكون إجراء األحكام على املشركني بإطالق أصالً من أصول الدين ،وبني أن
ناقضا من نواقض اإلسالم ،خيضع يف ذلك يكون يف بعض مناطاته وصورهً ،
لتوفر شروط التكفري ،وانتفاء موانعه ،اليت قررها الصحابة والتابعون ،ومن سار
على درهبم ،واقتفى أثرهم ،ال أهل اإلرجاء والتجهم احلديث واملعاصر ،الذين
يريدون غلق هذا الباب ،وطي هذا امللف ،حىت َتى كثري منهم عدم اْلوض يف
هذه القضية ،أو احلديث عنها ،أو مساعها ،لئال تقسو القلوب ،وتزل األقدام يف
الوقو يف احملذور ،هكذا زعموا!
وال يفوتن يف هذا املقام ،أن أعلن الرباءة من كل من منهجي اْلوارج
واملرجئة ،والتحذير املتكرر لألمة من عاقبة شؤم بدعتهما ،وآثارمها السيئة ،ولكن
انطالقًا من معال منهج أهل السنَّة واجلماعة ،الذي يريد اْلري الدائم لكل
دوما أن نرفع أكف الضراعة هلل اهلادي إىل سواء الصراط أن الناس ،ينبغي علينا ً
مجيعا الكفر،
يهدينا وسائر إخواننا -املغالني واملفرطني -للصواب ،وأن جينبنا ً
والزلل ،والبد ،وحمدثات األمور.
* * *
-25-
التقسيم املوضوعي للكتاب:
مقسما إىل ثالثة أبواب:
لقد جاء الكتاب ً
الباب األول :في أصول التوحيد واإلسالم واإليمان
وفيه مقدمة ،وتسعة فصول:
املقدمة يف :أحوال املشركني بني التبديل والتغيري.
الفصل األول :حقيقة اإلسالم وشروط قبوله.
الفصل الثاي :حقيقة التوحيد ،وأركانه ،ومقتضياته ،وأنواعه.
الفصل الثالث :كيفية اإلميان بالرسالة ،وحتقيق أركاهنا ومقتضياهتا.
الفصل الرابع :أصول اإلميان ،ومقتضياته ،ولوازمه.
الفصل اْلامس :الطاغوت ،وصفة الكفر به.
الفصل السادس :احلكم هلل وحده ال شريك له ،وحكم من بدل شرائع
اإلسالم ،أو حكم بغري ما أنزل اهلل.
الفصل السابع :حقيقة الوالء والرباء.
الفصل الثامن :األمساء والصفات ،ومنهج السلف يف اإلميان هبا.
الفصل التاسع :القضاء والقدر ،ومنهج السلف يف اإلميان به.
* * *
الباب الثاني :الشرك والمشركون
وفيه مثانية فصول:
الفصل األول :حد الشرك ،ودرجاته ،وأنواعه وأحكامه ،مع بيان علة عدم
مغفرته ،ووجوب احلذر منه.
الفصل الثاي :العلم سبيل النجاة من الشرك ،وإالَّ وقع باجلهل ،والتلبيس
وتغيري احلقائق.
الفصل الثالث :الفتنة بالقبور ،واملفاسد املرتتبة عليها ،مع الرد على أشهر
شبهات أهلها.
-29-
الفصل الرابع :الشفاعة ،وأنواعها ،وشروطها ،وأسباب حتصيلها ،واحلرمان
منها.
الفصل اْلامس :املشرك مغبون يف دينه إلخالله بكل قيود الكلمة العاصمة،
إالَّ جمرد التلفظ هبا.
الفصل السادس :أشهر شبهات املشركني وعلمائهم ،مع سهام الردود
عليها.
الفصل السابع :األدلة اجللية من الشريعة الربانية ،على كفر من عبد غري اهلل
تعاىل.
الفصل الثامن :علة قتال املشركني ،ووجوب الرباءة منهم ،وحكم الدار إذا
غلبت عليها أحكام الشرك.
* * *
الباب الثالث :األحكام المترتبة على مفهوم التوحيد والشرك
وفيه تسعة فصول:
الفصل األول :شروط عصمة الدم واملال.
الفصل الثاي :حكم الشك يف كفر الكافر ،وصوره.
الفصل الثالث :العذر باجلهل.
الفصل الرابع :العالقة بني إقامة احلجة ،والكفر وأحكامه.
الفصل اْلامس :أنوا الكفر ،وحكم تكفري املعني.
الفصل السادس :أحكام الديار.
الفصل السابع :أحكام القتال ،ومشروعية اجلهاد.
الفصل الثامن :نواقض اإلسالم ،وأحكام الردة واملرتدين.
الرد الوافر عليها.
الفصل التاسع :أشهر الشبهات املثارة على أئمة الدعوة ،و ي
* * *
ولقد كانت الفكرة السائدة يف هذا الكتاب من أوله إىل آخره ،تكمن يف
-22-
تقسيم كل فصل من فصوله إىل عدة مباحث ،يبدأ كل واحد منها بعنوان ،يبني
املراد منه ،وحرصت على أن يكون معناه مستنبطًا من األفكار األساسية،
والقواعد املنهجية اليت جاءت ضمن النقول ،حتت هذا املبحث ،وإذا قمت
بإيراد نقل مطول ،لتقرير أي مسألة من املسائل ،فعندئذ أقوم بإدخال عنوان
جانيب ،بني معكوفتني ( ) ،مرة ،أو عدة مرات ،حبسب احلاجة الداعية إليه،
من أجل سهولة االستفادة ،ودوام الرتكيز للقارئ النجيب ،لكل فقرة من فقرات
النقل.
وأود التنويه إىل أن املقصود باألصالة يف هذا الكتاب ،هو بيان معتقد أئمة
ودائما ما كنت آيت
الدعوة ،يف كل مسألة من مسائله ،وتقرير من تقريراتهً ،
بالتبع يف ختام كل فصل،ـ بنقل ،أو عدة نقول ،عن األئمة املعاصرين ،من
أمثال :أعضاء اللجنة الدائمة ،وهيئة كبار العلماء ،وأعضاء اإلفتاء ،حىت يتضح
احتاد الطريق ،واستمرارية املسري يف تقرير املسائل العلمية ،احلاكمة على املسائل
العملية ،والقائدة هلا.
* * *
-23-
ترجمة اإلمام شيخ اإلسالم
محمد بن عبد الوهاب -رحمه اهلل تعالى ـ
قال مساحة الشيخ عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز رمحه اهلل تعاىل ،وأسكنه
فسيح جناته يف ترمجة الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب وأبنائه وأحفاده
مجيعا ،-ويف التعريف حبقيقة دعوة الشيخ ،وحجم الصرا وأتباعه -رمحهم اهلل ً
بينه وبني خصومه ،مع بيان أسبابه احلقيقية ،فقال رمحه اهلل تعاىل:
«احلمد هلل رب العاملني ،وصلَّي اهلل وسلَّم وبارك على عبده ورسوله وخريته
من خلقه سيدنا وإمامنا حممد بن عبد اهلل ،وعلى آله وأصحابه ومن وااله.
أما بعد :أيها اإلخوان الفضالء ،أيها األبناء األعزاء ،هذه احملاضرة املوجزة
ونصحا هلل ولعباده،
ً وإيضاحا للحقائق،
ً تنويرا لألفكار،
أتقدم هبا بني أيديكم ً
احملاض ِر عنه ،وهذه احملاضرة عنواهنا:
َ علي من احلق حنووأداء لبعض ما جيب َّ
الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب ،دعوته وسريته...
رأيت أن أحتدث إليكم عن رجل عظيم ،ومصلح كبري ،وداعية غيور ،أال
وهو الشيخ اجملدد لإلسالم يف اجلزيرة العربية يف القرن الثاي عشر من اهلجرة
النبوية ،وهو اإلمام حممد بن عبد الوهاب بن سليمان بن على التميمي احلنبلي.
لقد عرف الناس هذا اإلمام وال سيما علماؤهم ورؤساؤهم ،وكرباؤهم
وأعياهنم يف اجلزيرة العربية ويف خارجها ،ولقد كتب الناس عنه كتابات كثرية ما
بني موجز وما بني مطول ،ولقد أفرده كثري من الناس بكتابات ،حىت
املستشرقون كتبوا عنه كتابات كثرية ،وكتب عنه آخرون يف أثناء كتاباهتم عن
املصلحني ،ويف أثناء كتاباهتم يف التأريخ ،وصفه املنصفون منـهم بـأنه
-24-
مصلح عظيم ،وبأنه جمدد لإلسالم ،وبأنه على هدى ونور من ربه ،وإن
كثريا.
تعدادهم يشق ً
ومن مجلتهم املؤلف الكبري أبو بكر الشيخ حسني بن غنام األحسائي ،فقد
كتب عن هذا الشيخ فأجاد وأفاد ،وذكر سريته وذكر غزواته ،وأطنب يف ذلك
أيضا
كثريا من رسائله ،واستنباطاته من كتاب اهلل عز وجل ،ومنهم ً وكتب ً
الشيخ عثمان بن بشر يف كتابه «عنوان اجملد» ،فقد كتب عن هذا الشيخ
أيضا ،وعن دعوته ،وعن سريته ،وعن تأريخ حياته ،وعن غزواته وجهاده. ً
ومنهم خارج اجلزيرة :الدكتور أمحد أمني يف كتابه «زعماء اإلصالح» فقد
كتب عنه وأنصف ،ومنهم الشيخ الكبري مسعود الندوي ،فقد كتب عنه ومساه:
«املصلح املظلوم» ،وكتب عن سريته وأجاد يف ذلك.
أيضا آخرون ،منهم الشيخ الكبري األمري حممد بن إمساعيل وكتب عنه ً
سر
الصنعاي ،فقد كان يف زمانه ،وقد كان على دعوته ،فلما بلغه دعوة الشيخ َّ
هبا ومحد اهلل عليها ،وكذلك كتب عنه العالمة الكبري الشيخ حممد بن على
الشوكاي ،صاحب نيل األوطار ،ورثاه مبرثية عظيمة ،وكتب عنه مجع غري هؤالء
يعرفهم القراء والعلماء...
ولد هذا اإلمام يف عام 9996هـ ،هذا هو املشهور يف مولده رمحة اهلل عليه،
وقيل :يف عام 9999هـ ،واملعروف األول :أنه ولد يف عام 9996هـ على
صاحبها أفضل الصالة وأكمل التحية ،وتعلم على أبيه يف بلدة العيينة ،وهذه
البلدة هى مسقط رأسه رمحة اهلل عليه ،وهى قرية معلومة يف اليمامة يف جند،
مشال غرب مدينة الرياض ،بينها وبني الرياض مسرية سبعني كيلو مرت.
مبكرا ،واجتهد يف
ولد فيها رمحة اهلل عليه ،ونشأ نشأة صاحلة ،وقرأ القرآن ً
فقيها
الدراسة والتفقه على أبيه الشيخ عبد الوهاب بن سليمان ،وكان ً
-26-
قديرا ،وكان قاضيًا يف بلدة العيينة ،مث بعد بلوغ احللم حجكبريا ،وكان عاملًا ً
ً
وقصد بيت اهلل احلرام ،وأخذ عن بعض علماء احلرم الشريف ،مث توجه إىل املدينة
على ساكنها أفضل الصالة والسالم ،فاجتمع بعلمائها ،وأقام فيها مدة ،وأخذ
من عاملني كبريين مشهورين يف املدينة ذلك الوقت ،مها :الشيخ عبد اهلل بن
إبراهيم بن سيف النجدي ،أصله من اجملمعة ،وهو والد الشيخ إبراهيم بن عبد
أيضا عن الشيخ الكبري اهلل صاحب العذب الفائض يف علم الفرائض ،وأخذ ً
حممد حياة السندي باملدينة ،هذان العاملان ممن اشتهر أخذ الشيخ عنهما
باملدينة ،ولعله أخذ عن غريمها ممن ال نعرف.
ورحل الشيخ لطلب العلم إىل العراق ،فقصد البصرة واجتمع بعلمائها،
وأخذ عنهم ما شاء اهلل من العلم ،وأظهر الدعوة هناك إىل توحيد اهلل ،ودعا
الناس إىل السنة ،وأظهر للناس أن الواجب على مجيع املسلمني أن يأخذوا دينهم
عن كتاب اهلل ،وسنة رسول اهلل ،وناقش وذاكر يف ذلك ،وناظر من هنالك
من العلماء ،واشتهر من مشاخيه هناك شخ يقال له :الشيخ حممد اجملموعي،
وقد ثار عليه بعض علماء السوء بالبصرة ،وحصل عليه وعلى شيخه املذكور
بعض األذى ،فخرج من أجل ذلك ،وكان من نيته أن يقصد الشام ،فلم يقدر
فخرج الكافية، النفقة وجود لعدم ذلك على
من البصرة إىل الزبري ،وتوجه من الزبري إىل األحساء ،واجتمع بعلمائها وذاكرهم
يف أشياء من أصول الدين ،مث توجه إىل بلدة حرميالء وذلك -واهلل أعلم -يف
العقد اْلامس من القرن الثاي عشر؛ ألن أباه كان قاضيًا يف
العيينة ،وصار بينه وبني أمريها نزا ،فانتقل عنها إىل حرميالء بعد انتقاله إليها
سنة 9931هـ ،فقدم الشيخ حممد على أبيه يف حرميالء بعد انتقاله
إلـيـها سنـة 9931هـ ،فيكون قدومه حرميالء يف عام 9945هـ أو ما
-25-
بعدها ،واستقر هناك ،ول يزل مشتغالً بالعلم والتعليم والدعوة يف حرميالء حىت
وهم بعضمات والده عام 9963هـ ،فحصل من بعض أهل حرميالء شر عليهَّ ،
تسور عليه اجلدار ،فعلم هبم بعض السفلة هبا أن يفتك به ،وقيل إن بعضهم َّ
الناس فهربوا ،وبعد ذلك ارحتل الشيخ إىل العيينة رمحة اهلل عليه.
آمرا باملعروف ناهيًا عن املنكر،وأسباب غضب هؤالء السفلة عليه أنه كان ً
وكان حيث األمراء على تعزير اجملرمني ،الذين يعتدون على الناس بالسلب
والنهب واإليذاء ،هؤالء السفلة الذين يقال هلم العبيد هناك ،وملا عرفوا من
الشيخ أنه ضدهم ،وأنه ال يرضى بأفعاهلم ،وأنه حيرض األمراء على عقوباهتم،
واحلد من شرهم؛ غضبوا عليه ومهوا أن يفتكوا به ،فصانه اهلل ومحاه.
وجماهدا حىت
ً (وتكلم الشيخ عن حمن اإلمام وتنقله من بلد إىل أخرى داعيًا
مجعه اهلل باألمري حممد بن سعود فقال):
فبلغ حممد بن سعود خرب الشيخ حممد ،ويقال إن الذي أخربه زوجته ،جاء
حممدا هبذا الرجل ،وشجعيه على قبول إليها بعض الصاحلني ،وقال هلا :أخربي ً
دعوته ،وحرضيه على مؤازرته ومساعدته ،وكانت امرأة صاحلة طيبة ،فلما دخل
عليها حممد بن سعود أمري الدرعية وملحقاهتا ،قالت له :أبشر هبذه الغنيمة
العظيمة! هذه غنيمة ساقها اهلل إليك ،رجل داعية يدعو إىل دين اهلل ،يدعو إىل
كتاب اهلل ،يدعو إىل سنَّة رسول اهلل ،يا هلا من غنيمة! بادر بقبوله ،وبادر
أبدا.
بنصرته ،وال تقف يف ذلك ً
تردد هل يذهب إليه أو يدعوه إليه؟! فأشري فقبل األمري مشورهتا ،مث َّ
أيضا هى اليت أشارت عليه مع مجاعة من الصاحلني ،وقالوا عليه ،ويقال إن املرأة ً
له :ال ينبغي أن تدعوه إليك ،بل ينبـغي أن تقصـده يف منـزله وأن
-24-
تقصده أنت ،وأن تعظم العلم والداعي إىل اْلري.
فأجاب إىل ذلك ملا كتب اهلل له من السعادة واْلري رمحة اهلل عليه ،وأكرم
مثواه ،فذهب إىل الشيخ يف بيت حممد بن سويلم وقصده وسلم عليه وحتدث
معه ،وقال له :يا شيخ حممد ،أبشر بالنصرة ،وأبشر باألمن ،وأبشر باملساعدة،
أيضا ،والتمكني والعاقبة احلميدة ،هذا دين
فقال له الشيخ :وأنت أبشر بالنصرة ً
اهلل من نصره نصره اهلل ،ومن أيده أيده اهلل ،وسوف جند آثار ذلك سر ًيعا،
فقال :يا شيخ ،سأبايعك على دين اهلل ورسوله ،وعلى اجلهاد
يف سبيل اهلل ،ولكنن أخشى إذا أيدناك ونصرناك وأظهرك اهلل على أعداء
اإلسالم أن تبتغي غري أرضنا ،وأن تنقل عنا إىل أرض أخرى ،فقال:
ال؛ أبايعك على هذا ،أبايعك على أن الدم بالدم ،واهلدم باهلدم ،ال أخرج عن
أبدا.
بالدك ً
(وتحدث الشيخ عن دعوة اإلمام وجهاده حتى وفاته -رحمه اهلل
تعالى -إلى أن قال):
مث بعد وفاة الشيخ رمحة اهلل عليه ،استمر أبناؤه وأحفاده ،وتالميذه وأنصاره
يف الدعوة واجلهاد ،وعلى رأس أبنائه الشيخ اإلمام عبد اهلل بن حممد ،والشيخ
حسني بن حممد ،والشيخ علي بن حممد ،والشيخ إبراهيم بن حممد ،ومن أحفاده
الشيخ عبد الرمحن بن حسن ،والشيخ علي بن حسن ،والشيخ سليمان بن عبد
تالميذه ومن آخرون، ومجاعة حممد، بن اهلل
أيضا الشيخ محد ابن ناصر بن معمر ،ومجع غفري من علماء الدرعية وغريهم، ً
واستمروا يف الدعوة واجلهاد ،ونشروا دين اهلل تعاىل ،وكتابة الرسائل وتأليف
املؤلفات ،وجهاد أعداء الدين ،وليس بني هؤالء الدعاة وخصومهم
وجل،
عز ي شـيء ،إالَّ أن هـؤالء دعـوا إىل توحيد اهلل وإخالص العبادة هلل َّ
-21-
واالستقامة على ذلك ،وهدم املساجد والقباب اليت على القبور ،ودعوا إىل
حتكيم الشريعة واالستقامة عليها ،ودعوا إىل األمر باملعروف والنهي عن املنكر،
()1
وإقامة احلدود الشرعية ،هذه أسباب النزا بينهم وبني الناس» .
هذا آخر ما تيسر كتابته يف هذه املقدمة؛ واآلن نفسح اجملال للقارئ العزيز
للدخول خبطى ثابتة ومتأنية وراسخة ،لفهم وإدراك :أصول وقواعد وأهداف
وغايات هذا الرتاث.
* * *
-21-
الباب األول
أصول اإلسالم والتوحيد واإليمان
-35-
-39-
مقدمة
أحوال المشركين بين التبديل والتغيير
(مدخل ضروري وهام لفهم وبيان قضية التوحيد)
وفيه مبحثان:
املبحث األول :لقد مأل الشرك األرض قاصيها ودانيها ،وللشيطان ما يبذل
من أهله ،وليس للرمحن من ذلك نصيب.
املبحث الثاي :لقد دار الناس مع أمساء قد خلت من حقائقها ومدلوالهتا،
ول يقفوا مع املعاي اليت تعلَّقت هبا األحكام ،فعاد بذلك
الشرك والتنديد ،واستغى أهله به عن اإلخالص والتوحيد.
-32-
-33-
المأمول من هذه المقدمة
أن تقف األمة بعلمائها ودعاهتا ومفكريها وعبَّادها وعوامها ،على املصيبة
للرتدي املزري املشني الذي يصيب األمة حال انتشار العظمى والداهية الكربى ِّ
الشرك بني أرجائها وفورانه بني جنباهتا ومن مث وال بد تأيت النتيجة املتمثلة يف
غياب التوحيد ،وطمس معامله وردم حدوده.
فانتشار الشرك مؤذن بضيا هوية األمة ،ألن اهلوية الوحيدة اليت جتمعنا
وترتب صفوفنا ،ويدور حوهلا والؤنا وبراؤنا ،هى قضية التوحيد.
حمل :العصبية اجلاهلية ،والقومية العربية ،والوحدة «فالتوحيد» حل ي
الوطنية ...وكافة شعائر الكفر ،وأعالم الشرك ،وجنوم الزندقة.
فإذا ضا التوحيد ،أصبح هنارنا كليلنا ،ونورنا كظلماتنا.
وال رجعة لنا من التيه الذي ضرب بأطنابه حولنا ،إالَّ بالرجو املنشود
للمعني الصايف ،الذي يتمثل يف :الكتاب ،والسنَّة ،مع الرتمجة العملية هلما من َ
أصحاب الثالثة القرون األوىل ،ننهل منها عقائدنا ،ونستمد شريعة وجودنا،
ونستلهم معال طريقنا ،وحدود قضيتنا ،وكيفية إعادة بناء صفوفنا ،حىت نستطيع
االنطالق الصحيح احلثيث على ضوء ديننا احلنيف ،وعلى هدي رعيلنا األول،
للقيام بدورنا أوالً جتاه أنفسنا ،وثانيًا حيال البشرية كلها من حولنا.
وأول أعالم الطريق ،ومنارات السبيل ،هو القيام باإلخالص والتوحيد،
والقضاء على الشرك والتنديد.
وإليكم الدليل والربهان على كل ما تقدم من اآلمال واآلالم.
-34-
المبحث األول
لقد مأل الشرك األرض ،قاصيها ودانيها،
وللشيطان ما يبذل من أهله ،وليس للرحمن من ذلك نصيب
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرمحن يف بيان أحوال األمة ،وما أصاهبا
من الشرك الذي ضرب بأطنابه وجذوره يف كافة بلدان املسلمني ،قبل ظهور
مجيعا.
الوهاب رمحهم اهلل ً
دعوة الشيخ حممد بن عبد َّ
«كان 5أهل عصره ومصره يف تلك األزمان ،قد اشتدت غربة اإلسالم
بينهم ،وعفت آثار الدين لديهم ،واهندمت قواعد امللَّة احلنيفية ،وغلب على
األكثرين ما كان عليه أهل اجلاهلية ،وانطمست أعالم الشريعة يف ذلك الزمان،
وشب ِِ الصغري ،وهو ال
وغلب اجلهل والتقليد ،واإلعراض عن السنَّة والقرآنَّ ،
يعرف من الدين إالَّ ما كان عليه أهل تلك البلدان ،وهرم الكبري على ما تلقاه
عن اآلباء واألجداد ،وأعالم الشريعة مطموسة؛ ونصوص التنزيل وأصول السنة
فيما بينهم مدروسة ،وطريقة اآلباء واألسالف مرفوعة األعالم ،وأحاديث
الكهان ،والطواغيت ،مقبولة غري مردودة ،وال مدفوعة ،قد خلعوا ربقة التوحيدَّ
وجدوا واجتهدوا يف االستغاثة والتعلق على غري اهلل ،من األولياء، والدينُّ ،
والصاحلني ،واألوثان ،واألصنام ،والشياطني...
-36-
يقضي هلم احلوائج ،ويرونه من أكرب الوسائل والوالئج ،وكذلك عند قرب
يزعمون أنه قرب :ضرار بن األزور ،وذلك كذب ظاهر ،وهبتان
()1
مزرو ...
(حالة بالد الحرمين آنذاك)
حىت بالد احلرمني الشريفني! فمن ذلك :ما يفعل عند قرب حمجوب؛ وقبَّة أىب
طالب ،فيأتون قربه بالشماعات والعالمات ،لالستغاثة عند نزول املصائب،
وحلول النواكب ،وكانوا له يف غاية التعظيم ،وما ال جيب عند البيت الكرمي! فلو
دخل سارق ،أو غاصب ،أو ظال قرب أحدمها ،ل يتعرض له أحد ،ملا يرون له
من وجوب التعظيم ،واالحرتام ،واملكارم...
(حالة بالد الطائف)
ويف الطائف :قرب ابن عباس رضي اهلل عنهما ،يفعل عنده من األمور الشركية
الىت تشمئز منها نفوس املوحدين ،وتنكره قلوب عباد اهلل املخلصني ،وتردها
اآليات القرآنية ،وما ثبت من النصوص عن سيد املرسلني ،منها :وقوف السائل
متضر ًعا مستغيثًا ،وإبداء الفاقة إىل معبودهم ،مستكينًا مستعينًا، ِّ عند القرب
وصرف خال احملبة الىت هى حمبة العبودية ،والنذر والذبح ملن حتت ذاك
املشهد ،والبنية.
وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون باألسواق :اليوم على اهلل وعليك يا ابن
عباس ،فيستمدون منه الرزق ،والغوث ،وكشف الضر ،والبأس...
املشرفة ،على ساكنها أفضل الصالة والسالم ،هو كذلك ما يفعل باملدينة َّ
من هذا القبيل ،بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل ،ويف بندر جدة ما قد بلغ
حواء؛ وضعه هلم من الضالل حدَّه ،وهو القرب الذي يزعمون أنه قرب ي
بعض الشيـاطني ،وأكثروا يف شأنه اإلفك املبني ،وجعلوا له السدنة واْلدام،
مزور).
( )1هكذا يف األصل ،ولعلها ( َّ
-35-
وبالغوا يف خمالفة ما جاء به حممد عليه أفصل الصالة والسالم ،من النهي عن
تعظيم القبور ،والفتنة مبن فيها من الصاحلني والكرام...
-34-
الَّ إِلَـهَ إِالَّ ه َو سْب َحانَه َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [التوبة.]39 :
(حالة بالد الشام والعراق)
وكذلك ،حلب ،ودمشق ،وسائر بالد الشام ،فيها من تلك املشاهد،
والنُّصب ،واألعالم ،ما ال جيامع عليه أهل اإلميان واإلسالم ،من أتبا سيد
األنام ،وهى :تقارب ما ذكرنا من الكفريات املصرية ،والتلطخ بتلك األحوال
الوثنية الشركية.
وكذلك :املوصل ،وبالد األكراد ،ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور
والفساد؛ ويف العراق :من ذلك حبره احمليط بسائر اْللجان ،وعندهم املشهد
ميسًرا ،وأعادوا به
وخالقا ِّ
ً احلسين ،قد اختذه الرافضة وثنًا ،بل ربًا مدبِّـًرا،
اجملوسية ،وأحيوا به معاهد الالت والعزى ،وما كان عليه أهل اجلاهلية...
وكذلك مجيع قرى الشط؛ واجملرة ،على غاية من اجلهل ،ويف القطيف،
والبحرين ،من البد الرافضية ،واألحداث اجملوسية ،واملقامات الوثنية ،ما يضاد
()1
ويصادم أصول امللَّة احلنيفية» .
* * *
-31-
المبحث الثاني
لقد دار الناس مع أسماء ،قد خلت من حقائقها ومدلولتها
ولم يقفوا مع المعاني التي تعلقت بها األحكام فعاد بذلك:
الشرك والتنديد ،واستغنى أهله به عن اإلخالص والتوحيد
-31-
وحنو ذلك.
فاملشرك مشرك شاء أم أىب؛ كما أن املرايب مراب شاء أم أىب؛ وإن ل يسم
()1
ما فعله ربا؛ وشارب اْلمر شارب للخمر ،وإن مساها بغري امسها» .
(لقد بلغ المشركون ح ادا في شركهم ،يربو على شرك أهل الجاهلية
األولى)
قال عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى:
ونذكر لك هنا طرفًا من معتقد عباد القبور والصاحلني ،وحقيقة ما هم عليه
من الدين ،وليعلم الواقف عليه أي الفريقني أحق باألمن ،إن كان الواقف ممن
ُّعا
املن ،ولئال يلتبس األمر بتسميتهم لكفرهم وحماهلم :تشف ً
اختصه اهلل بالفضل و ي
استظهارا ،مع ما يف التسمية من اهلالك املتناهي عند من عقل احلقائق.
ً وتوسالً و
ُّ
من ذلك حمبتهم مع اهلل حمبة تأله وخضو ورجاء ،ودعاؤهم مع اهلل يف
امللمات واحلوادث اليت ال يكشفها وال جييب الدعاء فيها إالَّ فاطر
املهمات و َّ
َّ
األرض والسماوات والعكوف حول أجداثهم ،وتقبيل أعتاهبم ،والتمسح
وإظهارا للفاقة ،وإبداء للفقر
ً بآثارهم ،طلبًا للغوث ،واستجابة للدعوات
والضراعة ،واستنـزاالً للغوث واألمطار ،وطلبًا للسالمة من شدائد الرب والبحار،
وسؤاهلم تزوجيهم األرامل واأليامى ،واللطف بالضعفاء واليتامى ،واالعتماد عليهم
يف املطالب العالية ،وتأهيلهم ملغفرة الذنوب والنجاة من اهلاوية ،وإعطاء تلك
()2
املراتب السامية» .
هذه هي بإجياز أحوال املشركني يف عصر الشيخ اإلمام حممد بن عبد
الرتدي املشني يف أوحال الشرك الوخيم.
الوهاب ،وما دهاهم من ِّ
(« )1عقيدة املوحدين» -رسالة االنتصار حلزب اهلل املوحدين ـ( :ص.)92
(« )2منهاج التأسيس والتقديس».)69-65( :
-45-
ولقد آثرت هذه البداية ،لتتجلى هبا قضية التوحيد -ألنه بالضد تعرف
األشياء ،-وليدرك العلماء والدعاة واملربون :خطورة املوقف وعظم املقام ،عندما
يغييب التوحيد ،وحيل حمله الشرك والتنديد برب العاملني ،ومن مثي تعلو راية الشرك
املوحدين
خفاقة ،وينجم علم الزندقة فوق رءوس األمة ،ويلوح هبما يف وجه ِّ
نكاية هبم ،وضربة موجعة لكياهنم وصفوفهم...
املاسة ملعرفة التوحيد ،واحلد احلقيقي
واحلاصل أن ما تقدم ينبئ حباجة األمة َّ
من الديانة ،الذي ينبغي القيام به حىت تتحقق النجاة احلقيقية ويتسى لألمة
القيام بدورها املناط هبا ،واملراد هلا.
سود علماء وأئمة األمة كتبهم يف جالء قضية التوحيد، وهلذا ولغريه الكثري َّ
لبناء حائط الصدر الشامخ ،الذي يقي األمة الضربات املتالحقة من قبل
أعدائها ،ويضمن هلا استمرارية البقاء يف حلبة الصرا ،عن طريق اجلهاد احلثيث،
املتواصل ،للحفاظ على عقيدة املسلمني صافية ،من زيف وبطالن دعاوى أهل
الشرك واإلحلاد.
* * *
-49-
الفصل األول
حقيقة اإلسالم وشروط قبوله
املوحدين
املبحث األول :حقيقة اإلسالم الفارقة بني ِّ
املسلمني ،واملشركني الكافرين
املبحث الثاي :شروط صحة اإلسالم وقَبوله.
املبحث الثالث :الرباءة من الشرك وأهله ،شرط يف
صحة اإلسالم وقَبوله باإلمجا .
-42-
-43-
المبحث األول
حقيقة اإلسالم الفارقة بين الموحدين المسلمين
والمشركين الكافرين
معرفًا اإلسالم:
قال اإلمام حممد بن عبد الوهاب ِّ
«هو االستسالم هلل بالتوحيد ،واالنقياد له بالطاعة ،والرباءة من الشرك
()1
وأهله» .
ضا -رمحه اهلل:-
وقال أي ً
«وأصله -أي اإلسالم -وقاعدته أمران:
األول :األمر بعبادة اهلل وحده ال شريك له ،واملواالة فيه ،وتكفري من تركه؛
واإلنذار عن الشرك يف عبادة اهلل ،والتغليظ يف ذلك ،واملعاداة فيه ،وتكفري من
()2
فعله» .
وقال الشيخ عبد الرمحن بن حسن -رمحه اهلل تعاىل:-
«ال يصح ألحد إسالم إالَّ مبعرفة ما دلَّت عليه هذه الكلمة -أي كلمة
التوحيد -من نفي الشرك يف العبادة ،والرباءة منه وممن فعله ومعاداته ،وإخالص
()3
العبادة هلل وحده ال شريك له ،واملواالة يف ذلك» .
وقال عبد اهلل وإبراهيم ابنا عبد اللطيف ،وسليمان بن مسحان -رحم اهلل
اجلميع:-
حقيقة اإلسالم اليت بعث اهلل هبا رسله الكرام ،ودعوا إليها تتمثل يف:
وجوب عبادة اهلل وحده ال شريك له ،وإخالص العمل له ،وأن ال يشرك يف
-44-
واجب حقه أحد من خلقه ،وأن يوصف مبا وصف به نفسه من صفات
الكمال ونعوت اجلالل.
فمن خالف ما جاءوا به ،ونفاه وأبطله ،فهو كافر ضال ،وإن قال :ال إله
إالَّ اهلل ،وزعم أنه مسلم ،ألن ما قام به من الشرك يناقض ما تكلَّم به من كلمة
التوحيد ،فال ينفعه التلفظ بقول :ال إله إالَّ اهلل ،ألنه تكلَّم مبا ل يعمل به ،ول
()1
دل عليه» .اهـ. يعتقد ما ي
وقال إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن -رحمهم اهلل تعالى:-
وجمرد اإلتيان بلفظ الشهادة ،من غري
«قال حممد بن عبد الوهاب رمحه اهللَّ :
مسلما؛ بل هو حجةعلم مبعناها ،وال عمل مبقتضاها ،ال يكون به املكلَّ (فً )2
جمرد :اإلقرار» . على ابن آدم ،خالفًا ملن زعم أن اإلميان َّ
وقال الشيخ حممد بن إبراهيم بن عبد اللطيف ،مفيت الديار النجدية يف وقته
-رمحه اهلل تعاىل:-
ويؤدون
كثريا من الناس ينتسبون إيل اإلسالم ،وينطقون بالشهادتنيُّ ، «فإن ً
أركان اإلسالم الظاهرة ،وال يكتفى بذلك يف احلكم بإسالمهم ،وال حتل ذكاهتم
لشركهم باهلل يف العبادة بدعاء األنبياء والصاحلني ،واالستغاثة هبم وغري ذلك من
أسباب الردة عن اإلسالم.
وهذا التفريق بني املنتسبني إىل اإلسالم ،أمر معلوم باألدلة من الكتاب
()3
والسنَّة ،وإمجا سلف األمة وأئمتها» .
* * *
-46-
المبحث الثاني
شروط صحة اإلسالم وقبوله
قال اإلمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه اهلل تعالى:-
اعلم رمحك اهلل :أن دين اهلل يكون على القلب باالعتقاد ،وباحلب والبغض،
ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر ،ويكون على اجلوارح بفعل
أركان اإلسالم ،وترك األفعال اليت تكفر ،فإذا اختل واحدة من هذه الثالث،
تد. كفر وار َّ
مثال عمل القلب :أن يظن أن هذا الذي عليه أكثر الناس من االعتقاد يف
مكذب األحياء واألموات حق ،ويستدل بكون أكثر الناس عليه ،فهو كافر ِّ
للنيب ،ولو ل يتكلَّم بلسانه ،ول يعمل إالَّ بالتوحيد ،وكذلك إذا شط ،ال
يدري من احلق معه ،فهذا لو ل يكذب فهو ل يصدق النيب ،فهو يقول
يبني احلق ،فهو يف شك ،فهو مرتد ولو ل يتكلَّم إالَّ بالتوحيد. عسى اهلل أن ِّ
ومثال اللسان :أن يؤمن باحلق وحيبه ،ويكفر بالباطل ويبغضه ،ولكنه تكلَّم
شرهم؛ وإما مداراة ألهل األحساء ،وألهل مكة أو غريهم بوجوههم ،خوفًا من ِّ
يصرح هلم مبدح ما هم عليه ،أو بذكر أنه ترك ما هو عليه، كالما ِّ
أن يكتب هلم ً
أيضا لغروره. ويظن أنه ماكر هبم ،وقلبه موقن أنه ال يضره ،وهذا ً
وهو معى قول اهلل تعاىلَ ﴿ :من َك َفَر بِاللي ِه ِمن بَـ ْع ِد إميَانِِه إِالَّ َم ْن أ ْك ِرَه َوقَـْلبه
احليا َة الْ ُّدنْـيا علَى ِ ِ مطْمئِن بِا ِإلميَ ِ
اآلخَرةِ﴾ َ َ ك بِأَنـَّهم ْ
استَ َحبُّواْ ََْ ان﴾ ،إىل قولهَ ﴿ :ذل َ َ
[النحل ،]954 ،955 :فقط ال لتغري عقائدهم.
-45-
فمن عرف هذا ،عرف أن اْلطر ،خطر عظيم شديد ،وعرف شدة احلاجة
اعتقادا أو ش ًكا أو
ً نطقا أو
للتعلم واملذاكرة ،وهذا معى قوله يف اإلقنا يف الردةً ،
()1
فعالً ،واهلل أعلم» .
وقال عبد اهلل بن عبد الرمحن أبو بطني -رمحه اهلل تعاىل:-
أن اهلل سبحانه خالق كل شيء ومليكه «اإلقرار بتوحيد الربوبية ،وهو َّ
قر به املسلم والكافر وال بد منه ،لكن ال يصري اإلنسان به ومدبِّره ،فهذا ي ُّ
مسلما حىت يأيت بتوحيد األلوهية الذي دعت إليه الرسل ،وأىب عن اإلقرار به ً
()2
املشركون ،وبه يتميَّز املسلم من املشرك ،وأهل اجلنة من أهل النار» .
وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل -رمحهما اهلل تعاىل:-
«فاعلم أن العلماء أمجعوا على أن من صرف شيئًا من نوعي الدعاء لغري اهلل
فهو مشرك ،ولو قال :ال إله إالَّ اهلل حممد رسول اهلل وصلَّى وصام ،إذ شرط
اإلسالم مع التلفظ بالشهادتني :أن ال يعبد إالَّ اهلل ،فمن أتى بالشهادتني ،وعبد
غري اهلل ،فما أتى هبما حقيقة ،وإن تلفظ هبما ،كاليهود الذين يقولون :ال إله إال
اهلل وهم مشركون.
وجمرد التلفظ بالشهادتني ال يكفي يف اإلسالم بدون العمل مبعناها،
()3
إمجاعا» .
واعتقادها ً
وقال الشيخ عبد الرمحن بن حسن -رمحه اهلل تعاىل:-
«فال إله إالَّ اهلل ،هي :كلمة اإلسالم ال يصح إسالم أحد إالَّ مبعرفة ما
-44-
وضعت له ،ودلَّت عليه ،وقَبوله ،واالنقياد للعمل به ،وهي كلمة اإلخالص
()1
املنايف للشرك ،وكلمة التقوى» .
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء «فتوى رقم
:»66153
احلد الفاصل بني الكفر واإلسالم ،وهل من ينطق بالشهادتني مث س :ما هو ُّ
يأيت بأفعال تناقضهما يدخل يف عداد املسلمني رغم صالته وحياته؟
ج :احلمد هلل وحده والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه ...وبعد:
احلد بني الكفر واإلسالم النطق بالشهادتني مع الصدق واإلخالص والعمل
مبقتضامها ،فمن حتقق فيه ذلك فهو مسلم مؤمن .أما من نافق فلم يصدق ول
خيل فليس مبؤمن ،وكذا من نطق هبما وأتى مبا يناقضهما من الشرك ،مثل من
يستغيث باألموات يف الشدَّة أو الرخاء ،ومن يؤثر احلكم بالقوانني الوضعية على
احلكم مبا أنزل اهلل تعاىل ،ومن يهزأ بالقرآن أو ما ثبت من سنَّة رسول اهلل
فهذا كافر وإن نطق بالشهادتني وصلَّى وصام.
وباهلل التوفيق وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلم.
-41-
المبحث الثالث
البراءة من الشرك وأهله
شرط في صحة اإلسالم وقبوله باإلجماع
قال الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب -رمحه اهلل تعاىل:-
«ال يصح دين اإلسالم إالَّ بالرباءة من هؤالء -أي الطواغيت املعبودة من
وت َويـ ْؤِمن بِاللي ِه
دون اهلل -وتكفريهم ،كما قال تعاىل﴿ :فَمن يكْفر بِالطَّاغ ِ
َْ َ ْ
ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى﴾ [البقرة. »]265 :
()1 ِ
استَ ْم َس َ
فَـ َقد ْ
وقال عبد الرمحن بن حسن:
وخلفا من الصحابة ،والتابعني ،واألئمة ،ومجيع أهل سلفا ً«أمجع العلماء ً
بالتجرد من الشرك األكرب ،والرباءة منه وممن
ُّ مسلما ،إالَّ
السنَّة ،أن املرء ال يكون ً
فعله ،وبغضهم ومعاداهتم حبسب الطاقة والقدرة ،وإخالص األعمال كلها هلل،
حق اهلل على العباد أن يعبدوه كما يف حديث معاذ الذي يف الصحيحنيَّ « :
فإن َّ
()2
وال يشركوا به شيئًا» .
وقال عبد اللطيف بن عبد الرمحن بن حسن:
«إن أصل اإلسالم وقاعدته هي :عبادة اهلل وحده ال شريك له ،وإفراده
بالقصد والطلب ،وأن توحيد الربوبية واعتقاد الفاعلية له تعاىل ،ال يكفي يف
مسلما حىت يعبد اهلل وحده ،ويتربأ مما سواه
السعادة والنجاة ،وال يكون به املرء ً
()3
من األنداد واآلهلة» .
-41-
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
من اهلل عليه باإلسالم ،وعرف أن ما من إله إالَّ اهلل؛ ال تظن وأنت يا من َّ
أنك إذا قلت :هذا هو احلق ،وأنا تارك ما سواه ،لكن ال أتعرض للمشركني ،وال
أن ذلك حيصل لك بك الدخول يف اإلسالم ،بل ال أقول فيهم شيئًا ،ال تظن َّ
بد من بغضهم ،وبغض من حيبهم ،ومسبتهم ،ومعاداهتم؛ كما قال أبوك َّ
إبراهيم ،والذين معه﴿ :إِنَّا بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ
ون اللَّ ِه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا َْ ْ َ
ِ ِ ِ
ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤمنوا باللَّه َو ْح َده﴾ بَـْيـنَـنَا َوبَـْيـنَكم الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ
[املمتحنة.]4 :
ك بِالْع ْرَوِة ِ ِ ِ ِ
استَ ْم َس َ وقال تعاىل﴿ :فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ
الْوثْـ َق َى﴾ [البقرة ،]265 :وقال تعاىلَ ﴿ :ولََق ْد بَـ َعثْـنَا ِيف ك ِّل أ َّمة َّرسوالً أ َِن
ْاعبدواْ الليه و ِ
وت﴾ [النحل.]35 : اجتَنبواْ الطَّاغ َ
ََ ْ
أتعرض الالَّت، ولو يقول رجل :أنا أتبع النيب وهو على احلق ،لكن ال َّ
()1
على منهم؛ ل يصح إسالمه» . والعَّزى ،وال أتعرض أبا جهل وأمثاله ،ما ي
أيضا -رمحه اهلل:-
وقال ً
ومعى الكفر بالطاغوت :أن تربأ من كل ما يعتقد فيه غري اهلل ،من جن،
أو إنسي ،أو شجر ،أو حجر ،أو غري ذلك ،وتشهد عليه الكفر والضالل،
وتبغضه ،ولو كان أنه أبوك أو أخوك ،فأما من قال :أنا ال أعبد إالَّ اهلل ،وأنا ال
أتعرض السادة والقباب على القبور وأمثال ذلك ،فهذا كاذب يف قول ال إله إالَّ
()2
اهلل ،ول يؤمن باهلل ،ول يكفر بالطاغوت» .
-65-
وقال حسني وعبد اهلل ابنا الشيخ حممد بن عبد الوهاب -رمحهم اهلل
مجيعا:-
ً
مسلما إالَّ إذا عرف التوحيد ودان به ،وعمل مبوجبه، إن الرجل ال يكون ً
وصدق الرسول فيما أخرب به ،وأطاعه فيما هنى عنه وأمر به ،وآمن به ومبا
جاء به.
فمن قال ال أعادي املشركني ،أو عاداهم ول يكفرهم ،أو قال ال أتعرض
أهل ال إله إالَّ اهلل ولو فعلوا الكفر والشرك وعادوا دين اهلل ،أو قال ال أتعرض
مسلما بل هو ممن قال اهلل فيهمَ ﴿ :ويقولو َن نـ ْؤِمن ً للقباب ،فهذا ال يكون
َّخذواْ بـ ِ
ك هم ك َسبِيالً * أ ْولَـئِ َ
ني َذل َ
َْ َ
بِبـعض ونَكْفر بِبـعض وي ِريدو َن أَن يـت ِ
َ َْ َ َْ َ
()1
ين َع َذابًا ُّم ِهينًا﴾ [النساء. ]969 ،965 : ِ ِ ِ
الْ َكافرو َن َحقًّا َوأ َْعتَ ْدنَا لْل َكاف ِر َ
-69-
الفصل الثاني
حقيقة التوحيد وأركانه ومقتضياته وأنواعه
وفيه مثانية مباحث:
املبحث األول :معى اإلله الذي ينبغي معرفته والعمل مبوجبه لتحقيق
التوحيد مع االخنال من الشرك والتنديد.
املبحث الثاي :ح يد العبادة وكيفية القيام هبا.
املبحث الثالث :من شروط صحة العبادة :الكفر بالطاغوت،
واالخنال من الشرك مع الرباءة من املشركني.
املبحث الرابع :حقيقة التوحيد وأنواعه وحدود العالقة بينهما.
املبحث اْلامس :كمال اهلل املطلق من مجيع الوجوه أوجب له سبحانه:
املوحدون ببطالن
وحدانيته يف ربوبيته وألوهيته ،وبه جزم ِّ
كل مايعبد من دونه ،ووجوب ذلك ثابت بالعقل والفطرة والنقل.
املبحث السادس :أصول التوحيد العاصمة من الشرك والتنديد ،قد اتفقت
النبوات ،ومن مث فال يسع
عليها الرساالت ،وتطابقت عليها َّ
أي عبد فيها إالَّ االتبا دون االبتدا واالجتهاد.
املبحث السابع :شروط وأركان «ال إله إالَّ اهلل» مع بيان أن
املقصود األعظم منها :حتقيق معناها يف القلب،
فالنطق هبا باللسان ،فالقيام مبقتضاها باجلوارح.
املبحث الثامن :أحوال وأصناف الناطقني بكلمة التوحيد.
-62-
-63-
مدخل مفيد لفهم قضية التوحيد
لقد انعقد إمجا الصحابة ،ومن ورائهم أهل السنَّة -السائرين على أصول
أن معى «ال إله إالَّ
درهبم -يف كل عصر ومصر من عصورهم وأمصارهم على َّ
اهلل» هو :ال معبود حبق إالَّ اهلل.
ومن مثَّ حتتَّم على كل عبد :العلم مبدلول كلميت «اإلله» و«العبادة» ،حىت
يتسى له معرفة معاي ومقتضيات ولوازم ومبطالت الكلمة العاصمة ،كلمة َّ
التوحيد.
ونطقا وعمالً ،هو
علما واعتق ًادا ً
وال يفوتن التذكري هنا بأن حتقيق التوحيد ً
نقطة االنطالق األوىل لتحقيق مشروعية وجود األمة ،وهو السبيل الوحيد
العاصم من كيد الكفار وخمططات اإلحلاد.
وبه نستطيع أن نفيء من غفلتنا وسباتنا العميق لنتسلَّم زمام أمرنا من أيدي
أعدائنا ،لنقود قافلة أمتنا حبكم ربنا وهدي نبينا .
ومن مث نستطيع القيام بالدور الريادي املناط بنا وهو قيادة البشرية وهدايتها
لعلة خلقها واحلكمة من وجودها وهي :إفراد اهلل سبحانه بالعبادة ،مع الكفر
والرباءة من كل ما يعبد من دونه.
-64-
المبحث األول
معنى اإلله الذي ينبغي معرفته ،والعمل بموجبه،
لتحقيق التوحيد مع النحالع من الشرك والتنديد
قال الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل:
«فاعلم أن اإلله هو :املعبود .هذا هو تفسري هذه اللفظة بإمجا أهل العلم،
فمن عبد شيئًا فقد اختذه إهلًا من دون اهلل ،ومجيع ذلك باطل ،إالَّ إله واحد،
()1
كبريا» .
وهو اهلل وحده تبارك وتعاىل ع ًلوا ً
وقال عبد الرمحن بن حسن:
وقال أبو عبد اهلل القرطيب يف تفسريه «ال إله إال اهلل» ،أي :ال معبود إال
هو.
وقال الزخمشري« :اإلله» من أمساء األجناس .كالرجل والفرس ،يقع على
كل معبود حبق أو باطل ،مث غلب على املعبود حبق.
وقال شيخ اإلسالم« :اإلله» هو املعبود املطا ،فإن اإلله هو املألوه ،واملألوه
هو الذي يستحق أن يعبد .وكونه يستحق أن يعبد هو مبا اتصف به من
الصفات اليت تستلزم أن يكون هو احملبوب غاية احلب ،املخضو له غاية
اْلضو .
قال :فإن اإلله احملبوب املعبود الذي تأ َهله القلوب حببها ،وختضع له وتذل
مهماهتا ،وتتوكل عليه يفله ،وختافه وترجوه ،وتنيب إليه يف شدائدها ،وتدعوه يف َّ
مصاحلها ،وتلجأ إليه وتطمئن بذكره ،وتسكن إىل حبه ،وليس ذلك إالَّ هلل
()2
وحده» .
-66-
المبحث الثاني
حد العبادة وكيفية القيام بها
قال سليمان بن عبد اهلل رمحه اهلل يف شرحه على كتاب التوحيد:
«قال شيخ اإلسالم( :العبادة) هي طاعة اهلل بامتثال ما أمر به على ألسنة
الرسل.
أيضا( :العبادة) اسم جامع لكل ما حيبه اهلل ويرضاه ،من األقوال وقال ً
واألعمال الباطنة والظاهرة.
كملها كمل مراتب وقال ابن القيم :ومدارها على مخس عشرة قاعدة ،من َّ
العبودية ،وبيان ذلك :أن العبادة منقسمة على القلب ،واللسان ،واجلوارح.
واألحكام اليت للعبودية مخسة :واجب ،ومستحب ،وحرام ،ومكروه ،ومباح.
وهن لكل واحد من القلب واللسان واجلوارح. َّ
وقال القرطيب :أصل (العبادة) التذلل واْلضو ،ومسِّيت وظائف الشر على
املكلفني عبادات ،ألهنم يلتزموهنا ويفعلوهنا خاضعني متذلِّلني هلل تعاىل.
وقال ابن كثري( :العبادة) يف اللغة من الذلة ،يقال :طريق معبَّد وغري معبَّد،
أي :مذلَّل ،ويف الشر :عبارة عما جيمع كمال احملبة واْلضو واْلوف ،وهكذا
()1
ذكر غريهم من العلماء» .
وقال حممد بن عبد اللطيف بن عبد الرمحن رمحه اهلل تعاىل:
ون﴾ [الذاريات: اجلِ َّن واإلْ ِِنس إِالَّ لِيـعبد ِ
َْ َ «قال اهلل تعاىلَ ﴿ :وَما َخلَ ْقت ْ َ
يوحدون ،والعبادة هي :التوحيد ،ألن اْلصومة بني الرسل ،]65ومعى يعبدونِّ :
-65-
ِ
وأممهم فيه ،قال تعاىلَ ﴿ :ولََق ْد بَـ َعثْـنَا ِيف ك ِّل أ َّمة َّرسوالً أَن ْاعبدواْ الليهَ
()1 و ِ
وت﴾ [النحل. »]35 : اجتَنبواْ الطَّاغ َ
َ ْ
املسماة« :تنزيه الذات والصفات وقال بعض علماء جند األعالم يف رسالتهم َّ
من َدرن اإلحلاد والشبهات»:
«والعبادة أنوا :
اعتقادية - :وهي أساسها -وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد األحد الذي
له اْللق واألمر ،وبيده النفع والضر ،وأنه الذي ال شريك له ،وال يشفع عنده
أحد إالَّ بإذنه ،وأنه ال معبود حبق إالَّ هو ،وغري ذلك مما جيب له من لوازم
اإلهلية.
ومنها لفظية :وهي النطق بكلمة التوحيد ،فمن اعتقد ما ذكر ول ينطق هبا
ل حيقن دمه وال ماله .وكان كإبليس ،فإنه يعتقد التوحيد بل ويقر به ول ميتثل
أمر اهلل بالسجود فكفر ،ومن نطق ول يعتقد حقن ماله ودمه وحسابه على اهلل
وحكمه حكم املنافقني.
وبدنية :كالقيام والركو والسجود يف الصالة ،ومنها الصوم وأفعال احلج
والطواف.
ومالية :كإخراج جزء من املال امتثاالً ملا أمر اهلل تعاىل به.
وأنوا الواجبات واملندوبات يف األبدان واألموال واألفعال واألقوال كثرية،
()2
لكن هذه أمهاهتا» .
-64-
المبحث الثالث
من شروط صحة العبادة :الكفر بالطاغوت،
والنحالع من الشرك ،مع البراءة من المشركين
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
تسمى عبادة إالَّ مع التوحيد ،كما أن الصالة ال «فاعلم أن العبادة ال َّ
تسمى صالة إالَّ مع الطهارة ،فإذا دخل الشرك يف العبادة فسدت ،كاحلدث إذا َّ
اج َد اهلل دخل يف الطهارة ،كما قال تعاىل﴿ :ما َكا َن لِْلم ْش ِركِني أَن يـعمرواْ مس ِ
َ َْ َ َ َ
ِ ِِ
ِ ِ
ت أ َْع َماهل ْم َويف النَّار ه ْم َخالدو َن﴾ ِ
ك َحبطَ ْ ين َعلَى أَنف ِس ِه ْم بِالْك ْف ِر أ ْولَئِ َ
َشاهد َ
[التوبة.]94 :
فإذا عرفت :أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها ،وأحبط العمل ،وصار
صاحبه من اْلالدين يف النار ،عرفت أن أهم ما عليك معرفة ذلك لعل اهلل أن
()1
خيلصك من هذه الشبكة وهي الشرك باهلل» .
يضا رمحه اهلل تعاىل يف كتاب التوحيد: وقال أ ً
«املسألة السابعة :املسألة الكبرية :أن عبادة اهلل ال حتصل إالَّ بالكفر
الر ْشد ِم َن الْغَ ِّي
ني ُّبالطاغوت ،ففيه معى قوله تعاىل﴿ :الَ إِ ْكَر َاه ِيف الدِّي ِن قَد تَّـبَـ َّ َ
ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى﴾ [البقرة: ِ ِ ِ ِ
فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ
استَ ْم َس َ
.]265
وقال عبد الرحمن بن حسن:
«ويف الباب -أي الباب األول من كتاب التوحيد :-احلث على إخالص
()2
تسمى عبادة» . العبادة هلل ،وأهنا ال تنفع مع الشرك ،بل ال َّ
-61-
وقال سلمان بن عبد اهلل:
بد منه يف العبادة ،وإالَّ فال يكون العبد آتيًا بعبادة «إن التجرد من الشرك ال َّ
()1
اهلل بل مشرك» .
وقال أبو بطين:
عرفها شيخنا حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل يف أما تعريف العبادة ،فقد َّ
فوائده على كتابه ،كتاب التوحيد ،بأن العبادة هي التوحيد ،ألن اْلصومة فيه،
بد منه يف أن التجرد من الشرك ال َّ فدل على َّ وأن من ل يأت به ل يعبد اهلل؛ َّ
()2
يسمى عبادة» . العبادة ،وإالَّ فال َّ
وقال عبد الرحمن بن حسن:
وقول اهلل تعاىلَ ﴿ :و ْاعبدواْ الليهَ َوالَ ت ْش ِركواْ بِِه َشْيئًا﴾ [النساء ]35 :اآلية.
أيضا ،فإنه تعاىل قرن األمر بالعبادة وهذه اآلية تبني العبادة اليت خلقوا هلا ً
اليت فرضها بالنهي عن الشرك الذي حرمه وهو الشرك يف العبادة ،فدلَّت هذه
اآلية على :أن اجتناب الشرك شرط يف صحة العبادة ،فال تصح بدونه أصالً،
ك ه َدى اللي ِه يَـ ْه ِدي بِِه َمن يَ َشاء ِم ْن ِعبَ ِادهِ َولَْو أَ ْشَركواْ ِ
كما قال تعاىلَ ﴿ :ذل َ
()3
ط َعْنـهم َّما َكانواْ يَـ ْع َملو َن﴾ [األنعام. »]11 : َحلَبِ َ
-61-
المبحث الرابع
حقيقة التوحيد ،وأنواعه ،وحدود العالقة بينها
-55-
ض ِمن بَـ ْع ِد َم ْوِهتَا لَيَـقول َّن اللَّه﴾ [العنكبوت ،]53 :وقال ماء فَأ ِ
َحَيا بِه األ َْر َ
َ ْ
ضالسوءَ َوَْجي َعلك ْم خلَ َفاء األ َْر ِ
ْشف ُّضطََّر إِ َذا دعاه ويك ِ
تعاىل﴿ :أ ََّمن ِجييب الْم ْ
َ َ ََ
أَإِلَه َّم َع اللَّ ِه قَلِ ًيال َّما تَ َذ َّكرو َن﴾ [النمل.]52 :
فهم كانوا يعلمون أن مجيع ذلك هلل وحده ول يكونوا بذلك مسلمني ،بل
قال تعاىلَ ﴿ :وَما يـ ْؤِمن أَ ْكثَـره ْم بِاللي ِه إِالَّ َوهم ُّم ْش ِركو َن﴾ [يوسف ،]955 :قال
جماهد يف اآلية :إمياهنم باهلل قوهلم :إن اهلل خلقنا ويرزقنا ومييتنا ،فهذا إميان مع
شرك عبادهتم غريه ،رواه ابن جرير وابن أيب حام .وعن ابن عباس وعطاء
والضحاك حنو ذلك.
فتبني أن الكفار يعرفون اهلل ،ويعرفون ربوبيته ،وملكه ،وقهره ،وكانوا مع
اعا من العبادات كاحلج والصدقة والذبح والنذر ذلك يعبدونه وخيلصون له أنو ً
والدعاء وقت االضطرار وحنو ذلك ،وي يدعون أهنم على ملة إبراهيم ،فأنزل اهلل
تعاىلَ ﴿ :وَما يـ ْؤِمن أَ ْكثَـره ْم بِاللي ِه إِالَّ َوهم ُّم ْش ِركو َن﴾ [يوسف ،]955 :وبعضهم
يؤمن البعث واحلساب ،وبعضهم يؤمن بالقدر.
كما قال زهري:
ليوم الحساب أو يعجل فينقم يــؤخر فيوضــع فــي كتــاب فيــدخر
وقال عنرتة:
إن كان ربي في السماء قضاها يا عبل أين من المنية مهرب
ومثل هذا يوجد يف أشعارهم ،فوجب على كل من عقل عن اهلل تعاىل أن
ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم ،وسيب نسائهم ،وإباحة
أمواهلم ،مع هذا اإلقرار واملعرفة ،وما ذاك إالَّ إلشراكهم يف توحيد العبادة الذي
هو معى ال إله إالَّ اهلل.
-59-
النوع الثاني:
توحيد األمساء والصفات ،وهو اإلقرار بأن اهلل بكل شيء عليم ،وعلى كل
شيء قدير ،وأنه احلي القيوم الذي ال تأخذه سنة وال نوم ،له املشيئة النافذة،
واحلكمة البالغة ،وأنه مسيع بصري ،رءوف رحيم ،على العرش استوى ،وعلى
امللك احتوى ،وأنه امللك القدوس السالم املؤمن املهيمن العزيز اجلبار املتكرب،
سبحان اهلل عما يشركون ،إىل غري ذلك من األمساء احلسى ،والصفات العلى.
أيضا ال يكفي يف حصول اإلسالم ،بل ال بد مع ذلك من اإلتيان وهذا ً
بالزمه ،من توحيد الربوبية واإلهلية...
النوع الثالث:
توحيد اإلهلية املبن على إخالص التأله هلل تعاىل ،من احملبة واْلوف ،والرجاء
والتوكل ،والرغبة والرهبة ،والدعاء هلل وحده ،وينبن على ذلك :إخالص العبادات
كلها ظاهرها وباطنها هلل وحده ال شريك له ،ال جيعل فيها شيئًا لغريه ،ال مللك:
مقرب ،وال لنيب مرسل ،فضالً عن غريمها .وهذا التوحيد هو الذي تضمنه قوله َّ
اك نَ ْستَعِني﴾ [الفاحتة...]6 : اك نَـ ْعبد وإِيَّ َ
تعاىل﴿ :إِيَّ َ
وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره ،وباطنه وظاهره ،وهو أول دعوة الرسل
وآخرها ،وهو معى قول :ال إله إالَّ اهلل .فإن اإلله هو :املألوه املعبود باحملبة،
واْلشية ،واإلجالل ،والتعظيم ،ومجيع أنوا العبادة ،وألجل هذا التوحيد خلقت
اْلليقة ،وأرسلت الرسل ،وأنزلت الكتب ،وبه افرتق الناس إىل مؤمنني وكفار،
()1
وسعداء أهل اجلنة وأشقياء أهل النار» .
-52-
المبحث الخامس
كمال اهلل المطلق من جميع الوجوه أوجب له سبحانه وحدانيته
في ربـوبيته وألوهيته ،وبـه جزم الموحـدون ببطالن تأله كل
ما يعبد من دونه ،ووجوب( )1ذلك ثابت بالعقل والفطرة والشرع
قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل رحمهما اهلل تعالى:
تسمى«وهو سبحانه ينعم عليك وحيسن إليك بنفسه ،فإن ذلك موجب ما َّ
به ووصف به نفسه ،إذ هو الرمحن الرحيم ،الودود اجمليد ،وهو قادر بنفسه،
وقدرته من لوازم ذاته ،وكذلك رمحته وعلمه وحكمته ،ال حيتاج إىل خلقه بوجه
من الوجوه ،بل هو الغن عن العاملنيَ ﴿ :وَمن َش َكَر فَِإَّمنَا يَ ْشكر لِنَـ ْف ِس ِه َوَمن َك َفَر
فَِإ َّن َرِّيب َغ ِن َك ِرمي﴾ [النمل.]45 :
فالرب سبحانه غن بنفسه ،وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له
بنفسه ،واجب له من لوازم ذاته ،ال يفتقر يف شيء من ذلك إىل غريه ،ففعله
وإحسانه وجوده من كماله ،ال يفعل شيئًا حلاجة إىل غريه بوجه من الوجوه ،بل
فعال ملا يريد .وهو سبحانه بالغ أمره ،فكل ما يطلبه فهو
كل ما يريد فعله فإنه َّ
َ
يبلغه ويناله ويصل إليه وحده وال يعينه أحد ،وال يعوقه أحد ،ال حيتاج يف شيء
من أموره إىل معني ،وما له من املخلوقني من ظهري ،وليس له ويل من الذل ،قاله
()2
شيخ اإلسالم» .
( )1املقصود بالوجوب العقلي والفطري :استحالة قَبوهلما لغري التوحيد ،والرباءة من كل ما يعبد من
دون اهلل .والوجوب الشرعي :الثواب والعقاب القائمان على فعل التوحيد ،وعلى اقرتاف الشرك.
(« )2تيسري العزيز احلميد»( :ص.)33
-53-
ونقل عبد اللطيف بن عبد الرحمن عن ابن القيم قوله:
«ومن خصائ اإلهلية الكمال املطلق من مجيع الوجوه .الذي ال نق فيه
بوجه من الوجوه ،وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده والتعظيم
واإلجالل واْلشية والدعاء والرجاء واإلنابة والتوكل واالستغاثة ،وغاية الذل مع
وشرعا وفطرة أن يكون هلل وحده ،وميتنع غاية احلب ،كل ذلك جيب :عقالً ً
وشرعا وفطرة أن يكون لغريه.
عقالً ً
فمن جعل شيئًا من ذلك لغريه فقد شبَّه ذلك الغري مبن ال شبيه له وال مثل
له ،وذلك أقبح التشبيه وأبطله ،ولشدَّة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخرب سبحانه
وتعاىل عباده أنه ال يغفره ،مع أنه كتب على نفسه الرمحة.
ومن خصائ اإلهلية :العبودية اليت قامت على ساقني ال قوام هلا بدوهنما:
غاية احلب مع غاية الذل .هذا َتام العبودية ،وتفاوت منازل اْللق فيها حبسب
تفاوهتم يف هذين األصلني.
شبهه به يف خال حقَّه. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغري اهلل فقد َّ
وهذا من احملال أن جتيء به شريعة من الشرائع ،وقبحه مستقر يف كل فطرة
غريت الشياطني فطر أكثر اْللق وعقوهلم وأفسدهتا عليهم وعقل ،ولكن َّ
واجتالتهم عنها ،ومضى على الفطرة األوىل من سبقت هلم من اهلل احلسى،
فأرسل إليهم رسله ،وأنزل عليهم كتبه مبا يوافق فطرهتم وعقوهلم .فازدادوا بذلك
()1
نورا على نورهم ،يهدي اهلل لنوره من يشاء» .
ً
-54-
المبحث السادس
أصول التوحيد العاصمة من الشرك والتنديد
قد اتفقت عليها الرسالت ،وتطابقت عليها النبوات،
ومن ثم فال يسع أي عبد فيها إل اإلتباع دون البتداع والجتهاد
( )1العراقي هذا :من أشد املناوئني لدعوة الشيخ حممد بن عبد الوهاب -رمحه اهلل تعاىل -الىت هي
دعوة التوحيد ،وزبدة رسالة الرسل والنبيني -صلوات اهلل وسالمه عليهم أمجعني.-
-56-
(أصول التوحيد التي اتفقت عليها جميع الرسل)
أحدها :أن اهلل تعاىل قدمي واحد ال شريك له يف ملكه ،وال َّ
ند وال ضدَّ ،وال
وزير وال مشري وال ظهري ،وال شافع إالَّ من بعد إذنه.
الثاني :أنه ال والد له وال ولد ،وال كفء وال نظري وال نسب بوجه من
الوجوه ،وال زوجة.
الثالث :أنه غن بذاته ،فال يأكل وال يشرب ،وال حيتاج إىل شيء مما حيتاج
إليه خلقه بوجه من الوجوه.
الرابع :أنه ال يتغري وال تعرض له اآلفات ،من :اهلرم واملرض والسنَة والنوم
اهلم واحلزن ،وحنو ذلك.
والنسيان والندم ،واْلوف و ِّ
الخامس :أنه ال مياثله شيء من خملوقاته ،بل ليس كمثله شيء ،ال يف ذاته
وال يف صفاته وال يف أفعاله.
السادس :أنه ال حيل بشيء من خملوقاته ،وال حيل يف ذاته شيء منها ،بل
هو بائن ،عن خلقه بذاته ،واْللق بائنون عنه.
السابع :أنه أعظم من كل شيء ،وأكرب من كل شيء ،وفوق كل شيء،
وعال على كل شيء ،وليس فوقه شيء البتة.
الثامن :أنه قادر على كل شيء ،وال يعجزه شيء يريده ،بل هو َّ
فعال ملا
يريد.
السر وأخفى ،ويعلم ما كان وما يكون،التاسع :أنه عال بكل شيء ،يعلم َّ
وما ل يكن لو كان كيف كان يكون ،وما تسقط من ورقة إالَّ يعلمها وال حبة
متحرك وال ساكن إالَّ وهو يعلمه
يف ظلمات األرض وال رطب وال يابس ،وال ِّ
على حقيقته.
العاشر :أنه مسيع بصري ،يسمع ضجيج األصوات باختالف اللغات
-55-
الصماء يف
على تفنن احلاجات ،ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة َّ
الليلة الظلماء ،قد أحاط مسعه جبميع املسموعات ،وبصره جبميع املبصرات،
وعلمه جبميع املعلومات ،وقدرته جبميع املقدورات ،ونفذت مشيئته يف مجيع
وعمت رمحته مجيع املخلوقات ووسع كرسيه األرض والسماوات. الربياتَّ ،
الحادي عشر :أنه الشاهد الذي ال يغيب ،وال يستخلف ً
أحدا على
ملكه ،وال حيتاج إىل من يرفع إليه حوائج عباده أو يعاونه أو يستعطفه عليهم
ويسرتمحه هلم.
الثاني عشر :أنه األبدي الباقي الذي ال يضمحل وال يتالشى وال يعدم وال
ميوت.
الثالث عشر :أنه املتكلِّم اآلمر الناهي ،قائل احلق ،وهادي السبيل ،مرسل
الرسل ،ومنزل الكتب ،قائم على كل نفس مبا كسبت من اْلري والشر ،وجمازي
احملسن بإحسانه واملسيء بإساءته.
الرابع عشر :أنه الصادق يف وعده وخربه ،فال أصدق منه قيالً ،وال أصدق
منه حديثًا ،وهو ال خيلف امليعاد.
الخامس عشر :أنه تعاىل صمد جبميع معاي الصمدية ،يستحيل عليه ما
يناقض صمديته.
السادس عشر :أنه قدُّوس سالم ،فهو َّ
املربأ من كل عيب وآفة ونق .
السابع عشر :أنه الكامل الذي له الكمال املطلق من مجيع الوجوه.
الثامن عشر :أنه العدل الذي ال جيور وال يظلم ،وال خياف عباده منه
ظلما.
ً
وهذا مما اتفقت عليه مجيع الكتب والرسل ،وهو من احملكم الذي ال جيوز
أن تأيت شريعة خبالفه ،وال خيرب بشيء خبالفه.
فرتكت املثلِّثة عبَّاد الصليب هـذا كـله ،و َّ
َتسكوا باملتشابه من املعاي،
-54-
كثريا وضلُّوا عن ُّ ُّ
واجململ من األلفاظ ،وأقوال من قد ضلوا من قبل وأضلوا ً
سواء السبيل ،وأصول املثلِّثة ومقاالهتم يف رب العاملني ختالف هذا كله وتباينه
أشد املخالفة واملباينة .انتهى.
ند وال شافع إالَّ
فقف وتأمل األصول وأوهلا ،وهو أنه تعاىل ال شريك له وال َّ
()1
إن هذه املسائل اليت ال تعلم من بعد إذنه ،ووازن بينه وبني قول العراقيَّ :
إن هذه املسائل من املسائل أحدا ،وهل يقول من يعقل َّ يعذر العلماء يف جهلها ً
صحيحا فليهن النصارى عبَّاد الصليب ً االجتهادية .فإن كان هذا القول
اجتهادهم املنجي عند هذا العراقي ،وكذا عبَّاد األوثان ،واجلهمية املعطلة،
والقدرية النفاة ،والقدرة اجملربة ،والرافضة املارقة ،فإهنم قالوا بتلك األقوال الضالة،
واعتقدوها عن رأي هلم واجتهاد وشبهة تصوروها ،كما قال هذا الشيخ :فرتك
َتسكوا باملتشابه. املثلِّثة عبَّاد الصليب هذا كله و َّ
ين أ َْع َماالً﴾ [الكهف.]953 : قال تعاىل﴿ :ق ْل َه ْل نـنَبِّئك ْم بِاأل ْ
َخ َس ِر َ
ِِ
ين َك َفرواْ َمكْره ْم﴾ [الرعد.]33 : وقال تعاىل﴿ :بَ ْل زيِّ َن للَّذ َ
ني قَـْت َل أ َْوالَ ِد ِه ْم شَرَكآؤه ْم﴾ ِ ِ ِ
ك َزيَّ َن ل َكثري ِّم َن الْم ْش ِرك َ
ِ
وقال تعاىلَ ﴿ :وَك َذل َ
[األنعام.]934 :
ك َزيَّـنَّا لِك ِّل أ َّمة َع َملَه ْم﴾ [األنعام.]951 : ِ
وقال تعاىلَ ﴿ :ك َذل َ
َتسكوا به من الشبه واملتشابه واعتقاد حسنه ،وأنه ال والتزين :يتناول ما َّ
ينكر وال يلزم بسواه.
مث هذا خمالف لإلمجا ،ولو يف فرو الدين ،فإن الصحابة رضي اهلل عنهم
أمجعوا على اإلنكار على املخطئ املخالف للن يف مسائل كثرية،
مـنها :مـا وقع من قدامة بن مظعون وأصحابه ملا استحلُّوا اْلمر باجتهاد
-51-
ين َآمنواْ َو َع ِملواْ َّ ِ
س َعلَى الذ َتأويل وفهم انفردوا به ،يف قوله تعاىل﴿ :لَْي َ
يما طَعِمواْ﴾ [املائدة ]13 :اآلية. ِ َّ ِ ِ
الصاحلَات جنَاح ف َ
والصحابة أنكروا على من رأى أن دفع الزكاة ال جيب ألحد بعد رسول اهلل
وقاتلوا على ذلك واستباحوا الدماء عليه ،وإن ل ينكر من قاتلوه غري ذلك
من الدين.
وقد بعث سرية إىل رجل تزوج امرأة أبيه فقتلوه وغنموا ماله ،وسار فيه
بسريته يف املرتدين.
إن من دعا األولياء والصاحلني واستغاث هبم وذبح لقبورهم فكيف يقالَّ :
وخافهم ورجاهم مع اهلل ال ينكر عليه؟ ألن اإلنكار حمل االجتهاد؟ سبحانك
()1
هذا هبتان عظيم» .
-51-
المبحث السابع
شروط وأركان كلمة «ل إله إل اهلل» مع بيان أن المقصود األعظم
منها :تحقيق معناها في القلب ،فالنطق بها باللسان ،فالقيام
بمقتضاها بالجوارح ،ول أدل على ذلك :من إجماع السلف على
أن من نطق بالشهادة ،ولم يعتقد معناها ،ولم يعمل بمقتضاها ،فإنه
ل يكون مسلما ،ويقاتل على ذلك ،حتى يعمل بما
دلت عليه من النفي واإلثبات
قال عبد الرمحن بن حسن رمحه اهلل تعاىل يف شرحه على كتاب التوحيد:
«قوله (من شهد أن ال إله إالَّ اهلل) ( ، )1أي :من َّ
تكلم هبا عارفًا ملعناها،
وظاهرا ،فال بد يف الشهادتني من العلم واليقني والعمل ً عامالً مبقتضاها ،باطنًا
اعلَ ْم أَنَّه الَ إِلَهَ إِالَّ اللَّه﴾ [حممد.]91 :
مبدلوهلما ،كما قال اهلل تعاىل﴿ :فَ ْ
احلَ ِّق َوه ْم يَـ ْعلَمو َن﴾ [الزخرف.]15 : وقوله﴿ :إِالَّ َمن َش ِه َد بِ ْ
أما النطق هبا من غري معرفة ملعناها وال يقني وال عمل مبا تقتضيه :من الرباءة
من الشرك ،وإخالص القول والعمل :قول القلب واللسان ،وعمل القلب
()2
واجلوارح فغري نافع باإلمجا » .
وقال سليمان بن عبد اهلل:
«قوله (من شهد أن ال إله إالَّ اهلل) ،أي :من تكلَّم هبذه الكلمة عارفًا
( )1هذاه إشارة إىل قول النيب « :من شهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،وأن ً
حممدا عبده
ورسوله ،وأن عيسى عبد اهلل ورسوله ،وكلمته ألقاها إىل مرمي وروح منه ،واجلنة حق والنار حق،
أدخله اهلل اجلنة على ما كان من العمل» متفق عليه.
(« )2فتح اجمليد».)49 – 31( :
-45-
اعلَ ْم أَنَّه الَ
دل عليه قوله﴿ :فَ ْ ملعناها ،عامالً مبقتضاها باطنًا وظاهرا ،كما َّ
ً
إِلَهَ إِالَّ اللَّه﴾ [حممد ]91 :وقوله﴿ :إالَّ َمن َشه َد ب ْ
احلَ ِّق َوه ْم يَـ ْعلَمو َن﴾ِ ِ ِ
[الزخرف .]15 :أما النطق هبا من غري معرفة ملعناها وال عمل مبقتضاها ،فإن
ذلك غري نافع باإلمجا .
يدل على هذا ،وهو قوله« :من شهد» إذ كيف يشهد وهو ويف احلديث ما ي
يسمى شهادة به...
ال يعلم ،وجمرد النطق بشيء ال َّ
وقد دخل يف اإلهلية مجيع أنوا العبادة الصادرة عن تأله القلب هلل باحلب
واْلضو واالنقياد له وحده ال شريك له ،فيجب إفراد اهلل تعاىل هبا ،كالدعاء
واْلوف واحملبة ،والتوكل واإلنابة ،والتوبة ،والذبح ،والنذر ،والسجود ،ومجيع أنوا
العبادة ،فيجب صرف مجيع ذلك هلل وحده ال شريك له ،فمن صرف شيئًا مما
ال يصلح إالَّ هلل من العبادات لغري اهلل ،فهو مشرك ولو نطق بـ ال إله إالَّ اهلل ،إذ
()1
ل يعمل مبا تقتضيه من التوحيد واإلخالص» .
وقال عبد الرمحن بن حسن يف شرحه لكتاب التوحيد رمحه اهلل تعاىل:
قولهَ « :وَهلما» أي البخاري ومسلم ،وهذا حديث طويل اختصره املصنف
وذكر منه ما يناسب الرتمجة وهو قوله« :من قال ال إله إال اهلل يبتغي بذلك وجه
اهلل» ،وهذا هو حقيقة معناها الذي دلَّت عليه هذه الكلمة من اإلخالص ونفي
الشرك ،والصدق واإلخالص متالزمان ال يوجد أحدمها بدون اآلخر ،فإن من ل
خملصا فهو مشرك ،ومن ل يكن صادقًا فهو منافق ،واملخل أن يقوهلا: يكن ً
خملصا اإلهلية ملن ال يستحقها غريه وهو اهلل تعاىل ،وهذا التوحيد هو أساس ً
اإلسالم...
وهذا خبالف من يقوهلا ،وهو يدعو غري اهلل ويستغيث به من ميت أو غائب ال
ينفع وال يضر ،كما ترى عليه أكثر اْللق فهؤالء وإن قالوها ،فقد تلبسوا
-49-
مبا يناقضها فال تنفع قائلها إالَّ بالعلم مبدلوهلا نفيًا وإثباتًا ،واجلاهل مبعناها
وإن قاهلا ال تنفعه جلهله مبا وضعت له الوضع العريب الذي أريد منها من نفي
الشرك ،وكذلك إذا عرف معناها بغري تيقن له ،فإذا انتفى اليقني وقع الشك.
ومما قيدت به يف احلديث قوله َ « :غ َري شاك» فَال تَـْنـ َفع إالَّ من قاهلا بعلم
صا ِم ْن قَلبِ ِه ،وكذلك من قاهلا غري صادق يف ِ ِ ِ ِِ ِ ِ
ويقني ل َق ْوله ص ْدقًا م ْن قَلبِه خال ً
قوله ،فإهنا ال تنفعه ملخالفة القلب اللسان ،كحال املنافقني الذين يقولون
بألسنتهم ما ليس يف قلوهبم ،وكذلك حال املشركني فال تقبل من مشرك ملنافاة
فإهنا دلَّت على نفي الشرك لإلخالص ،وملا دلَّت عليه هذه الكلمة مطابقةَّ ،
الشرك والرباءة منه ،واإلخالص هلل وحده ال شريك له مطابقة ،ومن ل يكن
كذلك ل ينفعه قوله :ال إله إالَّ اهلل ،كما هو حال كثري من عبدة األوثان
يقولون :ال إله إالَّ اهلل وينكرون ما دلَّت عليه من اإلخالص ،ويعادون أهله
وينصرون الشرك وأهله ،وقد قال اْلليل ألبيه وقومه﴿ :إِنَِّن بَـَراء ِّممَّا تَـ ْعبدو َن *
إِالَّ الَّ ِذي فَطََرِي فَِإنَّه َسيَـ ْه ِدي ِن * َو َج َعلَ َها َكلِ َمةً بَاقِيَةً ِيف َع ِقبِ ِه﴾ [الزخرف25 :
()1
– ،]21وهي :ال إله إال اهلل» .
وقال الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل ،يف بيان معاي
ومقتضيات النفي واإلثبات لكلمة التوحيد:
«أعلم رمحك اهلل ،أن معى ال إله إالَّ اهلل نفي وإثبات ،تنفي أربعة أنوا
وتثبت أربعة أنوا :تنفي اإلهلية ،والطواغيت ،واألنداد ،واألرباب.
فاإلهلية :ما قصدته بشيء من جاب خري أو دفع ضر فأنت متَّخذه إهلًا.
والطواغيت :من عبد وهو راض أو رشح للعبادة ،مثل السمان أو تاج أو
أيب حديدة.
-42-
واألنداد :ما جذبك عن دين اإلسالم من أهل أو مسكن أو عشرية أو
َنداداً ِحيبُّونَـه ْم
ون اللي ِه أ َ
َّخذ ِمن د ِ َّاس من يـت ِ ِ
مال ،فهو ند لقوله تعاىلَ ﴿ :وم َن الن ِ َ َ
ب اللي ِه﴾ [البقرة.]956 : َكح ِّ
واألرباب :من أفتاك مبخالفة احلق وأطعته ،مصداقًا لقوله تعاىلَّ ﴿ :اختَذواْ
يح ابْ َن َم ْرَميَ َوَما أ ِمرواْ إِالَّ لِيَـ ْعبدواْ ِ ِ ِ
َحبَ َاره ْم َورْهبَانَـه ْم أ َْربَابًا ِّمن دون الليه َوالْ َمس َ
أْ
اح ًدا الَّ إِلَـهَ إِالَّ ه َو سْب َحانَه َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [التوبة.]39 : إِلَـها و ِ
ً َ
وتثبت أربعة أنوا :القصد ،وهو كونك ما تقصد إالَّ اهلل ،والتعظيم واحملبة
َش ُّد حبًّا لِّلي ِه﴾ [البقرة ،]956 :واْلوف َّ ِ
ين َآمنواْ أ َ وجلَ ﴿ :والذ َ عز ي لقوله َّ
ف لَه إِالَّ ه َو َوإِن ي ِرْد َك ِ
ك الليه بِضر فَالَ َكاش َ والرجاء لقوله تعاىلَ ﴿ :وإِن ميَْ َس ْس َ
الرِحيم﴾ [يونس: صيب بِِه َمن يَ َشاء ِم ْن ِعبَ ِادهِ َوه َو الْغَفور َّ آد لَِف ْ ِ ِ
ضله ي َ ِخبَْري فَالَ َر َّ
()1
. ]954
وقال عبد الرحمن بن حسن:
«وأما قوله يف احلديث الصحيح« :وكفر مبا يعبد من دون اهلل» فهذا:
شرط عظيم ،ال يصح قول :ال إله إالَّ اهلل إالَّ بوجوده ،وإن ل يوجد ،ل يكن
من قال ال إله إالَّ اهلل معصوم الدم واملال ،ألن هذا هو معى ال إله إالَّ اهلل ،فلم
ينفعه القول بدون اإلتيان باملعى الذي دلَّت عليه ،من ترك الشرك والرباءة منه
وممن فعله ،فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون اهلل ،وتربأ منه ،وعادى من
مسلما ،معصوم الدم واملال ،وهذا معى قول اهلل تعاىل﴿ :فَ َم ْن فعل ذلك :صار ً
ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ص َام َهلَا َوالليهك بِالْع ْرَوة الْوثْـ َق َى الَ انف َ يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ
استَ ْم َس َ
َِمسيع َعلِيم﴾ [البقرة.]265 :
وقد قيدت ال إله إالَّ اهلل ،يف األحاديث الصحيحة بقيود ثقال ،ال ب يد من
()2
اعتقادا وعمالً» . اإلتيان جبميعها ،قوالً و ً
-43-
المبحث الثامن
أحوال وأصناف الناطقين بكلمة التوحيد
حقا ،والثانية هم :املنافقون، فالفرقة األوىل هي :لناجية ،وهم املؤمنون ً
والثالثة هم :املشركون.
فال إله إالَّ اهلل :حصن ،ولكن نصبوا عليه منجنيق التكذيب ،ورموه حبجارة
العدو ،فسلبهم املعى ،وتركهم مع الصورة ،ويف ي التخريب ،فدخل عليهم
احلديث« :إن اهلل ال ينظر إىل صوركم وأبدانكم ولكن ينظر إىل قلوبكم
وأعمالكم» .سلبوا معى :ال إله إالَّ اهلل ،فبقي معهم :لقلقة باللسان وقعقعة
باحلروف ،وهو ذكر احلصن ال مع احلصن ،فما أن ذكر النار ال حيرق ،وذكر
املاء ال يغرق ،وذكر اْلبز ال يشبع ،وذكر السيف ال يقطع،
-44-
فكذلك ذكر احلصن ال مينع.
در ،ماذا يصنع لب ،والقول :صدف ،واملعى :ي فإن القول :قشر ،واملعى :ي
بالقشر مع فقدان اللب؟!
وماذا يصنع بالصدف مع فقدان اجلوهر؟!
ال إله إالَّ اهلل ،مع معناها ،مبنزلة الروح من اجلسد ،ال ينتفع باجلسد دون
()1
الروح ،فكذلك ال ينتفع هبذه الكلمة دون معناها» .
أيضا الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل: وقال ً
«أصل دين اإلسالم وقاعدته أمران:
األول :األمر بعبادة اهلل وحده ال شريك له ،والتحريض على ذلك ،واملواالة
فيه ،وتكفري من تركه.
الثاي :اإلنذار عن الشرك يف عبادة اهلل ،والتغليظ يف ذلك واملعاداة فيه،
وتكفري من فعله.
واملخالفون يف ذلك أنوا :
فأشدهم خمالفة :من خالف يف اجلميع.
ومن الناس من عبد اهلل وحده ،ول ينكر الشرك ،ول يعاد أهله.
ومنهم :من عاداهم ،ول يكفرهم.
ومنهم :من ل حيب التوحيد ،ول يبغضه.
ومنهم :من كفرهم ،وزعم أنه مسبَّة للصاحلني.
ومنهم :من ل يبغض الشرك ،ول حيبه.
-46-
ومنهم :من ل يعرف الشرك ،ول ينكره.
ومنهم :من ل يعرف التوحيد ،ول ينكره.
خطرا ،من عمل بالتوحيد لكن ل يعرف قدره ،ول ً ومنهم :وهو أشد األنوا
يبغض من تركه ،ول يكفرهم.
ومنهم من ترك الشرك وكرهه ،ول يعرف قدره ،ول يعاد أهله ول يكفرهم،
وهؤالء :قد خالفوا ما جاءت به األنبياء من دين اهلل سبحانه وتعاىل ،واهلل
()1
أعلم» .
وقال الشيخ عبد الرمحن بن حسن بعد أن تكلم عن التوحيد:
واملخالف هلذا األصل من هذه األمة أقسام:
إما طاغوت يناز اهلل يف ربوبيته وإهليته ،ويدعو الناس إىل عبادته.
أو طاغوت يدعو الناس إىل عبادة األوثان.
ويتقرب إليه بأنوا العبادة أو بعضها.
أو مشرك يدعو غري اهلل َّ
شاك يف التوحيد :أهو حق ،أم جيوز أن جيعل هلل شريك يف عبادته؟ أو ي
أو جاهل يعتقد :أن الشرك دين يقرب إىل اهلل.
وهذا هو الغالب على أكثر العوام جلهلهم وتقليدهم َمن قبلهم ،ملا اشتدت
()2
غربة الدين ،ونسي العلم بدين املرسلني» .
-45-
-44-
الفصل الثالث
كيفية اإليمان بالرسالة وتحقيق أركانها ومقتضياتها
-41-
-41-
المبحث األول
نعمة بعثة الرسل ،وحاجة الناس الماسة إليها
-15-
المبحث الثاني
علة بعثته ،ودلئل نبوته
( )1كذا يف األصل ،وال َّبد أن يكون صوابه :أربع عشرة شرفة منه ،أو من شرفاته.
قال الشيخ حممد رشيد رضا حمقِّق الكتاب حمل النقل.
-19-
ساوة وهي باقية إىل اليوم ،وأرسلت الشهب على الشياطني كما أخرب اهلل
اع َد لِ َّ
لس ْم ِع فَ َمن يَ ْستَ ِم ِع ْاآل َن َِجي ْد لَه ِش َهابًا بقوله﴿ :وأَنَّا كنَّا نَـ ْقعد ِمْنـها م َق ِ
َ َ َ
ص ًدا﴾ [اجلن ]1 :اآلية. َّر َ
خلقا وأعزهم جو ًارا وأنبته اهلل نباتًا حسنًا ،وكان أفضل قومه مروءة وأحسنهم ً
حلما وأصدقهم حديثًا ،حىت مسَّاه قومه «األمني»؛ لِ َما جعل اهلل فيه وأعظمهم ً
من األحوال الصاحلة واْلصال املرضية.
عمه ووصل بصرى من أرض الشام مرتني ،فرآه حبريى الراهب فعرفه وأخرب َّ
فرده مع غلمانه وقال لعمه :احتفظ به فلم جند أنه رسول اهلل ،ونصحه أن يردهَّ ،
قدما أشبه بالقدم الذي باملقام من قدمه. ً
واستمرت كفالة أيب طالب له كما هو مشهور .وبيـغِّض إليه األوثان ودين
قومه فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك.
نبوته ) (األدلة العقلية والنقلية على صحة ِّ
والدليل على أنه رسول اهلل من العقل والنقل.
فأما النقل فواضح.
وأما العقل فنَّبه عليه القرآن.
من ذلك :أن ترك اهلل خلقه بال أمر وال هني ال يناسب يف حق اهلل ،ونبَّه
َنزَل الليه َعلَى بَ َشر ِّمن عليه يف قولهَ ﴿ :وَما قَ َدرواْ الليهَ َح َّق قَ ْد ِرهِ إِ ْذ قَالواْ َما أ َ
َش ْيء﴾ [األنعام.]19 :
ومنه :أن قول الرجل :إي رسول اهلل إما أن يكون خري الناس ،وإما أن
يكون شرهم وأكذهبم .والتمييز بني ذلك سهل يعرف بأمور كثرية ،ونبه على
اطني * تَـنَـَّزل َعلَى ك ِّل أَفَّاك أَثِيم﴾ ذلك بقوله﴿ :هل أنَـبِّئكم علَى من تَـنَـَّزل الشَّي ِ
َ ْ َ َ َْ
[الشعراء ]222 ،229 :اآليات.
-12-
نده ِعْلم يدا بَـْي ِن َوبَـْيـنَك ْم َوَم ْن ِع َ
ومنه :شهادة اهلل بقولهَ ﴿ :ك َفى بِاللي ِه َش ِه ً
اب﴾ [الرعد.]43 : الْ ِكتَ ِ
ومنها :شهادة أهل الكتاب مبا يف كتبهم كما يف هذه اآلية.
ومنها -وهي أعظم اآليات العقلية :-هذا القرآن الذي حتدَّاهم بسورة من
مثله ،وحنن إن ل نعلم وجه ذلك من جهة العربية ،فنحن نعلمه من معرفتنا
بشدة عداوة أهل األرض له ،علمائهم وفصحائهم ،وتكريره هذا واستعجازهم
به ،ول يتعرضوا لذلك على شدة حرصهم على تكذيبه وإدخال الشبهة على
الناس.
ومنهاَ :تام ما ذكرنا وهو إخباره سبحانه أنه ال يقدر أحد أن يأيت بسورة
مثله إىل يوم القيامة ،فكان كما ذكر ،مع كثرة أعدائه يف كل عصر ،وما أعطوا
من الفصاحة والكمال والعلوم.
ومنها :نصرة من اتبعه ولو كانوا أضعف الناس.
ومنها :خذالن من عاداه وعقوبته يف الدنيا ولو كانوا أكثر الناس وأقواهم.
ومنها :أنه رجل ِّأمي ال خيط وال يقرأ اْلط ،وال أخذ عن العلماء وال ادعى
ذلك أحد من أعدائه ،مع كثرة كذهبم وهبتاهنم ،ومع هذا أتى بالعلم الذي يف
نت تَـْتـلو ِمن قَـْبلِ ِه ِمن كِتَاب َوالَ َختطُّه الكتب األوىل كما قال تعاىلَ ﴿ :وَما ك َ
اب الْمْب ِطلو َن﴾ [العنكبوت. »]41 : بِي ِمينِ َ ِ
()1
ك إ ًذا الَّْرتَ َ َ
-13-
المبحث الثالث
مقتضيات الشهادة بالنبوة ولوازمها
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه اهلل تعالى في شرحه لكتاب
التوحيد:
حممدا عبده حممدا عبده ورسوله) ،أي :وشهد أن ً «وقول الرسول ( :وأن ً
ورسوله ،أي :بصدق ويقني ،وذلك يقتضي :اتباعه ،وتعظيم أمره وهنيه ،ولزوم
سنته ؛ وأن ال تعارض بقول أحد ،ألن غريه جيوز عليه اْلطأ ،والنيب قد
التأسي به ،والوعيد على ترك طاعته بقوله تعاىل: عصمه اهلل تعاىل وأمرنا بطاعته و ِّ
اْلِيَـَرة ِم ْن ِ ِ ِ
ضى اللَّه َوَرسوله أ َْمًرا أَن يَكو َن َهلم ْ﴿ َوَما َكا َن لم ْؤمن َوَال م ْؤمنَة إِ َذا قَ َ
أ َْم ِرِه ْم﴾ [األحزاب.]35 :
صيبـهم فِْتـنَة أَو ي ِ
ِ ِ ِ ِ َّ ِ
صيبَـه ْم ْ ين خيَالفو َن َع ْن أ َْم ِره أَن ت َ ْوقال تعاىل﴿ :فَـْليَ ْح َذر الذ َ
َع َذاب أَلِيم﴾ [النور.]53 :
رد بعض قوله وقال اإلمام أمحد :أتدري ما الفتنة؟ الفتنة :الشرك .لعله إذا ي
()1
أن يقع يف قلبه شيء من الزيغ فيهلك» .
وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل -رحمه اهلل تعالى:-
«قال تعاىلَ ﴿ :وَما أ َْر َسْلنَا ِمن َّرسول إِالَّ لِيطَا َ بِِإ ْذ ِن الليهِ﴾
[النساء.]54 :
قال ابن كثري :أي :إمنا فرضت طاعته على من أرسله إليهم؛ وقال ابن
القيم :هذا تنبيه على جاللة منصب الرسالة ،وعظم شأهنا ،وأنه سبحانه ل
يرسل رسله عليهم الصالة والسالم إالَّ ليطاعوا بإذنه ،فتكون الطاعة هلم ال
حممدا
لغريهم ،ألن طاعتهم ،طاعة مرسلهم ،ويف ضمنه أن من كذب رسوله ً
-14-
وتتعني عليهم
كذب الرسل .واملعى أنك واحد منهم جتب طاعتكَّ ، ،فقد َّ
كما وجبت طاعة من قبلك من املرسلني ،فإن كانوا قد أطاعوهم كما زعموا
وآمنوا هبم ،فما هلم ال يطيعونك ،ويؤمنون بك؟!
واإلذن ههنا هو :اإلذن األمري ال الكوي ،إذ لو كان إذنًا كونيًا قدريًا ملا
تتعني طاعته ،وإرساله ختلَّفت طاعتهم ،ويف ذكره نكتة وهي أنه بنفس إرساله َّ
نفسه إذن يف طاعته ،فال تتوقف على ن آخر سوى اإلرسال بأمر فيه بالطاعة
بل مىت حتققت رسالته وجبت طاعته ،فرسالته نفسها متضمنة لإلذن يف الطاعة،
ويصح أن يكون اإلذن ههنا :إذنًا كونيًا قدريًا ،ويكون املعى :ليطا بتوفيق اهلل
أحدا
وهدايته ،فتضمنت اآلية األمرين الشر والقدر ،ويكون فيها دليل على أن ً
جدا .واملقصود أن الغاية ال يطيع رسله إالَّ بتوفيقه وإرشاده وهدايته ،وهذا حسن ً
من الرسل هي طاعتهم ومتابعتهم ،فإذا كانت الطاعة واملتابعة لغريهم ،ل حتصل
()1
الفائدة املقصودة من إرساهلم» .
-16-
المبحث الرابع
اإليمان بوحدانية اهلل في ربوبيته وألوهيته
يستلزم اإليمان برسوله ،مع إفراده بالطاعة والتباع
والحكم في كافة المنازعات
قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل رحمه اهلل تعالى في شرحه لكتاب
التوحيد:
ِ َّ ِ
ك َوَما ين يَـ ْزعمو َن أَنـَّه ْم َآمنواْ ِمبَا أن ِزَل إِلَْي َ
قول اهلل تعاىل﴿ :أَ َلْ تَـَر إ َىل الذ َ
وت َوقَ ْد أ ِمرواْ أَن يَكْفرواْ بِِه َوي ِريد ك ي ِريدو َن أَن يـتحا َكمواْ إِ َىل الطَّاغ ِ ِ
ََ َ أن ِزَل ِمن قَـْبل َ
يدا﴾ [النساء.]55 : ضالَالً بَعِ ً ِ
الشَّْيطَان أَن يضلَّه ْم َ
ملا كان التوحيد الذي هو معى شهادة أن ال إله إالَّ اهلل ،مشتمالً على
مستلزما له ،وذلك هو الشهادتان ،وهلذا جعلهما النيب ً اإلميان بالرسول ،
احدا يف قوله« :بن اإلسالم على مخس :شهادة أن ال إله إالَّ اهلل ،وأ َّن ركنًا و ً
وحج البيت َمن الزكاة ،وصوم رمضان ،ي الصالة ،وإيتاء َّ حمم ًدا رسول اهلل ،وإقام َّ َّ
تضمنه التوحيد ،واستلزمه من استطا إليه سبيالً» ،نبَّه يف هذا الباب على ما َّ
حتكيم الرسول يف موارد النزا ،إذ هذا هو مقتضى شهادة أن ال إله إالَّ اهلل،
بد منه لكل مؤمن ،فإن من عرف أن ال إله إالَّ اهلل ،فال بد من والزمها الذي ال َّ
االنقياد حلكم اهلل والتسليم ألمره الذي جاء من عنده على يد رسوله حممد
...
(إن التحاكم في موارد النـزاع إلى غير النبي ،دللة صارخة على
النفاق وأهله)
إذا تبني هذا فمعى اآلية املرتجم هلا :أن اهلل تبـارك وتـعاىل أنكر على
-15-
من يدَّعي اإلميان مبا أنزل اهلل على رسوله ،وعلى األنبياء قبله ،وهو مع
ذلك يريد أن يتحاكم يف فصل اْلصومات إىل غري كتاب اهلل وسنة رسوله ،كما
ذكر املصنف يف سبب نزوهلا.
قال ابن القيم :والطاغوت :كل من تعدَّى به حدَّه من الطغيان ،وهو جماوزة
احلد ،فكل ما حتاكم إليه متنازعان غري كتاب اهلل وسنة رسوله فهو طاغوت
إذ قد تعدَّى به حدَّه.
ومن هذا ،كل من عبد شيئًا دون اهلل فإمنا عبد الطاغوت ،وجاوز مبعبوده
ح يده فأعطاه العبادة اليت ال تنبغي له ،كما أن من دعا إىل حتكيم غري اهلل تعاىل
ورسوله ،فقد دعا إىل حتكيم الطاغوت.
منكرا هلذا التحكيم على من زعم أنه قد آمن وتعلل تصديره سبحانه اآلية ً
مبا أنزل اهلل على رسوله ،وعلى من قبله مث هو مع ذلك يدعو إىل حتكيم غري
اهلل ورسوله ،ويتحاكم إليه عند النزا ،ويف ضمن قوله﴿ :يـَْزعمو َن﴾ نفي ملا
زعموه من اإلميان ،وهلذا ل يقل« :أل تر إىل الذين آمنوا» ،فإهنم لو كانوا من
أهل اإلميان حقيقة ل يريدوا أن يتحاكموا إىل غري اهلل تعاىل ورسوله ،ول يقل
فيهم «يزعمون» ،فإن هذا إمنا يقال غالبًا ملن يادعى دعوى هو فيها كاذب ،أو
منزل منزلة الكاذب ،ملخالفته ملوجبها وعمله مبا ينافيها:
قال ابن كثري :واآلية ذامة ملن عدل عن الكتاب والسنة وحتاكم إىل ما
()1
سوامها من الباطل ،وهو املراد بالطاغوت ههنا» .
وقال الشيخ عبد اهلل بن حميد:
«وقد تكفلَّت الشريعة حبل مجيع املشاكل وتبيينها وإيضاحها ،قال
-14-
اب ِمن َش ْيء﴾ [األنعام.]31 : تعاىلَّ ﴿ :ما فَـَّرطْنَا ِيف ِ
الكتَ ِ
اب تِْبـيَانًا لِّك ِّل َش ْيء َوه ًدى َوَر ْمحَةً َوب ْشَرى وقال تعاىل﴿ :ونَـَّزلْنَا علَي َ ِ
ك الْكتَ َ َ َْ
ني﴾ [النحل.]11 : ِ ِِ
لْلم ْسلم َ
ففي هذه اآلية أن القرآن فيه البيان لكل شيء ،وأن فيه االهتداء التام ،وأن
للمتمسكني به اْلاضعني ِّ فيه الرمحة الشاملة ،وأن فيه البشارة الصادقة
ألحكامه...
فكيف جيرتئ من يدَّعي اإلميان مع هذا البيان الواضح واآليات البينات
واألحاديث الصحيحة على الرضا بالتحاكم إىل الطاغوت واإلعراض عن شريعة
عمن ل حيكم الرسول فيما وقع بينهم من التشاجر، اهلل ،واهلل قد نفى اإلميان َّ
يما َش َجَر بَـْيـنَـه ْم مثَّ الَ َِجيدواْوك فِ
ىت حيَ ِّكم َ ك الَ يـ ْؤِمنو َن َح َّ
َ َ قال تعاىل﴿ :فَالَ َوَربِّ َ
()1 ِ ِ
يما﴾ [النساء. »]56 : ت َوي َسلِّمواْ تَ ْسل ً ِيف أَنفس ِه ْم َحَر ًجا ِّممَّا قَ َ
ضْي َ
( )1فتاوى ورسائل الشيخ عبد اهلل بن محيد ،رسالة كمال الشريعة.)339 – 335/ ( :
-11-
المبحث الخامس
كيف بلغ النبي التوحيد
وصان جنابه من أي حدث دخيل عليه؟
-11-
يقوم الرجل فيصلي فيزين صالته ملا يرى من نظر الرجل» ،وحىت قال« :ال
حتلفوا بآبائكم ،من حلف باهلل فليصدق ومن حلف له باهلل فلريض ،ومن ل
يرض فليس من اهلل يف شيء» ،وحىت قال« :ال يقول أحدكم ما شاء اهلل وشاء
فالن» ،وحىت قال« :ال تقولوا لوال اهلل وفالن» ،وحىت قال« :ال يقول أحدكم
()1
عبدي َوأ ََميت» ،وحىت قال« :من حلف بغري اهلل فقد أشرك أو كفر» .
وقال سليمان بن عبد اهلل في شرحه على كتاب التوحيد:
«باب ما جاء يف محاية املصطفى جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل
إىل الشرك».
اجلناب :هو اجلانب .واعلم أن يف األبواب املتقدمة شيئًا من محايته
جلناب التوحيد ،ولكن أراد املصنف هنا بيان محايته اْلاصة ،ولقد بالغ ،
وعم يف محاية احلنيفية السمحة اليت بعثه اهلل
وحذر وأنذر ،وأبدأ وأعاد ،وخ َّ َّ
هبا ،فهي حنيفية يف التوحيد ،مسحة يف العمل ،قال بعض العلماء :هي أشد
()2
الشرائع يف التوحيد واإلبعاد عن الشرك ،وأمسح الشرائع يف العمل» .
-15-
المبحث السادس
حكم من سب النبي ،أو استهزأ بحكم من أحكامه ،أو
دفع شيئاا مما جاء به ،أو سوغ لواحد من البشر الخروج عن شريعته
قال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى:
«وقال الشيخ ابن تيمية رمحه اهلل تعاىل يف كتاب (الصارم املسلول ،على
شام الرسول) :قال اإلمام إسحاق بن راهويه أحد األئمة يعدل بالشافعي
سب اهلل أو رسوله أو دفع شيئًا مما أنزل اهلل أنه
وأمحد :أمجع املسلمون أن من َّ
مقرا بكل ما أنزل اهلل.
كافر بذلك ،وإن كان ً
وقال حممد بن سحنون أحد األئمة من أصحاب مالك :أمجع العلماء على
أن شام الرسول كافر ،وحكمه عند األئمة القتل ،ومن شك يف كفره كفر.
قال ابن املنذر :أمجع عوام أهل العلم أن على من سبَّه :القتل ،وقال اإلمام أمحد
فيمن سبَّه :يقتل ،قيل :فيه أحاديث؟ قال :نعم ،منها :حديث األعمى الذي
قتل املرأة ،وقول ابن عمر« :من شتم النيب قتل ،وعمر بن عبد العزيز يقول:
يقتل ،وقال يف رواية عبد اهلل :ال يستتاب ،إن خالد بن الوليد قتل رجالً شتم
النيب ول يستتبه .انتهى.
فتأمل رمحك اهلل تعاىل كالم إسحاق بن راهويه ونقله اإلمجا على أن من
سب رسوله ،أو دفع شيئًا مما أنزل اهلل فهو كافر -وإن كان سب اهلل أو َّ َّ
بسب اهلل تعاىل ،أو
مقرا بكل ما أنزل اهلل -يتبني لك :أن من تلفَّظ بلسانه ِّ ً
بسب رسوله ،فهو كافر مرتد عن اإلسالم ،وإن أقر جبميع ما أنزل اهلل ،وإن ِّ
كان هازالً بذلك ل يقصد معناه بقلبه ،كما قال الشافعي
-19-
بسب اهلل تعاىل ،أو من هزل بشيء من آيات اهلل فهو كافر ،فكيف مبن هزل ِّ
()1
بسب رسوله . » ِّ
ولقد جاء في نواقض اإلسالم العشرة للشيخ محمد بن عبد الوهاب
رحمه اهلل:
الناقض السادس :من استهزأ بشيء من دين الرسول ،أو ثوابه ،أو عقابه
كفر ،وذلك لقوله تعاىل﴿ :ق ْل أَبِاللي ِه َوآيَاتِِه َوَرسولِِه كنت ْم تَ ْستَـ ْه ِزؤو َن * الَ
تَـ ْعتَ ِذرواْ قَ ْد َك َف ْرم بَـ ْع َد إِميَانِك ْم﴾ [التوبة.]55 ،56 :
الناقض التاسع :من اعتقد أن بعض الناس يسعه اْلروج عن شريعة حممد
فهو كافر ،لقوله تعاىلَ ﴿ :وَمن يَـْبتَ ِغ َغْيـَر ا ِإل ْسالَِم ِدينًا فَـلَن يـ ْقبَ َل ِمْنه َوه َو ِيف
()2 اآلخرةِ ِمن ْ ِ ِ
ين﴾ [آل عمران. »]16 : اْلَاس ِر َ َ َ
وقال سليمان بن عبد اهلل رحمه اهلل تعالى في شرحه على كتاب
التوحيد:
«(باب من هزل بشيء فيه ذكر اهلل ،أو القرآن ،أو الرسول) ،أي :يكفر
بذلك الستخفافه جبناب الربوبية والرسالة ،وذلك مناف للتوحيد .وهلذا أمجع
العلماء على كفر من فعل شيئًا من ذلك ،فمن استهزأ باهلل ،أو بكتابه ،أو
إمجاعا.
برسوله ،أو بدينه ،كفر ولو هازالً ل يقصد حقيقة االستهزاء ً
قال :وقول اهلل تعاىلَ ﴿ :ولَئِن َسأَلْتَـه ْم لَيَـقول َّن إَِّمنَا كنَّا َخنوض َونَـْل َعب﴾
[التوبة....]56 :
قال شيخ اإلسالم :فقد أمره أن يقول :كفرم بعد إميانكم .وقول من يقول:
إهنم قد كفروا بعد إمياهنم بلساهنم مع كفرهم أوالً بقلوهبم
ال يصح ،ألن اإلميان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر ،فال يقال:
قد كفرم بعد إميانكم فإهنم ل يزالوا كافرين يف نفس األمر ،وإن أريد :إنكم
املوحدين» ،رسالة الكلمات النافعة يف ِّ
املكفرات الواقعة( :ص.)231 (« )1عقيدة ِّ
املوحدين»( :ص.)464 ،465 (« )2عقيدة ِّ
-12-
أظهرم الكفر بعد إظهاركم اإلميان فهم ل يظهروا ذلك إالَّ ْلواصهم ،وهم
تبني ما يف مع خوضهم ما زالوا هكذا ،بل ملَّا نافقوا وحذروا أن تنزل عليهم سورة ِّ
قلوهبم من النفاق وتكلموا باالستهزاء ،أي :صاروا كافرين بعد إمياهنم.
وال يدل اللفظ على أهنم ما زالوا منافقني إىل أن قال :قال تعاىلَ ﴿ :ولَئِن
َسأَلْتَـه ْم لَيَـقول َّن إَِّمنَا كنَّا َخنوض َونَـْل َعب﴾ [التوبة ،]56 :وهلذا قيل﴿ :الَ تَـ ْعتَ ِذرواْ
ب طَآئَِفةً﴾ [التوبة: ِ ِ
قَ ْد َك َف ْرم بَـ ْع َد إِميَانك ْم إِن نـَّ ْعف َعن طَآئ َفة ِّمنك ْم نـ َع ِّذ ْ
كفرا ،بل ظنوا أن ذلك ،]55فدل على أهنم ل يكونوا عند أنفسهم قد أتوا ً
ليس بكفر.
فتبني أن االستهزاء بآيات اهلل ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إميانه ،فدل
على أنه كان عندهم إميان ضعيف ،ففعلوا هذا احملرم الذي عرفوا أنه حمرم ،ولكن
كفرا كفروا به ،فإهنم ل يعتقدوا جوازه. كفرا ،وكان ً ل يظنوه ً
ويف اآلية دليل على أن الرجل إذا فعل الكفر ول يعلم أنه كفر ال يعذر
بذلك ،بل يكفر ،وعلى أن الشاك كافر بطريق األوىل نبه عليه شيخ
()1
اإلسالم» .
-13-
الفصل الرابع
أصول اإليمان ومقتضياته ولوازمه
-14-
-16-
تمهيد هام لسبر أغوار قضية اإليمان
لقد أمجع علماء أهل السنَّة ،جيالً بعد جيل على َّ
أن اإلميان :قول وعمل،
وَتسك بالكتاب والسنَّة ،يزيد بالطاعة وينق باملعصية ،بل ُّ
وعدوا ذلك أصالً
خارجا عن صراطهم ،وداخالً يف
احدا منها صار ً من أصوهلم ،اليت من باين و ً
سبل أهل األهواء والبد .
معا؛ خالفًا
ولقد انعقد اإلمجا القدمي على أن :اإلميان حمله القلب واجلوارح ً
لفرق املرجئة اليت قصرته طائفة منهم على القلب ،وبعضهم على اللسان،
معا دون بقية اجلوارح.
وبعضهم على القلب واللسان ً
وكون اإلميان حمله القلب واجلوارح ،فاملقصود به :اإلميان املطلق ،وكذا مطلق
اإلميان ،أي :اإلميان بكل درجاته ودوائره .فاإلميان املطلق هو :القيام بعبادة اهلل
وحده ال شريك له ،والرباءة من الشرك ،مع القيام بالواجبات واالنتهاء عن
احملرمات.
َّ
وهذا اإلميان يستوجب لصاحبه دخول اجلنات ،والنجاة من النريان
والعذاب.
ومطلق اإلميان هو:
القيام بالتوحيد ،والرباءة من الشرك ،مع القيام ببعض الواجبات وترك
بعضها ،بشرط أن ال يكون يف فرض ،يلزم من تركه فساد اإلميان بالكلية ،كرتك
كفرا من علماء السلف واْللف.الصالة كسالً ،عند من يعدها ً
وهذا اإلميان جيعل صاحبه يف املشيئة اإلهلية ،وحيرم عليه اْللود يف النريان.
-15-
ومما تقدَّم ،نستطيع الوقوف على :احلد البني الواضح املفرق بني أهل السنَّة
أن اإلميان حمله القلب واجلوارح، واْلوارج يف قضية اإلميان ،فكالمها ن َّ :على َّ
لكن أهل السنَّة َّفرقوا يف هذا املقام بني اإلميان املطلق ،ومطلق اإلميان.
فإذا اقرتف العبد كبرية من كبائر الذنوب ،خرج هبا من اإلميان املطلق إىل
مطلق اإلميان ،وال يبطل إميانه بالكلية إالَّ بفعل ناقض من نواقض اإلسالم.
أما اْلوارج فقد اشرتطت اإلميان املطلق لكل عبد حىت يصح إسالمه ،فإذا
نقضه بفعل كبرية ،أو ترك فريضة ،فقد بطل إميانه وفسد بكل درجاته ودوائره.
وهبذا انعقد إمجا أهل السنَّة على أن العاصي من املوحدين ال خيلد يف
النار ،كما تواترت بذلك اآلثار ،خالفًا للخوارج واملعتزلة ،وقد يدخلها بسبب
ذنوبه ،إن ل تدركه رمحة ربه تبارك وتعاىل ،وميكث فيها ما شاء اهلل له مث خيرج
منها ،وذلك خالفًا للغالة من املرجئة اليت نصبت راية النجاة من العذاب لكل
العصاة من املوحدين زاعمة أن املعصية ال تضر مع اإلميان ،كما ال تنفع مع
الكفر طاعة ،وعليه فإن إميان العصاة من أهل القبلة ،كإميان املالئكة والنبِّيني
والصدِّيقني...
ونصوا :على ودوروا داخلها دائرة لإلميانُّ ،
دور السلف دائرة لإلسالمَّ ، ولقد ي
أن فعل الكبرية خيرج صاحبه من اإلميان إىل اإلسالم ،وال خيرجه من اإلسالم إالَّ
الردة عن الدين.الكفر املبني و َّ
-14-
المبحث األول
اإليمان قول وعمل ،يزيد بالطاعة ،وينقص بالمعصية
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل:
قال السائلَّ :
تفكرت يف اإلميان وقوته وضعفه ،وأن حملَّه القلب ،وأن التقوى
مثرته ومركبة عليه ،فبقوته تقوى ،وبضعفه تضعف.
فأجاب :قولك إن اإلميان حمله القلب؛ فاإلميان بإمجا السلف حمله القلب
مجيعا ،كما ذكر اهلل يف سورة األنفال وغريها؛ وأما كون الذي يف واجلوارح ً
القلب والذي يف اجلوارح ،يزيد وينق ،فذلك شيء معلوم ،والسلف خيافون
()1
على اإلنسان إذا كان ضعيف اإلميان من النفاق ،أو سلب اإلميان كله» .
وقال الشيخ حسن ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد رحمهم اهلل
تعالى:
قال ابن القيم رمحه اهلل :وحنن حنكي إمجاعهم ،كما حكاه حرب ،صاحب
اإلمام أمحد ،بلفظه ،قال يف مسائله املشهورة ،هذا مذهب أهل العلم،
املتمسكني هبا ،املقتدى هبم فيها ،من لدن ِّ وأصحاب األثر ،وأهل السنَّة
أصحاب رسول اهلل إىل يومنا هذا ،وأدركت من أدركت من علماء احلجاز
والشام وغريهم عليها ،فمن خالف شيئًا من هذه املذاهب ،أو طعن فيها ،أو
عاب قائلها ،فهو خمالف مبتد ،خارج عن اجلماعة ،زائل عن مذهب أهل
السنَّة وسبيل احلق.
قال :وهو مذهب أمحد ،وإسحاق بن إبراهيم ،وعبد اهلل بن خملد،
-11-
وعبد اهلل بن الزبري احلميدي ،وسعيد بن منصور ،وغريهم ممن جالسنا،
وأخذنا عنهم العلم ،فكان من قوهلم :إن اإلميان قول وعمل ونية ،وَتسك
بالكتاب والسنَّة؛ واإلميان :يزيد وينق ،ويستثى يف اإلميان غري أن ال يكون
ش ًكا ،إمنا هي سنة ماضية عند العلماء ،وإذا سئل الرجل :أمؤمن أنت؟ فإنه
يقول :أنا مؤمن إن شاء اهلل ،أو مؤمن أرجو ،ويقول :آمنت باهلل ومالئكته وكتبه
ورسله.
(أقوال الفرق في اإليمان)
ومن زعم :أن اإلميان قول بال عمل ،فهو مرجئ؛ ومن زعم :أن اإلميان هو
القول ،واألعمال شرائع ،فهو مرجئ ،ومن زعم :أن اإلميان يزيد ،وال ينق فقد
قال بقوله املرجئة؛ ومن ل ير االستثناء يف اإلميان فهو مرجئ؛ ومن زعم أن إميانه
كإميان جربيل واملالئكة ،فهو مرجئ؛ ومن زعم أن املعرفة تقع يف القلب ،وإن ل
()1
يتكلم هبا ،فهو مرجئ» .
وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى عن معنى أبيات
من الشعر ،قيلت في التوحيد فأجاب:
الثالثة) :هل يشرتط يف الواجب ،النطق بالشهادتني؟ أو يصري ً
مسلما
(2
«...
مسلما إالَّ بالنطق للقادر عليه ،واملخالف يف
ً يصري ال أنه : باملعرفة ،فذكر
ذلك جهم ومن تبعه؛ وقد أفىت اإلمام أمحد ،وغريه من السلف ،بكفر من قال:
مسلما باملعرفة ،وتفر على هذه مسائل؛ منها :من دعي إىل الصالة إنه يصري ً
حدا ،من رأىحدا؟ ومن قال :يقتل ً كفرا أو ً
فأىب مع اإلقرار بوجوهبا ،هل يقتل ً
أن هذا أصل املسألة.
الرابعة :أن ابن َّ
كرام ،وأتباعه ،يقولون :إن اإلميان ،قول باللسان ،من
-11-
غري عقيدة القلب ،مع أهنم يوافقون أهل السنَّة ،أنه خملد يف النار ،فذكر
()1
أنه :ال بد مع النطق بتصديق القلب» .
وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه اهلل تعالى:
جمرد التصديق ،وال يدخلون فيه أعمال «ومذهب األشاعرة :أن اإلميان َّ
اجلوارح ،قالوا :وإن مسِّيت األعمال يف األحاديث إميانًا ،فعلى اجملاز ،ال
()2
احلقيقة» .
-955-
عثمان ؛ وكفروا عثمان ،وعليًا ،وطلحة ،والزبري ،ومعاوية ،وطائفيت علي
ومعاوية ،واستحلوا دماءهم.
وأصل مذهبهم :الغلو الذي هنى اهلل عنه ،وحذر عنه النيب ،فكفروا من
ارتكب كبرية؛ وبعضهم :يكفر بالصغائر :وكفروا عليًا وأصحابه بغري ذنب،
فكفَّروهم بتحكيم احلكمني :عمرو بن العاص ،وأيب موسى األشعري ،وقالوا :ال
حكم إالَّ هلل.
واستدلوا على قوهلم بالتكفري بالذنوب ،بعمومات أخطئوا فيها ،وذلك
ين فِ َيها أَبَ ًدا﴾ كقوله سبحانه﴿ :ومن يـع ِ اللَّه ورسولَه فَِإ َّن لَه نَار جهن ِ ِ
َّم َخالد َ َ ََ َ َ ََ ََ َْ
[اجلن.]23 :
وده ي ْد ِخْله نَ ًارا َخالِ ًدا فِ َيها﴾
وقولهَ ﴿ :وَمن يَـ ْع ِ الليهَ َوَرسولَه َويَـتَـ َع َّد حد َ
[النساء.]94 :
وقولهَ ﴿ :وَمن يَـ ْقت ْل م ْؤِمنًا ُّمتَـ َع ِّم ًدا فَ َجَزآؤه َج َهنَّم َخالِ ًدا فِ َيها﴾ [النساء:
،]13وغري ذلك من اآليات.
وأمجع أهل السنَّة واجلماعة أن أصحاب الكبائر ال خيلدون يف النار إذا ماتوا
على التوحيد؛ وأن من دخل النار منهم بذنبه خيرج منها ،كما تواترت بذلك
األحاديث عن النيب .
كفارا
أيضا :فلو كان الزاي ،وشارب اْلمر ،والقاذف ،والسارق ،وحنوهمً : و ً
مرتدين ،لكان حكمهم يف الدنيا القتل ،الذي هو حكم اهلل يف املرتدين؛ فلما
حكم اهلل على الزاي البكر اجللد ،وعلى السارق بالقطع ،وعلى الشارب
والقاذف باجللد ،دلَّنا حكم اهلل فيهم بذلك :أهنم ل يكفروا هبذه الذنوب ،كما
()1
تزعمه اْلوارج» .
* * *
-959-
المبحث الثاني
اإلسالم واإليمان وحدود العالقة بينهما
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه اهلل ،عن الفرق بين اإلسالم
واإليمان ،فأجاب:
وفسر اإلسالم يف فسر النيب اإلسالم واإلميان يف حديث جربائيلَّ ، قد َّ
حديث ابن عمر ،وكالمها يف الصحيح ،فقال« :اإلسالم أن تشهد أن ال إله إالَّ
حممدا رسول اهلل ،وتقيم الصالة ،وتؤيت الزكاة ،وتصوم رمضان ،وحتج اهلل ،وأن ً
البيت إن استطعت إليه سبيالً» ،وقال« :اإلميان أن تؤمن باهلل ،ومالئكته،
وكتبه ،ورسله ،وباليوم اآلخر ،وتؤمن بالقدر خريه وشره» ،وقال يف حديث ابن
عمر« :بن اإلسالم على مخس :شهادة أن ال إله إالَّ اهلل ،وأن ً
حممدا رسول اهلل،
وإقام الصالة ،وإيتاء الزكاة ،وصوم رمضان ،وحج البيت» ،ويف رواية« :واحلج،
وصوم رمضان».
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل تعاىل ،جعل النيب الدين ثالث
درجات :أعالها اإلحسان ،وأوسطها اإلميان ،ويليه اإلسالم ،فكل حمسن مؤمن،
وكل مؤمن مسلم ،وليس كل مؤمن حمسنًا ،وال كل مسلم مؤمنًا ،كما دلت
عليه األحاديث .انتهى كالمه.
فإن قيل :قد َّفرق النيب يف حديث جربائيل بني اإلسالم واإلميان،
واملشهور عن السلف وأئمة احلديث :أن اإلميان قول ،وعمل ،ونيَّة ،و َّ
أن
مسمى اإلميان ،وحكى الشافعي على ذلك إمجا األعمال كلها داخلة يف َّ
الصحابة والتابعني ومن بعدهم ممن أدركهم؟
-952-
دل على دخول األعمال يف اإلميان: أن األمر كذلك ،وقد َّ فاجلوابَّ :
ين إِ َذا ذكَِر الليه ِ َّ ِ َِّ
الكتاب والسنَّة :أما الكتاب فكقوله تعاىل﴿ :إمنَا الْم ْؤمنو َن الذ َ
ت قـلوبـه ْم﴾ [األنفال ،]2 :وأما احلديث فكقوله يف حديث أيب هريرة ِ
َوجلَ ْ
املتفق عليه« :اإلميان بضع وسبعون شعبة ،أعالها قول ال إله إالَّ اهلل ،وأدناه
إماطة األذى عن الطريق ،واحلياء شعبة من اإلميان» وغري ذلك.
فمن زعم :أن إطالق اإلميان على األعمال الظاهرة جماز ،فقد خالف
الصحابة ،والتابعني ،واألئمة.
إذا عرفت ذلك ،فاعلم أنه جيمع بني األحاديث :بأن أعمال اإلسالم داخلة
مسمى اإلميان،
مسمى اإلميان ،شامالً هلا ،ففسرت باإلسالم ،وهي جزء َّ يف َّ
لكون اإلميان مثاالً هلا ولغريها ،من األعمال الباطنة والظاهرة ،فإذا أفرد اإلميان
يف آية أو حديث ،دخل فيه اإلسالم ،وإذا قرن بينهما فسر اإلسالم باألركان
وفسر اإلميان بأعمال القلب ،ألهنا أصل اْلمسة ،كما يف حديث جربيلَّ ،
اإلميان ومعظمه ،وقوته وضعفه :ناشئ عن قوة ما يف القلب ،من هذه األعمال
أو ضعفها.
وقد يضعف ما يف القلب ،من اإلميان باألصول الستة ،حىت يكون وزن ذرة،
كما يف احلديث الصحيح« :أخرجوا من النار من كان يف قلبه مثقال ذرة من
إميان».
فبقدر ما يف القلب من اإلميان ،تكون األعمال الظاهرة ،اليت هي داخلة يف
إسالما وإميانًا ،كما يف حديث وفد عبد القيس ،حني قال هلم وتسمى ً مسماهَّ ،
َّ
النيب « :آمركم باإلميان باهلل وحده ،أتدرون ما اإلميان باهلل وحده؟» قالوا :اهلل
ورسوله أعلم ،قال« :شهادة أن ال إله إالَّ اهلل ،وأن ً
حممدا رسول اهلل ،وإقام
الصالة ،وإيتاء الزكاة ،وأن تؤدوا مخـس مـا غنمتم» ،فهذه
-953-
األعمال الظاهرة والباطنة ،فمن ترك شيئًا من الواجبات ،أو فعل شيئًا من
احملرمات ،نق إميانه حبسب ذلك ،وهو دليل على نقصان أصل اإلميان ،وهو َّ
إميان القلب.
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل تعاىل ،يف الكالم على اإلسالم
واإلميان واإلحسان ،وما بني الثالثة من العموم واْلصوص :أما اإلحسان :فهو
أعم من جهة نفسه ،وأخ من جهة أصحابه من اإلميان ،واإلميان :أعم من
جهة نفسه ،وأخ من جهة أصحابه من اإلسالم .فاإلحسان :يدخل فيه
اإلميان ،واإلميان يدخل فيه اإلسالم ،واحملسنون :أخ من املؤمنني ،واملؤمنون:
يبني ما َّقررنا.
أخ من املسلمني .انتهى .وهذا ِّ
فحينئذ يتبني اإلميان الكامل ،الذي صاحبه يستحق عليه دخول اجلنة.
احملرمات ،وهو :الذي يطلق على والنجاة من النار ،هو :فعل الواجبات ،وترك َّ
من كان كذلك بال قيد ،وهو اإلميان :الذي يسميه العلماء :اإلميان املطلق.
وأما من ل يكن كذلك ،بل َّفرط يف بعض الواجبات ،أو فعل بعض
احملرمات ،فإنه ال يطلق عليه اإلميان إالَّ بقيد ،فيقال :مؤمن بإميانه ،فاسقَّ
بكبريته ،أو يقال :مؤمن ناق اإلميان ،لكونه ترك بعض واجبات اإلميان ،كما
يف حديث أيب هريرة « :ال يزي الزاي حني يزي وهو مؤمن» ،أي :ليس
موصوفًا باإلميان الواجب ،الذي يستحق صاحبه الوعد باجلنة ،واملغفرة والنجاة
من النار ،بل هو حتت املشيئة :إن شاء غفر له ،وإن شاء عذبه على ترك ما
وجب عليه من اإلميان ،وارتكابه الكبرية.
يسمى مؤمنًا إالَّ بقيد ،وهذا
وقيل :هذا يوصف باإلسالم دون اإلميان ،وال َّ
الذي يسميه العلماء مطلق اإلميان ،أي :أنه أتى باألركان اْلمسة ،وعمل هبا
وظاهرا ،وهذا الذي قلنا من معى اإلسـالم واإلميان ،هو
ً باطنًا
-954-
مذهب اإلمام أمحد ،وطائفة من السلف واحملققني ،وذهب طائفة من أهل
إسالما
ً فيسمى
أن اإلسالم واإلميان شيء واحد ،وهو الدينَّ ، أيضا إىل َّ
السنَّة ً
ملسمى واحد ،واألول أصح ،وهو الذي نصره شيخ اإلسالم وإميانًا ،فهما امسان َّ
ابن تيمية رمحه اهلل تعاىل يف كتبه ،فال تلتفت إىل ما خيالف هذين القولني ،واهلل
()1
أعلم .
* * *
من املعلوم من الدين بالضرورة :أنه جيب اإلميان بكل ما جاء به النيب ،
رد أي حكم من أحكامها، فاإلميان بالشريعة كل ال يتجزأ ،ومن مثَّ من وقع يف ي
مقرا بكل ما أنزل اهلل فيها.
كافرا ،ولو كان ً
يكون ً
واإلميان والكفر ،ضدان ال جيتمعان وال يرتفعان ،ولكل منهما أصل
وشعب .فأصل اإلميان :التوحيد ،وشعبه :الطاعات ،وأصل الكفر :الشرك،
وشعبه :املعاصي.
فالضد من أصل اإلميان وشعبه ،يستحيل أن جيتمع مع ضده من أصل
الكفر وشعبه.
كافرا،
فالعبد إذا قامت به شعبة من شعب الكفر دون أصله ،ال يكون ً
وكذلك إذا قامت به شعبة من شعب اإلميان دون أصله ،ال يصري مؤمنًا.
فحكم الكفر ال ينحل عن صاحبه ،حىت حيقق أصل اإلميان ال شعبه،
وكذلك حكم اإلميان ال يفارق صاحبه ،حىت يقوم به أصل الكفر ال شعبه،
وبعبارة أخرى :إن اإلميان ال يثبت لكافر ،حىت ينخلع من أصل الكفر ،ال
شعبه ،كما أن الكفر ال يثبت على مؤمن ،حىت يذهب عنه أصل اإلميان ال
شعبه.
واحلاصل :أن لإلميان أصل ،ال يتم وال يصح اإلسالم واإلميان إالَّ به ً
إمجاعا.
-956-
فأصل اإلسالم واإلميان :القيام مبعى (ال إله إالَّ اهلل) إقرا ًرا ً
وعلما وعمالً،
ومدلول ذلك يتمثل يف :عبادة اهلل وحده ال شريك له ،والكفر بكل ما يعبد من
دونه ،مع اإلقرار والقبول لكافة أحكام اهلل تعاىل.
ولإلسالم واإلميان ،عالقة وطيدة تربط بينهما ،وعلى ضوء قواعدها،
نستطيع الوقوف على أمساء وأحكام الكفر واإلميان.
فاإلسالم قد يفسر باألعمال الظاهرة ،واإلميان باألعمال الباطنة ،إالَّ أنه ال
يصح قبول أي واحد منهما مبعزل عن اآلخر.
فاإلسالم بدون إميان نفاق أكرب ،واإلميان بدون إسالم دعوى ال حقيقة هلا؛
ومن مثَّ كانت املؤثرات السلبية واإلجيابية الظاهرة واحدة على كل منهما.
فإذا قام دليل صحيح منضبط على فساد الظاهر أو الباطن ،قطعنا بفساد
اإلسالم واإلميان ،هذا مع قولنا :إن اإلسالم هو األعمال الظاهرة ،واإلميان هو
جدا ،وبه نعلم حقيقةاألعمال الباطنة فينبغي التفطن هلذا املوضع فإنه نافع ً
العالقة الصحيحة املنضبطة بني اإلسالم واإلميان.
عظيما ،ويكونون فيه على
والناس يتفاضلون يف اإلسالم واإلميان تفاضالً ً
درجات متفاوتة ،حبسب ما قام يف قلوهبم من :الصدق واليقني واإلخالص،
وعلى جوارحهم من :االنقياد والطاعة والقبول واإلذعان.
وهبذا يعلو جليًا :الفرق البني الواضح ،بني اإلميان والكفر ،واإلسالم
والشرك ،والطاعة واملعصية ،وأحكام كل واحد منهم.
سوى بني أصل اإلميان وشعبه ،وأصل الكفر وشعبه ،يف واحلاصلَّ :
أن من َّ
أحل
السنة وإمجا سلف األمة ،و ي األمساء واألحكام ،يكون قد خالف الكتاب و َّ
بنفسه البدعة ،ودخلها من أوسع أبواهبا ،مرتديًا يف أودية هالكها.
-955-
المبحث الثالث
أصل اإليمان الذي ل يصح إل بتحقيقه
-954-
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه اهلل تعالى:
«أما النطق بال إله إالَّ اهلل ،من غري معرفة ملعناها ،وال يقني ،وال عمل مبا
تقتضيه من الرباءة من الشرك ،وإخالص القول والعمل ،قول القلب وقول
()1
اللسان ،وعمل القلب واجلوارح ،فغري نافع باإلمجا » .
وقال أيضا رحمه اهلل تعالى:
«واإلميان باهلل وحده ،هو :الرباءة مما كانوا يعبدونه من األصنام واألوثان
وإخالص العبادة هلل ،ال يرتاب يف هذا مسلم.
فمن شك يف أن هذا هو معى ال إله إالَّ اهلل ،فليس معه من اإلسالم ما يزن
()2
حبة خردل» .
أيضا رحمه اهلل تعالى:
وقال ا
«إن الكفر بالطاغوت :ركن التوحيد ،كما يف آية البقرة أي قوله تعاىل:
ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى﴾ [البقرة: ِ ِ ِ ِ
﴿فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ
استَ ْم َس َ
وح ًدا ،والتوحيد :هو أساس اإلميان، ،]265فإذا ل حيصل هذا الركن ،ل يكن م ِّ
()3
الذي تصلح به مجيع األعمال وتفسد بعدمه .اهـ» .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه اهلل تعالى:
فسره النيب
«وأصل اإلميان باهلل وحده :هو عبادته وحده ال شريك له ،وقد َّ
بذلك يف حديث (وفد عبد القيس).
هذا هو اإلميان الذي اخت َّ به املؤمنون ،وجحده املشركون ،وفيه وقع
()4
النزا ،وله شر اجلهاد ،وانقسم العباد» .
-951-
المبحث الرابع
وجوب التباين بين أصل اإليمان وشعبه
وأصل الكفر وشعبه ،ثابت بالكتاب والسنة
لقد أصل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن أصولا ذهبية في قضية
اإليمان -قد استقاها من اإلمام العالمة ابن قيم الجوزية -ل يمكن
الستغناء عنها لمن أراد الوقوف على علل وأحكام اإليمان والكفر ،فقال
رحمه اهلل:
«وهنا أصول ،أحدهما :أن السنة واألحاديث النبوية ،هي املبينة لألحكام
القرآنية ،وما يراد من النصوص الواردة يف كتاب اهلل ،يف :باب معرفة حدود ما
املوحد ،والفاجر ،والرب ،والظال،
أنزل اهلل ،كمعرفة املؤمن ،والكافر ،واملشرك ،و ِّ
والتقي ،وما يراد باملواالة ،والتويل ،وحنو ذلك من احلدود....
األصل الثاني :أن اإلميان أصل ،له شعب متعددة ،كل شعبة منها َّ
تسمى
إميانًا ،فأعالها :شهادة أن ال إله إالَّ اهلل ،وأدناها :إماطة األذى عن الطريق.
إمجاعا ،كشعبة الشهادتني ،ومنها :ما ال يزول
فمنها :ما يزول اإلميان بزواله ً
إمجاعا ،كرتك إماطة األذى عن الطريق ،وبني هاتني الشعبتني شعب ً بزواله
متفاوتة ،منها ":ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب ،ومنها :ما يلحق
بشعبة إماطة األذى عن الطريق ويكون إليها أقرب ،والتسوية بني هذه الشعب
يف اجتماعها ،خمالف للنصوص ،وما كان عليه سلف األمة وأئمتها.
أن شعب اإلميان :إميان، أيضا ،ذو أصل وشعب ،فكما َّ وكذلك الكفر ً
فشعب الكفر :كفر ،واملعاصي كلها من شعب الكفر ،كما أن الطاعات
يسوى بينهما يف األمساء واألحكام ،وفرق بني
كـلها من شعب اإلميان ،وال َّ
-951-
من ترك الصالة ،أو الزكاة ،أو الصيام ،أو أشرك باهلل ،أو استهان
باملصحف ،وبني من يسرق ،ويزي ،أو يشرب ،أو ينهب ،أو صدر منه نو
سوى بني شعب اإلميان يف األمساء واألحكام،مواالة ،كما جرى حلاطب ،فمن َّ
سوى بني شعب الكفر يف ذلك ،فهو خمالف للكتاب والسنة ،خارج عن أو َّ
سبيل سلف األمة ،داخل يف عموم أهل البد واألهواء.
األصل الثالث :أن اإلميان مركب ،من قول وعمل ،والقول قسمان:
قول القلب ،وهو :اعتقاده.
وقول اللسان ،وهو :التكلُّم بكلمة اإلسالم.
والعمل قسمان:
عمل القلب وهو :قصده ،واختياره ،وحمبته ،ورضاه ،وتصديقه.
وعمل اجلوارح :كالصالة ،والزكاة ،واحلج ،واجلهاد ،وحنو ذلك من األعمال
الظاهرة.
فإذا زال تصديق القلب ،ورضاه ،وحمبته هلل ،وصدقه ،زال اإلميان بالكلية.
وإذا زال شيء من األعمال ،كالصالة ،واحلج ،واجلهاد ،مع بقاء تصديق
القلب وقَبوله ،فهذا حمل خالف ،هل يزول اإلميان بالكلية ،إذا ترك أحد األركان
اإلسالمية ،كالصالة ،واحلج ،والزكاة ،والصيام ،أو ال يزول؟ وهل :يكفر تاركه
أو ال يكفر؟ وهل :يفرق بني الصالة ،وغريها ،أو ال يفرق؟
فأهل السنة :جممعون على أنه ال بد من عمل القلب ،الذي هو :حمبته،
ورضاه ،وانقياده ،واملرجئة تقول :يكفي التصديق فقط ،ويكون به مؤمنًا،
واْلالف يف أعمال اجلوارح ،هل يكفر أو ال يكفر ،واقع بني أهل السنة
واملعروف عند السلف :تكفري من ترك أحد املباي اإلسالمية ،كالصالة ،والزكاة،
والصيام ،واحلج ،والقول الثاي :أنه ال يكفر إالَّ من جحدها.
-995-
والثالث :الفرق بني الصالة وغريها ،وهذه األقوال ،معروفة.
وكذلك املعاصي والذنوب اليت هي :فعل احملظورات ،فرقوا فيها بني ما
كفرا وما ل
يصادم أصل اإلسالم وينافيه ،وما دون ذلك ،وبني ما مسَّاه الشار ً
املتمسكون بسنة رسول اهلل ،وأدلة هذا ِّ يسمه ،هذا ما عليه أهل األثر،
مبسوطة يف أماكنها.
األصل الرابع :أن الكفر نوعان :كفر عمل ،وكفر جحود وعناد ،وهو :أن
وعنادا ،من :أمساء
جحودا ً ً يكفر مبا علم أن الرسول جاء به من عند اهلل،
الرب ،وصفاته ،وأفعاله ،وأحكامه ،اليت أصلها توحيده ،وعبادته وحده ال شريك
له ،وهذا مضاد لإلميان من كل وجه...
األصل الخامس :أنه ال يلزم من قيام شعبة من شعب اإلميان بالعبد ،أن
كافرا وإن
يسمى ً يسمى مؤمنًا ،وال يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر ،أن َّ ِّ
كان ما قام به كفر ،كما أنه ال يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم ،أو من
فقيها ،وأما
يسمى عاملًا ،أو طبيبًا ،أو ً أجزاء الطب ،أو من أجزاء الفقه ،أن َّ
الشعبة نفسها ،فيطلق عليها اسم الكفر ،كما يف احلديث« :اثنتان يف أميت مها
هبم كفر :الطعن يف النسب ،والنياحة على امليت» ،وحديث« :من حلف بغري
()1
اهلل فقد كفر» ،ولكنه ال يستحق اسم الكفر على اإلطالق» .
-999-
المبحث الخامس
حكم الستثناء في اإليمان
-992-
من الصواب ،ويعلم َمن األوىل باحلق يف هذا الباب.
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل تعاىل :وأما االستثناء يف اإلميان ،بقول
الرجل :أما مؤمن إن شاء اهلل ،فالناس فيه على ثالثة أقوال:
منهم :من يوجبه.
ومنهم :من حيرمه.
جيوز األمرين ،باعتبارين .وهذا :أصح األقوال. ومنهم :من ِّ
فالذين حيرمونه ،هم :املرجئة ،واجلهمية ،وحنوهم ،ممن جيعل اإلميان شيئًا
احدا ،يعلمه اإلنسان من نفسه ،كالتصديق بالرب ،وحنو ذلك مما يف قلبه، و ً
فيقول أحدهم :أنا أعلم أي مؤمن ،كما أعلم أي قرأت الفاحتة ،فمن استثى يف
إميانه ،فهو شاك فيه عندهم.
وأما الذين أوجبوا االستثناء ،فلهم فيه مأخذان ،أحدمها :أن اإلميان ،هو ما
كافرا باعتبار املوافاة،
مات عليه اإلنسان ،واإلنسان إمنا يكون عند اهلل مؤمنًا ،و ً
وما سبق يف علم اهلل أنه يكون عليه ،وهو :مأخذ كثري من املتأخرين ،من
الكالبية وغريهم ممن يريد أن ينصر ما استشهد عليه أهل السنَّة واحلديث ،من
قوهلم :أنا مؤمن إن شاء اهلل ،ويريد مع ذلك أن اإلميان ال يتفاضل ،وال يشك
اإلنسان يف املوجود منه ،وإمنا يشك يف املستقبل ،وهذا :وإن علل به كثري من
املتأخرين من أصحاب احلديث ،من أصحاب أمحد ،ومالك ،والشافعي، ِّ
أحدا من السلف علَّل به االستثناء.
وغريهم ،فما علمت ً
حيرمون االستثناء ،يف احلال واملآل ،وهؤالء:
قلت :فاملرجئة ،واجلهميةِّ ،
يبيحونه يف املآل ،ومينعونه يف احلال.
قال شيخ اإلسالم رمحه اهلل :واملأخذ الثاي يف االستثناء :أن اإلميان
املـطلق ،يتضمن فعل ما أمر اهلل به كـله ،وترك احملرمات كلها ،فإذا قال
-993-
الرجل :أما مؤمن هبذا االعتبار ،فقد شهد لنفسه أنه من األبرار املتقني،
القائمني فعل مجيع ما أمروا به ،وترك كل ما هنوا عنه ،فيكون من أولياء اهلل،
وهذا من تزكية اإلنسان لنفسه ،وشهادته هلا مبا ال يعلم ،ولو كانت هذه
الشهادة صحيحة ،لكان ينبغي أن يشهد لنفسه باجلنة إن مات على هذه
جوزوا تركاحلال ،وهذا :مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون ،وإن َّ
االستثناء مبعى آخر.
بدا منوروى اْلالل عن أيب طالب قال :مسعت أبا عبد اهلل ،يقول :ال جند ً
االستثناء ،ألهنم إذا قالوا مؤمن ،فقد جاءوا بالقول ،فإمنا االستثناء بالعمل ال
بالقول ،وعن إسحاق بن إبراهيم قال :مسعت أبا عبد اهلل يقول :أذهب إىل
حديث ابن مسعود يف االستثناء يف اإلميان ألن اإلميان قول وعمل ،والعمل
الفعل ،فقد جئنا بالقول ،وخنشى أن نكون فرطنا يف العمل ،فيعجبن أن يستثن
يف اإلميان ،فيقول :أنا مؤمن إن شاء اهلل ،ومثل هذا كثري من كالم أمحد،
()1
وأمثاله» .
* * *
-994-
المبحث السادس
كلما عظم اإليمان ،اشتد الخوف من الكفر والنفاق
-996-
فكلما زاد اإلميان ،اشتد اْلوف من النفاق ،وعلى حسب ضعف اإلميان
إخبارا عن خليله
يكون األمن منه ،وأما خوف الكفر فيكفي فيه قول اهلل تعاىلً ،
َصنَ َام﴾ [إبراهيم ،]36 :وهو يدل على ن أَن نـَّ ْعب َد األ ْاجنْب ِن َوبَِ َّ
إبراهيمَ ﴿ :و ْ
شدة خوفه من هذا األمر ،ويف الدعاء املأثور« :اللهم إي أعوذ بك من الكفر،
رد إىل أرذل العمر». والفقر ،وعذاب القرب ،وأن أ ي
واعلم :أن كون اإلنسان ،يشتد خوفه من الكفر ،والنفاق ،ويكثر البحث
عن أسباهبما وحنو ذلك ،هو أمر غري التلفظ به ،وكونه يقول :أنا منافق ،فذاك
()1
لون ،وهذا لون» .
-995-
-994-
الفصل الخامس
الطاغوت وصفة الكفر به
-991-
-991-
المبحث األول
معنى الطاغوت وبعض أفراده
-925-
كل معبود من دون اهلل فهو جبت وطاغوت؛ قال ابن عباس يف رواية
عطية :اجلبت األصنام ،والطاغوت ترامجة األصنام الذين يكونون بني أيديها
يعربون عنه الكذب ليضلوا الناس ،وقال يف رواية الوايب :اجلبت الكاهن،
والطغوت الساحر.
وقال بعض السلف يف قوله سبحانه﴿ :ي ِريدو َن أَن يَـتَ َحا َكمواْ إِ َىل
حي بن َّ ِ
الطاغوت﴾ [النساء ،]55 :إنه كعب بن األشرف .وقال بعضهم :ي
أخطب .وإمنا استحقَّا هذا االسم لكوهنما من رءوس الضالل ،وإلفراطهما يف
الطغيان وإغوائهما الناس ،ولطاعة اليهود هلما يف معصية اهلل ،فكل من كان
هبذه الصفة فهو طاغوت.
وت﴾ قال ابن كثري رمحه اهلل تعاىل﴿ :ي ِريدو َن أَن يـتحا َكمواْ إِ َىل الطَّاغ ِ
ََ َ
[النساء ،]55 :وملا ذكر ما قيل إهنا نزلت فيمن طلب التحاكم إىل كعب بن
األشرف أو إىل حكم اجلاهلية وغري ذلك ،قال :واآلية أعم من ذلك كله ،فإهنا
ذامة ،ملن عدل عن الكتاب والسنَّة وحتاكم إىل ما سوامها من الباطل ،وهو املراد
بالطاغوت ههنا.
فتحصل من جممو كالمهم رمحهم اهلل تعاىل أن اسم «الطاغوت» يشمل َّ
كل معبود من دون اهلل ،وكل رأس يف الضالل يدعو إىل الباطل وحيسنه ،ويشمل
أيضا كل من نصبه الناس للحكم بينهم بأحكام اجلاهلية املضادة حلكم اهلل ً
أيضا الكاهن والساحر وسدنة األوثان إىل عبادة املقبورين ورسوله ،ويشمل ً
للجهال ،املومهة أن املقبور وحنوه يقضي وغريهم مبا يكذبون من احلكايات املضلَّة َّ
حاجة من توجه إليه وقصده ،وأنه فعل كذا وكذا مما هو كذب أو من فعل
الشياطني ،ليومهوا الناس أن املقبور وحنوه يقضي حاجة من قصده ،فيوقعهم يف
الشرك األكرب وتوابعه.
-929-
وأصل هذه األنوا كلها وأعظمها الشيطان ،فهو الطاغوت األكرب ،واهلل
سبحانه)1وتعاىل أعلم ،وصلَّى اهلل على حممد وعلى آله وصحبه وسلم ت ً
سليما
(
كثريا» . ً
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء:
السؤال الثالث من الفتوى رقم (:)1551
عموما ،مع اإلشارة إىل تفسري ابن كثري آلية النساء: س :ما معى الطاغوت ً
ِ ِ َّ ِ
ك ي ِريدو َنك َوَما أن ِزَل ِمن قَـْبل َ
ين يَـ ْزعمو َن أَنـَّه ْم َآمنواْ ِمبَا أن ِزَل إِلَْي َ
﴿أَ َلْ تَـَر إ َىل الذ َ
وت وقَ ْد أ ِمرواْ أَن يكْفرواْ بِِه وي ِريد الشَّيطَان أَن ي ِ
ضلَّه ْم ِ ِ
ْ َ َ أَن يَـتَ َحا َكمواْ إ َىل الطَّاغ َ
يدا﴾ [النساء.]55 : ضالَالً بَعِ ً َ
المراد هنا توضيح أمرين:
عموما ،وهل يدخل كما قال ابن كثري طاغوت األول :ما معى الطاغوت ً
كل قوم من يتحاكمون إليه دون اهلل لكي نصل إىل تفسري احلاكم واملتحاكمني
إليه حال كونه ال حياكم بشرعه سبحانه.
الثاني :معى قوله ﴿ي ِريدو َن أَن يَـتَ َحا َكمواْ﴾ قال بعضهم اإلرادة هنا ال
حتصل إالَّ بالباطن وال يعلم أحد به لذا فال حيكم بكفر املتحاكم إالَّ بتوافر شرط
العلم باإلرادة الباطنية وهو غري حاصل ،اإلرادة حممولة على املعى الظاهرة،
االستدالل حبديث الرسول بالرضا واملتابعة ،أي :ذلك صواب.
السالم على رسوله وآله وصحبه ...وبعد: احلمد هلل وحده والصالة و َّ
ج :أولا :معى الطاغوت العام :هو كل ما عبد من دون اهلل ً
مطلقا ،تقربًا
إليه بصالة أو صيام أو نذر أو ذبيحة أو جلوء إليه ،فيما هو من شأن اهلل،
حتكيما له بدالً من كتاب اهلل وسنَّة رسوله ً لكشف ضر ،أو جلب نفع ،أو
وحنو ذلك.
-922-
واملراد بالطاغوت يف اآلية :كل ما عدل عن كتاب اهلل تعاىل وسنَّة نبيه ،
إىل التحاكم إليه من :نظم وقوانني وضعية ،أو تقاليد وعادات متوارثة ،أو رؤساء
قبائل ليفصل بينهم بذلك ،أو مبا يراه زعيم اجلماعة ،أو الكاهن .ومن ذلك
يتبني :أن النظم اليت وضعت ليتحاكم إليها مضاهاة لتشريع اهلل داخلة يف معى
الطاغوت.
لكن من عبد من دون اهلل وهو غري راض بذلك كاألنبياء والصاحلني ال
يسمى طاغوتًا وإمنا الطاغوت الشيطان الذي دعاهم إىل ذلك وزينه هلم من اجلن َّ
واإلنس.
وت﴾:ثانيا :املراد باإلرادة يف قوله تعاىل﴿ :ي ِريدو َن أَن يـتحا َكمواْ إِ َىل الطَّاغ ِ
ََ َ ا
ما صحبه فعل ،أو قرائن وأمارات تدل على القصد واإلرادة ،بدليل ما جاء يف
الرس ِ
َنزَل الليه َوإِ َىل َّ ِ ِ
ول يل َهل ْم تَـ َعالَْواْ إِ َىل َما أ َ
اآلية اليت بعد هذه اآليةَ ﴿ :وإ َذا ق َ
أيضا: ِِ
ودا﴾ [النساء ،]59 :ويدل على ذلك ً نك صد ً ني يَصدُّو َن َع َ
ت الْمنَافق َ
َرأَيْ َ
سبب النزول الذي ذكره ابن كثري وغريه يف تفسري هذه اآلية ،وكذلك املتاعبة
دليل الرضا ،وبذلك يزول اإلشكال القائل :إن اإلرادة أمر باطن فال حيكم على
املريد إالَّ بعلمها منه وهو غري حاصل.
وباهلل التوفيق ،وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء
الرئيس نائب رئيس اللجنة عضو عضو
()1
عبد اهلل بن قعود عبد اهلل بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز
-923-
المبحث الثاني
رءوس الطواغيت ،وصفة الكفر بها
-924-
(الثالث) :الذي حيكم بغري ما أنزل اهلل ،والدليل قوله تعاىلَ ﴿ :وَمن َّلْ
ك هم الْ َكافِرو َن﴾ [املائدة.]44 : َنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ ِ
َْحيكم مبَا أ َ
ال(الرابع) :الذي يدَّعي علم الغيب من دون اهلل ،والدليل قوله تعاىل﴿ :ع ِ
َ
ضى ِمن َّرسول فَِإنَّه يَسلك ِمن بَـ ْ ِ
ني َح ًدا * إِالَّ َم ِن ْارتَ َ
ِِ ِ
ب فَ َال يظْهر َعلَى َغْيبه أ َ الْغَْي ِ
ْ
ص ًدا﴾ [اجلن...]24 ،25 : ِ ِ ِِ
يَ َديْه َوم ْن َخْلفه َر َ
(الخامس) :الذي يعبد من دون اهلل وهو راض بالعبادة ،والدليل قوله تعاىل:
ِِ ِ ﴿ومن يـقل ِمْنـهم إِ ِّي إِلَه ِّمن دونِِه فَ َذلِ َ ِ ِ
ني﴾ ك َْجن ِزي الظَّالم َ َّم َك َذل َ
ك َْجنزيه َج َهن َ ََ َ ْ ْ
[األنبياء.]21 :
واعلم أن اإلنسان ما يصري مؤمنًا باهلل إالَّ بالكفر بالطاغوت ،والدليل قوله
ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى الَ ِ ِ ِ ِ
تعاىل﴿ :فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ
استَ ْم َس َ
ص َام َهلَا َوالليه َِمسيع َعلِيم﴾ [البقرة. »]265 : ِ
()1
انف َ
وقال الشيخ سليمان بن مسحان رمحها اهلل تعاىل:
هذه كلمات يف بيان الطاغوت ،ووجوب اجتنابه ،قال اهلل تعاىل﴿ :الَ
وت َويـ ْؤِمن بِاللي ِه فَـ َق ِد
الر ْشد ِمن الْغَي فَمن يكْفر بِالطَّاغ ِ
َ ِّ َ ْ َ ْ ني ُّ إِ ْكَر َاه ِيف الدِّي ِن قَد تَّـبَـ َّ َ
ص َام َهلَا َوالليه َِمسيع َعلِيم﴾ [البقرة.]265 : ِ ِ
ك بِالْع ْرَوة الْوثْـ َق َى الَ انف َ استَ ْم َس َْ
أن املستمسك بالعروة الوثقى ،هو الذي يكفر بالطاغوت ،وقدم فبني تعاىل َّ َّ
الكفر به على اإلميان باهلل ،ألنه قد يدعي املدعي أنه يؤمن باهلل ،وهو ال جيتنب
الطاغوت ،وتكون دعواه كاذبة...
واملراد من اجتنابه هو :بغضه ،وعداوته بالقلب ،وسبِّه وتقبيحه باللسان،
وإزالته باليد عند القدرة ومفارقته ،فمن ادعى اجتناب الطاغوت ول يفعل ذلك
فما صدق.
-926-
وأما حقيقته واملراد به ،فقد تعددت عبارات السلف عنه ،وأحسن ما قيل
فيه ،كالم ابن القيم رمحه اهلل تعاىل حيث قال :الطاغوت ما جتاوز به العبد حده
من معبود ،أو متبو ،أو مطا ،فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه ،غري اهلل
ورسوله ،أو يعبدونه من دون اهلل ،أو يتبعونه من غري بصرية من اهلل ،أو يطيعونه
فيما ال يعلمون أنه طاعة هلل ،فهذه طواغيت العال ،إذا تأملتها ،وتأملت أحوال
الناس معها ،رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة اهلل إىل عبادة الطاغوت ،وعن
طاعته ومتابعة رسوله ،إىل طاعة الطاغوت ومتابعته .انتهى.
وحاصله :أن الطاغوت ثالثة أنوا ؛ طاغوت حكم ،وطاغوت عبادة،
وطاغوت طاعة ،ومتابعة ،واملقصود يف هذه الورقة هو :طاغوت احلكم ،فإن
كثريا من الطوائف املنتسبني إىل اإلسالم ،قد صاروا يتحاكمون إىل عادات ً
آبائهم ،ويسمون ذلك احلق بشر الرفاقة ،كقوهلم شر عجمان ،وشر
قحطان ،وغري ذلك ،وهذا هو الطاغوت بعينه الذي أمر اهلل باجتنابه.
وذكر شيخ اإلسالم ابن تيمية يف منهاجه ،وابن كثري يف تفسريه :أن من
فعل ذلك فهو كافر باهلل ،زاد ابن كثري جيب قتاله ،حىت يرجع إىل حكم اهلل
()1
ورسوله» .
قال الشيخ عبد الرمحن السعدي -رمحه اهلل تعاىل:-
()2
«كل من حكم بغري شر اهلل فهو :طاغوت» .
-925-
المبحث الثالث
تكفير الطاغوت وشيعته ،والبراءة منهم ،شرط في صحة اإلسالم
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
«ومعى الكفر بالطاغوت :أن تربأ من كل ما يعتقد فيه غري اهلل من جن أو
إنسي أو شجر أو حجر أو غري ذلك ،وتشهد عليه بالكفر والضالل ،وتبغضه
ولو كان أباك وأخاك.
السادة والقباب على القبور، أتعرض َّ فأما من قال أنا ال أعبد إالَّ اهلل وأنا ال َّ
()1
وأمثال ذلك ،فهذا كاذب يف قول ال إله إالَّ اهلل ،ول يكفر بالطاغوت» .
وقال رحمه اهلل:
«ال يصح دين اإلسالم إالَّ بالرباءة من الطواغيت وتكفريهم ،كما قال
ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى﴾ ِ ِ ِ ِ
تعاىل﴿ :فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ
استَ ْم َس َ
()2
[البقرة . »]265 :اهـ.
أيضا رحمه اهلل مبيناا الفرق بين الظلم األكبر ،واألصغر: وقال ا
«وأين الظلم الذي إذا تكلَّم اإلنسان بكلمة منه ،أو مدح الطواغيت ،أو
قائما ،من الظلم الذي ال خيرج صائما ً جادل عنهم خرج من اإلسالم ،ولو كان ً
من اإلسالم ،بل إما يؤدي إىل صاحبه بالقصاص ،وإما أن يغفره اهلل ،فبني
()3
املوضعني فرق عظيم» .
أيضا رحمه اهلل تعالى- :بعد أن تكلم عن التوحيد وأنواعه وأدلته: وقال ا
أسه ورأسه ،وهو: «فاهلل اهلل إخوايَ :تسكوا بأصل دينكم أوله وآخرهِّ ،
شهادة أن ال إله إالَّ اهلل ،واعرفوا معناها ،وأحبوا أهلها ،واجعلوهم إخوانكم،
-924-
ولو كانوا بعيدين؛ واكفروا بالطواغيت ،وعادوهم ،وابغضوا من أحبهم ،أو
جادل عنهم ،أو ل يكفرهم ،أو قال :ما عل َّي منهم ،أو قال :ما كلَّفن اهلل هبم،
فقد كذب على اهلل وافرتى ،بل كلفه اهلل هبم ،وفرض عليه الكفر هبم ،والرباءة
منهم ،ولو كانوا :إخوانه وأوالده.
فاهلل اهللَ ،تسكوا بأصل دينكم لعلكم تلقون ربكم ال تشركون به شيئًا.
()1
اللَّه َّم توفَّنا مسلمني ،وأحلقنا بالصاحلني» .
أيضا رحمه اهلل تعالى: وقال ا
من اهلل عليه باإلسالم ،وعرف أن ما من إله إالَّ اهلل ،ال تظن «وأنت يا من َّ
أتعرض للمشركني ،وال أنك إذا قلت :هذا هو احلق ،وأنا تارك ما سواه لكن ال َّ
أقول فيهم شيئًا ،ال تظن :أن ذلك حيصل لك به الدخول يف اإلسالم ،بل :ال
ب يد من بغضهم ،وبغض من حيبهم ،ومسبَّتهم ،ومعاداهتم؛ كما قال أبوك إبراهيم
والذين معه﴿ :إِنَّا بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ
ون اللَّ ِه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا بَـْيـنَـنَا ْ َ ْ َ
ِ َّ ِ ِ
ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤمنوا بالله َو ْح َده﴾ [املمتحنة ،]4 :وقال َوبَـْيـنَكم الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ
ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى﴾ ِ ِ ِ ِ
استَ ْم َس َ تعاىل﴿ :فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ
ِ
[البقرة ،]265 :وقال تعاىلَ ﴿ :ولََق ْد بَـ َعثْـنَا ِيف ك ِّل أ َّمة َّرسوالً أَن ْاعبدواْ الليهَ
و ِ
وت﴾ [النحل.]35 : اجتَنبواْ الطَّاغ َ َ ْ
أتعرض الالَّت، ولو يقول رجل :أنا أتبع النيب وهو على احلق ،لكن :ال َّ
()2
أتعرض أبا جهل ،وأمثاله ،ما عل يي منهم؛ ل يصح إسالمه» . العزى ،وال َّ و َّ
وقال عبد الرمحن بن حسن:
تردد يف كفر من « َمن عرف معى ال إله إالَّ اهلل ،عرف :أن من شك ،أو َّ
()3
أشرك مع اهلل غريه ،أنه ل يكفر بالطاغوت» .اهـ.
-921-
المبحث الرابع
الكفر بالطاغوت شطر التوحيد ،والتوحيد أساس اإليمان
وركنه األعظم ،والتحاكم إلى الطاغوت ،أو الحكم به ،إيمان
بالطاغوت وكفر باهلل العظيم ،ومروق من ملة المسلمين
-921-
مج ًيعا مثَّ يَـقول لِْل َمالَئِ َكةِ أ ََهؤالَء
إِيَّاك ْم َكانوا وكقوله﴿ :ويـوم َحيشرهم َِ
ََْ َ ْ ْ
َنت َولِيُّـنَا ِمن دوهنِِم بَ ْل َكانوا يَـ ْعبدو َن
اجلِ َّن أَ ْكثَـرهم
ْ كأ َ يَـ ْعبدو َن * قَالوا سْب َحانَ َ
هبِِم ُّم ْؤِمنو َن﴾ [سبأ.]49 ،45 :
قربا ،أو
حجرا أو ً
شجرا أو ً وإن كان ممن يدعو إىل عبادة نفسه ،أو كان ً
أصناما على صور الصاحلني ،واملالئكة وغري ذلك، غري ذلك مما يتخذه املشركون ً
فهي من الطاغوت الذي أمر اهلل تعاىل عباده أن يكفروا بعبادته ،ويتربأوا منه،
من عبادة كل معبود سوى اهلل كائنًا من كان ،وهذا كله من عمل الشيطان
وتسويله ،فهو الذي دعا إىل كل باطل وزيَّـنَه ملن فعله ،وهذا ينايف التوحيد الذي
هو معى شهادة أن ال إله إالَّ اهلل.
فالتوحيد :هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون اهلل ،وكما قال
ين َم َعه إِ ْذ قَالوا لَِق ْوِم ِه ْم إِنَّا تعاىل﴿ :قَ ْد َكانَت لَكم أسوة حسنة ِيف إِبـر ِاه َّ ِ
يم َوالذ َ َْ َ ْ ْ ْ َ َ ََ
بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ
ون اللَّ ِه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا بَـْيـنَـنَا َوبَـْيـنَكم الْ َع َد َاوة ْ َ ْ َ
ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤِمنوا بِاللَّ ِه َو ْح َده﴾ [املمتحنة ،]4 :وكل من عبد غري اهلل َوالْبَـ ْغ َ
فقد جاوز به حدَّه وأعطاه من العبادة ما ال يستحقه.
قال اإلمام مالك رمحه اهلل« :الطاغوت ما عبد من دون اهلل».
وكذلك من دعا إىل حتكيم غري اهلل ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول
ورغب عنه ،وجعل هلل شري ًكا يف الطاعة وخالف ما جاء به رسول اهلل فيما
َنزَل الليه َوالَ تَـتَّبِ ْع أ َْه َواءه ْم ِ ِ
احكم بَـْيـنَـهم مبَآ أ َ أمره اهلل تعاىل به يف قولهَ ﴿ :وأَن ْ
ك﴾ [املائدة.]41 : َنزَل الليه إِلَْي َ
ض َما أ َوك َعن بَـ ْع ِ اح َذ ْره ْم أَن يَـ ْفتِن َ
َو ْ
يما َش َجَر بَـْيـنَـه ْم مثَّ الَ وقوله تعاىل﴿ :فَالَ وربِّك الَ يـؤِمنو َن ح َّىت حي ِّكم َ ِ
وك ف َ ََ َ ََ َ ْ
ِ ِ
يما﴾ [النساء.]56 : ت َوي َسلِّمواْ تَ ْسل ً َِجيدواْ ِيف أَنفس ِه ْم َحَر ًجا ِّممَّا قَ َ
ضْي َ
فمن خالف ما أمر اهلل به ورسوله بأن حكم بني الناس بغري ما أنزل
-935-
اتباعا ملا يهواه ويريده فقد خلع ربقة اإلسالم واإلميان اهلل ،أو طلب ذلك ً
من عنقه ،وإن زعم أنه مؤمن.
فإن اهلل تعاىل أنكر على من أراد ذلك ،وأكذهبم يف زعمهم اإلميان ملا يف
ضمن قوله﴿ :يَـ ْزعمو َن﴾ من نفي إمياهنم ،فإن يزعمون إمنا يقال غالبًا :ملن ادعى
دعوى هو فيها كاذب ملخالفته ملوجبها وعمله مبا ينافيها ،حيقق هذا قوله:
﴿ َوقَ ْد أ ِمرواْ أَن يَكْفرواْ بِِه﴾ ،ألن الكفر بالطاغوت :ركن التوحيد .كما يف آية
موحدا ،والتوحيد هو :أساس اإلميان البقرة ،فإذا ل حيصل هذا الركن ل يكن ً
الذي تصلح به مجيع األعمال وتفسد بعدمه.
وت َويـ ْؤِمن بِاللي ِه فَـ َق ِد
كما أن ذلك بني يف قوله تعاىل﴿ :فَمن يكْفر بِالطَّاغ ِ
َْ َ ْ ي
ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى﴾ [البقرة ،]265 :وذلك أن التحاكم إىل الطاغوت: استَ ْم َس َ
ْ
إميان به.
يبني
يدا﴾ [النساءِّ ،]55 : ضالَالً بَعِ ً ِ
وقولهَ ﴿ :وي ِريد الشَّْيطَان أَن يضلَّه ْم َ
تعاىل يف هذه اآلية أن التحاكم إىل الطاغوت مما يأمر به الشيطان ويزيِّنه ملن
ويبني أن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله ،وأكده باملصدر ،ووصفه أطاعهِّ ،
فدل على أن ذلك من أعظم الضالل وأبعده عن اهلدى. بالعبدَّ ،
ففي هذه اآلية أربعة أمور:
األول :أنه من إرادة الشيطان.
الثاني :أنه ضالل.
الثالث :تأكيد باملصدر.
الرابع :وصفه بالبعد عن سبيل احلق واهلدى.
فسبحان اهلل ما أعظم هذا القرآن وما أبلغه ،وما أدله على أنه كالم رب
العاملني ،أوحاه إىل رسوله الكرمي ،وبلَّغه عبده الصادق األمني .صلوات اهلل
()1
وسالمه عليه» .
-939-
الفصل السادس
الحكم هلل وحده وحكم من بدل شرائع اإلسالم
أو حكم بغير ما أنزل اهلل
وفيه مخسة مباحث:
املبحث األول :الطاعة يف التحليل والتحرمي من أخ خصائ العبادة،
ومن مث كان
يصل له ويتقرب إليه.
كل من قبلها من أي عبد فقد اختذه ربًا وإن ل ِّ
املبحث الثاي :أمر اهلل املؤمنني برد كل ما تنازعوا فيه من أصول دينهم
دل ذلك على كفره وفروعه إىل اهلل ورسوله ،ومن ل يفعل ي
برب العاملني ومروقه من دين املسلمني .فحكم اهلل وحده
شقيق عبادة اهلل وحده ،ومها مضمونا الشهادتني ،وعلى القيام
هبذا املضمون فعال وتركا ،جِّردت سيوف املوحدين للجهاد.
املبحث الثالث :من أعظم الفساد يف األرض :التحاكم إىل غري اهلل ورسوله،
قاطعا
ومن مث كان إباء التحاكم إىل الكتاب والسنة ،دليالً ً
على الكفر والنفاق والزندقة.
املبحث الرابع :من خرج عن حكم اهلل ،وعدل إىل ما سواه من األحكام
اجلاهلية ،وجعل ذلك شريعة مقدمة أو مزامحة لشريعة اهلل،
فهو كافر جيب قتاله حىت يعود إىل حكم اهلل ورسوله فال
حيكم يف قليل وال كثري سواه وأي دولة تنتهج هذا النهج،
تصبح دولة جاهلية كافرة ظاملة ،جيب بغضها ومعاداهتا ،وحترم
مودهتا ومواالهتا.
-932-
املبحث اْلامس :أميا طائفة امتنعت عن شريعة من شرائع اإلسالم الظاهرة
وردة عن اإلسالم ،وإناملتواترة ،فإهنا تقاتل عليها قتال كفر َّ
كانت مقرة هبا ،وناطقة بالشهادتني ،وملتزمة لغريها من
الشرائع.
وهبذا نعلم :أن جمرد العتصام باإلسالم مع عدم التزام شرائعه،
ليس مبسقط للقتال ،بل القتال واجب حىت يكون الدين كله
هلل.
-933-
المبحث األول
الطاعة في التحليل والتحريم
من أخص خصائص العبادة ،ومن ثم كان كل من قبلها من أي عبد
فقد اتخذه ربا ،وإن لم يصل له ويتقرب إليه
قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل في شرحه على كتاب التوحيد:
حرمه أحل اهلل ،أو حتليل ما َّ «(باب) من أطا العلماء واألمراء يف حترمي ما َّ
اهلل فقد اختذهم أربابًا من دون اهلل»...
واملقصود هنا :الطاعة اْلاصة يف حترمي احلالل أو حتليل احلرام ،فمن أطا
خملوقًا يف ذلك غري الرسول - فإنه ال ينطق عن اهلوى -فهو مشرك كما
َحبَ َاره ْم َورْهبَانَـه ْم﴾ [التوبة ،]39 :أي بينه اهلل تعاىل يف قولهَّ ﴿ :اختَذواْ أ ْ
يح ابْ َن َم ْرَميَ َوَما أ ِمرواْ إِالَّ لِيَـ ْعبدواْ إِلَ ًـها ِ ِ ِ
علماءهم ﴿ أ َْربَابًا ِّمن دون الليه َوالْ َمس َ
وفسرها النيب اح ًدا الَّ إِلَـهَ إِالَّ ه َو سْب َحانَه َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [التوبةَّ ،]39 : وِ
()1
َ
بطاعتهم يف حترمي احلالل ،وحتليل احلرام كما سيأيت يف حديث عدي» .
وقال الشيوخ عبد العزيز بن باز ،وعبد الرزاق عفيفي ،وعبد اهلل بن غديان،
مجيعا:
وعبد اهلل بن قعود ،رمحهم اهلل ً
مشرعا له ندا يف التشريع ،بأن يتخذ ً ومن أنوا الشرك األكرب :من جيعل هلل ً
سوى اهلل ،أو شري ًكا هلل يف التشريع ،يرتضي حكمه ،ويدين به يف التحليل
وتقربًا وقضاءً وفصالً يف اْلصومات ،أو يستحله وإن ل يره والتحرمي ،عبادة ُّ
دينًا.
ِ ِ ِ
يح ويف هذا يقول تعاىلَّ ﴿ :اختَذواْ أ ْ
َحَب َاره ْم َورْهَبانَـه ْم أَْربَابًا ِّمن دون الليه َوالْ َمس َ
-934-
ابن مرَمي وما أ ِمرواْ إِالَّ لِيـعبدواْ إِلَـها و ِ
اح ًدا الَّ إِلَـهَ إِالَّ ه َو سْب َحانَه َع َّما ً َ َْ ْ َ َْ َ ََ
ي ْش ِركو َن﴾ [التوبة ،]39 :وأمثال هذا من اآليات واألحاديث اليت جاءت يف:
الرضا حبكم سوى حكم اهلل ،أو اإلعراض عن التحاكم إىل حكم اهلل ،والعدول.
تد به فاعله ،أو معتقده عن ملة اإلسالم ،فال وهذا النو من الشرك ،ير ُّ
يصلَّى عليه إذا مات ،وال يدفن يف مقابر املسلمني ،وال يورث عنه ماله ،بل
يكون لبيت املسلمني ،وال تؤكل ذبيحته ،وحيكم بوجوب قتله ،ويتوىل ذلك ويل
أمر املسلمني ،إالَّ أنه يستتاب قبل قتله ،فإن تاب قبلت توبته ،ول يقتل ،وعومل
()1
معاملة املسلمني .اهـ.
وعرض على هؤالء الشيوخ الكرام السؤال التايل:
س :لعلكم على علم بأن حكومتنا علمانية ،ال هتتم بالدين ،وهي حتكم
البالد على دستور اشرتك يف ترتيبه :املسلمون واملسيحيون.
هناك يرد السؤال :هل جيوز لنا أن نسمي احلكومة :حبكومة إسالمية ،أو
نقول إهنا :كافرة؟
احلمد هلل وحده والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه ...وبعد:
ج :إذا كانت حتكم بغري ما أنزل اهلل ،فاحلكومة غري إسالمية.
()2
وباهلل التوفيق ،وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم .
-936-
المبحث الثاني
أمر اهلل المؤمنين برد كل ما تناوعوا فيه من أصول دينهم
وفروعه إلى اهلل ورسوله ،ومن لم يفعل دل ذلك على كفره
برب العالمين ومروقه من دين المرسلين .فحكم اهلل وحده
شقيق عبادة اهلل وحده ،وهما مضمونا الشهادتين ،وعلى القيام
بهذا المضمون فعال وتركا ،جردت سيوف الموحدين للجهاد
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي معل اقا على قول اهلل تعالى:
ِ ِ
َّاس أَنني الن ِ ؤدواْ األ ََمانَات إِ َىل أ َْهل َها َوإِ َذا َح َك ْمتم بَـ ْ َ
﴿إِ َّن الليهَ يَأْمرك ْم أَن ت ُّ
َّ ِ ِ ِ ِِ ِ ِِ ِ ِ ِ ِ
َْحتكمواْ بالْ َع ْدل إ َّن الليهَ نع َّما يَعظكم به إ َّن الليهَ َكا َن َمس ًيعا بَص ًريا * يَا أَيُّـ َها الذ َ
ين
ول َوأ ْوِيل األ َْم ِر ِمنك ْم فَإِن تَـنَ َاز ْعت ْم ِيف َش ْيء فَـرُّدوهالرس َ َطيعواْ الليه وأ ِ
َطيعواْ َّ ََ
آمنواْ أ ِ
َ
َح َسن تَأْ ِويالً﴾ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
إِ َىل الليه َو َّ
ك َخْيـر َوأ ْالرسول إن كنت ْم تـ ْؤمنو َن بالليه َوالْيَـ ْوم اآلخر َذل َ
[النساء.]61 ،61 :
برد كل ما تناز الناس فيه ،من أصول الدين وفروعه إىل اهلل مث أمر ِّ
والرسول ،أي :إىل كتاب اهلل وسنَّة رسوله ،فإن فيهما الفصل يف مجيع املسائل
اْلالفية ،إما بصرحيهما ،أو عمومها ،أو إمياء ،أو تنبيه ،أو مفهوم ،أو عموم
معى يقاس عليه ما أشبهه.
ألن كتاب اهلل وسنة رسوله ،عليهما بناء الدين ،وال يستقيم اإلميان إالَّ
هبما .فالرد إليهما ،شرط يف اإلميان ،فلهذا قال﴿ :إِن كنت ْم تـ ْؤِمنو َن بِاللي ِه َوالْيَـ ْوِم
فدل ذلك على أن من ل يرد إليهما مسائل النزا اآلخ ِر﴾ [النساءَّ .]61 :ِ
فليس مبؤمن حقيقة ،بل مؤمن بالطاغوت ،كما ذكر يف اآلية بعدها.
َح َسن تَأْ ِويالً﴾ [النساء ،]61 :فإن
(ذلك) أي :الرد إىل اهلل ورسوله ﴿ َخْيـر َوأ ْ
-935-
حكم اهلل ورسوله ،أحسن األحكام وأعدهلا وأصلحها للناس ،يف أمر دينهم
()1
ودنياهم وعاقبتهم» .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه اهلل تعالى:
«واعتبار شيء من القوانني للحكم هبا ولو يف أقل قليل ،ال شك أنه عدم
رضا حبكم اهلل ورسوله ،ونسبة حكم اهلل ورسوله إىل النق وعدم القيام
بالكفاية يف حل النزا وإيصال احلقوق إىل أرباهبا ،وحكم القوانني إىل الكمال
وكفاية الناس يف حل مشاكلهم ،واعتقاد هذا كفر ناقل عن امللَّة ،واألمر كبري
مهم وليس من األمور االجتهادية.
وحتكيم الشر وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة اهلل وحده دون ما
سواه ،إذ مضمون الشهادتني أن يكون اهلل هو :املعبود وحده ال شريك له ،وأن
يكون رسوله هو :املتبع احملكم ما جاء به فقط ،وال جِّردت سيوف اجلهاد إالَّ
ك الَ يـ ْؤِمنو َن يما عند النزا ﴿ ،فَالَ َوَربِّ َ من أجل ذلك والقيام به فعالً وتركا وحتك ً
ِ ح َّىت حي ِّكم َ ِ
ت يما َش َجَر بَـْيـنَـه ْم مثَّ الَ َِجيدواْ ِيف أَنفس ِه ْم َحَر ًجا ِّممَّا قَ َ
ضْي َ وك ف َ ََ َ
َطيعواْ َطيعواْ الليه وأ ِ ويسلِّمواْ تَسلِيما﴾ [النساء﴿ ،]56 :يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنواْ أ ِ
َ َ َ َ َ َ ْ ً َ َ
ِ
الرسول إن كنت ْم ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ول َوأ ْوِيل األ َْمر منك ْم فَإن تَـنَ َاز ْعت ْم يف َش ْيء فَـرُّدوه إ َىل الليه َو َّ
الرس َ
َّ
()2 تـؤِمنو َن بِاللي ِه والْيـوِم ِ ِ
َح َسن تَأْ ِويالً﴾ [النساء. »]61 : ك َخْيـر َوأ ْ اآلخ ِر َذل َ َ َْ ْ
أيضا رحمه اهلل تعالى: وقال ا
«القوانني كفر ناقل عن امللَّة اعتقاد أهنا حاكمة وسائغة .وبعضهم يراها
أيضا نقضوها، حممدا رسول اهلل ،وال إله إالَّ اهلل ً أعظم ،فهؤالء نقضوا شهادة أن ً
فإن من شهادة أن ال إله إالَّ اهلل ،ال مطا غري اهلل ،كما أهنم نقضوها بعبادة
غري اهلل.
-934-
وأما الذي قيل فيه :كفر دون كفر ،إذا حاكم إىل غري اهلل ،مع اعتقاد أنه
عاص وأن حكم اهلل هو احلق ،فهذا الذي يصدر منه املرة وحنوها.
أما الذي جعل قوانني برتتيب وختضيع فهو كفر وإن قالوا :أخطأنا وحكم
الشر أعدل.
املقرر واملثبت واملرجع ،جعلوه هو املرجع .فهذا كفر ناقل عن امللَّة ففرق بني ِّ
()1
(تقرير)» .
وقال الشيخ صاحل الفوزان حيفظه اهلل تعاىل:
«وكما ال جتوز طاعة العلماء يف حتليل احلرام وحترمي احلالل ،فكذلك ال جتوز
طاعة األمراء والرؤساء يف احلكم بني الناس بغري الشرعة اإلسالمية ،ألنه جيب
التحاكم إىل كتاب اهلل وسنة رسوله يف مجيع املنازعات واْلصومات وشؤون
احلياة ،ألن هذا هو مقتضى العبودية والتوحيد ،ألن التشريع حق هلل وحده ،كما
اختَـلَ ْفت ْم فِ ِيه ِمن َش ْيء فَحكْمه إِ َىل اللَّ ِه﴾ [الشورى،]95 : قال تعاىلَ ﴿ :وَما ْ
أي :هو احلَ َكم وله احلكْم ،وقال تعاىل﴿ :فَِإن تَـنَ َاز ْعت ْم ِيف َش ْيء فَـرُّدوه إِ َىل اللي ِه
ول إِن كنتم تـؤِمنو َن بِاللي ِه والْيـوِم ِ ِ الرس ِ
َح َسن تَأْ ِويالً﴾ ك َخْيـر َوأ ْ اآلخ ِر َذل َ َ َْ ْ ْ َو َّ
[النساء.]61 :
فالتحاكم إىل شر اهلل ليس لطلب العدل فقط ،وإمنا هو يف الدرجة األوىل
تعبُّد هلل ،وحق هلل وحده ،وعقيدة ،فمن احتكم إىل غري شر اهلل من سائر
األنظمة والقوانني البشرية ،فقد اختذ واضعي تلك القوانني واحلاكمني هبا شركاء
هلل يف تشريعه ،قال اهلل تعاىل﴿ :أ َْم َهل ْم شَرَكاء َشَرعوا َهلم ِّم َن الدِّي ِن َما َلْ يَأْذَن بِِه
اللَّه﴾ [الشورى ،]29 :وقال تعاىلَ ﴿ :وإِ ْن أَطَ ْعتموه ْم إِنَّك ْم لَم ْش ِركو َن﴾
()2
[األنعام. »]929 :
-931-
المبحث الثالث
من أعظم الفساد في األرض :التحاكم إلى غير اهلل ورسوله،
قاطعا
ومن ثم كان إباء التحاكم إلى الكتاب والسنة ،دليالا ا
على الكفر والنفاق والزندقة
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه على كتاب التوحيد:
ني ِِ «قوله﴿ :وإِ َذا قِيل َهلم تَـعالَواْ إِ َىل ما أَنزَل الليه وإِ َىل َّ ِ
ت الْمنَافق َ
الرسول َرأَيْ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ
ودا﴾ [النساءَّ :]59 :بني تعاىل أن هذه صفة املنافقني ،وأن نك صد ً يَصدُّو َن َع َ
من فعل ذلك أو طلبه ،وإن زعم أنه مؤمن فإنه يف غاية البعد من اإلميان.
قال العالمة ابن القيم رمحه اهلل تعاىل :هذا دليل على أن من دعي إىل
()1
حتكيم الكتاب والسنَّة ،فأىب أنَّه من املنافقني» .
وأرسل الشيوخ الفضالء :حممد بن إبراهيم ،وعبد العزيز الشثري ،وعبد
اللطيف بن إبراهيم ،وعمر بن حسن ،وعبد العزيز بن باز ،وعبد اهلل بن محيد،
وعبد اهلل بن عقيل ،وعبد العزيز بن رشيد ،وعبد اللطيف بن حممد ،وحممد بن
عودة ،وحممد بن مهيز ،رسالة إىل من يراها من املسلمني ،داعني اهلل أن يسلك
مجيعا سبيل عباده املؤمنني ،وأن يعيذهم من طريق املغضوب عليهم هبم ً
مجيعا بعد تقدمي نصيحة غالية للمسلمني: والضالني ،آمني ...مث قالوا رمحهم اهلل ً
«وإن من أقبح السيئات وأعظم املنكرات :التحاكم إىل غري شريعة اهلل من
القوانني الوضعية ،والنظم البشرية ،وعادات األسالف واألجداد اليت قد وقع فيها
الكثري من الناس اليوم ،وارتضوها بدالً من شـريعة اهلل اليت بعث هبا
-931-
حممدا . رسوله ً
وال ريب أن ذلك من أعظم النفاق ،ومن أكرب شعائر الكفر والظلم
والفسوق وأحكام اجلاهلية اليت أبطلها القرآن ،وحذر عنها الرسول ،قال اهلل
ِ ِ َّ ِ
ك ك َوَما أن ِزَل ِمن قَـْبل َ ين يَـ ْزعمو َن أَنـَّه ْم َآمنواْ ِمبَا أن ِزَل إِلَْي َ تعاىل﴿ :أَ َلْ تَـَر إ َىل الذ َ
وت َوقَ ْد أ ِمرواْ أَن يَكْفرواْ بِِه َوي ِريد الشَّْيطَان أَن ي ِريدو َن أَن يـتحا َكمواْ إِ َىل الطَّاغ ِ
ََ َ
ت يدا * وإِ َذا قِيل َهلم تَـعالَواْ إِ َىل ما أَنزَل الليه وإِ َىل َّ ِ ِ
يضلَّه ْم َ
ِ
الرسول َرأَيْ َ َ َ َ َ ْ َ ْ ضالَالً بَع ً َ
ودا﴾ [النساء.]59 ،55 : ِِ
نك صد ً ني يَصدُّو َن َع َ الْمنَافق َ
ِ ِ
اح َذ ْره ْم أَنَنزَل الليه َوالَ تَـتَّبِ ْع أ َْه َواءه ْم َو ْاحكم بَـْيـَنـهم مبَآ أ َ وجلَ﴿ :وأَن ْ عز ي وقال َّ
ض صيَبـهم بَِبـ ْع ِاعلَم أََّمنَا ي ِريد الليه أَن ي ِ َنزَل الليه إِلَْي َ ِ َّ
ك فَإن تَـ َول ْواْ فَ ْ ْ ض َما أ َ وك َعن بَـ ْع ِ يَـ ْفتِن َ
َح َسن ِم َن اللي ِه اسقو َن * أَفَحكْم ْ ِ ِ ِ َّاس لََف ِ
ذنوهبِِ ْم َوإِ َّن َكثِ ًريا ِّم َن الن ِ
اجلَاهليَّة يَـْبـغو َن َوَم ْن أ ْ َ
ْما لَِّق ْوم يوقِنو َن﴾ [املائدة.]65 ،41 : حك ً
ك هم الْ َكافِرو َن﴾ [املائدة: َنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ ِ
وقال تعاىلَ ﴿ :وَمن َّلْ َْحيكم مبَا أ َ
ك هم الظَّالِمو َن﴾ [املائدة،]46 : أنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ ِ
َ ﴿ ،]44وَمن َّلْ َْحيكم مبَا َ
ك هم الْ َف ِ َنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ ِ
اسقو َن﴾ [املائدة.]44 : ﴿ َوَمن َّلْ َْحيكم مبَا أ َ
وهذا حتذير شديد من اهلل سبحانه جلميع العباد من اإلعراض عن كتابه
وجل على من عز ي وسنَّة رسوله ،والتحاكم إىل غريمها ،وحكم صريح من الرب َّ
حكم بغري شريعته بأنه كافر وظال وفاسق ومتخلِّق بأخالق املنافقني وأهل
()1
اجلاهلية» .
وقال الشيخ صالح الفوزان يحفظه اهلل تعالى:
عمن حتاكم إىل غري شرعه ،قال تعاىل﴿ :أَ َلْ تَـَر إِ َىل وقد نفى اهلل اإلميان َّ
ِ َّ ِ
ك ي ِريدو َن أَن يَـتَ َحا َكمواْ ك َوَما أن ِزَل ِمن قَـْبل َ ين يَـ ْزعمو َن أَنـَّه ْم َآمنواْ ِمبَا أن ِزَل إِلَْي َ الذ َ
إِ َىل
-945-
وت َوقَ ْد أ ِمرواْ أَن يَكْفرواْ بِِه﴾ [النساء.]55 : الطَّاغ ِ
يما َش َجَر بَـْيـنَـه ْم مثَّ إىل قوله تعاىل﴿ :فَالَ وربِّك الَ يـؤِمنو َن ح َّىت حي ِّكم َ ِ
وك ف َ ََ َ ْ ََ َ
ِ ِ
يما﴾ [النساء.]56 : ت َوي َسلِّمواْ تَ ْسل ً الَ َِجيدواْ ِيف أَنفس ِه ْم َحَر ًجا ِّممَّا قَ َ
ضْي َ
(تحكيم القوانين :تحكيم للطاغوت ،وإيمان به)
فمن دعا إىل احلكيم القوانني البشرية ،فقد جعل هلل شري ًكا يف الطاعة
والتشريع ،ومن حكم بغري ما أنزل اهلل ،يرى أنه أحسن أو مساو ملا أنزل اهلل
وشرعه ،أو أنه جيوز احلكم هبذا ،فهو كافر باهلل ،وإن زعم أنه مؤمن ،ألن اهلل
كذهبم يف زعمهم اإلميان ،ألن أنكر على من يريد التحاكم إىل غري شرعه؛ و َّ
متضمن لنفي إمياهنم ،ألن هذه الكلمة تقال غالبًا ملن يدِّعي قوله ﴿ :يَـ ْزعمو َن﴾ ِّ
دعوى هو فيها كاذب ،وألن حتكيم القوانني حتكيم للطاغوت ،واهلل قد أمر
بالكفر بالطاغوت ،وجعل الكفر بالطاغوت ،ركن التوحيد ،كما قال تعاىل:
ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى﴾ [البقرة: ِ ِ ِ ِ
استَ ْم َس َ ﴿فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ
.]265
موحدا ألنه اختذ هلل شري ًكا يف التشريع ً حكم القوانني ،ل يكن فمن َّ
والطاعة ،ول يكفر بالطاغوت الذي أمر أن يكفر به ،وأطا الشيطان ،كما قال
يدا﴾ [النساء.]55 : ضالَالً بَعِ ً ِ
تعاىلَ ﴿ :وي ِريد الشَّْيطَان أَن يضلَّه ْم َ
وقد أخرب اهلل عن املنافقني أهنم حينما يدعون إىل التحاكم إىل شر اهلل
َنزَل الليه َوإِ َىل ِ ِ
يل َهل ْم تَـ َعالَْواْ إِ َىل َما أ َ
يأبون ويعرضون ،فقال سبحانهَ ﴿ :وإ َذا ق َ
ودا﴾ [النساء.]59 : ِِ َّ ِ
نك صد ً ني يَصدُّو َن َع َ ت الْمنَافق َالرسول َرأَيْ َ
صالحا ،النتكاس فطرهم ،وفساد قلوهبم، ً كما أخرب أهنم يردون الفساد
صلِحو َن * أَال ض قَالواْ إَِّمنَا َْحنن م ْ فقال تعاىلَ ﴿ :وإِ َذا قِيل َهل ْم الَ تـ ْف ِسدواْ ِيف األ َْر ِ
َ
إِنـَّه ْم هم الْم ْف ِسدو َن َولَـكن الَّ يَ ْشعرو َن﴾ [البقرة ،]92 ،99 :فالتحاكم إىل ِ
()1
غري اهلل من أعمال املنافقني ،وهو من أعظم الفساد يف األرض» .
-949-
المبحث الرابع
من خرج عن حكم اهلل ،وعدل إلى ما سواه من األحكام الجاهلية
وجعل ذلك شريعة مقدمة ،أو مزاحمة لشريعة اهلل ،فهو كافر
يجب قتاله حتى يعود إلى حكم اهلل ورسوله ،فال يحكم في قليل
ول كثير سواه ،وأي دولة تنتهج هذا النهج ،تصبح دولة جاهلية
كافرة ظالمة فاسقة ،يجب بغضها ومعاداتها ،وتحرم مودتها
وموالتها
-942-
«ومثل القانون الذي ذكره عن التتار وحكم بكفر من جعله بديالً من
-943-
الشريعة اإلسالمية :القوانني الوضعية اليت جعلت اليوم يف كثري من الدول
يسمونه هي مصادر األحكام وألغيت من أجلها الشريعة اإلسالمية ،إالَّ فيما ُّ
باألحوال الشخصية.
والدليل على كفر من فعل ذلك آيات كثرية :قوله تعاىلَ ﴿ :وَمن َّلْ َْحيكم
ِ
ك الَ ك هم الْ َكافرو َن﴾ [املائدة ،]44 :وقوله﴿ :فَالَ َوَربِّ َ َنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ
مبَا أ َ
ِ
يما َش َجَر بَـْيـنَـه ْم﴾ [النساء ،]56 :وقوله تعاىل: يـؤِمنو َن ح َّىت حي ِّكم َ ِ
وك ف َ ََ َ ْ
ك ِمنك ْم إِالَّ ِ ض الْ ِكتَ ِ ﴿أَفَـتـ ْؤِمنو َن بِبَـ ْع ِ
اب َوتَكْفرو َن بِبَـ ْعض فَ َما َجَزاء َمن يَـ ْف َعل َذل َ
اب َوَما الليه بِغَافِل َع َّما َش ِّد الْع َذ ِ ِ ِ احلَيَاةِ ُّ
الدنْـيَا َويَـ ْوَم الْقيَ َامة يـَرُّدو َن إِ َىل أ َ َ ِخ ْزي ِيف ْ
تَـ ْع َملو َن﴾ [البقرة.]16 :
وكما قلنا قريبًا :إنه جيب حتكيم الشريعة عقيدة ودينًا يدان اهلل به ،ال من
()1
أجل طلب العدالة فقط» .
أيضا الشيخ محمد بن إبراهيم في بيان مناطات وأنواع الكفر وقال ا
األكبر واألصغر ،والعلل المؤثرة فيهما ،من قضية التشريع والحكم:
«إن من الكفر األكرب املستبني ،تنزيل القانون اللعني ،منزلة ما نزول به الروح
األمني ،على قلب حممد ليكون من املنذرين ،بلسان عريب مبني ،يف احلكم
عز
به بني العاملني ،والرد إليه عند تناز املتنازعني ،مناقضة ومعاندة لقول اهلل َّ
ول إِن كنت ْم تـ ْؤِمنو َن بِاللي ِه الرس ِ وجل﴿ :فَِإن تَـنَ َاز ْعت ْم ِيف َش ْيء فَـرُّدوه إِ َىل اللي ِه َو َّ ي
ِ ِ ِ
َح َسن تَأْ ِويالً﴾ [النساء...]61 : ك َخْيـر َوأ ْ َوالْيَـ ْوم اآلخ ِر َذل َ
(الرد المطلق إلى اهلل ورسوله :شرط في صحة اإليمان ،وإل فالكفر
والنفاق)
وتأمل ما يف اآلية األوىل وهي قوله تعاىل﴿ :فَِإن تَـَن َازْعت ْم ِيف َش ْيء فَـرُّدوه إِ َىل الليِه
ول إِن كنتم تـؤِمنو َن بِالليِه والْيـوِم ِ ِ و َّالرس ِ
َح َسن تَأْ ِويالً﴾ [النساء: ك َخْيـر َوأ ْ اآلخ ِر َذل َ َ َْ ْ ْ َ
،]61كيف ذكر النكرة وهي قولهَ ﴿ :ش ْيء﴾ يف سياق الشرط وهو قوله
-944-
جنسا ِ
جل شأنه﴿ :فَإن تَـنَ َاز ْعت ْم﴾ املفيد العموم فيما يتصور التناز فيه ً
وقدرا.
ً
مث تأمل كيف جعل ذلك شرطًا يف :حصول اإلميان باهلل واليوم اآلخر
ك ِ
اآلخ ِر﴾ ،مث قال جل شأنهَ ﴿ :ذل َ بقوله﴿ :إِن كنتم تـ ْؤِمنو َن بِاللي ِه والْيـوِم ِ
َ َْ ْ
أبدا ،بل هو خري حمض َخْيـر﴾ ،فشيء يطلق اهلل عليه أنه خري ال يتطرق إليه شر ً
عاجالً وآجالً...
يما ِ
أيضا ما يف اآلية الثانية من العموم ،وذلك يف قوله تعاىل﴿ :ف َ وتأمل ً
َش َجَر بَـْيـنَـه ْم﴾ [النساء ،]56 :فإن اسم املوصول مع صلته مع صيغ العموم
عند األصوليني وغريهم ،وذلك العموم والشمول هو من ناحية األجناس
واألنوا ،كما أنه من ناحية القدر ،فال فرق هنا بني نو ونو ،كما أنه ال فرق
بني القليل والكثري.
عمن أراد التحاكم على غري ما جاء به الرسول من وقد نفى اهلل اإلميان َّ
ِ َّ ِ
كين يَـ ْزعمو َن أَنـَّه ْم َآمنواْ ِمبَا أن ِزَل إِلَْي َ
املنافقني كما قال تعاىل﴿ :أَ َلْ تَـَر إ َىل الذ َ
وت َوقَ ْد أ ِمرواْ أَن يَكْفرواْ بِِه ك ي ِريدو َن أَن يـتحا َكمواْ إِ َىل الطَّاغ ِ ِ
ََ َ َوَما أن ِزَل ِمن قَـْبل َ
يدا﴾ [النساء.]55 : ضالَالً بَعِ ً ِ
َوي ِريد الشَّْيطَان أَن يضلَّه ْم َ
وجل﴿ :يـَْزعمو َن﴾ تكذيب هلم فيما َّادعوه من اإلميان ،فإنه ال فإن قوله عَّز ي
جيتمع التحاكم إىل غري ما جاء به النيب مع اإلميان يف قلب عبد أصالً بل
أحدمها ينايف اآلخر.
و (الطاغوت) مشتق من الطغيان وهو جماوزة احلد ،فكل من حكم بغري ما
جاء به الرسول أو حاكم إىل غري ما جاء به النيب فقد حكم بالطاغوت
حاكما مبا جاء به النيب وحاكم إليه ،وذلك أنه من حد كل أحد أن يكونً :
فقط ال خبالفه ،كما أنه من حد كل أحد أن حياكم إىل ما جاء به النيب ،
فمن حكم خبالفه ،أو حاكم إىل خالفه فقط طغى
-946-
حتكيما ،فصار بذلك طاغوتًا لتجاوزه حده... ً حكما أو
وجاوز حده ً
(قسمة الحكم ثنائية :إما حكم اهلل ،وإما حكم الجاهلية)
ومقرًرا ابتغاءهم أحكام منكرا على هذا الضرب من الناسِّ ، وقد قال تعاىل ً
اهلِيَّ ِة يَـْبـغو َن
اجل ِ
ْم َْوموضحا أنه ال حكم أحسن من حكمه﴿ :أَفَحك َ ً اجلاهلية،
ْما لَِّق ْوم يوقِنو َن﴾ [املائدة ،]65 :فتأمل هذه اآلية ِ ِ
َح َسن م َن الليه حك ً
َوَم ْن أ ْ
الكرمية ،وكيف دلت على أن قسمة احلكم ثنائية ،وأنه ليس بعد حكم اهلل تعاىل
إالَّ حكم اجلاهلية ،املوضح أن القانويني يف زمرة أهل اجلاهلية شاءوا أم أبوا ،بل
هم أسوأ منهم حاالً ،وأكذب منهم مقاالً ،ذلك أن أهل اجلاهلية ال تناقض
لديهم حول هذا الصدد...
(أنواع الكفر األكبر من الحكم بغير ما أنزل اهلل)
وما جاء عن ابن عباس رضي اهلل عنهما يف تفسري هذه اآلية من رواية
طاوس وغريه يدل :أن احلاكم بغري ما أنزل اهلل كافر :إما كفر اعتقاد ناقل عن
امللَّة ،وإما كفر عمل ال ينقل عن امللَّة.
أما األول :هو كفر االعتقاد فهو أنوا :
أحدهما :أن جيحد احلاكم بغري ما أنزل اهلل أحقية حكم اهلل ورسوله ،وهو
معى ما روي عن ابن عباس ،واختاره ابن جرير أن ذلك هو جحود ما أنزل اهلل
من احلكم الشرعي ،وهذا ما ال نزا فيه بني أهل العلم ،فإن األصول املتقررة
جممعا عليه ،أوفرعا ً أن من جحد أصالً من أصول الدين ،أو ً املتفق عليها بينهم َّ
أنكر حرفًا مما جاء به الرسول قطعيًا ،فإنه كافر الكفر الناقل عن امللَّة.
والثاني :أن ال جيحد احلاكم بغري ما أنزل اهلل كون حكم اهلل ورسوله ح ًقا،
لكن اعتقد أن حكم غري الرسول أحسن من حكمه وأم وأمشل
-945-
مطلقا ،أو بالنسبة إىل ملا حيتاجه الناس من احلكم بينهم عند التناز :إما ً
وتغري األحوال.
استجد من احلوادث اليت نشأت عن تطور الزمان ُّ َّ ما
أيضا ال ريب أنه كفر لتفضيله أحكام املخلوقني اليت هي حمض زبالة وهذا ً
األذهان وصرف حناتة األفكار على حكم احلكيم احلميد...
الثالث :أن ال يعتقد كونه أحسن من حكم اهلل ورسوله ،لكن اعتقد أنه
مثله.
كافرا الكفر الناقل عن امللَّة ،ملا يقتضيه
فهذا كالنوعني اللذين قبله يف كونه ً
سوجل﴿ :لَْي َ
عز ي ذلك من تسوية املخلوق باْلالق ،واملناقضة واملعاندة لقوله َّ
َك ِمثْلِ ِه َش ْيء﴾ [الشورى ،]99 :وحنوها من اآليات الكرمية الدالة على ُّ
تفرد
الرب بالكمال ،وتنزيهه عن مماثلة املخلوقني يف الذات والصفات واألفعال،
واحلكم بني الناس فيما يتنازعون فيه.
الرابع :أن ال يعتقد :كون حكم احلاكم بغري ما أنزل اهلل مماثالً حلكم اهلل
ورسوله ،فضالً عن أن يعتقد كونه أحسن منه ،لكن اعتقد جواز احلكم مبا
خيالف حكم اهلل ورسوله ،فهذا كالذي قبله يصدق عليه ما يصدق عليه،
العتقاده جواز ما علم بالنصوص الصحيحة الصرحية القطعية حترميه.
(علة كون التشريع من دون اهلل كفر أكبر ،ولو قال صاحبه :أخطأت،
وحكم اهلل أعظم وأفضل)
الخامس :وهو أعظمها وأمشلها وأظهرها معاندة للشر ،ومكابرة ألحكامه
وإرصادا وتأهيالً
ً وإمدادا
ً إعدادا
ومشاقة هلل ولرسوله ،ومضاهاة باحملاكم الشرعيةً ،
وحكما وإلز ًاما ومراجع مستمدَّات.
ً وتنويعا
وتفر ًيعا وتشكيالً ً
مستمدَّات ،مرجعها كلها َ فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع
إىل كتاب اهلل وسنة رسوله فلهذه احملاكم مراجع هي :القانون امللفَّق من
شرائع شىت وقوانني كثرية :كالقانون الفرنسي ،والقانون األمريكي ،والقانون
-944-
الربيطاي ،وغريها من القوانني ،ومن مذاهب بعض البدعيني املنتسبني إىل
الشريعة ،وغري ذلك.
فهذه احملاكم اآلن يف كثري من أمصار اإلسالم مهيَّأة مكملة مفتوحة
األبواب ،والناس إليها أسراب إثر أسراب ،حيكم حكامها بينهم مبا خيالف حكم
السنة والكتاب ،من أحكام ذلك القانون ،وتلزمهم به ،وتقرهم عليه ،وحتتِّمه
عليهم.
حممدا رسول اهلل بعد
فأي كفر فوق هذا الكفر ،وأي مناقضة لشهادة أن ً
هذه املناقضة؟!...
السادس :ما حيكم به كثري من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي
يسموهنا «سلومهم» وحنوهم ،من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداهتم اليت ُّ
يتوارثون ذلك منهم ،وحيكمون به وحيملون على التحاكم إليه عند النزا ،بقاء
اضا ورغبة عن حكم اهلل ورسوله ،فال حول وال قوة على أحكام اجلاهلية ،وإعر ً
إالَّ باهلل.
-941-
الكبائر ،كالزنا وشرب اْلمر والسرقة واليمني الغموس وغريها ،فإن معصية
كفرا.
يسمها ً كفرا أعظم من معصية ل ِّ مسَّاها اهلل يف كتابه ً
ورضا ،إنه ويل
انقيادا ً
نسأل اهلل أن جيمع املسلمني على التحاكم إىل كتابه ً
()1
ذلك والقادر عليه( .طبعت يف جملة لواء اإلسالم)» .
(حكم البلدة التي تحكم بالقانون الوضعي)
وسئل الشيخ حممد بن إبراهيم رمحهما اهلل تعاىل:
س :هل جتب اهلجرة من بالد املسلمني اليت حيكم فيها بالقانون؟
ج :البلد اليت حيكم فيها بالقانون ليست بلد إسالم ،جتب اهلجرة منها،
غريت فتجب اهلجرة. وكذلك إذا ظهرت الوثنية من غري نكري وال ِّ
فالكفر :بفشو الكفر وظهوره .هذه بلد كفر.
أما إذا كان قد حيكم فيها بعض األفراد ،أو وجود كفريات قليلة ال تظهر
فهي بلد إسالم[ .تقرير].
ولعلك أن تقول :لو قال من حكم القانون :أنا أعتقد أنه باطل .فهذا ال
أثر له ،بل هو عزل للشر ،كما لو قال أحد :أنا أعبد األوثان ،وأعتقد أهنا
باطل.
وإذا قدر على اهلجرة من بالد تقام فيها القوانني وجب ذلك.
()2
[تقرير]» .
وسئلت اللجنة الدائمة :السؤال الثالث من الفتوى رقم (:)0741
حتكم القانون الوضعي .فهل س :حنن نعيش حتت حكومة غري مسلمة وهي َّ
لنا أن نرفع إليها قضايانا؟
احلمد هلل وحده والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه ...وبعد:
-941-
ج :ال جيوز ملسلم أن يتحاكم إىل حكومة غري مسلمة قال تعاىلَ ﴿ :وَمن َّلْ
ك هم الْ َكافِرو َن﴾ [املائدة ،]44 :وهذا واضح وهلل َنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ ِ
َْحيكم مبَا أ َ
احلمد.
وباهلل التوفيق وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء
الرئيس نائب رئيس اللجنة عضو عضو
()1
عبد اهلل بن قعود عبد اهلل بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز في نقده لوثن القومية العربية:
«الوجه الرابع :من الوجوه الدالة على بطالن الدعوة إىل القومية العربية أن
يقال :إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها ،يفضي باجملتمع وال بد إىل رفض
حكم القرآن ،ألن القوميني غري املسلمني لن يرضوا حتكيم القرآن ،فيوجب ذلك
أحكاما وضعية ختالف حكم القرآن ،حىت يستوي ً لزعماء القومية أن يتخذوا
جمتمع القومية يف تلك األحكام.
صرح الكثري منهم بذلك كما سلف ،وهذا هو الفساد العظيم والكفر وقد َّ
ىت حيَ ِّكم َ
وك ِ
ك الَ يـ ْؤمنو َن َح ََّاملستبني والردة السافرة ،كما قال تعاىل﴿ :فَالَ َوَربِّ َ
ِ ِ ِ
يما﴾ ت َوي َسلِّمواْ تَ ْسل ً ضْي َيما َش َجَر بَـْيـنَـه ْم مثَّ الَ َِجيدواْ ِيف أَنفس ِه ْم َحَر ًجا ِّممَّا قَ َ فَ
ك هم أنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ ِ
[النساء ،]56 :وقال تعاىلَ ﴿ :وَمن َّلْ َْحيكم مبَا َ
ِ
كَنزَل الليه فَأ ْولَـئِ َ ِ
الظَّالمو َن﴾ [املائدة ،]46 :وقال تعاىلَ ﴿ :وَمن َّلْ َْحيكم مبَا أ َ
اسقو َن﴾ [املائدة.]44 : هم الْ َف ِ
وكل دولة ال حتكم بشر اهلل وال تنصا حلكم اهلل فهي :دولة جاهلية كافرة
ظاملة فاسقة بن هذه اآليات احملكمات ،جيب على أهل اإلسالم
-965-
بغضها ومعاداهتا يف اهلل ،وحترم عليهم مودهتا ومواالهتا ،حىت تؤمن باهلل
ت لَك ْم أ ْس َوة َح َسنَة ِيف وجل﴿ :قَ ْد َكانَ ْ وحده ِّ
عز ي حتكم شريعته كما قال َّ
إِبـر ِاهيم والَّ ِذين معه إِ ْذ قَالوا لَِقوِم ِهم إِنَّا بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ
ون اللَّ ِه ْ َ ْ َ ْ ْ َْ َ َ َ َ َ
ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤِمنوا بِاللَّ ِه َو ْح َده﴾
َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا بَـْيـنَـنَا َوبَـْيـنَكم الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ
()1
[املمتحنة. »]4 :
* * *
-969-
المبحث الخامس
أيما طائفة امتنعت عن شريعة من شرائع اإلسالم الظاهرة
المتواترة ،فإنها تقاتل عليها :قتال كفر وردة عن اإلسالم
وإن كانت مقرة بها ،وناطقة بالشهادتين ،وملتزمة لغيرها
من الشرائع .وبهذا نعلم :أن مجرد العتصام باإلسالم مع
عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال ،بل القتال واجب،
حتى يكون الدين كله هلل
قال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم اهلل تعالى:
«وقال الشيخ تقي الدين رمحه اهلل تعاىل -ملا سئل عن قتل التتار مع
التمسك بالشهادتني ،وملا زعموا من اتِّبا أصل اإلسالم -فقال:
ُّ
كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع اإلسالم الظاهرة املتواترة من هؤالء القوم
أو غريهم ،فإنه جيب قتاهلم حىت يلتزموا شرائعه ،وإن كانوا مع ذلك ناطقني
بالشهادتني وملتزمني بعض شرائعه ،كما قاتل أبو بكر والصحابة مانعي
الزكاة ،وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم ،مع سابقة مناظرة عمر أليب بكر رضي
اهلل عنهما ،فاتفق الصحابة على القتال على حقوق اإلسالم عمالً بالكتاب
والسنَّة.
وكذلك ثبت عن النيب من عشرة أوجه احلديث عن اْلوارج واألمر
بقتاهلم ،وأخرب أهنم شر اْللق واْلليقة ،مع قوله« :حتقرون صالتكم مع صالهتم
وصيامكم مع صيامهم».
فعلم :أن جمرد االعتصام باإلسالم مع عدم التزام شرائعه ليس مبسقط
للقتال ،فالقتال واجب حىت يكون الدين كله هلل ،وحىت ال تكون فتنة ،فمىت
-962-
كان الدين لغري اهلل فالقتال واجب.
فأميا طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات املفروضات ،أو الصيام ،أو
احلج ،أو عن التزام حترمي الدماء واألموال ،أو اْلمر ،أو الزنا ،أو امليسر ،أو
نكاح ذوات احملارم ،أو عن التزام جهاد الكفار ،أو ضرب اجلزية على أهل
الكتاب ،أو غري ذلك من التزام واجبات الدين ،أو حمرماته اليت ال عذر ألحد يف
جحودها ،أو تركها ،واليت يكفر الواحد جبحودها ،فإن الطائفة املمتنعة تقاتل
مقر َِة هبا.
عليها وإن كانت ِّ
وهذا مما ال أعلم فيه خالفًا بني العلماء ،وإمنا اختلف العلماء يف الطائفة
املمتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن ،كركعيت الفجر ،أو األذان ،أو اإلقامة
عند من ال يقول بوجوهبا ،وحنو ذلك من الشعائر ،فهل تقاتل الطائفة املمتنعة
على تركها أم ال؟
فأما الواجبات أو احملرمات املذكورة وحنوها فال خالف يف القتال عليها...
(المبيح لقتال مانعي الزكاة مجرد المنع ،ل جحد الوجوب)
وقال الشيخ رمحه اهلل تعاىل يف آخر كالمه على كفر مانعي الزكاة والصحابة
ل يقولوا :هل أنت مقر بوجوهبا أو جاحد هلا؟
هذا ل يعهد عن الصحابة حبال ،بل قال الصدِّيق لعمر رضي اهلل عنهما:
واهلل لو منعوي عناقًا كانوا يؤدوهنا إىل رسول اهلل لقاتلتهم على منعها.
فجعل املبيح للقتال :جمرد املنع ال جحد الوجوب ،وقد روي أن طوائف
منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن خبلوا هبا ،ومع هذا فسرية اْللفاء سرية واحدة
وهي قتل مقاتلتهم ،وسيب ذراريهم ،وغنيمة أمواهلم ،والشهادة على قتالهم
مجيعا :أهل الردة.
بالنار ،ومسُّوهم ً
-963-
وكان من أعظم فضائل الصدِّيق عندهم أنه ثبته اهلل على قتاهلم ،ول يتوقف
كما توقف غريه حىت ناظرهم فرجعوا إىل قوله.
وأما قتال املقرين بنبوة مسيلمة ،فهؤالء ل يقع بينهم نزا يف قتاهلم ،وهذه
حجة من قال إن قاتلوا اإلمام عليها كفروا وإالَّ فال ،فإن كفر هؤالء وإدخاهلم
يف أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة املستند إىل نصوص الكتاب والسنَّة،
خبالف من ل يقاتل اإلمام عليها ،فإن يف الصحيح عن النيب أنه قيل له :منع
ابن مجيل فقال« :ما ينقم ابن مجيل إالَّ أنه كان ً
فقريا فأغناه اهلل» ،فلم يأمر
بقتله وال حكم بكفره .ويف السنن من حديث هبز بن حكيم عن أبيه عن جده
عن النيب « :ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله» احلديث .انتهى.
فتأمل كالمه وتصرحيه بأن الطائفة املمتنعة عن أداء الزكاة إىل اإلمام أهنم
الردة عن اإلسالم ،وتسىب ذراريهم ،وتغنم يقاتلون ،وحيكم عليهم بالكفر و َّ
أمواهلم ،وإن أقروا بوجوب الزكاة وصلوا الصلوات اْلمس ،وفعلوا مجيع شرائع
اإلسالم غري أداء الزكاة ،وأن ذلك ليس مبسقط للقتال هلم واحلكم عليهم
بالكفر والردة ،وأن ذلك قد ثبت بالكتاب والسنَّة واتفاق الصحابة .واهلل
()1
أعلم» .
-964-
الفصل السابع
حقيقة الولء والبراء
-966-
-965-
المبحث األول
األدلة الدالة من القرآن والسنة ،والسيرة النبوية
وتاريخ المسلمين على وجوب البراءة من الشرك والمشركين
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في بيان األمور التي تنقض التوحيد:
«(األمر الثالث) :مواالة املشرك ،والركون إليه ،ونصرته ،وإعانته باليد ،أو
ِ ِّ ِ
ين﴾ [القص : اللسان ،أو املال ،كما قال تعاىل﴿ :فَالَ تَكونَ َّن ظَه ًريا لْل َكاف ِر َ
.]15
ِ وقال﴿ :ر ِّ ِ
ني﴾ [القص : ت َعلَ َّي فَـلَ ْن أَكو َن ظَ ِه ًريا لِّْلم ْج ِرم َ ب مبَا أَنْـ َع ْم َ َ
ِ َّ َِّ
َخَرجوكم ِّمن ين قَاتَـلوك ْم ِيف الدِّي ِن َوأ ْ ،]94وقال﴿ :إمنَا يَـْنـ َهاكم اللَّه َع ِن الذ َ
ك هم الظَّالِمو َن﴾ ِ ِ
ديَا ِرك ْم َوظَا َهروا َعلَى إِ ْخَراجك ْم أَن تَـ َولَّْوه ْم َوَمن يَـتَـ َوَّهل ْم فَأ ْولَئِ َ
[املمتحنة.]1 :
وهذا خطاب من اهلل تعاىل للمؤمنني يف هذه األمة ،فانظر أيها السامع أين
تقع من هذا اْلطاب؟ وحكم هذه اآليات.
سرا ،وقد دخلوا يف صلح رسول اهلل وملا أعانت قريش بن بكر على خزاعة ً
وجتهز حلرهبم، شديداَّ ، ،انتقض عهدهم ،وغضب رسول اهلل لذلك غضبًا ً
إخبارا أنزل اهلل تعاىل يف ول ينبذ إليهم ملا كتب هلم حاطب كتابًا خيربهم بذلك ً
َّخذوا ذلك هذه السورة بكماهلا ،ابتدأها بقوله تعاىل﴿ :يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنوا الَ تَـت ِ
َ َ َ َ
َعد ِّوي َو َعد َّوك ْم أ َْولِيَاء تـْلقو َن إِلَْي ِهم بِالْ َم َوَّدةِ َوقَ ْد َك َفروا ِمبَا َجاءكم ِّم َن ْ
احلَ ِّق
ول َوإِيَّاك ْم أَن تـ ْؤِمنوا بِاللَّ ِه َربِّك ْم إِن كنت ْم َخَر ْجت ْم ِج َه ًادا ِيف َسبِيلِي الرس َخيْ ِرجو َن َّ
ِ ِ ِ ِ
ض ِايت تسُّرو َن إِلَْي ِهم بِالْ َم َوَّدة َوأَنَا أ َْعلَم مبَا أ ْ
َخ َفْيت ْم َوَما أ َْعلَنت ْم َوَمن يَـ ْف َعْله َوابْتغَاء َم ْر َ
السبِ ِيل﴾ [املمتحنة.]9 : ض َّل َس َواء َّ ِ
منك ْم فَـ َق ْد َ
بالتأسي خبليله وإخوانه مـن املرسـلني بالعـمل مث أمر تعاىل ِّ
-964-
يم بدينه الذي بعثهم به فقال﴿ :قَ ْد َكانَت لَكم أسوة حسنة ِيف إِبـر ِ
اه
َْ َ ْ ْ ْ َ َ ََ
ين َم َعه﴾ [املمتحنة ،]4 :أي من إخوانه املرسلني﴿ :إِ ْذ قَالوا لَِق ْوم ِه ْم إِنَّا بـَراء
ِ َّ ِ
َوالذ َ
ِ ِ ِ ِ ِ
ضاء منك ْم َوممَّا تَـ ْعبدو َن من دون اللَّه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا بَـْيـنَـنَا َوبَـْيـنَكم الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ
أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤِمنوا بِاللَّ ِه َو ْح َده﴾ [املمتحنة.]4 :
علما وعمالً ،وعند القيام هبذه أمورا مخسة ال يقوم التوحيد إالَّ هبا ً فذكر ً
ب اْلمسة ميَّز اهلل الناس ملا ابتالهم بعدوهم ،كما قال تعاىل﴿ :ال * أ ِ
َحس َ َ
ِ
ين ِمن قَـْبل ِه ْم َّ ِ
النَّاس أَن يـْتـَركوا أَن يَـقولوا َآمنَّا َوه ْم َال يـ ْفتَـنو َن * َولََق ْد فَـتَـنَّا الذ َ
ِ َّ ِ
ني﴾ [العنكبوتَّ ،]3 – 9 :
وحذر ص َدقوا َولَيَـ ْعلَ َم َّن الْ َكاذبِ َ ين َ فَـلَيَـ ْعلَ َم َّن اللَّه الذ َ
َّخذواْ تعاىل عباده عن توليهم عدوهم .قال تعاىل﴿ :يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنواْ الَ تَـت ِ
َ َ َ َ
ِ
َّار أ َْوليَاء ِ ِ ِ َّ ِ ِ الَّ ِذ َّ ِ
اب من قَـْبلك ْم َوالْكف َ ين أوتواْ الْكتَ َ ين اختَذواْ دينَك ْم هزًوا َولَعبًا ِّم َن الذ َ َ
ِ ِ
ني﴾ [املائدة.]64 : َواتـَّقواْ الليهَ إِن كنتم ُّم ْؤمن َ
ِ َن َهلم ع َذابا أَلِيما * الَّ ِذ ِ وقال تعاىل﴿ :ب ِّش ِر الْمنَافِ ِق َ ِ
ين يَـتَّخذو َن الْ َكاف ِر َ
ين َ ني بأ َّ ْ َ ً ً َ
ِ ِ ِ ِ
ندهم الْعَّزةَ فَإ َّن العَّزةَ لليه َمج ًيعا﴾ [النساء: ِ ِ ِ
ني أَيَـْبتَـغو َن ع َ ِ ِ ِ ِ ِ
أ َْوليَاء من دون الْم ْؤمن َ
.]931 ،931
ت َهل ْم ِ َّ َّ ِ ِ
َّم ْس َما قَد َ ين َك َفرواْ لَبْئ َ وقال تعاىل﴿ :تَـَرى َكث ًريا ِّمْنـه ْم يَـتَـ َول ْو َن الذ َ
اب ه ْم َخالِدو َن * َولَْو َكانوا يـ ْؤِمنو َن بِاهلل ط الليه َعلَْي ِهم وِيف الْع َذ ِ
َْ َ أَنفسه ْم أَن َس ِخ َ
اسقو َن﴾ [املائدة: ـك َّن َكثِريا ِّمْنـهم فَ ِ والنَِّيب وما أن ِزَل إِلَي ِه ما َّاختذوهم أَولِياء ولَ ِ
ً ْ ْ َ َ ْ َْ َ ِّ َ َ
.]19 ،15
فتأمل ما يف هذه اآليات وما رتَّب اهلل سبحانه وتعاىل على هذا العمل من
سخطه واْللود يف عذابه ،وسلب اإلميان وغري ذلك.
وذكر ابن جرير رمحه اهلل تعاىل يف تفسريه سورة آل عمران عند قوله تعاىل:
س ِم َن اللي ِه ِيف َش ْيء﴾ [آل عمران .]21 :أنه ردة عن ِ
ك فَـلَْي َ ﴿ َوَمن يَـ ْف َع ْل َذل َ
اإلسالم.
ِ َّ ِ
ين ْارتَ ُّدوا ويف سورة حممد ما يدل على ذلك ،قال اهلل تعاىل﴿ :إ َّن الذ َ
ِ ِ ِ
ك ني َهلم ا ْهل َدى الشَّْيطَان َس َّوَل َهل ْم َوأ َْملَى َهل ْم * َذل َ َعلَى أ َْدبَا ِرهم ِّمن بَـ ْعد َما تَـبَـ َّ َ
-961-
ض األ َْم ِر﴾ [حممد،26 : ين َك ِرهوا َما نَـَّزَل اللَّه َسن ِطيعك ْم ِيف بَـ ْع ِ ِِ ِ
بأَنـَّه ْم قَالوا للَّذ َ
.]25والسني حرف تنفيس تفيد :استقبال الفعل ،فدل على أهنم وعدوهم
ف إِ َذا تَـ َوفـَّْتـه ْم الْ َم َالئِ َكةسرا بدليل قوله تعاىلَ ﴿ :واللَّه يَـ ْعلَم إِ ْسَر َاره ْم * فَ َكْي َ ذلك ً
ِ
ط اللَّهَ َوَك ِرهوا ِر ْ
ض َوانَه ك بِأَنـَّهم اتَّـبَـعوا َما أ ْ
َس َخ َ ض ِربو َن وج َ
وهه ْم َوأ َْدبَ َاره ْم * َذل َ يَ ْ
ط أ َْع َما َهل ْم﴾ [حممد .]21 – 25 :واآليات يف هذا املعى كثرية. َحبَ َ
فَأ ْ
واملقصود :بيان عظم هذا الذنب عند اهلل ،وما رتب عليه من العقوبات
عاجالً وآجالً .نسأل اهلل الثبات على اإلسالم واإلميان ،ونعوذ باهلل من اْليبة
واْلذالن.
وقد ذكر شيخنا رمحه اهلل تعاىل يف خمتصر السرية له :ذكر الواقدي أن خالد
بن الوليد ،ملا قدم العارض ،قدم مائيت فارس ،فأخذوا جمَّاعة بن مرارة يف ثالثة
عشر رجالً من قومه بن حنيفة ،فقال هلم خالد بن الوليد :ما تقولون يف
()1
صاحبكم؟ فشهدوا أنه رسول اهلل ،فضرب أعناقهم ،حىت إذا بقي سارية بن
شرا فاستبق جمَّاعة، خريا أو ً عامر قال :يا خالد إن كنت تريد بأهل اليمامة ً
أيضا ،فأمر هبما فأوثقا يف جمامع من حديد، وكان شر ًيفا فلم يقتله ،وترك سارية ً
خالدا يقتله ،فقال: فكان يدعو جمَّاعة وهو كذلك فيتحدث معه وهو يظن أن ً
إسالما واهلل ما كفرت. يا ابن املغرية إن يل ً
فقال خالد :إن بني القتل والرتك منزلة وهي احلبس ،حىت يقضي اهلل يف أمرنا
ما هو قاض ،ودفعه إىل أم متمم زوجته ،وأمرها أن حتسن أساره ،فظن جمَّاعة أن
خالدا يريد حبسه ليخربه عن عدوه ،وقال :يا خالد قد علمت أي قدمت على ً
رسول اهلل فبايعته على اإلسالم ،وأنا اليوم على ما كنت عليه باألمس ،فإن
يك كذاب قد خرج فينا اهلل يقولَ ﴿ :والَ تَ ِزر َوا ِزَرة ِوْزَر أ ْخَرى﴾ [األنعام:
.]954
-961-
فقال يا جمَّاعة ،تركت اليوم ما كنت عليه أمس ،وكان رضاك بأمر هذا
الكذاب وسكوتك عنه -وأنت من أعز أهل اليمامة -إقر ًارا له ورضا مبا جاء
عذرا فتكلَّمت فيمن تكلَّم؟ فقد تكلَّم :مثامة فرد وأنكر ،وتكلم
به ،فهل أبديت ً
إيل رسوالً؟
إيل أو بعثت َّ
اليشكري ،فإن قلت أخاف قومي فهال عمدت َّ
فتأمل كيف جعل خالد سكوت جمَّاعة :رضى مبا جاء به مسيلمة وإقر ًارا،
وجد ومشَّر مع أولئك الذين أشركوا معفأين هذا ممن أظهر الرضا وظاهر وأعان َّ
()1
اهلل يف عبادته وأفسدوا يف أرضه؟ فاهلل املستعان» .
-955-
المبحث الثاني
موالة المسلمين ،والبراءة من المشركين
أصل من أصول الدين باإلجماع
-959-
وتقرب مبقت املشركني إىل اهلل. توحيده هللَّ ،
أن اإلسالم ال يستقيم إالَّ مبعاداة فانظر رمحك اهلل إىل قول اإلمام يتبني لكَّ :
()1
أهل الشرك ،فإن ل يعادهم فهو منهم وإن ل يفعله؟ واهلل أعلم .اهـ.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى:
«وأما قوله يف احلديث الصحيح( :وكفر مبا يعبد من دون اهلل) ،فهذا
شرط عظيم ال يصح قول :ال إله إالَّ اهلل إالَّ بوجوده ،وإن ل يوجد ل يكن من
قال :ال إله إالَّ اهلل معصوم الدم واملال ،وألن هذا هو معى :ال إله إالَّ اهلل ،فلم
ينفعه القول بدون اإلتيان باملعى الذي دل عليه ،من :ترك الشرك ،والرباءة منه،
وممن فعله.
فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون اهلل وتربأ منه وعادى من فعل ذلك،
مسلما معصوم الدم واملال ،وهذا معى قول اهلل تعاىل﴿ :فَ َم ْن يَكْف ْر ً صار
ص َام َهلَا َوالليه َِمسيع ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ك بِالْع ْرَوة الْوثْـ َق َى الَ انف َ بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ
استَ ْم َس َ
َعلِيم﴾ [البقرة. »]265 :
()2
وقال الشيخ حسني ،والشيخ عبد اهلل ،ابنا الشيخ حممد ،رمحهم اهلل تعاىل،
يف أثناء جواب هلما.
املسألة احلادية عشرة :رجل دخل هذا الدين وأحبه ،ولكن ال يعادي
املشركني ،أو عاداهم ول يكفرهم ،أو قال :أنا مسلم ،ولكن ال أقدر أن أكفر
أهل ال إله إالَّ اهلل ،ولو ل يعرفوا معناها ،ورجل دخل هذا الدين وأحبه ،ولكن
يقول :ال أتعرض للقباب ،وأعلم أهنا ال تنفع وال تضر ،ولكن ما أتعرضها.
-952-
مسلما ،إالَّ إذا عرف التوحيد ودان به ،وعمل الجواب :أن الرجل ال يكون ً
مبوجبه ،وصدق الرسول فيما أخرب به ،وأطاعه فيما هنى عنه وأمر به ،وآمن
به ومبا جاء به.
فمن قال :ال أعادي املشركني ،أو عاداهم ول يكفرهم ،أو قال :ال أتعرض
أهل ال إله إالَّ اهلل ،ولو فعلوا الكفر والشرك وعادوا دين اهلل ،أو قال :ال أتعرض
ِ َّ ِ
مسلما ،بل هو ممن قال اهلل فيهم﴿ :إ َّن الذ َ
ين يَكْفرو َن للقباب ،فهذا ال يكون ً
ني اللي ِه َورسلِ ِه َويقولو َن نـ ْؤِمن بِبَـ ْعض َونَكْفر ِ ِِ
بِالليه َورسله َوي ِريدو َن أَن يـ َفِّرقواْ بَـ ْ َ
ك هم الْ َكافِرو َن َحقًّا﴾ ك َسبِيالً * أ ْولَـئِ َ
َّخذواْ بـ ِ
ني َذل َ َْ َ
بِبـعض وي ِريدو َن أَن يـت ِ
َ َْ َ
()1
[النساء. »]969 ،965 :
(« )1الدرر السنية» ،)945 ،931/95( :و«جمموعة الرسائل واملسائل النجدية».)31/9( :
-953-
المبحث الثالث
البراءة من المشركين شرط لصحة التوحيد وقبوله,
ومن ثم كانت موالتهم ناقضة من نواقض التوحيد
وردة عن ملة المسلمين ,ولقد عد العلماء مظاهرة المشركين:
من أعظم أنواع المروق عن الدين ,والتي تستوجب جهاد أهلها
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم اهلل تعالى:
عمن كان يف سلطان املشركني ،وعرف التوحيد وعمل به ،ولكن ما
عاداهم ،وال فارق أوطاهنم؟
فأجاب :هذا السؤال صدر عن عدم التعقل لصورة األمر ،واملعى املقصود
من التوحيد والعمل به ،ألنه ال يتصور أنه يعرف التوحيد ويعمل به ،وال يعادي
املشركني ،ومن ل يعادهم ال يقال له عرف التوحيد وعمل به ،والسؤال متناقض،
وحسن السؤال مفتاح العلم.
وأظن مقصودك :من ل يظهر العداوة ول يفارق ،ومسألة إظهار العداوة،
غري مسألة وجود العداوة ،فاألول يعذر به مع العجز واْلوف ،لقوله تعاىل﴿ :إِالَّ
أَن تَـتـَّقواْ ِمْنـه ْم تـ َقا ًة﴾ [آل عمران ،]21 :والثاي ال بد منه ،ألنه يدخل يف
الكفر بالطاغوت ،وبينه وبني حب اهلل ورسوله تالزم كلي ،ال ينفك عنه املؤمن،
فمن عصى اهلل برتك إظهار العداوة ،فهو عاص هلل.
فإذا كان أصل العداوة يف قلبه ،فله حكم أمثاله من العصاة ،فإذا انضاف
ين تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئِ َكة ِ َّ ِ
إىل ذلك ترك اهلجرة ،فله نصيب من قوله تعاىل﴿ :إ َّن الذ َ
ظَالِ ِمي أَنْـف ِس ِه ْم﴾ [النساء ،]14 :لكنه ال يكفر ،ألن اآلية فيها الوعيد ال
()1
التكفري» .
(« )1الدرر السنية».)361/1( :
-954-
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى في نواقض
اإلسالم العشرة:
«الناقض الثامن :مظاهرة املشركني ومعاونتهم على املسلمني ،والدليل قوله
ِِ ِ ِ
ني﴾ تعاىلَ ﴿ :وَمن يَـتَـ َوَّهلم ِّمنك ْم فَِإنَّه مْنـه ْم إِ َّن الليهَ الَ يَـ ْهدي الْ َق ْوَم الظَّالم َ
()1
[املائدة. »]69 :
وتحدث الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن بعض نواقض التوحيد قائالا:
(األمر الثاني من النواقض) :انشراح الصدر ملن أشرك باهلل ،ومو َّادة أعداء
ضب ِّم َن اللي ِه ِ
اهلل كما قال تعاىلَ ﴿ :ولَـكن َّمن َشَر َح بِالْك ْف ِر َ
ص ْد ًرا فَـ َعلَْي ِه ْم َغ َ
َن الليهَ الَ يَـ ْه ِدي الْ َق ْوَم َوَهل ْم َع َذاب َع ِظيم﴾ [النحل ،]955 :إىل قولهَ ﴿ :وأ َّ
ِ
ين﴾ [النحل ،]954 :فمن فعل ذلك ،فقد أبطل توحيده ولو ل يفعل الْ َكاف ِر َ
الشرك بنفسه ،قال اهلل تعاىل﴿ :الَ َِجتد قَـوما يـ ْؤِمنو َن بِاللَّ ِه والْيـوِم اآل ِ
ْخ ِر يـ َو ُّادو َن َ َْ ًْ
َم ْن َح َّاد اللَّهَ َوَرسولَه﴾ [اجملادلة.]22 :
كافرا ،فمن و ياده قال شيخ اإلسالم :أخرب سبحانه أنه ال يوجد مؤمن يواد ً
فليس مبؤمن .قال :واملشاهبة مظنة املوادة فتكون حمرمة.
قال العماد ابن كثري يف تفسريه :قيل نزلت يف أيب عبيدة حني قتل أباه يوم
هم بقتل ابنه عبد الرمحن﴿ ،أ َْو بدر﴿ ،أ َْو أَبْـنَاءه ْم﴾ ،يف الصديق يومئذ َّ
إِ ْخ َوانَـه ْم﴾ ،يف مصعب بن عمري قتل أخاه عبيد بن عمري﴿ ،أ َْو َع ِش َريتَـه ْم﴾ يف
أيضا ،ومحزة وعلي وعبيدة بن احلارث قتلوا عتبة وشيبة عمر قتل قريبًا له يومئذ ً
والوليد بن عتبة يومئذ...
(األمر الثالث) :مواالة املشرك ،والركون إليه ،ونصرته ،وإعانته باليد ،أو
ِ ِّ ِ
ين﴾ [القص : اللسان)2(،أو املال ،كما قال تعاىل﴿ :فَالَ تَكونَ َّن ظَه ًريا لْل َكاف ِر َ
. »]15
املوحدين»( :ص.)464(« )1عقيدة ِّ
(« )2جمموعة الرسائل النجدية».)219 – 211/4( :
-956-
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى:
()1
«قال شيخ اإلسالم يف اختياراته ،من مجز إىل معسكر التتار ،وحلق هبم،
()2
ارتد وحل دمه وماله» .
وقال الشيخ حمد بن عتيق:
دل القرآن والسنة على أن املسلم إذا حصلت منه مواالة أهل الشرك «قد ي
واالنقياد هلم ارتد بذلك عن دينه.
ِ ِ ِ َّ ِ
ني َهلم ين ْارتَ ُّدوا َعلَى أ َْدبَا ِرهم ِّمن بَـ ْعد َما تَـبَـ َّ َ
فتأمل قوله تعاىل﴿ :إ َّن الذ َ
ا ْهل َدى الشَّْيطَان َس َّوَل َهل ْم َوأ َْملَى َهل ْم﴾ [حممد ،]26 :مع قولهَ ﴿ :وَمن يَـتَـ َوَّهلم
ِّمنك ْم فَِإنَّه ِمْنـه ْم﴾ [املائدة ،]69 :وأمعن النظر يف قوله تعاىل﴿ :فَالَ تَـ ْقعدواْ
َم َعه ْم َح َّىت َخيوضواْ ِيف َح ِديث َغ ِْريهِ إِنَّك ْم إِ ًذا ِّمثْـله ْم﴾ [النساء. »]945 :
()3
( )1مجز :أي ذهب ...وقد جاء يف حديث ماعز « :فلما أذلقته احلجارة ،مجز» .أي :أسر هاربًا
من القتل .قاله :ابن منظور يف لسان العرب ،مادة( :مجز).
(« )2الدرر السنية».)331/1( :
(« )3جممو الرسائل واملسائل».)445 – 446/9( :
-955-
كافر ،ألهنم لو أمروه برتك صيام رمضان وال ميكنه ذلك إالَّ بفراق وطنه
فعل ،ولو أمروه أن يتزوج امرأة أبيه وال ميكنه خمالفتهم إالَّ بذلك فعل.
وأما موافقته على اجلهاد معهم مباله ونفسه مع أهنم يريدون قطع دين اهلل
أيضا كافر ممن قال اهلل فيهم: ورسوله فأكرب مما ذكرناه بكثري ،فهذا ً
﴿ست ِجدو َن آخ ِرين ي ِريدو َن أَن يأْمنوكم ويأْمنواْ قَـومهم ك َّل ما رُّدواْ إِ َىل الْ ِفْتنِةِ
َ َ َ َ ْ ََ َ ْ َ ْ َ َ ََ
السلَ َم َويَكف َُّواْ أَيْ ِديَـه ْم فَخذوه ْم
أ ْركِسواْ فِيِ َها فَِإن َّلْ يَـ ْعتَ ِزلوك ْم َويـْلقواْ إِلَْيكم َّ
َواقْـتـلوه ْم﴾ اآلية [النساء.]19 :
()1
واهلل سبحانه وتعاىل أعلم ،وصلَّى اهلل على حممد وآله وصحبه وسلم» .
وقد عد بعض علماء نجد ثالثة أمور ،كل واحد منها يوجب الجهاد
لمن اتصف بها:
األوىل :اْلروج عن طاعة ويل أمر املسلمني بغري حق.
الثانية :عدم تكفري املشركني ،أو الشك يف كفرهم ،ألن ذلك من نواقض
وحل دمه وماله ،ووجب قتاله اإلسالم ومبطالته ،فمن اتصف به فقد كفر ،ي
حىت يكفر املشركني - .مث عرضوا األمر الثالث فقالوا:-
«األمر الثالث :مما يوجب اجلهاد ملن اتصف به ،مظاهرة املشركني ،وإعانتهم
على املسلمني ،بيد أو بلسان أو بقلب أو مبال ،فهذا كفر خمرج من اإلسالم،
فمن أعان املشركني على املسلمني ،وأمد املشركني من ماله ،مبا يستعينون به على
()2
اختيارا منه ،فقد كفر» . حرب املسلمني ً
-954-
المبحث الرابع
موالة المشركين وصوره المكفرة ،والغير مكفرة
قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل رمحهما اهلل يف أثناء رده على سؤال ورد
عليه ،يريد فيه صاحبه معرفة احل يد الفاصل بني الوالء للمشركني املكفر ،وغري
املكفر ،فقال رمحه اهلل:
«فالجواب :إن كانت املواالة مع مساكنتهم يف ديارهم ،واْلروج معهم يف
قتاهلم ،وحنو ذلك ،فإنه حيكم على صاحبها بالكفر ،كما قال تعاىلَ ﴿ :وَمن
يَـتَـ َوَّهلم ِّمنك ْم فَِإنَّه ِمْنـه ْم﴾ [املائدة ،]69 :وقال تعاىلَ ﴿ :وقَ ْد نَـَّزَل َعلَْيك ْم ِيف
ات اللي ِه ي َك َفر ِهبَا َوي ْستَـ ْهَزأ ِهبَا فَالَ تَـ ْقعدواْ َم َعه ْم َح َّىت
اب أَ ْن إِ َذا َِمسعتم آي ِ
ْْ َ
الْ ِكتَ ِ
َخيوضواْ ِيف َح ِديث َغ ِْريهِ إِنَّك ْم إِ ًذا ِّمثْـله ْم﴾ [النساء.]945 :
وقال النيب « :من جامع املشركني وسكن معهم فإنه مثلهم» وقال« :أنا
برئ من مسلم بني أظهر املشركني» ،روامها أبو داود.
وإن كانت املواالة هلم يف ديار اإلسالم ،إذا قدموا إليهم وحنو ذلك ،فهذا
متعرض للوعيد ،وإن كانت مواالهتم ألجل دنياهم ،جيب عليه من عاص آمث ِّ
التعزير باهلجر واألدب وحنوه ما يزجر أمثاله ،وإن كانت املواالة ألجل دينهم
()1
قوما حشر معهم» . أحب ً
فهو مثلهم ،ومن َّ
(اعتياد فعل الموالة المحرمة سبيل الوقوع في الموالة المكفرة)
سئل الشيخ حممد عبد اللطيف ،أقامه اهلل مناضالً عن الدين احلنيف :رجالن
تنازعا يف السالم على الرافضة واملبتدعني ،ومن ضاهاهم من املشركني،
وفـي مواكلتهم وجمالستهم ،فقال أحدمها :هو جائز ،لقول عاملي :إن أخذت
-951-
فقد أخذ الصاحلون ،وإن رددت فقد رد الصاحلون ،ووفد على عمر بن
عزة ،وهو متَّهم بالتشيُّع ،ورسول عمر وفد على جبلة الغساي كثري ِّ
عبد العزيزِّ :
بعد ردته.
السالَم َعلَى وقال اآلخر :ال جيوز ،لدليل آيات املواالة ،ولقوله تعاىلَ ﴿ :و َّ
َم ِن اتـَّبَ َع ا ْهل َدى﴾ [طه ،]44 :والسالم على عباد اهلل الصاحلني ،وأن ترك
السالم على الفاسق وأهل املعاصي سنة ،وهؤالء أشر حاالً وعقيدة منهم.
فأجاب :اعلم وفقنا اهلل وإياك ملا حيب ويرضى ،أنه ال يستقيم للعبد إسالم
وال دين ،إالَّ مبعاداة أعداء اهلل ورسوله ،ومواالة أولياء اهلل ورسوله ،قال تعاىل:
ِ ِ ِ َّ ِ
استَ َحبُّواْ الْك ْفَر َعلَى ين َآمنواْ الَ تَـتَّخذواْ آبَاءك ْم َوإِ ْخ َوانَك ْم أ َْوليَاء إَن ْ ﴿يَا أَيُّـ َها الذ َ
ان﴾ [التوبة.]23 : ا ِإلميَ ِ
ني أَيَـْبتَـغو َن ِ ِِ َّخذو َن الْ َكافِ ِر ِ ِ وقال تعاىل﴿ :الَّ ِذين يـت ِ
ين أ َْوليَاء من دون الْم ْؤمن َ َ َ َ
ندهم الْعَِّزَة فَِإ َّن العَِّزَة لِلي ِه َمج ًيعا﴾ [النساء.]931 :
ِ ِع َ
وقال تعاىل﴿ :الَ َِجتد قَـوما يـ ْؤِمنو َن بِاللَّ ِه والْيـوِم اآل ِ
ْخ ِر يـ َو ُّادو َن َم ْن َح َّاد اللَّ َه َ َْ ًْ
َوَرسولَه﴾ [اجملادلة.]22 :
ين ظَلَمواْ فَـتَ َم َّسكم النَّار﴾ [هود.]993 : ِ َّ ِ
وقال تعاىلَ ﴿ :والَ تَـ ْرَكنواْ إ َىل الذ َ
قال ابن عباس رضي اهلل عنهما :ال َتيلوا إليهم يف املودة ولني الكالم ،وقال
أبو العالية :ال ترضوا بأعماهلم ،وقال بعض العلماء :من مشى إليهم ول ينكر
عليهم ،ع َّد من الراكنني إليهم.
َّخذوا َعد ِّوي َو َعد َّوك ْم أ َْولِيَاء تـْلقو َن وقال تعاىل﴿ :يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنوا الَ تَـت ِ
َ َ َ َ
إِلَْي ِهم بِالْ َم َوَّدةِ﴾ [املمتحنة.]9 :
ين َم َعه إِ ْذ قَالوا وقال تعاىل﴿ :قَ ْد َكانَت لَكم أسوة حسنة ِيف إِبـر ِاه َّ ِ
يم َوالذ َ َْ َ ْ ْ ْ َ َ ََ
لَِقوِم ِهم إِنَّا بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ
ون اللَّ ِه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا بَـْيـنَـنَا َوبَـْيـنَكم ْ َ ْ ْ ْ َ
ِ ِ ِ
ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤمنوا باللَّه َو ْح َده﴾ [املمتحنة.]4 : الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ
-951-
فالواجب على من أحب جناة نفسه ،وسالمة دينه ،أن يعادي من أمره اهلل
ورسوله بعداوته ،ولو كان أقرب قريب ،فإن اإلميان ال يستقيم إالَّ بذلك والقيام
له ،ألنه من أهم املهمات ،وآكد الواجبات.
إذا عرفت هذا :فمواكلة الرافضي ،واالنبساط معه ،وتقدميه يف اجملالس،
والسالم عليه ،ال جيوز ،ألنه مواالة وموادة ،واهلل تعاىل قد قطع املواالة ،بني
ين أ َْولِيَاء ِمن د ْو ِن ِ ِ ِِ
املسلمني واملشركني ،بقوله﴿ :الَّ يَـتَّخذ الْم ْؤمنو َن الْ َكاف ِر َ
س ِم َن اللي ِه ِيف َش ْيء﴾ [آل عمران.]21 : ِ ِِ
ك فَـلَْي َ ني َوَمن يَـ ْف َع ْل َذل َ
الْم ْؤمن َ
ات اللي ِه ي َك َفر ِهبَا
اب أَ ْن إِ َذا َِمسعتم آي ِ
ْْ َ
وقال تعاىل﴿ :وقَ ْد نَـَّزَل َعلَْيكم ِيف الْ ِكتَ ِ
ْ َ
ِ ِ ِ ِ
َوي ْستَـ ْهَزأ ِهبَا فَالَ تَـ ْقعدواْ َم َعه ْم َح َّىت َخيوضواْ يف َحديث َغ ْريه إنَّك ْم إ ًذا ِّمثْـله ْم﴾
ِ ِ
[النساء ...]945 :واآليات يف املعى كثرية كما تقدَّم.
والسالم حتية أهل السالم بينهم ،فإذا سلَّم على الرافضة ،وأهل البد ،
واجملاهرين باملعاصي ،وتلقَّاهم باإلكرام والبشاشة ،أالن هلم الكالم ،كان ذلك
مواالة منه هلم ،فإذا و َّادهم وانبسط هلم مع ما تقدَّم ،مجع الشر كله ،ويزول ما
يف قلبه من العداوة والبغضاء ،ألن إفشاء السالم سبب جللب احملبة ،كما ورد يف
احلديث« :أال أدلكم على ما حتابون به»؟ قالوا :بلى يا رسول اهلل ،قال« :أفشوا
وفساق املسلمني ،خلصت السالم بينكم» ،فإذا سلَّم على الرافضة واملبتدعنيَّ ،
()1
مودته وحمبته يف حق أعداء اهلل ورسوله» .
-945-
المبحث الخامس
موالة المشركين المنتسبين للملة
كموالة المشركين المباينين لها
-949-
شر؟
بغري هديي تعرف منهم وتنكر» ،فقلت :فهل بعد ذلك خري من ي
قال« :نعم دعاة على أبواب جهنم من أجاهبم إليها قذفوه فيها» ،فقلت :يا
رسول اهلل صفهم لنا ،قال« :نعم هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا» ،قلت يا
رسول اهلل فما تأمري إن أدركن ذلك؟ قال« :تلزم مجاعة املسلمني وإمامهم»،
فقلت :فإن ل تكن هلم مجاعة وال إمام؟ قال« :فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن
تعض على أصل شجرة حىت يدركك املوت وأنت على ذلك» متفق عليه.
وصلَّى اهلل على نبينا حممد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
-942-
املسلمني ،ال جمرد التعامل معهم بالعدل ،وال خمالطتهم لدعوهتم لإلسالم،
وال غشيان جمالسهم ،والسفر إليهم للبالغ ونشر اإلسالم.
وباهلل التوفيق ،وصلَّى اهلل على نبينا حممد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
-943-
المبحث السادس
إذا تعذر علو التوحيد ،وإظهار البراءة من المشركين في بلد،
أصبحت دار كفر وشرك ،ووجب على الموحدين الهجرة منها،
ليتمكنوا من إقامة دينهم ،وإظهار البراءة من أعدائهم
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى:
عما يقال يف اهلجرة من بني ظهراي املشركني ،من البادية واحلاضرة،
وفضلها؟ وما الواجب منها؟ وما املستحب؟ وهل بني بادية جند وغريهم ،كعنزة
والظفري ،ومن واالهم من بادية الشمال واجلنوب ،إىل ما ال خيفى على املسؤول؟
(حكم الهجرة ،وفضلها ،ودرجاتها)
فأجاب :اهلجرة من واجبات الدين ،ومن أفضل األعمال الصاحلة ،وهي
سبب لسالمة دين العبد ،وحفظ إلميانه ،وهي أقسام ،هجر :احملرمات ،اليت
حرمها اهلل يف كتابه ،وحرمها رسول اهلل على مجيع املكلفني ،وأخرب أن« :من
هجرها فقد هجر ما حرمه اهلل عليه» ،وقد أخرب فيما صح عنه« :املهاجر
من هجر ما هنى اهلل عنه».
وهذا أمر جممل شامل جلميع احملرمات ،القولية والفعلية.
(حكم اإلقامة في ديار الكفر)
القسم الثاي :اهلجرة من كل بلدة ،تظهر فيها شعائر الشرك وأعالم الكفر،
ويعلن فيها باحملرمات ،واملقيم فيها ال يقدر على إظهار دينه ،والتصريح بالرباءة
من املشركني وعداوهتم ،ومع هذا يعتقد كفرهم ،وبطالن ما هم عليه ،لكن إمنا
جلس بني ظهرانيهم ،ش ًحا باملال والوطن ،فهذا
-944-
حمرما ،وداخل يف حكم الوعيد. عاص ومرتكب ً
ِ ِِ ِِ ِ ِ َّ ِ
يم كنت ْم ين تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئ َكة ظَالمي أَنْـفسه ْم قَالواْ ف َ قال تعاىل﴿ :إ َّن الذ َ
اجرواْ فِ َيهاض قَالْواْ أَ َل تَكن أَرض اللي ِه و ِاسع ًة فَـتـه ِ
َ َ َ ني ِيف األ َْر ِ َ ْ ْ ْ
قَالواْ كنَّا مست ِ
ض َعف َ
َْ ْ
ضع ِفني ِمن ِّ ِ ِ ك مأْواهم جهنَّم وس ْ ِ ِ
ِّساء
الر َجال َوالن َ اءت َمص ًريا * إالَّ الْم ْستَ ْ َ َ َ فَأ ْولَـئ َ َ َ ْ َ َ َ َ
ك َع َسى الليه أَن يَـ ْعف َو َوالْ ِولْ َد ِان الَ يَ ْستَ ِطيعو َن ِحيلَةً َوالَ يَـ ْهتَدو َن َسبِيالً * فَأ ْولَـئِ َ
َعْنـه ْم َوَكا َن الليه َعف ًّوا َغف ًورا﴾ [النساء.]11 – 14 :
فلم يعذر اهلل إالَّ املستضعف ،الذي ال يقدر على التخل من أيدي
املشركني ولو قدر ما عرف سلوك الطريق وهدايته ،إىل غري ذلك من األعذار.
(حكم الخروج في صفوف المشركين لقتال المسلمين)
وقال « :من جامع املشرك أو سكن معه فإنه مثله» ،فال يقال إنه مبجرد
كافرا ،بل املراد :أن من عجز عن اْلروج من بني اجملامعة واملساكنة يكون ً
كرها ،فحكمه حكمهم يف القتل ،وأخذ املال ظهراي املشركني ،وأخرجوه معهم ً
اخيتارا ،أو أعاهنم ببدنه
طوعا و ً
ال يف الكفر ،وأما إن خرج معهم لقتال املسلمني ً
وماله ،فال شك أن حكمه حكمهم يف الكفر.
(األدلة على حرمة اإلقامة بين أظهر المشركين ،ل سيما عند العجز عن
إقامة الدين)
ويف القرآن الكرمي والسنَّة النبوية ما يدل -من يف قلبه حياة -على املنع من
صرحوا بالنهي عن إقامة املسلم بني ذلك ،وكالم العلماء مرشد إىل ذلك ،فإهنم َّ
ين ظَلَمواْ﴾ ِ َّ ِ
أظهر املشركني من غري إظهار دينه ،قال تعاىلَ ﴿ :والَ تَـ ْرَكنواْ إ َىل الذ َ
ين َك َفرواْ﴾ [املائدة،]15 : َّ َّ ِ ِ
[هود ،]993 :وقال﴿ :تَـَرى َكث ًريا ِّمْنـه ْم يَـتَـ َول ْو َن الذ َ
اسقو َن﴾ [املائدة.]19 : ـك َّن َكثِريا ِّمْنـهم فَ ِ
إىل قوله﴿ :ولَ ِ
ً ْ َ
ِ ِ ِ ِ
ين َتـَوفَّاهم الْ َمآلئ َكة ظَالمي أَْنـفس ِه ْم﴾ [النساء ،]14 :إىل ِ ِ َّ
وقال تعاىل﴿ :إ َّن الذ َ
-946-
يما ﴾ [النساء ،]15 :قال ابن كثري يف قوله ﴿ :وكان اهلل غف ِ
ورا رح ا
ا
الكالم على هذه اآلية ،وهذه اآلية :عامة يف كل من أقام بني أظهر املشركني،
وهو قادر على اهلجرة ،وليس متمكنًا من إقامة الدين ،فهو مرتكب حر ًاما
باإلمجا ،ون هذه اآلية ،واآليات يف هذا املعى كثرية يعرفها من قرأ القرآن
وتدبره.
ويف األحاديث املأثورة عن النيب ما يدل على ما دل عليه القرآن ،مثل
قوله « :من جامع املشرك وسكن معه فإنه مثله» ،وقوله « :وال تستضيئوا
بنار املشركني» .وحديث هبز بن حكيم« :أن تفر من شاهق إىل شاهق
بدينك».
قال ابن كثري معناه :ال تقاربوهم يف املنازل ،حبيث تكونوا معهم يف بالدهم،
بل تباعدوهم ،وهتاجروا من بالدهم ،وهلذا روى أبو داود فقال« :ال تراءى
نارامها».
ويف قصة إسالم جرير ملا قال :يا رسول اهلل ،بايعن واشرتط ،فقال« :أن
تعبد اهلل وال تشرك به شيئًا ،وتقيم الصالة ،وتؤيت الزكاة ،وتفارق املشركني»،
وعن عبد اهلل بن عمرو ،أنه قال :من بى بأرض املشركني ،وصنع نريوزهم
ومهرجاهنم ،وتشبَّه هبم حىت ميوت ،ح ِشر معهم يوم القيامة.
وكالم العلماء يف املنع من اإلقامة عند املشركني ،وحترمي جمامعتهم ،ووجوب
أئمة هذه الدعوة اإلسالمية ،كالشيخ حممد خصوصا َّ
ً مباينتهم ،كثري معروف،
بن عبد الوهاب ،وأوالده ،وأوالدهم ،وأتباعهم من أهل العلم والدين ،ففي
الس ْم َع َوه َو
كتبهم من ذلك ما يكفي ويشفي من ﴿ َكا َن لَه قَـْلب أ َْو أَلْ َقى َّ
َش ِهيد﴾ [ق.]34 :
فمن ذلك ما قال الشيخ :عبد الطيف ،يف بعض رسائل :إن اإلقامة ببلد
يعلو فيها الشرك ،والكفر ،ويظهر فيها دين اإلفرنج ،والروافض ،وحنوهم
-945-
من املعطلة للربوبية واأللوهية ،وترفع فيها شعائرهم ،ويهدم اإلسالم
والتوحيد ،ويعطل التسبيح والتكبري والتحميد ،وتقلع قواعد امللة واإلميان ،وحيكم
بينهم حبكم اإلفرنج واليونان ،ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان.
فاإلقامة بني ظهرانيهم -واحلالة هذه -ال تصدر عن قلب باشره حقيقة
اإلسالم واإلميان والدين ،وعرف ما جيب من حق اهلل يف اإلسالم على املسلمني،
نبيا ،فإن الرضا
بل ال يصدر عن قلب رضي باهلل ربًا ،وباإلسالم دينًا ،ومبحمد ً
هبذه األصول الثالثة قطب رحى الدين ،وعليه تدور حقائق العلم واليقني ،وذلك
يتضمن من حمبة اهلل وإيثار مرضاته ،والغرية لدينه واالحنياز إىل أوليائه ،ما يوجب
عمن تلك حنلته ،وذلك دينه ،بل نفس الرباءة كل الرباءة ،والتباعد كل التباعد َّ
اإلميان املطلق يف الكتاب والسنة ،ال جيامع هذه املنكرات .انتهى كالمه رمحه
اهلل.
وأما السؤال عن حكم املقيم يف بلدان املشركني ،من املنتسبني إىل اإلسالم،
فهذا اجلنس من الناس مشرتكون يف فعل ما هنى اهلل عنه ورسوله ،إالَّ من عذره
ني﴾ [النساء ،]11 :مث هم خمتلفون يف القرآن يف قوله﴿ :إِالَّ الْمست ِ
ض َعف َ َْ ْ
املراتب ،متفاوتون يف الدرجات حبسب أحواهلم ،وما حيصل منهم من مواالة
كفرا وقد يكون دونه ،قال تعاىل: املشركني والركون إليهم ،فإن ذلك قد يكون ً
ك بِ َغافِل َع َّما يَـ ْع َملو َن﴾ [األنعام»]932 : ِ
﴿ َولكل َد َر َجات ِّممَّا َع ِملواْ َوَما َربُّ َ
()1
.
-944-
-941-
الفصل الثامن
األسماء والصفات
ومنهج السلف في اإليمان بها
وفيه مبحثان:
املبحث الثاي :داللة أمساء اهلل احلسى وصفاته العال على أنه املبعود
وحده بال شريك.
-941-
-915-
المبحث األول
منهج السلف الصالح في اإليمان بأسماء اهلل وصفاته
جيب اإلميان بأمساء اهلل احلسى وصفاته العال ،وإثباهتا على وجه يليق جبالله
وعظمته ،إثباتًا بال َتثيل ،وتنز ًيها بال تعطيل ،وهذه القاعدة مطردة يف كل
صفات الرب سبحانه :نؤمن بألفاظها ،ونثبت حقائقها ،ونفوض يف كيفياهتا،
ألنه ال يعلم كيف هو إالَّ هو سبحانه ،وألن الكالم يف الصفات فر عن
الكالم يف الذات ،فكما نثبت ذاتًا بال كيفية فكذلك نثبت صفاهتا بال كيفية.
والقول الشامل يف هذا :أنا نصف اهلل مبا وصف به نفسه ووصفه به رسوله
،ال نتجاوز يف ذلك نصوص الكتاب والسنة بفهم وبيان حامليها من
الصحابة الكرام ،ومن سار على درهبم ،واقتفى أثرهم.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما اهلل تعالى في بيان عقيدته
ألهل القصيم:
ضري ِمن املالئكة ،وأ ْش ِهدكم:
ومن َح َ ِ
«بسم اهلل الرمحن الرحيم :أ ْشهد اهلل َ
اعتق َدتْه الفرقة الناجية ،أهل السنَّة واجلماعة ،من اإلميان باهلل،
َي أعتقد ما َ أ ِّ
ومالئكته ،وكتبه ورسله ،والبعث بعد املوت ،واإلميان بالقدر خريه وشره ،ومن
اإلميان باهلل :اإلميان مبا وصف به نفسه يف كتابه على لسان رسوله من غري
حتريف وال تعطيل ،بل أعتقد أن اهلل سبحانه وتعاىل ليس كمثله شيء وهو
حرف الكلم عن السميع البصري ،فال أنفي عنه ما وصف به نفسه ،وال أ ِّ
مواضعه ،وال أحلد يف أمسائه وآياته ،وال أكيف ،وال أمثل صفاته تعاىل بصفات
مسى له ،وال كفؤ له ،وال ند له ،وال يقاس خبلقه.
خلقه ،ألنه تعاىل ال َّ
-919-
فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغريه ،وأصدق قيالً ،وأحسن حديثًا ،فنزه نفسه
عما وصفه به املخالفون من أهل التكييف والتمثيل ،وعما نفاه عنه النافون من
صفو َن * َو َسالَم ب الْعَِّزةِ ع َّما ي ِ
ك َر ِّ
أهل التحريف والتعطيل ،فقال﴿ :سْب َحا َن َربِّ َ
َ َ
ِ احلَ ْمد لِلَّ ِه َر ِّ ِ
()1
ني﴾ [الصافات»]912 – 915 : ب الْ َعالَم َ ني * َو ْ
َعلَى الْم ْر َسل َ
.
وقال الشيخ حممد بن عبد اللطيف رمحهما اهلل تعاىل:
«ومما تعتقده وندين اهلل به :اإلميان باهلل ،ومالئكته ،وكتبه ،ورسله ،والبعث
بعد املوت ،واإلميان بالقدر خريه وشره ،ونؤمن بأمساء اهلل تعاىل وصفاته ،ونثبت
ذلك على ما يليق جبالله وعظمته ،إثباتًا بال َتثيل ،وننزه اهلل عما ال يليق جبالله،
تنز ًيها بال تعطيل ،ونعتقد أن اهلل سبحانه وتعاىل مستو على عرشه ،عال على
خلقه ،وعرشه فوق السماوات ،وهو بائن عن خملوقاته ،وال خيلو مكان من
استَـ َوى﴾ [طه ،]6 :فنؤمن باللفظ، الر ْمحَن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ علمه ،قال تعاىلَّ ﴿ :
ونثبت حقيقة االستواء ،وال نكيف وال منثل ،ألنه ال يعلم كيف هو ،إالَّ هو.
قال إمام دار اهلجرة مالك بن أنس رمحه اهلل -وبقوله نقول ،-وقد سأله
رجل عن االستواء فقال :االستواء معلوم ،والكيف جمهول ،واإلميان به واجب،
والسؤال عنه بدعة :فأثبت مالك رمحه اهلل االستواء ،ونفى علم الكيفية ،وكذلك
اعتقادنا يف مجيع أمساء الرب وصفاته ،من اإلميان باللفظ ،وإثبات احلقيقة ،ونفي
علم الكيفية.
والقول الشامل يف ذلك :أنَّا نصف اهلل مبا وصف به نفسه ،ووصف به
رسوله ،ال نتجاوز القرآن واحلديث ،فمن شبَّه اهلل خبلقه فقد كفر ،ومن
س َك ِمثْلِ ِه َش ْيءجحد ما وصف اهلل به نفسه فقد كفر ،قال اهلل تعاىل﴿ :لَْي َ
-912-
صري﴾ [الشورى.]99 : الس ِميع الب ِ
َوه َو َّ
َ
مسي له ،وال كفو له ،وهو أعلم بنفسه وبغريه ،وأصدق فسبحان من ال َّ
قيالً ،وأحسن حديثًا من خلقه.
ونؤمن مبا ورد« ،من أن اهلل تعاىل ينزل كل ليلة إىل مساء الدنيا ،حني يبقى
ثلث الليل اآلخر ،فيقول :هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فاغفر
له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟»...
وباجلملة :فعقيدتنا يف مجيع الصفات ،الثابتة يف الكتاب والسنَّة ،عقيدة أهل
منرها كما جاءت ،مع إثبات حقائقها وما دلت السنَّة واجلماعة ،نؤمن هبا ،و ُّ
()1
عليه ،من غري تكييف وال َتثيل ،ومن غري تعطيل وال تبديل وال تأويل» .
وقال الشيخ عبد اهلل بن حممد بن عبد الوهاب رمحهم اهلل تعاىل:
«إن مذهبنا يف أصول الدين ،مذهب أهل السنَّة واجلماعة ،وطريقتنا طريقة
السلف ،اليت هي الطريق األسلم ،بل واألعلم واألحكم ،خالفًا ملن قال طريق
اْللف أعلم.
نقر آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها ،ونكل معناها ،مع وهي :أمنا ي
أجل علماء السلف -ملا اعتقاد حقائقها إىل اهلل تعاىل ،فإن مال ًكا -وهو من ِّ
استَـ َوى﴾ [طه،]6 :الر ْمحَن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ
سئل عن االستواء يف قوله تعاىلَّ ﴿ :
قال :االستواء معلوم ،والكيف جمهول ،واإلميان به واجب ،والسؤال عنه
()2
بدعة» .
-913-
المبحث الثاني
دللة أسماء اهلل الحسنى وصفاته العال
على أنه المعبود وحده بال شريك
أمساء اهلل احلسى ،وصفاته العال يدالَّن :على كماله وجالله وعظمته ،وأنه
هو املعبود وحده ،ال شريك له يف ربوبيته وألوهيته ،وأن العبادة ال يصلح منها
عمن دوهنا ،ومن مث نستطيع اجلزم بأن مقرب ،وال نيب مرسل فضالً َّ شيء ملليك َّ
املشركني ل يقدروا اهلل حق قدره ،ملا وقعوا يف عبادة غريه ،وعدلوا به سواه ،مع
أن الفرق بني عبادة اْلالق وعبادة املخلوق ،كالفرق بني اْلالق وأمسائه وصفاته،
واملخلوق وأمسائه وصفاته.
قال الشيخ حممد بن عبد الوهاب يف كتابه التوحيد ،وعبد الرمحن بن حسن
مجيعا يف شرحه عليه:رمحهم اهلل ً
ِ
ضتهما جاء يف قول اهلل تعاىلَ ﴿ :وَما قَ َدروا اللَّهَ َح َّق قَ ْد ِرهِ َو ْاأل َْرض َمج ًيعا قَـْب َ
ماوات َمطْ ِويَّات بِيَ ِمينِ ِه سْب َحانَه َوتَـ َع َاىل َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [الزمر: يَـ ْوَم الْ ِقيَ َام ِة َو َّ
الس َ
.]54
[الشرح]
ِ
ضتهقوله :باب قول اهلل تعاىلَ ﴿ :وَما قَ َدروا اللَّهَ َح َّق قَ ْد ِرهِ َو ْاأل َْرض َمج ًيعا قَـْب َ
ماوات َمطْ ِويَّات بِيَ ِمينِ ِه سْب َحانَه َوتَـ َع َاىل َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [الزمر: يَـ ْوَم الْ ِقيَ َام ِة َو َّ
الس َ
،]54أي :من األحاديث واآلثار يف معى هذه اآلية الكرمية.
قال العماد ابن كثري رمحه اهلل تعاىل :يقول تعاىل« :ما قدر املشركون اهلل
حق قدره حىت عبدوا معه غريه ،وهو العظيم الذي ال أعظم منه ،القادر على
كل شيء ،املالك لكل شيء ،وكل شيء حتت قهره وقدرته».
-914-
قال جماهد :نزلت يف قريش .وقال السدي :ما عظَّموه حق عظمته .وقال
كذبوه .وقال على بن أيب طلحة :ناقالً حق قدره ما َّ حممد بن كعب :لو قدروه َّ
عن ابن عباس :هم الكفار الذين ل يؤمنوا بقدرة اهلل عليهم ،فمن آمن أن اهلل
على كل شيء قدير فقد قدَّر اهلل حق قدره ،ومن ل يؤمن بذلك فلم يقدِّر اهلل
حق قدره.
وقد ورد أحاديث كثرية متعلقة هبذه اآلية ،الطريق فيها ويف أمثاهلا مذهب
السلف؛ وهو إمرارها كما جاءت من غري تكييف وال حتريف ،وذكر حديث ابن
مسعود ما ذكره املصنف رمحه اهلل يف هذا الباب قال :ورواه البخاري يف غري
موضع من صحيحه ،واإلمام أمحد ،ومسلم ،والرتمذي ،والنسائي ،كلهم من
حديث سليمان بن مهران ،وهو األعمش ،عن إبراهيم ،عن عبيدة ،عن ابن
مسعود بنحوه.
قال اإلمام أمحد :حدثنا معاوية حدثنا األعمش ،عن إبراهيم ،عن علقمة،
عن عبد اهلل قال :جاء رجل من أهل الكتاب إىل النيب قال« :يا أبا القاسم
أبلغك أن اهلل تعاىل جيعل اْلالئق على أصبع ،والسموات على إصبع ،وسائر
اْلالئق على إصبع ،فيقول :أنا امللك؟ فضحك رسول اهلل حىت بدت نواجذه
لفول احلرب .قال :وأنزل اهللَ ﴿ :وَما قَ َدروا اللَّهَ َح َّق قَ ْد ِرهِ﴾ [الزمر.»]54 :
وهكذا رواه البخاري ،ومسلم ،والنسائي من طرق عن األعمش به...
(دللة صفات اهلل على كماله ،وعظمته ،وقدرته ،ووحدانيته ،في ربوبيته
وألوهيته)
قلت :وهذه األحاديث وما يف معناها تدل على عظمة اهلل ،وعظيم قدرته،
وعظم خملوقاته.
-916-
وقد تعرف سبحانه وتعاىل إىل عباده بصفاته ،وعجائب خملوقاته ،وكلها
تعرف وتدل على كماله ،وأنه هو املعبود وحده ال شريك له يف ربوبيته وإهليته،
وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق جبالل اهلل وعظمته ،إثباتًا بال َتثيل،
وتنز ًيها بال تعطيل ،وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنَّة ،وعليه
سلف األمة وأئمتها ،ومن تبعهم بإحسان ،واقتفى أثرهم على اإلسالم واإلميان.
وتأمل ما يف هذه األحاديث الصحيحة من تعظيم النيب ربه بذكر صفات
كماله ،على ما يليق بعظمته وجالله ،وتصديقه اليهود فيما أخربوا به عن اهلل
من الصفات ،اليت تدل على عظمته.
وتأمل ما فيها من إثبات علو اهلل تعاىل على عرشه ،ول يقل النيب يف
شيء منها :إن ظاهرها غري مراد ،وإهنا تدل على تشبيه صفات اهلل بصفات
حقا بلغه أمني أمته ،فإن اهلل أكمل به الدين ،وأم به خلقه ،فلو كان هذا ً
النعمة ،فبليغ البالغ املبني ،صلوات اهلل وسالمه عليه وعلى آله وصحبه ومن
تبعهم إىل يوم الدين ،وتلقَّى الصحابة عن نبيهم ما وصف به ربه من
صفات كماله ونعوت جالله ،فآمنوا به وآمنوا بكتاب اهلل ،وما تضمنه من
الر ِاسخو َن ِيف الْعِْل ِم يَـقولو َن َآمنَّا بِِه
جل وعال ،كما قال تعاىلَ ﴿ :و َّ
صفات رهبم َّ
()1 كل ِّمن ِع ِ
ند َربِّـنَا﴾ [آل عمران. »]4 : ْ
-915-
الفصل التاسع
القضاء والقدر
ومنهج السلف في اإليمان به
-914-
-911-
المبحث األول
قواعد السلف الذهبية في اإليمان بالقضاء والقدر
ـ إن اإلميان بربوبية اهلل ال يقبل حىت يتم اإلميان بقضائه وقدره.
ـ واهلل سبحانه قدَّر اإلميان والطاعات وأسباهبا وأحبها ،والكفر واملعاصي
وأسباهبا وكرهها.
ـ وقدرة اهلل الشاملة ،وعلمه التام ،وخلقه لكل شيء ،وحكمته البالغة،
أصول اإلميان بالقدر والتسليم له.
ـ والشر يف مقدورات اهلل راجع إىل مفعوالته ،ال إىل ذاته املقدسة وصفاته
العال ،ويكون بسبب ظلم العبد وبغيه وجهله ،ومن مث يستحيل إضافة الشر إليه
سبحانه.
ـ وال يتم اإلميان بالقدر حىت يتيقن العبد أن ما أخطأه ل يكن ليصيبه ،وما
أصابه ل يكن ليخطئه ،إذ املقادير قد كتبت قبل اْللق خبمسني ألف عام ،مث
رفعت األقالم وجفَّت الصحف.
ـ وال جناة من النريان وال قَبول للطاعات قبل القيام هبذا األصل ،وحتقيقه وفق
مراد الرب سبحانه ،وبيان رسول ،بفهم صحابته الكرام نقلة وحيه ،وشريعته.
ـ وال يعن اإلميان بالقدر والتسليم له :القعود عن أخذ األسباب ،وفعل
السنن ،املؤدية إىل حصول النفع واجتناب الضر ،بل ينبغي فعل األسباب
واألخذ بالسنن ،مع االعتماد والتوكل على اهلل حىت يتم للعبد توحيده وتتحقَّق
له عبوديته املخلوق من أجلها.
-911-
قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل في شرحه لكتاب التوحيد:
«باب ما جاء يف منكري القدر
[الشرح]
أي :من الوعيد .والقدر بالفتح والسكون :ما يقدره اهلل من القضاء.
وملا كان توحيد الربوبية ال يتم إالَّ بإثبات القدر ،قال القرطيب :القدر مصدر
وقدرا إذا حصلت مبقداره،قدرا ًقدرت الشيء بتخفيف الدال أقدره وأقدره ً
تقديرا مشدد الدال ،فإذا قلنا :إن اهلل تعاىل قدر ويقال فيه :قدرت أقدر ً
األشياء ،فمعناه :أنه تعاىل علم مقاديرها وأحواهلا وأزماهنا قبل إجيادها ،مث أوجد
منها ما سبق يف علمه أنه يوجد على حنو ما سبق يف علمه ،فال حمدث يف العال
العلوي والسفلي ،إالَّ هو صادر عن علمه تعاىل وقدرته وإرادته ،هذا هو املعلوم
من دين السلف املاضني ،الذي دلَّت عليه الرباهني.
تنبيها على وجوب اإلميان،
ذكر املصنف ما جاء يف الوعيد فيمن أنكرهً ،
وهلذا ع يده النيب من أركان اإلميان كما ثبت يف حديث جربيل ملا سئل عن
اإلميان ،فقال« :أن تؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر وتؤمن بالقدر
خريه وشره» ،قال :صدقت.
وعن عبد اهلل بن عمرو بن العاص قال :قال رسول اهلل « :إن اهلل تعاىل
كتب مقادير اْلالئق قبل أن خيلق السموات واألرض خبمسني ألف سنة»،
قال :وعرشه على املاء.
وعن ابن عمر رضي اهلل عنهما قال :قال رسول اهلل « :كل شيء بقدر
حىت العجز والكيس» روامها مسلم يف صحيحه.
وعن علي قال :قال رسول اهلل « :ال يؤمن عبـد حـىت يؤمن
-915-
بأربع :يشهد أن ال إله إالَّ اهلل وأي رسول اهلل بعثن باحلق ،ويؤمن باملوت،
والبعث بعد املوت ،ويؤمن بالقدر» ،رواه الرتمذي ،وابن ماجه ،واحلاكم يف
جدا قد أفردها العلماء بالتصنيف.
مستدركه ،واألحاديث يف ذلك كثرية ً
قال البغوي يف «شرح السنَّة» :اإلميان بالقدر فرض الزم ،وهو أن يعتقد أن
اهلل تعاىل خالق أعمال العباد خريها وشرها ،كتبها عليهم يف اللوح احملفوظ قبل
أن خيلقهم .قال اهلل تعاىلَ ﴿ :واللَّه َخلَ َقك ْم َوَما تَـ ْع َملو َن﴾ [الصافات،]15 :
فاإلميان والكفر ،والطاعة واملعصية كلها بقضاء اهلل وقدره وإرادته ومشيئته ،غري
أنه يرضى اإلميان والطاعة ووعد عليهما الثواب ،وال يرضى الكفر واملعصية
وأوعد عليهما بالعقاب...
(أصول أهل السنة في كيفية اإليمان بالقضاء والقدر ،مع استعراض
لمذهب القدرية ولوازمه الفاسدة ،وبيان بطالنه)
قال شيخ اإلسالم :مذهب أهل السنة يف هذا الباب وغريه ما دل عليه
األولون من املهاجرين واألنصار ،والذين الكتاب والسنَّة ،وكان عليه السابقون َّ
اتبعوهم بإحسان وهو أن اهلل خالق كل شيء وربه ومليكه ،وقد دخل يف ذلك
مجيع األعيان القائمة بأنفسها ،وصفاهتا القائمة هبا ،من أفعال العباد ،وغري
أفعال العباد ،وأنه سبحانه ما شاء كان وما ل يشأ ل يكن ،فال يكون يف
الوجود شيء إالَّ مبشيئته وقدره ،ال ميتنع عليه شيء شاءه ،بل هو قادر على كل
شيء ،وال يشاء شيئًا إالَّ وهو قادر عليه ،وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون،
وما ل يكن لو كان كيف كان يكون ،فقد دخل يف ذلك أفعال العباد وغريها،
وقد قدَّر مقادير اْلالئق قبل أن خيلقهم ،قدر أرزاقهم وآجاهلم وأعماهلم ،وكتب
ذلك وكتب ما يصريون إليه من سعادة وشقاوة ،فهم يؤمنون خبلقه لكل شيء،
وقدرته على كل شيء ،ومشيئته لكل ما كان،
-919-
وعلمه باألشياء قبل أن تكون ،وتقديره هلا وكتابته إياها قبل أن تكون.
وغالة القدرية ينكرون علمه املتقدم وكتابته السابقة ،ويزعمون أنه أمر وهنى،
وهو ال يعلم من يطيعه ممن يعصيه ،بل األمر أنف ،أي :مستأنف .وهذا القول
أول ما حدث يف اإلسالم ،بعد انقراض عصر اْللفاء الراشدين ،وبعد إمارة
معاوية بن أيب سفيان ،يف زمن الفتنة ،اليت كانت بني ابن الزبري وبن أمية ،يف
آخر عصر عبد اهلل بن عمر ،وعبد اهلل بن عباس ،وغريمها من الصحابة.
وكان أول من ظهر ذلك عنه بالبصرة :معبد اجلهن ،فلما بلغ الصحابة قول
هؤالء تربءوا منهم ،وأنكروا مقالتهم ،مث ملا كثر خوض الناس يف القدر ،صار
مجهورهم يقر بالعلم املتقدم ،والكتاب السابق ،ولكن ينكرون عموم مشيئة اهلل،
وعموم خلقه وقدرته ،ويظنون أنه ال معى ملشيئته إالَّ أمره ،فما شاء فقد أمره به،
وما ل يشأ ل يأمر به ،فلزمهم أنه قد يشاء ما ال يكون ،ويكون ما ال يشاء.
قادرا عليها ،أو أن خي بعض خالقا ألفعال العباد ،أو ً وأنكروا أن يكون اهلل ً
عباده من النعم مما يقتضي إمياهنم به ،وطاعتهم له.
()1
ميكن اإلميان والعمل الصاحل وزعموا أن نعمته اليت مبا
على الكفار كأيب جهل ،وأيب هلب ،مثل نعمته بذلك على أيب بكر وعمر
وعثمان وعلي ،مبنزلة رجل دفع إىل والديه مبال قسمه بينهم بالسوية ،ولكن
هؤالء أحدثوا أعماهلم الصاحلة ،وهؤالء أحدثوا أعماهلم الفاسدة،
من غري نعمة خ َّ اهلل هبا املؤمنني ،وهذا قول باطل ،وقد قال
َسلَموا قل َّال ََتنُّوا َعلَ َّي إِ ْس َال َمكم ك أَ ْن أ ْ اهلل تعاىلَ﴿ :مينُّو َن َعلَْي َ
ني﴾ [احلجرات: ان إِن كنتم ِ ِ ب ِل اللَّه َمي ُّن علَيكم أَ ْن ه َداكم لِِْإلميَ ِ
صادق َ ْ َ َ ْ َْ ْ َ
ِ ِ ِ ِ
ب إلَْيكم ْاإلميَا َن َوَزيَّـنَه يف قـلوبِك ْم َوَكَّرَه إلَْيكم َّ ِ
.]94وقال﴿ :ك َّن اللهَ َحبَّ َ
-912-
ضالً ِّم َن اللَّ ِه َونِ ْع َمةً
الر ِاشدو َن * فَ ْ
ك هم َّ صيَا َن أ ْولَئِ َ الْك ْفر والْفس َ ِ
وق َوالْع ْ َ َ
َواللَّه َعلِيم َحكيم﴾ [احلجرات.]1 ،4 :
ِ
وقال ابن القيم ما معناه :مراتب القضاء والقدر أربع مراتب:
األولى :علم الرب سبحانه باألشياء قبل كوهنا.
الثانية :كتابة ذلك عنده يف األزل قبل خلق السموات واألرض.
الثالثة :مشيئته املتناولة لكل موجود ،فال خروج لكائن كما ال خروج له عن
علمه.
الرابعة :خلقه هلا وإجياده وتكوينه ،فاهلل خالق كل شيء ،وما سواه خملوق.
قال :وقال ابن عمر ،والذي نفس ابن عمر بيده لو كان ألحدهم مثل أحد
ذهبًا مث أنفقه يف سبيل اهلل ما قبله اهلل منه حىت يؤمن بالقدر .مث استدل بقول
النيب « :اإلميان أن تؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر ،وتؤمن
بالقدر خريه وشره» رواه مسلم...
(شبهة وجوابها)
فإن قلت :كيف قال« :وتؤمن بالقدر خريه وشره» ،وقد قال يف احلديث:
«والشر ليس إليك».
قيل :إثبات الشر يف القضاء والقدر إمنا هو باإلضافة إىل العبد ،واملفعول إن
مقدرا عليه ،فهو بسب جهله وظلمه وذنوبه ،ال إىل اْلالق ،فله يف ذلك كان ً
من احلِ َكم ما تقصر عنه أفهام البشر ،ألن الشر إمنا هو بالذنوب وعقوباهتا يف
الدنيا واآلخرة ،فهو شر باإلضافة إىل العبد ،أما باإلضافة إىل الرب سبحانه
وتعاىل ،فكله خري وحكمة ،فإنه صادر عن حكمه وعلمه ،وما كان كذلك
فهو خري حمض بالنسبة إىل الرب سبحانه وتعاىل ،إذ هو موجب
-913-
أمسائه وصفاته ،وهلذا قال« :والشر ليس إليك» ،أيَ :تتنع إضافته إليك
بوجه من الوجوه ،فال يضاف الشر إىل ذاته وصفاته ،وال أمسائه وال أفعاله ،فإن
ذاته منزهة عن كل شر ،وصفاته كذلك ،إذ كلها صفات كمال ،ونعوت
جالل ،ال نق فيها بوجه من الوجوه ،وأمساؤه كلها حسى ،ليس فيها اسم ذم
وال عيب ،وأفعاله حكمة ورمحة ومصلحة وإحسان وعدل ،ال خترج عن ذلك
ألبتة ،وهو احملمود على ذلك كله ،فتستحيل إضافة الشر إليه...
وحاصله :أن الشر راجع إىل مفعوالته ،ال إىل ذاته وصفاته ،ويتبَّني ذلك
مبثال -وهلل املثل األعلى :-لو أن مل ًكا من ملوك العدل كان معروفًا بقمع
مقيما للحدود والتعزيزات الشرعية على أرباب املخالفني وأهل الفسادً ،
خريا حيمده عليه امللوك ،وميدحه الناس ويشكرونه علىلعدوا ذلك ًأصحاهبا ،و ُّ
شرا
ذلك ،فهو خري بالنسبة إىل امللوك ،ميدح ويثى به ويشكر عليه ،وإن كان ً
بالنسبة إىل من أقيم عليه ،فرب العاملني أوىل بذلك ،ألن له الكمال املطلق من
مجيع الوجوه واالعتبارات.
أيضا فلوال الشر هل كان يعرف اْلري ،فإن الضد ال يعرف إالَّ بضده ،فإن
و ً
()1
ل حتط به خ ًربا فاذكر كالم ابن عقيل يف الباب الذي قبل هذا ،وأسلم
()2
تسلم ،واهلل أعلم» .
( )1قال ابن عقيل :الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلَّدة بالذهب والفضةً ،
ودارا مشيَّدة مملوءة
باْلدم والزينة؛ قال :انظر إىل إعطائهم مع سوء أفعاهلم ،وال يزال يعلنهم ويذم معطيهم حىت يقول:
فالن يصلي اجلماعات واجلمع ،وال يؤذي الذر ،وال يأخذ ما ليس له ،ويؤدي الزكاة إذا كان له
مال ،وحيج وجياهد ،وال ينال خلة بقلبه ،ويظهر اإلعجاب ،كأنه ينطق :إنه لو كانت الشرائع
فقريا؟ .اهـ.
ح ًقا ،لكان األمر خبالف ما ترى ،وكان الصاحل غنيًا ،والفاسق ً
(« )2تيسري العزيز احلميد».)451 – 452( :
-914-
المبحث الثاني
وجوب التسليم لقضاء اهلل ،ومقدوراته العامة
ينبغي :التسليم التام ملقدورات اهلل سبحانه بكل ما فيها من خري وشر،
فالقيام بالشكر ملا فيها من النعم ،والصرب على ما هبا من النقم.
وهذا مفرق طريق بني :املؤمنني واملنافقني يف اعتقادهم ،ومنهجهم،
وسلوكهم ،وصفاهتم.
الوهاب يف كتابه التوحيد ،والشيخ عبد الرمحن بن
قال الشيخ حممد بن عبد َّ
حسن ،رحم اهلل اجلميع ،يف شرحه عليه:
«باب ما جاء في اللو»
وقول اهلل تعاىل﴿ :يَـقولو َن لَْو َكا َن لَنَا ِم َن األ َْم ِر َش ْيء َّما قتِْلنَا َهاهنَا﴾ [آل
عمران.]964 :
[الشرح]
قوله باب ما جاء يف اللَّو ،أي :من الوعيد والنهي عن األمور املكروهة،
كاملصائب إذا جرى هبا القدر ،ملا فيه من اإلشعار بعدم الصرب واألسى على ما
فات ،مما ال ميكن استداركه.
فالواجب التسليم للقدر ،والقيام بالعبودية الواجبة ،وهو الصرب على ما
أصاب العبد مما يكره .واإلميان بالقدر أصل من أصول اإلميان الستة .وأدخل
املصنف رمحه اهلل تعاىل أداة التعريف على « يلو» ،وهذه يف هذا املقام ال تفيد
تعر ًيفا كنظائرها ،ألن املراد هذا اللفظ كما قال الشاعر:
ش ــدي ادا بأعب ــاء الخالف ــة كاهل ــه رأيـ ــت الوليـ ــد بـ ــن اليزيـ ــد مباراكـ ــا
وجل﴿ :يَـقولو َن لَْو َكا َن لَنَا ِم َن األ َْم ِر َش ْيء َّما قتِْلنَا
عز يوقوله ::وقول اهلل َّ
َهاهنَا﴾ [آل عمران.]964 :
قاله بعض املنافقني يوم أحد ْلوفهم وجزعهم وخورهم.
-916-
ين قَالواْ ِإل ْخ َواهنِِ ْم َوقَـ َعدواْ لَْو أَطَاعونَا َما قتِلوا﴾ [آل عمران: َّ ِ
وقوله﴿ :الذ َ
.]951
[الشرح]
(الفرق بين المؤمن والمنافق ساعة نزول البالء)
قال ابن إسحاق :فحدثن حييي بن عبَّاد بن عبد اهلل بن الزبري عن أبيه عن
عبد اهلل بن الزبري قال :قال الزبري« :لقد رأيتن مع رسول اهلل حني اشتد
اْلوف علينا أرسل اهلل علينا النوم ،فما منا رجل إالَّ ذقنه يف صدره ،قال :فواهلل
إي ألمسع قول معتب بن قشري ما أمسعه إالَّ كاحللم ،لو كان لنا من األمر شيء
وجل﴿ :يَـقولو َن لَْو َكا َن عز ي ما قتلنا هاهنا .فحفظتها منه ،ويف ذلك أنزل اهلل َّ
لَنَا ِم َن األ َْم ِر َش ْيء َّما قتِْلنَا َهاهنَا﴾ [آل عمران ،»]964 :لقول معتب :رواه
ابن أيب حام.
ب َعلَْي ِهم الْ َقْتل إِ َىل قال اهلل تعاىل﴿ :قل لَّو كنتم ِيف بـيوتِكم لَبـرز الَّ ِذ ِ
ين كت َ
ْ َ ََ َ ْ ْ
وجل، اجعِ ِه ْم﴾ [آل عمران ،]964 :أي هذا قدر مقدَّر من اهلل َّ مض ِ
عز ي َ َ
وحكم حتم الزم ال حميد عنه وال مناص منه.
ين قَالواْ ِإل ْخ َواهنِِ ْم َوقَـ َعدواْ لَْو أَطَاعونَا َما قتِلوا﴾ [آل عمران: َّ ِ
وقوله﴿ :الذ َ
.]951
ين قَالواْ ِإل ْخ َواهنِِ ْم َوقَـ َعدواْ لَْو أَطَاعونَا َما قتِلوا﴾ َّ ِ
قال العماد ابن كثري﴿ :الذ َ
[آل عمران ،]951 :أي :لو مسعوا مشورتنا عليهم بالعقود وعدم اْلروج ما
قتلوا مع من قتل .قال اهلل تعاىل ﴿ :ق ْل فا ْدرءوا ع ْن أنْـف ِسكم الْم ْوت إِ ْن كْنت ْم
ادقِين ﴾ [آل عمران ،]951 :أي :إذا كان القعود يسلم به الشخ من صِ
-915-
القتل واملوت ،فينبغي لكم أن ال َتوتوا ،واملوت ال بد آت إليكم ،ولو
كنتم يف بروج مشيدة ،فادفعوا عن أنفسكم املوت إن كنتم صادقني.
قال جماهد عن جابر بن عبد اهلل« :نزلت هذه اآلية يف عبد اهلل بن أيب
وأصحابه» ،يعن أنه هو الذي قال ذلك.
وأخرج البيهقي عن أنس أن أبا طلحة قال« :غشينا النعاس وحنن يف مصافِّنا
يوم أحد ،فجعل يسقط سيفي وآخذه ،ويسقط وآخذه .قال :والطائفة األخرى
-املنافقون -ليس هلا هم إالَّ أنفسهم ،أجنب قوم ،وأرعبه ،وأخذله للحق،
اهلِيَّ ِة﴾ [آل عمران ،]964 :إمنا هم أهل ريب اجل ِ ﴿يَظنُّو َن بِاللي ِه َغْيـَر ْ
احلَ ِّق ظَ َّن َْ
عز وجل. وشك باهلل َّ
قوله﴿ :قَ ْد أ ََمهَّْتـه ْم أَنفسه ْم﴾ [آل عمران ،]964 :يعن :ال يغشاهم
اهلِيَّ ِة﴾ [آل
اجل ِ النعاس من القلق واجلز واْلوف ﴿يَظنُّو َن بِاللي ِه َغْيـَر ْ
احلَ ِّق ظَ َّن َْ
عمران.]964 :
قال شيخ اإلسالم رمحه اهلل :ملا ذكر ما وقع من عبد اهلل بن أيب يف غزوة
أحد قال :فلما اخنذل يوم أحد ،وقال :يد رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان أو
كما قال :اخنذل معه خلق كثري ،كان كثري منهم ل ينافق قبل ذلك .فأولئك
()1
كانوا مسلمني وكان معهم إميان ،هو الضوء الذي ضرب اهلل به املثل .فلو
ماتوا قبل احملنة والنفاق ،ملاتوا على اإلسالم ،الذي يثابون عليه ،ول يكونوا من
حقا الذين ارتدوا حقا ،الذين امتحنوا فثبتوا على احملنة ،وال من املنافقني ً املؤمنني ً
عن اإلميان باحملنة.
وهذا حال كثري من املسلمني يف زماننا أو أكـثرهم ،إذا ابتلوا باحملنة
-914-
كثريا وينافق كثري منهم،
اليت يتضعضع فيها أهل اإلميان؛ بنق إمياهنم ً
ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالبًا ،وقد رأينا ورأى غرينا من هذا ما فيه
عربة.
وإذا كانت العافية ،أو كان املسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمني،
وظاهرا ،لكنه إميان ال يثبت على احملنة ،وهلذا يكثر يف
ً باطنا
وهم مؤمنون بالرسل ً
هؤالء ترك الفرائض وانتهاك احملارم ،وهؤالء من الذين قالوا آمنا ،فقيل هلم﴿ :قل
اإلميَان ِيف قـلوبِك ْم﴾ [احلجرات،]94 : ِ ِ
َّلْ تـ ْؤمنوا َولَكن قولوا أ ْ
َسلَ ْمنَا َولَ َّما يَ ْدخ ِل ِْ
حقا ،فإن هذا هو اإلميان إذا أطلق
أي :اإلميان املطلق ،الذي أهله هم املؤمنون ً
يف كتاب اهلل تعاىل ،كما دل عليه الكتاب والسنَّة .فلم حيصل هلم ريب عند
احملن ،اليت تقلقل اإلميان يف القلوب .انتهى.
قوله :وقد رأينا ورأي غرينا من هذا ما فيه عربة.
قلت :وحنن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عربة عند غلبة العدو ،من إعانتهم
العدو على املسلمني ،والطعن يف الدين ،وإظهار العداوة والشماتة ،وبذل اجلهد
يف إطفاء نور اإلسالم ،وذهاب أهله ،وغري ذلك مما يطول ذكره .واهلل
()1
املستعان» .
-911-
المبحث الثالث
ثمرات اإليمان بالقضاء والقدر
قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه اهلل:
«إن من أعظم مثرات اإلميان بالقضاء والقدر:
صحة إميان الشخ بتكامل أركانه ،ألن اإلميان بذلك من أركان اإلميان
الستَّة ،اليت ال يتحقق إالَّ هبا؛ كما دل على ذلك الكتاب والسنَّة.
ومن مثرات اإلميان بالقضاء والقدر :طمأنينة القلب وارتياحه ،وعدم القلق
يف هذه احلياة ،عندما يتعرض اإلنسان ملشاق احلياة؛ ألن العبد إذا علم أن ما
يصيبه فهو مقدَّر ال بد منه ،وال ر َّاد له ،واستشعر قول الرسول « :واعلم أن
ما أصابك ل يكن ليخطئك ،وما أخطأك ل يكن ليصيبك»؛ فإنه عند ذلك
تسكن نفسه ويطمئن باله؛ خبالف من ال يؤمن بالقضاء والقدر؛ فإنه تأخذه
يتربم باحلياة ،وحياول اْلالص منها ،ولو اهلموم واألحزان ،ويزعجه القلق ،حىت َّ
وتشاؤما
ً باالنتحار؛ كما هو مشاهد من كثرة الذين ينتحرون فر ًارا من واقعهم،
من مستقبلهم؛ ألهنم ال يؤمنون بالقضاء والقدر؛ فكان تصرفهم ذلك نتيجة
حتمية لسوء اعتقادهم...
ومن مثرات اإلميان بالقضاء والقدر :الثبات عند مواجهة األزمات ،واستقبال
مشاق احلياة بقلب ثابت ،ويقني صادق ،ال تزلزله األحداث ،وال هتزه األعاصري؛
ألنه يعلم أن هذه احلياة دار ابتالء وامتحان وتقلب؛ كما قال تعاىل﴿ :الَّ ِذي
َع َمالً﴾ َح َسنأْ أَيُّك ْم لِيَْبـل َوك ْم احلَيَا َة
َو ْ ت
الْ َم ْو َ َخلَ َق
[امللك.]2 :
اه ِدين ِمنكم و َّ ِ ِ
الصاب ِر َ
ين َونَـْبـل َو ْ َ وقال تعاىلَ ﴿ :ولَنَْبـل َونَّك ْم َح َّىت نَـ ْعلَ َم الْم َج َ
َخبَ َارك ْم﴾ [حممد.]39 : أْ
-911-
كم جرى على رسول اهلل ،وعلى صحابته ،من احملن والشدائد لكنهم
واجهوها باإلميان الصادق ،والعزم الثابت ،حىت اجتازوها بنجاح باهر ،وما ذاك
صيبَـنَا إِالَّ َما إالَّ إلمياهنم بقضاء اهلل وقدره ،واستشعارهم لقوله تعاىل﴿ :قل لَّن ي ِ
ب الليه لَنَا ه َو َم ْوالَنَا َو َعلَى اللي ِه فَـْليَتَـ َوَّك ِل الْم ْؤِمنو َن﴾ [التوبة.]69 : َكتَ َ
ومن مثرات اإلميان بالقضاء والقدر :حتويل احملن إىل منح ،واملصائب إىل
صيبَة إِالَّ بِِإ ْذ ِن اللَّ ِه َوَمن يـ ْؤِمن بِاللَّ ِه يَـ ْه ِدأجر؛ كما قال تعاىل﴿ :ما أَصاب ِمن ُّم ِ
َ َ َ
قَـْلبَه َواللَّه بِك ِّل َش ْيء َعلِيم﴾ [التغابن]99 :؛ قال علقمة« :هو الرجل تصيبه
املصيبة ،فيعلم أهنا من عند اهلل ،فريضى ويسلِّم»...
ومن مثرات اإلميان بالقضاء والقدر :أنه يدفع اإلنسان إىل العمل واإلنتاج
والقوة والشهامة ،فاجملاهد يف سبيل اهلل ميضي يف جهاده ،وال يهاب املوت؛ ألنه
يعلم أن املوت ال بد منه ،وأنه إذا جاء ال يؤخر ،ال مينع منه حصون وال جنود
ككم الْ َم ْوت َولَْو كنت ْم ِيف بـروج ُّم َشيَّ َدة﴾ [النساء،]41 : ﴿أَيْـنَما تَكونواْ ي ْد ِر ُّ
َ
ضاجعه ْم﴾ [آل ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َّ ِ ِ َّ
ب َعلَْيهم الْ َقْتل إ َىل َم َ ين كت َ ﴿قل ل ْو كنت ْم يف بـيوتك ْم لَبَـَرَز الذ َ
عمران.]964 :
وهكذا حينما يستشعر اجملاهد هذه الدفعات القوية ،من اإلميان بالقدر،
ميضي يف جهاده ،حىت يتحقق النصر على األعداء ،وتتوفر القوة لإلسالم
()1
واملسلمني» .
-255-
ملخص مفيد
ألهم مسائل ،وفوائد الباب األول
ـ «لقد» عال الشرك األرض ،من أقصاها إىل أقصاها ،قبيل قيام دعوة الشيخ
اجملدد اإلمام /حممد بن عبد الوهاب «رمحه اهلل تعاىل».
ـ «من» أعظم أسباب عودة الشرك :دوران الناس مع األلفاظ اجملردة ،دون
الوقوف مع املعاي ،اليت ترتبت عليها األحكام ،وأناطها هبا الشار
احلكيم.
ـ «اإلسالم» :هو االستسالم هلل بالتوحيد ،واالنقياد له بالطاعة ،والرباءة من
الشرك وأهله.
ـ «جمرد» اإلتيان بلفظ الشهادة ،من غري علم مبعناها ،وال عمل مبقتضاها،
مسلما باإلمجا .
ال يكون به املكلف ً
مسلما ،حىت يلتزم بتوحيد
ـ «اإلقرار بتوحيد الربوبية» ،ال يكون اإلنسان به ً
األلوهية ،الذي يتميز به املسلم عن املشرك.
ـ «ال يصح دين اإلسالم» إال بالرباءة من الطواغيت املعبودة من دون اهلل،
وتكفريهم.
* * *
ـ «اإلله» :هو املعبود .هذا هو معناه املعروف بإمجا أهل العلم.
ـ «العبادة» :اسم جامع لكل ما حيبه اهلل ،من األقوال واألعمال ،الباطنة
والظاهرة.
ـ «العبادة» :هي التوحيد ،ألن اْلصومة بني الرسل -صلوات اهلل وسالمه
عليهم -وأممهم كانت فيه.
-259-
ـ «العبادة» ال تسمى عبادة إال مع التوحيد ،وال حتصل إال بالكفر
بالطاغوت ،فإذا خالطها الشرك أفسدها ،ألن اجتنابه شرط يف صحتها.
ـ «من خصائ اإلهلية» :الكمال املطلق من مجيع الوجوه ،الذي ال نق
فيه حبال؛ وذلك يقتضي إفراد اهلل بالعبادة وحده دون ما سواه.
وشرعا ،وفطرة .والشرك :مستقر ـ «إفراد اهلل بالعبادة» ،ثابت هلل عقالًً ،
قبحه يف كل فطرة وعقل ،وحمال أن جتيء به شريعة من الشرائع.
ـ «أصول التوحيد» العاصمة من الشرك والتنديد ،قد اتفقت عليها
الرساالت ،وتطابقت عليها النبوات ،ومن مثي فال يسع أي عبد فيها إال
االتبا احملض ،دون االبتدا واالجتهاد.
ـ «من» عبد غري اهلل فهو مشرك ،ولو نطق بـ «ال إله إال اهلل» ،ألنه تكلم
دل عليه ،ول يقم مبا يقتضيه من التوحيد مبا ل يعمل به ،ول يعتقد ما ي
واإلخالص.
ـ «الصدق واإلخالص متالزمان» ،ال يوجد أحدمها بدون اآلخر .فمن ل
خملصا فهو مشرك ،ومن ل يكن صادقًا فهو منافق.
يكن ً
* * *
ـ «حاجة» الناس إىل الرسل ضرورية ،إذ ال ميكن معرفة تفاصيل األوامر،
والنواهي ،وعامة الشرائع إال عن طريقهم.
ـ إذا ذهبت آثار الرسالة من األرض ،أقام اهلل القيامة.
ـ «الغاية» من إرسال الرسل :إفرادهم وحدهم بالطاعة املطلقة واملتابعة ،فإذا
كانت الطاعة لغريهم ،ل حتصل الفائدة املقصودة من إرساهلم.
ـ «التوحيد» يتضمن ،ويستلزم :حتكيم الرسول يف كل موارد النزا ،وهذا
هو مقتضى الشهادتني ،والزمها ،الذي ال بد منه.
-252-
ـ «التحاكم» إىل غري الرسول مفسد ومبطل لإلميان به.
ـ «لقد» حسم النيب كل وسائل ،ومواد الشرك ،ليبقى التوحيد ً
خالصا.
ـ «بعث» النيب بأشد الشرائع يف التوحيد ،وأمسحها يف العمل.
ـ شام الرسول كافر باإلمجا ،ومن شك يف كفره كفر.
ـ «من» أبغض شيئًا مما جاء به الرسول كفر ولو عمل به.
ـ «من اعتقد» :أن بعض الناس يسعه اْلروج عن شريعة حممد بن عبد اهلل
فقد كفر ،وخلع ربقة اإلسالم عن عنقه.
ـ «أمجع» العلماء :على كفر من استهزأ باهلل ،أو بكتابه ،أو برسوله ،أو
بدينه ،ولو كان هازالً ،ول يعتقد حقيقة االستهزاء.
* * *
باملعصية ،وحمله :القلب ـ «اإلميان» قول وعمل ،يزيد بالطاعة وينق
معا بإمجا السلف. واجلوارح ً
ـ «األعمال» داخلة يف مسمى اإلميان ،بإمجا الصحابة ،والتابعني.
ـ «األعمال الصاحلة» على اجلوارح ،تكون على قدر ما يف القلب من
اإلميان.
ـ «اإلميان املطلق» ،الذي يستحق صاحبه اجلنة ،والنجاة من النريان هو:
فعل الواجبات وترك احملرمات.
وظاهرا ،مع
ً ـ «مطلق اإلميان» :اإلتيان باألركان اْلمسة ،والعمل هبا باطنًا
اإلخالل ببعض الواجبات؛ وهذا اإلميان جيعل صاحبه يف املشيئة اإلهلية.
ـ «التوحيد» :هو أصل اإلميان وأساسه ،الذي تصلح به مجيع األعمال،
وتفسد بفساده بإمجا املسلمني .ويف هذا األصل وقع النزا ،وله شر
اجلهاد ،وبه انقسم العباد إىل مؤمنني وكافرين.
-253-
ـ «اإلميان» له أصل وشعب .فأصله التوحيد .وشعبه :الطاعات .و«الكفر»
له أصل وشعب .فأصله :الشرك .وشعبه :املعاصي.
ـ «من» سوى بني أصل اإلميان وشعبه ،أو أصل الكفر وشعبه ،يف األمساء
واألحكام ،فهو خمال للكتاب والسنة ،وخارج عن سبيل سلف األمة،
وداخل يف عموم أهل البد واألهواء.
مؤمنا ،حىت
ـ «ال يلزم» من قيام شعبة من شعب اإلميان بعبد أن يكون ً
كافرا ،حىت
يقوم به أصله؛ وال من قيام شعبة من شعب الكفر أن يكون ً
يقوم به أصله.
ـ «االستثناء» يف اإلميان جائز باعتبارين :باعتبار املوافاة .وباعتبار اإلخالل
يف العمل.
ـ «االستثناء» يف اإلميان ش ًكا حمرم بإمجا املسلمني.
ـ «كلما» ازداد العيد إميانًا ،قوي خوفه من الكفر والنفاق ،وعلى حسب
ضعفه يكون أمنه من سوء اْلاَتة.
* * *
ـ «الطاغوت» :ما جتاوز به العبد ح يده ،من معبود ،أو متبو ،أو مطا .
فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غري اهلل ورسوله أو يعبدونه من
دون اهلل ،أو يتبعونه على غري بصرية من اهلل أو يطيعونه فيما ال يعلمون
أنه طاعة هلل.
ـ «حتكيم» القوانني الوضعية :حتكيم للطاغوت.
ـ «النظم املخالفة لشر اهلل» اليت وضعت للتحاكم إليها ،مضاهاة لتشريع
اهلل ،داخلة يف معى الطاغوت.
ـ «صفة الكفر بالطاغوت» :أن تعتقد بطالن عبادة غري اهلل ،وترتكها،
وتبغض
-254-
أهلها ،وتعاديهم.
ـ «كل» من حكم بغري شر اهلل فهو« :طاغوت».
ـ «ال» يصح دين اإلسالم إال بالرباءة من الطواغيت ،وتكفريهم.
ـ «من» مدح الطواغيت ،أو جادل عنهم ،خرج من اإلسالم ،ولو كان
قائما.
صائما ً
ً
ـ «من» عرف معى «ال إله إال اهلل» ،عرف :أن من شك ،أو تردد يف كفر
من أشرك مع اهلل غريه ،أنه ل يكفر بالطاغوت.
ـ «التوحيد» :هو الكفر بكل طاغوت معبود من دون اهلل.
ـ «التحاكم» إىل الطاغوت ،إميان به.
ـ «من» أطا العلماء واألمراء يف حترمي ما أحل اهلل ،أو حتليل ما حرمه اهلل،
فقد اختذهم أربابًا من دون اهلل.
ـ «إذا» كانت احلكومة حتكم بغري ما أنزل اهلل ،فهي حكومة غري إسالمية.
ـ «من» ل يرد مسائل النزا إىل الكتاب والسنة ،فليس مبؤمن حقيقة ،بل
مؤمن بالطاغوت ،إلخالله بشرط من شروط اإلميان.
ـ «الذين» جعلوا القوانني الوضعية ،برتتيب وختضيع كفار ،وإن قالوا:
أخطأنا ،وحكم الشر أعدل.
ـ «التشريع» حق هلل وحده ،فمن احتكم إىل غري شر اهلل ،من سائر
األنظمة ،والقوانني البشرين ،فقد اختذ أصحاهبا شركاء هلل يف تشريعه.
ـ «من» دعي إىل حتكيم الكتاب والسنة فأىب ،كان من املنافقني.
ـ «من» دعا إىل حتكيم القوانني البشرية ،فقد جعل له شري ًكا يف الطاعة
والتشريع.
موحدا ،ألنه اختذ شري ًكا يف الطاعة
ـ «من» حكم القوانني البشرية ل يكن ً
-256-
والتشريع ،ول يكفر بالطاغوت ،بل آمن به.
ـ «من» خرج عن حكم اهلل ،وعدل إىل ما سواه من القوانني الطاغوتية،
وجعلها شريعة مقدمة على الكتاب والسنة يف احلكم ،فهو كافر جيب
قتاله ،حىت يرجع إىل حكم اهلل وحده يف القليل والكثري.
ـ «كل» من حكم بغري شر اهلل ،أو حاكم إىل غريه ،فقد حكم
بالطاغوت ،وحاكم إليه.
ـ «البلد» الذي حيكم فيه بالقانون الوضعي ،ليس بلد إسالم ،وجيب اهلجرة
منه على املستطيع.
ـ «من» حكم القانون البشري ،وقال :اعتقد أنه باطل ،فهذا ال أثر له ،بل
هو عزل للشر ،كمن عبد األوثان ،واعتقد بطالهنا.
ـ «كل» دولة ال حتكم بشر اهلل ،وال تنصا ألمره ،فهي :دولة جاهلية،
كافرة ،ظاملة ،فاسقة ،بن اآليات احملكمات؛ وجيب على املسلمني
بغضها ومعاداهتا ،وحيرم عليهم مودهتا ومواالهتا.
ـ «جمرد» االعتصام باإلسالم ،مع عدم التزام شرائعه ،ليس مبسقط للقتال،
بل القتال واجب حىت يكون الدين كله هلل ،وحىت ال تكون فتنة.
ـ «اتفق العلماء» بغري خالف بينهم على أن :كل طائفة ممتنعة عن التزام
شرائع اإلسالم ،الظاهرة املتواترة ،فإنه جيب قتاهلم حىت يلتزموا شرائعه،
وإن كانوا مع ذلك ناطقني بالشهادتني ،وملتزمني بعض شرائعه.
* * *
ـ «من نواقض التوحيد» :مواالة املشرك ،والركون إليه ،ونصرته ،وإعانته
باليد ،أو اللسان ،أو املال.
وخلفا ،من الصحابة ،والتابعني ،واألئمة ،ومجيع أهل
سلفا ً ـ «أمجع العلماء» ً
مسلما ،إال بالتجرد من الشرك األكرب ،والرباءة
السنة :أن املرء ال يكون ً
منه ،وممن فعله.
-255-
ـ «أصل دين اإلسالم وقاعدته» أمران :األمر بعبادة اهلل وحده ،والتحريض
على ذلك واملواالة فيه ،وتكفري من تركه ،والنهي عن الشرك باهلل يف
عبادته ،والتغليظ فيه ،واملعاداة فيه ،وتكفري من فعله.
ـ «ما جنا» من َشَرك هذا الشرك األكرب ،إال من جرد توحيده له ،وتقرب
مبقت املشركني إىل اهلل.
ـ «من قال» :ال أعادي املشركني ،أو عاداهم ول يكفرهم ،فهذا ال يكون
مسلما.
ً
ـ «مظاهرة املشركني» ،ومعاونتهم على املسلمني ،من نواقض اإلسالم ،والردة
عن الدين.
موحدا ،وتارًكا
ً ـ «من قاتل» مع املشركني ضد املسلمني كفر ،ولو كان
للشرك.
ـ «من أعان» املشركني على املسلمني ،وأمدهم من ماله ،مبا يستعينون به
على حرهبم ،فقد كفر.
ـ «حمبة املشركني» ،ونصرهتم على املسلمني ،مكفر خمرج عن امللة.
ـ «كل من أقام بني أظهر املشركني ،وهو قادر على اهلجرة ،وليس متمكنًا
من إقامة الدين ،فهو مرتكب حر ًاما باإلمجا .
* * *
ـ «من اإلميان باهلل» :اإلميان مبا وصف به نفسه يف كتابه ،وعلى لسان
رسوله ،من غري حتريف ،وال تعطيل ،وال تكييف ،وال َتثيل.
ـ «من» شبه اهلل خبلقه فقد كفر ،ومن جحد ما وصف اهلل به نفسه فقد
كفر.
-254-
ـ «إنا نقر» آيات الصفات ،وأحاديثها على ظاهرها ،ونكل معناها ،مع
اعتقاد حقائقها إىل اهلل تعاىل.
* * *
ـ «ال يتم» اإلميان بالربوبية إال بإثبات القدر.
ـ «من» أركان اإلميان :اإلميان بالقضاء والقدر.
ـ اإلميان والكفر ،والكطاعة واملعصية ،كلها بقضاء اهلل وقدره ومشيئته
وإرادته ،غري أنه يرضى اإلميان والكاعة ،ووعد عليها الثواب ،وال يرضى
الكفر واملعصية ،وأوعد عليهما العقاب.
ـ «مراتب» اإلميان بالقضاء والقدر ،أربع مراتب:
األوىل :علم الرب سبحانه باألشياء قبل كوهنا.
الثانية :كتابة ذلك عنده يف األزل ،قبل خلق السماوات واألرض.
الثالثة :مشيئته املتناولة لكل موجود ،فال خروج لكائن عنها ،كما ال خروج
له عن علمه.
الرابعة :خلقه هلا ،وإجياده ،وتكوينه .فاهلل خالق كل شيء ،وما سواه
خملوق.
ـ «يستحيل» إضافة الشر إىل اهلل سبحانه ،ملوجب أمسائه احلسى وصفاته
العال ،وألنه احملمود -جل يف عاله -على كل حال.
* * *
-251-
الباب الثاني
الشرك والمشركون
حد الشرك ودرجاته وأنواعه وأحكامه ،مع بيان علَّة ُّ : الفصل األول
عدم مغفرته ،ووجوب احلذر منه.
الفصل الثاي :العلم سبيل النجاة من الشرك ،وإالَّ وقع باجلهل والتلبيس
وتغيري احلقائق.
الرد على أشهر
الفصل الثالث :الفتنة بالقبور واملفاسد املرتتبة عليها ،مع ِّ
شبهات أهلها.
الفصل الرابع :الشفاعة وأنواعها وشروطها ،وأسباب حتصيلها وموانع
احلرمان منها.
الفصل اْلامس :املشرك مغبون يف دينه إلخالله بكل قيود الكلمة العاصمة
إالَّ َّ
جمرد التلفُّظ هبا.
الفصل السادس :أشهر شبهات املشركني وعلمائهم ،مع سهام الردود
عليها.
الفصل السابع :األدلة اجللية من الشريعة الربَّانية على كفر من عبد غري
اهلل تعاىل.
الفصل الثامن :علَّة قتال املشركني ووجوب الرباءة منهم ،وحكم الدار إذا
غلبت عليها أحكام الشرك.
-251-
-295-
الفصل األول
حد الشرك ودرجاته وأنواعه وأحكامه
مع بيان علة عدم مغفرته ،ووجوب الحذر منه
-299-
-292-
المبحث األول
تعريف الشرك
-293-
المبحث الثاني
الشرك أكبر الكبائر ،وبيان علة عدم مغفرته
الشرك أكرب الكبائر ملنافاته احلكمة املقصودة من إجياد اْللق ،ويقع مع
التنق جبناب الرب سبحانه ،بل وترتتَّب اجلهل ،وختلف قصد السوء ،وإرادة ُّ
التقرب به إىل اهلل زلفى...
أحكامه عليه ،مع زعم ُّ
حد املغفرة -اليت وسعت السماوات واألرض،- فكيف خرج بكل هذا عن ِّ
وأصبح من أشنع الذنوب اليت يعصى هبا اهلل سبحانه؟
الرد على مجرمقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن -في معرض ِّ
محرفاا بكالم اإلمام ابن القيم رحمه اهلل تعالى على التهوين من
أثيم يستدل ِّ
أمر الشرك والمشركين :-قال اإلمام ابن القيم رحمه اهلل:
أن املشرك إمنا قصد تعظيم جناب الرب سبحانه ووقعت مسألة؛ وهي َّ
وتعاىل ،وأنه لعظمته ال ينبغي ملثلي الدخول عليه إالَّ بالوسائط والشفعاء ،كحال
امللوك ،واملشرك ل يقصد االستهانة جبناب الرب ،وإمنا قصد تعظيمه ،فلم كان
وموجبا لسفك
ً وخملدا يف النار،
هذا القدر موجبًا لسخطه وغضبه تبارك وتعاىلً ،
دماء أصحابه ،واستباحة حرميهم وأمواهلم؟.
ويرتتَّب على هذا سؤال آخر ،وهو أنه هل جيوز أن يشر اهلل سبحانه
التقرب إليه بالشفعاء والوسائل ،ليكون حترمي هذا إمنا استفيد من
وتعاىل لعباده ُّ
الشر ،أم ذلك قبيح يف الفطر والعقول ميتنع أن تأيت به شريعة؟ بل جاءت
الشريعة بتقرير ما يف الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح.
وأما الشرك يف كونه ال يغفر من بني الذنوب ،فأجاب عن هذا كله بقوله:
فنقول وباهلل التوفيق والتأييد ،ومنه نستمد العون والتسديد :فإنـه من
-294-
يهدي اهلل فال مضل له ،ومن يضلل فال هادي له ،وال مانع ملا أعطى ،وال
معطي ملا منه.
(أنواع الشرك):
الشرك :شرك يتعلَّق بذات املعبود وأمسائه وصفاته وأفعاله ،وشرك يف عبادته
ومعاملته ،وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه وتعاىل ال شريك له يف ذاته وال يف
صفاته ،وال يف أفعاله .والشرك األول نوعان:
أحدهما :شرك التعطيل ،وهو أقبح أنوا الشرك ،كشرك فرعون ،إذ قال:
ص ْر ًحا لَّ َعلِّي ِ
ني﴾ [الشعراء ،]23 :وقال﴿ :يَا َه َامان ابْ ِن ِيل َ ب الْ َعالَم َ
﴿ َوَما َر ُّ
وسى َوإِ ِّي ألَظنُّه َك ِاذبًا﴾ أَبـلغ األَسباب * أَسباب َّ ِ ِ ِ ِ ِ
الس َم َاوات فَأَطَّل َع إ َىل إلَه م َ َْ َ َْ َ ْ
[غافر.]34 ،35 :
والشرك والتعطيل متالزمان :فكل مشرك معطِّل ،وكل معطِّل مشرك ،لكن
مقرا باحلق سبحانه وتعاىل الشرك ال يستلزم أصل التعطيل ،بل قد يكون املشرك ً
وصفاته ،ولكنه عطَّل حق التوحيد....
النوع الثاني :شرك من جعل مع اهلل إهلًا آخر ،ول يعطل أمساءه وصفاته
وربوبيته ،كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثالثة فجعلوا املسيح إهلًا وأمه
إهلًا....
أمرا ،فإنه يصدر أخف ً وأما الشرك يف العبادة فهو أسهل من هذا الشرك و ي
وجل،
عز ي يضر وينفع ويعطي ومينع إالَّ اهلل َّ
ممن يعتقد أنه ال إله إالَّ اهلل .وأن ال ي
رب سواه .ولكن ال خيل هلل معاملته وعبوديَّته ،بل يعمل وأنه ال إله غريه ،وال ي
حلظ نفسه ،ولطلب الدنيا تارة ،ولطلب الرفعة واملنزلة واجلاه عند اْللق تارة ،فللَّه
تعاىل من عمله وسعيه نصيب...
وهذا الشرك ينقسم إىل مغفور ،وأكرب ،وأصغر.
والنو األول ينقسم إىل كبري وأكرب ،وليس شيء منه مغفور.
-296-
فمنه :الشرك باهلل يف احملبة والتعظيم :أن حيب خملوقًا كما حيب اهلل ،قال
ب َنداداً ِحيبُّونَـه ْم َكح ِّ
ون اللي ِه أ َ
َّخذ ِمن د ِ
َّاس من يـت ِ ِ
سبحانه وتعاىل فيهَ ﴿ :وم َن الن ِ َ َ
َش ُّد حبًّا لِّلي ِه﴾ [البقرة ،]956 :وقال أصحاب هذا الشرك ِ َّ ِ
ين َآمنواْ أ َ
الليه َوالذ َ
ضالَل ُّمبِني * إِ ْذ ِ ِ
آلهلتهم يوم القيامة وقد مجعتهم اجلحيم﴿ :تَاللَّه إِن كنَّا لَفي َ
ني﴾ [الشعراء....]11 ،14 : نس ِّويكم بِر ِّ ِ
ب الْ َعالَم ََ َ
فعدل املشرك َمن خلق السموات واألرض وجعل الظلمات والنور ،مبن ال
ذرة يف السموات وال يف األرض ،فيا له من عدل ميلك لنفسه وال لغريه مثقال َّ
تضمن أكرب الظلم وأقبحه. َّ
ويتبع هذا الشرك :الشرك به سبحانه وتعاىل يف األفعال واألقوال ،واإلرادات
والنيات ،والشرك يف األفعال :كالسجود لغريه ،والطواف بغري بيته ،وحلق الرأس
وخضوعا لقربه ،وتقبيل األحجار غري احلجر األسود الذي هو ميينه يف ً عبودية
األرض ،أو تقبيل القبور واستالمها ،والسجود هلا ،وقد لعن النيب من َّاختذ
قبور األنبياء والصاحلني مساجد يصلي هلل تعاىل فيها ،فكيف مبن َّاختذها أوثانًا
يعبدها من دون اهلل؟...
ومن الشرك به سبحانه وتعاىل :الشرك يف اللفظ ،كاحللف بغري اهلل ،كما
صححه احلاكمروى أمحد وأبو داود عنه « :من حلف بغري اهلل فقد أشرك»َّ ،
وابن حبان ،ومن ذلك قول القائل للمخلوق :ما شاء اهلل وشئت ،كما ثبت عن
النىب أنه قال له رجل :ما شاء اهلل وشئت ،فقال« :أجعلتن هلل ً
ندا؟ قل :ما
شاء اهلل وحده»....
وقل من
وأما الشرك يف اإلرادات والنييات ،فذلك البحر الذي ال ساحل لهَّ ،
التقرب إليه،
ينجو منه ،فمن أراد بعمله غري وجه اهلل تعاىل ،أو نوى شيئًا غري ُّ
وطلب اجلزاء منه ،فقد أشرك يف نيته وإرادته.
-295-
واإلخالص أن خيل هلل يف أقوال وأفعاله وإرادته ونيِّته .وهذه هي احلنيفية
ملَّة إبراهيم اليت أمر اهلل هبا عباده كلهم ،وال يقبل من أحد غريها ،وهي
حقيقة اإلسالم﴿ :ومن يـبت ِغ َغيـر ا ِإلسالَِم ِدينًا فَـلَن يـ ْقبل ِمْنه وهو ِيف ِ
اآلخَرِة ِم َن ََ َ َ َ َ ََْ ْ َ ْ
ين﴾ [آل عمران ،]16 :وهي ملَّة إبراهيم اليت َمن رغب عنها فهو أسفه ْ ِ
اْلَاس ِر َ
السفهاء.
فإذا عرفت هذه املقدمة ،انفتَح لك باب اجلواب عن السؤال املذكور ،فنقول
ومن اهلل تعاىل نستمد الصواب:
-294-
بوجه من الوجوه ،وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده ،والتعظيم
واإلجالل واْلشية والدعاء والرجاء واإلنابة والتوُّكل واالستعانة ،وغاية ي
الذل مع
غاية احلب.
(الفطرة والعقل ،والشر ،يدلُّون على وجوب التوحيد ،واستحالة تشريع
الشرك)
وشرعا ،وفطرة أن يكون هلل وحده ،وميتنع عقالً
كل ذلك ،جيب عقالً ً
وشرعا وفطرة أن يكون لغريه.
ً
فمن جعل شيئًا من ذلك لغريه فقد شبه ذلك الغري مبن ال شبيه له ،وال مثل
وتضمنه غاية الظلم ،أخربُّ له ،وذلك أقبح التشبيه وأبطله .ولشدَّة قبحه،
سبحانه وتعاىل عباده أنه ال يغفره ،مع أنه كتب على نفسه الرمحة.
ومن خصائ اإلهلية :العبودية اليت قامت على ساقني ،ال قوام هلا بدوهنما:
الذل .هذا َتام العبودية ،وتفاوت منازل اْللق فيها حبسبغاية احلب مع غاية ي
تفاوهتم يف هذين األصلني.
فمن أعطى حبيه وذليه وخضوعه لغري هلل فقد شبَّهه به يف خال ح يقه ،وهذا
من احملال أن جتيء به شريعة من الشرائع ،وقبحه مستقر يف كل فطرة وعقل،
غريت الشياطني فطر أكثر اْللق وعقوهلم ،وأفسدهتا عليهم ،واجتالتهم ولكن َّ
عنها ،ومضى على الفطرة األوىل من سبقت هلم من اهلل احلسى ،فأرسل إليهم
نورا على
رسله ،وأنزل عليهم كتبه مبا يوافق فطرهتم وعقوهلم ،فازدادوا بذلك ً
نورهم يهدي اهلل لنوره من يشاء....
(سبب الشرك :سوء الظن باهلل وكماله المطلق ،وذلك أعظم الذنوب
عند اهلل سبحانه)
تبني هذا فهنا أصل عظيم ،يكشف سر املسـألة ،وهـو أ ين أعـظمإذا َّ
-291-
ظن به فإن املسيء به الظن ،قد َّ الذنوب عند اهلل تعاىل هو :إساءة الظن بهَّ ،
توعد سبحانه فظن به ما يناقض أمساءه وصفاته ،وهلذا َّ خالف كماله املقدَّسَّ ،
يتوعد به غريهم ،كما قال تعاىلَ ﴿ :علَْي ِه ْم وتعاىل الظانِّني به ظن السوء مبا ل َّ
اءت م ِ دائِرة َّ ِ ِ
ص ًريا﴾ َّم َو َس ْ َ ب اللَّه َعلَْي ِه ْم َولَ َعنَـه ْم َوأ َ
َع َّد َهل ْم َج َهن َ الس ْوء َو َغض َ ََ
[الفتح.]5 :
وقد قال تعاىل ملن أنكر صفة من صفاتهَ ﴿ :و َذلِك ْم ظَنُّكم الَّ ِذي ظَنَنتم
بِربِّكم أَرداكم فَأَصبحتم ِّمن ْ ِ
ين﴾ [فصلت ]23 :وقد قال تعاىل عن اْلَاس ِر َ ْ َ ْ ْ َ ْ َْ ْ
خليله إبراهيم ﴿ :إِ ْذ قَ َال ِألَبِ ِيه َوقَـ ْوِم ِه َما َذا تَـ ْعبدو َن * أَئِْف ًكا ِآهلَةً دو َن اللَّ ِه
ني﴾ [الصافات.]14 – 16 : ت ِريدو َن * فَما ظَنُّكم بِر ِّ ِ
ب الْ َعالَم َ َ َ
أي :فما ظنكم أن جيازيكم إذا لقيتموه ،وقد عبدم غريه؟!! ،وما ظنكم
بأمسائه وصفاته وربوبيته من النق ،حىت أحوجكم ذلك إىل عبودية غريه؟!!،
كل شيء قدير ،وأنه بكل شيء عليم ،وعلى ِّ فلو ظننتم به ما هو أهله :من أنَّه ِّ
غن عن كل ما سواه ،وكل ما سواه فقري إليه ،وأنه قائم بالقسط على خلقه؛
وأنه املنفرد بتدبري خلقه ال يشركه فيه غريه ،والعال بتفاصيل األمور فال ختفى
عليه خافية من خلقه ،والكايف هلم وحده ال حيتاج إىل معني ،والرمحن بذاته فال
وتتوسلون حيتاج يف رمحته إىل من يستعطفه ،ما َّاختذم من دونه أولياء تدعوهنم َّ
هبم إليه بزعمكم.
وهذا خبالف امللوك وغريهم من الرؤساء ،فإهنم حمتاجون إىل من يعرفهم
أحوال الرعية وحوائجهم ،ويعينهم على قضاء حوائجهم؛ وإىل من يسرتمحهم،
ويستعطفهم بالشفاعة ،فاحتاجوا إىل الوسائط ضرورة ،حلاجتهم
وعجزهم وضعفهم ،وقصور علمهم ،فأما القادر على كل شيء ،الغن بذاته عن
كل شيءِ ،
العال بكل شيء ،الرمحن الرحيم الذي وسعت رمحـته كـل
-291-
شيء ،فإدخال الوسائط بينه وبني خلقه تنق حبق ربوبيته وإهليته
وتوحيده ،وظن به ظن السوء ،وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده ،وميتنع يف العقول
والفكر ،وقبحه مستقر يف العقول السليمة فوق كل قبح...
فهذه إشارة لطيفة إىل السر الذي ألجله كان الشرك من أكرب الكبائر عند
اهلل ،وأنه ال يغفر بغري التوبة منه ،وأنه يوجب اْللود يف النار ،وأنه ليس حترميه
مبجرد النهي عنه ،بل يستحيل على اهلل سبحانه وتعاىل أن يشر عبادة وقبحه َّ
إله غريه ،كما يستحيل عليه تناقض أوصاف كماله ونعوت جالله .وكيف يظن
باملنفرد بالربوبية واإلهلية والعظمة واجلالل أن يأذن يف مشاركته يف ذلك ،أو
كبريا ،انتهى ما نقلته.
علوا ً
وجل عن ذلك ً عز ي يرضى به؟ تعاىل اهلل َّ
أن الشرك شركان :شرك وبني َّ
فصل َّ
وتأمل كالم الشيخ رمحه اهلل ،فإنه َّفقف َّ
تعطيل لذات الرب وألمسائه وصفاته وأفعاله ،وشرك يف عبادته ومعاملته .وذكر
أيضا تعطيل ملعاملته على العبد من حقيقة التوحيد ،-مث ذكر شرك أهل أن هذا ًَّ
الوحدة ،وشرك املالحدة القائلني بقدم العال ،وشرك اجلهمية والقرامطة.
مث ذكر النو الثاي :وهو شرك من أشرك يف العبادة واملعاملة ،كشرك
حاج إبراهيم يف ربه، النصارى ،وشرك اجملوس ،وشرك القدرية ،وشرك الذي َّ
وشرك من يشرك بالكواكب العلويات ،وجيعلها أربًابًا مدبرة ،وشرك عباد
الشمس ،وعباد النار وغريهم.
قلت :ومنه شرك غالة عبَّاد القبور الذين يزعمون َّ
أن أرواح املوتى تدبِّر شيئًا
()1
صرح به ابن جرجيس قاتله اهلل» . من أمر هذا العال كما َّ
-225-
المبحث الثالث
أنواع الشرك ودرجاته وأحكامه
قال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمهما اهلل تعالى:
قال ابن القيم رمحه اهلل تعاىل يف شرح املنازل يف باب التوبة:
«وأما الشرك فهو نوعان :أكرب وأصغر ،فاألكرب ال يغفره اهلل إالَّ بالتوبة منه،
ندا حيبه كما حيب اهلل ،بل أكثرهم حيبون آهلتهم وهو أن يتَّخذ من دون اهلل ً
لتنق معبوديهم من املشايخ أعظم مما يغضبون أعظم من حمبة اهلل ،ويغضبون ُّ
إذا انتق أحد رب العاملني....
ومن أنواعه :طلب احلوائج من املوتى واالستعانة هبم والتوجه إليهم ،وهذا
ضرا،
نفعا وال ًأصل شرك العال ،فإن امليت قد انقطع عمله وهو ال ميلك لنفسه ً
عمن استغاث به ،أو سأله أن يشفع له إىل اهلل .وهذا من جهله بالشافع فضالً َّ
واملشفو عنده ،فإن اهلل تعاىل ال يشفع عنده أحد إالَّ بإذنه ،واهلل ل جيعل سؤال
كمال إلذنه السبب وإمنا إلذنه، سببًا غريه
التوحيد ،فجاء هذا املشرك بسبب مينع اإلذن ،وامليت حمتاج إىل من بدعو له،
كما أوصانا النيب إذا زرنا قبور املسلمني أن نرتحم عليها ،ونسأل هلم العافية
واملغفرة ،فعكس املشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة ،وجعلوا قبورهم أوثانًا تعبد،
فجمعوا بني الشرك باملعبود وتغيري دينه ،ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إىل
بذمهم
التنق باألموات ،وهم قد تنقَّصوا اْلال بالشرك ،وأولياءه املوحدين ِّ ُّ
النق غاية به أشركوا من وتنقَّصوا ومعاداهتم،
إذ ظنوا أنه راضون منهم هبذا وأهنم أمروهم به ،وهؤالء أعداء الرسل يف كل
-229-
زمان ومكان ،وما أكثر املستجيبني هلم! وهلل در خليله إبراهيم حيث
َصنَ َام﴾ [إبراهيم.]36 : اجنْب ِن َوبَِ َّ
ن أَن نـَّ ْعب َد األ ْ قالَ ﴿ :و ْ
جرد توحيده هلل ،وتقرب مبقتهموما جنا من شرك هذا الشرك األكرب إالَّ من َّ
إىل اهلل» .انتهى كالمه رمحه اهلل.
فتأمل رمحك اهلل كالم هذا اإلمام ،وتصرحيه بأن من دعا املوتى وتوجه إليهم
واستغاث هبم ليشفعوا له عند اهلل فقد فعل الشرك األكرب الذي بعث حممد
بإنكاره وتكفري من ل يتب منه وقتاله ومعاداته ،وأن هذا قد وقع يف زمانه ،وأهنم
غريوا دين الرسول وعادوا أهل التوحيد الذين يأمروهنم بإخالص العبادة هلل ي
()1
وحده ال شريك له» .
وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل ،وهو يتحدث عن حال المشركين مع
آلهتهم:
«إذا تبني هذا فاعلم :أن الشرك ينقسم ثالثة أقسام بالنسبة على أنوا
مطلقا ،وقد يكون أكرب بالنسبة إىل ما
التوحيد ،وكل منها قد يكون أكرب وأصغر ً
هو أصغر منه ،ويكون أصغر بالنسبة إىل ما هو أكرب منه.
القسم األول :الشرك في الربوبية ،وهو نوعان:
أحدهما :شرك التعطيل ،وهو أقبح أنوا الشرك ،كشرك فرعون .إذا قال:
وما رب العاملني؟ ومن هذا شرك الفالسفة القائلني بقدم العال وأبديته ،وأنه ل
معدوما أصالً ،بل ل يزل وال يزال ،واحلوادث بأسرها مستندة عندهم إىل ً يكن
يسموهنا :العقول ،والنفوس...
أسباب ووسائط اقتضت إجيادهاُّ ،
النوع الثاني :شرك من جعل معه إهلًا آخر ول يعطل أمساءه وصفاته
وربوبيته ،كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثالثة ،وشرك اجملوس القائلني
بإسناد حوادث اْلري إىل النور وحوادث الشر إىل الظلمة.
-222-
ومن هذا شرك كثري ممن يشرك بالكواكب العلويات ،جيعلها مدبرة ألمر هذا
العال ،كما هو مذهب مشركي الصابئة وغريهم.
قلت :ويلتحق به من وجه شرك غالة عبَّاد القبور الذين يزعمون أن أرواح
ويفرجون الكربات ،وينصرون األولياء تتصرف بعد املوت ،فيقضون احلاجاتِّ ،
من دعاهم ،وحيفظون من التجأ إليهم والذ حبماهم ،فإن هذه من خصائ
الربوبية ،كما ذكره بعضهم يف هذا النو .
القسم الثاني :الشرك في توحيد األسماء والصفات ،وهو أسهل مما
قبله ،وهو نوعان:
أحدهما :تشبيه اْلالق باملخلوق ،كمن يقول :يد كيدي ،ومسع كسمعي،
وبصر كبصري ،واستواء كاستوائي ،وهو شرك املشبِّهة.
الثاني :اشتقاق أمساء لآلهلة الباطلة من أمساء اإلله احلق.
ين يـْل ِحدو َن ِيف َّ ِ ِ
احل ْس َى فَا ْدعوه هبَا َو َذرواْ الذ َ قال اهلل تعاىلَ ﴿ :ولِلي ِه األ ْ
َمسَاء ْ
َمسَآئِِه َسي ْجَزْو َن َما َكانواْ يَـ ْع َملو َن﴾ [األعراف .]915 :قال ابن عباس: أْ
يلحدون يف أمسائه :يشركون .وعنه :مسوا الالت من اإلله ،والعَّزى من العزيز.
القسم الثالث :الشرك في توحيد اإللهية والعبادة.
قال القرطيب :أصل الشرك احملرم اعتقاد شريك هلل تعاىل يف اإلهلية ،وهو
الشرك األعظم ،وهو شرك اجلاهلية ،ويليه يف الرتبة اعتقاد شريك هلل تعاىل يف
موجودا ما غري اهلل تعاىل يستقل بإحداث فعل ً الفعل ،وهو قول من قال :إن
غلها هذا كالم القرطيب .وهو نوعان: وإجياده وإن ل يعتقد كونه ً
ندا يدعوه كما يدعو اهلل ،ويسأله الشفاعة كما أحدهما :أن جيعل هلل ً
يسأل اهلل ،ويرجوه كما يرجو اهلل ،وحيبه كما حيب اهلل ،وخيشاه كما خيشى اهلل،
ندا يعبده كما يعبد اهلل ،وهذا هو الشرك وباجلملة فهو أن جيعل اهلل ً
-223-
األكرب ،وهو الذي قال اهلل فيهَ ﴿ :و ْاعبدواْ الليهَ َوالَ ت ْش ِركواْ بِِه َشْيئًا﴾
[النساء.]35 :
وقال﴿ :ولََق ْد بـعثْـنَا ِيف ك ِّل أ َّمة َّرسوالً أ َِن ْاعبدواْ الليه و ِ
وت﴾ اجتَنبواْ الطَّاغ َ ََ ْ َ ََ
[النحل.]35 :
ون اللي ِه َما الَ يَضُّره ْم َوالَ يَ َنفعه ْم َويَـقولو َن وقال تعاىل﴿ :ويـعبدو َن ِمن د ِ
ََْ
ض ِ ِ
الس َم َاوات َوالَ يف األ َْر ِ ِ ِ ِ
ند الليه ق ْل أَتـنَبِّئو َن الليهَ مبَا الَ يَـ ْعلَم يف ََّهـؤالء ش َف َعاؤنَا ِع َ
سْب َحانَه َوتَـ َع َاىل َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [يونس.]91 :
ض َوَما بَـْيـنَـه َما ِيف ِست َِّة أَيَّام وقال تعاىل﴿ :اللَّه الَّ ِذي خلَق َّ ِ
الس َم َاوات َو ْاأل َْر َ َ َ
ِ ِ ِ ِ
استَـ َوى َعلَى الْ َع ْر ِش َما لَكم ِّمن دونه من َوِيل َوَال َشفيع أَفَ َال تَـتَ َذ َّكرو َن﴾ مثَّ ْ
جدا. [السجدة ،]4 :واآليات يف النهي عن هذا الشرك وبيان بطالنه كثرية ً
الثاني :الشرك األصغر ،كيسري الرياء والتصنُّع للمخلوق ،وعدم اإلخالص هلل
تعاىل يف العبادة ،بل يعمل حلظ نفسه تارة ،ولطلب الدنيا تارة ،ولطلب املنزلة واجلاه
عند اْللق تارة ،فله من عمله نصيب ،ولغريه منه نصيب ،ويتبع هذا النو الشرك
باهلل يف األلفاظ كاحللف بغري اهلل وقول :ما شاء اهلل وشئت ،وما يل إالَّ اهلل وأنت،
وأنا يف حسب اهلل وحسبك ،وحنوه .وقد يكون ذلك شرًكا أكرب حبسب حال قائله
()1
ومقصده .هذا حاصل كالم ابن القيم وغريه» .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى:
«مث اعلم أن ضد التوحيد :الشرك ،وهو ثالثة أنوا :شرك أكرب ،وشرك
أصغر ،وشرك خفي ،والدليل على الشرك األكرب قوله تعاىل﴿ :إِ َّن الليهَ الَ يَـ ْغ ِفر
ِ أَن ي ْشرَك بِِه ويـ ْغ ِفر ما دو َن ذَلِ ِ
ضالَالً ض َّل َ ك ل َمن يَ َشاء َوَمن ي ْش ِرْك بِالليه فَـ َق ْد َ َ ََ َ َ
يدا﴾ [النساء.]995 : بَعِ ً
يل ْاعبدواْ الليهَ َرِّيب َوَربَّك ْم إِنَّه َمن ي ْش ِرْك بِاللي ِه فَـ َق ْد ِ ِ ِ
﴿َوقَ َال الْ َمسيح يَا بَِن إ ْسَرائ َ
َنصار﴾ [املائدة.]42 : اجلنَّةَ ومأْواه النَّار وما لِلظَّالِ ِم ِ ِ
ني م ْن أ َ َ ََ َحَّرَم الليه َعلَيه َْ َ َ َ
-224-
وهو أربعة أنواع:
ك َد َعوا النوع األول :شرك الدعوة .والدليل قوله تعاىل﴿ :فَِإ َذا ركِبوا ِيف الْفْل ِ
َ
ِّين فَـلَ َّما َجنَّاه ْم إِ َىل الْبَـِّر إِ َذا ه ْم ي ْش ِركو َن﴾ [العنكبوت.]56 : ِِ
ني لَه الد َ اللَّهَ ْخملص َ
النوع الثاني :شرك النيَّة واإلرادة والقصد .والدليل قوله تعاىلَ ﴿ :من َكا َن
ف إِلَْي ِه ْم أ َْع َما َهل ْم فِ َيها َوه ْم فِ َيها الَ يـْب َخسو َن * الدنْـيَا َوِزينَتَـ َها نـ َو ِّ ي ِريد ْ
احلَيَا َة ُّ
ط ما صنَـعواْ فِيها وب ِ ِ أولَـئِ َّ ِ
اطل َّما َكانواْ َ ََ س َهل ْم ِيف اآلخَرةِ إِالَّ النَّار َو َحبِ َ َ َ ين لَْي َ
ك الذ َ ْ َ
يَـ ْع َملو َن﴾ [هود.]95 ،96 :
النوع الثالث :شرك الطاعة .والدليل قوله تعاىلَّ ﴿ :اختَذواْ أ ْ
َحبَ َاره ْم َورْهبَانَـه ْم
ون اللي ِه والْم ِسيح ابن مرَمي وما أ ِمرواْ إِالَّ لِيـعبدواْ إِلَـها و ِ
اح ًدا الَّ إِلَـهَ إِالَّ أَربابا ِّمن د ِ
ً َ َْ َ َ َ ْ َ َْ َ ََ َْ ً
ه َو سْب َحانَه َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [التوبة ،]39 :وتفسريها الذي ال إشكال فيه:
فسرها النيب لعدي طاعة العلماء والعباد يف املعصية ،ال دعاؤهم إياهم ،كما َّ
بن حام ملا سأله فقال :لسنا نعبدهم ،فذكر له أن عبادهتم طاعتهم يف املعصية.
ِ ِ ِ َّ
ِ
النوع الرابع :شرك احملبة .والدليل قوله تعاىلَ ﴿ :وم َن النَّاس َمن يَـتَّخذ من
ب اللي ِه﴾ [البقرة.]956 : َنداداً ِحيبُّونَـه ْم َكح ِّ ون اللي ِه أ َ
د ِ
والنوع الثاني( :شرك أصغر) وهو الرياء ،والدليل قوله تعاىل﴿ :فَ َمن َكا َن
ِِ ِ ِ يـرجو لَِقاء ربِِّه فَـْليـعمل عم ًال ِ
َح ًدا﴾ [الكهف: صاحلًا َوَال ي ْش ِرْك بعبَ َادة َربِّه أ َ َ َْ َ ْ ََ َ َْ
.]995
النوع الثالث( :شرك خفي) ،والدليل عليه قوله « :الشرك يف هذه األمة
أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء يف ظلمة الليل» وكفارته قوله
« :اللهم إي أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم ،وأستغفرك من الذنب
()1
الذي ال أعلم» .
-226-
المبحث الرابع
خطر الشرك ،ووجوب الحذر منه بتجنب أسبابه
قال الشيخ صاحل الفوزان:
«الشرك أعظم الذنوب ،ألن اهلل تعاىل أخرب أنه ال مغفرة ملن ل يتب منه،
مع أنه سبحانه كتب على نفسه الرمحة ،وذلك يوجب للعبد شدة احلذر ،وشدة
اْلوف من الشرك الذي هذا شأنه ،وحيمله على معرفته لتوقيه؛ ألنه أقبح القبيح،
وأظلم الظلم.
تنق هلل قال تعاىل﴿ :إِ َّن الش ِّْرَك لَظْلم َع ِظيم﴾ [لقمان ،]93 :وذلك ألنه ُّ
ين َك َفرواْ بَِرِّهبِم يَـ ْع ِدلو َن﴾ َّ ِ
وجل ومساواة لغريه به؛ كما قال تعاىل﴿ :الذ َ عز ي َّ
[األنعام.]9 :
ِ
َنداداً َوأَنت ْم تَـ ْعلَمو َن﴾ [البقرة ،]22 :وألن وقال تعاىل﴿ :فَالَ َْجت َعلواْ للي ِه أ َ
وجل؛
عز ي الشرك مناقض للمقصود باْللق واألمر من كل وجه؛ فمن أشرك باهلل َّ
فقد شبَّه املخلوق باْلالق ،وأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقري بالذات ،بالقادر
الغن بالذات عن مجيع املخلوقات....
وإليك بيان الوسائل القولية والفعلية ،اليت هنى عنها رسول اهلل ألهنا
تفضي إيل الشرك:
-9هنى رسول اهلل عن التلفظ باأللفاظ اليت فيها التسوية بني اهلل وبني
خلقه؛ مثل( :ما شاء اهلل وشئت)( ،لوال اهلل وأنت) ،وأمر بأن يقال
بدل ذلك( :ما شاء اهلل مث شئت)؛ ألن الواو تقتضي التسوية و(مث)
تقتضي الرتتيب ،وهذه التسوية يف اللفظ شرك أصغر ،وهو وسيلة إىل
الشرك األكرب.
-225-
-2هنى عن الغلو يف تعظيم القبور بالبناء عليها ،وإسراجها،
وجتصيصها ،والكتابة عليها.
-3هنى عن اختاذ القبور مساجد للصالة عندها؛ ألن ذلك وسيلة لعبادهتا.
-4هنى عن الصالة عند طلو الشمس وعند غروهبا؛ ملا يف ذلك من
التشبه بالذين يسجدون هلا يف هذه األوقات.
-6هنى عن السفر إىل أي مكان من األمكنة بقصد التقرب إىل اهلل فيه
بالعبادة؛ إالَّ إىل املساجد الثالثة :املسجد احلرام ،واملسجد النبوي،
واملسجد األقصى.
-5هنى عن الغلو يف مدحه؛ فقال« :ال تطروي كما أطرت النصارى
ابن مرمي ،إمنا أنا عبد؛ فقولوا :عبد اهلل ورسوله» ،واإلطراء :هو املبالغة
يف املدح.
-4هنى عن الوفاء بالنذر إذا كان يف مكان يعبد فيه صنم ،أو يقام فيه
عيد من أعياد اجلاهلية.
وسدا للوسائل والذرائع
حذر منه ،صيانةً للتوحيد ،وحفاظًا عليهً ، كل هذا َّ
اليت تفضي إليه.
ومع هذا البيان التام من النيب ،واالحتياط الشديد الذي يبعد األمة عن
الشرك؛ خالف القبوريون سنة رسول اهلل ،وعصوا أمره ،وارتكبوا ما هناهم
عنه؛ فشيَّدوا القباب على القبور ،وبنوا عليها املساجد ،وزيَّنوها بأنوا الزخارف،
()1
اعا من العبادة من دون اهلل» . وصرفوا هلا أنو ً
-224-
-221-
الفصل الثاني
العلم سبيل النجاة من الشرك
وإل وقع بالجهل والتلبيس وتغيير الحقائق
المبحث األول :الناس مكلَّفون مبعرفة الشرك حىت تتحقق الرباءة منه،
فهي أصل األصول االعتقادية ،وال يصح إسالم املرء إالَّ
بالقيام هبا.
المبحث الثاني :كيف دخل الشرك يف األمة؟
المبحث الثالث :الغلو من أعظم أسباب املروق من اإلسالم ،ولذا فهو
أصل شرك األولني ،واآلخرين.
المبحث الرابع :اختاذ الوسائط جللب املنافع ودفع املضار ،شرك باهلل
العظيم ،ومروق من ملة املسلمني.
المبحث الخامس :ضرورة التحذير من الشرك ووسائله.
المبحث السادس :التحذير من ألفاظ ،ال ينبغي أن تقال يف حق اهلل
سبحانه.
-221-
-235-
المبحث األول
الناس مكلفون بمعرفة الشرك ،حتى تتحقق البراءة منه،
فهي أصل األصول العتقادية ،ول يصح إسالم المرء إل بالقيام بها
-239-
بالعبادة وحده ال شريك له ،بل خيالفون معناها ،فيصرفون التأله لغري اهلل
تعاىل ،ويعتقدون ذلك قربة إىل اهلل ،فيصرفون خال حق اهلل ،الذي دلت عليه
هذه الكلمة لغريه تعاىل ،بل أكبهم اجلهل إىل الشرك يف الربوبية ،فال تنفعهم ال
إله إالَّ اهلل مع ذلك وإن قالوها ،ألن الشرك حمبط للعمل ،كما قال تعاىل﴿ :لَئِ ْن
ك﴾ [الزمر ،]56 :وغري ذلك من اآليات الدالة على ت لَيَ ْحبَطَ َّن َع َمل َ
أَ ْشَرْك َ
حبوط عمل املشرك.
ومشركو العرب :إمنا كان شركهم يف اإلهلية ،فال تنفع ال إله إالَّ اهلل قائلها،
إالَّ إذا التزم ما دلت عليه من خلع األنداد ،وإفراد اهلل سبحانه بالعبادة ،ولذلك
()1
ملا قاهلا أهل النفاق واليهود ول يلتزموا ما دلت عليه ل تنفعهم» .
-232-
المبحث الثاني
كيف دخل الشرك في األمة؟
مغلقا ،عندما لبس على الناس دينهم، لقد فتح الشيطان بابًا للشرك كان ً
َّفزين هلم أن األحكام يف اإلسالم ،دائرة مع األمساء ،وأن احلقائق واملعاي ال
دخل هلا يف تعليل األحكام ،فعاد بذلك كل لون من ألوان الشرك ،يف اسم غري
امسه ،ومقصد غريه مقصده.
قال الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمهما اهلل تعالى:
«وقد دخل كثري من هذه األمة يف الشرك باهلل ،والتعلق على ما سواه،
وتشفعا ،وتغيري األمساء ،ال اعتبار به ،وال تزول حقيقة ً ويسمون ذلك توسالً، ُّ
الشيء ،وال حكمه بزوال امسه ،وانتقاله يف عرف الناس باسم آخر.
(تغيير األسماء :ل يغيِّر األحكام المترتبة على معانيها)
وملا علم الشيطان :أن النفوس تنفر من تسمية ما يفعله املشركون تأهلًا،
أخرجه يف قالب آخر تقبله النفوس ،وقد جاء عن النيب أنه قال« :ليشربن
يسموهنا بغري امسها» ،وكذلك من زىن ،ومسَّى ما فعله: أناس من أميت اْلمرُّ ،
نكاحا ،فتغيري األمساء ،ال يزيل احلقائق ،وكذا من ارتكب شيئًا ،من األمور ً
وتشفعا.
ً الشركية فهو مشرك ،وإن مسى ذلك توسالً،
يوضح ذلك :ما ذكر اهلل يف كتابه ،عن اليهود ،والنصارى ،بقوله تعاىل:
ون اللي ِه[ ﴾...التوبة ،]39 :وروى اإلمام ﴿ َّاختَذواْ أَحبارهم ورهبانَـهم أَربابا ِّمن د ِ
ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َْ ً
أمحد ،والرتمذي ،وغريمها :أن عدي بن حام ،قدم على النيب وكان قد َّ
تنصر
يف اجلاهلية ،فسمع النيب يقرأ هذه اآليةَّ ﴿ :اختَذواْ أ ْ
َحبَ َاره ْم َورْهبَانَـه ْم أ َْربَابًا ِّمن
ون اللي ِه[ ﴾...التوبة ،]39 :قال :يا رسول اهلل ،إهنم ل يعبدوهم ،فقال : د ِ
حرموا عليهم احلالل ،وحلَّلوا هلم احلرام ،فذاك عبادهتم إياهم». «بلى إهنم َّ
وقال ابن عباس ،وحذيفة بن اليمان ،يف تفسري هذه اآلية :إهنم اتبعوهم
وحرموا .فهؤالء الذين أخرب اهلل عنهم يف هذه اآلية ،ل يسموا فيما حلَّلوا َّ
-233-
أحبارهم ،ورهباهنم ،أربابًا وال آهلة ،وال كانوا يظنون أن فعلهم هذا معهم عبادة
هلم ،وهلذا قال عدي :إهنم ل يعبدوهم.
وحكم الشيء تابع حلقيقته ،ال المسه ،وال العتقاد فاعله ،فهؤالء كانوا
عذرا هلم ،وال
بعبادة هلم ،فلم يكن ذلك ً يعتقدون أن طاعتهم يف ذلك ،ليست
()1
مزيالً السم فعلهم ،وال حلقيقته وحكمه» .
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى:
دس عليهم
«وتلطف الشيطان يف كيد هؤالء الغالة يف قبور الصاحلني ،بأن َّ
تغيري األمساء واحلدود الشرعية ،واأللفاظ اللغوية ،فسموا الشرك وعبادة
استظهارا
ً وتشفعا هبم ،و
ً توسالً ونداء ،وحسن اعتقاد يف األولياء،
الصاحلنيُّ :
بأرواحهم الشريفة ،فاستجاب له صبيان العقول ،وخفافيش البصائر ،وداروا مع
األمساء ،ول يقفوا مع احلقائق.
فعادت عبادة األولياء والصاحلني ،ودعاء األوثان والشياطني ،كما كانت
القذة َّ
بالقذة ،وهذا من النبوة ،ويف زمان الفرتة حذو النعل بالنعل ،وحذو َّ قبل َّ
عم
النبوة ،كما ذكره غري واحد ،ول يزل ذلك يف ظهور وازدياد ،حىت َّ أعالم َّ
()2
ضرره ،وبلغ شرره احلاضر والباد» .
-234-
وقال الشيخ أبو بطين رحمه اهلل تعالى:
«إن مواالة اهلل بعبادته ،والرباءة من كل معبود سواه ،هو معى :ال إله إالَّ
اهلل ،إذا تبني ذلك ،فمن صرف لغري اهلل شيئًا من أنوا العبادة املتقدم تعريفها،
كاحلب والتعظيم ،واْلوف ،والرجاء ،والدعاء ،والتوكل ،والذبح ،والنذر ،وغري
ذلك ،فقد عبد ذلك الغري ،واختذه إهلًا ،وأشركه مع اهلل يف خال حقه ،وإن َّفر
من تسمية فعله ذلك تأهلًا وعبادة وشرًكا.
ومعلوم عند كل عاقل :أن حقائق األشياء ،ال تتغري بتغري أمسائها ،فلو
مسى :الزنا ،والربا ،واْلمر ،بغري أمسائها ،ل خيرجها تغيري االسم ،عن كوهنا :زنًا،
ومخرا ،وحنو ذلك.
وربًاً ،
ومن املعلوم :أن الشرك ،إمنا حرم لقبحه يف نفسه ،وكونه متضمنًا مسبَّة
الرب وتنقُّصه وتشبيهه باملخلوقني ،فال تزول هذه املفاسد ،بتغيري امسه،
وتوقريا هلم وحنو ذلك ،فاملشرك:
وتعظيما للصاحلنيً ، ً وتشفعا،
ً كتسميته :توسالً،
مشرك ،شاء أم أىب ،كما أن الزاي :زان ،شاء أم أىب ،واملرايب :مراب ،شاء أم
()1
أىب» .
أيضا رمحه اهلل تعاىل:
وقال الشيخ أبو بطني ً
«قال اإلمام ابن القيم رمحه اهلل تعاىل :ومن ذبح للشيطان ودعاه واستعان
استخداما
ً وتقرب إليه مبا حيبه ،فقد عبده ،وإن ل يسم ذلك عبادة ،ويسميه بهَّ ،
()2
من الشيطان له» .
* * *
-236-
المبحث الثالث
الغلو :من أعظم أسباب المروق من اإلسالم،
ولذا فهو أصل شرك األولين ،واآلخرين
قال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم اهلل تعالى:
«وقال الشيخ تقي الدين يف الرسالة السنية ملا ذكر حديث اْلوارج ومروقهم
من الدين ،وأمره بقتاهلم قال :فإذا كان على عهد رسول اهلل وخلفائه ،ممن
انتسب إىل اإلسالم ،من قد مرق منه مع عبادته العظيمة ،فليعلم أن املنتسب
أيضا من اإلسالم وذلك بأسباب: إىل اإلسالم والسنة يف هذه األزمان قد ميرق ً
منها :الغلو يف بعض املشايخ ،بل الغلو يف علي ابن أيب طالب ،بل الغلو يف
نوعا من اإلهلية املسيح وحنوه ،فكل من غال يف نيب أو رجل صاحل ،وجعل فيه ً
مثل أن يقول :يا سيدي فالن انصري ،أو أغثن ،أو ارزقن ،أو اجربي ،أو أنا يف
حسبك ،أو حنو هذه األقوال ،فكل هذا شرك وضالل يستتاب صاحبه ،فإن
تاب وإالَّ قتل ،فإن اهلل تعاىل إمنا أرسل الرسل ،وأنزل الكتب ليعبد وحده ال
جيعل معه إله آخر ،والذين يدعون من دون اهلل آهلة أخرى مثل املسيح واملالئكة
واألصنام ل يكونوا يعتقدون أهنا ختلق اْلالئق ،أو تنـزل املطر ،أو تنبت النبات،
وإمنا كانوا يعبدوهنم ،أو يعبدون قبورهم ،أو صورهم ويقولونَ ﴿ :ما نَـ ْعبده ْم إِالَّ
ند اللي ِه﴾ ِ
ليـ َقِّربونَا إِ َىل اللَّ ِه زلْ َفى﴾ [الزمر ،]3 :ويقولونَ ﴿ :هـؤالء ش َف َعاؤنَا ِع َ
()1
[يونس. »]91 :
-235-
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد ،وعبد الرحمن
بن حسن في شرحه عليه رحمهما اهلل تعالى:
(باب) ما جاء أن سبب كفر بني آدم
وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين
اب الَ تَـ ْغلواْ ِيف ِدينِك ْم َوالَ تَـقولواْوقول اهلل تعاىل عز وجل﴿ :يا أ َْهل الْ ِكتَ ِ
َ َ
احلَ ِّق﴾ [النساء.]949 : َعلَى اللي ِه إِالَّ ْ
يف الصحيح عن ابن عباس رضي اهلل عنهما يف قول اهلل تعاىلَ ﴿ :وقَالوا الَ
ِ
وق َونَ ْسًرا﴾ [نوح.]23 : وث َويَـع َ
اعا َوالَ يَـغ َتَ َذر َّن آهلتَك ْم َوالَ تَ َذر َّن َوًّدا َوالَ س َو ً
قال :هذه أمساء رجال صاحلني من قوم نوح .فلما هلكوا أوحى الشيطان إىل
قومهم أن انصبوا إىل جمالسهم اليت كانوا جيلسون فيها أنصابًا ،ومسوها بأمسائهم،
ففعلوا ،ول تعبد .حىت إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت».
وقال ابن القيم :قال غري واحد من السلف :ملا ماتوا عكفوا على قبورهم ،مث
صوروا َتاثيلهم ،مث طال عليهم األمد فعبدوهم. َّ
وعن عمر أن رسول اهلل قال« :ال تطروي كما أطرت النصارى ابن مرمي،
إمنا أنا عبد ،فقولوا عبد اهلل ورسوله» أخرجاه.
وقال :قال رسول اهلل « :إياكم والغلو ،فإمنا أهلك من كان قبلكم
الغلو».
وملسلم عن ابن مسعود أن رسول اهلل قال« :هلك املتنطعون» ،قاهلا
ثالثًا.
[الشرح]
قوله« :باب ما جاء أن سبب كفر بن آدم وتركهم دينهم هو الغلو يف
الصاحلني».
عطفا على املضاف إليه .وأراد املصنف رمحه اهلل
وقوله« :تركهم» باجلر ً
-234-
تعاىل بيان ما يؤول إليه الغلو يف الصاحلني من الشرك باهلل يف اإلهلية ،الذي
هو أعظم ذنب عصي اهلل به ،وهو ينايف التوحيد الذي دلت عليه كلمة
اإلخالص :شهادة أن ال إله إالَّ اهلل.
اب الَ تَـ ْغلواْ ِيف ِدينِك ْم َوالَ تَـقولواْ قوله :وقوله اهلل عز وجل ﴿ :يا أ َْهل الْ ِكتَ ِ
َ َ
ِ ِ ِ علَى اللي ِه إِالَّ ْ َِّ ِ ِ
اها إ َىل َم ْرَميَ
يسى ابْن َم ْرَميَ َرسول الليه َوَكل َمته أَلْ َق َ احلَ ِّق إمنَا الْ َمسيح ع َ َ
َوروح ِّمْنه﴾ [النساء.]949 :
الغلو :هو اإلفراط يف التعظيم بالقول واالعتقاد ،أي :ال ترفعوا املخلوق عن
منزلته اليت أنزل اهلل فتنزلوه املنزلة اليت ال تنبغي إالَّ باهلل....
قوله :يف الصحيح عن ابن عباس رضي اهلل عنهما يف قول اهلل تعاىل:
ِ
وق َونَ ْسًرا﴾ وث َويَـع َ اعا َوالَ يَـغ َ﴿ َوقَالوا الَ تَ َذر َّن آهلتَك ْم َوالَ تَ َذر َّن َوًّدا َوالَ س َو ً
[نوح ،]23 :قال :هذه أمساء رجال صاحلني من قوم نوح ،فلما هلكوا أوحى
الشيطان إىل قومهم :أن انصبوا إىل جمالسهم اليت كانوا جيلسون فيها أنصابًا
ومسوها بأمسائهم ،ففعلوا ،ول تعبد ،حىت إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت...
صوروا تلك األصنام. قوله« :حىت إذا هلك أولئك» ،أي :الذين َّ
قوله« :ونسي العلم» ورواية البخاري« :وينسخ» وللكشميهن« :ونسخ
العلم» ،أي :درست آثاره بذهاب العلماء ،وعم اجلهل حىت صاروا ال مييزون
بني التوحيد والشرك ،فوقعوا يف الشرك ظنًا منهم أنه ينفعهم عند اهلل...
صور أوائلهم الصور ليتأسوا هبم ،ويتذكروا أفعاهلمقال القرطيب :وإمنا َّ
الصاحلة .فيجتهدوا كاجتهادهم ،ويعبدوا اهلل عند قبورهم .مث خلفهم قوم جهلوا
مرادهم ،فوسوس هلم الشيطان أن أسالفهم كانوا يعبدون هذه الصور
ويعظموهنا .اهـ.
قوله :وقال رسول اهلل « :إياكم والغلو ،فإمنا أهلك من كان قبلكم
-231-
الغلو».
هذا احلديث ذكره املصنف بدون ذكر راويه ،وقد رواه اإلمام أمحد والرتمذي
وابن ماجه من حديث ابن عباس.
وهذا لفظ رواية أمحد :عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال :قال رسول اهلل
« :غداة مجع :هلم القط يل» ،فلقطت له حصيات هن حصى اْلذف ،فلما
وضعهن يف يده قال« :نعم بأمثال هؤالء فارموا .وإياكم والغلو يف الدين ،فإمنا
هلك من كان قبلكم بالغلو يف الدين».
قال شيخ اإلسالم :هذا عام يف مجيع أنوا الغلو يف االعتقادات واألعمال،
وسبب هذا اللفظ العام رمي اجلمار ،وهو داخل فيه ،مثل الرمي باحلجارة
الكبار ،بناء على أنه أبلغ من الصغار ،مث علَّل مبا يقتضي جمانبة هدي من كان
إبعادا عن الوقو فيما هلكوا به ،فإن املشارك هلم يف بعض هديهم خياف قبلنا ً
()1
عليه من اهلالك» .
* * *
-231-
المبحث الرابع
اتخاذ الوسائط لجلب المنافع ودفع المضار
شرك باهلل العظيم ،ومروق من ملة المسلمين
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى:
«وقد قال شيخ اإلسالم ملا سئل عن رجلني تناظرا ،فقال أحدمها ،ال بد لنا
من واسطة بيننا وبني اهلل تعاىل ،فإنا ال نقدر أن نصل إليه بغري ذلك ،فما معى
الواسطة؟ وهل التوسط عام يف كل شيء يوجبه اهلل تعاىل ،أم يف ذلك بيان
وتفصيل؟
فأجاب رمحه اهلل ورضي اهلل عنه بقوله :احلمد هلل ،إن أراد بذلك أنه ال بد
من واسطة تبلغ أمر اهلل تعاىل ودينه ،فهذا حق ،فإن اْللق ال يعلمون ما حيبه اهلل
أعد ألوليائه من كرامته ،وما أوعد به ويرضاه وما أمر اهلل به وهنى عنه ،وما َّ
أعداءه من عذابه ،وال يعرفون ما يستحقه اهلل من أمسائه احلسى وصفاته العليا،
الىت يعجز العقول عن اإلحاطة هبا إىل أمثال ذلك إالَّ بالرسل الذين أرسلهم اهلل
إىل عباده...
وإن أرادوا بالواسطة :أنه ال بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبني اهلل يف
جلب املنافع ودفع املضار ،مثل أن يكون واسطة يف رزق العباد ونصرهم وهداهم
يسألوهنم ذلك ويرجوهنم فيه ،فهذا من أعظم الشرك الذي كفَّر اهلل به املشركني
حيث اختذوا من دون اهلل أولياء شفعاء جيلبون هبم املنافع ويدفعون هبم املضار،
لكن الشفاعة ملن يأذن اهلل تعاىل له فيها.
ض َوَما بَـْيـنَـه َما ِيف ِست َِّة أَيَّام مثَّ قال تعاىل﴿ :اللَّه الَّ ِذي خلَق َّ ِ
الس َم َاوات َواأل َْر َ َ َ
استَـ َوى
ْ
-245-
َعلَى الْ َع ْر ِش َما لَكم ِّمن دونِِه ِمن َوِيل َوَال َش ِفيع أَفَ َال تَـتَ َذ َّكرو َن﴾ [السجدة:
س َهلم ِّمن دونِِه ِ ِ ِ ِِ َّ ِ
ين َخيَافو َن أَن ْحي َشرواْ إ َىل َرِّهب ْم لَْي َ
،]4وقال تعاىلَ ﴿ :وأَنذ ْر به الذ َ
وِيل والَ َش ِفيع﴾ [األنعام ،]69 :وقال تعاىل﴿ :ق ِل ْادعوا الَّ ِذين زعمتم ِّمن د ِ
ون َ ََْ َ َ
ِ ِ ِ ِ
ض َوَما َهل ْم فيه َما من ش ْرك ِ ِ
الس َم َاوات َوالَ يف األ َْر ِ ِ ِ ِ
اللَّ ِه الَ ميَْلكو َن مثْـ َقا َل َذ َّرة يف َّ
نده إِالَّ لِ َم ْن أ َِذ َن لَه﴾ [سبأ،22 : اعة ِع َ َوَما لَه ِمْنـهم ِّمن ظَ ِهري * َوالَ تَ َنفع الش َ
َّف َ
،]23وساق -آيات يف املعى -إىل أن قال :وقال تعاىلَ ﴿ :ما َكا َن لِبَ َشر أَن
ون اللي ِه
َّاس كونواْ ِعبادا ِّيل ِمن د ِ
ًَ ول لِلن ِْم َوالنُّبـ َّوَة مثَّ يَـق َ احلك َ اب َو ْ ِ ِ
يـ ْؤتيَه الليه الْكتَ َ
اب َوِمبَا كنت ْم تَ ْدرسو َن * َوالَ يَأْمَرك ْم ِ ـكن كونواْ ربَّانِيِّ ِ ولَ ِ
ني مبَا كنت ْم تـ َعلِّمو َن الْكتَ َ َ َ َ
ِ ِ ِ ِ
ني أ َْربَابًا أَيَأْمركم بالْك ْفر بَـ ْع َد إ ْذ أَنتم ُّم ْسلمو َن﴾ [آل ِ ِ ِ
أَن تَـتَّخذواْ الْ َمالَئ َكةَ َوالنِّبيِّـ ْ َ
عمران.]15 ،41 :
فبني سبحانه وتعاىل أن اختاذ املالئكة والنبيني أربابًا كفر ،فمن جعل َّ
املالئكة واألنبياء وسائط ،يدعوهم ،ويتوكل عليهم ،ويسأهلم جلب املنافع ،ودفع
املضار ،مثل :أن يسأهلم غفران الذنوب ،وهداية القلوب ،وتفريج الكروب ،وسد
الفاقات ،فهو كافر بإمجا املسلمني.
واملقصود هنا :أن من أثبت وسائط بني اهلل تعاىل وبني خلقه ،كالوسائط
اليت تكون بني امللوك والرعية فهو مشرك ،بل هذا دين املشركني عباد األوثان.
يتقربون هبا إىل اهلل كانوا يقولون :إهنا َتاثبل األنبياء والصاحلني ،وإهنا وسائط َّ
تعاىل ،وهو من الشرك الذي أنكره اهلل تعاىل على النصارى ،حيث قالَّ ﴿ :اختَذواْ
يح ابْ َن َم ْرَميَ َوَما أ ِمرواْ إِالَّ لِيَـ ْعبدواْ ِ ِ ِ
َحبَ َاره ْم َورْهبَانَـه ْم أ َْربَابًا ِّمن دون الليه َوالْ َمس َ أْ
اح ًدا الَّ إِلَـهَ إِالَّ ه َو سْب َحانَه َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [التوبة ،]39 :وقد قال تعاىل: إِلَـها و ِ
ً َ
ان فَـْليَ ْستَ ِجيبواْ ِيلك ِعب ِادي ع ِّن فَِإ ِّي قَ ِريب أ ِجيب د ْعوَة الدَّا ِ إِ َذا دع ِ
ََ َ َ ﴿ َوإِ َذا َسأَلَ َ َ َ
َولْيـ ْؤِمنواْ ِيب لَ َعلَّه ْم يَـ ْرشدو َن﴾ [البقرة ،]915 :مث ذكر آيات يف املعى.
-249-
وهذا الذي قاله الشيخ ال خالف فيه بني املسلمني ،وإمنا اشتبه األمر على
هؤالء الضالل ،ملا قدم العهد ،ونسي العلم ،واعتادوا سؤال غري اهلل فيما خيت
()1
به تعاىل ونشئوا على ذلك» .
وجاء يف نواقض اإلسالم العشرة للشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل
تعاىل:
«الناقض الثاي :من جعل بينه وبني اهلل وسائط يدعوهم ويسأهلم الشفاعة
()2
إمجاعا» .
ويتوكل عليهم ،فقد كفر ً
-242-
المبحث الخامس
ضرورة التحذير من الشرك ووسائله
إن الشرك دقه وجليه ،صغريه وكبريه ،بوسائله وغاياته ...ظلم عظيم وإفك
مبني .وملا وقع الكثري من عوام املسلمني ،يف كثري من األمور الشركية وذرائعها
املؤدية إليها ،توجب التنبيه عليها ،والتحذير منها لتصح الرباءة من الشرك،
وتتحقق النجاة من ظلماته.
قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه اهلل:
هناك أشياء مرتددة بني الشرك األكرب والشرك األصغر ،حبسب ما يقوم
بقلب فاعلها ،وما يصدر عنه من األفعال واألقوال ،ويقع فيها بعض الناس ،قد
تتناىف مع العقيدة ،أو تعكر صفوها ،وهي َتارس على املستوى العام ،ويقع فيها
بالدجالني واحملتالني واملشعوذين ،وقد حذر منها النيب ،ومنتأثرا َّ
بعض العوامً ،
هذه األمور:
-6لبس الحلقة والخيط ونحوهما وبقصد رفع البالء أو دفعه:
وذلك من فعل اجلاهلية ،وهو من الشرك األصغر ،وقد يرتقى إىل درجة
الشرك األكرب ،حبسب ما يقوم بقلب البسها من االعتقاد هبا.
فعن عمران بن حصني ،أن رسول اهلل رأى رجالً يف يده حلقه من
صفر ،فقال« :ما هذا؟» قال :من الواهنة ،فقال« :انزعها ،فإهنا ال تزيدك إالَّ
أبدا» ،رواه أمحد بسند ال بأس به، وهنًا ،فإنك لو مت وهي عليك ،ما أفلحت ً
أقره الذهيب.
وصححه ابن حبان واحلاكم و َّ
َّ
-7تعليق التمائم:
وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أوالدها ،يتقون هبا العني،
-243-
ويتلمحون من امسها أن يتم اهلل هلم مقصودهم ،وقد تكون التمائم من
عظام ومن خرز ومن كتابة وغري ذلك ،وهذا ال جيوز .وقد يكون املعلق من
القرآن ،فإذا كان من القرآن ،فقد اختلف العلماء يف جوازه وعدم جوازه،
سدا للذريعة ،فإنه يفضي إىل تعليق غري القرآن ،وألنه ال والراجح عدم جوازهً ،
خمص للنصوص املانعة من تعليق التمائم ،كحديث ابن مسعود قال: َّ
مسعت رسول اهلل يقول« :يقول« :إن الرقى والتمائم والتِّولة شرك» ،رواه أمحد
وأبو داود ،وعن عقبة بن عامر مرفو ًعا« :من علق َتيمية ،فقد أشرك» ،وهذه
خمص هلا.
نصوص عامة ال ِّ
-4التبرك باألشجار واألحجار واآلثار والبنايات:
التربك معناه :طلب الربكة ورجاؤها واعتقادها يف تلك األشياء. و ُّ
وحكمه أنه شرك أكرب ،ألنه تعلُّق على غري اهلل سبحانه يف حصول الربكة،
كالتربك
ُّ فالتربك بقبور الصاحلني وعبَّاد األوثان إمنا كانوا يطلبون الربكة منهاُّ ،
بالعزى ومناة. كالتربك َّ
ُّ بالالَّت ،و ُّ
التربك باألشجار واألحجار
وعن أيب واقد الليثي ،قال :خرجنا مع رسول اهلل إىل حنني ،وحنن حدثاء
عهد بكفر ،وللمشركني سدرة يعكفون عندها ،وينطقون هبا أسلحتهم ،يقال
هلا :ذات أنواط ،فمررنا بسدرة ،فقلنا :يا رسول اهلل اجعل لنا ذات أنواط كما
هلم ذات أنواط .فقال رسول اهلل « :اهلل أكرب ،إهنا السنن ،قلتم -والذي
اج َعل لَّنَا إِلَ ًـها َك َما َهل ْم ِآهلَة قَ َال
نفسي بيده -كما قالت بنو إسرائيل ملوسىْ ﴿ :
إِنَّك ْم قَـ ْوم َْجت َهلو َن﴾ [األعراف ،]931 :لرتكنب سنن من كان قبلكم» ،رواه
وصححه.
الرتمذي َّ
-3السحر:
سحرا ألنه حيصل بأمور خفية وهو عبارة عما خفي ولطف سببه ،مسي ً
-244-
ال تدرك باألبصار ،وهو عبارة عن عزائم ورقى وكالم يتكلَّم به وأدوية
وتدخينات ،ومنه ما يؤثر يف القلوب واألبدان فيمرض ويقتل ويفرق بني املرء
وزوجه ،وتأثريه بإذن اهلل الكوي القدري ،وهو عمل شيطاي.
(كيفية دخول السحر في الشرك)
وكثري منه ال يتوصل إليه إالَّ بالشرك و ُّ
التقرب إىل األرواح اْلبيثة بشيء مما
حتب ،واالستعانة بالتحيُّل على استخدامها باإلشراك هبا ،وهلذا يقرنه الشار
بالشرك ،وهو داخل يف الشرك من ناحيتني:
األولى :ما فيه من استخدام الشياطني والتعلق هبم ،ورمبا تقرب إليهم مبا
حيبونه ليقوموا خبدمته.
الثانية :ما فيه من دعوى علم الغيب ودعوى مشاركة اهلل يف ذلك ،وهذا
كفر وضالل.
قال تعاىل﴿ :ولََق ْد علِمواْ لَم ِن ا ْشتـراه ما لَه ِيف ِ
اآلخَرةِ ِم ْن َخالَق﴾ [البقرة: َ ََ َ َ َ
.]952
وعن أيب هريرة ،أن رسول اهلل قال« :اجتنبوا السبع املوبقات» ،قالوا:
يا رسول اهلل! وما هن؟ قال« :الشرك باهلل ،والسحر ،وقتل النفس اليت حرم اهلل
إالَّ باحلق ،وأكل الربا ،وأكل مال اليتيم ،والتويل يوم الزحف ،وقذف احملصنات
الغافالت املؤمنات».
-0الكهانة:
وهي ادعاء علم الغيب ،كاإلخبار مبا سيقع يف األرض ،مع االستناد إىل
سبب ،هو اسرتاق السمع ،يسرتق اجلن الكلمة من كالم املالئكة ،فيلقيها يف
أذن الكاهن ،فيكذب معها مئة كذبة ،فيصدقه الناس بسبب تلك الكلمة.
واهلل هو املتفرد بعلم الغيب ،فمن ادعى مشاركته يف شيء من ذلك بكهانة
أو غريها ،أو صدَّق من يدَّعي ذلك ،فقد جعل هلل شري ًكا فيما هو من
-246-
خصائصه ،وهو مكذب هلل ولرسوله .وكثري من الكهانة املتعلِّقة بالشياطني
التقرب إىل الوسائط اليت يستعني هبا على دعوى العلوم ال ختلو من الشرك و ُّ
الغيبية.
فالكهانة شرك من جهة دعوى مشاركة اهلل يف علمه الذي اخت َّ به ،ومن
التقرب إىل غري اهلل.
جهة ُّ
ويف «صحيح مسلم» عن بعض أزواج النيب ،عن النيب قال« :من أتى
يوما» .وعنعرافًا ،فسأله عن شيء ،فصدَّقه مبا يقول ،ل تقبل له صالة أربعني ً َّ
أيب هريرة ،عن النيب قال« :من أتى كاهنًا فصدَّقه مبا يقول ،فقد كفر مبا
أنزل على حممد ،»رواه أبو داود...
-1التطير:
وهو التشاؤم بالطيور واألمساء واأللفاظ والبقا واألشخاص وغري ذلك ،فإذا
عزم شخ على أمر من أمور الدين أو الدنيا ،فرأى أو مسع ما يكره ،أثر فيه
وتأثرا مبا رأى أو مسع،
تطريا ً
عازما عليه ً ذلك أحد أمرين :إما الرجو عما كان ً
فيعلِّق قَـْلبَه بذلك املكروه ،ويؤثر ذلك على إميانه ،وخيل بتوحيده وتوكله على
اهلل ،وإما أن ال يرجع عما عزم عليه ،ولكن يبقى يف قلبه أثر ذلك التطري من
اهلم والوساوس والضعف. احلزن واألل و ِّ
فيجب على من وجد شيئًا من ذلك يف نفسه :أن جياهدها على دفعه،
ويستعني باهلل ويتوكل عليه وميضي يف شأنه ،ويقول :اللهم ال يأيت باحلسنات إالَّ
أنت وال يدفع السيئات إالَّ أنت ،وال حول وال قوة إالَّ بك...
اعتقادا حبصول الضرر من خملوق تعلقا على غري اهلل ،و ً والتطري شرك ،لكونه ً
نفعا ،ولكونه من إلقاء الشيطان ووسوسته ،ولكونه ضررا وال ً ال ميلك لنفسه ً
يصدر عن القلب خوفًا وخشية ،وهو ينايف التوكل....
وقوله « :ويعجبن الفأل» ،مث بيَّنه بأنه الكلمة الطيبة ،وإمنا أعجبه
الفأل ألنه حسن ظن باهلل ،والعبد مأمور أن حيسن الظن باهلل ،والطرية سوء
-245-
الظن باهلل عز وجل ،وتوقع البالء ،ومن هنا جاء الفرق بينهما يف احلكم ،ألن
الناس إذا أملوا اْلري من اهلل ،علَّقوا قلوهبم به ،وتوَّكلوا عليه ،وإذا قطعوا آماهلم
ورجاءهم من اهلل ،كان ذلك من الشر والتعلُّق على غري اهلل...
ويف احلديث الذي رواه أمحد عن ابن عمر عمرو رضي اهلل عنهما ،عن
ردته الطرية عن حاجته ،فقد أشرك» ،قالوا :فما كفارة ذلك؟ النيب « :من َّ
قال« :أن تقول :اللهم ال خري إالَّ خريك ،وال طري إالَّ طريك ،وال إله غريك»،
فتضمن هذا احلديث الشريف أن الطرية ال تضر من كرهها ومضى يف طريقه، َّ
وأما من ل خيل توكله على اهلل ،واسرتسل مع الشيطان يف ذلك ،فقد يعاقب
بالوقو فيما يكرهه ،ألنه أعرض عن واجب اإلميان باهلل.
-2التنجيم:
عرفه بعض احملققني :بأنه االستدالل باألحوال الفلكية على وهو كما َّ
احلوادث األرضية ،كأوقات هبوب الرياح ،وجميء املطر ،وظهور احلر والربد،
وتغري األسعار ،أو حدوث األمراض أو الوفيات ،أو السعود والنحوس ،وهذا ما
يسمى بعلم التأثري.
وهو على نوعني:
النوع األول :أن يدَّعي املنجم أن الكواكب فاعلة خمتارة ،وأن احلوادث
خالقا غري اهلل،
جتري بتأثريها .وهذا كفر بإمجا املسلمني ،ألنه اعتقاد أن هناك ً
أحدا يتصرف يف ملكه بغري مشيئته وتقديره سبحانه وتعاىل. وأن ً
والنوع الثاني :االستدالل مبسري الكواكب واجتماعها وافرتاقها على حدوث
احلوادث ،وهذا ال شك يف حترميه ،ألنه من ادعاء علم الغيب وهو
-244-
أيضا ،كما قال النيب « :من اقتبس شعبة من النجوم ،فقد من السحر ً
وصححه
اقتبس شعبة من السحر ،زاد ما زاد» رواه أبو داود ،وإسناده صحيحَّ ،
النووي والذهيب ،ورواه ابن ماجه وأمحد وغريمها.
(المشروع والغير مشروع ،من الستدلل بعلم النجوم)
وأما االستدالل بالنجوم ملعرفة االجتاه يف األسفار يف الرب والبحر ،فهذا ال
بأس به ،وهو من نعمة اهلل عز وجل ،حيث يقول سبحانه ﴿ :وهو ال ِذي جعل
لكم النجوم لِتـ ْهتدوا بِها فِي ظلم ِ
ات الْبـ ِّر والْب ْح ِر ﴾ [األنعام ،]14 :أي:
لتعرفوا هبا جهة قصدكم ،وليس املراد أنه يهتدى هبا يف علم الغيب كما يعتقده
املنجمون.
قال اْلطايب« :وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة ،فإهنا
كواكب رصدها أهل اْلربة من األئمة ،الذين ال نشك يف عنايتهم بأمر الدين،
ومعرفتهم هبا ،وصدقهم فيما أخربوا به عنها ،مثل أن يشاهدها حبضرة الكعبة،
ويشاهدها على حال الغيبة عنها ،فكان إدراكهم الداللة منها باملعاينة ،وإدراكنا
ذلك بقبول خربهم ،إذ كانوا عندنا غري متَّهمني يف دينهم ،وال مقصرين يف
معرفتهم»....
(ضرورة الحفاظ على العقيدة الصحيحة الصافية)
وبعد ،فإن عقيدة املسلم هي أعز شيء عنده ،ألن هبا جناته وسعادته،
فيجب عليه أن حيرص على جتنُّب ما يسيء إليها أو ميسها من الشركيات
واْلرافات والبد ،لتبقى صافية مضيئة ،وذلك بالتزام الكتاب والسنة وما عليه
السلف الصاحل ،وال يتم ذلك إالَّ بتعلم هذه العقيدة ،ومعرفة ما يضادها من
العقائد املنحرفة ،ال سيما وأنه قد كثر اليوم يف صفوف املسلمني من
-241-
حيرتف التدجيل والشعوذة والتعلق بالقبور واألضرحة لطلب احلاجات
وتفريج الكربات ،كما كان عليه املشركون األولون أو أشد ،إضافة إىل اختاذ
السادة وأصحاب الطرق الصوفية أربابًا من دون اهلل ،يشرعون ألتباعهم من
الدين ما ل يأذن به اهلل ،فال حول وال قوة إالَّ باهلل.
-5الستسقاء باألنواء:
وهو عبارة عن نسبة املطر إىل طلو النجم أو غروبه ،على ما كانت
اجلاهلية تعتقده من أن طلو النجم أو سقوطه يف املغيب يؤثر يف إنزال املطر،
فيقولون :مطرنا بنوء كذا وكذا ،وهم يريدون بذلك النجم ،ويعربون عنه بالنوء،
وهو طلو النجم ،من ناء ينوء :إذا هنض وطلع ،فيقولون :إذا طلع النجم
الفالي ،ينزل املطر....
تأثريا يف إنزال املطر،
وحكم االستسقاء باألنواء أنه إن كان يعتقد أن له ً
فهذا شرك وكفر أكرب ،وهو الذي يعتقده أهل اجلاهلية ،وإن كان ال يعتقد
تأثريا ،وأن املؤثر هو اهلل وحده ،ولكنه أجرى العادة بوجود املطر عند
للنجم ً
سقوط ذلك النجم ،فهذا ال يصل إىل الشرك األكرب ،ويكون من الشرك
سدا للذريعة.
األصغر ،ألنه حيرم نسبة املطر إىل النجم ،ولو على سبيل اجملازً ،
وقد روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد ،قال :صلَّى بنا رسول اهلل
صالة الصبح باحلديبية على أثر مساء كانت من الليل ،فلما انصرف أقبل على
الناس ،فقال« :هل تدرون ماذا قال ربكم؟» ،قالوا :اهلل ورسوله أعلم ،قال:
«قال :أصبح من عبادي مؤمن يب وكافر ،فأما من قال:
مـطرنا بفضل اهلل ورمحته ،فذلك مؤمن يب كافر بالكوكب ،وأما من قال:
-241-
مطرنا بنوء كذا وكذا ،فذلك كافر يب مؤمن بالكوكب»....
-0نسبة النعم إلى غير اهلل:
سبق الكالم عن حكم نسبة املطر إىل األنواء واالستسقاء هبا ،والكالم اآلن
عموما إىل غري اهلل.
يف حكم نسبة النعم ً
إن االعرتاف بفضل اهلل وإنعامه والقيام بشكره من صميم العقيدة ،ألن من
نسب النعمة إىل غري موليها ،وهو اهلل سبحانه ،فقد كفرها ،وأشرك باهلل بنسبتها
إىل غريه.
نكرونَـ َها َوأَ ْكثَـرهم الْ َكافِرو َن﴾
قال تعاىل﴿ :يـع ِرفو َن نِعمت اللي ِه مثَّ ي ِ
َْ َ َْ
()1
[النحل. »]13:
* * *
-265-
المبحث السادس
التحذير من ألفاظ ل ينبغي أن تقال في حق اهلل سبحانه
أجل وسائل وغايات التوحيد ،وضد ذلك من أخطر إن تعظيم اهلل من ِّ
وسائل وغايات الشرك والتنديد ،ولذلك ينبغي أن نراعي جتنب بعض األلفاظ،
تعظيما لشأنه سبحانه:
اليت ال جيوز أن تقال يف حق اهللً ،
قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه اهلل:
جل وعال عظيم ،جيب أن يعظَّم ،وهناك ألفاظ ال جيوز أن تقال يف «اهلل َّ
تعظيما له ،وقد ورد النهي عنها.
حقه سبحانهً ،
ومن هذه األلفاظ :أنه ال يقال« :السالم على اهلل» ،ألن السالم دعاء
للمسلَّم عليه بطلب السالمة له من الشرور ،واهلل سبحانه يطلب منه ذلك ،وال
يطلب له ،ويدعى وال يدعى له ،ألنه الغن ،له ما يف السموات واألرض ،وهو
السال من كل عيب ونق ،ومانح السالمة ومعطيها ،وهو السالم ومنه
السالم.
ويف «الصحيح» عن ابن مسعود ،قال :كنا إذا كنا مع رسول اهلل يف
الصالة ،قلنا :السالم على اهلل من عباده ،السالم على فالن وفالن .فقال النيب
« :ال تقولوا :السالم على اهلل ،فإن اهلل هو السالم» ،أي :إن اهلل سال من
كل نق ....
ومن األلفاظ اليت ال تقال يف حق اهلل تعاىل« :اللهم اغفر يل إن شئت»،
فطلب احلاجة من اهلل ال يعلَّق على املشيئة ،وإمنا جيزم به.
ويف «الصحيح عن أيب هريرة ،أن رسول اهلل قال« :ال يقل أحدكم:
اللهم اغفر يل إن شئت ،اللهم ارمحن إن شئت ،ليعزم املسألة ،فإن
-269-
اهلل ال مكره له» ،وملسلم« :وليعظم الرغبة ،فإن اهلل ال يتعاظمه شيء
أعطاه»...
(حرمة التألِّي على اهلل تعالى)
ومن األلفاظ اليت ال تقال يف حق اهلل تعاىل اإلقسام على اهلل إذا كان على
وجه احلجر عليه أن ال يفعل اْلري.
عن جندب بن عبد اهلل قال :قال رسول اهلل « :قال رجل :واهلل ال
على أن ال أغفر لفالن، يغفر اهلل لفالن ،فقال اهلل عز وجل :من ذا الذي ِّ
يتأىل َّ
إي قد غفرت له وأحبطت عملك» رواه مسلم.
التأيل من األليَّة -بتشديد الياء ،-وهي اليمني ،ومعى «يتأىل» :حيلف، و ِّ
وقوله« :من ذا الذي» :استفهام إنكار.
وهذا الرجل أساء األدب مع اهلل ،وحكم عليه ،وقطع أنه ال يغفر هلذا
املذنب ،فكأنه حكم على اهلل سبحانه ،وهذا من جهله مبقام الربوبية ،واغرتاره
بنفسه وبعلمه ،وإدالله بذلك ،فعومل بنقيض قصده ،وغفر هلذا املذنب بسببه،
عابدا.
وأحبط عمله بسبب هذه الكلمة السيئة اليت قاهلا ،مع أنه كان ً
قال أبو هريرة « :تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته»....
-262-
ظن باهلل عز وجل ،كما أنه ال جيوز أن يقال :ما شاء اهلل وشاء فالن ،وإمنا
يقال :ما شاء اهلل مث شاء فالن ،ألن العطف بالواو يقتضي املشاركة ،وال أحد
يشارك اهلل سبحانه ويساويه يف أمر من األمور ،وأما العطف بـ (مث) ،فإنه يقتضي
الرتتيب والتبعية ،فتكون مشيئة املخلوق تابعة ملشيئة اهلل سبحانه وحاصلة
بعدها ،وليست مشاركة هلا.
يصححهاوكل هذا مما يؤكد على املسلم وجوب دراسة العقيدة ،ومعرفة ما ِّ
وما خيل هبا ،حىت يكون على بيِّنة من أمره وحىت ال يقع يف احملذور وهو ال
يشعر.
()1
وفَّق اهلل اجلميع للعلم النافع والعمل الصاحل .
-263-
-264-
الفصل الثالث
الفتنة بالقبور ،والمفاسد المترتبة عليها،
مع الرد على أشهر شبهات أهلها
-266-
-265-
المبحث األول
تعظيم القبور من أعظم أسباب الشرك ،وعبادة األوثان
قال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم اهلل تعالى :قال
شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه اهلل:
«وكان حيقق التوحيد ويعلمه أمته ،حىت قال رجل :ما شاء اهلل وشئت،
ندا؟ بل ما شاء اهلل وحده» وهنى عن احللف بغري اهلل وقال:
قال« :أجعلتن هلل ً
«من حلف بغري اهلل فقد أشرك» ،وقال يف مرض موته« :لعن اهلل اليهود
والنصارى اختذوا قبور أنبيائهم مساجد» ،حيذر ما فعلوا ،وقال« :اللهم ال جتعل
قربي وثنًا يعبد».
وهلذا اتفق العلماء على أن من سلَّم على النيب عند قربه أنه ال يتمسح
حبجرته وال يقبلها ،ألنه إمنا يكون ألركان بيت اهلل فال يشبه بيت املخلوق بيت
()1
اْلالق» .
وقال الشيخ عبد الرمحن بن حسن رمحهما اهلل تعاىل يف شرحه على كتاب
التوحيد:
قوله« :اللَّهم ال جتعل قربي وثنًا يعبد» ،قد استجاب اهلل دعاءه كما قال
ابن القيم رمحه اهلل تعاىل:
وأحاط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه بثالث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة الج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدران فأج ـ ـ ـ ــاب رب الع ـ ـ ـ ــالمين دع ـ ـ ـ ــاءه
ف ـ ـ ـ ـ ــي ع ـ ـ ـ ـ ــزة وحماي ـ ـ ـ ـ ــة وص ـ ـ ـ ـ ــيان حتـ ـ ـ ــى غـ ـ ـ ــدت أرجـ ـ ـ ــاؤه بدعائـ ـ ـ ــه
ودل احلديث عـلى أن قـرب النيب لو عبد لكان وثنًا ،ولكن محاه
-264-
اهلل تعاىل ملا حال بينه وبني الناس فال يوصل إليه.
ودل احلديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت اليت
عليها .وقد عظمت الفتنة بالقبور لتعظيمها وعبادهتا ،كما قال عبد اهلل بن
مسعود :كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبري ،وينشأ فيها الصغري،
()1
جتري على الناس يتخذوهنا سنة ،إذا غريت قيل :غريت السنَّة .انتهى» .
* * *
-261-
المبحث الثاني
ل يجوز تخصيص القبور بنوع من عبادة اهلل سبحانه
فكيف بعبادتها ،وعبادة أصحابها؟!
قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل رحمهما اهلل تعالى في شرحه على
كتاب التوحيد:
باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد اهلل عند قبر رجل صالح فكيف إذا
عبده؟!
أي :عبد القرب أو الرجل الصاحل ،وملا كان عباد القبور إمنا دهوا من حيث
ظنوا أهنم حمسنون ،فرأوا أن أعماهلم القبيحة حسنة ،كما قال تعاىل﴿ :أَفَ َمن
زيِّ َن لَه سوء َع َملِ ِه فَـَرآه َح َسنًا﴾ [فاطر ]1 :اآلية...
قال :يف «الصحيح» عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول اهلل كنيسة رأهتا
بأرض احلبشة وما فيها من الصور .فقال« :أولئك إذا مات فيهم الرجل الصاحل
مسجدا ،وصوروا فيه تلك الصور ،أولئك شرار ً أو العبد الصاحل بنوا على قربه
اْللق عند اهلل».
فهؤالء مجعوا بني الفتنتني :فتنة القبور وفتنة التماثيل....
(تحريم بناء المساجد على القبور ،وعلة ذلك المنع)
قوله :أولئك شرار اْللق عند اهلل .مقتضى هذا التحرمي ما ذكر ،ال سيما
وقد ثبت اللعن عليه.
تعظيما
ً قال البيضاوي :ملا كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور األنبياء
يتوجهون يف الصالة حنوها ،واختذوها أوثانًا ،لعنهم النيب لشأهنم ،وجيعلوهنا قبلة َّ
،ومنع املسلمني عن مثل ذلك.
-261-
صور أوائلهم الصور ليتأسوا هبا ،ويتذكروا أفعاهلم قال القرطيب :وإمنا َّ
الصاحلة ،فيجتهدون كاجتهادهم ،ويعبدون اهلل عند قبورهم ،مث خلفهم قوم
جهلوا مرادهم ،ووسوس هلم الشيطان أن أسالفكم كانوا يعبدون هذه الصور
ويعظموهنا ،فحذر النيب عن مثل ذلك س يدا للذريعة املؤدية إىل ذلك.
قوله :فهؤالء مجعوا بني الفتنتني ...إىل آخره .هذا من كالم شيخ اإلسالم
ذكره املصنف عنه .يعن أن الذين بنوا هذه الكنيسة مجعوا فيها بني فتنتني ،ضل
هبا كثري من اْللق.
مبتدعا،
تعظيما ًً األوىل :فتنة القبور ،ألهنم افتتنوا بقبور الصاحلني ،وعظموها
فآل هبم إىل الشرك ،وهي أعظم الفتنتني ،بل هي مبدأ الفتنة.
الثانية :وهي فتنة التماثيل ،أي :الصور ،فإهنم ملا افتتنوا بقبور الصاحلني
وصوروا فيها الصور للقصد الذي ذكره القرطيب،
وعظموها ،وبنوا عليها املساجدَّ ،
فآل األمر إىل أن عبدت الصور ،ومن هي صورته من دون اهلل ،وهاتان الفتنتان
مها سبب عبادة الصاحلني ،كالالَّت وود وسوا ويغوث ويعوق ونسر ،وغريهم
من الصاحلني.
(الفتنة بالقبور من أخطر الذرائع المؤدية للوقوع في الشرك األكبر،
وتلك هي علة المنع من اتخاذها مساجد)
قال شيخ اإلسالم رمحه اهلل تعاىل :وهذه العلة هي اليت ألجلها هنى الشار
كثريا من األمم إما يف الشرك
عن اختاذ املساجد على القبور ،وهي اليت أوقعت ً
األكرب ،أو فيما دونه من الشرك ،فإن النفوس قد أشركت َتاثيل القوم الصاحلني،
وَتاثيل يزعمون أهنا طالسم لكواكب وحنو ذلك ،فإن الشرك بقرب الرجل الذي
يعتقد صالحه أقرب إىل النفوس من الشرك خبشبة أو حجر .وهلذا جتد أهل
الشرك يتضرعون عندها وخيشعون
-255-
وخيضعون ،ويعبدون بقلوهبم عبادة ال يفعلوهنا يف بيوت اهلل ،وال وقت
السحر ،ومنهم من يسجد هلا ،وأكثرهم يرجون من بركة الصالة عندها والدعاء
ما ال يرجونه يف املساجد ،فألجل هذه املفسدة حسم النيب مادهتا حىت هنى
مطلقا ،وإن ل يقصد املصلي بركة البقعة بصالته ،كما عن الصالة يف املقربة ً
يقصد بصالته بركة املساجد.
كما هنى عن الصالة وقت طلو الشمس وغروهبا ،ألهنا أوقات يقصد
املشركون فيها الصالة للشمس ،فنهى أمته عن الصالة حينئذ ،وإن ل يقصد ما
سدا للذريعة.
قصده املشركون ً
قال :وأما إذا قصد الرجل الصالة عند القبور متربًكا بالصالة يف تلك البقعة،
احملادة هلل ورسوله ،واملخالفة لدينه ،وابتدا دين ل يأذن به اهلل.
فهذا عني َّ
فإن املسلمني قد أمجعوا على ما علموه باالضطرار من دين رسول اهلل أن
الصالة عند القبور منهي عنها ،وأنه لعن من اختذها مساجد.
فمن أعظم احملدثات وأسباب الشرك الصالة عندها ،واختاذها مساجد،
وبناء املساجد عليها ،فقد تواترت النصوص عن النيب بالنهي عن ذلك
صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء املساجد عليها متابعة والتغليظ فيه .وقد َّ
منهم للسنَّة الصحيحة الصرحية.
وصرح أصحاب أمحد وغريهم من أصحاب مالك والشافعي بتحرمي ذلك،
وطائفة أطلقت الكراهة .والذي ينبغي أن حتمل على كراهة التحرمي إحسانًا
للظن بالعلماء ،وأن ال يظن هبم أن جيوزوا فعل ما تواتر عن رسول اهلل لعن
فاعله والنهي عنه.
قال :وهلما عنها قالت :ملا نزل برسول اهلل طفق يطرح مخيصة له على
وجهه ،فإذا اغتم هبا كشفها فقال وهو كذلك« :لعنة اهلل على اليهود
-259-
والنصارى ،اختذوا قبور أنبيائهم مساجد ،حيذر ما صنعوا ،ولوال ذلك أبرز
مسجدا» أخرجاه.
ً قربه غري أنه خشي أن يتخذ
هكذا ثبت يف أول هذا احلديث «وهلما» يف آخره« :أخرجاه» خبط
املصنف ،وأحد اللفظني يغن عن اآلخر ،ألن املراد صاحبا «الصحيحني»....
سد الذريعة يف قرب النيب ،فأعلوا قال القرطيب :وهلذا بالغ املسلمون يف ِّ
وسدوا املداخل إليها ،وجعلوها حمدقة بقربه ،مث خافوا أن يتخذ حيطان تربتهُّ ،
موضع قربه قبلة إذا كان مستقبل املصلني ،فتصور الصالة إليه بصورة العبادة،
وحرفومها ،حىت التقيا على زاوية مثلثة من
فبنوا جدارين من ركن القرب الشمالينيَّ ،
ناحية الشمال ،حىت ال ميكن أحد من استقبال قربه.
قلت :ويف احلديثني مسائل نبَّه املصنف على بعضها.
مسجدا يعبد اهلل فيه على قرب رجلً منها :ما ذكر الرسول فيمن بى
صحت نية الفاعل.
صاحل ،ولو َّ
ومنها :النهي عن التماثيل بتغليظ األمر.
ومنها :هنيه عن فعله عند قربه ،قبل أن يوجد القرب.
ومنها :أنه من سنن اليهود والنصارى يف قبور أنبيائهم.
ومنها :لعنه إياهم على ذلك.
ومنها :مراده بذلك حتذيره إيانا عن قربه.
ومنها :العلة يف عدم إبراز قربه.
ومنها :ما بلي به من شدة النز .
()1
قلت :ومنها التنبيه على علة حترمي ذلك ،وعلة لعن من فعله» .
-252-
المبحث الثالث
حرمة اتخاذ القبور مساجد
ووجوب هدمها معلوم بالضطرار من الدين
حرمة اختاذ القبور مساجد معلومة من الدين بالضرورة ،وذلك لئال تقع األمة
يف الشرك ،وتلك هي علة املنع ،وليست مظنة النجاسة ،ومن مثي لعن كل من
أعان على تعظيمها خشية أن تقع األمة يف احملذور من حرمتها.
قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل في شرحه لكتاب التوحيد:
قوله« :أال وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد» ،إىل آخر
احلديث .قال اْللخايل :وإنكار النيب صنيعهم هذا خيرج على وجهني:
أحدهما :أهنم يسجدون لقبور األنبياء ً
تعظيما هلم.
والثاني :أهنم َجي ِّوزون الصالة يف مدافن األنبياء والسجود يف مقابرهم،
نظرا منهم بذلك إىل عبادة اهلل ،واملبالغة يف تعظيم
والتوجه إليها حالة الصالة ً
األنبياء ،واألول :هو الشرك اجللي ،والثاي :اْلفي ،فلذلك استحقوا اللعن.
قلت :احلديث أعم من ذلك ،فيشمل بناء املساجد والقباب عليها....
قال ابن القيم :وباجلملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه ،وفهم عن
الرسول مقاصده جزم ً
جزما ال حيتمل النقيض ،أن هذه املبالغة واللعن والنهي
بصيغته :صيغة «ال تفعلوا» وصيغة «إي أهناكم» ليس ألجل النجاسة ،بل هو
ألجل جناسة الشرك الالحقة مبن عصاه ،وارتكب ما عنه هناه واتبع هواه ،ول
وقل نصيبه ،أو عدم من حتقيق ال إال َّ خيش ربه ومواله،
إالَّ اهلل ،فـإن هذا وأمثاله من النيب صيانة حلمى التوحيد أن يلحقه
-253-
الشرك ويغشاه ،وجتريد له ،وغضب لربه أن يعدل به سواه ،فأىب املشركون
إالَّ معصية ألمره وارتكابًا لنهيه ،وغرهم الشيطان بأن هذا التعظيم لقبور املشايخ
غلوا كنتم بقرهبم أسعد، تعظيما ،وأشد فيهم ً ً والصاحلني ،وكلما كنتم أشد هلا
ومن أعدائهم أبعد.
ولعمر اهلل من هذا الباب بعينه دخل على عبَّاد يغوث ويعوق ،ونسر،
ودخل على عبَّاد األصنام منذ كانوا إىل يوم القيامة .فجمع املشركون بني الغلو
فيهم والطعن يف طريقتهم ،وهدى اهلل أهل التوحيد لسلوك طريقهم وإنزاهلم
منازهلم اليت أنزهلم اهلل إياها من العبودية ،وسلب خصائ اإلهلية.
قلت :وممن علَّل خبوف الفتنة والشرك :الشافعي ،وأبو بكر األثرم ،وأبو
حممد املقدسي ،وشيخ اإلسالم ،وغريهم ،وهو احلق...
مرفوعا« :إن من شرار الناس من قال :وألمحد بسند جيد ،عن ابن مسعود ً
تدركهم الساعة وهم أحياء ،والذين يتخذون القبور مساجد» رواه أبو حام يف
«صحيحه».
قوله :إن من شرار الناس .هو بكسر الشني مجع شر.
قوله :من تدركهم الساعة وهم أحياء .أي :من تقوم عليهم الساعة حبيث
ينفخ يف الصور وهم أحياء ،وهذا كحديثه اآلخر الذي يف مسلم« :ال تقوم
الساعة إالَّ على شرار اْللق»...
(أجمع العلماء على حرمة األبنية على القبور ،ووجوب هدمها)
وقد أمجع العلماء على النهي عن البناء على القبور وحترميه ووجوب هدمه،
هلذه األحاديث الصحيحة الصرحية ،اليت ال مطعن فيها بوجه من الوجوه ،وال
فرق يف ذلك بني البناء يف مقربة مسبلة ،أو مملوكة ،إالَّ أنه يف اململوكة أشد .وال
مطلقا ،وإما يف اململوكة.
شذ من املتأخرين فأباح ذلك ،إما ً عربة مبن َّ
-254-
قال اإلمام أبو حممد بن قدامة :وال جيوز اختاذ املساجد على القبور ألن النيب
قال« :لعن اهلل اليهود والنصارى اختذوا قبور أنبيائهم مساجد» حيذر ما
صنعوا .وألن ختصي القبور بالصالة عندها يشبه تعظيم األصنام بالسجود هلا
والتقرب إليها ،وقد روينا أن ابتداء عبادة األصنام :تعظيم األموات باختاذ
صورهم والتمسح هبا والصالة عندها.
وقال شيخ اإلسالم :أما بناء املساجد على القبور ،فقد صرح عامة علماء
وصرح أصحابنا وغريهم من الطوائف بالنهي عنه ،متابعة لألحاديث الصحيحةَّ ،
أصحاب مالك والشافعي بتحرميه ،قال :وال ريب يف القطع بتحرميه ،مث ذكر
األحاديث يف ذلك ...إىل أن قال :فهذه املساجد املبنية على قبور األنبياء
والصاحلني ،أو امللوك وغريهم ،تتعني إزالتها هبدم أو بغريه ،هذا مما ال أعلم فيه
خالفًا بني العلماء املعروفني.
وقال ابن القيم :جيب هدم القباب اليت على القبور ،ألهنا أسست على
معصية الرسول .وقال أبو حف :حترم احلجرة بل هتدم .فإذا كان هذا
كالمه يف احلجرة فكيف بالقبة؟
مسجدا خمافة الفتنة
ً وقال الشافعي :أكره أن يعظم خملوق ،حىت جيعل قربه
أيضا :تسطَّح القبور وال تبى وال ترفع، عليه ،وعلى من بعده من الناس .وقال ً
وتكون على وجه األرض .وقد أفىت مجاعة من الشافعية هبدم ما يف القرافة من
األبنية ،منهم :ابن اجلميزي ،والظهري الرتمين ،وغريمها.
()1
القـبور ،وال أن يبى جتص
وقال القاضي ابن كج :وال جيـوز أن َّ
( )1جتصي القبور :طالؤها باجلَ ،واجلَ بالفتح وميكن كسره عند بعض اللغويني ،وهو نو من
احلجارة يبى به ،ويطلى كذلك ،قاله عبد السالم بن حممد بن عمر يف :الذيل على النهاية يف
غريب احلديث واألثر لإلمام ابن األثري ص ،41دار ابن حزم ،الطبعة األوىل 9494هـ.
-256-
عليها قباب وال غري قباب ،والوصية هبا باطلة .وقال األذرعي :وأما بطالن
الوصية ببناء القباب وغريها من األبنية العظيمة ،وإنفاق األموال الكثرية ،فال
ريب يف حترميه.
مطلقا ،وذكر يف
قلت :وجزم النووي يف «شرح املهذب» بتحرمي البناء ً
جيص القربأيضا .وقال القرطيب يف حديث جابر :هنى أن َّ «شرح مسلم» حنوه ً
أو يبى عليه ،وبظاهر هذا احلديث قال مالك ،وكره البناء واجل على القبور
وقد أجازه غريه ،وهذا احلديث حجة عليه....
(المفاسد المترتبة على بناءات القبور):
واعلم أنه قد وقع بسبب البناء على القبور من املفاسد اليت ال حييط هبا على
التفصيل إالَّ اهلل ،ما يغضب من أجله كل من يف قلبه رائحة إميان ،كما نبَّه عليه
ابن القيم وغريه.
فمنها :اعتيادها للصالة عندها ،وقد هنى النيب عن ذلك.
ومنها :حتري الدعاء عندها .ويقولون :من دعا اهلل عند قرب فالن استجاب
اجملرب ،وهذا بدعة منكرة.
له ،وقرب فالن الرتياق َّ
ومنها :ظنهم أن هلا خصوصيات بأنفسها يف دفع البالء وجلب النعماء،
ويقولون :إن البالء يدفع عن أهل البلدان بقبور من فيها من الصاحلني ،وال ريب
أن هذا خمالف للكتاب والسنَّة واإلمجا .فالبيت املقدس كان عنده من قبور
األنبياء والصاحلني ما شاء اهلل ،فلما عصوا الرسول وخالفوا ما أمرهم اهلل به،
سلَّط اهلل عليهم من انتقم منهم .وكذلك أهل املدينة ملا تغريوا بعض التغري،
احلرة من النهب والقتل وغري ذلك من املصائب ما ل جير جرى عليهم عام َّ
عليهم قبل ذلك .وهذا أكثر من أن حيصر.
ومنها :الدخول يف لعنة رسول اهلل ،باختاذ املساجد عليها وإيقاد
-255-
السرج عليها.
ومنها :أن ذلك يتضمن عمارة املشاهد ،وخراب املساجد كما هو الواقع،
ودين اهلل بضد ذلك.
ومنها :اجتماعهم لزيارهتا واختالط النساء بالرجال ،وما يقع يف ضمن ذلك
حتملها عنهم ،بل
من الفواحش وترك الصلوات ،ويزعمون أن صاحب الرتبة َّ
اشتهر أن البغايا يسقطن أجرهتن على البغاء يف أيام زيارة املشايخ ،كالبدوي
وغريه تقربًا إىل اهلل بذلك ،فهل بعد هذا يف الكفر غاية؟
ومنها :كسوهتا بالثياب النفيسة املنسوجة باحلرير والذهب والفضة وحنو
ذلك.
ومنها :جعل اْلزان واألموال ووقف الوقوف ملا حيتاج إليه من ترميمها وحنو
ذلك.
ومنها :إهداء األموال ونذر النذور لسدنتها العاكفني عليها ،الذين هم أصل
كل بلية وكفر ،فإهنم الذين يكذبون على اجلهال والطغام بأن فالنًا دعا صاحب
الرتبة فأجابه ،واستغاثه فأغاثه ومرادهم بذلك تكثري النذر واهلدايا هلم.
ومنها :جعل السدنة هلا كسدنة عباد األصنام.
ومنها :اإلقسام على اهلل يف الدعاء باملدفون فيها.
الزوار إذا رأى البناء الذي على قرب صاحب الرتبة سجد
كثريا من َّ
ومنها :أن ً
له.
وال ريب أن هذا كفر بن الكتاب والسنَّة وإمجا األمة ،بل هذا هو عبادة
األوثان ،ألن السجود للقبة عبادة هلا ،وهو من جنس عبادة النصارى للصور اليت
يف كنائسهم على صور من يعبدونه بزعمهم الباطل ،فإهنم عبدوها ومن هي
صورته ،وكذلك عباد القبور ملا بنوا القباب على القبور آل هبم إىل
-254-
عز وجل. أن عبدت القباب ومن بنيت عليه من دون اهلل َّ
ومنها :النذر للمدفون فيها ،وفرض نصيب من املال والولد ،وهذا هو الذي
صيبًا فَـ َقالواْ َهـ َذا لِلي ِه قال اهلل فيه﴿ :وجعلواْ لِلي ِه ِممِّا َذرأَ ِمن ْ ِ
ث واألَنْـعاِم نَ ِ
احلَْر َ َ َ َ َ ََ
بَِز ْع ِم ِه ْم َوَهـ َذا لِشَرَكآئِنَا﴾ [األنعام ،]935 :بل هذا أبلغ فإن املشركني ما كانوا
يبيعون أوالدهم ألوثاهنم.
ومنها :أن املدفون فيها أعظم يف قلوب عباد القبور من اهلل وأخوف ،وهلذا
لو طلبت من أحدهم اليمني باهلل تعاىل أعطاك ما شئت من األميان كاذبًا أو
صادقًا ،وإذا طلبت بصاحب الرتبة ل يقدم إن كان كاذبًا.
وال ريب أن عباد األوثان ما بلغ شركهم إىل هذا احلد ،بل كانوا إذا أرادوا
()1
تغليظ اليمني ،غلَّظوها باهلل كما يف قصة القسامة وغريها .
( )1أخرج اإلمام البخاري يف صحيحه ،عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قالَّ « :
إن َّأول قَ َسامة كانت
يف اجلاهلية لفينا بن هاشم :كان رجل من بن هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى
انقطعت غروة جوالقه فقال :أغثْن بعقال أش ُّد ْ فمر به رجل من بن هاشم قد فانطلق معه يف إبلهَّ ،
لت اإلبل إالَّ ِ ِِ به عروةَ جوالقي ال تَنف ِر اإلبل ،فأعطاه عقاالً َّ
فشد به عروَة جوالقه .فلما َنزلوا عق ً
احدا ،فقال الذي استأجره :ما شأن هذا البعري ل يع َق ْل من بني اإلبل؟ قال :ليس له عقال. بعريا و ً
ً
فمر به رجل من أهل اليمن ،فقال :أتشهد ِ
قال :فأين عقاله؟ قال فح َذفَه بعصا كان فيها أجلهَّ .
املوسم؟ قال :ما أشهد ورَّمبا ش ِهدته .قال :هل أنت مْبلِغ عن رسال ًة مرًة من الدهر؟ قال :نعم.
فناد يا آل بن هاشم ،فإن فناد يا آل قريش ،فإذا أجابوك ِ قال فكتب .إذا أنت شهدت املوسم ِ
َ
أن فالنًا قَـتلن يف عقال .ومات املستأجر .فلما ِ
قد َم الذي َّ هرب فأخ طالب أجابوك فاسأل عن أيب
َ َْ
فعل صاحبنا؟ قال :مرض فأحسنت القيام عليه ،فوليت دفنْه. استأجَره أتاه أبو طالب فقال :ما ََ
املوسم
َ اىفو عنه بلغ
َ ي أن إليه أوصى الذي ل
َ الرج إن مث
َّ ا حين
َ ً فمكث . منك ذلك أهل كان قد قال:
فقال :يا آل قريش ،قالوا :هذه قريش .قال يا بن هاشم ،قالوا :هذه بنو هاشم .قال أين أبو
أن فالنًا قتله يف عقال .فأتاه أبو أمري فالن أن أبلِغَك رسالةً َّ طالب؟ قالوا :هذا أبو طالب .قال َ
صاحبنا،
تلت َ فإنك قَ َ
تؤدي مائةً من اإلبل َ اخرت منَّا إحدى ثالث :إن شئت أن ِّ طالب فقال لهَ :
شئت حلف مخسون من قومك إنك ل تقتله ،وإن أبيت قتلناك به .فأتى قومه فقالوا حنلف.ِ
وإن َ
أحب أن جت َيز ابن
فأتته امرأة من بن هاشم كانت حتت رجل منه َو َلدت له فقالت :يا أبا طالب ُّ
صرب ميينَه حيث تصبَـر األميان ،ففعل .فأتاه رجل منهم فقال :يا أبا ِ
هذا برجل من اْلمسني وال ت ْ
طالب أردت مخسني رجالً أن حيلفوا مكان مائة من اإلبل ،يصيب كل رجل بَعريان ،هذان بعريان
=
-251-
ومنها :سؤال امليت قضاء احلاجات ،وتفريج الكربات ،واإلخالص له من
دون اهلل يف أكثر احلاالت.
ومنها :التضر عند مصار األموات ،والبكاء باهليبة واْلشو ملن فيها أعظم
مما يفعلونه مع اهلل يف املساجد والصلوات.
ومنها :تفضيلها على خري البقا وأحبها إىل اهلل ،وهي املساجد ،فيعتقدون
أن العبادة والعكوف فيه أفضل من العبادة والعكوف يف املساجد ،وهذا أمر ما
بلغ إليه شرك األولني ،فإهنم يعظمون املسجد احلرام أعظم من بيوت األصنام
يرون فضله عليها ،وهؤالء يرون العكوف يف املشاهد أفضل من العكوف يف
املساجد.
ومنها :أن الذي شرعه الرسول يف زيارة القبور إمنا هو تذكرة اآلخرة ،كما
بالرتحم عليه،
قال« :زوروا القبور فإهنا تذكركم اآلخرة» ،واإلحسان إىل املزور ُّ
والدعاء له واالستغفار ،وسؤال العافية له ،فيكون الزائر حمسنًا إىل نفسه وإىل
فقلب عبَّاد القبور األمر ،وعكسوا الدين ،وجعلوا املقصود بالزيارة :الشرك
امليتَ ،
وسؤاله به، والدعاء ودعاءه بامليت
حـوائجهم ونصرهم على األعداء وحنو ذلك .فصاروا مسيئني إىل نفوسهم
=
تصرب َميين حيث تصبَـر األميان فقبلهما .وجاء مثانية وأربعون فحلفوا .قال ابن
فاقْبلهما من وال ْ
عبَّاس :فوالذي نفسي بيده ما حال احلول ومن الثمانية وأربعني عني تَط ِرف» .ارجع فتح الباري
ج 4كتاب مناقب األنصار ،باب القسامة يف اجلاهلية( :ص )919 – 915حتقيق :حممد الدين
اْلطيب ،الناشر :دار الريان للرتاث بالقاهرة.
-251-
وإىل امليت ،ولو ل يكن إالَّ حبرمانه بركة ما شرعه اهلل من الدعاء والرتحم
عليه واالستغفار له.
ومنها :إيذاء أصحاهبا مبا يفعله عباد القبور هبا ،فإنه يؤذيهم ما يفعلونه عند
قبورهم ،ويكرهونه غاية الكراهة ،كما أن املسيح يكره ما يفعله النصارى،
وكذلك غريه من األنبياء واألولياء ،يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم،
ويوم القيامة يتربءون منهم كما قال تعاىل﴿ :ومن أَض ُّل ِممَّن ي ْدعو ِمن د ِ
ون اللَّ ِه َ ََ ْ َ
َمن َّال يَ ْستَ ِجيب لَه إِ َىل يَ ِوم الْ ِقيَ َام ِة َوه ْم َعن د َعائِ ِه ْم َغافِلو َن * َوإِ َذا ح ِشَر النَّاس
ِ ِ ِِ ِ
ين﴾ [األحقاف.]5 ،6 : َكانوا َهل ْم أ َْع َداء َوَكانوا بعَب َادهت ْم َكاف ِر َ
حمادة اهلل ورسوله ،ومناقضة ما شرعه فيها. ومنهاَّ :
ومنها :التعب العظيم مع الوزر الكبري ،واإلمث العظيم.
وكل هذه املفاسد العظيمة وغريها مما ل يذكر ،إمنا حدثت بسبب البناء
على القبور ،وهلذا جتد القبور اليت ليس عليها قباب ال يأتيها أحد ال يعتادها
لشيء مما ذكر إالَّ ما شاء اهلل ،وصاحب الشر أعلم مبا يؤول إليه هذا األمر،
فلذلك غلَّط فيه وأبدأ وأعاد ،ولعن من فعله ،فاْلري واهلدى يف طاعته ،والشر
والضالل يف معصيته وخمالفته.
والعجب ممن يشاهد هذه املفاسد العظيمة عند القبور ،مث يظن أن النيب
إمنا هنى عن اختاذ املساجد عليها ألجل النجاسة ،كما يظنه بعض متأخري
الفقهاء ،ولو كان ذلك ألجل النجاسة ،لكان ذكر اجملازر واحلشوش ،بل ذكر
التحرز من البول والغائط أوىل .وإمنا ذلك ألجل جناسة الشرك ،اليت وقعت من
عبَّاد القبور ،ملا خالفوا ذلك ،ونبذوه وراء ظهورهم ،واشرتوا به مثنًا قليالً ،فبئس
()1
ما يشرتون» .
-245-
المبحث الرابع
أشهر شبهات أهل القبور ،والرد الباهر عليها
لقد ظن املشركون يف قوله « :ال جتعلوا قربي ً
عيدا» ،أن املراد :اقصدوه يف
كل ساعة ووقت ،وال جتعلوه كالعيد الذي ،يكون من احلول إىل احلول.
قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل يف شرحه على كتاب التوحيد:
عن أيب هريرة قال :قال رسول اهلل « :ال جتعلوا بيوتكم ً
قبورا ،وال جتعلوا
علي فإن صالتكم تبلغن حيث كنتم» رواه أبو داود بإسناد عيدا ،وصلوا ي قربي ً
حسن .رواته ثقات.
عيدا» ،قال شيخ اإلسالم :العيد اسم ملا يعود من قوله« :وال جتعلوا قربي ً
عائدا إما بعود السنة أو بعود األسبو ،أو االجتما العام على وجه معتادً ،
الشهر ،وحنو ذلك ،وتقدم ذلك.
وقال ابن القيم رمحه اهلل تعاىل :العبد ما يعتاد جميئه وقصده من زمان
ومكان ،مأخوذ من املعاودة واالعتياد ،فإن كان امسًا للمكان فهو املكان الذي
يقصد فيه االجتما وانتيابه للعبادة ،أو لغريها ،كما أن املسجد احلرام ومى
عيدا للحنفاء ومثابة ،كما جعل أيام العيد ومزدلفة وعرفة واملشاعر جعلها اهلل ً
عيدا ،وكان للمشركني أعياد زمانية ومكانية ،فلما جاء اهلل باإلسالم أبطلها فيها ً
عوضهم عن أعياد وعوض احلنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام مى ،كما َّ َّ
املشركني املكانية بالكعبة ومى ومزدلفة وعرفة واملشاعر.
وقال غريه :هذا أمر مبالزمة قربه والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه،
-249-
وهنى أن جيعل كالعيد الذي إمنا يكون يف العام مرة أو مرتني ،فكأنه قال:
ال جتعلوه كالعيد الذي يكون من احلول إىل احلول ،واقصدوه كل ساعة وكل
وقت.
وحمادة ومناقضة ملا قصده الرسول قال ابن القيم رمحه اهلل :وهذا مراغمة َّ
وقلب للحقائق ،ونسبة الرسول إىل التلبيس والتدليس بعد التناقض ،فقاتل اهلل
أهل الباطل أن يؤفكون.
وال ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر ومالزمته وكثرة انتيابه بقوله :ال جتعلوا
عيدا ،فهو إىل التلبيس وضد البيان أقرب منه إىل الداللة والبيان ،وهكذا غريت ً
أديان الرسل ،ولوال أن اهلل أقام لدينه األنصار واألعوان الذابِّني عنه ،جلرى عليه
ما جرى على األديان قبله ،ولو أراد رسول اهلل ما قاله هؤالء الضالَّل ل ينه
عن اختاذ قبور األنبياء مساجد ،ويلعن فاعل ذلك ،فإنه إذا لعن من اختذها
مساجد يعبد اهلل فيها ،فكيف يأمر مبالزمتها والعكوف عندها ،وأن يعتاد
قصدها وانتياهبا ،وال جتعل كالعيد الذي جييء من احلول إىل احلول؟ وكيف
يسأل ربه أن ال جيعل قربه وثنًا يعبد؟ وكيف يقول أعلم اْللق بذلك؟ «ولوال
مسجدا» ،وكيف يقول« :ال جتعلوا ً ذلك ألبرز قربه ،ولكن خشي أن يتخذ
علي حيثما كنتم؟».عيدا ،وصلوا ي
قربي ً
وكيف ال يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ،ما فهمه هؤالء الضالل ،الذين
مجعوا بني الشرك والتحريف؟! وهذا أفضل التابعني من أهل بيته علي بن احلسني
يتحرى الدعاء عند قربه ،واستدل رضي اهلل عنهما ،هنى ذلك الرجل أن َّ
باحلديث وهو الذي رواه ومسعه من أبيه احلسني عن جده علي رضي اهلل عنهما،
وهو أعلم مبعناه من هؤالء الضالل ،وكذلك ابن عمه احلسن بن احلسن شيخ
أهل بيته ،كره أن يقصد الرجل القرب إذا ل يكن يريد املسجد ،ورأى أن ذلك
عيدا .انتهى....
من اختاذه ً
-242-
رخ فيه- ، أحدا ،أي :من علماء السلف َّ
قال شيخ اإلسالم :ما علمت ً
عيدا ،ويدل
أي :قصد الرجل القرب ألجل السالم -ألن ذلك نو من اختاذه ً
أيضا على أن قصد القرب للسالم إذا دخل املسجد ليصلي منهي عنه ،ألن ذلك ً
عيدا ،وكره مالك ألهل املدينة كلما دخل إنسان املسجد أن يأيت قرب
من اختاذه ً
النيب ،ألن السلف ل يكونوا يفعلون ذلك .قال :ولن يصلح آخر هذه األمة
إالَّ ما أصلح أوهلا ،بل كان الصحابة والتابعون يأتون إىل مسجده فيصلون
خلف أيب بكر وعمر وعثمان وعلي ،مث إذا قضوا الصالة قعدوا ،أو خرجوا،
ول يكونوا يأتون القرب للسالم ،لعلمهم أن الصالة والسالم عليه يف الصالة
أكمل وأفضل....
السالم عليه عند قربه،
واملقصود أن الصحابة ما كانوا يعتادون الصالة و َّ
كما يفعله من بعدهم من اْللوف ،وإمنا كان بعضهم يأيت من خارج فيسلم
عليه ،إذا قدم من سفر ،كما كان ابن عمر يفعل.
قال عبيد اهلل بن عمر عن نافع :كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قرب
النيب فقال :السالم عليك يا رسول اهلل ،السالم عليك يا أبا بكر ،السالم
عليك يا أبتاه ،مث ينصرف.
أحدا من أصحاب النيب فعل ذلك إالَّ ابن عمر.قال عبيد اهلل :ما نعلم ً
وهذا يدل على أنه ال يقف عند القرب للدعاء إذا سلم كما يفعله كثري .قال
()1
شيخ اإلسالم :إن ذلك ل ينقل عن أحد من الصحابة ،فكان بدعة حمضة .
ويف «املبسوط» قال مالك :ال أرى أن يقف عند قرب النيب ولكن ليسلم
وميضي.
واحلكاية اليت رواها القاضي عياض بإسناده عن مالك يف قصته مع
اإلمام أمحد بن حنبل رمحه اهلل تعاىل هلذه املسألة يف الصفحة القادمة. ( )1انظر لن
-243-
املنصور ،وأنه قال ملالك :يا أبا عبد اهلل أستقبل القبلة وأدعو ،أم أستقبل
رسول اهلل ؟ فقال :ول تصرف وجهك عنه ،وهو وسيلتك ،ووسيلة أبيك آدم
إىل اهلل يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به يشفعه اهلل فيك .فهذه الرواية
ضعيفة ،أو موضوعة ألن يف إسنادها من يتهم حممد بن محيد ،ومن جيهل حاله.
ون أمحد أنه يستقبل القبلة ،وجيعل احلجرة عن يساره ،لئال يستدبره وذلك
بعد حتيته والسالم عليه ،فظاهر هذا أنه يقف للدعاء بعد السالم .وذكر
أصحاب مالك أنه يدعو مستقبالً القبلة يوليه ظهره.
وباجلملة فقد اتفق األئمة على أنه إذا دعا ال يستقبل القرب ،وتنازعوا هل
يستقبله عند السالم أم ال؟ ومن احلجة يف ذلك ما روى ابن زبالة وهو يف
«أخبار املدينة» عن عمر بن هارون ،عن سلمة بن وردان -ومها ساقطان -قال:
رأيت أنس بن مالك يسلم على النيب مث يسند ظهره إىل جدار القرب ،مث
يدعو.
(تحريم شد الرحال إلى القبور ،ألنه من أعظم أسباب الشرك بها،
وبأصحابها)
()1
ويف احلديث دليل على منع شد الرحال إىل قربه ،وإىل غريه من القبور
أعيادا ،بل من أعظم أسباب اإلشراك ً واملشاهد ،ألن ذلك من اختاذها
بأصحاهبا ،كما وقع من عبَّاد القبور الذين يشدون إليها الرحال ،وينفقون يف
ذلك الكثري من األموال ،وليس هلم مقصود إالَّ جمرد الزيارة للقبور تربًكا بتلك
القباب واجلدران فوقعوا يف الشرك.
هذه املسألة اليت أفىت فيها شيخ اإلسالم ،أعن من سافر جملرد زيارة قبور
األنبياء والصاحلني ،ومشاهدهم ،ونقل فيها اختالف العلماء يف اإلباحة
-244-
واملنع ،فمن مبيح لذلك كأيب حامد الغزايل وأيب حممد املقدسي ،ومن منع
لذلك كابن بطة وابن عقيل وأيب حممد اجلوين والقاضي عياض ،وهو قول
اجلمهور ن عليه مالك ،ول يكن خيالفه أحد من األئمة وهو الصواب .فقام
مطلقا وهو ل
عليه بعض املعاصرين له كالسبكي وحنوه فنسبه إىل إنكار الزيارة ً
ينكر منها إالَّ ما كان بشد رحل ،كما أنكره مجهور العلماء قبله أو الزيارة اليت
يكون فيها دعاء األموات ،واالستغاثة هبم يف امللمات ،مع ما ينضم إىل ذلك
من أنوا املنكرات.
ومما يدل على النهي عن شد الرحل إىل القبور وحنوها ،ما أخرجاه يف
«الصحيحني» عن أيب سعيد عن النيب قال« :ال تشد الرحال إالَّ إىل ثالثة
مساجد :املسجد احلرام ،ومسجدي هذا ،واملسجد األقصى» ،فدخل يف ذلك
شدمها لزيارة القبور واملشاهد ،فإما أن يكون هنيًا ،وإما أن يكون نفيًا
لالستحباب .وقد جاء يف رواية يف «الصحيح» بصيغة النهي صرحيًا فتعني أن
يكون للنهي.
وهلذا فهم منه الصحابة املنع ،كما يف «املوطأ» و«السنن» عن بصرة بن
أيب بصرة الغفاري أنه قال أليب هريرة وقد أقبل من الطور :لو أدركتك قبل أن
خترج إليه ملا خرجت ،مسعت رسول اهلل « :ال تعمل املطي إالَّ إىل صالة
مساجد :املسجد احلرام ،ومسجدي هذا ،واملسجد األقصى».
وروى اإلمام أمحد ،وعمر بن شبة يف «أخبار املدينة» بإسناد جيد عن قزعة
قال :أتيت ابن عمر فقلت :إي أريد الطور .فقال :إمنا تشد الرحال إىل ثالثة
مساجد :املسجد احلرام ،ومسجد املدينة ،واملسجد األقصى ،فد عنك الطور
فال تأته.
أيضا ،عن شهر بن حوشب قال :مسعت وروى أمحد وعـمر بن شبة ً
-246-
أبا سعيد وذكر عنده الصالة يف الطور ،فقال :قال رسول اهلل « :ال
ينبغي للمطي أن تشد رحاهلا إىل مسجد يبتغى فيه الصالة غري املسجد احلرام،
ومسجدي هذا ،واملسجد األقصى» ،فأبو سعيد جعل الطور مما هني عن شد
الرحال إليه ،مع أن اللفظ الذي ذكر إمنا فيه النهي عن شدها إىل املساجد،
فدل على أنه علم أنه غري املساجد أوىل بالنهي ،والطور إمنا يسافر من يسافر
إليه لفضيلة البقعة ،وأن اهلل تعاىل مساه الوادي املقدس والبقعة املباركة ،وكلَّم اهلل
()1
موسى هناك» .
* * *
-245-
يف» ،قال :هذا توجهت به إىل ريب يف حاجيت هذه لتقضى ،اللهم فشفِّعه َّ
حديث حسن صحيح غريب ،ال نعرفه إالَّ من رواية أيب جعفر ،وهو غري
اْلطمي ،هكذا رواه الرتمذي ،ورواه النسائي ،وابن شاهني ،والبيهقي كذلك،
ويف بعض الروايات «يا حممد إي أتوجه» إىل آخره.
وهذه اللفظة هي اليت تعلق هبا املشركون ،وليست عند هؤالء األئمة .قالوا:
فلو كان دعاء غري اهلل شرًكا ل يعلم النيب األعمى هذا الدعاء الذي فيه نداء
غري اهلل.
والجواب من وجوه:
األول :أن هذا احلديث من أصله ،وإن صححه الرتمذي ،فإن يف ثبوته
نقدا،
نظرا ،ألن الرتمذي يتساهل يف التصحيح كاحلاكم ،لكن الرتمذي أحسن ً ً
أن أبا جعفر الذي كما ن ي على ذلك األئمة ،ووجه عدم ثبوته أنه قد ن َّ :
عليه مدار هذا احلديث هو غري اْلطمي ،وإذا كان غريه ،فهو ال يعرف ،ولعل
عمدة الرتمذي يف تصحيحه أن شعبة ال يروي إالَّ عن ثقة ،وهذا فيه نظر ،فقد
قال عاصم بن علي :مسعت شعبة يقول :لو ل أحدثكم إالَّ عن ثقة ل أحدثكم
إالَّ عن ثالثة ،ويف نسخة عن ثالثني ،ذكره احلافظ العراقي ،وهذا اعرتاف منه
بأنه يروي عن الثقة وغريه فينظر يف حاله ،ويتوقف االحتجاج به على ثبوت
صحته.
الثاني :أنه يف غري حمل النزا ،فأين طلب األعمى من النيب أن يدعو له،
وتوجهه بدعائه مع حضوره ،من دعاء األموات والسجود هلم ولقبورهم ،والتوكل
عليهم ،وااللتجاء إليه يف الشدائد والنذر والذبح هلم ،وخطاهبم باحلوائج من
األمكنة البعيدة :يا سيدي يا موالي افعل يب كذا؟!
فحديث األعمى شيء ،ودعاء غري اهلل تعاىل واالستغاثة به شيء آخر،
-244-
فليس يف حديث األعمى شيء غري أنه طلب من النيب أن يدعو له،
يف» ويشفع له ،فهو توسل بدعائه وشفاعته ،وهلذا قال يف آخره« :اللهم فشفعه َّ
فعلم أنه شفع له.
ويف رواية أنه طلب من النيب أن يدعو له ،فدل احلديث على أنه شفع
له بدعائه ،وأن النيب أمره هو أن يدعو اهلل ويسأله قبول شفاعته ،فهذا من
أعظم األدلة على أن دعاء غري اهلل شرك ،ألن النيب أمره أن يسأل قبول
شفاعته ،فدل على أن النيب ال يدعى ،وألنه ل يقدر على شفائه إالَّ
بدعاء اهلل له.
فأين هذا من تلك الطوام؟ والكالم إمنا هو يف سؤال الغائب ،أو سؤال
شخصا خياطبك فتسأله أن ً املخلوق فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل ،أما أن تأيت
يدعو لك ،فال إنكار يف ذلك ،على ما يف حديث األعمى ،فاحلديث سواء
صحيحا أو ال ،وسواء ثبت قوله فيه( :يا حممد) أو ال ،ال يدل على سؤال ً كان
الغائب ،وال على سؤال املخلوق ،فيما ال يقدر عليه إال اهلل بوجه من وجوه
الدالالت .ومن ادعى ذلك ،فهو مفرت على اهلل وعلى رسوله ،ألنه إن كان
سأل النيب نفسه ،فهو ل يسأل منه إالَّ ما يقدر عليه ،وهو أن يدعو له،
وهذا ال إنكار فيه وإن كان توجه به من غري سؤال منه نفسه ،فهو ل يسأل
متوجها بدعائه ،كما هو ن أول ً منه ،وإمنا سأل من اهلل به ،سواء كان
متوجها بذاته على قول ضعيف.
ً احلديث وهو الصحيح ،أو كان
(التوجه إلى الخالق بذوات المخلوقين بدعة منكرة ،وأجنبية عن
الشريعة وفهم حامليها)
فإن التوجه بذوات املخلوقني ،واإلقسام هبم على اهلل بدعة منكرة ،ل تأت
عن النيب ،وال عن أحد من أصحابه ،والتابعني هلم بإحسان ،وال
-241-
األئمة األربعة وحنوهم من أئمة الدين.
قال أبو حنيفة :ال ينبغي ألحد أن يدعو اهلل إالَّ به ،وقال أبو يوسف :أكره
حبق فالن وحبق أنبيائك ورسلك ،وحبق البيت ،واملشعر احلرام ،وقال القدوري:
املسألة حبق املخلوق ال جتوز ،فال يقول :أسألك بفالن ،أو مبالئكتك ،أو
أنبيائك ،وحنو ذلك ،ألنه ال حق للمخلوق على اْلالق ،واختاره العز بن عبد
السالم ،إالَّ يف حق النيب خاصة إن ثبت احلديث ،يشري إىل حديث األعمى،
()1
وقد تقدم أنه على تقدير ثبوته ليس فيه إالَّ أنه توسل بدعائه ال بذاته» .
* * *
* لقد جزم عباد القبور بالتجربة العملية املعتادة ،وبأخبار شيعتهم املتواترة:
بأن الدعاء عند القبور هو الدواء الشايف لكافة األدواء الدنيوية واألخروية.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن -رحمهما اهلل تعالى -نقالا
عن شيخ اإلسالم ابن تيمية -رحمه اهلل تعالى:-
()2
«مث أورد سؤاالً يورده من يتربك بالدعاء عند القبور ،ويرى فضله .قال
فإن قيل :فقد نقل عن بعضهم أنه قال :قرب معروف الرتياق اجملرب.
ويروى عن معروف أنه أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قربه .وذكر أبو علي
اْلرقي يف قص من هجره أمحد :أن بعض هؤالء املهجورين كان جييء إىل قرب
أمحد ،ويتوخى الدعاء عنده ،وأظنه ذكر ذلك عن املروزي ،ونقل عن مجاعات
أهنم دعوا عند قبور مجاعات من األنبياء والصاحلني ،من أهل
-241-
البيت وغريهم ،فاستجيب هلم الدعاء ،وعلى هذا عمل كثري من الناس...
وإمنا ذكرت هذا السؤال مع بعده عن طريق العلم والدين ،ألنه غاية ما
يتمسك به القبوريون.
َّ
مث أجاب عن هذا السؤال بقوله :قلنا الذي ذكرنا كراهته ،ال ينقل يف
استحبابه شيء ثابت عن القرون الثالثة ،اليت أثى النيب عليها حيث قال:
«خري أميت القرن الذي بعثت فيهم ،مث الذين يلوهنم ،مث الذين يلوهنم» ،مع شدة
املقتضى فيهم لذلك ،لو كان فيه فضيلة ،فعد أمرهم وفعلهم لذلك مع قوة
املقتضى لو كان فيه فضل يوجب القطع بأن ال فضل فيه ،وأما من بعد هؤالء
فأكثر ما يفرض أن األمة اختلفت ،فصار كثري من العلماء إىل فعل ذلك،
وصار بعضهم إىل النهي عن ذلك ،فإنه ال ميكن أن يقال :قد اجتمعت األمة
على استحباب ذلك ،لوجهني:
كثريا من األمة كره ذلك وأنكره قدميًا وحديثًا.
أحدمها :أن ً
الثاي :أنه من املمتنع أن تتفق األمة على استحباب فعل ،لو كان حسنًا
لفعله املتقدِّمون ،ول يفعلوه ،فإن هذا من باب تناقض اإلمجاعات ،وهي ال
تتناقض .وإذا اختلف فيه املتأخرون ،فالفاصل بينهم هو الكتاب ،أو السنة،
نصا واستنباطًا ،فكيف واحلمد هلل ،ل ينقل هذا عن إمام وإمجا املتقدمنيً ،
معروف وال عال متبع؟
بل املنقول يف ذلك إما أن يكون كذبًا على صاحبه ،مثل ما حكى بعضهم
عن الشافعي رمحه اهلل أنه قال« :إي إذا نزلت بني شدة أجيء فأدعو عند قرب
كالما هذا معناه.
أيب حنيفة ،فأجاب» أو ً
وهذا كذب معلوم كذبه باالضطرار ،عند من له معرفة بالنقل ،فإن
الشافعي ملا قدم بغداد ،ل يكن ببغداد أليب حنيفة ،وال غريه قرب ينتاب
-215-
للدعاء عنده البتة ،بل ول يكن هذا معروفًا على عهد الشافعي ،وقد رأى
الشافعي باحلجاز واليمن والعراق والشام ومصر من قبور األنبياء والصحابة
والتابعني ،من كان أصحاهبا عنده ،وعند املسلمني أفضل من أيب حنيفة وأمثاله
من العلماء ،فما باله ل يتوخ الدعاء إالَّ عند أيب حنيفة؟
مث أصحاب أيب حنيفة الذين أدركوه مثل :أيب يوسف وحممد وزفر واحلسن
يتحرون الدعاء عند قرب أيب حنيفة وال غريه .مث قد
بن زياد وطبقتهم ،ل يكونوا ُّ
تقدم عن الشافعي ،ما هو ثابت يف كتابه ،من كراهة تعظيم قبور املخلوقني
()1
خشية الفتنة هبا ،وإمنا يضع مثل هذه احلكايات من يقل علمه ودينه» .
* * *
* لقد اعتقد كثري من املشركني :بأن الذي ميلك النفع والضر هو اهلل ،وظنوا
أن هذا هو لب التوحيد ،ومن مث جعلوا بينهم وبني اهلل وسائط يف عبادته،
ليقربوهم إليه زلفى -بزعم أن هذا ال ينقض التوحيد ،-وفرقوا يف هذا املقام بني
التوجه إىل اهلل باألصنام واألحجار ،والتوجه باألنبياء واألولياء والصاحلني ،وهبذا
وعضوا عليه بالنواجذ. ترسخ الشرك يف قلوهبمُّ ،
قال اإلمام حممد بن عبد الوهاب رمحهما اهلل تعاىل يف إبطال هذا اإلفك:
«فال إله إالَّ اهلل ،نفي ،وإثبات اإلهلية كلها هلل .فمن قصد شيئًا من قرب ،أو
شجر ،أو جنم ،أو ملك مقرب ،أو نيب مرسل ،جللب نفع ،وكشف ضر ،فقد
اختذه إهلًا من دون اهلل ،مكذب بال إله إالَّ اهلل ،يستتاب ،فإن تاب وإالَّ قتل.
فإن قال هذا املشرك :ل أقصد إالَّ التربك ،وإي ألعلم أن اهلل هو الذي ينفع
ويضر ،فقل له :إن بن إسرائيل ما أرادوا إالَّ ما أردت كما أخرب اهلل عنهم أهنم
َصنَام َّهل ْم قَالواْ يَا
ملا جاوزوا البحر﴿ :فَأَتَـ ْواْ َعلَى قَـ ْوم يَـ ْعكفو َن َعلَى أ ْ
-219-
اج َعل لَّنَا إِلَ ًـها َك َما َهل ْم ِآهلَة﴾ [األعراف ،]931 :فأجاهبم بقوله: وسى ْ م َ
﴿إِنَّك ْم قَـ ْوم َْجت َهلو َن﴾ [األعراف.]931 :
وحديث أيب واقد الليثي قال :خرجنا مع رسول اهلل إىل حنني ،وحنن
حدثاء عهد بكفر ،وللمشركني سدرة يعكفون عندها ،وينوطون هبا أسلحتهم،
يقال هلا ذات أنواط ،فمررنا بسدرة ،فقلنا :يا رسول اهلل ،اجعل لنا ذات أنواط،
كما هلم ذات أنواط ،فقال رسول اهلل « :اهلل أكرب ،إهنا السنن ،قلتم والذي
اج َعل لَّنَا إِلَ ًـها َك َما َهل ْم ِآهلَة﴾
نفسي بيده ،كما قالت بنو إسرائيل ملوسىْ ﴿ :
[األعراف ]931 :لرتكنب سنن من كان قبلكم».
ت َوالْعَّزى﴾ [النجم ،]91 :ويف الصحيح عن وقال تعاىل﴿ :أَفَـرأَيْـتم َّ
الال َ َ
ابن عباس وغريه :كان يلت السويق للحاج ،فمات ،فعكفوا على قربه.
فريجع هذا املشرك ،يقول :هذا يف الشجر ،واحلجر ،وأنا اعتقد يف أناس
صاحلني ،أنبياء وأولياء ،أريد منهم الشفاعة عند اهلل ،كما يشفع ذو احلاجة عند
امللوك ،وأريد منهم القربة إىل اهلل ،فقل له :هذا دين الكفار بعينه ،كما أخرب
ين َّاختَذوا ِمن دونِِه أ َْولِيَاء َما نَـ ْعبده ْم إَِّال لِيـ َقِّربونَا إِ َىل اللَّ ِه َّ ِ
سبحانه بقولهَ ﴿ :والذ َ
ون اللي ِه َما الَ يَضُّره ْم َوالَ يَ َنفعه ْم زلْ َفى﴾ [الزمر ،]3 :وقوله﴿ :ويـعبدو َن ِمن د ِ
ََْ
ند اللي ِه﴾ [يونس.]91 : َويَـقولو َن َهـؤالء ش َف َعاؤنَا ِع َ
أناسا يعبدون املسيح وعز ًيرا ،فقال اهلل :هؤالء عبيدي ،يرجون وقد ذكر ً
رمحيت كما ترجوهنا ،وخيافون عذايب كما ختافونه ،وأنزل اهلل سبحانه﴿ :ق ِل ْادعواْ
ف الضُِّّر َعنك ْم َوالَ َْحت ِويالً﴾ [اإلسراء: ِ ِِ َّ ِ
ين َز َع ْمتم ِّمن دونه فَالَ ميَْلكو َن َك ْش َ الذ َ
مج ًيعا مثَّ يَـقول لِْل َم َالئِ َك ِة أ ََهؤَالء إِيَّاك ْم َكانوا
.]65وقال تعاىل﴿ :ويـوم َحيشرهم َِ
ََْ َ ْ ْ
ك ﴾...اآليتني [سبأ.]49 ،45 : يَـ ْعبدو َن * قَالوا سْب َحانَ َ
والقرآن ،بل والكتب السماوية من أوهلا إىل آخرها مصرحة ببطالن هذا
-212-
الدين ،وكفر أهله ،وأهنم أعداء اهلل ورسوله ،وأهنم أولياء الشيطان ،وأنه
سبحانه ال يغفر هلم ،وال يقبل عمالً منهم ،كما قال تعاىل﴿ :إِ َّن الليهَ الَ يَـ ْغ ِفر
ك لِ َمن يَ َشاء﴾ [النساء ،]41 :وقال تعاىل: ِ ِ
أَن ي ْشَرَك بِِه َويَـ ْغفر َما دو َن َذل َ
﴿ َوقَ ِد ْمنَا إِ َىل َما َع ِملوا ِم ْن َع َمل فَ َج َعْلنَاه َهبَاء َّمنث ًورا﴾ [الفرقان ،]23 :وقال
ِ
تعاىل﴿ :فَالَ َْجت َعلواْ للي ِه أ َ
َنداداً َوأَنت ْم تَـ ْعلَمو َن﴾ [البقرة.]22 :
قال ابن مسعود وابن عباس :ال جتعلوا له أ ْكفاء من الرجال ،تطيعوهنم يف
ندا؟معصية اهلل ،وقال رجل للنيب :ما شاء اهلل وشئت ،قال« :أجعلتن هلل ً
قل :ما شاء اهلل وحده» ،وقال ألصحابه« :أخوف ما أخاف عليكم :الشرك
األصغر» ،فسئل عنه فقال« :الرياء».
وباجلملة :فأكثر أهل األرض ،مفتونون بعبادة األصنام واألوثان ،ول يتخل
من ذلك إالَّ احلنفاء ،أتبا ملة إبراهيم ،وعبادهتا يف األرض من قبل قوم نوح
كما ذكر اهلل ،وهي كلها ،ووقوفها ،وسدانتها ،وحجابتها ،والكتب املصنفة يف
ن أَن نـَّ ْعب َد اجنْب ِن َوبَِ َّ
شرائع عبادهتا ،طبق األرض ،قال إمام احلنفاءَ ﴿ :و ْ
َصنَ َام﴾ [إبراهيم ،]36 :وقد ق َّ اهلل ذلك عنهم يف القرآن ،وأجنى الرسل األ ْ
()1
وأتباعهم من املوحدين» .
* * *
قرر املشركون أن دينهم قائم على أصل أصيل ،وركن آخراَّ :
أخريا ال ً
*و ً
ركني ،أال وهو إمجا املسلمني ،فالعلماء -بزعمهم -من كافة األمصار،
واألمة من ورائهم تبع -قد استحسنوا دعاء األموات ،ول يرونه شرًكا وال بدعة،
منكرا من القول!!!
بل وال ً
-213-
وها هو الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين نراه يهدم هذا األصل
الذي ليس أصيالا ،والركن غير الركين ،فقد سئل -رحمه اهلل تعالى -
سؤالا جاء فيه:
تقرون :أن إمجا األمة حجة ،وأهنا ال جتتمعقال السائل :إن قال قائلُّ ،
على ضاللة ،وأنتم قد خالفتم مجيع العلماء ،من أهل األمصار قاطبة ،وادعيتم
أمرا أنكرته مجيع
ما ل يدعه غريكم ،وأنكرم ما ل ينكر يف مجيع األرض ،وافرتيتم ً
علماء األمة ،واإلشارة هنا إىل التوحيد ،وما دعا إليه الشيخ حممد بن عبد
الوهاب ،وتكفري من أشرك باهلل يف ألوهيته عند املشاهد وغريها ،فما اجلواب
لذلك؟
فأجاب قدس اهلل روحه :أما دعوى هذا املبطل إمجا العلماء ،على جواز
دعاء أهل القبور واالستغاثة هبم ،والتقرب إليهم بالنذور ،والذبائح ،فهذا كذب
ظاهر ،وشبهته :أن هذه األمور ظاهرة يف مجيع األمصار ،ول يسمعوا أن عاملا
ً
أنكره ،فيقال بل :أنكره كثري من علماء هذا الزمان ،ووافق عليه خواص من
علماء احلرمني واليمن ،ومسعنا منهم مشافهة ،ولكن الشوكة لغريهم .وصنَّف فيه
مجاعة .كالنعمي من أهل اليمن ،له مصنف يف ذلك حسن ،وكذلك الشوكاي،
مصنفا لعال من أهل جبل سليمان يف ً وحممد بن إمساعيل ،وغريهم ،ورأيت
إنكار ذلك ،وهذا مصداق قول النيب « :ال تزال طائفة من أميت على احلق
دائما وبالسيف أحيانًا.
ظاهرين» ،وليس املراد الظهور بالسيف ،بل احلجة ً
ولو قال هذا اجملادل :إن أكثر الناس على ما يرى ،لكان صادقًا ،وهذا
مصداق احلديث« :بدأ اإلسالم غريبًا ،وسيعود غريبًا كما بدأ».
أيضا :فالبناء على القبور وإسـراجها وجتـصيصها :ظاهر غالب يف
و ً
-214-
األمصار اليت نعرف ،مع أن النهي عن ذلك ثابت عن النيب ،ومنصوص
على النهي يف مجيع املذاهب ،فهل ميكن هذا املبطل ،أن يقول :إن األمة جممعة
ظاهرا يف األمصار؟ واهلل سبحانه إمنا افرتض علي اْللق على جواز ذلك لكونه ً
طاعته ،وطاعة رسوله ،وأمرهم أن يردوا إىل كتابه وسنَّة رسوله ،ما تنازعوا فيه،
وأمجع العلماء على أنه ال جيوز التقليد يف التوحيد والرسالة.
فإذا عرف :أن الشرك عبادة غري اهلل ،وعرف معى العبادة ،وعلم كل قول
وعمل حيبه اهلل ويرضاه ،ومن أعظم ذلك الدعاء ،ألنه مخ العبادة ،وعلم ما
يفعل عند القبور ،من دعاء أصحاهبا بسؤاهلم قضاء احلاجات ،وتفريج الكربات،
والتقرب إليهم بالنذور والذبائح ،عرف أن هذا هو الشرك األكرب الذي هو
عبادة غري اهلل تعاىل ،فإذا حتقق اإلنسان ذلك ،عرف احلق ،ول يبال مبخالفة
أكثر الناس ،ويعتقد أن األمة ال جتتمع على ذلك ،ألنه ضاللة.
فإن قال هذا اجملادل :إن هذه األفعال اليت تفعل عند القبور ،وعلي القبور
شرعا ،فهو حماد هلل ولرسوله ،وإن قال :هذه األمور ال جتوز ،لكنها ليست جائزة ً
شرًكا ،مع دعواه أن علماء الزمان أمجعوا على ذلك ،فيلزمه أن األمة أمجعت على
تبني له احلق ،ل يستوحش من قلة املوافقني وكثرة ضاللة ،واإلنسان إذا َّ
املخالفني ،ال سيما يف آخر هذا الزمان.
حقا ما خفي على فالن وفالن ،هذه دعوى وقول اجلاهل :لو كان هذا ً
الكفار ،يف قوهلم﴿ :لَْو َكا َن َخْيـًرا َّما َسبَـقونَا إِلَْي ِه﴾ [األحقاف،]99 :
﴿أ ََهـؤالء َم َّن الليه َعلَْي ِهم ِّمن بَـْينِنَا﴾ [األنعام ،]63 :وقد قال علي :اعرف
احلق تعرف أهله.
وأما الذي يف َحرية ولبس ،فكل شبهة تروج عليه ،فلو كان أكثر الناس
()1
اليوم على احلق ،ل يكن اإلسالم غريبًا ،وهو واهلل اليوم يف غاية الغربة» .
-216-
-215-
الفصل الرابع
الشفاعة ،أنواعها ،وشروطها
وأسباب تحصيلها ،وموانع الحرمان منها
-214-
-211-
المبحث األول
الشفاعة شروطها وأنواعها
إن اهلل له ملك السموات واألرض وما فيهن وما بينهما ،وكل ما دونه من
جل يف عاله الغن الكائنات ،خملوق مربوب فقري مملوك لسيده سبحانه ،وهو َّ
بذاته املقدسة عن كل ما سواه ،وكل خملوقاته يف أشد ما يكونوا حاجة إليه ،واهلل
سبحانه ليس له شريك يف ملكه ،وال معاون وال ظهري ،وال حيتاج ألحد من
خلقه حىت يشفع عنده بغري إذنه ،وذلك لكماله املطلق ،وملكه التام ،اللذين ال
نق فيهما بوجه من الوجوه ،ومن مث كان لز ًاما على كل عاقل لبيب أن يطلب
ويفوض أمره إليه ،علَّه
ويتضر إليه وحده فيهاِّ ،
َّ الشفاعة بشروطها من مالكها،
يفوز حبظ وافر منها ،ويكتب من أهلها.
قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه اهلل تعالى:
«الشفاعة لغة :الوسيلة والطلب .وعرفًا :سؤال اْلري للغري .وقيل :هي من
الشفع الذي هو ضد الوتر ،فكأن الشافع ضم سؤاله إىل سؤال املشفو له.
والشفاعة حق إذا حتققت شروطها ،وهي أن تكون بإذن اهلل تعاىل ،ورضاه
عن املشفو له ،قال اهلل تعاىل﴿ :وَكم ِّمن َّملَك ِيف َّ ِ
اعتـه ْم الس َم َاوات َال تـ ْغ ِن َش َف َ َ
ِ ِ ِ
ضى﴾ َشْيئًا إَِّال من بَـ ْعد أَن يَأْ َذ َن اللَّه ل َمن يَ َشاء َويَـ ْر َ
[النجم.]25 :
ففي هذه اآلية الكرمية أن الشفاعة ال تنفع إالَّ بشرطني:
األول :إذن اهلل للشافع أن يشفع ،ألن الشفاعة ملكه سبحانه﴿ :قل لِّلَّ ِه
مج ًيعا﴾ [الزمر.]44 :َّفاعة َِ
الش َ َ
الثاني :رضاه عن املشفو فيه بأن يكون من أهل التوحيد ،ألن املشرك
-211-
ني﴾ ِِ
اعة الشَّافع َ ال تنفعه الشفاعة ،كما قال تعاىل ﴿ :فَ َما تَ َنفعه ْم َش َف َ
[املدثر.]41 :
فتبني هبذا بطالن ما عليه القبوريون اليوم ،الذين يطلبون الشفاعة من
ويتقربون إليهم بأنوا القربات ،كما قال اهلل يف سلفهمَ ﴿ :ويَـ ْعبدو َن األمواتَّ ،
ند اللي ِه﴾ ون اللي ِه َما الَ يَضُّره ْم َوالَ يَ َنفعه ْم َويَـقولو َن َهـؤالء ش َف َعاؤنَا ِع َ ِمن د ِ
ون اللَّ ِه ش َف َعاء ق ْل أ ََولَْو َكانوا الَ
[يونس ،]91 :وقال تعاىل﴿ :أَِم َّاختَذوا ِمن د ِ
ض مثَّ السماو ِ
ات َواأل َْر ِ َّف َ ِ َّ
اعة َمج ًيعا له مْلك َّ َ َ ميَْلِكو َن َشْيئًا َوالَ يَـ ْع ِقلو َن * قل لِّلَّ ِه الش َ
إِلَْي ِه تـ ْر َجعو َن﴾ [الزمر.]44 ،43 :
وقد أعطي نبينا الشفاعة ،فيشفع ملن أذن اهلل له فيه.
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل« :وله ثالث شفاعات:
اجع
أما الشفاعة األوىل :فيشفع يف أهل املوقف حىت يقض بينهم بعد أن ترت َ
األنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مرمي عن الشفاعة حىت تنتهي
إليه.
وأما الشفاعة الثانية :فيشفع يف أهل اجلنة أن يدخلوا اجلنة ،وهاتان
الشفاعتان خاصتان له.
وأما الشفاعة الثالثة :فيشفع فيمن استحق النار ،وهذه الشفاعة له ولسائر
النبيني والصدِّيقني وغريهم ،فيشفع فيمن استحق النار أن ال يدخلها ،ويشفع
فيمن دخلها أن خيرج منها».
وقال رمحه اهلل« :وأما شفاعته ألهل الذنوب من أمته ،فمتفق عليها بني
الصحابة والتابعني هلم بإحسان وسائر أئمة املسلمني األربعة وغريهم ،وأنكرها
كثري من أهل البد من اْلوارج واملعتزلة والزيدية ،وقال هؤالء :من يدخل النار
ال خيرج منها ال بشفاعة وال غريها ،وعند هؤالء ما مث إال
مـن يدخل اجلنة فال يدخل النار ،ومـن يدخل النار فال يدخل اجلنة ،وال
-215-
جيتمع عندهم يف الشخ الواحد ثواب وعقاب .»...إىل أن قال:
«واحتج هؤالء املنكرون للشفاعة بقوله تعاىلَ ﴿ :واتـَّقواْ يَـ ْوماً الَّ َْجت ِزي نَـ ْفس َعن
اعة َوالَ يـ ْؤ َخذ ِمْنـ َها َع ْدل﴾ [البقرة ،]41 :وبقوله: ِ
نـَّ ْفس َشْيئاً َوالَ يـ ْقبَل مْنـ َها َش َف َ
محيم َوَال َش ِفيع يطَا ﴾ [غافر ،]91 :وبقوله﴿ :فَ َما تَ َنفعه ْم ﴿ما لِلظَّالِ ِمني ِمن َِ
َ ْ َ
ني﴾ [املدثر.]41 : ِ ِ
اعة الشَّافع َ َش َف َ
وجواب أهل السنة :أن هذا يراد به شيئان:
أحدهما :أهنا ال تنفع املشركني ،كما قال تعاىلَ ﴿ :ما َسلَ َكك ْم ِيف َس َقَر *
ني قَالوا َل نَك ِمن الْمصلِّني * وَل نَك نطْعِم الْ ِمس ِكني * وكنَّا َخنوض مع ْ ِ ِ
اْلَائض َ ََ ْ َ َ َ َ َ َْ ْ
ِِ ِ ِ
ني﴾ اعة الشَّافع َ * َوكنَّا ن َك ِّذب بِيَـ ْوم الدِّي ِن * َح َّىت أَتَانَا الْيَقني * فَ َما تَ َنفعه ْم َش َف َ
كفارا.
[املدثر ،]41 - 42 :فهؤالء ال تنفعهم شفاعة الشافعني ألهنم كانوا ً
والثاني :أنه يراد بذلك الشفاعة اليت يثبتها أهل الشرك ،ومن شاهبهم ،من
أهل البد من أهل الكتاب واملسلمني ،الذين يظنون أن للخلق عند اهلل من
()1
القدر أن يشفعوا عنده بغري إذنه ،كما يشفع الناس يف بعضهم عند بعض» .
قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل في أثناء شرحه على كتاب التوحيد:
قوله :فنفى أن يكون لغريه ملك ،وذلك يف قوله تعاىل﴿ :الَ ميَْلِكو َن ِمثْـ َق َال
ض﴾ [سبأ .]22 :ومن ال ميلك هذا املقدار فليس السماو ِ
ات َوالَ ِيف األ َْر ِ ِ
َذ َّرة يف َّ َ َ
بأهل أن يدعى.
قوله :أو قسط منه ،أي من امللك ،والقسط -بكسر القاف -هو
النصيب من الشيء ،وذلك يف قولهَ ﴿ :وَما َهل ْم فِي ِه َما ِمن ِش ْرك﴾ [سبأ،]22 :
أي ملن تدعون من املالئكة وغريها فيهـا ،أي :يف السمـاوات واألرض من
-219-
شرك ،ومن ليس مبالك وال شريك للمالك فكيف يدعى من دون اهلل؟
قوله :أو أن يكون عونًا هلل ،ويف ذلك قولهَ ﴿ :وَما لَه ِمْنـهم ِّمن ظَ ِهري﴾
[سبأ ،]22 :أي :ما هلل ممن تدعوهنم عون.
قوله :ول يبق إالَّ الشفاعة ،فتبني أهنا ال تنفع إالَّ ملن أذن له الرب ...إخل.
مجلة الشروط اليت ال بد وأن يكون أحدها يف املدعو ،أربعة حىت يقدر على
إجابة من دعاه:
ات َوالَ ِيف السماو ِ ِ ِ ِ
األول :امللك ،فنفاه بقوله﴿ :الَ ميَْلكو َن مثْـ َق َال َذ َّرة يف َّ َ َ
ض﴾ [سبأ.]22 : األ َْر ِ
الثاني :إذا ل يكن مال ًكا فيكون شري ًكا للمالك ،فنفاه بقولهَ ﴿ :وَما َهل ْم
فِي ِه َما ِمن ِش ْرك﴾ [سبأ.]22 :
الثالث :إذا ل يكن مال ًكا وال شري ًكا للمالك فيكون عونًا ووز ًيرا ،فنفاه
بقولهَ ﴿ :وَما لَه ِمْنـهم ِّمن ظَ ِهري﴾ [سبأ.]22 :
شفيعا ،فنفى سبحانه الرابع :إذا ل يكن مال ًكا وال شري ًكا وال عونًا فيكون ً
وتعاىل الشفاعة عنده إالَّ بإذنه ،فهو الذي يأذن للشافع ابتداء فيشفع .فبنفي
هذه األمور بطلت دعوة غري اهلل ،إذ ليس عند غريه من النفع والضر ما يوجب
قصده بشيء من العبادة ،كما قال تعاىلَ ﴿ :و َّاختَذوا ِمن دونِِه ِآهلَةً الَّ َخيْلقو َن
ضًّرا َوالَ نَـ ْف ًعا َوالَ ميَْلِكو َن َم ْوتًا َوالَ َحيَا ًة ِ ِ
َشْيئًا َوه ْم خيْلَقو َن َوالَ ميَْلكو َن ألَنفس ِه ْم َ
ون اللَّ ِه ِآهلَةً لَ َعلَّه ْم
والَ نشورا﴾ [الفرقان ،]3 :وقال تعاىل﴿ :و َّاختَذوا ِمن د ِ
َ ً َ
ِ
ضرو َن﴾ [يس»]46 ،44 : صَره ْم َوه ْم َهل ْم جند ُّْحم َ نصرو َن * الَ يَ ْستَطيعو َن نَ ْ ي َ
()1
.
-212-
المبحث الثاني
عدم فقه الفرق بين الشفاعة عند الخالق
ولدى المخلوق ،ورث الشرك وأصله في نفوس أهله
الفرق بني الشفاعة عند اهلل سبحانه ،والشفاعة املعهودة لدى بن البشر،
كالفرق بني :اْلالق ،الرب ،السيد ،املالك ،الغن ،الذي ال حاجة له إىل أحد
من خلقه ...واملخلوق ،املربوب ،العبد ،اململوك ،الفقري ،احملتاج إىل غريه من
كافة الوجوه.
ترسخ الشرك يف قلوهبم ،طلبًا لشفاعة وملا ل يفقه املشركون ذلك الفرقَّ ،
قياسا منهم على طلبهم ملا لدى املخلوقني بعضهم من بعض أندادهم عند اهللً ،
أمثاهلم.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمهما اهلل تعالى -مبيناا سر
الشرك ،وعلته ،مع كيفية الرد الباهر عليه:
جردوا
«أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة :أهل التوحيد الذين َّ
التوحيد وخلَّصوه من تعلقات الشرك وشوائبه ،وهم الذين ارتضى اهلل سبحانه.
ِ
ضى﴾ [األنبياء ،]21 :وقال تعاىل: قال تعاىلَ ﴿ :وال يَ ْش َفعو َن إِالَّ ل َم ِن ْارتَ َ
اعة إِالَّ َم ْن أ َِذ َن لَه َّ
الر ْمحَن َوَر ِض َي لَه قَـ ْوالً﴾ [طه.]951 : ﴿يَـ ْوَمئِذ الَّ تَ َنفع الش َ
َّف َ
فأخرب أنه ال حتصل يومئذ شفاعة تنفع إالَّ بعد رضا قول املشفو له ،وإذنه
للشافع ،فأما املشرك فإنه ال يرضاه وال يرضى قوله ،فال يأذن للشفعاء أن يشفعوا
فيه فإنه سبحانه علَّقها بأمرين :رضاه عن املشفو له ،وإذنه للشافع ،فما ل
يوجد جممو األمرين ل توجد الشفاعة.
-213-
وسر ذلك أن األمر كله هلل وحده ،فليس ألحد معه من األمر شيء ،وأعلى
املقربون ،وهم عبيد حمض ال اْللق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل واملالئكة َّ
يسبقونه بالقول ،وال يتقدمون بني يديه ،وال يفعلون شيئًا إالَّ من بعد إذنه هلم،
وال سيما يوم ال َتلك نفس لنفس شيئًا ،فهم مملوكون مربوبون ،أفعاهلم مقيدة
بأمره وإذنه ،فإذا أشركهم به املشرك ،واختذهم شفعاء من دونه ،ظنًا منه أنه إذا
فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند اهلل ،فهو من أجهل الناس حبق الرب سبحانه،
وما جيب له وميتنع عليه ،فإن هذا حمال ممتنع يشبه قياس الرب سبحانه على
امللوك والكرباء ،حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم
يف احلوائج.
(علة عظيمة تبيِّن فساد قياس الخالق على المخلوق في مسألة
الشفاعة)
وهبذا القياس الفاسد عبدت األصنام ،و َّاختذ املشركون من دون اهلل الشفيع
والويل ،والفرق بينهما :هو الفرق بني اْلالق واملخلوق ،والرب واملربوب ،والسيد
والعبد ،واملالك واململوك ،والغن والفقري ،والذي ال حاجة به إىل أحد قط،
واحملتاج من كل وجه إىل غريه.
فالشفعاء عند املخلوقني هم شركاؤهم ،فإن قيام مصاحلهم هبم ،وهم
أعواهنم وأنصارهم ،الذين قيام أمر امللوك والكرباء هبم ،ولوالهم ملا انبسطت
أيديهم وألسنتهم يف الناس ،فلحاجتهم إليهم حيتاجون إىل قَبول شفاعتهم ،وإن
ل يأذنوا فيها ،ول يرضوا عن الشافع ،ألهنم خيافون أن يردوا شفاعتهم ،فتنق
طاعتهم هلم ،ويذهبون إىل غريهم ،فال جيدون ب يدا من قبول شفاعتهم على الكره
والرضا.
فأما الذي غناه من لوازم ذاته ،وكل ما سواه فقري إليه لذاته ،وكل من يف
-214-
مصرفون مبشيئته ،لو أهلكهم السماوات واألرض عبيد له مقهورون لقهرهَّ ،
مجيعا ل ينق من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإهليته مثقال ذرة.... ً
فمتَّخذ الشفيع ال تنفعه شفاعته وال يشفع فيه ،ومتخذ الرب وحده إهله
ومعبوده وحمبوبه ومرجوه وخموفه ،الذي يتقرب إليه وحده ،ويطلب رضاه ،ويتباعد
من سخطه ،هو الذي يأذن اهلل سبحانه للشفيع أن يشفع له ،قال تعاىل:
ون اللي ِه َما الَ يَضُّره ْم َوالَ يَ َنفعه ْم َويَـقولو َن َهـؤالء ش َف َعاؤنَا ِع َ
ند ﴿ويـعبدو َن ِمن د ِ
ََْ
السماو ِ
ات َوالَ ِيف األ َْر ِ
ض سْب َحانَه َوتَـ َع َاىل َع َّما ِ ِ ِ
الليه ق ْل أَتـنَبِّئو َن الليهَ مبَا الَ يَـ ْعلَم يف َّ َ َ
ي ْش ِركو َن﴾ [يونس.]91 :
فبني سبحانه وتعاىل أن متَّخذي الشفعاء :مشركون ،وأن الشفاعة ال حتصل
باختاذهم.
وسر الفرق بني الشفاعتني :أن شفاعة املخلوق للمخلوق ،وسؤاله للمشفو
أمرا وال إذنًا ،بل هو سبب
خلقا وال ً
عنده ال يفتقر فيها إىل املشفو عنده ،ال ً
حمرك له من خارج كسائر األسباب ،وهذا السبب احملرك قد يكون عند احملرك
ألجله ما يوافقه ،كمن يشفع عنده يف أمر حيبه ويرضاه ،وقد يكون عنده ما
خيالفه كمن يشفع إليه يف أمر يكرهه ،مث قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من
املعارض ،فيقبل شفاعة الشافع ،وقد يكون املعارض الذي عنده أقوى من
مرتددا بني ذلك
ً شفاعة الشافع فريدها ،وقد يتعارض عنده األمران فيبقى
املعارض الذي يوجب الرد ،وبني الشفاعة اليت تقتضي القبول فيتوقف إىل أن
يرتجح عنده أحد األمرين مبرجح.
وهذا خبالف الشفاعة عند الرب سبحانه وتعاىل ،فإنه ما ل خيلق شفعة
الشافع ،ويأذن له فيها ،وحيبها منه ،ويرضى عن الشافع ل ميكن أن توجد،
والشافع ال يشفع عنده مبجرد امتثال أمره وطاعته له ،فهو مأمور بالشفاعة
-216-
أحدا من األنبياء واملالئكة ومجيع املخلوقات ال
مطيع بامتثال األمر ،فإن ً
يتحرك بشفاعة وال غريها إالَّ مبشيئة اهلل وخلقه.
(العلم بالفرق بين الشفاعة عند الخالق ولدى المخلوق ،يبيِّن حقيقة
الفرق بين التوحيد والشرك).
فالرب تعاىل هو الذي حيرك الشفيع حىت يشفع ،والشفيع عند املخلوق هو
الذي حيرك املشفو إليه حىت يقبل ،والشافع عند املخلوق مستغن عنه يف أكثر
أموره ،وهو يف احلقيقة شريكه ولو كان مملوكه ،وعبده ،فاملشفو عنده حمتاج إليه
فيما يناله من النفع والضر واملعاونة وغري ذلك .كما أن الشافع حمتاج إليه فيما
يناله من رزق أو نصر أو غريه ،فكل منهما حمتاج إىل اآلخر.
ومن وفَّقه اهلل لفهم هذا املوضو ،تبني له حقيقة التوحيد والشرك ،والفرق
نورا فما له
بني ما أثبته اهلل من الشفاعة ،وما نفاه وأبطله .ومن ل جيعل اهلل له ً
من نور ،ومن له خربة مبا بعث اهلل به رسوله ،ومبا عليه أهل الشرك والبد اليوم
علم :أن بني السلف وبني هؤالء اْللوف من البعد ،أبعد مما بني املشرق
واملغرب ،وأهنم على شيء والسلف على شيء ،كما قيل:
ومعرب
مشرق ِّ
شتان بين ِّ مغرباا
مشرقة وسرت ِّ
سارت ِّ
واألمر واهلل أعظم مما ذكرناه .انتهى.
وبه كمل اجلواب ،واحلمد هلل الذي هدانا لدينه الذي رضيه لعباده ،وما كنا
لنهتدي لوال أن هدانا اهلل.
وصلَّى اهلل على سيد املرسلني ،وإمام املتقني ،نبينا حممد ،وعلى آله وصحبه
()1
كثريا» . َّ
أمجعني ،وسلم تسلي ًما ً
-215-
المبحث الثالث
الفرق بين الشفاعة المثبتة ،والمنفية في القرآن العظيم
لقد أثبت القرآن الشفاعة يف موضع ،ونفاها يف آخر ،ليتجلَّى بذلك
اإلثبات والنفي :الفرق بني حقيقة التوحيد والشرك.
والشفاعة املثبتة هي شفاعة العبد ،اململوك ،املربوب ،املأمور من قبل سيده
أن يشفع فيمن حقَّقوا شروطها ،واجتنبوا موانعها.
والشفاعة املنفية :هي شفاعة الشريك ،واملعاون ،والوزير ....ألن اهلل
مسي له ،وال ند ،وال
سبحانه واحد يف صفاته ،وأفعاله ،وربوبيته ،وألوهيته ،ال َّ
جردوه
نظري .ومن مث كان أسعد الناس بالشفاعة :أهل التوحيد اْلل ،الذين َّ
من شوائب الشرك ومتعلَّقاته ،وأما أهل الشرك والتنديد فليس هلم منها أدىن
نصيب:
قال الشيخ عبد الرمحن بن حسن رمحهما اهلل تعاىل:
«الشفاعة نوعان :شفاعة منفية يف القرآن ،وهي الشفاعة للكافر واملشرك.
ِِ ِ
اعة﴾ [البقرة: يت يَـ ْوم الَّ بَـْيع فيه َوالَ خلَّة َوالَ َش َف َ قال تعاىلِّ ﴿ :من قَـْب ِل أَن يَأْ َ
ني﴾ [املدثر ،]31 :وقالَ ﴿ :واتـَّقواْ ِِ
اعة الشَّافع َ ،]264وقال﴿ :فَ َما تَ َنفعه ْم َش َف َ
اعة َوالَ يـ ْؤ َخذ ِمْنـ َها َع ْدل ِ
يَـ ْوماً الَّ َْجت ِزي نَـ ْفس َعن نـَّ ْفس َشْيئاً َوالَ يـ ْقبَل مْنـ َها َش َف َ
والَ هم ينصرو َن﴾ [البقرة ،]41 :وحنو هذه اآليات كقوله﴿ :ويـعبدو َن ِمن د ِ
ون ََْ َ ْ َ
ند اللي ِه ق ْل أَتـنَبِّئو َن الليهَ ِمبَا
اللي ِه َما الَ يَضُّره ْم َوالَ يَ َنفعه ْم َويَـقولو َن َهـؤالء ش َف َعاؤنَا ِع َ
ض سْب َحانَه َوتَـ َع َاىل َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [يونس: ات َوالَ ِيف األ َْر ِ السماو ِ ِ
الَ يَـ ْعلَم يف َّ َ َ
.]91
خيرب تعاىل على أن من اختذ هؤالء شفعاء عند اهلل ،أنه ال يعلم أهنم يشفعون
له بذلك وما ال يعلمه ال وجود له ،فنفى وقو هذه الشفاعة ،وأخرب
-214-
أهنا شرك بقوله﴿ :سْب َحانَه َوتَـ َع َاىل َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [يونس ،]91 :وقال
اهلل زلْفى تعاىل ﴿ :وال ِذين اتخذوا ِمن دونِِه أولِياء ما نـ ْعبدهم إِل لِيـق ِّربونا إِلى ِ
ْ ْ ْ
اذب كفار ﴾ [الزمر.]3 : ﴾ ،إىل قوله تعاىل ﴿ :إِن اهلل ل يـ ْه ِدي من هو ك ِ
ْ
يقربه إىل اهلل وهو يبعده عنه وعن شفيعا يزعم أنه ِّ فأبطل شفاعة من اختذ ً
رمحته ومغفرته ،ألنه جعل هلل شري ًكا يرغب إليه ويرجوه ويتوكل عليه وحيبه ،كما
حيب اهلل تعاىل أو أعظم.
(النو الثاي) :الشفاعة اليت أثبتها القرآن ،وهي خالصة ألهل اإلخالص
وقيَّدها تعاىل بأمرين:
األول :إذنه للشافع أن يشفع ،كما قال تعاىلَ ﴿ :من َذا الَّ ِذي يَ ْش َفع ِعْن َده
إِالَّ بِِإ ْذنِِه﴾ [البقرة .]266 :وإذنه تعاىل ال يصدر إالَّ إذا رحم عبده املوحد
املذنب ،فإذا رمحه تعاىل أذن للشافع أن يشفع له.
عمن أذن للشافع أن يشفع فيه ،كما قال تعاىلَ ﴿ :وَال األمر الثاي :رضاه َّ
ِ
ضى﴾ [األنبياء.]21 : يَ ْش َفعو َن إَِّال ل َم ِن ْارتَ َ
فاإلذن بالشفاعة له بعد الرضا ،كما يف هذه اآلية ،وهو سبحانه ال يرضى
()1
إالَّ التوحيد» .
وقال الشيخ حممد بن عبد الوهاب يف كتابه التوحيد ،وحفيده عبد الرمحن
مجيعا يف شرحه عليه أثناء احلديث عن الشفاعة: بن حسن رمحهم اهلل ً
ون اللَّ ِه الَ ميَْلِكو َن ِمثْـ َق َال
قال :وقوله تعاىل﴿ :ق ِل ْادعوا الَّ ِذين زعمتم ِّمن د ِ
َ ََْ
ض َوَما َهل ْم فِي ِه َما ِمن ِش ْرك َوَما لَه ِمْنـهم ِّمن ظَ ِهري السماو ِ
ات َوالَ ِيف األ َْر ِ ِ
َذ َّرة يف َّ َ َ
نده إِالَّ لِ َم ْن أ َِذ َن لَه﴾ [سبأ.]23 ،22 : اعة ِع َ َّف َ
* َوالَ تَ َنفع الش َ
قال ابن القيم رمحه اهلل تعاىل يف الكالم على هذه اآليات :وقد قطع اهلل
املوحدين»( :ص.)14
(« )1قرة عيون ِّ
-211-
األسباب اليت يتعلق هبا املشركون مجيعها ،فاملشرك إمنا يتخذ معبوده ملا
حيصل له من النفع ،والنفع ال يكون إالَّ ممن فيه خصلة من هذه األربع :إما
مالك ملا يريد عابده منه ،فإن ل يكن مال ًكا كان شري ًكا للمالك ،فإن ل يكن
شفيعا عنده.
ظهريا كان ً
وظهريا ،فإن ل يكن معينًا وال ًً شري ًكا له كان معينًا له
فنفى اهلل سبحانه املراتب األربع نفيًا مرتبًا ،منتقالً من األعلى إىل األدىن،
فنفى :امللك والشركة واملظاهرة والشفاعة اليت يطلبها املشرك ،وأثبت شفاعة ال
نصيب فيها ملشرك ،وهي الشفاعة بإذنه.
وقطعا ألصل الشرك وموادهيدا للتوحيدً ، نورا وبرهانًا وجتر ً
فكفى هبذه اآلية ً
ملن عقلها.
والقرآن مملوء من أمثاهلا ونظائرها ،ولكن أكثر الناس ال يشعرون بدخول
وتضمنه له ،ويظنوهنا يف نو وقوم قد خلوا من قبل ول يعقبوا وارثًا، الواقع حتته ُّ
فهذا هو الذي حيول بني القلب وبني فهم القرآن.
ولعمر اهلل ،إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم
أو دوهنم ،وتناول القرآن هلم كتناوله ألولئك...
وهذا الذي ذكره اإلمام يف معى اآلية هو حقيقة دين اإلسالم ،كما قال
ِ َّ ِ ِ ِ ِ
يم َح َسن دينًا ِّمم َّْن أ ْ
َسلَ َم َو ْج َهه هلل َوه َو ْحمسن واتـَّبَ َع ملةَ إبْـَراه َ تعاىلَ ﴿ :وَم ْن أ ْ
يم َخلِيالً﴾ [النساء.]926 : ِ ِ ِ َّ
َحن ًيفا َواختَ َذ الليه إبْـَراه َ
قوله :قال أبو العباس هذه كنية شيخ اإلسالم أمحد بن عبد احلليم بن عبد
احلراي إمام املسلمني رمحه اهلل. السالم بن تيمية َّ
(نفى اهلل عما سواه كل عالئق المشركين)
قوله :نفى اهلل عما سواه كل ما يتعلق به املشركون ،فنفى أن يكون لغريه
ملك أو قسط منه ،أو يكون عـونًا هلل .فلم يبق إالَّ الشفاعة ،فبني أهنا ال
-211-
تنفع إالَّ ملن أذن له الرب ،كما قال تعاىل عن املالئكةَ ﴿ :وَال يَ ْش َفعو َن إَِّال
ِ
ضى﴾ [األنبياء.]21 : ل َم ِن ْارتَ َ
فهذه الشفاعة اليت يظنها املشركون ،هي منتفية يوم القيامة ،كما نفاها
القرآن ،وأخرب النيب « :أنه يأيت فيسجد لربه وحيمده» ،ال يبدأ بالشفاعة َّأوالً.
مث يقال له« :ارفع رأسك وقل تسمع ،وسل تعط ،واشفع تشفع» .قال له أبو
خالصا من ً هريرة :من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال« :من قال ال إله إالَّ اهلل
قلبه».
فتلك الشفاعة ألهل اإلخالص بإذن اهلل ،وال تكون ملن أشرك باهلل،
وحقيقتها :أن اهلل سبحانه وتعاىل هو الذي يتفضل على أهل اإلخالص ،فيغفر
هلم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه ،وينال املقام احملمود.
فالشفاعة اليت نفاها القرآن ما كان فيها شرك ،وهلذا أثبت الشفاعة بإذنه يف
مواضع ،وقد َّبني النيب أهنا ال تكون إالَّ ألهل التوحيد واإلخالص .انتهى.
قوله :وقال أبو هريرة إىل آخره .هذا احلديث رواه البخاري والنسائي عن أيب
هريرة ورواه أمحد وصححه ابن حبان وفيه« :وشفاعيت ملن قال ال إله إالَّ اهلل
خملصا ،يصدق قلبه لسانه ،ولسانه قلبه» ،وشاهده يف صحيح مسلم عن أيب ً
فتعجل كل بن هريرة قال :قال رسول اهلل « :لكل نيب دعوة مستجابةَّ ،
دعوته ،وإي اختبأت دعويت شفاعة ألميت يوم القيامة ،فهي نائلة إن شاء اهلل من
مات ال يشرك باهلل شيئًا».
وقد ساق املصنف رمحه اهلل كالم شيخ اإلسالم هنا ،فقام مقام الشرح
والتفسري ملا يف هذا الباب من اآليات ،وهو كاف واف بتحقيق مع اإلجياز.
واهلل أعلم.
وقد عرف اإلخالص بتعريف حسن فقال« :اإلخالص حمبة اهلل وحده
-355-
وإرادة وجهه» .اهـ.
وقال ابن القيم رمحه اهلل يف معى حديث أيب هريرة :تأمل هذا احلديث
كيف جعل أعظم األسباب اليت تنال هبا شفاعته جتريد التوحيد ،عكس ما عند
املشركني أن الشفاعة تنال باختاذهم شفعاء وعبادهتم ومواالهتم ،فقلب النيب
ما يف زعمهم الكاذب ،وأخرب أن سبب الشفاعة جتريد التوحيد ،فحينئذ يأذن
اهلل للشافع أن يشفع.
شفيعا أنه يشفع له وينفعه ومن جهل املشرك :اعتقاده أن من اختذ ولييا أو ً
عند اهلل ،كما يكون خواص الوالة وامللوك تنفع من واالهم ،ول يعلموا أنه ال
يشفع عنده أحد إالَّ بإذنه يف الشفاعة ،وال يأذن يف الشفاعة إالَّ ملن يرضى قوله
وعمله ،كما قاله يف الفصل األول ﴿ :م ْن ذا ال ِذي ي ْشفع ِعْنده إِل بِِإ ْذنِِه﴾
ِ
ضى﴾ [األنبياء: [البقرة ،]266 :ويف الفصل الثايَ ﴿ :وَال يَ ْش َفعو َن إَِّال ل َم ِن ْارتَ َ
،]21وبقى فصل ثالث ،وهو أنه ال يرضى من القول والعمل إالَّ توحيده واتبا
رسوله ،فهذه ثالثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب من عقلها ورعاها.
اهـ.
أيضا رمحه اهلل تعاىل أن الشفاعة ستة أنوا : وذكر ً
األول :الشفاعة الكربى ،اليت يتأخر عنها أولو العزم عليهم الصالة والسالم
حىت تنتهي إليه فيقول« :أنا هلا» ،وذلك حني يرغب اْلالئق إىل األنبياء
ليشفعوا هلم إىل رهبم حىت يرحيهم من مقامهم يف املوقف ،وهذه شفاعة خيت
هبا وال يشركه فيها أحد.
الثاني :شفاعته ألهل اجلنة يف دخوهلا .وقد ذكرها أبو هريرة يف حديثه
الطويل املتفق عليه.
الثالث :شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوهبم،
-359-
فيشفع هلم أن ال يدخلوها.
الرابع :شفاعته يف العصاة من أهل التوحيد ،الذين يدخلون النار بذنوهبم.
واألحاديث هبا متواترة عن النيب .وقد أمجع عليها الصحابة وأهل السنة
قاطبة ،وبدَّعوا من أنكرها ،وصاحوا به من كل جانب ،ونادوا عليه بالضالل.
الخامس :شفاعته لقوم من أهل اجلنة يف زيادة ثواهبم ورفعة درجاهتم ،وهذه
مما ل يناز فيها أحد.
شفيعا،
وكلها خمتصة بأهل اإلخالص الذين ل يتخذوا من دون اهلل ولييا وال ً
س َهلم ِّمن دونِِه ِ ِ ِ ِِ َّ ِ
ين َخيَافو َن أَن ْحي َشرواْ إ َىل َرِّهب ْم لَْي َ
كما قال تعاىلَ ﴿ :وأَنذ ْر به الذ َ
َوِيل َوالَ َش ِفيع﴾ [األنعام.]69 :
السادس :شفاعته يف بعض أهله الكفار من أهل النار ،حىت خيفَّف عذابه،
()1
وهذه خاصة بأيب طالب وحده» .
* * *
-352-
الفصل الخامس
المشرك مغبون في دينه إلخالله
بكل قيود الكلمة العاصمة إل بمجرد التلفظ بها
وفيه مبحثان:
المبحث األول :جيب إخالص مجيع أنوا العبادة هلل وحده ،فمن صرف
وخارجا عن ملَّة
ً أيًا منها لغريه سبحانه يكون بذلك مشرًكا
املسلمني.
أخل بكل شروط الكلمة المبحث الثاني :كل من عبد غري اهلل ،فقد َّ
جمرد التلفظ هلا ،ولو أتى بعد ذلك بقراب العاصمة ،إالَّ َّ
األرض طاعة ،فلن يقبل منه ،وهو يف اآلخرة من اْلاسرين.
-353-
-354-
المبحث األول
يجب إخالص جميع أنواع العبادة هلل وحده فمن صرف أياا منها
وخارجا عن ملة المسلمين
ا لغيره يكون بذلك مشراكا
قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل -بعد أن تكلم عن معنى اإلسالم،
والتوحيد:-
وقد تضمن ذلك مجيع أنوا العبادة ،فيجب إخالصها هلل تعاىل ،فمن أشرك
بني اهلل تعاىل وبني غريه يف شيء فليس مبسلم.
فمنها :احملبة ،فمن أشرك بني اهلل تعاىل وبني غريه يف احملبة اليت ال تصلح إالَّ
ون اللي ِه أ َ
َنداداً َّخذ ِمن د ِ
َّاس من يـت ِ ِ
هلل ،فهو مشرك .كما قال تعاىلَ ﴿ :وم َن الن ِ َ َ
ني ِم َن ِ ِ ِحيبُّونَـهم َكح ِّ ِ
ب الليه﴾ [البقرة ،]956 :إىل قوله تعاىلَ ﴿ :وَما هم خبَا ِرج َ ْ
النَّا ِر﴾ [البقرة.]954 :
ومنها :التوكل ،فال يتوكل على غري اهلل فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل ،قال اهلل
ِِ ِ
ني﴾ [املائدة ،]23 :والتوكل على غري تعاىلَ ﴿ :و َعلَى الليه فَـتَـ َوَّكلواْ إِن كنتم ُّم ْؤمن َ
اهلل فيما يقدر عليه شرك أصغر.
ومنها :اْلوف ،فال خياف خوف السر إالَّ من اهلل ،ومعى خوف السر ،هو
أن خياف العبد من غري اهلل تعاىل أن يصيبه مكروه مبشيئته وقدرته وإن ل يباشره،
فهذا شرك أكرب ،ألنه اعتقاد للنفع والضر يف غري اهلل.
ون﴾ [النحل ،]69 :وقال تعاىل﴿ :فَالَ َختْ َشواْ قال اهلل تعاىل﴿ :فَإيَّاي فَارهب ِ
َ َْ
ك الليه بِضر فَالَ اخ َش ْو ِن﴾ [املائدة ،]44 :وقال تعاىلَ ﴿ :وإِن ميَْ َس ْس َ َّاس َو ْ
الن َ
صيب بِِه َمن يَ َشاء ِم ْن ِعبَ ِاد ِه آد لَِف ْ ِ ِ
ضله ي َ ف لَه إِالَّ ه َو َوإِن ي ِرْد َك ِخبَْري فَالَ َر َّ ِ
َكاش َ
الرِحيم﴾ [يونس.]954 : َوه َو الْغَفور َّ
-356-
ومنها :الرجاء فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل كمن يدعو األموات أو غريهم
ِ َّ ِ
راجيًا حصول مطلوبه يف جهتهم فهذا شرك أكرب .قال اهلل تعاىل﴿ :إ َّن الذ َ
ين
ت اللي ِه َوالليه َغفور َّ ِ
اهدواْ ِيف َسبِ ِيل اللي ِه أ ْولَـئِ َ
ك يَـ ْرجو َن َر ْمحَ َ اجرواْ َو َج َين َه َ َآمنواْ َوالذ َ
ون عبد إالَّ ربه. َّرِحيم﴾ [البقرة ،]291 :وقال علي :ال يرج َّ
ك َو ْاحنَْر﴾ ومنها :الصالة والركو والسجود ،قال اهلل تعاىل﴿ :فَ ِ
ص ِّل لَربِّ ََ
[الكوثر.]2 :
اسجدوا َو ْاعبدوا َربَّك ْم﴾ [احلج: َّ ِ
ين َآمنوا ْارَكعوا َو ْ وقال تعاىل﴿ :يَا أَيُّـ َها الذ َ
.]44
ومنها :الدعاء فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل ،سواء كان طلبًا للشفاعة أو غريها
من املطالب.
ين تَ ْدعو َن ِمن دونِِه َما ميَْلِكو َن ِمن قِطْ ِمري * إِن َّ ِ
قال اهلل تعاىلَ ﴿ :والذ َ
استَ َجابوا لَك ْم َويَـ ْوَم الْ ِقيَ َام ِة يَكْفرو َن ِ
تَ ْدعوه ْم َال يَ ْس َمعوا د َعاءك ْم َولَْو َمسعوا َما ْ
ك ِمثْل َخبِري﴾ [فاطر ،]94 ،93 :وقال تعاىلَ ﴿ :وقَ َال َربُّكم بِ ِش ْركِك ْم َوَال يـنَبِّئ َ
ِ ِ ِ ِ َّ ِ ادع ِوي أ ِ
َّم
ين يَ ْستَكْربو َن َع ْن عبَ َاديت َسيَ ْدخلو َن َج َهن َ ب لَك ْم إ َّن الذ َ َستَج ْ ْ ْ
ِ
ين﴾ [غافر.]55 : َداخ ِر َ
ت ك َوالَ يَضُّرَك فَِإن فَـ َعْل َ ون اللي ِه َما الَ يَ َنفع َ وقال تعاىل﴿ :والَ تَ ْد ِمن د ِ
َ
ون اللَّهِ ك إِ ًذا ِّمن الظَّالِ ِمني﴾ [يونس ،]955 :وقال تعاىل﴿ :أَِم َّاختَذوا ِمن د ِ فَِإنَّ َ
َ َ
مج ًيعا لَّهَّفاعة َِ ِ ِ ِ
ش َف َعاء ق ْل أ ََولَْو َكانوا الَ ميَْلكو َن َشْيئًا َوالَ يَـ ْعقلو َن * قل لِّلَّه الش َ َ
ض مثَّ إِلَْي ِه تـ ْر َجعو َن﴾ [الزمر.]44 ،43 : ات َواأل َْر ِالسماو ِ
مْلك َّ َ َ
اي َوممََ ِايت لِلي ِه ِ
صالَيت َونسكي َوَْحميَ َ
ومنها :الذبح ،قال اهلل تعاىل﴿ :قل إِ َّن َ ِ
ْ
ِ ِ ِ ِ ِ
ني﴾ [األنعام: ك أم ْرت َوأَنَاْ أ ََّول الْم ْسلم َ يك لَه َوبِ َذل َ ني * الَ َش ِر َ ب الْ َعالَم َ َر ِّ
،]953 ،952والنسك :الذبح.
ومنها :النذر ،قال اهلل تعاىلَ ﴿ :ولْيوفوا نذ َوره ْم﴾ [احلج ،]21 :وقال
تعاىل﴿ :يوفو َن بِالنَّ ْذ ِر َوَخيَافو َن يَـ ْوًما َكا َن َشُّره م ْستَ ِط ًريا﴾ [اإلنسان.]4 :
-355-
ت ومنها :الطواف ،فال يطاف إالَّ ببيت اهلل ،قال اهلل تعاىل﴿ :ولْيطََّّوفوا بِالْبـي ِ
َْ ََ
الْ َعتِ ِيق﴾ [احلج.]21 :
وب إِالَّ الذن َومنها :التوبة فال يتاب إالَّ اهلل .قال اهلل تعاىل﴿ :وَمن يَـ ْغ ِفر ُّ
َ
ِ ِ ِ
الليه﴾ [آل عمران ،]936 :وقال تعاىلَ ﴿ :وتوبوا إِ َىل اللَّه َمج ًيعا أَيُّـ َها الْم ْؤمنو َن
لَ َعلَّك ْم تـ ْفلِحو َن﴾ [النور.]39 :
ب ومنها :االستعاذة فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل ،قال اهلل تعاىل﴿ :ق ْل أَعوذ بَِر ِّ
َّاس﴾ [الناس.]9 : ب الن ِ الْ َفلَ ِق﴾ [الفلق ،]9 :وقال تعاىل﴿ :ق ْل أَعوذ بَِر ِّ
ومنها :االستغاثة فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل ،قال اهلل تعاىل﴿ :إِ ْذ تَ ْستَغِيثو َن
اب لَك ْم﴾ [األنفال.]1 : استَ َج َ
َربَّك ْم فَ ْ
فمن أشرك بني اهلل تعاىل وبني خملوق فيما خيت باْلالق تعاىل من هذه
العبادات أو غريها ،فهو مشرك.
وإمنا ذكرنا هذه العبادات خاصة ،ألن عبَّاد القبور صرفوها لألموات من
دون اهلل تعاىل ،أو أشركوا بني اهلل تعاىل وبينهم فيها ،وإالَّ فكل نو من أنوا
أشرك بني اهلل تعاىل وبني غريه فيه ،فهو مشرك. َ العبادة ،من صرفه لغري اهلل ،أو
قال اهلل تعاىلَ ﴿ :و ْاعبدواْ الليهَ َوالَ ت ْش ِركواْ بِِه َشْيئًا﴾ [النساء. ]35 :
()1
وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهم اهلل تعالى،
جميعا:
مبيناا حقيقة العتقاد الذي دان هلل به هو وآباؤه رحمهم اهلل ا
فاعلموا -أن حقيقة ما حنن عليه ،وما ندعو إليه ،وجناهد على التزامه،
والعمل به -أنا ندعو إىل دين اإلسالم ،والتزام أركانه ،وأحكامه،
الذي أصله وأساسه :شهادة أن ال إله إالَّ اهلل ،واألمر بعبادة اهلل وحده
ال شـريك له ،وهذه العبادة مبنية على أصلني :كمال احلب هلل ،مع كمال
-354-
اْلضو والذل له.
أجل أنوا العبادة، والعبادة هلا أنوا كثرية ،فمن أنواعها :الدعاء ،هو من ِّ
ومساه اهلل عبادة ،يف عدة مواضع من كتابه ،كما قال تعاىلَ ﴿ :وقَ َال َربُّكم
ِ ِ ِ ِ َّ ِ ادع ِوي أ ِ
َّم ب لَك ْم إ َّن الذ َ
ين يَ ْستَكْربو َن َع ْن عبَ َاديت َسيَ ْدخلو َن َج َهن َ َستَج ْ
ْ ْ
ِ
ين﴾ [غافر ،]55 :ونظائر هذا يف القرآن كثري ،ويف احلديث« :الدعاء مخ َداخ ِر َ
العبادة».
فنقول :ال يدعى إالَّ اهلل ،وال يستغاث يف الشدائد ،وجلب الفوائد إالَّ به،
وال يذبح القربان إالَّ له ،وال ينذر إالَّ له ،وال خياف خوف السر إالَّ منه وحده،
وال يتوكل إالَّ عليه ،وال يستعان وال يستعاذ إالَّ به ،وليس ألحد من اْللق شيء
من ذلك ،ال املالئكة ،وال األنبياء ،وال األولياء ،وال الصاحلني ،وال غريهم فلله
حق ال يكون لغريه ،وحقه تعاىل :إفراده جبميع أنوا العبادة ،فال تأله القلوب
وتعظيما ،وخوفًا ،ورجاء ،إالَّ اهلل ،فهذه ،هي :احلكمة الشرعية ً حمبة ،وإجالالً،
الدينية ،واألمر املقصود يف إجياد الربية.
ون﴾ [الذاريات،]65 : اإلنس إَِّال لِيـعبد ِ قال تعاىلَ ﴿ :وَما َخلَ ْقت ِْ ِ
َْ اجل َّن َو ْ َ
يوحدون ،والعبادة هي :التوحيد ،ألن اْلصومة بني الرسل ومعى :يعبدونِّ ،
اجتَنِبواْ ِ
وأممهم فيه ،قال تعاىلَ ﴿ :ولََق ْد بَـ َعثْـنَا ِيف ك ِّل أ َّمة َّرسوالً أَن ْاعبدواْ الليهَ َو ْ
ك ِمن َّرسول إَِّال ِ
وت﴾ [النحل ،]35 :وقال تعاىلَ ﴿ :وَما أ َْر َسْلنَا ِمن قَـْبل َ الطَّاغ َ
ون﴾ [األنبياء ،]26 :وقال تعاىلَ ﴿ :وأ َّ
َن اعبد ِ وحي إِلَْي ِه أَنَّه َال إِلَهَ إَِّال أَنَا فَ ْ
نِ
ِ ِ ِِ
َح ًدا﴾ [اجلن.]91 : الْ َم َساج َد للَّه فَ َال تَ ْدعوا َم َع اللَّه أ َ
فمن دعا غري اهلل ،من ميت ،أو غائب ،أو استغاث به ،فهو مشرك كافر،
التقرب إىل اهلل ،وطلب الشفاعة عنده». جمرد ُّوإن ل يقصد إالَّ َّ
-351-
المبحث الثاني
كل من عبد غير اهلل ،فقد أخل بكل شروط الكلمة العاصمة،
إل مجرد التلفظ بها ،ولو أتى بعد ذلك بقراب األرض طاعة،
فلن يقبل منه ،وهو في اآلخرة من الخاسرين
-351-
ول يكفر مبا يعبد من دون اهلل ،كما يف احلديث ،بل آمن مبا يعبد من دون
ين َّ ِ
اهلل باختاذه الند وحمبته له وعبادته إياه من دون اهلل ،كما قال تعاىلَ ﴿ :والذ َ
َش ُّد حبًّا لِّلي ِه﴾ [البقرة ،]956 :ألهنم أخلصوا له احلب فلم حيبوا إالَّ إياه، َآمنواْ أ َ
مجيعا هلل ،ويكفرون مبا عبد من دون اهلل. وحيبون من أحب ،وخيلصون أعماهلم ً
فبهذا يتبني ملن وفَّقه اهلل تعاىل ملعرفة احلق وقَبوله داللة هذه اآليات العظيمة على
معى شهادة أن ال إله إالَّ اهلل ،وعلى التوحيد الذي هو معناها ،الذي دعا إليه
()1
مجيع املرسلني .فتدبَّر» .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرمحن :قال الشيخ حممد بن عبد
الوهاب:
«وجمرد اإلتيان بلفظ الشهادة ،من غري علم مبعناها ،وال عمل مبقتضاها ،ال
مسلما ،بل هو حجة على ابن آدم .خالفًا ملن زعم أن اإلميان يكون به املكلَّف ً
كالكرامية ،أو جمرد التصديق كاجلهمية .وقد أكذب اهلل املنافقني َّ جمرد اإلقرار
فيما أتوا به وزعموه من الشهادة وسجل على كذهبم ،مع أهنم أتوا بألفاظ
مؤكدة بأنوا من التأكيدات.
ك لََرسول اللَّ ِه َواللَّه يَـ ْعلَم ِ
اءك الْمنَافقو َن قَالوا نَ ْش َهد إِنَّ َ
قال تعاىل﴿ :إِ َذا َج َ
ني لَ َك ِاذبو َن﴾ [املنافقون ،]9 :فأكدوا بلفظ ِِ
ك لََرسوله َواللَّه يَ ْش َهد إِ َّن الْمنَافق َإِنَّ َ
الشهادة و«إن» املؤكدة ،والالم ،واجلملة االمسية ،فأكذهبم ،وأكد تكذيبهم،
أكدوا به شهادهتم سواء بسواء ،وزاد التصريح باللقب الشنيع والعلم مبثل ما َّ
البشيع الفظيع.
مسمى اإلميان ال بد فيه من الصدق والعمل ،ومن شهد أن وهبذا تعلم أن َّ
ال إله إالَّ اهلل ،وعبد غريه معه فال شهادة له ،وإن صلَّى وزَّكى وصام ،وأتى
بعضا:
ورد ً بشيء من أعمال اإلسالم .قال تعاىل ملن آمن ببعض الكـتاب َّ
-395-
اب َوتَكْفرو َن بِبَـ ْعض﴾ [البقرة ،]16 :وقال تعاىل: ض الْ ِكتَ ِ ﴿أَفَـتـ ْؤِمنو َن بِبَـ ْع ِ
ني اللي ِه َورسلِ ِه َويقولو َن نـ ْؤِمن ِ ِِ
ين يَكْفرو َن بِالليه َورسله َوي ِريدو َن أَن يـ َفِّرقواْ بَـ ْ َ
ِ َّ ِ
﴿إ َّن الذ َ
ك َسبِيالً﴾ [النساء،]965 : َّخذواْ بـ ِ بِبـعض ونَكْفر بِبـعض وي ِريدو َن أَن يـت ِ
ني َذل َ َْ َ َ َْ َ َْ َ
ند َربِِّه إِنَّه
آخَر َال بـ ْرَها َن لَه بِ ِه فَِإَّمنَا ِح َسابه ِع َ ِ
وقال تعاىلَ ﴿ :وَمن يَ ْد َم َع اللَّه إِ َهلًا َ
َال يـ ْفلِح الْ َكافِرو َن ﴾...اآلية [املؤمنون.]994 :
والكفر نوعان :مطلق ومقيد.
فاملطلق :أن يكفر جبميع ما جاء به الرسول.
واملقيد :أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول ،حىت إن بعض العلماء كفَّر من
جممعا عليه ،كتوريث اجلد واألخت وإن صلَّى وصام ،فكيف مبن فرعا ً أنكر ً
يدعو الصاحلني ويصرف هلم خال العبادة ولبَّها؟
وهذا مذكور يف املختصرات من كتب املذاهب األربعة ،بل كفَّروا ببعض
األلفاظ اليت جترى على ألسن بعض اجلهال وإن صلَّى وصام من جرت على
لسانه.
قال رمحه اهلل :والصحابة كفَّروا من منع الزكاة وقاتلوهم مع إقرارهم
بالشهادتني واإلتيان بالصالة والصوم واحلج.
قال رمحه اهلل :واجتمعت األمة على كفر بن عبيد اهلل القداح مع أهنم كانوا
يتكلمون بالشهادتني ،ويصلون ،ويبنون املساجد يف قاهرة مصر وغريها.
وذكر أن ابن اجلوزي صنَّف كتابًا يف وجوب غزوهم وقتاهلم مسَّاه (النصر
على مصر) قال :وهذا يعرفه من له أدىن إملام بشيء من العلم والدين.
فشبه عبَّاد القبور بأهنم يصلون ويصومون ويؤمنون بالبعث ،جمرد تعمية على
العوام ،وتلبيس لينفق شركهم ،ويقال :بإسالمهم وإمياهنم .ويأىب اهلل ذلك ورسوله
()1
واملؤمنون» .
-399-
وحتدَّث الشيخ عبد الرمحن بن حسن رمحه اهلل تعاىل عن حكم املشرك يف
اآلخرة ،أثناء شرحه لكتاب التوحيد فقال:
«قال املصنف رمحه اهلل تعاىل :وملسلم عن جابر أن رسول اهلل قال« :من
لقي اهلل ال يشرك به شيئًا دخل اجلنة ،ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار»....
قوله« :من لقي اهلل ال يشرك به شيئًا» قال القرطيب :أي ل يتخذ معه
شري ًكا يف اإلهلية ،وال يف اْللق ،وال يف العبادة.
ومن املعلوم من الشر اجملمع عليه عند أهل السنة :أن من مات على ذلك
فال بد له من دخول اجلنة ،وإن جرت عليه قبل ذلك أنوا من العذاب واحملنة.
وأن من مات على الشرك ال يدخل اجلنة وال يناله من اهلل رمحة ،وخيلد يف النار
تصرم آماد.
أبد اآلباد ،من غري انقطا عذاب وال ُّ
وقال النووي :أما دخول املشرك النار فهو على عمومه ،فيدخلها وخيلد
فيها ،وال فرق فيه بني الكتايب اليهودي والنصراي ،وبني عبدة األوثان وسائر
عنادا وغريه ،وال بني من خالف ملةالكفرة ،وال فرق عند أهل احلق بني الكافر ً
اإلسالم وبني من انتسب إليها مث حكم بكفره جبحده وغري ذلك.
وأما دخول من مات غري مشرك اجلنة فهو مقطو له به .لكن إن ل يكن
مصرا عليها دخل اجلنة أوالً ،وإن كان صاحب كبرية مات صاحب كبرية مات ً
مصرا عليها فهو حتت املشيئة ،فإن عفا اهلل عنه دخل اجلنة أوالً ،وإالَّ عذب يف
()1
النار مث أخرج من النار وأدخل اجلنة» .
* * *
-392-
الفصل السادس
أشهر شبهات المشركين وعلمائهم
مع سهام الردود عليها
وفيه مبحثان:
-393-
-394-
المبحث األول
الرد على أشهر شبهات المشركين
* لقد خان املشركون أنفسهم عندما أومهوها بأن اآليات اليت نزلت يف ذكر
الكفار واملشركني ،كانت يف قوم قد خلوا ،ول يعقبوا وارثًا ،وزين هلم ذلك علماء
فتأصل الشرك بذلك يف أفئدهتم ،وظنوا باهلل ظن السوء، السوء يف قلوهبمَّ ،
بورا.
وصاروا قوًما ً
جميعا نقالا
قال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم اهلل ا
عن اإلمام ابن القيم رحمه اهلل تعالى:
والذي قام بقلوب هؤالء املشركني وسلفهم أن آهلتهم تشفع هلم عند اهلل،
وهذا عني الشرك ،وقد أنكر اهلل عليهم ذلك يف كتابه ،وأبطله ،وأخرب أن
الشفاعة كلها له.
ِ ِِ َّ ِ
ف الضُِّّر
ين َز َع ْمتم ِّمن دونه فَالَ ميَْلكو َن َك ْش َ وقال تعاىل﴿ :ق ِل ْادعواْ الذ َ
عنكم والَ َْحت ِويالً﴾ [اإلسراء ،]65 :وقوله﴿ :ق ِل ْادعوا الَّ ِذين زعمتم ِّمن د ِ
ون َ ََْ َ ْ َ
ض َوَما َهل ْم فِي ِه َما ِمن ِش ْرك السماو ِ
ات َوالَ ِيف األ َْر ِ ِ ِ ِ ِ
اللَّه الَ ميَْلكو َن مثْـ َق َال َذ َّرة يف َّ َ َ
نده إِالَّ لِ َم ْن أ َِذ َن لَه﴾ [سبأ،22 : اعة ِع َ َوَما لَه ِمْنـهم ِّمن ظَ ِهري * َوالَ تَ َنفع الش َ
َّف َ
.]23
والقرآن مملوء من أمثال هذه اآلية ،ولكن أكثر الناس ال يشعر بدخول الواقع
حتته ،ويظنه يف قوم قد خلوا ،ول يعقبوا وارثًا ،وهذا هو الذي حيول بني املرء وبني
فهم القرآن ،كما قال عمر بن اْلطاب :إمنا تنقض عرى اإلسالم عروة عروة،
إذا نشأ يف اإلسالم من ال يعرف اجلاهلية.
وهذا ألنه إذا ل يعرف الشرك ،وما عابه القرآن وذمه ،وقع فيه ،وأقره
-396-
وهو ال يعرف أنه الذي كان عليه أهل اجلاهلية ،فتنتقض بذلك عرى
منكرا واملنكر معروفًا ،والبدعة سنة والسنة بدعة ،ويكفَّر
اإلسالم ،ويعود املعروف ً
ويبد بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الرجل مبحض اإلميان وجتريد التوحيدَّ ،
()1
األهواء والبد ،ومن له بصرية وقلب حي يرى ذلك عيانًا ،فاهلل املستعان» .
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل بعد أن أبان وقرر كفر
طواغيت عصره:
«فإن جادل منافق ،بكون اآلية نزلت يف الكفار ،فقولوا له :هل قال أحد
من أهل العلم أوهلم وآخرهم :إن هذه اآليات ال تعم من عمل هبا من
املسلمني؟ من قال هذا قبلك؟
أيضا فقولوا له :هذا رد على إمجا املسلمني ،فإن استدالهلم باآليات
و ً
النازلة يف الكفار ،على من عمل هبا ممن انتسب إىل اإلسالم ،أكثر من أن
()2
تذكر» .
وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين:
«وأما من يقول :إن اآليات اليت نزلت حبكم املشركني األولني ،فال تتناول
من فعل فعلهم ،فهذا كفر عظيم ،مع أن هذا قول ال يقوله إالَّ ثور مرتكس يف
اجلهل.
فهل يقول :إن احلدود املذكورة يف القرآن والسنة ألناس كانوا وانقرضوا ،فال
حيد الزاي اليوم ،وال تقطع يد السارق ،وحنو ذلك ،مع أن هذا قول يستحيا من
ذكره .أفيقول هذا -أحد اجملادلني عن املشركني:-
-395-
إن املخاطبني بالصالة ،والزكاة ،وسائر شرائع اإلسالم ،انقرضوا وبطل
()1
حكم القرآن؟» .
* * *
* لقد استند املشركون إىل اجلهال الذين ظهروا هلم بلباس العلماء
وقرروا هلم أن املقصود من التوحيد :جمرد التلفظ بالشهادتني ،وال والصلحاءَّ ،
فحسنوها
يضر بعد ذلك فعل شيء ،مث حضروا حفالت شركهم ونوادي إفكهم َّ
هلم ،ومن ل حيسنها ل ينكرها ،فاطمئن عبَّاد القبور واملشركون إىل ذلك،
وثلجت به صدورهم ،وظنوا أهنم مانعتهم حصوهنم من براهني املوحدين ،وحجج
املتحنِّفني ،فعلَت بذلك رايتهم ،وارتفع إفكهم ،وساد شركهم.
رد هذا قال الشيخ محد بن ناصر بن معمر اإلمام العالمة رمحه اهلل يف ِّ
اإلفك املبني:
كثريا من العلماء وأما قوله -أي أحد اجملادلني عن املشركني -ومنها :أن ً
الكبار فعلوا هذه األمور ،وفعلت حبضرهتم ،ول تنكر ،ومن ذلك تتابعهم على
أعيادا يف الغالب ،فلكل شيخ يوم معروف ،يف بناء القباب على القبور ،واختاذها ً
شهر معلوم ،يؤتى إليه من النواحي ،وقد حيضرهم بعض العلماء فال ينكر.
فالجواب من وجوه:
الوجه األول :أن يقال :قد افرتض اهلل على اْللق طاعة رسول اهلل ،
ول فَـ َق ْد أَطَا َ وأخرب أن من أطاعه فقد أطا اهلل ،فقال تعاىلَّ ﴿ :م ْن ي ِط ِع َّ
الرس َ
الليهَ﴾ [النساء ،]15 :وقال﴿ :ق ْل إِن كنت ْم ِحتبُّو َن الليهَ فَاتَّبِع ِوي ْحيبِْبكم الليه﴾
[آل عمران ،]39 :وقالَ ﴿ :وإِن ت ِطيعوه تَـ ْهتَدوا﴾ [النور.]64 :
(« )1جمموعة الرسائل واملسائل» ،)935/2( :رسائل وفتاوى عبد اهلل أيب بطني.
-394-
الرسول فَخذوه َوَما نَـ َهاك ْم َعْنه فَانتَـهوا﴾ [احلشر،]4 : وقالَ ﴿ :وَما آتَاكم َّ
ول َوأ ْوِيل األ َْم ِر ِمنك ْم
الرس َ َطيعواْ الليه وأ ِ
َطيعواْ َّ وقال تعاىل﴿ :يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنواْ أ ِ
ََ َ َ َ َ
ول[ ﴾...النساء ]61 :اآلية. الرس ِ فَِإن تَـنَ َاز ْعت ْم ِيف َش ْيء فَـرُّدوه إِ َىل اللي ِه َو َّ
حمرم أوفإذا اختلف الناس يف شيء من أمور الدين ،هل هو واجب أو َّ
جائز ،وجب رد ما وقع فيه االختالف إىل اهلل والرسول ،وجيب على املؤمن إذا
ِِ
مسعا وطاعة ،قال اهلل تعاىل﴿ :إَِّمنَا َكا َن قَـ ْوَل الْم ْؤمن َ
ني دعي إىل ذلك أن يقولً :
إِ َذا دعوا إِ َىل اللَّ ِه َوَرسولِِه لِيَ ْحك َم بَـْيـنَـه ْم أَن يَـقولوا َِمس ْعنَا َوأَطَ ْعنَا﴾ [النور،]69 :
فنحن حناكم من نازعنا يف هذه املسألة وغريها من املسائل ،إىل اهلل والرسول ،ال
إىل أقوال الرجال وآرائهم.
فنقول ملن أجاز بناء القباب على القبور باجل واآلجر ،وأسرجها وفرشها
بالرخام ،وعلَّق عليها قناديل الفضة وبيض النعام ،وكساها كما يكسى بيت اهلل
وحث عليه؟ أم هنى عنه وأمر بإزالة مع وضع احلرام :هل أمر رسول اهلل هبذا َّ
من ذلك عليه؟ .فما أمرنا به ائتمرنا ،وما هنانا عنه انتهينا ،وسنته هي احلاكمة
بيننا وبني خصومنا يف حمل النزا .
فنقول :قد ثبت يف صحيح مسلم عن أيب اهلياج األسدي ،قال :قال يل
علي بن أيب طالب :أال أبعثك على ما بعثن عليه رسول اهلل « :أن ال أد
أيضا :عن مثامة بن قربا مشرفًا إالَّ سويته» .ويف صحيحه ً َتثاالً إالَّ طمسته ،وال ً
شفي اهلماي ،قال :كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم ،فتويف صاحب لنا،
فسوي ،مث قال :مسعت رسول اهلل « :يأمر فأمر فضالة بن عبيد بقربه ِّ
أيضا ،عن جابر بن عبد اهلل، ً بتسويتها» ،ويف صحيحه
قال« :هنى رسول اهلل عن جتصي القرب ،وأن يقعد عليه ،وأن يبى
عليه» .ويف سنن أيب داود ،والرتمذي ،عن جابر « :أن رسول اهلل
-391-
هنى أن جتص القبور ،وأن يبى عليها ،ويكتب عليها» ،قال الرتمذي:
حديث حسن صحيح.
وعن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال« :لعن رسول اهلل زائرات القبور،
واملتخذين عليها املساجد والسرج» رواه اإلمام أمحد ،وأهل السنن.
فنهى رسول اهلل عن البناء عليها ،وأمر هبدمه بعدما يبى ،وهنى عن
الكتابة عليها ،ولعن من أسرجها ،فنحن نأمر مبا أمر به رسول اهلل من
تسويتها ،وننهى عن البناء عليها ،كما هنى عنه رسول اهلل ،فهو الذي افرتض
اهلل علينا طاعته واتباعه....
(منزلة الصحابة في التباع)
الوجه الثاي :أن يقال :إذا ل يقنع ول يطمئن قلبك مبا جاء عن رسول اهلل
،وقلت :العلماء أعلم منا بالسنة ،وأطو هلل ولرسوله .
فنقول أعلم الناس مبا أمر به رسول اهلل وما هنى عنه أصحابه ،فهم
أعلم الناس بسنته ،وأطوعهم ألمره ،وهم الذين رضي اهلل عنهم ورضوا عنه،
عمن اتبعهم بإحسان.ورضي َّ
ويف حديث العرباض بن سارية :عن رسول اهلل ،أنه قال« :عليكم
َتسكوا هبا وعضوا عليها
بسنيت ،وسنة اْللفاء الراشدين املهديني من بعديَّ ،
بالنواجذ ،وإياكم وحمدثات األمور ،فإن كل بدعة ضاللة».
ويف الصحيح عنه أنه قال« :خري القرون قري الذي بعثت فيه ،مث الذين
يلوهنم ،مث الذين يلوهنم».
فليسنت مبن قد مات،
َّ وقال عبد اهلل بن مسعود :من كان منكم مستنًا
فإن احلي ال تؤمن عليه الفتنة ،أولئك أصحاب حممد ،أبر هذه األمة قلوبًا،
تكلفا ،قوم اختارهم اهلل لصحبة نبيه ،وإقامة دينه،
علما ،وأقلها ً
وأعمقها ً
-391-
فاعرفوا هلم حقهم ،وَتسكوا هبديهم ،فإهنم كانوا على الصراط املستقيم.
القراء ،استقيموا وخذوا طريق من وقال حذيفة بن اليمان :يا معشر َّ
بعيدا ،ولئن أخذم ميينًا ومشاالً ،لقد ضللتم ضالالً
سبقا ً
قبلكم ،فواهلل لقد سبقتم ً
بعيدا.
ً
فإن احتج أحد علينا مبا عليه املتأخرون ،قلنا احلجة مبا عليه الصحابة
والتابعون الذين هم خري القرون ،ال مبا عليه اْللف ،الذين يقولون ما ال يفعلون،
ويفعلون ما ال يؤمرون ،فهؤالء أصحاب رسول اهلل ،هل نقل عنهم :أهنم
عقدوا القباب على القبور ،وأسرجوها وخلَّقوها وكسوها احلرير؟ أم هذا مما
حدث بعدهم من احملدثات ،اليت هي بد وضالالت.
ومعلوم :أن عندهم من قبور الصحابة ،الذين ماتوا يف حياة رسول اهلل
وبعد وفاته ما ال حيصى ،هل بنوا على قبورهم وعظَّموها ،ودعوا عندها،
َتسحوا هبا فضالً عن أن يسألوها حوائجهم؟ أو يسألوا اهلل بأصحاهبا؟
و َّ
فمن كان عنده يف هذا أثر صحيح أو حسن ،فلريشدنا إليه وليدلنا عليه،
()1
أىن له بذلك؟ فهذه سنة رسول اهلل يف القبور وسنة خلفائه الراشدين» . و َّ
* * *
* لقد توارثت طوائف املشركني على خمتلف العصور والدهور :شبهة
االحتجاج بفعل اآلباء للشرك ،الذين هم حمل الثقة لديهم ،وال جيتمعون -
بزعمهم -إالَّ على هدى ورشاد ،ولذا فلزم االتبا دون االبتدا .
آد َم ِمنك من بَِن َ
وصدق اهلل إذ يقول﴿ :وإِ ْذ أَخ َذ ربُّ َ ِ
َ َ َ
ت بَِربِّك ْم قَالواْ بَـلَى ِ ِ
ظهوِره ْم ذ ِّريـَّتَـه ْم َوأَ ْش َه َده ْم َعلَى أَنفس ِه ْم أَلَ ْس َ
ِِ ِ ِ
ني * َش ِه ْدنَا أَن تَـقولواْ يَـ ْوَم الْقيَ َامة إِنَّا كنَّا َع ْن َه َذا َغافل َ
أ َْو تَـقولواْ إَِّمنَا أَ ْشَرَك آبَاؤنَا ِمن قَـْبل َوكنَّا ذ ِّريَّةً ِّمن بَـ ْع ِد ِه ْم أَفَـتـ ْهلِكنَا ِمبَا فَـ َع َل
-325-
ات َولَ َعلَّه ْم يَـ ْرِجعو َن﴾ [األعراف- 942 : صل اآلي ِ
َ ك نـ َف ِّ ِ
الْمْب ِطلو َن * َوَك َذل َ
.]944
قال الشيخ صالح الفوزان رحمه اهلل تعالى في معرض إيراده لبعض شبه
المشركين والرد عليها:
إنه بسبب رواج الشبه واحلكايات ،اليت ضل هبا أكثر الناس ،وعدوها أدلة
يستندون إليها يف تربير ضاللتهم وشركهم ،استمرؤوا ما هم عليه ،فكان ال بد
ِ
ك َعن بَـيِّـنَة َوَْحي َىي َم ْن َح َّي َعن ك َم ْن َهلَ َ من كشف زيفها ،وبيان بطالهنا ﴿لِّيَـ ْهل َ
بَـيِّـنَة﴾ [األنفال .]42 :وهذه الشبهة منها :ما هو قدمي أدىل به املشركون من
األمم السابقة ،ومنها :ما أدىل به مشركو هذه األمة.
ومن هذه الشبه:
أولا :شبهة تكاد مشرتكة بني طوائف املشركني يف خمتلف األمم ،وهي شبهة
خلفا عن االحتجاج مبا كان عليها اآلباء واألجداد ،وأهنم ورثوا هذه العقيدة ً
ك ِيف قَـ ْريَة ِّمن نَّ ِذير إَِّال ِ
ك َما أ َْر َسْلنَا ِمن قَـْبل َ
ِ
سلف ،كما قال اهلل تعاىلَ ﴿ :وَك َذل َ
وها إِنَّا َو َج ْدنَا آبَاءنَا َعلَى أ َّمة َوإِنَّا َعلَى آثَا ِرِهم ُّم ْقتَدو َن﴾ [الزخرف: قَ َال مْتـَرف َ
.]23
وهذه حجة يلجأ إليها من يعجز عن إقامة الدليل على دعواه ،وهي حجة
داحضة ،ال يقام هلا وزن يف سوق املناظرة ،فإن هؤالء اآلباء الذين قلَّدوهم ليسوا
ردا
على هدى ،ومن كان كذلك ،ال جتوز متابعته واالقتداء به ،قال تعاىل َّ
دم َعلَْي ِه آبَاءك ْم﴾ [الزخرف،]24 : ِ ِ
عليهم﴿ :قَ َال أ ََولَْو جْئتكم بِأ َْه َدى ممَّا َو َج ُّْ
وقال تعاىل﴿ :أ ََولَْو َكا َن آبَاؤه ْم الَ يَـ ْعلَمو َن َشْيئًا َوالَ يَـ ْهتَدو َن﴾ [املائدة:
،]954وقال﴿ :أ ََولَْو َكا َن آبَاؤه ْم الَ يَـ ْع ِقلو َن َشْيئاً َوالَ يَـ ْهتَدو َن﴾ [البقرة:
.]945
حممودا إذا كانوا على حق ،كما قال تعاىل عن ً وإمنا يكون االقتداء باآلباء
وب َما يوسف ،أنه قال﴿ :واتَّـبـ ْعت ِملَّةَ آبآئِـي إِبْـر ِاه ِ
يم َوإ ْس َح َق َويَـ ْعق َ
َ َ َ َ َ
-329-
َّ ِ ِ ِِ
َكا َن لَنَا أَن نُّ ْش ِرَك بالليه من َش ْيء﴾ [يوسف ،]31 :وقال تعاىلَ ﴿ :والذ َ
ين
َحلَْقنَا هبِِ ْم ذ ِّريَّـتَـه ْم﴾ [الطور.]29 : َآمنوا َواتَّـبَـ َعْتـه ْم ذ ِّريَّـتـهم بِِإميَان أ ْ
وشبهة االحتجاج مبا كان عليه اآلباء الضالون متغلغلة يف نفوس املشركني،
يقابلون هبا دعوات األنبياء عليهم الصالة والسالم:
فقوم نوح ملا قال هلم نوح﴿ :يَا قَـ ْوِم ْاعبدوا اللَّهَ َما لَكم ِّم ْن إِلَه َغْيـره أَفَ َال
ين َك َفروا ِمن قَـ ْوِم ِه َما َه َذا إَِّال بَ َشر ِّمثْـلك ْم ي ِريد أَن َّ ِ
تَـتَّـقو َن * فَـ َق َال الْ َم َأل الذ َ
ِ ِ ِ ِ ِ
ني﴾ َنزَل َم َالئ َكةً َّما َمس ْعَنا هبَ َذا ِيف آبَائنَا ْاأل ََّول َ
َّل َعلَْيك ْم َولَْو َشاء اللَّه َأل َ يَـتَـ َفض َ
[املؤمنون.]24 ،23 :
فجعلوا ما عليه آباؤهم حجة يعارضون هبا ما جاءهم به نبيهم نوح .
وقوم صاحل يقولون له﴿ :أَتَـْنـ َهانَا أَن نـَّ ْعب َد َما يَـ ْعبد آبَاؤنَا﴾ [هود.]52 :
ك يَـ ْف َعلو َن﴾ [الشعراء: ِ
وقوم إبراهيم يقولون له﴿ :بَ ْل َو َج ْدنَا آبَاءنَا َك َذل َ
.]44
وىل﴾ [طه.]69 : ون ْاأل َوفرعون يقول ملوسى ﴿ :فَما بال الْقر ِ
َ َ
ومشركو العرب يقولون حملمد ملا قال هلم« :قولوا ال إله إالَّ اهلل» ،قالوا:
اختِالَق﴾ [ص. »]4 :
()1 ِِ ِ ِ ِ
﴿ َما َمس ْعنَا هبَ َذا ِيف الْملَّة ْاآلخَرةِ إِ ْن َه َذا إَِّال ْ
* * *
-322-
المبحث الثاني
الرد على أشهر شبهات علماء المشركين
وقرر بعض علماء املشركني بأن دعاء املوتى ،واالستغاثة هبم يف
لقد قطعَّ ،
الشدائد ،من أنوا الشرك العملي األصغر ،الذي ال يكفر به صاحبه إالَّ أن
يستحلَّه ،هذا من حيث الفعل والقول ،وأما بالنظر إليه من حيث االعتقاد ،فهو
كالطرية اليت هي من الشرك األصغر بغري خالف.
قال اإلمام العالمة الشيخ حمد بن ناصر رحمه اهلل تعالى في التصدي
لبيان هذا الفتراء العظيم:
فيقال ملن أنكر أن يكون دعاء املوتى ،واالستغاثة هبم يف الشدائد شرًكا
أكرب :أخربنا عن هذا الشرك الذي عظمه اهلل ،وأخرب أنه ال يغفره أتظن أن اهلل
حيرمه هذا التحرمي ،وال يبينه لنا؟ ومعلوم أن اهلل سبحانه نزل كتابه تبيانًا لكل
شيء ،وهدى ورمحة وبشرى للمسلمني.
وضوحا في كتاب اهلل تعالى)
ا (الشرك وبيان حرمته من أعظم األمور
وقد أخرب يف كتابه :أنه أكمل لنا الدين ،وأم علينا النعمة ،ورضي لنا
اإلسالم دينًا ،فكيف جيوز أن يرتك بيان الشرك الذي هو أعظم ذنب عصي اهلل
به سبحانه؟! فإذا أصغى اإلنسان إىل كتاب اهلل وتدبره ،وجد فيه اهلدى
ضلِ ِل الليه فَ َما لَه ِم ْن َهاد﴾ [الرعدَ ﴿ ،]33 :وَمن َّلْ َْجي َع ِل
والشفاء ﴿ َوَمن ي ْ
اللَّه لَه ن ًورا فَ َما لَه ِمن نُّور﴾ [النور.]45 :
يضا :قد أمرنا اهلل سبحانه بدعائه وسؤاله ،وأخرب أنه جييب دعوة وقال أ ً
وطمعا ،فإذا مسع اإلنسان قوله تعاىل:
الدا إذا دعاه ،وأمرنا أن ندعوه خوفًا ً
-323-
ب لَك ْم﴾ [غافر ،]55 :وقولهْ ﴿ :ادعواْ َربَّك ْم ﴿وقَ َال ربُّكم ادع ِوي أ ِ
َستَج ْ
ْ ْ َ َ
ضُّر ًعا َوخ ْفيَةً﴾ [األعراف ،]66 :وأطا اهلل ودعاه ،وأنزل به حاجته ،وسأله تَ َ
تضرعا وخفية ،فمعلوم أن هذا عبادة ،فيقال :فإن دعا يف تلك احلاجة نبيًا ،أو ً
عبدا صاحلًا ،هل أشرك يف هذه العبادة؟ فال بد أن يقر بذلك إالَّ أن مل ًكا ،أو ً
يكابر ويعاند.
ك َو ْاحنَْر﴾ [الكوثر ،]2 :وأطعت اهلل، ويقال أيضا :إذا قال اهلل﴿ :فَ ِ
ص ِّل لَربِّ َ
َ ً
وحنرت له ،هل هذا عبادة؟ فال بد أن يقول :نعم ،فيقال له :فإذا ذحبت ملخلوق
نيب أو ملك أو غريمها ،هل أشركت يف هذه العبادة؟ فال بد أن يقول :نعم إالَّ
أن يكابر ويعاند ،وكذلك السجود عبادة ،فلو سجد لغري اهلل لكان شرًكا.
ومعلوم :أن اهلل سبحانه وتعاىل ،ذكر يف كتابه النهي عن دعاء غريه،
وتكاثرت نصوص القرآن على النهي عن ذلك ،أعظم مما ورد يف النهي عن
السجود لغري اهلل.
فإذا كان من سجد لقرب نيب ،أو ملك أو عبد صاحل ،ال يشك أحد يف
كفره ،وكذلك لو ذبح له القربان ،ل يشك أحد يف كفره ،ألنه أشرك يف عبادة
اهلل غريه ،فيقال :السجود عبادة ،وذبح القربان عبادة ،والدعاء عبادة ،فما
الفارق بني السجود والذبح ،وبني الدعاء إذ الكل عبادة ،والدعاء عبادة؟ وما
الدليل على أن السجود لغري اهلل والذبح لغري اهلل شرك أكرب ،وما الدعاء مبا ال
يقدر عليه إالَّ اهلل شرك أصغر؟
أيضا :قد ذكر أهل العلم من أهل كل مذهب ،باب حكم املرتد، ويقال ً
اعا كثرية ،كل نو منها يكفر به الرجل ،وحيل دمه وماله ،ول يرد وذكروا فيه أنو ً
نوعا من أنوا الكفر والردة ورد فيه يف واحد منها ما ورد يف الدعاء ،بل ال نعلم ً
من النصوص مثل ما ورد يف دعاء غري اهلل ،بالنهي عنه والتحذير من فعله،
والوعيد عليه....
-324-
(األدلة على كفر من دعا غير اهلل)
وأما كالم العلماء :فنشري إيل قليل من كثري ،ونذكر كالم من حكى
اإلمجا على ذلك ،قال يف اإلقنا وشرحه :من جعل بينه وبني اهلل وسائط
إمجاعا ،ألن هذا كفعل عابدي ً يدعوهم ،ويتوكل عليهم ،ويسأهلم ،كفر
األصنام ،قائلنيَ ﴿ :ما نَـ ْعبده ْم إَِّال لِيـ َقِّربونَا إِ َىل اللَّ ِه زلْ َفى﴾ [الزمر .]3 :انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين رمحه اهلل :وقد سئل عن رجلني تناظراـ فقال أحدمها:
ال بد لنا من واسطة بيننا وبني اهلل ،فإنا ال نقدر أن نصل إليه إالَّ بذلك.
(يجوز إثبات الواسطة بين الخالق والمخلوق باعتبار ول يجوز باعتبار آخر)
فأجاب بقوله :إن أراد بذلك أنه ال بد من واسطة تبلغنا أمر اهلل ،فهذا حق.
فإن اْللق ال يعلمون ما حيبه اهلل ويرضاه ،وما أمر به وما هنى عنه إالَّ
بالرسل ،الذين أرسلهم اهلل إىل عباده ،وهذا مما أمجع عليه أهل امللل من
املسلمني واليهود والنصارى ،فإهنم يثبتون الوسائط بني اهلل وبني عباده ،وهم
صطَِفي ِم َن الرسل الذين بلغوا عن اهلل أوامره ونواهيه ،قال اهلل تعاىل﴿ :اللَّه يَ ْ
َّاس﴾ [احلج ،]46 :ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر الْ َم َالئِ َك ِة رس ًال َوِم َن الن ِ
بإمجا أهل امللل.
وإن أراد بالواسطة :أنه ال بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبني اهلل ،يف
جلب املنافع ودفع املضار ،مثل أن يكون واسطة يف رزق العباد ،ونصرهم
وهداهم ،يسألونه ذلك ،ويرجعون إليه ،فهذا من أعظم الشرك الذي كفر اهلل به
املشركني ،حيث اختذوا من دون اهلل أولياء وشفعاء ،جيتلبون هبم املنافع ،ويدفعون
هبم املضار ،لكون الشفاعة ل يأذن اهلل له فيها....
ني أ َْربَابًا أَيَأْمركم بِالْك ْف ِر بَـ ْع َد ِ ِ
قال تعاىلَ﴿ :والَ يَأْمَرك ْم أَن تَـتَّخذواْ الْ َمالَئ َكةَ َوالنِّبِِّيـ ْ َ
إِ ْذ أَنتم ُّم ْسلِمو َن﴾ [آل عمران ،]15 :فبني اهلل سبحانه وتعاىل أن اختاذ
-326-
املالئكة والنبيني أربابًا كفر ،فمن جعل املالئكة واألنبياء وسائط ،يدعوهم
ويتوكل عليهم ،ويسأهلم جلب املنافع ودفع املضار ،مثل أن يسأهلم غفران
الذنوب ،وهداية القلوب ،وتفريج الكربات ،وسد الفاقات ،فهو كافر بإمجا
املسلمني....
كاحلجاب الذين بني امللكَّ فمن أثبت الوسائط :بني اهلل وبني خلقه،
ورعيته ،حبيث يكونون هم يرفعون إىل اهلل حوائج خلقه ،وأن اهلل تعاىل إمنا يهدي
عباده ويرزقهم بتوسطهم ،مبعى :أن اْللق يسألوهنم ،وهم يسألون اهلل ،كما أن
الوسائط عند امللوك ،يسألون امللوك حوائج الناس بقرهبم منهم ،والناس يسألون
أدبًا منهم أن يباشروا سؤال امللك ،أو ألن طلبهم من الوسائط أنفع هلم من
طلبهم من امللك ،لكوهنم أقرب إىل امللك من الطلب.
فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه ،فهو كافر مشرك ،جيب أن يستتاب،
فإن تاب وإالَّ قتل ،وهؤالء مشبِّهون شبَّهوا اْلالق باملخلوق ،وجعلوا هلل ً
أندادا،
ويف القرآن من الرد على هؤالء ،ما ال تتسع له هذه الفتوى....
وأما قوله الثاي :إن نظر فيه من حيثية القول ،فهو كاحللف بغري اهلل ،وقد
ورد أنه شرك وكفر ،مث َّأولوه باألصغر ،وإن نظر فيه من حيثية االعتقاد ،فهو
كالطرية وهي من األصغر.
فنقول :هذا كالم باطل ،وليس خيفى ما بينهما من الفرق ،فأي مشاهبة بني
أحدا من خلقه ،وأنزل حاجاته كلها باهلل،وحد اهلل وعبده ،ول يشرك معه ً من َّ
واستغاث به يف تفريج كرباته ،وإغاثة هلفاته ،لكنه حلف بغري اهلل ميينًا جمردة ل
يقصد هبا تعظيمه على ربه ،ول يسأله ول يستغث به ،وبني من
-325-
استغاث بغري اهلل ،وسأله جلب الفوائد وكشف الشدائد؟!
فإن هذا صرف مخ العبادة ،الذي هو لبها وخالصها لغري اهلل ،وأشرك مع
أجل العبادات وأفضل القربات اليت أمرنا اهلل هبا يف غري موضع من
اهلل غريه يف ِّ
كتابه ،وأخرب النيب أنه هو العبادة ،كما تقدم يف حديث النعمان بن بشري
«أن الدعاء هو العبادة» ،ويف حديث أنس «الدعاء مخ العبادة» ،وأخرب النيب
:أن اهلل حيب ِّ
امللحني فيه ،وأن من ل يسأل اهلل يغضب عليه.
ففي الرتمذي عن ابن مسعود عن النيب « :سلوا اهلل من فضله ،فإن اهلل
أيضا:
امللحني يف الدعاء» .وفيه ً
أيضا« :إن اهلل حيب ِّحيب أن يسأل» .وفيه ً
«من ل يسأل اهلل يغضب عليه» .ويف الرتمذي وابن ماجه ،عن أيب هريرة
قال :قال رسول اهلل « :ليس شيء أكرم على اهلل من الدعاء».
اح َفظواْ أ َْميَانَك ْم﴾
وأما احللف :فلم يأمرنا اهلل به ،بل أمرنا حبفظه ،فقالَ ﴿ :و ْ
[املائدة ،]11 :قيل املعى :ال حتلفوا ،وقيل :ال حتنثوا ،وال يرد على هذا ما روي
عن النيب أنه حلف يف مواضع ،فاليمني تستحب إذا كان فيها مصلحة
راجحة ،وعلى هذا محل العلماء ما روي يف ذلك عن النيب ،فهو حيلف
ملصاحل مطلوبة لألمة ،كزيادة إمياهنم ،وطمأنينة قلوهبم ،كما أمره اهلل بذلك يف
مشروعا ،بل يباح إذا ً ثالثة مواضع من كتابه ،وأما احللف لغري مصلحة فليس
كان صادقًا.
وأما الدعاء :فهو حمبوب مشرو هلل ،بل مسَّاه اهلل يف كتابه :الدين ،وأمر
()1
بإخالصه له ،ومسَّاه رسوله العبادة ،ومخ العبادة ،فكيف يقال :هو احللف
؟
-324-
فمن صرف الدعاء لغري اهلل ،فقد أشرك يف الدين الذي أمر اهلل بإخالصه،
ويف العبادة اليت أمر اهلل هبا.
أيضا :فإن الداعي راغب راهب ،فالعبد يدعو ربه رغبًا ورهبًا ،ويتوكل عليه و ً
يف حصول مطلوبه ،ودفع مرهوبه ،فإذا طلب فوائده ،وكشف شدائده من غري
اهلل ،فقد أشرك مع اهلل يف الرغبة والرهبة ،والرجاء والتوكل ،فإن هذا من لوازم
ب﴾ الدعاء ،وهو من العبادة اليت أمر اهلل هبا ،كقوله تعاىلَ ﴿ :وإِ َىل َربِّ َ
ك فَ ْار َغ ْ
ون﴾ [النحل ،]69 :وقالَ ﴿ :و َعلَى [الشرح ،]1 :وقوله تعاىل﴿ :فَإيَّاي فَارهب ِ
َ َْ
ِِ ِ
ني﴾ [املائدة....]23 : الليه فَـتَـ َوَّكلواْ إِن كنتم ُّم ْؤمن َ
يما من الحلف بغير اهلل) (الشرك أسبق تحر ا
أيضا :من املعلوم باالضطرار من دين اإلسالم ،أن اهلل تعاىل بعث ويقال ً
حممدا يدعو إىل التوحيد ،وينهى عن اإلشراك ،فكان أول آية أرسله اهلل هبا ً
ِ
الر ْجَز فَ ْاهج ْر﴾
ك فَطَ ِّه ْر * َو ُّ ك فَ َكبِّـ ْر * َوثِيَابَ َ
﴿يَا أَيُّـ َها الْم َّدثـِّر * ق ْم فَأَنذ ْر * َوَربَّ َ
[املدثر.]6 - 9 :
كرب اهلل ،وعظمه بالتوحيد. فأنذر عن الشرك ،وهجر األوثان ،و َّ
فاستجاب له من استجاب من املسلمني ،وصربوا على األذى من قومهم،
وقاسوا الشدائد العظيمة ،فهاجروا وأخرجوا من ديارهم ،وأوذوا يف اهلل ،وَتيز
الكافر من املسلم .ومات من املسلمني من استوجب اجلنة ،ومات من الكفار
من استوجب النار ،هذا كله قبل النهي عن احللف بغري اهلل.
فاالستغاثة بأهل القبور ،واستنجادهم واستنصارهم ،ل يبح يف شرائع الرسل
كلهم ،بل بعث اهلل مجيع رسله بالنهي عن ذلك ،واألمر بعبادته وحده ال شريك
له.
وأما احللف :فكان الصحابة حيلفون بآبائهم ،وحيلفون بالكعبة وغري ذلك،
ول ينهوا عن ذلك إالَّ بعد مدة طويلة ،فقال هلم النيب « :إن اهلل تعاىل ينهاكم
حالفا فليحلف باهلل أو ليصمت». أن حتلفوا بآبائكم» ،وقال« :من كان ً
-321-
ومن ال مييز بني دعاء امليت واحللف به ،ال يعرف الشرك الذي بعث اهلل
حممدا ،ينهى عنه ،ويقاتل أهله.
ً
وأي جامع بني احللف واالستغاثة؟ فاملستغيث طالب سائل ،واحلالف ل
يطلب ول يسأل ،فإن كان اجلامع بينهما عند القائل باحتادمها :أن كالً منهما
قول باللسان.
فيقال له :واإلنكار والدعوات ،وقول الزور وقذف احملصنات ،كل ذلك قول
باللسان ،ولو قال أحد :إهنا ألفاظ متقاربة لع َّد من اجملانني.
وإن أراد هذا القائل احتادمها يف املعى ،فهذا باطل كما تقدَّم بيانه ،وأي
مشاهبة بني من جعل هلل ندا من خلقه ،يدعوه ويرجوه ،ويستنصره ويستغيث به،
وبني من ال يدعو إالَّ اهلل وحده ال شريك له ،وأخل له يف عبادته؟
فاألول :أشرك مع اهلل يف قوله وفعله واعتقاده ،خبالف احلالف ،بل لو اعتقد
احلالف تعظيم املخلوق على اْلالق ،لصار مشرًكا شرًكا أكرب كما تقدم....
(الرد على من سوى بين دعاء غير اهلل ،والطيرة في الحكم)
وأما قوله :وإن نظر فيه من جهة االعتقاد ،فهو كالطرية ،فهذا كالم باطل
أيضا ،يظهر بطالنه مما تقدم ،فيقال :وأين اجلامع بني شرك من جعل بينه وبني
ً
اهلل واسطة يدعوه ويسأله قضاء حاجاته ،وكشف كرباته ،ويقول :هذا وسيليت
إىل اهلل ،وباب حاجيت إليه ،وبني من عبد اهلل وحده ال شريك له ،ودعاه خوفًا
وتربأ من عبادة كل معبود سواه
وطمعا ،وأنزل به حاجاته كلهاَّ ،
ً
-321-
ولكن وقع يف قلبه شيء من الطرية؟ فاألول :هو دين أيب جهل وأصحابه،
()1
وهو دين أعداء الرسل ،من لدن نوح إىل يومنا هذا» .
* * *
أصلوا هلم :أن
* لقد قرر كثري من أساطني الشرك ألتباعهم ومريديهم ،و َّ
أدل على ذلك من أن زبدة الرسالة تتمثل يف جمرد التلفظ بكلمة التوحيد ،وال ي
النيب ل يطالب قومه بتحقيق معناها ،بل وعلى ذلك الدرب سار صحابته
مبجرد النطق دون العلم
الكرام يف فتوحاهتم لبالد العجم ،فقد قنعوا منهم َّ
والعمل ،هكذا زعموا!!!
وذب
ومن مث فمن وقع يف حقيقة الكفر ،وصريح الشرك ،وواىل أصحابهَّ ،
مسلما معصوم الدم واملال ،وذلك لعدم مساسه حبقوق ً عنهم ...فما زال
جمرد التلفظ هبا!!! الشهادتني ،اليت ال حق هلا إالَّ َّ
ت َكلِ َمةً َختْرج ِم ْن أَفْـ َو ِاه ِه ْم إِن يَـقولو َن إَِّال َك ِذبًا﴾ [الكهف.]6 :
﴿ َكبـَر ْ
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كشف هذه الشبهة الخبيثة:
()2
«لكن :العجب العجاب ،استدالله :أن رسول اهلل دعا الناس إىل
قول :ال إله إالَّ اهلل ،ول يطالبهم مبعناها ،وكذلك أصحاب رسول اهلل فتحوا
بالد األعاجم ،وقنعوا منهم بلفظها ،إىل آخر كالمه ،فهل يقول هذا الكالم من
يتصور ما يقول؟!
فنقول ،أوالً :هو الذي نقض كالمه ،وكذبه ،بقوله :دعاهم إىل ترك عبادة
األوثان ،فإذا كان ل يقنع منهم إالَّ برتك عبادة األوثان ،تبني أن النطق هبا ال
ينفع ،إالَّ بالعمل مبقتضاها ،وهو :ترك الشرك ،وهذا هو املطلوب،
-335-
وحنن إمنا هنينا عن األوثان ،اجملعولة على قرب الزبري وطلحة وغريمها ،يف الشام
وغريه.
فإن قلتم :ليس هذا من األوثان ،وإن دعاء أهل القبور ،واالستغاثة هبم يف
الشدائد ،ليست من الشرك ،مع كون املشركني الذين يف عهد رسول اهلل ،
خيلصون هلل يف الشدائد ،وال يدعون أوثاهنم ،فهذا :كفر ،وبيننا وبينكم :كالم
العلماء ،من األولني ،واآلخرين ،احلنابلة وغريهم.
وتبني أن قول :ال إله إالَّ اهلل ،ال ينفع إالَّ
وإن أقررم :أن ذلك كفر ،وشركَّ ،
مع ترك الشرك ،فهذا هو املطلوب ،وهو الذي نقول ،وهو الذي أكثرم النكري
فيه ،وزعمتم أنه ال خيرج إالَّ من خراسان ،وهذا القول ،كما يف أمثال العامة :ال
وجه مسح ،وال بنت رجال ،ال أقول صواب ،بل خطأ ظاهر ،وسب لدين اهلل
بعضا ،ال يصدر إالَّ ممن هو أجهل الناس. أيضا :متناقض ،يكذب بعضه ً
وهو ً
وأما دعواه :أن الصحابة ل يطلبوا من األعاجم ،إالَّ جمرد هذه الكلمة ،ول
يعرفوهم مبعناها ،فهذا قول من ال يفرق بني دين املرسلني ،ودين املنافقني ،الذين
هم يف الدرك األسفل من النار ،فإن املؤمنني يقولوهنا ،واملنافقني يقولوهنا ،لكن
املؤمنني يقولوهنا ،مع معرفة قلوهبم مبعناها ،وعمل جوارحهم مبقتضاها ،واملنافقون
يقولوهنا من غري فهم ملعناها ،وال عمل مبقتضاها ،فمن أعظم املصائب ،وأكرب
()1
اجلهل من ال يعرف الفرق ،بني الصحابة واملنافقني» .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن -رحمهما اهلل تعالى:-
«وجمرد التلفظ مـن غري التزام ملا دلت عليه كلمة الشهادة ،ال جيدي
-339-
شيئًا ،واملنافقون يقولوهنا ،وهم يف الدرك األسفل من النار ،نعم إذا قاهلا
املشرك ول يتبني منه ما خيالفها ،فهو ممن يكف عنه مبجرد القول ،وحيكم
بإسالمه.
وأما إذا تبني منه وتكرر ،عدم التزام ما دلت عليه ،من اإلميان باهلل
وتوحيده ،والكفر مبا يعبد من دونه ،فهذا ال حيكم له باإلسالم ،وال كرامة له،
()1
ونصوص الكتاب والسنة ،وإمجا األمة يدل على هذا» .
* * *
وقرر بعضهم أن الشرك إذا وقع مع اْلطأ والتأويل فهو مغفور لصاحبه، * َّ
األخوة اإلميانية ،لعدم إخالله حبقوقها: وجيب على املسلمني أن ينظموه يف سبيل َّ
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى:
مث إن اجلاهل املرتاب ،قال يف أوراقه قوالً ،قد تقدم اجلواب عنه ،وال بد من
اإلميَ ِ
ين َسبَـقونَا بِ ِْ ِ َّ ِ ِ
ان﴾ ذكره ،قال :فإذا قال املسلمَ ﴿ :ربَّـنَا ا ْغف ْر لَنَا َوِِإل ْخ َوانَنا الذ َ
[احلشر.]95 :
يقصد من سبقه من قرون األمة باإلميان ،وإن كان قد أخطأ يف تأويل
كفرا ،أو فعله ،وهو ال يعلم أنه يضاد الشهادتني ،فإنه من إخوانه تأوله ،أو قال ًَّ
الذين سبقوه باإلميان.
فأقول :انظر إىل هذا التهافت والتخليط ،والتناقض ،وال ريب أن الكفر
ينايف اإلميان ،ويبطله ،وحيبط األعمال بالكتاب ،والسنة ،وإمجا املسلمني ،قال
اآلخرةِ ِمن ْ ِ ِ ِ ان فَـ َق ْد َحبِ َ اهلل تعاىل﴿ :ومن يكْفر بِا ِإلميَ ِ
ين﴾اْلَاس ِر َ ط َع َمله َوه َو يف َ َ ََ َ ْ
[املائدة.]6 :
-332-
ويقال :وكل كافر قد أخطأ ،واملشركون ال بد هلم من تأويالت ،ويعتقدون
أن شركهم بالصاحلني ،تعظيم هلم ،ينفعهم ويدفع عنهم ،فلم يعذروا بذلك
ين َّاختَذوا ِمن دونِِه أ َْولِيَاء َما َّ ِ
اْلطأ ،وال بذلك التأويل ،بل قال اهلل تعاىلَ ﴿ :والذ َ
نَـ ْعبده ْم إَِّال لِيـ َقِّربونَا إِ َىل اللَّ ِه زلْ َفى إِ َّن اللَّهَ َْحيكم بَـْيـنَـه ْم ِيف َما ه ْم فِ ِيه َخيْتَلِفو َن إِ َّن
اللَّهَ َال يَـ ْه ِدي َم ْن ه َو َك ِاذب َكفَّار﴾ [الزمر.]3 :
ون اللي ِه َوَْحي َسبو َن أَنـَّهم اطني أَولِياء ِمن د ِ ِ َّ ِ
وقال تعاىل﴿ :إنـَّهم اختَذوا الشَّيَ َ ْ َ
َخ َس ِر َ
ين أ َْع َماًال ُّم ْهتَدو َن﴾ [األعراف ،]35 :وقال تعاىل﴿ :ق ْل َه ْل نـنَبِّئك ْم بِ ْاأل ْ
احلَيَاةِ ُّ َّ ِ
ك الدنْـيَا َوه ْم َْحي َسبو َن أَنـَّه ْم ْحي ِسنو َن صْنـ ًعا * أولَئِ َ ض َّل َس ْعيـه ْم ِيف ْ ين َ * الذ َ
ت أ َْع َماهل ْم فَ َال ن ِقيم َهل ْم يَـ ْوَم الْ ِقيَ َام ِة َوْزنًا﴾ ِ ِ ِ ِِ َّ ِ
ين َك َفروا بِآيَات َرِّهب ْم َول َقائه فَ َحبِطَ ْ الذ َ
[الكهف.]956 – 953 :
فأين ذهب عقل هذا عن هذه اآليات ،وأمثاهلا من اآليات احملكمات؟!،
والعلماء رمحهم اهلل تعاىل سلكوا منهج االستقامة ،وذكروا باب حكم املرتد ،ول
كفرا ،وهو ال يعلم أنه يضاد كفرا ،أو فعل ً يقل أحد منهم :أنه إذا قال ً
الشهادتني ،أنه ال يكفر جلهله.
وقد َّبني اهلل يف كتابه :أن بعض املشركني جهال مقلِّدون فلم يدفع عنهم
َّاس َمن جيَ ِادل ِيف اللَّ ِه عقاب اهلل جبهلهم وتقليدهم ،كما قال تعاىلَ ﴿ :وِم َن الن ِ
اببِغَ ِْري ِعْلم ويـتَّبِع ك َّل َشْيطَان َّم ِريد﴾ [احلج ،]3 :إىل قوله﴿ :إِ َىل َع َذ ِ
ََ
السعِ ِري﴾ [احلج.]4 : َّ
َّاس َمن جيَ ِادل مث ذكر الصنف الثاي :وهم املبتدعون ،بقوله تعاىلَ ﴿ :وِم َن الن ِ
ِيف اللَّ ِه بِغَ ِْري ِعْلم َوَال ه ًدى َوَال كِتَاب ُّمنِري﴾ [احلج ،]1 :فسلبهم العلم واهلدى،
اغرت هبم األكثرون ،ملا عندهم من الشبهات واْلياالت ،فضلُّوا ومع ذلك فقد َّ
وأضلوا ،كما قال تعاىل يف آخر السورةَ ﴿ :ويَـ ْعبدو َن ِمن
-333-
ني ِمن ِ ِِ ِ ِ ِِ ِ َّ ِ
س َهلم بِه عْلم َوَما للظَّالم َ
دون الله َما َلْ يـنَـِّزْل به سْلطَانًا َوَما لَْي َ
صري﴾ [احلج ،]49 :وتقرير هذا املقام ،قد سلف يف كالم العالمة ابن القيم، نَّ ِ
()1
وكالم شيخ اإلسالم» .
ولقد نص أعضاء لجنة الفتوى الدائمة على أن:
«املخطئ املعذور :من أخطأ يف املسائل النظرية االجتهادية ،ال من أخطأ
فيما ثبت بن صريح ،وال فيما هو معلوم من الدين بالضرورة.
وباهلل التوفيق ،وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم.
اللجنة العلمية للبحوث العلمية واإلفتاء
الرئيس نائب رئيس اللجنة
()2
عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز» عبد الرزاق عفيفي
* * *
* وعلَّل بعض علماء املشركني باستحالة وقو الشرك -ال سيما بني أهل
اجلزيرة العربية -بقول النيب « :إن الشيطان قد يئس أن يعبده املصلون يف
جزيرة العرب».
قال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين رمحه اهلل تعاىل يف بيان هذا
االشتباه -يف أثناء تصديه لبعض اجملادلني عن املشركني:-
وأما قوله « :إن الشيطان قد يئس أن يعبده املصلون يف جزيرة العرب»
فقد حيتج هبذا احلديث من زعم أن هذه األمور الشركية اليت تفعل عند القبور،
ومع اجلن مثل سؤاهلم قضاء احلاجات ،وتفريج الكربات ،واالستعاذة هبم،
والتقرب إليهم بالذبح هلم والنذر هلم ،وغري ذلك من أنوا
-334-
العبادة ،ليست عبادة هلم وال شرًكا.
فيقال أوالًك إن النيب نسب اإلياس إىل الشيطان ،ول يقل :إن اهلل آيسه،
فاإلياس الصائر من الشيطان ال يلزم حتقيقه واستمراره ،ولكن عدو اهلل ملا رأى ما
ساءه من ظهور اإلسالم يف جزيرة العرب وعلوه ،يئس من ترك املسلمني دينهم
الذي أكرمهم اهلل به ،ورجوعهم إىل الشرك األكرب ،وهذا كما أخرب اهلل سبحانه
ين َك َفرواْ ِمن ِدينِك ْم﴾ [املائدة.]3 : عن الكفار ،يف قوله﴿ :الْيـوم يئِ َّ ِ
س الذ َ ََْ َ َ
قال املفسرون :ملا رأى الكفار ظهور اإلسالم يف أرض العرب وَتكنه فيها،
يئسوا من رجو املسلمني عن اإلسالم إىل الكفر ،قال ابن عباس وغريه من
املفسرين :يئسوا أن ا دينهم ،قال ابن كثري :وعلى هذا يرد احلديث الثابت يف
الصحيح أن رسول اهلل قال« :إن الشيطان قد يئس أن يعبده املصلون يف
جزيرة العرب ،ولكن يف التحريش بينهم» ،يعى :أن إياس الشيطان مثل إياس
الكفار ،وأن الكل يئس من ارتداد املسلمني وتركهم دينهم ،وال يلزم من ذلك
امتنا وجود الكفر يف أرض العرب.
(األدلة على وقوع الكفر في جزيرة العرب)
وهلذا قال ابن رجب على احلديث :يئس أن جتتمع األمة على الشرك
األكرب ،يوضح ذلك ما حصل من ارتداد أكثر أهل اجلزيرة بعد موت النيب ،
وقتال الصديق والصحابة هلم على اختالف تنوعهم يف الردة ،قال أبو هريرة :ملا
مات النيب وكفر من كفر من العرب ،وردة بن حنيفة مشهورة.
وقول النيب « :إن الشيطان قد يئس أن يعبده املصلون» ،معناه :أنه يئس
أن يطيعه املصلون يف الكفر جبميع أنواعه ،ألن طاعته يف ذلك هي
آد َم أَن َّال تَـ ْعبدوا الشَّْيطَا َن إِنَّه لَك ْم َعدو
عبادته ،قال تعاىل﴿ :أَ َلْ أ َْع َه ْد إِلَْيك ْم يَا بَِن َ
-336-
ُّمبِني﴾ [يس.]55 :
ومن استدل باحلديث على امتنا وجود كفر يف جزيرة العرب ،فهو ضال
مضل ،فماذا يقول هذا الضال يف الذين قاتلهم الصديق والصحابة من
كفارا؟! فالزم دعوى هذا الضال :أنه ل يكفر أحد منالعرب ،ومسُّوهم :مرتدين ً
العرب بعد موته ،وأن الصحابة أخطؤوا يف قتاهلم ،واحلكم عليهم بالردة.
وقد ثبت يف احلديث الصحيح ،عن النيب أنه قال« :ال تقوم الساعة حىت
تعبد الالت والعزى» ومكاهنما معلوم ،وقال « :ال تقوم الساعة حىت تضطرب
أليات نساء دوس عند ذي اْللصة» وهو صنم لدوس رهط أيب هريرة ،بعث
رسول اهلل جرير بن عبد اهلل البجلي وهدمه ،ويف احلديث الصحيح من خرب
الدجال :أنه ال يدخل املدينة ،بل ينزل بالسبخة ،فرتجف املدينة ثالث رجفات،
()1
كفارا ومنافقني» .
فيخرج منها كل كافر ومنافق ،فأخرب أن يف املدينة إذ ذاك ً
* * *
يدا هبما
آخرا ،ن مجهورهم على أن من نطق بالشهادتني ،مر ًأخريا ال ً
*و ً
اإلسالم .قد جيوز تكفريه حبال:
ورد على الشيخ عبد اهلل بن حممد بن عبد الوهاب -رمحهم اهلل تعاىل -
سؤال جاء فيه :ما حكم من يقول :إن من تكلم بالشهادتني ل جيز تكفريه؟
فأجاب رمحه اهلل بقوله« :وأما قول ،من يقول :إن من تكلَّم بالشهادتني ما
جيوز تكفريه ،وقائل هذا القول ال بد أن يتناقض ،وال ميكنه طرد قوله يف
-335-
مثل :من أنكر البعث ،أو شك فيه مع إتيانه بالشهادتني ،أو أنكر نبوة
أحد من األنبياء الذين مساهم اهلل يف كتابه ،أو قال :الزنا حالل ،أو حنو ذلك،
فال أظن يتوقف يف كفر هؤالء وأمثاهلم ،إالَّ من يكابر ويعاند.
فإن كابر وعاند وقال :ال يضر شيء من ذلك ،وال يكفر به من أتى
بالشهادتني وصلَّى وصام ،ال جيوز تكفريه ،وإن عبد غري اهلل فهو كافر ،ومن
شك يف كفره فهو كافر ،ألن قائل هذا القول مكذب هلل ورسوله وإمجا
املسلمني كما قدمنا ،ونصوص الكتاب والسنة يف ذلك كثرية ،مع اإلمجا
القطعي ،الذي ال يسرتيب فيه من له أدىن نظر يف كالم العلماء ،لكن التقليد
واهلوى يعمي ويصم ﴿ َوَمن َّلْ َْجي َع ِل اللَّه لَه ن ًورا فَ َما لَه ِمن نُّور﴾
()1
[النور. »]45 :
-334-
-331-
الفصل السابع
األدلة الجلية من الشريعة الربانية
على كفر من عبد غير اهلل تعالى
وفيه مبحثان:
املبحث األول :داللة الكتاب والسنة واإلمجا ،بفهم األئمة العلماء ،على
كفر من عبد غري اهلل ،وإن صلَّى وصام ،وزعم أنه مسلم
حرام الدم واملال.
املبحث الثاي :فعل اإلنسان يف الظاهر دليل على عقيدته يف الباطن ،ومن
مثي كانت األقوال واألعمال واألفعال دالئل منضبطة على
وجود الكفر واإلميان ،وهبا تتكيَّف األحكام سلبًا وإجيابًا.
-331-
-345-
المبحث األول
دللة الكتاب ،والسنة ،واإلجماع ،بفهم األئمة العلماء،
على كفر من عبد غير اهلل ،وإن صلى وصام،
وزعم أنه مسلم حرام الدم والمال
قال الشيخ سليمان بن عبد اهلل رحمهما اهلل تعالى:
«فاعلم أن العلماء أمجعوا :على أن من صرف شيئًا من نوعي الدعاء لغري
اهلل ،فهو مشرك ،ولو قال :ال إله إالَّ اهلل حممد رسول اهلل ،وصلى ،وصام ،إذ
شرط اإلسالم مع التلفظ بالشهادتني أن ال يعبد إالَّ اهلل ،فمن أتى بالشهادتني
وعبد غري اهلل فما أتى هبما حقيقة ،وإن تلفظ هبما كاليهود الذين يقولون :ال
إله إالَّ اهلل وهم مشركون ،وجمرد التلفظ هبما ال يكفي يف اإلسالم بدون العمل
إمجاعا.
مبعنامها واعتقاده ً
ذكر شيء من كالم العلماء يف ذلك ،وإن كنا غنيني بكتاب ربنا وسنة
نبينا عن كل كالم ،إالَّ أنه قد صار بعض أناس منتسبًا إىل طائفة معينة ،فلو
أتيته بكل آية من كتاب اهلل وكل سنة عن رسول اهلل ل يقبل حىت تأتيه
بشيء من كالم العلماء ،أو بشيء من كالم طائفته اليت ينتسب إليها.
قال اإلمام أبو الوفاء علي بن عقيل احلنبلي صاحب كتاب «الفنون» الذي
ألَّفه يف حنو أربعمائة جملد ،وغريه من التصانيف .قال يف الكتاب املذكور :ملا
اجلهال والطغام ،عدلوا عن أوضا الشر إىل تعظيم صعبت التكاليف على َّ
أوضا وضعوها ألنفسهم ،فسهلت عليهم إذ ل يدخلوا هبا حتت أمر غريهم،
وهم عندي كفار هلذه األوضا ،مثل تعظيم القبور ،وخطاب املوتى باحلوائج،
وكتب الرقا فيها :يا موالي افعل يب كذا وكذا،
-349-
أو إلقاء اْلرق على الشجر اقتداء مبن عبد الالَّت والعَّزى .نقله غري واحد،
مقررين له ،راضني به ،منهم اإلمام أبو الفرج بن اجلوزي ،واإلمام ابن مفلح
صاحب كتاب «الفرو » وغريمها.
وقال شيخ اإلسالم يف «الرسالة السنية» :فإذا كان على عهد النيب من
انتسب إىل اإلسالم من مرق منه مع عبادته العظيمة ،فليعلم أن املنتسب إىل
أيضا من اإلسالم وذلك بأسباب: أيضا قد ميرق ً اإلسالم والسنة يف هذه األزمان ً
منها :الغلو الذي ذمه اهلل يف كتابه حيث قال﴿ :يا أ َْهل الْ ِكتَ ِ
اب الَ تَـ ْغلواْ َ َ
ِيف ِدينِك ْم﴾ [النساء .]949 :وكذلك الغلو يف بعض املشايخ ،بل الغلو يف
علي بن أيب طالب بل الغلو يف املسيح ،فكل من غال يف نيب أو رجل
نوعا من اإلهلية ،مثل أن يقول :يا سيدي فالن انصري ،أو صاحل وجعل فيه ً
أغثن ،أو ارزقن ،أو اجربي ،أو أنا يف حسبك ،وحنو هذه األقوال ،فكل هذا
شرك وضالل ،يستتاب صاحبه ،فإن تاب وإالَّ قتل ،فإن اهلل إمنا أرسل الرسل
وأنزل الكتب ليعبد وحده ،وال يدعى معه إله آخر ،والذين يدعون مع اهلل آهلة
أخرى ،مثل املسيح ،واملالئكة ،واألصنام ،ل يكونوا يعتقدون أهنا ختلق اْلالئق
أو تنزل املطر ،أو تنبت النبات ،وإمنا كانوا يعبدوهنم أو يعبدون قبورهم ،أو
يعبدون صورهم ،يقولونَ ﴿ :ما نَـ ْعبده ْم إَِّال لِيـ َقِّربونَا إِ َىل اللَّ ِه زلْ َفى﴾ [الزمر،]3 :
ويقولونَ ﴿ :هـؤالء ش َف َعاؤنَا ِعن َد اللي ِه﴾ [يونس ،]91 :فبعث اهلل رسله تنهى أن
يدعى أحد من دونه ال دعاء عبادة ،وال دعاء استغاثة .انتهى.
وقد ن احلافظ أبو بكر أمحد بن علي املقريزي صاحب كتاب «اْلطط»
يف كتاب له يف التوحيد على أن دعاء غري اهلل شرك.
وقال شيخ اإلسالم :من جعل بينه وبني اهلل وسائط يتوكل عليهم
-342-
إمجاعا ،نقله عنه غري واحد مقررين له ،منهم :ابن
يدعوهم ويسأهلم ،كفر ً
مفلح يف «الفرو » ،وصاحب «اإلنصاف» ،وصاحب «الغاية» ،وصاحب
«اإلقنا » وشارحه وغريهم ،ونقله صاحب «القواطع» يف كتابه عن صاحب
«الفرو » .قلت :وهو إمجا صحيح معلوم بالضرورة من الدين ،وقد ن
العلماء من أهل املذاهب األربعة ،وغريهم يف باب حكم املرتد ،على أن من
أشرك باهلل فهو كافر ،أي :عبد مع اهلل غريه بنو من أنوا العبادات .وقد ثبت
()1
بالكتاب والسنة واإلمجا أن دعاء اهلل عبادة له ،فيكون صرفه لغري اهلل شرًكا»
.
وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين:
«قال القاضي عياض يف كتابه الشفاء« :فصل يف بيان ما هو من املقاالت
البني يف هذا أن كل مقالة صرحت بنفي الربوبية، كفر» إىل أن قال :والفصل ِّ
أو الوحدانية ،أو عبادة غري اهلل ،أو مع اهلل فهي كفر ،إىل أن قال :والذين
أشركوا بعبادة األوثان ،أو أحد املالئكة ،أو الشياطني ،أو الشمس ،أو النجوم،
أو النار ،أو أحد غري اهلل من مشركي العرب ،أو أهل اهلند ،أو السودان ،أو
مدبرا فذلك كله كفر صانعا سوى اهلل أو ً
غريهم ،إىل أن قال :أو أن مثي للعال ً
بإمجا املسلمني.
فانظر حكاية إمجا املسلمني على كفر من عبد غري اهلل من املالئكة
وغريهم ،وهذا ظاهر وهلل احلمد».
أيضا رحمه اهلل تعالى:
وقال ا
«قال رمحه اهلل تعاىل :وأما ما سألت عنه من أنه هل جيوز تعيني إنسان بعينه
بالكفر إذا ارتكب شيئًا من املكفرات؟
-343-
فاألمر الذي دل الكتاب والسنة وإمجا العلماء عليه أنه كفر ،مثل الشرك
بعبادة غري اهلل سبحانه ،فمن ارتكب شيئًا من هذا النو ،أو حسنه فهذا ال
شك يف كفره ،وال بأس مبن حتققت منه شيئًا من ذلك أن تقول كفر فالن هبذا
الفعل.
يبني هذا أن الفقهاء يذكرون يف باب حكم املرتد أشياء كثرية يصري هبا
كافرا ،ويستفتحون هذا الباب بقوهلم :من أشرك باهلل كفر وحكمه تدا ً
املسلم مر ً
أن يستتاب فإن تاب وإالَّ قتل ،واالستتابة إمنا تكون مع معني ،وملا قال بعض
أهل البد عند الشافعي :أن القرآن خملوق قال :كفرت باهلل العظيم .وكالم
املعني كثري.
العلماء يف تكفري َّ
وأعظم أنوا الكفر الشرك بعبادة غري اهلل ،وهو كفر بإمجا املسلمني ،وال
مانع من تكفري من اتصف بذلك ،كما أن من زىن قيل فالن زان ،ومن راىب قيل
فالن مراب واهلل أعلم( .منقولة حرفًا حبرف ،وصلَّى اهلل على حممد وصحبه
()1
وسلم)» .
وسئلت اللجنة الدائمة« :السؤال األول من الفتوى رقم :»0441
س :إذا كان إنسان إمام مسجد ويستغيث بالقبور ويقول :هذه قبور ناس
أولياء ،ونستغيث هبم من أجل الواسطة بيننا وبني اهلل ،هل جيوز يل أن أصلي
كثريا يف هذا خلفه وأنا إنسان أدعو إىل التوحيد ،وأرجو منكم توضحوا يل ً
مواضيع النذر واالستغاثة والتوسل.
جـ :من ثبت لديك أنه يستغيث بأصحاب القبور ،أو ينذر هلم ،فال يصح
أن تصلي خلفه ألنه مشرك ،واملشرك ال تصح إمامته ،وال صالته ،وال جيوز
للمسلم أن يصلي خلفه ،لقول اهلل سبحانهَ ﴿ :ولَْو أَ ْشَركواْ َحلَبِ َ
ط َعْنـهم َّما َكانواْ
ين ِم ْن وحي إِلَي ِ َّ ِ
يَـ ْع َملو َن﴾ [األنعام ،]11 :وقوله عز وجلَ ﴿ :ولََق ْد أ ِ َ ْ َ
ك َوإ َىل الذ َ
-344-
ين * بَ ِل اللَّهَ فَ ْ ك ولَتكونَ َّن ِمن ْ ِ قَـبلِ َ ِ
اعب ْد َوكن اْلَاس ِر َ َ ت لَيَ ْحبَطَ َّن َع َمل َ َ َ
ك لَئ ْن أَ ْشَرْك َ ْ
ِ
ين﴾ [الزمر.]55 ،56 : ِّم ْن الشَّاك ِر َ
وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء
الرئيس نائب رئيس اللجنة عضو
()1
عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز» عبد الرزاق عفيفي عبد اهلل بن غديان
* * *
-346-
المبحث الثاني
فعل اإلنسان في الظاهر دليل على عقيدته في الباطن،
ومن ثم كانت األقوال واألعمال واألفعال دلئل منضبطة
سلبا وإيجاباا
على وجود الكفر واإليمان ،وبها تتكيف األحكام ا
قال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن الجبرين حفظه اهلل تعالى:
شخصا وقف عند
ً «فنحن نستدل بفعل اإلنسان على عقيدته ،فمىت رأينا
قرب إنسان معظَّم يف نفسه ،وخضع برأسه ،وتذلل ،وأهطع ،وأقنع ،وخشع،
وخفض صوته ،وسكنت جوارحه ،وأحضر قلبه ولبه أعظم مما يفعل يف الصالة
بني يدي ربه عز وجل ،وهتف باسم ذلك املقبور ،وناداه نداء من وثق منه
بالعطاء ،وعلق عليه الرجاء وحنو ذلك ،فإنا ال نشك أنه واحلالة هذه يعتقد أن
يعطيه سؤله ،ويدفع عنه السوء ،وأنه يستطيع التصرف يف أمر اهلل.
ففعله هذا دليل سوء معتقده ،فال حاجة لنا أن نسأله :هل أنت تعتقد أنه
يضر وينفع من غري إذن اهلل؟
فاهلل تعاىل ما كلفنا أن ننقب عن قلوب الناس ،وإمنا نأخذهم مبوجب
أفعاهلم وأقواهلم الظاهرة ،وهذا الشخ قد خالف قول اهلل تعاىلَ ﴿ :والَ تَ ْد ِمن
ِِ ون اللي ِه َما الَ يَ َنفع َ
د ِ
ني﴾ [يونس: ك إِذًا ِّم َن الظَّالم َ
ت فَِإنَّ َ
ك َوالَ يَضُّرَك فَِإن فَـ َعْل َ
.]955
وقد رأينا خشوعه وتذللـه أمام هذا املخلوق امليت ،وذلك هو عني العبادة
كما عرفنا ،فنحكم عليه مبوجب فعله وقوله ،بأنه قد أشرك باهلل وتأله سواه.
فإن اإلله :هو الذي تأهله القلوب وتعظمه ،وحتبه وترج ـوه ،وختافه
-345-
وتعامله مبا ال يصلح إالَّ هلل ،ولو ل يسمه الفاعل إهلًا ،ولو ل يسم فعله
وتعبدا ،فإن العربة باحلقائق وما يف نفس األمر خبالف األمساء.
تأهلًا ً
فأهل هذا الزمان :ملا جهلوا حقيقة العبادة والتأله والدعاء وحنوه -الذي هو
من حق اهلل -ول يعرفوا معانيها وأصل وضعها صرفوها لغري اهلل ،ومسوا :ذلك
وتربًكا واحرت ًاما ،وهو عني عبادة ذلك املخلوق ،وعني الشرك،
استشفاعا ُّ
ً توسالً و
ُّ
()1
توعد اهلل عليه بالنار ،وحرمان اجلنة» .الذي َّ
-344-
-341-
الفصل الثامن
علة قتال المشركين ،ووجوب البراءة منهم،
وحكم الدار إذا غلبت عليها أحكام الشرك
املبحث األول :اآلثار الوخيمة النامجة عن اْلروج على أصل الوالء والرباء.
املبحث الثاي :اإلمجا على حرمة التحيز للمشركني ،وجمامعتهم إال ملن
قدر على إظهار الرباءة منهم ومن شركهم.
املبحث الثالث :تعريف دار الشرك ،وواجب املسلمني حنوها.
املبحث الرابع :وجوب قتال املشركني حىت يكون الدين كله هلل.
-341-
-365-
المبحث األول
اآلثار الوخيمة الناجمة
عن الخروج على أصل الولء والبراء
أرى -يف هذا املقام -أنه من ضرورة البيان ،وكمال البالغ :معاودة التذكري
بواجب مواالة املسلمني والرباءة من املشركني ،وعقوبة اْلروج عن هذا األصل
العظيم ،مع بيان آثاره الوخيمة على اإلسالم وأهله ،حىت نستطيع أن نضع
أيدينا على علة وصول األمة إىل احلالة املزرية من اْليبة واْلسار ،واالنكسار بني
يدي األعداء ،جراء التفريط يف القيام حبقوق هذا األصل األصيل.
قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه اهلل تعالى:
«وهذا وبعد انتهائنا من هذا البيان املختصر ألصول العقيدة اإلسالمية نشري
إىل أنه جيب على كل مسلم يدين هبذه العقيدة أن يوايل أهلها ويعادي
أعداءها ،فيحب أهل التوحيد واإلخالص ويواليهم ،ويبغض أهل اإلشراك
ويعاديهم.
وذلك من ملة إبراهيم والذين معه ،الذي أمرنا باالقتداء هبم ،حيث يقول
ين َم َعه إِ ْذ قَالوا سبحانه وتعاىل﴿ :قَ ْد َكانَت لَكم أسوة حسنة ِيف إِبـر ِاه َّ ِ
يم َوالذ َ َْ َ ْ ْ ْ َ َ ََ
ِ لَِقوِم ِهم إِنَّا بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ
ون اللَّه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا بَـْيـنَـنَا َوبَـْيـنَكم ْ َ ْ ْ ْ َ
ِ ِ
ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤمنوا بِاللَّه َو ْح َده﴾ [املمتحنة.]4 : الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ
ِ َّ ِ
ود
ين َآمنواْ الَ تَـتَّخذواْ الْيَـه َ وهو من دين حممد ،قال تعاىل﴿ :يَا أَيـُّ َها الذ َ
َّص َارى أ َْولِيَاء بَـ ْعضه ْم أ َْولِيَاء بَـ ْعض َوَمن يَـتَـ َوَّهلم ِّمنك ْم فَِإنَّه ِمْنـه ْم إِ َّن الليهَ الَ
َوالن َ
ِِ ِ
ني﴾ [املائدة ،]69 :وهذه يف حترمي مواالة أهل يَـ ْهدي الْ َق ْوَم الظَّالم َ
-369-
ين َّ ِ
عموما﴿ :يَا أَيُّـ َها الذ َ خصوصا .وقال يف حترمي مواالة الكفار ً ً الكتاب
َآمنوا َال تَـتَّ ِخذوا َعد ِّوي َو َعد َّوك ْم أ َْولِيَاء﴾ [املمتحنة.]9 :
بل لقد حرم اهلل على املؤمنني مواالة الكفار ،ولو كانوا من أقرب الناس إليه
َّخذواْ آبَاءك ْم َوإِ ْخ َوانَك ْم أ َْولِيَاء إَ ِن نسبا ،قال تعاىل﴿ :يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنواْ الَ تَـت ِ
َ َ َ َ ً
ك هم الظالمو َن﴾ [التوبة: ِ َّ ِ َّ ِ ِ
استَ َحبُّواْ الْك ْفَر َعلَى اإلميَان َوَمن يَـتَـ َوهلم ِّمنك ْم فَأ ْولَـئ َ ْ
،]23وقال تعاىلَ﴿ :ال َِجتد قَـ ْوًما يـ ْؤِمنو َن بِاللَّ ِه َوالْيَـ ْوِم ْاآل ِخ ِر يـ َو ُّادو َن َم ْن َح َّاد
اللَّهَ َوَرسولَه َولَْو َكانوا آبَاءه ْم أ َْو أَبْـنَاءه ْم أ َْو إِ ْخ َوانَـه ْم أ َْو َع ِش َريتَـه ْم﴾ [اجملادلة:
.]22
وقد جهل كثري من الناس هذا األصل العظيم ،حىت لقد مسعت بعض
املنتسبني إىل العلم والدعوة يف إذاعة عربية يقول عن النصارى :إهنم إخواننا! ويا
هلا من كلمة خطرية!
وكما أن اهلل سبحانه حرم مواالة الكفار أعداء العقيدة اإلسالمية ،فقد
أوجب سبحانه مواالة املؤمنني وحمبتهم ،قال تعاىل﴿ :إَِّمنَا َولِيُّكم الليه َوَرسوله
ِ
الزَكا َة َوه ْم َراكعو َن * َوَمن يَـتَـ َوَّل الليهَ الصالََة َويـ ْؤتو َن َّين ي ِقيمو َن َّ َّ ِ
ين َآمنواْ الذ َ
َّ ِ
َوالذ َ
ب اللي ِه هم الْغَالِبو َن﴾ [املائدة ،]65 ،66 :وقال ِ ِ
ين َآمنواْ فَإ َّن ح ْز َ
َّ ِ
َوَرسولَه َوالذ َ
ين َم َعه أ َِشدَّاء َعلَى الْكفَّا ِر ر َمحَاء بَـْيـنَـه ْم﴾ [الفتح: ِ َّ ِ
تعاىلُّ ﴿ :حمَ َّمد َّرسول اللَّه َوالذ َ
،]21وقال تعاىل﴿ :إَِّمنَا الْم ْؤِمنو َن إِ ْخ َوة﴾ [احلجرات.]95 :
فاملؤمنون إخوة يف الدين والعقيدة ،وإن تباعدت أنساهبم وأوطاهنم وأزماهنم،
ِ َّ ِ ِ ِِ ِ َّ ِ
ين َجاؤوا من بَـ ْعده ْم يَـقولو َن َربَّـنَا ا ْغف ْر لَنَا َوِِإل ْخ َواننَا الذ َ
ين قال تعاىلَ ﴿ :والذ َ
ك َرؤوف َّرِحيم﴾ ِ ًّ ِّ ِ سبـقونَا بِ ِْ ِ
ين َآمنوا َربَّـنَا إِنَّ َ ِ
اإلميَان َوَال َْجت َع ْل يف قـلوبِنَا غال للَّذ َ ََ
[احلشر.]95 :
فاملؤمنون من أول اْلليقة إىل آخرها مهما تباعدت أوطاهنم وامتدت أزماهنم
إخوة متحابون ،يقتدي آخـرهم بأوهلم ،ويـدعو بعضهم لبعض،
-362-
ويستغفر بعضهم لبعض .وللوالء والرباء مظاهر تدل عليهما.
فمن مظاهر مواالة الكفار:
-9التشبه هبم يف امللبس والكالم وغريمها؛ ألن التشبه هبم يف امللبس
والكالم وغريمها يدل على حمبة املتشبِّه للمتشبَّه به ،وهلذا قال النيب « :من
تشبه بقوم ،فهو منهم» ،فيحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم ومن
عاداهتم وعبادهتم ومستهم وأخالقهم ،كحلق اللحى ،وإطالة الشوارب ،والرطانة
بلغتهم إالَّ عند احلاجة ،ويف هيئة اللباس واألكل والشرب وغري ذلك.
-2اإلقامة يف بالدهم ،وعدم االنتقال منها إىل بلد املسلمني ألجل الفرار
بالدين ،ألن اهلجرة هبذا املعى وهلذا الغرض واجبة على املسلم .ألن إقامته يف
بالد الكفر تدل على مواالة الكافرين ،ومن هنا حرم اهلل إقامة املسلم بني الكفار
إذا كان يقدر على اهلجرة....
-3ومن مظاهر مواالة الكفار السفر إىل بالدهم لغرض النزهة ومتعة
حمرم إال عند الضرورة ،كالعالج ،والتجارة، النفس .والسفر إىل بالد الكفار َّ
والتعلم للتخصصات النافعة ،اليت ال ميكن احلصول عليها إالَّ بالسفر إليهم،
فيجوز بقدر احلاجة ،وإذا انتهت احلاجة ،وجب الرجو إىل بالد املسلمني،
مبتعدا
معتزا بإسالمهً ، ويشرتط كذلك جلواز هذا السفر أن يكون مظْ ِهًرا لدينهً ،
حذرا من دسائس األعداء ومكائدهم ،وكذلك جيوز السفر أو عن مواطن الشرً ،
جيب إىل بالدهم إذا كان ألجل الدعوة إىل اهلل ونشر اإلسالم.
-4ومن مظاهر مواالة الكفار إعانتهم ومناصرهتم على املسلمني ،ومدحهم
والذب عنهم ،وهذا من نواقض اإلسالم وأسباب الردة ،نعوذ باهلل من ذلك.
-363-
-6ومن مظاهر مواالة الكفار :االستعانة هبم ،والثقة هبم ،وتوليتهم
املناصب اليت فيها أسرار املسلمني ،واختاذهم بطانة ومستشارين....
خصوصا التاريخ الذي
ً -5ومن مظاهر مواالة الكفار التأريخ بتأرخيهم،
يعرب عن طقوسهم وأعيادهم ،كالتاريخ امليالدي ،والذي هو عبارة عن ذكرى
مولد املسيح ،والذي ابتدعوه من أنفسهم ،وليس هو من دين املسيح ،
فاستعمال هذا التاريخ فيه مشاركة يف إحياء شعارهم وعيدهم....
-4ومن مظاهر مواالة الكفار مشاركتهم يف أعيادهم ،أو مساعدهتم يف
إقامتها ،أو هتنئتهم مبناسبتها ،أو حضور إقامتها ،وقد فسر قوله سبحانه وتعاىل:
الز َور﴾ [الفرقان ،]42 :أي :من صفات عباد الرمحن: ين الَ يَ ْش َهدو َن ُّ َّ ِ
﴿ َوالذ َ
أهنم ال حيضرون أعياد الكفار.
-1ومن مظاهر مواالة الكفار :مدحهم ،واإلشادة مبا هم عليه من املدنية
واحلضارة ،واإلعجاب بأخالقهم ومهارهتم ،دون نظر إىل عقائدهم الباطلة
ودينهم الفاسد....
التسمي بأمسائهم ،حبيث يسمون أبنائهم ِّ -1ومن مظاهر مواالة الكفار
وبناهتم بأمساء أجنبية ،ويرتكون أمساء آبائهم وأمهاهتم وأجدادهم وجداهتم،
واألمساء املعروفة يف جمتمعهم ،وقد قال النيب « :خري األمساء عبد اهلل وعبد
الرمحن» ،وبسبب تغري األمساء ،فقد وجد جيل حيمل أمساء غربية ،مما يسب
االنفصال بني هذا اجليل واألجيال السابقة ،ويقطع التعارف بني األسر اليت
كانت تعرف بأمسائها اْلاصة.
-95ومن مظاهر مواالة الكفار االستغفار هلم والرتحم عليهم ،وقد حرم
ِ ِ ِ اهلل ذلك بقوله تعاىل﴿ :ما َكا َن لِلنِ َّ ِ
ين َآمنواْ أَن يَ ْسَتـ ْغفرواْ لْلم ْش ِرك َ
ني َولَْو َّيب َوالذ َ
ِّ َ
-364-
اجلَ ِحي ِم﴾ [التوبة: ِ ِ
َص َحاب ْ َكانواْ أ ْوِيل قـ ْرَىب من بَـ ْعد َما تَـبَـ َّ َ
ني َهل ْم أَنـَّه ْم أ ْ
()1
.]993ألن هذا يتضمن حبهم وتصحيح ما هم عليه .
مظاهر مواالة املؤمنني قد بيَّنها الكتاب والسنة ،ومنها:
-9اهلجرة إىل بالد املسلمني ،وهجر بالد الكافرين ،واهلجرة هي :االنتقال
من بالد الكفار إىل بالد املسلمني ألجل الفرار بالدين.
واهلجرة هبذا املعى وألجل هذا الغرض واجبة وباقية إىل طلو الشمس من
مغرهبا عند قيام الساعة....
-2مناصرة املسلمني ومعاونتهم بالنفس واملال واللسان فيما حيتاجون إليه
يف دينهم ودنياهم ،قال تعاىلَ ﴿ :والْم ْؤِمنو َن َوالْم ْؤِمنَات بَـ ْعضه ْم أ َْولِيَاء بَـ ْعض﴾
َّصر إِالَّ َعلَى ِ
نصروك ْم ِيف الدِّي ِن فَـ َعلَْيكم الن ْ استَ َ[التوبة ،]49 :وقال تعاىلَ ﴿ :وإِن ْ
قَـ ْوم بَـْيـنَك ْم َوبَـْيـنَـهم ِّميثَاق﴾ [األنفال.]42 :
-3التأل ألمله ِم والسرور بسرورهم ،قال النيب « :مثل املسلمني يف
توادهم وتعاطفهم وترامحهم كاجلسد الواحد ،إذا اشتكى منه عضو ،تداعى له
أيضا « :املؤمن للمؤمن كالبنيان ،يشد سائر اجلسد باحلمى والسهر» ،وقال ً
بعضا (وشبك بني أصابعه .) بعضه ً
اترا :أن الدين عند اهلل اإلسالم ،وأن الكافرين به( )1من املعلوم من الدين بالضرورة ،واملنقول نقالً متو ً
هم أصحاب النار ،وأن املشركني ال حظ هلم من مغفرة اهلل ورمحته.
ولقد رأينا ومسعنا ،بل وال زلنا نسمع ونرى من كثري من األقالم املسمومة ،وألسنة الكفر والزندقة
واإلحلاد :جواز الرتحم على أموات اليهود والنصارى والشيوعيني ،وما ذاك إالَّ إلذابة حاجز البغض
جيدا -ومن مث َتريرواملعاداة بني املسلمني والكافرين -من جانب واحد فقط وهم يدركون ذلك ً
شرعية األديان احلالية ،على أصحاب امللة احلنيفية -دون غريها من امللل ،-وأهنا طرق إىل اهلل
كاملذاهب األربعة يف اإلسالم ،جيوز التعبد بأي واحد منها ،فينبغي احلذر احلذر من هذا الشر
ِ ِ
ني َسبِيل الْم ْج ِرم َ
ني﴾ [األنعام.]66 : املستطر ،وصدق اهلل القائلَ ﴿ :ولتَ ْستَبِ َ
-366-
-4النصح هلم وحمبة اْلري هلم وعدم غشهم وخديعتهم ،قال « :ال يؤمن
أحدكم حىت حيب ألخيه ما حيب لنفسه» ،وقال« :املسلم أخو املسلم ،ال
حيقره ،وال خيذله ،وال يسلمه ،حبسب امرئ من الشر أن حيقر أخاه املسلم ،كل
املسلم على املسلم حرام ،دمه ،وماله وعرضه» ،وقال « :ال تباغضوا ،وال
تدابروا ،وال تناجشوا ،وال يبع بعضكم على بيع بعض ،وكونوا عباد اهلل
()1
إخوانًا» .
-365-
المبحث الثاني
اإلجماع على حرمة التحيز للمشركين ،ومجامعتهم،
إل لمن قدر على إظهار البراءة منهم ومن شركهم
قال الشيخ سعد بن محد بن عتيق -يف الرد على سؤال ورد عليه:-
«وأما االنتقال من بالد اإلسالم ،إىل بالد القبوريني ،والتحيز إىل مجاعة
املشركني ،وعدم املباالة يف ذلك ،فمن املصائب العظام ،والدواهي الكبار ،اليت
وقع فيها كثري من الناس وتساهلوا فيها ،واستصغروها وخف شأهنا عند كثري من
وقل نصيبهم من معرفة ما الناس ،الذين ضعفت بصائرهم يف دين اإلسالمَّ ،
بعث اهلل به نبينا حممد وما كان عليه الصحابة ،ومن تبعهم من األئمة
األعالم.
ذمه ،وذم من وما زال األمر بالناس ،حىت صار النهي عن ذلك ،والكالم يف ِّ
بأسا ،وينسبون من ينهى فعله من املستنكر عند األكثر ،وصاروا ال يرون بذلك ً
عنه وينكره على من فعله ،إىل الغلو يف الدين ،والتشديد على املسلمني.
(األدلة على وجوب البراءة من المشركين ،وحرمة التحيز إليهم)
ويف القرآن الكرمي ،والسنة النبوية :ما يدل من يف قلبه حياة على املنع من
صرحوا بالنهي عن إقامة املسلم بني ذلك ،وكالم العلماء مرشد إىل ذلك ،فإهنم َّ
ين ِ َّ ِ
أظهر املشركني ،من غري إظهار دينه ،قال تعاىلَ ﴿ :والَ تَـ ْرَكنواْ إ َىل الذ َ
ين َّ َّ ِ ِ
ظَلَمواْ ﴾...اآلية [هود ،]993 :وقال﴿ :تَـَرى َكث ًريا ِّمْنـه ْم يَـتَـ َول ْو َن الذ َ
اسقو َن﴾ [املائدة: ـك َّن َكثِريا ِّمْنـهم فَ ِ
َك َفرواْ﴾ [املائدة ،]15 :إىل قوله﴿ :ولَ ِ
ْ ً َ
.]19
ين تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئِ َكة ظَالِ ِمي أَنْـف ِس ِه ْم﴾ [النساء: ِ َّ ِ
وقال تعاىل﴿ :إ َّن الذ َ
يما﴾ [النساء.]955 : ِ
،]14إىل قولهَ ﴿ :وَكا َن الليه َغف ًورا َّرح ً
-364-
قال ابن كثري يف الكالم على هذه اآلية ،وهذه اآلية :عامة يف كل من أقام
بني أظهر املشركني ،وهو قادر على اهلجرة ،وليس متمكنًا من إقامة الدين ،فهو
مرتكب حر ًاما باإلمجا ،ون هذه اآلية ،واآليات يف هذا املعى كثرية ،يعرفها
من قرأ القرآن وتدبَّره.
ويف األحاديث املأثورة ،عن النيب ما يدل على ما دل عليه القرآن ،مثل
قوله « :من جامع املشرك وسكن معه فإنه مثله» ،وقوله « :وال تستضيئوا
بنار املشركني» ،وحديث هبز بن حكيم« :أن تفر من شاهق إىل شاهق
بدينك» ،قال ابن كثري معناه :ال تقاربوهم يف املنازل ،حبيث تكونوا معهم يف
بالدهم ،بل تباعدوهم ،وهتاجروا من بالدهم ،وهلذا روى أبو داود فقال« :ال
تراءى نارمها».
ويف قصة إسالم جرير ،ملا قال :يا رسول اهلل ،بايعن واشرتط ،فقال« :أن
تعبد اهلل وال تشرك به شيئًا ،وتقيم الصالة ،وتؤيت الزكاة ،وتفارق املشركني»،
وعن عبد اهلل بن عمرو ،أنه قال :من بى بأرض املشركني ،وصنع نريوزهم
ومهرجاهنم ،وتشبَّه هبم حىت ميوت ،حشر معهم يوم القيامة.
وكالم العلماء يف املنع من اإلقامة عند املشركني ،وحترمي جمامعتهم ،ووجوب
خصوصا أئمة هذه الدعوة اإلسالمية ،كالشيخ حممد ً مباينتهم ،كثري معروف،
بن عبد الوهاب ،وأوالده ،وأتباعهم من أهل العلم والدين ،ففي كتبهم من ذلك
الس ْم َع َوه َو َش ِهيد﴾ [ق.]34 :
ما يكفي ويشفي من ﴿ َكا َن لَه قَـْلب أ َْو أَلْ َقى َّ
(حكم المقيم في دار تعلوها شعائر الشرك ،وتهدم فيها شعائر اإلسالم)
فمن ذلك ما قال الشيخ عبد اللطيف ،يف بعض رسائله :إن اإلقامة ببلد
يعلو فيها الشرك والكفر ،ويظهر فيها دين اإلفرنج والروافض ،وحنوهم من املعطلة
للربوبية واأللوهية ،وترفع فيها شعائرهم ،ويهدم اإلسالم والتوحيد،
-361-
ويعطل التسبيح والتكبري والتحميد ،وتقلع قواعد امللة واإلميان ،وحيكم
بينهم حبكم اإلفرنج واليونان ،ويشتم السابقون من أهل بدر ،وبيعة الرضوان.
فاإلقامة بني ظهرانيهم -واحلالة هذه -ال تصدر عن قلب باشره حقيقة
اإلسالم واإلميان والدين ،وعرف ما جيب من حق اهلل يف اإلسالم على املسلمني،
نبيا ،فإن الرضا
بل ال يصدر عن قلب رضي باهلل ربًا ،وباإلسالم دينًا ،ومبحمد ً
هبذه األصول الثالثة ،قطب رحى الدين ،وعليه تدور حقائق العلم واليقني،
وذلك يتضمن من حمبة اهلل وإيثار مرضاته ،والغرية لدينه واالحنياز إىل أوليائه ،ما
يوجب الرباءة كل الرباءة ،والتباعد كل التباعد ،عمن تلك حنلته وذلك دينه ،بل
نفس اإلميان املطلق يف الكتاب والسنة ،ال جيامع هذه املنكرات .انتهى كالمه
رمحه اهلل.
(حكم المقيم في بالد المشركين)
وأما السؤال عن حكم املقيم يف بلدان املشركني ،من املنتسبني إىل اإلسالم،
فهذا اجلنس من الناس مشرتكون يف فعل ما هنى اهلل عنه ورسوله ،إالَّ من عذره
ني﴾ [النساء ،]11 :مث هم خمتلفون يف القرآن يف قوله﴿ :إِالَّ الْمست ِ
ض َعف َ َْ ْ
املراتب ،متفاوتون يف الدرجات ،حبسب أحواهلم ،وما حيصل منهم ،من مواالة
كفرا ،وقد يكون دونه ،قال تعاىل: املشركني ،والركون إليهم ،فإن ذلك قد يكون ً
ك بِ َغافِل َع َّما يَـ ْع َملو َن﴾ [األنعام»]932 : ِ
﴿ َولكل َد َر َجات ِّممَّا َع ِملواْ َوَما َربُّ َ
()1
.
-361-
المبحث الثالث
تعريف دار الشرك ،وواجب المسلمين نحوها
إذا صار الشرك وتوابعه ،فاشيًا يف بلد ،وبات التحاكم والدعوة فيها لغري
الكتاب والسنة ،أصبحت الدار دار كفر وشرك بإمجا العلماء املستند لقواعد
التنزيل.
توجب على أهلها من املسلمني: دال على ذلك ،ومن مثي َّ فالقرآن كله ي
()1
الرباءة واإلنكار ملعتقد أهل الكفر والضالل ،وإالَّ فالفرار الفرار .
قال الشيخ حمد بن عتيق في جوابه لمن ناظره في حكم أهل مكة ،وما
يقال في البلد نفسه؟
َنت الْ َعلِيم
كأ َك الَ ِعْل َم لَنَا إِالَّ َما َعلَّ ْمتَـنَا إِنَّ َ
فأجاب بقوله﴿ :قَالواْ سْب َحانَ َ
احلَ ِكيم﴾ [البقرة ،]32 :جرت املذاكرة يف كون مكة بلد كفر ،أم بلد إسالم. ْ
حممدا بالتوحيد الذي هو دين مجيع فنقول وباهلل التوفيق :قد بعث اهلل ً
الرسل ،وحقيقته :هو مضمون شهادة أن ال إله إالَّ اهلل ،وهو أن يكون اهلل معبود
اْلالئق ،فال يتعبَّدون لغريه بنو من أنوا العبادة ،ومخ العبادة هو :الدعاء،
ومنها :اْلوف والرجاء والتوكل واإلنابة والذبح والصالة وأنوا العبادة كثرية،
وهذا األصل العظيم هو شرط يف صحة كل عمل.
واألصل الثاي :هو طاعة النيب يف أمره ،وحتكـيمه يف دقيق األمور
( )1أخي القارئ :حنب أن نلفت نظرك الكرمي إىل أن أحكام الديار والقتال ،سنفرد لكل منهما فصالً
مفصالً -إن شاء اهلل -يف كتاب األحكام املرتتبة على التوحيد والشرك .ولكن آثرت ذكرمها
ههنا بنو من االختصار ،حفاظًا على الوحدة املوضوعية ،وحىت تكتمل الصورة بوضوح يف معى
الشرك ،واألحكام املرتتبة عليه ،بدالً من أن خترج باهتة بال مضمون ،ودون واقع عملي حمسوس
ملموس.
-355-
وجليلها ،وتعظيم شرعه ودينه ،واإلذعان ألحكامه يف أصول الدين وفروعه.
(فاألول) :ينايف الشرك وال يصح مع وجوده.
(والثاي) :ينايف البد وال يستقيم مع حدوثها ،فإذا حتقق وجود هذين
علما وعمالً ودعوة ،وكان هذا دين أهل البلد ،أي بلد كان بأن عملوا األصلني ً
موحدون.
به ،ودعوا إليه ،وكانوا أولياء ملن دان به ،ومعادين ملن خالفه فهم ِّ
وأما إذا كان الشرك فاشيًا مثل :دعاء الكعبة واملقام واحلطيم ،ودعاء األنبياء
والصاحلني ،وإفشاء توابع الشرك مثل :الزنا والربا وأنوا الظلم ونبذ السنن وراء
الظهر ،وفشو البد والضالالت ،وصار التحاكم إىل األئمة الظلمة ونواب
معلوما يف أي بلد
املشركني ،وصارت الدعوة إىل غري القرآن والسنة ،وصار هذا ً
كان ،فال يشك من له أدىن علم أن هذه البالد حمكوم عليها بأهنا :بالد كفر
وشرك ،ال سيما إذا كانوا معادين أهل التوحيد ،وساعني يف إزالة دينهم ويف
ختريب بالد اإلسالم.
وإذا أردت إقامة الدليل على ذلك وجدت القرآن كله ،فيه ،وقد أمجع عليه
العلماء فهو معلوم بالضرورة عند كل عال.
()1
وأما قول القائل ما ذكرم من الشرك إمنا هو من األفاقية ،ال من أهل
البلد.
فيقال له أوالً :هذا إما مكابرة ،وإما عدم علم بالواقع.
فمن املتقرر أن أهل اآلفاق تبع ألهل تلك البالد يف دعاء الكعبة واملقام
واحلطيم ،كما يسمعه كل سامع ويعرفه كل موحد.
معلوما فذاك كاف يف املسألة ،ومن الذي ويقال ثانيًا :إذا تقرر وصار هذا ً
فرق يف ذلك ،ويا هلل العجب إذا كنتم ختفون توحيدكم يف بالدكم ،وال تقدرون
تصرحوا بدينكم ،وختافتون بصالتكم ألنكم علمت عداوهتم أن ِّ
( )1أي :الذين يأتون إىل مكة املكرمة زائرين ،ال أهل البلد األصليني.
-359-
هلذا الدين ،وبغضهم ملن دان به ،فكيف يقع لعاقل إشكال ،أرأيتم لو قال
رجل منكم ملن يدعو الكعبة أو املقام أو احلطيم ،ويدعو الرسول والصحابة :يا
هذا ال تد غري اهلل ،أو أنت مشرك ،هل تراهم يساحمونه أم يكيدونه؟ فليعلم
اجملادل أنه ليس على توحيد اهلل ،فواهلل ما عرف التوحيد وال حتقق بدين الرسول
.أرأيت رجالً عندهم قائالً هلؤالء :راجعوا دينكم أو اهدموا البناءات اليت على
القبور ،وال حيل لكم دعاء غري اهلل ،هل ترى يكفيهم فيه فعل قريش مبحمد
ال واهلل ال واهلل.
وإذا كانت الدار :دار إسالم -ألي شيء ِ -لَ تدعوهم إىل اإلسالم
وتأمرهم هبدم القباب واجتناب الشرك وتوابعه؟
غركم أهنم يصلون أو حيجون أو يصومون ويتصدَّقون ،فتأملوا: فإن يكن قد َّ
األمر من أوله ،وهو أن التوحيد قد تقرر يف مكة بدعوة إمساعيل بن إبراهيم
اْلليل عليهما السالم ،ومكث أهل مكة عليه مدة من الزمان ،مث إنه فشا فيهم
الشرك بسبب عمرو بن حلي ،وصاروا مشركني ،وصارت البالد بالد شرك ،مع
حيجون ويتصدقون على احلاج أنه قد بقي معهم أشياء من الدين ،وكما كانوا ُّ
وغري احلاج.
()1
وقد بلغكم شعر عبد املطلب الذي أخل فيه يف قصة الفيل ،وغري
( )1قام عبد املطلب ،فأخذ حبلقة باب الكعبة ،وقام معه نفر من قريش يدعون اهلل ،ويستنصرونه على
أبرهة ،فقال عبد املطلب ،وهو آخو حبلقة باب الكعبة.
يا رب فامنع منهم محاكا يا رب ال أرجو هلم سواكا
امنعهم أن خيربوا فناكا إن عدو البيت من عاداكا
وله شعر آخر يف هذا األمر ،ال يدعو فيه إالَّ اهلل وحده ،وال يستنصر فيه ً
أحدا سواه.
انظر :الكامل يف التاريخ لإلمام ابن األثري )344 ،343/9( :ذكر أمر الفيل :حتقيق عبد اهلل القاضي
-دار الكتب العلمية -الطبعة الثانية 9496هـ9116 ،م.
-352-
ذلك من البقايا ول مينع الزمان -أي :أن وقتهم وقت فرتة واهلل أعلم -
ذلك من تكفريهم وعداوهتم ،بل الظاهر عندنا وعند غرينا أن شركهم اليوم
أعظم من ذلك الزمان ،بل قبل هذا كله أنه مكث أهل األرض بعد آدم عشرة
قرون على التوحيد ،حىت حدث فيهم الغلو يف الصاحلني فدعوهم مع اهلل
نوحا يدعو إىل التوحيد. فكفروا ،فبعث اهلل إليهم ً
فتأمل ما ق اهلل عنهم ،وكذا ما ذكر اهلل عن هود أنه دعاهم إىل
إخالص العبادة هلل ألهنم ل ينازعوه يف أصل العبادة ،وكذلك إبراهيم دعا قومه
إىل إخالص التوحيد وإالَّ فقد أقروا هلل باإلهلية.
ومجا األمر أنه إذا ظهر يف بلد دعاء غري اهلل ،وتوابع بذلك ،واستمر أهلها
عليه ،وقاتلوا عليه ،وتقررت عندهم عداوة أهل التوحيد ،وأبوا عن االنقياد للدين
فكيف ال حيكم عليهما بأهنا بلد كفر؟
ولو كانوا ال ينتسبون ألهل الكفر ،وأهنم منهم بريئون مع مسبتهم هلم،
وختطئتهم ملن دان به ،واحلكم عليهم بأهنم خوارج أو كفار ،فكيف إذا كانت
هذه األشياء كلها موجودة؟ فهذه مسألة عامة كلية.
وأما القضايا اجلزئية فنقول :قد دل القرآن والسنَّة على أن املسلم إذا
حصلت منه مواالة أهل الشرك ،واالنقياد هلم ،ارتد بذلك عن دينه.
ِ ِ ِ َّ ِ
ني َهلم ين ْارتَ ُّدوا َعلَى أ َْدبَا ِرهم ِّمن بَـ ْعد َما تَـبَـ َّ َ
فتأمل قوله تعاىل﴿ :إ َّن الذ َ
ين َك ِرهوا َما نَـَّزَل اللَّه ِِ ا ْهل َدى الشَّْيطَان س َّوَل َهلم وأ َْملَى َهلم * َذلِ َ ِ
ك بأَنـَّه ْم قَالوا للَّذ َ ْ َْ َ
ِ
ض ْاأل َْمر َوالله يَـ ْعلَم إ ْسَر َاره ْم﴾ [حممد ،]25 ،26 :مع قوله: َّ ِ َسن ِطيعك ْم ِيف بَـ ْع ِ
﴿ َوَمن يَـتَـ َوَّهلم ِّمنك ْم فَِإنَّه ِمْنـه ْم﴾ [املائدة ،]69 :وأمعن النظر يف قوله تعاىل
﴿فَالَ تَـ ْقعدواْ َم َعه ْم َح َّىت َخيوضواْ ِيف َح ِديث َغ ِْريهِ إِنَّك ْم إِ ًذا ِّمثْـله ْم﴾ [النساء:
()1
. »]945
-353-
المبحث الرابع
وجوب قتال المشركين حتى يكون الدين كله هلل
جيب قتال املشركني ،حىت ينخلعوا من الشرك ،وخيلصوا أعماهلم هلل ،ويلتزموا
إمجاعا ،وعلى ذلك جرد النيب أحكامه ،فإن أبوا ذلك ،أو بعضه قوتلوا ً
وأصحابه سيوف اجلهاد لقتال املشركني ،فالقتال دائر مع الشرك حيث دار ،حىت
يكون الدين كله هلل ،ويلنزم العباد دين اهلل القومي ،ويسلكوا صراطه املستقيم.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى:
قال تعاىلَ ﴿ :وقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ تَكو َن فِْتـنَة َويَكو َن الدِّين كلُّه لِليه﴾
ني َحْيث َو َج ُّ ِ
دَتوه ْم َوخذوه ْم [األنفال ،]31 :وقال﴿ :فَاقْـتـلواْ الْم ْش ِرك َ
الزَكا َة فَ َخلُّواْ صد فَِإن تَابواْ َوأَقَامواْ َّ
الصالََة َوآتَـواْ َّ احصروه ْم َواقْـعدواْ َهل ْم ك َّل َم ْر َ
َو ْ
َسبِيلَه ْم﴾ [التوبة.]6 :
أمر بقتاهلم حىت يتوبوا من الشرك وخيلصوا أعماهلم هلل تعاىل ،ويقيموا
إمجاعا.
الصالة ،ويؤتوا الزكاة ،فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا ً
مرفوعا« :أمرت أن أقاتل الناس حىت ً ويف صحيح مسلم عن أيب هريرة
يشهدوا أن ال إله إالَّ اهلل ،ويؤمنوا يب ومبا جئت به ،فإذا فعلوا ذلك عصموا من
دماءهم وأمواهلم إالَّ حبقها وحساهبم على اهلل».
ويف الصحيحني عن ابن عمر قال :قال رسول اهلل « :أمرت أن أقاتل
حممدا رسول اهلل ،ويقيموا الصالة ويؤتوا الناس حىت يشهدوا أن ال إله إالَّ اهلل وأن ً
الزكاة ،فإذا فعلوا ذلك عصموا مى دماءهم وأمواهلم إالَّ حبقها وحساهبم على
اهلل» ،وهذان احلديثان تفسري اآليتني :آية األنفال ،وآية براءة.
-354-
وقد أمجع العلماء على أن من قال« :ال إله إالَّ اهلل» ،ول يعتقد معناها ول
يعمل مبقتضاها ،أنه يقاتل حىت يعمل مبا دلت عليه من النفي واإلثبات.
قال أبو سليمان اْلطايب رمحه اهلل يف قوله« :أمرت أن أقاتل الناس حىت
يقولوا ال إله إالَّ اهلل» :معلوم أن املراد هبذا أهل عبادة األوثان ،دون أهل
الكتاب ،ألهنم يقولون« :ال إله إالَّ اهلل» مث يقاتلون وال يرفع عنهم السيف.
وقال القاضي عياض :اختصاص عصمة املال والنفس مبن قال« :ال إله إالَّ
اهلل» تعبري عن اإلجابة إىل اإلميان ،وأن املراد بذلك مشركو العرب وأهل األوثان،
فأما غريهم ممن يقر بالتوحيد ،فال يكتفى يف عصمته بقول« :ال إله إالَّ اهلل» إذ
ملخصا.
ً كان يقوهلا يف كفره .انتهى
وقال النووي :ال بد مع هذا من اإلميان جبميع ما جاء به الرسول كما
جاء يف الرواية «ويؤمنوا يب ومبا جئت به».
وقال شيخ اإلسالم ،ملا سئل عن قتال التتار فقال :كل طائفة ممتنعة عن
التزام شرائع اإلسالم الظاهرة من هؤالء القوم أو غريهم فإنه جيب قتاهلم حىت
يلتزموا شرائعه ،وإن كانوا مع ذلك ناطقني بالشهادتني وملتزمني ببعض شرائعه،
كما قاتل أبو بكر والصحابة مانعي الزكاة ،وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم.
قال :فأميا طائفة امتنعت عن بعض الصلوات املفروضات ،أو الصيام ،أو
احلج ،أو عن التزام حترمي الدماء ،أو األموال أو اْلمر أو امليسر أو ،نكاح ذوات
احملارم ،أو عن التزام جهاد الكفار ،أو غري ذلك من التزام واجبات الدين
وحمرماته اليت ال عذر ألحد يف جحودها أو تركها ،اليت يكفر
الـواحد جبحودها ،فإن الطـائفة املمتنعة تـقاتل عليها ،وإن كـانت مقرة
-356-
هبا ،وهذا مما ال أعلم فيه خالفًا بني العلماء .قال :وهؤالء عند احملققني
()1
ليسوا مبنزلة البغاة ،بل هم خارجون عن اإلسالم .انتهى» .
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى:
«اعلم وفَّقنا اهلل وإياك لإلميان باهلل ورسوله :أن اهلل سبحانه قال يف كتابه:
ني َحْيث َو َج ُّ ِ
احصروه ْم َواقْـعدواْ َهل ْم ك َّلدَتوه ْم َوخذوه ْم َو ْ ﴿فَاقْـتـلواْ الْم ْش ِرك َ
الزَكا َة فَ َخلُّواْ َسبِيلَه ْم﴾
الصالََة َوآتَـواْ َّ
َّ صد فَِإن تَابواْ َوأَقَامواْ َم ْر َ
[التوبة.]6 :
فتأمل هذا الكالم :أن اهلل أمر بقتلهم وحصرهم ،والقعود هلم كل مرصد،
أيضا فقد قال : إىل أن يتوبوا من الشرك ،ويقيموا الصالة ،ويؤتوا الزكاة ،و ً
حممدا رسول اهلل، «أمرت أن أقاتل الناس حىت يشهدوا أال إله إالَّ اهلل ،وأن ً
ويقيموا الصالة ،ويؤتوا الزكاة ،فإذا فعلوا ذلك عصموا من دماءهم وأمواهلم ،إالَّ
حبق اإلسالم ،وحساهبم على اهلل تعاىل».
فهذا كالم رسوله ،وقد أمجع العلماء عليه من كل مذهب ،وخالف
ذلك من هؤالء اجلهال ،الذين يسمون العلماء ،فقالوا :من قال ال إله إالَّ اهلل،
فهو املسلم حرام الدم واملال ،وقد َّبني النيب اإلسالم من حديث جربيل -ملا
سأله عن اإلسالم -فقال« :اإلسالم أن تشهد أن ال إله إالَّ اهلل ،وأن ً
حممدا
رسول اهلل ،وتقيم الصالة ،وتؤيت الزكاة ،وتصوم رمضان ،وحتج البيت إن
استطعت إليه سبيالً» فهذا تفسري رسول اهلل .
وهؤالء يقولون :إن البدو إسالم ،ألهنم يقولون :ال إله إالَّ اهلل ،فمن مسع
كالمهم ،ومسع كالم رسول اهلل فال بد له من أحد أمرين ،إما أن يصدق اهلل
ورسوله ،ويتربأ منهم ويكذهبم ،وإما أن يصدقهم ،ويكذب اهلل ورسوله ،فنعوذ
باهلل من ذلك ،واهلل أعلم....
-355-
أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى: وقال ا
الذي أقروا أن التوحيد أكرب من كل كبري ،واختلفوا هل نقاتل من ل يرتكه،
وإذا قال ال إله إالَّ اهلل وانتسب إىل امللة ،فحكم الكتاب بينهم بقوله تعاىل:
﴿ َوقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ تَكو َن فِْتـنَة َويَكو َن الدِّين كلُّه لِليه﴾ [األنفال ،]31 :وقال
َو َج ُّ ِ
دَتوه ْم﴾ َحْيث الْم ْش ِرك َ
ني ﴿فَاقْـتـلواْ تعاىل: اهلل
()1
[التوبة. »]6 :
وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل رحمهما اهلل تعالى ،مبيناا سبب قتال
المشركين في أثناء شرحه على كتاب التوحيد:
قوله« :من قال ال إله إال اهلل ،وكفر مبا يعبد من دون اهلل» ،اعلم أن النيب
يف هذا احلديث علق عصمة واملال والدم بأمرين:
األول :قول ال إله إالَّ اهلل.
الثاي :الكفر مبا يعبد من دون اهلل ،فلم يكتف باللفظ اجملرد عن املعى ،بل
ال بد من قوهلا والعمل هبا.
قلت :وقد أمجع العلماء على معى ذلك ،فال بد يف العصمة من اإلتيان
بالتوحيد ،والتزام أحكامه ،وترك الشرك ،كما قال تعاىلَ ﴿ :وقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ
تَكو َن فِْتـنَة َويَكو َن الدِّين كلُّه لِليه﴾ [األنفال ،]31 :والفتنة هنا :الشرك ،فدل
ِ ِ
على أنه إذا وجد الشرك ،فالقتال باق حباله كما قال تعاىلَ ﴿ :وقَاتلواْ الْم ْش ِرك َ
ني
َكآفَّةً َك َما يـ َقاتِلونَك ْم َكآفَّةً﴾ [األنفال.]31 :
ني َحْيث َو َج ُّ ِ ِ
دَتوه ْم احلرم فَاقْـتـلواْ الْم ْش ِرك َانسلَ َخ األَ ْشهر ْ وقال تعاىل﴿ :فَإ َذا َ
الزَكا َة صد فَِإن تَابواْ َوأَقَامواْ َّ
الصالََة َوآتَـواْ َّ احصروه ْم َواقْـعدواْ َهل ْم ك َّل َم ْر ََوخذوه ْم َو ْ
فَ َخلُّواْ َسبِيلَه ْم﴾ [التوبة.]6 :
فأمر بقتاهلم على فعل التـوحيد وتـرك الشـرك ،وإقامة شعائر الدين
-354-
الظاهر ،فإذا فعلوها خلي سبيلهم ،ومىت أبوا عن فعلها أو فعل شيء منها،
إمجاعا ،ولو قالوا :ال إله إالَّ اهلل.
فالقتال باق حباله ً
وكذلك النيب علَّق العصمة مبا علَّقها اهلل به يف كتابه كما يف هذا
مرفوعا« :أمرت أن أقاتل الناساحلديث .ويف «صحيح مسلم» ،عن أيب هريرة ً
حىت يشهدوا أن ال إله إالَّ اهلل ويؤمنوا يب ومبا جئت به ،فإذا فعلوا ذلك عصموا
من دماءهم وأمواهلم إالَّ حبقها وحساهبم على اهلل».
ويف «الصحيحني» عنه قال :ملا تويف رسول اهلل وكفر من كفر من العرب،
فقال عمر بن اْلطاب أليب بكر :كيف تقاتل الناس ،وقد قال رسول اهلل :
«أمرت أن اقتل الناس حىت يقولوا ال إله إالَّ اهلل ،فمن قال :ال إله إالَّ اهلل ،فقد
عصم من ماله ونفسه إالَّ حبقه وحسابه على اهلل»؟ ،فقال أبو بكر :واهلل ألقاتلن
من فرق بني الصالة والزكاة ،فإن الزكاة حق املال ،واهلل لو منعوي عقاالً كانوا
يؤدونه إىل رسول اهلل لقاتلتهم على منعه .فقال عمر بن اْلطاب :فواهلل ما
هو إالَّ أن رأيت اهلل قد شرح صدر أيب بكر للقتال ،فعرفت أنه احلق .لفظ
مسلم.
فانظر كيف فهم صدِّيق األمة أن النيب ل يرد جمرد اللفظ هبما من غري
إلزام ملعناها وأحكامها ،فكان ذلك هو الصواب ،واتفق عليه الصحابة ،ول
خيتلف فيه منهم اثنان إالَّ ما كان من عمر حىت رجع إىل احلق .وكان فهم
()1
الصديق هو املوافق لنصوص القرآن والسنة» .
-351-
ملخص مفيد ألهم مسائل وفوائد الباب الثاني
-351-
ـ مشركو العرب كان شركهم يف اإلهلية ،وأما مشركو هذا الزمان فكان يف
اإلهلية والربوبية.
ـ حكم الشيء تابع حلقيقته ،ال المسه ,وال العتقاد فاعله .فاملشرك مشرك
شاء أم أىب ،وإن فر من تسمية شركه :تأهلا ،وعبادة ،وشرًكا.
ـ إمنا حرم الشرك لقبحه يف نفسه ،وكونه متضمنًا :مسبة الرب ،وتنقصه،
وتشبيهه باملخلوقني ...وهذه املفاسد ال تزول بتغيري اسم الشرك.
ـ الغلو يف الصاحلني من أسباب املروق من الدين ،والكفر برب العاملني.
ـ الشرك قرين اجلهل ،والتوحيد قرين العلم.
ـ من جعل املالئكة واألنبياء وسائط ،يدعوهم ،ويتوكل عليهم ،ويسأهلم
جلب املنافع ،ودفع املضار ،فهو كافر بإمجا املسلمني.
ـ دين املشركني عباد األوثان قائم على إثبات وسائط بني اهلل وخلقه،
كالوسائط اليت تكون بني امللوك والرعية.
ـ لبس احللقة ،واْليط ،وحنومها بقصد رفع البالء أو دفعه ،هو من فعل
اجلاهلية.
ـ تعليق التمائم غري جائز ،ولو كانت من القرآن.
ـ التربك بقبور الصاحلني كالتربك بالالت ،والتربك باألحجار واألشجار
بالعزى ومناة.
كالتربك ي
ـ السحر عمل شيطاي ،وكثري منه ال يتوصل إليه إال بالشرك ،والتقرب إىل
األرواح اْلبيثة.
ـ الكهانة شرك ،من ادعاها ،أو صدق من يدعيها ،فقد جعل هلل شري ًكا
فيما هو من خصائصه.
-345-
ـ التطري من جنس الشرك ،لكونه تعلُّق على غري اهلل.
ـ التنجيم كفر برب العاملني.
ـ االستسقاء باألنواء من جنس الشرك.
ـ جيب االبتعاد ،واحلذر من كل لفظ فيه سوء أدب مع اهلل ،ألن هذا خيل
بالعقيدة ،وينق التوحيد.
ـ اتفق العلماء :على املنع من التمسح حبجرة النيب ،وعدم تقبيلها.
ـ شرار اْللق عند اهلل :من يتخذون القبور مساجد ،وهو من سنن اليهود
والنصارى ،ومن أعظم أسباب الشرك ،وموجبات اللعنة من اهلل تعاىل.
ـ هنى النيب عن :جتصي القبور ،والبناء عليها ،والكتابة.
ـ أمجع العلماء :على حرمة البناء على القبور ،ووجوب هدمه.
ـ التوجه بذات املخلوقني يف الدعاء ،واإلقسام هبم على اهلل بدعة منكرة،
وحمدثة يف الدين.
ـ شفاعة النيب ألهل الذنوب -دون الشرك األكرب -من أمته ،متفق
عليها بني عامة األمة ،ول ينكرها إال أهل البد .
ـ املشركون حمرومون من الشفاعة باإلمجا .
ـ أسعد الناس بالشفاعة :أهل التوحيد اجملرد من تعلقات الشرك ،وشوائبه.
ـ عبدت األصنام بواسطة الشفاعة الشركية.
ـ الفرق بني الشفاعة املثبتة يف القرآن والشفاعة املنفية فيه ،كالفرق بني
التوحيد والشرك ،واإلميان والكفر.
ـ من دعا غري اهلل -فيما ال يقدر عليه إال اهلل -فهو مشرك كافر ،وإن ل
يقصد إال جمرد التقرب إىل اهلل ،وطلب الشفاعة عنده.
-349-
ـ املشرك أخل بكل شروط «ال إله إال اهلل» إال جمرد التلفظ هبا.
ـ الشرك حيبط كل قول وعمل ،ويبطله ،ويضاد اإلميان بالكلية ،وذلك ثابت
بالكتاب والسنة واإلمجا .
ـ يأىب اهلل ،ورسوله واملؤمنون أن يقال :بإسالم عباد القبور.
ـ من جعل بينه وبني اهلل وسائط يدعوهم ،ويتوكل عليهم ،ويسأهلم ،كفر
إمجاعا.
ً
ـ املشركون خمطئون ومتأولون ،إال أهنم ل يعذروا باْلطأ وال بالتأويل.
ـ أمجع العلماء :على كفر من عبد غري اهلل ،ولو نطق بالشهادتني ،وصلى،
وصام.
ـ الشرك :أعظم أنوا الكفر ،ويعني فاعله به ،ويستتاب فإن تاب وإال قتل.
ـ املشرك ال تصح إمامته ،وال صالته ،وال جيوز للمسلم أن يصلي خلفه.
ـ مواالة املسلمني ،والرباءة من املشركني ،ركن من أركان هذا الدين.
ـ مواالة املشركني ردة عن الدين ،وكفر برب العاملني.
ـ جيب قتال املشركني حىت يتوبوا من الشرك إىل التوحيد ،ويلتزموا بأحكام
إمجاعا.
اإلسالم ،فإن أبوا عن ذلك ،أو بعضه قوتلوا ً
ـ أمجع العلماء على أن من قال« :ال إله إال اهلل» ،ول يعتقد معناها ،ول
يعمل مبقتضاها ،أنه يقاتل حىت يعمل مبا دليت عليه من النفي واإلثبات.
ـ كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع اإلسالم الظاهرة املتواترة ،فإنه جيب قتاهلا
حىت تلتزم تلك الشرائع ،وإن كانت ناطقة بالشهادتني ،وملتزمة ببقية الشرائع،
وهذا بغري خالف بني العلماء.
-342-
الباب الثالث
األحكام المترتبة
على مفهوم التوحيد والشرك
-343-
-344-
الفصل األول
شروط عصمة الدم والمال
املبحث األول :شروط عصمة الدم واملال بني أهل السنة ،واملرجئة
واْلوارج.
اجملرد عن املعى ال يدخل صاحبه يف اإلسالم ،ومن املبحث الثاي :اللفظ َّ
مشروعا حىت اإلتيان بالتوحيد مع
ً َمثَّ كان قتال املشركني
إمجاعا.
االخنال من الشرك ً
املبحث الثالث :اقرتان النطق بالشهادتني مع فعل الشرك ،ال أثر له.
املبحث الرابع :من أتى بالتوحيد ،ول يأت مبا ينافيه ،والتزم شرائع
اإلسالم ،وجب الكف عنه ،واحلكم له باإلسالم يف الظاهر،
واهلل َّ
يتوىل السرائر.
-346-
-345-
المبحث األول
شروط عصمة الدم والمال
بين أهل السنة ،والمرجئة والخوارج
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن:
«فال إله إالَّ اهلل ،هي :كلمة اإلسالم ،ال يصح إسالم أحد إالَّ مبعرفة ما
وضعت له ،ودلَّت عليه ،وقَبوله ،واالنقياد للعمل به ،وهي :كلمة اإلخالص
املنايف للشرك ،وكلمة التقوى ،اليت تقي قائلها من الشرك باهلل ،فال تنفع قائلها
إالَّ بشروط سبعة:
األول :العلم مبعناها ،نفيًا وإثباتًا.
الثاني :اليقني ،وهو كمال العلم هبا ،املنايف للشك والريب.
الثالث :اإلخالص املنايف للشرك.
الرابع :الصدق املانع من النفاق.
الخامس :احملبة هلذه الكلمة وملا دلَّت عليه ،والسرور بذلك.
القبول املنايف للرد ،فقد يقوهلا من يعرفها ،لكن ال يقبلها ممن السادسَ :
وتكربا ،كما قد وقع من كثري. دعاه إليها تعصبًا ً
إخالصا ،وطلبًا ً السابع :االنقياد حبقوقها ،وهي :األعمال الواجبة
()1
ملرضاته» .
وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل يف شرحه على كتاب التوحيد:
«إن النطق بكلميت الشهادة دليل العصمة ال أنه عصمة ،أو يقال :هو
ين َآمنواْ إِ َذا َّ ِ
العـصمة لكن بشرط العمل ،يدل على ذلك قوله تعاىل﴿ :يَا أَيُّـ َها الذ َ
-344-
ضَربْـت ْم ِيف َسبِ ِيل اللي ِه فَـتَبَـيَّـنواْ[ ﴾...النساء ،]14 :ولو كان النطق
َ
عاصما ل يكن للتثبت معى ،يدل على ذلك قوله تعاىل ﴿ :فِإ ْن ً بالشهادتني
تابوا ﴾ [التوبة ،]99 :أي :عن الشرك وفعلوا التوحيد ﴿ وأقاموا الصالة وآتـوا
الزكاة فخلوا سبِيله ْم ﴾ [التوبة ،]6 :فدل على أن القتال يكون على هذه
مسلما،
األمور ،وفيه أن هلل تعاىل حقوقًا يف اإلسالم من ل يأت هبا ل يكن ً
()1
كإخالص العبادة له والكفر مبا يعبد من دونه» .
وشارحا شروط الشهادتني:
ً وقال الشيخ عبد الرمحن اجلربين ،مبينًا
«ذكر العلماء لكلمة اإلخالص سبعة شروط ،نَظَ َمها بعضهم بقوله:
محبة وانقياد والقبول لها علم يقين وإخالص وصدقك مع
وهذه الشروط مأخوذة باالستقراء والتتبع لألدلة من الكتاب والسنة ،وقد
أضاف بعضهم إليها شرطًا ثامنًا ،ونظمه بقوله:
سوى اإلله من األنداد قد ألها وزيد ثامنها الكفران منك بما
وأخذ هذا الشرط من قوله « :من قال ال إله إالَّ اهلل ،وكفر مبا يعبد من
دون اهلل حرم ماله ودمه» رواه مسلم.
وذكره الشيخ حممد بن عبد الوهاب يف كتاب التوحيد مث قال بعده :وهذا
عاصما للدم
ً يبني معى ال إله إالَّ اهلل ،فإنه ل جيعل التلفظ هبا
من أعظم ما ِّ
واملال ،بل وال معرفة معناها مع لفظها ،بل وال اإلقرار بذلك ،بل وال كونه ال
يدعو إالَّ اهلل وحده ال شريك له ،بل ال حيرم ماله ودمه حىت يضيف إىل ذلك
الكفر مبا يعبد من دون اهلل فإن شك أو تردد ل حيرم ماله ودمه ...إخل.
ومعى هذا الشرط :أن يعـتقد بطالن عبادة من سوى اهلل ،وأن كل من
-341-
صرف شيئًا من خال حق اهلل لغريه فهو ضال مشرك ،وأن كل املعبودات
سوى اهلل من قبور وبقا وغريها ،نشأت من جهل املشركني وخرافاهتم ،فمن
تردد يف صواهبم ،أو شك يف بطالن ما هم عليه فليس أقرهم على ذلك ،أو َّ َّ
()1
مبوحد ،ولو قال :ال إله إالَّ اهلل ،ولو ل يعبد غري اهلل» .
ِّ
-341-
المبحث الثاني
اللفظ المجرد عن المعنى ل يدخل صاحبه في اإلسالم
مشروعا حتى اإلتيان بالتوحيد
ا ومن ثم كان قتال المشركين
إجماعا
ا مع النخالع من الشرك
اللفظ اجملرد عن املعى ال يدخل صاحبه يف اإلسالم ،إالَّ عند من ورثوا :إرث
أعىت فرق اإلرجاء ،وأما الذين هنلوا من معني السلف ،وانتهجوا هنجهم :قوالً،
تقرر لديهم أن اإلميان والتوحيد ،قول وعمل ،ومن مث فمن اعتقادا ،فقد َّ
وعمالً و ً
مسلما وال مؤمنًا .ولقد
أتى بالقول يف أي واحد منهما دون العمل فال يكون ً
انعقد اإلمجا على وجوب اإلتيان بالتوحيد ،مع االخنال من الشرك ،والرباءة
منه ،ومن أهله حىت تتحقق عصمة الدم واملال ،وتلك هي غاية قتال املسلمني
للمشركني يدور معها حيث دارت.
قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى:
قال اإلمام حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل« :وجمرد اإلتيان بلفظ
مسلما،
الشهادة من غري علم مبعناها ،وال عمل مبقتضاها ،ال يكون به املكلف ً
لكرامية
بل هو حجة على ابن آدم ،خالفًا ملن زعم :أن اإلميان جمرد اإلقرار ،كا َّ
()1
وجمرد التصديق كاجلهمية» .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى :وقرر
اإلمام محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى:
جمرد اإلتيان بلفظ الشهادة مع خمالفة ما دلت عليه من األصول املقررة، «أن َّ
ومع الشرك األكـرب يف العبـادة ال يـدخل املكلف يف اإلسالم .إذ
-315-
()1
املقصود من الشهادتني :حقيقة األعمال اليت ال يقوم اإلميان بدوهنا» .
وقال الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل يف كتابه التوحيد،
وحفيده الشيخ عبد الرمحن بن حسن رمحهما اهلل يف شرحه عليه:
ويف الصحيح عن النيب أنه قال« :من قال ال إله إالَّ اهلل ،وكفر مبا يعبد
من دون اهلل ،حرم ماله ودمه وحسابه على اهلل عز وجل».
وشرح هذه الرتمجة :وما بعدها من األبواب.
[الشرح]
قوله« :من قال ال إله إالَّ اهلل وكفر مبا يعبد من دون اهلل» اعلم أن النيب
علق عصمة املال والدم يف هذا احلديث بأمرين:
األول :قول «ال إله إالَّ اهلل» عن علم ويقني ،كما هو قيد يف قوهلا يف غري
ما حديث كما تقدم.
والثاني :الكفر مبا يعبد من دون اهلل ،فلم يكتف باللفظ اجملرد عن املعى،
بل ال بد من قوهلا والعمل هبا.
ِ ِ ِ ِ
ك قلت :وفيه معى﴿ :فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ
استَ ْم َس َ
ِ ِ
ص َام َهلَا﴾ [البقرة.]265 : بِالْع ْرَوة الْوثْـ َق َى الَ انف َ
قال املصنف رمحه اهلل تعاىل :وهذا من أعظم ما يبني معى ال إله إالَّ اهلل،
عاصما للدم واملال ،بل وال معرفة معناها مع لفظها ،بل ً فإنه ل جيعل التلفظ هبا
وال اإلقرار بذلك ،بل وال كونه ال يدعو إالَّ اهلل وحده ال شريك له ،بل ال حيرم
ماله ودمه حىت يضيف إىل ذلك الكفر مبا يعبد من دون اهلل ،فإن شك أو تردد
ل حيرم ماله ودمه ،فيا هلا من مسألة ما أجلها ويا له من بيان ما أوضحه،
وحجة ما أقطعها للمناز » .انتهى.
-319-
قلت :وهذا هو الشرط املصحح لقوله «ال إله إالَّ اهلل» فال يصح قوهلا بدون
هذه اْلمس اليت ذكرها املصنف رمحه اهلل أصالً ،قال تعاىلَ ﴿ :وقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ
ِ ِ ِ
تَكو َن فْتـنَة َويَكو َن الدِّين كلُّه لليه﴾ [األنفال ،]31 :وقال﴿ :فَاقْـتـلواْ الْم ْش ِرك َ
ني
صد فَِإن تَابواْ َوأَقَامواْ احصروه ْم َواقْـعدواْ َهل ْم ك َّل َم ْر َ
دَتوه ْم َوخذوه ْم َو ْ َحْيث َو َج ُّ
الزَكا َة فَ َخلُّواْ َسبِيلَه ْم﴾ [التوبة ،]6 :أمر بقاتلهم حىت يتوبوا من الصالََة َوآتَـواْ َّ
َّ
الشرك وخيلصوا أعماهلم هلل تعاىل ،ويقيموا الصالة ،ويؤتوا الزكاة فإن أبوا عن
إمجاعا...
ذلك أو بعضه قوتلوا ً
قوله« :وحسابه على اهلل» ،أي :اهلل تبارك وتعاىل هو الذي يتوىل حساب
الذي يشهد بلسانه هبذه الشهادة ،فإن كان صادقًا جازاه جبنات النعيم ،وإن
منافقا عذبه العذاب األليم .وأما يف الدنيا فاحلكم على الظاهر ،فمن أتى كان ً
ظاهرا والتزم شرائع اإلسالم وجب الكف عنه. بالتوحيد ول يأت مبا ينافيه ً
قلت :وأفاد احلديث أن اإلنسان قد يقول «ال إله إالَّ اهلل» وال يكفر مبا
يعبد من دون اهلل فلم يأت مبا يعصم دمه وماله ،كما دل على ذلك اآليات
()1
احملكمات واألحاديث» .
وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل في شرحه على كتاب التوحيد:
قوله« :من قال ال إله إالَّ اهلل وكفر مبا يعبد من دون اهلل» .اعلم أن النيب
يف هذا احلديث علق عصمة املال والدم بأمرين:
األول :قول ال إله إالَّ اهلل.
والثاني :الكفر مبا يعبد من دون اهلل.
فلم يكتف باللفظ جملرد عن املعى ،بل ال بد من قوهلا والعمل هبا.
قلت :وقد أمجع العلماء على معى ذلك فال بد يف العصمة من اإلتيان
بالتوحيد ،والتزام أحكامه ،وترك الشرك كما قال تعاىلَ ﴿ :وقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ
-312-
تَكو َن فِْتـنَة َويَكو َن الدِّين كلُّه لِليه﴾ [األنفال...]31 :
وقد أمجع العلماء :على أن من قال ال إله إالَّ اهلل ،وهو مشرك أنه يقاتل
()1
حىت يأيت بالتوحيد» .
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن ،رحمه اهلل ،عمن يقول :ل إله إل
اهلل ،ويدعو غير اهلل ،هل يحرم ماله ودمه ،بمجرد قولها ،أم ل؟
فأجاب :ال إله إالَّ اهلل كلمة اإلخالص ،وكلمة التقوى ،والعروة الوثقى،
وهي احلنيفية ملة إبراهيم ،جعلها كلمة باقية يف عقبه ،وقد تضمنت ثبوت
اإلهلية هلل تعاىل ،ونفيها عما سواه ،واإلله هو :الذي تأهله القلوب ،حمبة وإنابة
وتوكالً ،واستعانة ودعاء ،وخوفًا ورجاء ،وحنو ذلك...
فمن حتقق مبدلول هذه الكلمة العظيمة ،من إخالص العبادة هلل تعاىل،
والرباءة من عبادة ما سواه؛ باجلَنان واألركان ،وعمل مبا اقتضته من فرائض
اإلسالم واإلميان ،كان معصوم الدم واملال ،ومن ال ،فال.
الزَكا َة فَ َخلُّواْ َسبِيلَه ْم﴾ قال اهلل تعاىل﴿ :فَِإن تَابواْ َوأَقَامواْ َّ
الصالََة َوآتَـواْ َّ
[التوبة ،]6 :فدلت هذه اآلية الكرمية ،على أن عصمة الدم واملال ،ال حتصل
()2
بدون هذه الثالث ،لرتتبها عليها ترتب اجلزاء على الشرط» .
وقال بعض علماء جند :فال يعصم دم العبد وماله حىت يأيت هبذين األمرين:
األول :قول ال إله إالَّ اهلل ،واملراد :معناها ،ال جمرد لفظها ،ومعناها :هو
توحيد اهلل جبميع أنوا العبادة.
األمر الثاني :الكفر مبا يعبد من دون اهلل ،واملراد بذلك :تكفري املشركني
()3
والرباءة منهم ،ومما يعبدون مع اهلل» .
-313-
المبحث الثالث
اقتران النطق بالشهادتين مع فعل الشرك ،ل أثر له
من نطق بالشهادتني وهو مقيم على شركه ،أو وقع فيه بعد تلفظه بكلمة
التوحيد فال عصمة لدمه وماله ،وإن صلَّى وصام ،وزعم اإلسالم واإلميان...
ألن ما قام به من الشرك يناقض ما تكلَّم به من كلمة التوحيد ،وألنه تكلم
دل عليه.
مبا ل يعمل به ،ول يعتقد ما ي
قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر:
«وأما املسألة الثانية ،فقالوا :من قال ال إله إالَّ اهلل حممد رسول اهلل ،ول
مومنا؟
يصل ،ول يزك ،هل يكون ً
فنقول :أما من قال ال إله إالَّ اهلل حممد رسول اهلل ،وهو مقيم على شركه،
يدعو املوتى ،ويسأهلم قضاء احلاجات ،وتفريج الكربات ،فهذا كافر مشرك،
حالل الدم واملال ،وإن قال :ال إله إالَّ اهلل حممد رسول اهلل ،وصلَّى وصام ،وزعم
أنه مسلم ،كما تقدم بيانه.
وحد اهلل تعاىل ،ول يشرك به ،ولكنه ترك الصالة ،ومنع الزكاة ،فإن
وأما :إن َّ
إمجاعا ،وأما إن اقر بالوجوب ،ولكنه ترك
جاحدا للوجوب ،فهو كافر ً ً كان
()1
الصالة تكاسالً عنها ،فهذا قد اختلف العلماء يف كفره» .
-314-
هبم ،وغري ذلك من أسباب الردة عن اإلسالم .وهذا التفريق بني املنتسبني
إىل اإلسالم أمر معلوم باألدلة من الكتاب والسنة وإمجا سلف األمة
()1
وأئمتها» .
وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه اهلل تعالى:
«فاملقصود من ال إله إالَّ اهلل :الرباءة من الشرك وعبادة غري اهلل؛ ومشركو
العرب يعرفون املراد منها ،ألهنم أهل اللسان؛ فإذا قال أحدهم :ال إله إالَّ اهلل،
فقد تربأ من الشرك ،وعبادة غري اهلل .فلو قال :ال إله إالَّ اهلل ،وهو مصر على
عبادة غري اهلل ،ل تعصمه هذه ،لقوله تعاىلَ ﴿ :وقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ تَكو َن فِْتـنَة﴾،
الدين كلُّه لِليه﴾ [األنفال ،]31 :وقوله﴿ :فَاقْـتـلواْ أي :شركَ ﴿ .ويَكو َن ِّ
ني﴾ إىل قوله﴿ :فَِإن تَابواْ﴾ ،أي :عن الشرك ﴿ َوأَقَامواْ َّ ِ
الصالََة َوآتَـواْ الْم ْش ِرك َ
الزَكا َة فَ َخلُّواْ َسبِيلَه ْم﴾ [التوبة.]6 :
َّ
وقال النيب « :بعثت بالسيف بني يدي الساعة ،حىت يعبد اهلل وحده ال
شريك له» .وهذا معى قوله تعاىلَ ﴿ :وقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ تَكو َن فِْتـنَة َويَكو َن الدِّين
كلُّه لِليه﴾ ،أي الطاعة والعبادة (هلل) [البقرة .]913 :وهذا معى ال إله إالَّ اهلل،
نسأل اهلل أن جيعلها آخر كالمنا؛ وصلَّى اهلل على عبده ورسوله حممد ،وعلى آله
()2
كثريا إىل يوم الدين» . تسليما ً
وصحبه ،وسلم ً
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى:
«إن التهليل إذا صدر من املشرك ،حال استمراره على شركه غري معترب،
ملتزما ملقتضاه كما قال تعاىل: فوجوده كعدمه ،وإمنا ينفع إذا قاله :عاملًا مبعناهً ،
احلَ ِّق َوه ْم يَـ ْعلَمو َن﴾ [الزخرف .]15 :قال ابن جرير كغريه: ﴿إَِّال َمن َش ِه َد بِ ْ
()3
وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به» .
-316-
المبحث الرابع
من أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه والتزم شرائع اإلسالم
وجب الكف عنه واحلكم له باإلسالم يف الظاهر واهلل يتوىل السرائر
اعتقادا وقوالً
علما و ً
ال يصح اإلسالم ألحد ،حىت يقوم بكلمة التوحيدً :
وعمالً ،وحيقق الوالء ألهلها ،والرباءة من أعدائها.
نقرر مع هذا ونؤكد :أن من أتى بالتوحيد ،ول يأت مبا ينافيه ،والتزم
ولكننا ِّ
شرائع اإلسالم ،وجب الكف عنه ،واحلكم له باإلسالم يف الظاهر ،واهلل يتويل
السرائر ،فإذا قام به ناقض من نواقض الشهادتني ،ارتد بذلك ،وارتفعت عنه
العصمة بالكلية.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى:
«ال يصح ألحد إسالم ،إالَّ مبعرفة مادلَّت عليه هذه الكلمة من :نفي
الشرك يف العبادة ،والرباءة منه ،وممن فعله ،ومعاداته ،وإخالص العبادة هلل وحده
()1
ال شريك له ،واملواالة يف ذلك» .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى:
«وأهل العلم واإلميان ال خيتلفون يف أن من صدر منه :قول ،أو فعل يقتضي
كفره ،أو شركه ،أو فسقه ،أنه حيكم عليه مبقتضى ذلك ،وإن كان ممن يقر
بالشهادتني ويأيت ببعض األركان.
وإمنا يكف عن الكافر األصلي إذا أتى هبما ،ول يتبني منه خالفهما،
()2
ومناقضتهما» .
-315-
وقال بعض علماء جند:
«ومعى ال إله إالَّ اهلل :توحيده يف عبادته مع التربي من كل معبود سواه
كما أخرب اهلل عن نبيه إبراهيم بقوله تعاىل ﴿ :إِنَِّن بَـَراء ِّممَّا تَـ ْعبدو َن * إَِّال
الَّ ِذي فَطََرِي﴾ [الزخرف....]24 ،25 :
وقال « :من قال ال إله إالَّ اهلل وكفر مبا يعبد من دونه حرم ماله ودمه
وحسابه على اهلل» رواه مسلم.
فحينئذ من ال يكفر بكل معبود سوى اهلل ال حيرم دمه وماله ،وال يكون
مسلما مبجرد التلفظ بال إله إالَّ اهلل إالَّ إذا أضاف إليها الكفر مبا يعبد من دون ً
اهلل ،وال مبعرفة معناها مع التلفظ هبا ،بل وال كونه ال يدعو إالَّ اهلل ،ول يكفر مبا
مسلما بذلك فال حيرم ماله ودمه. يعبد من دون اهلل ،ل يكن ً
فهذا أصل ال مرية فيما تضمنه وال شك فيه ،وأنه ال يتم إميان أحد حىت
يعلمه ويعمل له.
فإن قيل :قد أنكر على أسامة :قتله ملن قال ال إله إالَّ اهلل؟
فاجلواب :أنه ال شك أن من قال ال إله إالَّ اهلل من الكفار ،حقن دمه وماله
ين َآمنواْ َّ ِ
حىت يتبني منه ما خيالف ما قاله ،ولذا أنزل اهلل يف قصته﴿ .يَا أَيُّـ َها الذ َ
ضَربْـت ْم ِيف َسبِ ِيل اللي ِه فَـتَبَـيَّـنواْ﴾ اآلية [النساء.]14 :
إِ َذا َ
فإن تبني التزامه ملعناها ،وهو :إفراد اإلهلية والعبودية هلل تعاىل ،كان له ما
للمسلمني وعليه ما عليهم.
تبني خالفه ل حيقن مبجرد التلفظ ماله ودمه ،وهكذا كل من أظهر وإن َّ
()1
التوحيد ،وجب الكف عنه ،إىل أن يتبني منه ما خيالف ذلك» .
-314-
-311-
الفصل الثاني
حكم الشك في كفر الكافر ،وصوره.
املبحث األول :تكفري املشركني املستند إىل الربهان والدليل ،من أعظم
دعائم الدين.
املبحث الثاي :حكم الشك يف كفر الكافر ،وصوره ومناطاته ،وبأدىن نظر
فيها جند أهنا ليست على رتبة واحدة ،وحكم واحد مطرد
فيها.
املبحث الثالث :مىت يعذر الشاك يف كفر الكافر حىت تقام عليه احلجة،
وتبني له األدلة؟!
املبحث الرابع :عدم تكفري املشركني ،أو الشك يف كفرهم ،يوجب اجلهاد
ألهله.
-311-
-315-
المبحث األول
تكفير المشركين المستند إلى البرهان والدليل
من أعظم دعائم الدين
إن تكفري املشركني ،املستند إىل الربهان والدليل من :كتاب اهلل تعاىل ،وسنة
نبيه من أعظم دعائم الدين.
فيه ينقمع الشرك واملشركني ،وتعلو وجتلو :أعظم أصول امللة املتمثلة يف:
الكفر بالطاغوت ،والرباءة من الشرك وأهله.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في معرض الحديث عن متى
يصح التكفير ،ومتى ل يصح:
«وأما إن كان :املكفِّر ألحد من هذه األمة ،يستند يف تكفريه له إىل ن
احا ،كالشرك باهلل ،وعبادة كفرا بو ً
وبرهان ،من كتاب اهلل وسنة نبيه ،وقد رأى ً
ما سواه ،واالستهزاء به تعاىل ،أو بآياته ،أو رسله ،أو تكذيبهم ،أو كراهة ما
أنزل اهلل من اهلدى ودين احلق ،أو جحد صفات اهلل تعاىل ونعوت جالله ،وحنو
ذلك ،فاملكفر هبذا وأمثاله ،مصيب مأجور ،مطيع هلل ورسوله ....والتكفري:
برتك هذه األصول ،وعدم اإلميان هبا ،من أعظم دعائم الدين ،يعرفه كل من
()1
كانت له هنمة ،يف معرفة دين اإلسالم .
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى:
«ومعى الكفر بالطاغوت :أن تربأ من كل ما يعتقد فيه غري اهلل ،من جن،
أو إنسي ،أو شجر أو حجر ،أو غري ذلك ،وتشهد عليه بالكفر والضالل،
وتبغضه ،ولو كان أنه أبوك ،أو أخوك ،فأمـا من قال :أنـا ال أعـبد إالَّ
-319-
اهلل ،وأنا ال أتعرض السادة والقباب على القبور ،وأمثال ذلك ،فهذا كاذب
()1
يف قول ال إله إالَّ اهلل ،ول يؤمن باهلل ول يكفر بالطاغوت» .
أيضا رحمه اهلل تعالى: وقال ا
من اهلل عليه باإلسالم ،وعرف أن ما من إله إالَّ اهلل ،ال تظن «وأنت يا من َّ
أنك إذا قلت :هذا هو احلق ،وأنا تارك ما سواه ،لكن ال أتعرض للمشركني ،وال
أقول فيهم شيئًا ،ال تظن أن ذلك حيصل لك به الدخول يف اإلسالم ،بل :ال بد
من بغضهم ،وبغض من حيبهم ،ومسبَّتهم ،ومعاداهتم ،كما قال أبوك إبراهيم،
والذين معه﴿ :إِنَّا بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ
ون اللَّ ِه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا بَـْيـنَـنَا ْ َ ْ َ
ِ َّ ِ ِ
ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤمنوا بالله َو ْح َده﴾ [املمتحنة ،]4 :وقال َوبَـْيـنَكم الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ
ك بِالْع ْرَوةِ الْوثْـ َق َى﴾... ِ ِ ِ ِ
تعاىل﴿ :فَ َم ْن يَكْف ْر بِالطَّاغوت َويـ ْؤمن بِالليه فَـ َقد ْ
اسَت ْم َس َ
اآلية [البقرة ،]265 :وقال تعاىلَ ﴿ :ولََق ْد بَـ َعثْـنَا ِيف ك ِّل أ َّمة َّرسوالً أ َِن ْاعبدواْ
الليه و ِ
وت﴾ [النحل.]35 : اجتَنبواْ الطَّاغ َ ََ ْ
ولو يقول رجل :أنا ابتع النيب وهو على احلق ،لكن :ال أتعرض الالت،
()2
علي منه ،ل يصح إسالمه» . والعزى ،وال أتعرض أبا جهل وأمثاله ما َّ
وقال الشيخ حسين ،والشيخ عبد اهلل ،ابنا الشيخ محمد رحمهم اهلل
تعالى ،في أثناء جواب لهما ،المسألة الحادية عشرة:
رجل دخل هذا الدين وأحبه ،ولكن ال يعادي املشركني ،أو عاداهم ول
يكفرهم ،أو قال :أنا مسلم لكن ال اقدر أن أكفر أهل ال إله إالَّ اهلل ،ولو ل
يعرفوا معناها ،ورجل دخل هذا الدين وأحـبه ،ولكـن يقول :ال أتعرض
-312-
للقباب ،وأعلم أهنا ال تنفع وال تضر ،ولكن ما أتعرضها.
مسلما ،إالَّ إذا عرف التوحيد ،ودان به ،وعمل اجلواب :أن الرجل ال يكون ً
مبوجبه ،وصدق الرسول فيما أخرب به ،وأطاعه فيما هنى عنه ،وأمر به ،وآمن
به ومبا جاء به ،فمن قال :ال أعادي املشركني ،أو عاداهم ول يكفرهم ،أو قال
ال أتعرض أهل ال إله إالَّ اهلل ،ولو فعلوا الكفر والشرك وعادوا دين اهلل ،أو قال:
مسلما ،بل هو ممن قال اهلل فيهمَ ﴿ :ويقولو َن ال أتعرض للقباب ،فهذا ال يكون ً
َّخذواْ بـ ِ
ك هم ك َسبِيالً * أ ْولَـئِ َني َذل َ
َْ َ
نـ ْؤِمن بِبـعض ونَكْفر بِبـعض وي ِريدو َن أَن يـت ِ
َ َْ َ َْ َ
الْ َكافِرو َن َحقًّا﴾ [النساء. »]969 ،965 :
()1
-313-
المبحث الثاني
حكم الشك في كفر الكافر ،وصوره ومناطاته ،وبأدنى نظر فيها
نجد أنها ليست على رتبة واحدة ،وحكم واحد مطرد فيها
قال الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب رمحهما اهلل تعاىل يف نواقض
اإلسالم:
صحح مذهبهم «الثالث :من ل يكفر املشركني ،أو شك يف كفرهم ،أو َّ
()1
كفر» .
أيضا رحمه اهلل تعالى:
وقال ا
ردهتم ،فمنهم من كذب النيب ورجعوا إىل عبادة «إن املرتدين افرتقوا يف َّ
أقر
األوثان وقالوا :لو كان نبيًا ما مات؛ ومنهم من ثبت على الشهادتني ،ولكن َّ
بنبوة مسيلمة ،ظنًا أن النيب أشركه يف النبوة ،ألن مسيلمة أقام شهود زور
شهدوا له بذلك ،فصدقهم كثري من الناس .ومع هذا :أمجع العلماء أهنم
()2
مرتدُّون ولو جهلوا ذلك ،ومن شك يف ردهتم فهو كافر» .
أيضا رحمه اهلل:
وقال ا
«وما أحسن ما قاله واحد من البوادي ،ملا قدم علينا ،ومسع شيئًا من
اإلسالم ،قال :أشهد أننا كفار -يعن هو ومجيع البوادي -وأشهد أن املطو
()3
إسالما أنه كافر ،وصلَّى اهلل على سيدنا حممد» .
الذي يسمينا ً
وقال الشيخ أبو بطين رحمه اهلل تعالى:
«وقد أمجع املسلمون :على كفر من ل يكفر اليهود والنصارى ،أو شك
-314-
يف كفرهم ،وحنن نتيقن أن أكثرهم جهال.
سب الصحابة رضوان اهلل وقال الشيخ تقي الدين رمحه اهلل تعاىل :من َّ
احدا منهم ،واقرتن بسبه دعوى أن عليًا إله أو نيب ،أو أن جربائيل عليهم ،أو و ً
غلط ،فال شك يف كفر هذا ،بل ال شك يف كفر من توقف يف تكفريه.
قال :ومن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول اهلل ،إالَّ ً
نفرا قليالً ال
يبلغون بضعة عشر ،أو أهنم فسقوا ،فال ريب يف كفر قائل ذلك ،بل من شك
()1
يف كفره فهو كافر» .
وقال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب:
«قال شيخ اإلسالم ابن تيمية :قال حممد بن سحنون أحد األئمة من
أصحاب مالك :أمجع العلماء على أن شام الرسول كافر ،وحكمه عند األئمة
()2
القتل ،ومن شك يف كفره ،كفر» .
أيضا رمحه اهلل عن شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل تعاىل :كفر من ل ونقل ً
()3
يكفِّر من دان بغري اإلسالم ،أو شك يف كفرهم .اهـ.
أيضا رحمه اهلل تعالى:
وقال ا
وأما قول من يقول :إن تكلم بالشهادتني ما جيوز تكفريه ،وقائل هذا القول
البد أن يتناقض ،وال ميكنه طرد قوله ،يف مثل من أنكر البعث ،أو شك فيه مع
إتيانه بالشهادتني ،أو أنكر نبوة أحد من األنبياء الذين مسَّاهم اهلل يف كتابه ،أو
قال الزنا حالل ،أو حنو ذل ،فال أظن يتوقف يف كفر هؤالء وأمثاهلم إالَّ من
يكابر ويعاند...
-316-
فمن قال :إن التلفظ بالشهادتني ال يضر معهما شيء ،أو قال :من أتى
بالشهادتني وصلَّى وصام ال جيوز تكفريه ،وإن عبد غري اهلل ،فهو كافر ،ومن
شك يف كفره فهو كافر ،ألن قائل هذا القول مكذب هلل ورسوله؛ وإمجا
املسلمني كما قدمنا ،ونصوص الكتاب والسنَّة يف ذلك كثرية ،مع اإلمجا
القطعي ،الذي ال يسرتيب فيه من له أدىن نظر يف كالم العلماء ،لكن التقليد
واهلوى يعمي ويصمَ ﴿ ،وَمن َّلْ َْجي َع ِل اللَّه لَه ن ًورا فَ َما لَه ِمن نُّور﴾ [النور:
()1
. »]45
وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه اهلل تعالى:
«قال القاضي عياض يف كتابه الشفاء( :فصل يف بيان ما هو من املقاالت
صرحت بنفي البني يف هذا :أن كل مقالة َّ كفر) -إىل أن قال :-والفصل ِّ
الربوبية ،أو الوحدانية ،أو عبادة غري اهلل ،أو مع اهلل ،فهي كفر .إىل أن قال:
والذين اشركوا بعبادة األوثان ،أو أحد املالئكة ،أو الشياطني ،أو الشمس ،أو
النجوم ،أو النار ،أو أحد غري اهلل من :مشركي العرب ،أو أهل اهلند ،أو
صانعا سوى اهلل ،أو
السودان ،أو غريهم - .على أن قال :-أو أن مثي للعال ً
مدبِّـًرا ،فذلك كله كفر بإمجا املسلمني ،فانظر حكاية إمجا املسلمني على
كفر من عبد غري اهلل من املالئكة ،وغريهم ،وهذا ظاهر وهلل احلمد.
ونصوص القرآن يف ذلك كثرية ،فمن قال :إن من أتى بالشهادتني ،وصلَّى
وصام ال جيوز تكفريه ،أو عبد غري اهلل ،فهذا كافر ،ومن شك يف كفره فهو
()2
كافر -إىل أن قال ـ :على هذا القول :فهو مكذب هلل ولرسوله ولإلمجا
()3
القطعي» .
-315-
المبحث الثالث
متى يعذر الشاك في كفر الكافر
حتى تقام عليه الحجة ،وتبين له األدلة؟!
قال الشيخ اإلمام محمد بن عبد الوهاب رحمهما اهلل تعالى:
بسم اهلل الرحمن الرحيم
إىل اإلخوان ،سالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته.
وبعد :ما ذكرم من قول الشيخ ،كل من جحد كذا وكذا ،وقامت عليه
احلجة؛ وأنكم ُّ
شاكون يف هؤالء الطواغيت وأتباعهم ،هل قامت عليهم احلجة؛
فهذا من العجب ،كيف ُّ
تشكون يف هذا وقد أوضحته لكم مر ًارا؟!
فإن الذي ل تقم عليه احلجة ،هو الذي حديث عهد اإلسالم ،والذي نشأ
ببادية بعيدة ،أو يكون ذلك يف مسألة خفية ،مثل الصرف والعطف ،فال يكفر
حىت يعرف.
وأما أصول الدين اليت أوضحها اهلل وأحكمها يف كتابه ،فإن حجة اهلل هي
القرآن ،فمن بلغه القرآن فقد بلغته احلجة ،ولكن أصل اإلشكال ،أنكم ل تفرقوا
بني قيام احلجة ،وبني فهم احلجة ،فإن أكثر الكفار واملنافقني من املسلمني ،ل
يفهموا حجة اهلل مع قيامها عليهم ،كما قال تعاىل﴿ :أ َْم َْحت َسب أ َّ
َن أَ ْكثَـَره ْم
ِ
َض ُّل َسبِ ًيال﴾ [الفرقان،]44 : يَ ْس َمعو َن أ َْو يَـ ْعقلو َن إِ ْن ه ْم إَِّال َك ْاألَنْـ َع ِام بَ ْل ه ْم أ َ
وقيام احلجة نو ،وبلوغها نو -وقد قامت عليهم ،-وفهمهم إياها نو آخر،
وكفرهم ببلوغها إياهم ،وإن ل يفهموها.
إن أشكل عليكم ذلك ،فانظروا قوله يف اْلوارج« ،أينما لقيتموهم
شر قتلى حتت أدمي السماء» ،مـع كـوهنم يف عـصر فاقتلوهم» ،وقولهُّ « :
-314-
الصحابة ،وحيقر اإلنسان عمل الصحابة معهم ،ومع إمجا الناس أن الذي
أخرجهم من الدين ،هو :التشدد والغلو واالجتهاد ،وهم يظنون أهنم يطيعون
اهلل ،وقد بلغتهم احلجة ،ولكن ل يفهموها.
وكذلك قتل علي الذين اعتقدوا فيه ،وحتريقهم بالنار ،مع كوهنم تالميذ
الصحابة ،ومع عبادهتم وصالهتم وصيامهم ،وهم يظنون أهنم على حق.
وكذلك إمجا السلف ،على تكفري غالة القدرية وغريهم ،مع علمهم وشدة
صنعا ،ول يتوقف أحد من السلف يف عبادهتم ،وكوهنم حيسبون أهنم حيسنون ً
تكفريهم ،ألجل كوهنم ل يفهموا ،فإن هؤالء كلهم ل يفهموا.
إذا علمتم ذلك :فإن هذا الذي أنتم فيه :كفر ،الناس يعبدون الطواغيت،
ويعادون دين اإلسالم ،فيزعمون أنه ليس ردة ،لعلَّهم ما فهموا احلجة ،كل هذا
ِّبني.
حرقهم علي ،فإنه يشابه هذا ،وأما إرسال كالم وأظهر مما تقدم :الذين َّ
الشافعية وغريهم ،فال يتصور يأتيكم أكثر مما أتاكم ،فإن كان معكم بعض
()1
اإلشكال ،فارغبوا إىل اهلل تعاىل أن يزيله عنكم ،والسالم» .
قال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين:
جمتهدا ،أو خمطئًا ،أو مقلِّ ًدا ،أو
متأوالً ،أو ً
«فاملدعي أن مرتكب الكفرِّ :
جاهالً ،معذور ،خمالف للكتاب والسنَّة واإلمجا بال شك ،مع أنه ال بد أن
ينقض أصله ،فلو طرد أصله ،كفر بال ريب ،كما لو توقف يف تكفري من شك
()2
يف رسالة حممد ،وحنو ذلك» .
-311-
وسئل الشيخ حممد بن عبد اللطيف رمحهما اهلل تعاىل عن :حكم األفعال
الشركية اليت تفعل عند القبور ،واألعياد املقامة عليها؟ فأجاب:
«اجلواب وباهلل التوفيق :اعلم أن هذه األفعال ،هي من دين اجلاهلية ،اليت
بعث رسول اهلل بإنكارها وإزالتها ،وحمو آثارها ،ألهنا من الشرك األكرب ،اليت
دلت اآليات احملكمات على حترميه ،وهذه األعياد ،تشبه :أعياد اجلاهلية ،فمن
اعتقد جوازه وحله ،وأنه عبادة ودين ،فهو من أكفر خلق اهلل وأضلهم ،ومن
()1
شك يف كفره بعد قيام احلجة عليهم ،فهو كافر» .
وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل رمحهما اهلل تعاىل:
«وأما قول السائل :فإن كان ما يقدر من نفسه أن يتلفظ بكفرهم وسبِّهم
-أي يف أهل بلد مرتدين ،وهكذا كان ن السؤال -ما حكمه؟
فاجلواب :ال خيلو ذلك عن أن يكون شا ًكا يف كفرهم أو جاهالً به ،أو يقر
بأهنم كفرة هم وأشباههم ،ولكن ال يقدر على مواجهتهم وتكفريهم أو يقول:
غري كفار ،ال أقول إهنم كفار؛ فإن كان شا ًكا يف كفرهم أو جاهالً بكفرهم،
بينت له األدلة من كتاب اهلل وسنَّة رسوله على كفرهم ،فإن شك بعد ذلك
تردد ،فإنه كافر بإمجا العلماء ،على أن من شك يف كفر الكافر ،فهو أو َّ
كافر.
وإن كان يقر بكفرهم ،وال يقدر على مواجهتهم بتكفريهم ،فهو مداهن
هلم ،ويدخل يف قوله تعاىلَ ﴿ :وُّدوا لَْو ت ْد ِهن فَـي ْد ِهنو َن﴾ [القلم ،]1 :وله حكم
أمثاله من أهل الذنوب.
وإن كان يقول :أقول غريهم كفار ،وال أقول هم كفار ،فهذا حكم منه
كفارا فهم
بإسالمهم ،إذ ال واسطة بني الكفر واإلسالم ،فـإن ل يـكونوا ً
-311-
إسالما ،أو مسى الكفار مسلمني ،فهو
ً مسلمون؛ وحينئذ فمن مسى الكفر
()1
كافرا» .
كافر فيكون هذا ً
وقال أعضاء اللجنة الدائمة بعد أن تكلموا عن أحوال املشركني وأحكامهم،
وبيَّنوا أن أصل الدين ال يقبل االجتهاد فيه ،وإمنا يقع فيما دونه من الفرو
العملية الظنية:
«وبذا يعلم أنه ال جيوز لطائفة املوحدين ،الذين يعتقدون كفر عباد القبور
أن يكفروا إخواهنم املوحدين ،الذين توقفوا يف كفرهم حىت تقام عليهم احلجة،
ألن توقفهم عن تكفريهم له شبهة ،وهي :اعتقادهم أنه ال بد من إقامة احلجة
على أولئك القبوريني قبل تكفريهم ،خبالف من ال شبهة يف كفره كاليهود
والنصارى والشيوعيني وأشباههم ،فهؤالء ال شبهة يف كفرهم وال يف كفر من ل
يكفرهم ،واهلل ويل التوفيق.
ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال املسلمني وأن مينحهم الفقه يف الدين ،وأن
يعيذنا وإياهم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،ومن القول على اهلل
سبحانه وعلى رسوله بغري علم إنه ويل ذلك والقادر عليه».
-455-
المبحث الرابع
عدم تكفير المشركين ،أو الشك في كفرهم،
يوجب الجهاد ألهله
إن مما يوجب اجلهاد ملن اتصف به :عدم تكفري املشركني ،أو الشك يف
كفرهم ،ألن ذلك من نواقض اإلسالم ومبطالته ،ومما تزول به عصمة الدم
واملال .ومن مث كان من أعظم حقوق املسلمني على ويل أمرهم أن يتوىل بنفسه:
القضاء على فتنة الذين ينهون عن تكفري املشركني ،لئال تتجرأ السفلة من عامة
األمة على الشك ،والردة عن أصول الدين ،بسبب أمنهم من سيف الشر
املسلول على رءوس املشركني واملرتدين.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى في رسالة بعث بها
إلى إمام وقته فيصل بن تركي ،يذكره فيها ببعض واجبات اإلمامة:
«وكذلك جيب على ويل األمر أن يقدم على من نسب عنه طعن وقدح يف
شيء من دين اهلل ورسوله ،أو تشبيه على املسلمني يف عقائدهم ودينهم ،مثل:
من ينهى عن تكفري املشركني ،وجيعلهم من خري أمة أخرجت للناس ألهنم
يدَّعون اإلسالم ،ويتكلَّمون بالشهادتني.
خصوصا على العوام ضرر عظيم خيشى منهً وهذا اجلنس ضرره على اإلسالم
الفتنة ،وأكثر الناس ال علم له باحلجج اليت تنفي شبه املشبهني وزيغ الزائغني ،بل
جتده والعياذ باهلل سلس القياد لكل من قاده أو دعاه ،كما قال فيهم أمري
املؤمنني علي بن أيب طالب :ل يستضيئوا بنور العلم ول يلجؤوا على ركن وثيق
()1
شبها هبم :األنعام السارحة» .أقرب ً
(« )1جمموعة الرسائل واملسائل النجدية» ،تكملة رسائل عبد الرمحن ابن حسن.)4/2( :
-459-
وقال بعض علماء نجد في بيان بعض األمور التي يوجب كل واحد
منها جهاد أهله:
«األمر الثاني :مما يوجب اجلهاد ملن اتصف به ،عدم تكفري املشركني ،أو
الشك يف كفرهم ،فإن ذلك من نواقض اإلسالم ومبطالته ،فمن اتصف به فقد
كفر ،وحل دمه وماله ،ووجب قتاله حىت يكفر املشركني.
والدليل على ذلك قوله « :من قال ال إله إالَّ اهلل ،وكفر مبا يعبد من دون
اهلل ،حرم ماله ودمه» ،فعلق عصمة املال والدم بأمرين:
األمر األول :قول :ال إله إالَّ اهلل.
الثاني :الكفر مبا يعبد من دون اهلل.
فال يعصم دم العبد وماله ،حىت يأيت هبذين األمرين ،األول قوله :ال إله إالَّ
اهلل ،واملراد معناها ال جمرد لفظها ،ومعناها :هو توحيد اهلل جبميع أنوا العبادة؛
األمر الثاني :الكفر مبا يعبد من دون اهلل ،واملراد بذلك تكفري املشركني ،والرباءة
منهم ،ومما يعبدون مع اهلل.
فمن ل يكفر املشركني من الدولة الرتكية ،وعباد القبور ،كأهل مكة
وغريهم ،ممن عبد الصاحلني ،وعدل عن توحيد اهلل إىل الشرك ،وبدل سنَّة رسوله
بالبد ،فهو كافر مثلهم ،وإن كان يكره دينهم ،ويبغضهم ،وحيب اإلسالم
واملسلمني؛ فإن الذي ال يكفر املشركني ،غري مصدق بالقرآن ،فإن القرآن قد
كفَّر املشركني ،وأمر بتكفريهم وعداوهتم وقتاهلم.
قال الشيخ :حممد بن عبد الوهاب ،رمحه اهلل يف نواقض اإلسالم؛ الثالث:
صحح مذهبهم ،كفر؛ وقال من ل يكفر املشركني ،أو شك يف كفرهم ،أو َّ
شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل :من دعا علي بن أيب طالب ،فقد كفر ،ومن
()1
شك يف كفره فقد كفر» .
-452-
الفصل الثالث
العذر بالجهل
وفيه سبعة مباحث:
المبحث األول :الزمان ،زمان فرتة.
المبحث الثاني :حكم من مات يف الفرتة مشرًكا ،ول تقم عليه حجة
البالغ.
المبحث الثالث :من عبد غري اهلل فليس مبسلم ،ولو كان جاهالً ول تقم
عليه حجة البالغ ،مع استعراض ألحكام الناس قبل ظهور
دعوة الشيخ يف الدارين.
المبحث الرابع :مقتطفات من رسالتني إلمامني من أئمة الدعوة يف حكم
العذر باجلهل.
المبحث الخامس :األدلة الصحيحة الصرحية الدالة على ثبوت وصف
الشرك ،وحكمه ملن وقع يف عبادة غري اهلل ،ولو كان جاهالً
متأوالً ،ول تقم عليه حجة البالغ.
أو ِّ
المبحث السادس :حرمة الشرك األكرب وفاقية التحرمي ،وإمجاعية املنع
والتأثيم ،وال توجد شبهة سائغة عليها تدرأ حكم الكفر عن
أصحاهبا ،ومن مث انتفى العذر باجلهل فيها.
المبحث السابع :العذر باْلطأ يف الشرك األكرب ،يلزم منه عدم تكفري
طوائف من الكفار والزنادقة قد أمجعت األمة على كفرها،
وكفر من شك يف كفرها ،مع بيان أن احلكم بإسالم
املشركني اجلاهلني ليس عليه دليل إال جمرد الدعوى اجملردة.
-453-
-454-
المبحث األول
الزمان ،زمان فترة
لقد حلق زمان اإلمام حممد بن عبد الوهاب وأحفاده بزمان أهل الفرتة،
وذلك لبعد العهد ،وغربة الدين ،وعجمة اللسان ،اليت حالت دون الفهم
والبيان.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في رسالة بعث بها إلى علي
بن حمد بن سليمان جاء فيها:
«والزمان :زمان فرتة ،يشبه زمن اجلاهلية ،وإن كانت الكتب موجودة ،فهي
ال تغن ما ل يساعدهم التوفيق ،وتؤخذ املعاي واحلدود واألحكام ،من عال
()1
رباي» .
أيضا رمحه اهلل تعاىل يف رسالة بعث هبا إىل بعض إخوانه من املسلمني:
وقال ً
من اهلل عليكم رمحكم اهلل يف هذا الزمن ،الذي غلبت فيه اجلهاالت، «وقد َّ
وفشت بني أهله الضالالت ،والتحق بعصر الفرتات ،من جيدد لكم أمر هذا
الدين ،ويدعو إىل ما جاء به الرسول األمني ،من اهلدى الواضح املستبني ،وهو
شيخ اإلسالم واملسلمني ،وجمدِّد ما اندرس من معال امللة والدين ،الشيخ حممد
فبصر العدد العديد من العماية ،وهدى مبا دعا
بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىلَّ ،
إليه من الضاللة ،وأغى مبا فتح عليكم وعليه من العالة ،وحصل من العلم ما
يستعبد على أمثالكم يف العادة ،حىت ظهرت احلجة البيضاء ،اليت كان عليها
()2
صدر هذه األمة وأئمتها» .
-456-
المبحث الثاني
حكم من مات في الفترة مشراكا ولم تقم عليه حجة البالغ
قال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين في رسالة بعث بها ،إلى
عبد الرحمن بن محمد بن نافع:
وأما حكم من مات يف زمان الفرتات ول تبلغه دعوة رسول ،فاهلل سبحانه
أعلم هبم ،واسم الفرتة ال خيت بأمة دون أمة كما قال اإلمام أمحد يف خطبة
على الزنادقة واجلهمية :احلمد هلل الذي جعل يف كل زمان فرتة من الرسل ،بقايا
من أهل العلم ،ويروى هذا اللفظ عن عمر .
والكالم يف حكم أهل الفرتة لسنا مكلفني به ،واْلالف يف املسألة معروف،
ملا تكلم يف الفرو على حكم أطفال املشركني ،وكذا من بلغ منهم جمنونًا ،قال:
ويتوجه مثلهما من ل تبلغه الدعوة وقاله :شيخنا.
مطلقا إىل
ويف الفنون عن أصحابنا :ال يعاقب ،وذكر عن ابن حامد يعاقب ً
ث َرسوالً﴾ أن قال القاضي أبو يعلى يف قوله تعاىلَ ﴿ :وَما كنَّا م َع ِّذبِ َ
ني َح َّىت نَـْبـ َع َ
()1
[اإلسراء ،]96 :ويف هذا دليل أن عرفة اهلل ال جتب عقالً ،وإمنا جتب
بالشر ،وهو بعثة الرسل ،وأنه لو مات اإلنسان قبل ذلك ل يقطع عليه بالنار.
انتهى.
وقال ابن القيم رحمه اهلل تعالى في طبقات المكلفين:
()2
الطبقة الرابعة عشر :قوم ال طاعة هلم وال معصية وال كفر وال إميان،
( )1أي :الوجوب املستحق به العقوبة على املخالفة ،وامض إىل آخر كالم القاضي :جتده فيه.
( )2امتحان املشركني ،من أهل الفرتات ،ومن ل تبلغهم الدعوة يوم القيامة قبل حتديد مصريهم ،دليل
قاطع على كوهنم غري مسلمني ،إذ لو كانوا كذلك لدخلوا اجلنة دون سابق امتحان ،وكذلك ل
يكونوا كافرين ،الكفر املعذب عليه ،إذ لو كانوا كذلك ،لدخلوا النار ،دون عقد امتحان.
واعتذارهم عن شركهم ،بني يدي عالَّم الغيوب سبحانه ،دليل على خمالفتهم حلجة -على األقل -
وإالَّ فمن أي شيء يكون االعتذار؟!!
أخي احلبيب :اصغ هلذا التفصيل ،جتد بفضل العليم اْلبري ،انسياب األدلة وتدفقها بسهولة ويسر
=
-455-
قال :وهؤالء أصناف :منهم من ل تبلغه الدعوة حبال وال مسع هلا خبرب،
أبدا،
ومنهم اجملنون الذي ال يعقل شيئًا ،ومنهم األصم الذي ال يسمع شيئًا ً
ومنهم أطفال املشركني ،الذين ماتوا قبل أن مييِّزوا شيئًا.
كثريا ،وذكر األقوال واختار ما فاختلفت األمة يف حكم هذه الطبقة اختالفًا ً
اختاره شيخه أهنم يكلفون يوم القيامة ،واحتج مبا رواه أمحد يف مسنده عن
مرفوعا قال« :أربعة ميتحنون يوم القيامة :رجل أصم ال يسمع، األسود بن سريع ً
ورجل أمحق ،ورجل هرم ،ورجل مات يف الفرتة».
أما األصم فيقول :رب لقد جاء اإلسالم وأنا ما أمسع شيئًا ،وأما األمحق
فيقول :رب لقد جاء اإلسالم والصبيان يرمونن بالبعر ،وأما اهلرم فيقول :رب
لقد جاء اإلسالم ،وما أعقل ،وأما الذي مات يف الفرتة فيقول :رب ما أتاي من
رسول ،فيأخذ مواثيقهم ليطيعنَّه ،فريسل إليهم رسوالً أن ادخلوا النار ،فوالذي
وسالما» ،مث رواه من حديث أيب ً بردا
نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم ً
هريرة مبثله وزاد يف آخره ،ومن ل يدخلها رد إليها .انتهى.
ث وذكر ابن كثري عند تفسري قوله تعاىلَ ﴿ :وَما كنَّا م َع ِّذبِ َ
ني َح َّىت نَـْبـ َع َ
َرسوالً﴾ [اإلسراء ،]96 :قال :وهنا مسألة اختلف األئمة فيها ،وهي مسألة
الولدان ،الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار ،وكذا اجملنون واألصم واْلرف
ومن مات
=
وسالسة على موارده ،دون منازعة وال ممناعة.
كتايب :العذر باجلهل حتت اجملهر الشرعي ،وآثار حجج التوحيد يف مؤاخذة وإن شئت أن ترجع إىل َّ
العبيد ،جتد فيهما إن شاء اهلل األدلة ا لواضحة على تلك املسألة .واهلل ويل التوفيق.
-454-
يف الفرتة ،وقد روي يف شأهنم أحاديث أنا ذاكرها بعون اهلل ،وتوفيقه.
مث ذكر يف املسألة :عشرة أحاديث افتتحها باحلديث الذي ذكرناه مث اشار
إىل اْلالف.
مث قال :ومن العلماء من ذهب إىل أهنم ميتحنون يوم القيامة ،فمن أطا
دخل اجلنة ،وانكشف علم اهلل فيه ،ومن عصى دخل النار وانكشف علم اهلل
فيه ،وهذا القول جيمع بني األدلة.
صرحت به األحاديث املتقدمة املتعاضدة ،الشاهد بعضها لبعض ،وهذا وقد َّ
قول حكاه األشعري عن أهل السنة ،مث رد قول من عارض ذلك بأن اآلخرة
ليست بدار تكليف إىل أن قال :وملا كان الكالم يف هذه املسألة حيتاج إىل
دالئل صحيحة ،وقد يتكلم فيها من ال علم عنده ،كره مجاعة من العلماء
الكالم فيها ،روي ذلك عن ابن عباس وابن احلنفية والقاسم ابن حممد وغريهم.
قال :وليعلم أن اْلالف يف الولدان خمصوص بأوالد املشركني.
فأما ولدان املؤمنني فال خالف بني العلماء ،حكاه القاضي أبو يعلى
احلنبلي عن اإلمام أمحد أنه قال :ال خيتلف فيهم أهنم من أهل اجلنة.
فأما ما ذكره ابن عبد الرب أهنم توقفوا يف ذلك ،وأن الولدان كلهم حتت
املشيئة ،وهو يشبه ما رسم مالك يف موطَّئِه يف أبواب القدر فهذا غريب ً
جدا،
()1
وذكر القرطيب يف التذكرة حنوه» .
-451-
المبحث الثالث
من عبد غير اهلل فليس بمسلم ،ولو كان جاهالا
ولم تقم عليه حجة البالغ ،مع استعراض ألحكام الناس
قبل ظهور دعوة الشيخ في الدارين
فعل التوحيد وترك الشرك ،هو أصل األصول االعتقادية ،واحلجة على الناس
فيه قامت بالرسول والقرآن.
ومتأولني ،فليسوا مبسلمني عند شيخ
عبَّاد القبور ،وإن كانوا جاهلني ِّ
امتدادا ملدرسة شيخ اإلسالم ابن
ً اإلسالم حممد بن عبد الوهاب وأحفاده،
تيمية ،وتلميذه اإلمام ابن القيم ،ولذلك عندما يطلقون القول بالعذر ،فهو مقيد
بعبَّاد القبور وأمثاهلم من املشركني ،لعدم دخوهلم يف عداد املسلمني لديهم.
ولقد كانت أحكام الناس قبل ظهور دعوة الشيخ حممد بن عبد الوهاب،
على النحو اآليت:
من كان عامالً باإلسالم ،وتارًكا للشرك ،فهو مسلم.
ونفوض حكمه اقعا يف عبادة اهلل سبحانه ،فهذا ظاهره الكفرِّ ،
ومن كان و ً
()1
يف الباطن إىل اهلل تعاىل ،الحتمال كونه ل تقم عليه حجة البالغ.
يضحى له ،وال يستغفر له ،والفإن مات على ذلك ،فال يتصدق عنه ،وال َّ
حيكم برباءة ذمته من الطاعات ،كاحلج مثالً ،إن قام به حال شركه ،ألن حتقيق
اإلسالم شرط من شروط قبول الطاعات ،وهو منتف لديه.
ومن مات منهم جمهول احلال فال حيكمون بإسالمه ،ألنه ل يكن أصالً
لديهم للحكم به على أقوامهم ،وكذا ال حيكمون بكفره ،ألهنـم يعتقـدون
( )1املقصود حبكم الباطن هنا :أي الكفر املعذب عليه يف اآلخرة.
-451-
أن اهلل ل يكلفهم بذلك.
كافرا يف الظاهر
مسلما ،أدخل اهلل اجلنة ،ومن كان ً ً فمن كان منهم
والباطن ،خلَّده يف ناره ،ومن ل تقم عليه احلجة ،وكان و ً
اقعا يف الشرك األكرب،
فحكمه حكم أهل الفرتات ،وليس مبسلم على أية حال.
وكذلك حكم أئمة الدعوة يف أموال أهل زماهنم :حبكم أموال الكفار
األصليني ،أي :يستحقون التوارث فيما بينهم ،مث من اسلم منهم على شيء من
املال فهو له ،ول يقولوا :بردة أقوامهم ،ألن املرتد ال يرث ،وال يورث ،ألن طرد
ذلك القول :جيعل مجيع أمول الكفار يف زماهنم مستحقة لبيت املال ،ألهنم
مرتدون ،وورثوها عن آبائهم املرتدين ،وكذا األموال اليت بأيدي املسلمني ،حىت
تدا.
يثبت أحدهم أن أباه ل يكن مر ً
وكذلك سلك أئمة الدعوة مع أقوامهم يف الدعوة والقتال :مسلك الكفار
األصليني ،الذي ل تقم عليهم حجة البالغ ،فال يقاتلوهنم حىت يبلغوهم إياها،
فمن قبلها ودان باإلسالم قاتلوا به من وراءه ،ومن أباها ،قاتلوه قتال املشركني،
وملا حتققوا من ظهور دعوهتم ،وبلوغها ملن حوهلم من الديار ل يتوجب عليهم
الدعوة قبل القتال.
ولقد وردت أسئلة على أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب ،وحمد ابن
جميعا منها جاء فيها:
ناصر رحمهم اهلل ا
«وأما السؤال الثالث ،وهو قولكم ورد« :اإلسالم يهدم ما قبله» ويف رواية:
جيب ما قبله» ،ويف حديث حجة الودا « :أال إن دم اجلاهلية كله موضو » « ُّ
إخل ،وظهر لنا من جوابكم :أن املؤمن باهلل ورسوله ،إذا قال أو فعل ما يكون
كفرا ،جهالً منه بذلك ،فال تكفرونه حىت تقوم عليه احلجة ً
الرسالية ،فهل لو قتل من هذا حاله ،قبل ظهور هذه الدعوة ،موضو أو ال؟
-495-
فنقول :إذا كان يعمل بالكفر والشرك ،جلهله ،أو عدم من ينبهه ،بل
الحنكم بكفره حىت تقام عليه احلجة ،ولكن ال حنكم بأنه مسلم ،بل نقول:
عمله هذا كفر ،يبيح املال والدم ،وإن كان ال حنكم على هذا الشخ لعدم
كافرا فهو مسلم ،بل نقول عمله عمل قيام احلجة عليه ،ال يقال إن ل يكن ً
الكفار ،وإطالق احلكم على هذا الشخ بعينه ،متوقف على بلوغ احلجة
الرسالية ،وقد ذكر أهل العلم :أن أصحاب الفرتات ،ميتحنون يوم القيامة يف
العرصات ،ول جيعلوا حكمه حكم الكفار ،وال حكم األبرار.
وأما حكم هذا الشخ إذا قتل ،مث أسلم قاتله ،فإنا ال حنكم بديته على
جب ما قبله ،ألن القاتل قتله يف حال كفره،
قاتله إذا أسلم ،بل نقول :اإلسالم َّ
واهلل سبحانه وتعاىل أعلم....
وأما قولكم :وهل ينفع هذا املؤمن املذكور ،ما معه من أعمال الرب ،وأفعال
اْلري ،قبل حتقيق التوحيد؟
فيقال ال يطلق على الرجال املذكور اسم اإلسالم ،فضالً عن اإلميان ،بل
يقال :الرجل الذي يفعل الكفر ،أو يعتقده يف حال جهله ،وعدم من ينبهه ،إذا
فعل شيئًا من أفعال الرب ،وأفعال اْلري ،أثابه اهلل على ذلك ،إذا صحح إسالمه
وحقق توحيده ،كما يدل عليه حديث حكيم بن حزام« :أسلمت على ما
أسلفت من خري».
وأما احلحج الذي فعله يف تلك احلالة ،فال حنكم برباءة ذمته ،بل نأمره
بإعادة احلج ،ألنا ال حنكم بإسالمه يف تلك احلالة ،واحلج من شرط صحته:
اإلسالم ،فكيف حنكم بصحة حجة وهو يفعل الكفر ،أو يعتقده؟
ولكنا ال نكفره إالَّ بعد قيام احلجة عليه ،فإذا قامت عليه احلجة وسلك
()1
سبيل احملجة ،أمرناه بإعادة احلج ،ليسقط الفرض عنه بيقني» .
-499-
وسئل الشيخ حمد بن ناصر رحمه اهلل تعالى:
عن قول الفقهاء ،إن املرتد ال يرث وال يورث ،فكفار أهل زماننا هل هم
مرتدُّون؟ أن حكمهم حكم عبدة األوثان ،وأهنم مشركون؟
فأجاب« :أما من دخل يف دين اإلسالم مث ارتد ،فهؤالء مرتدون ،وأمرهم
عندك واضح ،وأما من ل يدخل يف دين اإلسالم ،بل أدركته الدعوة اإلسالمية،
وهو على كفره ،كعبدة األوثان ،فحكمه حكم الكفار األصلي ،ألنا ال نقول
األصل إسالمهم ،والكفر طارئ عليهم.
بل نقول :الذين نشؤوا بني الكفار ،وأدركوا آباءهم على الشرك باهلل ،هم
ينصرانه،
يهودانه ،أو ِّ
كآبائهم ،كما دل عليه احلديث الصحيح يف قوله «فأبواه ِّ
ميجسانه» ،فإن كان دين آبائهم الشرك باهلل ،فنشأ هؤالء واستمروا عليه ،فال أو ِّ
نقول األصل اإلسالم والكفر طارئ ،بل نقول :هم الكفار األصليون ،وال يلزمنا
على هذا تكفري من مات يف اجلاهلية قبل ظهور الدين ،فإنا ال نكفر الناس
بالعموم ،كما أمنا ال نكفر اليوم بالعموم.
بل نقول :من كان من أهل اجلاهلية عامالً باإلسالم ،تارًكا للشرك ،فهو
مسلم.
وأما من كان يعبد األوثان ،ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدين ،فهذا
ظاهره الكفر ،وإن كان حيتمل أنه ل تقم عليه احلجة الرسالية ،جلهله وعدم من
ينبهه ،ألنا حنكم على الظاهر ،وأما احلكم على الباطن فذلك إىل اهلل ،واهلل
أحدا إالَّ بعد قيام احلجة عليه ،كما قال تعاىلَ ﴿ :وَما كنَّا
تعاىل ال يعذب ً
ث َرسوالً﴾ [اإلسراء.]96 : م َع ِّذبِ َ
ني َح َّىت نَـْبـ َع َ
(حكم مجهول الحال)
وأما مـن مـات منهـم جمهول احلال ،فهـذا ال نتعرض له ،وال حنكم
-492-
ت َهلَا َما بكفره وال بإسالمه ،وليس ذلك مما كلفنا به﴿ ،تِْل َ
ك أ َّمة قَ ْد َخلَ ْ
ت َولَكم َّما َك َسْبت ْم َوالَ ت ْسأَلو َن َع َّما َكانوا يَـ ْع َملو َن﴾ [البقرة.]934 :
َك َسبَ ْ
كافرا أدخله اهلل النار.
مسلما أدخله اهلل اجلنة ،ومن كان ً فمن كان منهم ً
ومن كان منهم ل تبلغه الدعوة ،فأمره إىل اهلل.
وقد علمت اْلالف يف أهل الفرتات ،ومن ل تبلغهم احلجة الرسالية.
أيضا :فإنه ال ميكن أن حنكم يف كفار زماننا ،مبا حكم به الفقهاء يف و ً
املرتد :أنه ال يرث وال يورث ،ألن من قال ال يرث وال يورث ،جيعل ماله فيئًا
لبيت مال املسلمني ،وطرد هذا القول ،أن يقال :مجيع أمالك الكفار اليوم بيت
مال ،ألهنم ورثوها عن أهليهم ،وأهلوهم مرتدون ال يورثون ،وكذلك الورثة
مرتدون ال يرثون ،ألن املرتد ال يرث وال يورث.
وأما إذا حكمنا فيهم حبكم الكفار األصليني ،ل يلزم شيء من ذلك ،بل
يتوارثون ،فإذا اسلموا فمن أسلم على شيء فهو له ،وال نتعرض ملا مضى منهم
()1
يف جاهليتهم ،ال املوارث وال غريها» .
وقال الشيخ محد بن ناصر ،رمحه اهلل تعاىل ،بعد أن َّبني أن اهلل أرسل الرسل
لئال تكون للناس حجة عليه سبحانه بعد إرساهلم ،وأن عبادة اهلل وحده ال
شريك له ،معلومة بالضرورة من الدين ،وأن احلجة عليها بلوغ القرآن ،فقال رمحه
اهلل تعاىل:
«إذا تقرر هذا ،فنقول :إن هؤالء الذين ماتوا قبل ظهور هذه الدعوة
اإلسالمية ،وظاهر حاالهم الشرك ،ال نتعرض هلم ،وال حنكم بكفرهم وال
ووحد اهلل،
بإسالمهم ،بل نقول :من بلغته هذه الدعوة احملمدية ،وانقاد هلاَّ ،
وعبده وحده ال شريك له ،والتزم شرائع اإلسالم ،وعـمل مبـا أمر اهلل به،
-493-
وجتنَّب ما هناه عنه ،فهذا من املسلمني املوعودين باجلنة ،يف كل زمان ويف كل
مكان.
وأما من كانت حاله حال أهل اجلاهلية ،ال يعرف التوحيد الذي بعث اهلل
رسوله يدعو إليه ،وال الشرك الذي بعث اهلل رسوله ينهى عنه ،ويقاتل عليه،
فهذا ال يقال إنه مسلم جلهله ،بل من كان ظاهر عمله الشرك باهلل ،فظاهره
الكفر ،فال يستغفر له وال يتصدَّق عنه ،ونكل حاله إىل اهلل الذي يبلو السرائر،
ويعلم ما ختفي الصدور.
(تكفير المعين :أي :الكفر المعذب عليه ،ل يكون إل بعد إقامة
الحجة)
كافرا ،ألنا نفرق بني املعني وغريه ،فال حنكم علىوال نقول« :فالن مات ً
معني بكفر ،ألنا ال نعلم حقيقة حاله وباطن أمره ،بل نكل ذلك إىل اهلل ،وال
نسب األموات ،بل نقول أفضوا إىل ما قدَّموا ،وليس هذا من الدين الذي أمرنا
اهلل به ،بل الذي أمرنا به أن نعبد اهلل وحده وال نشرك به ،ونقاتل من أىب عن
أصر وعاند َّ
كفرناه، ذلك ،بعد ما ندعوه إىل ما دعا إليه رسول اهلل ،فإذا َّ
()1
وقاتلناه» .
وقال الشيخان حسني وعبد اهلل ابنا حممد بن عبد الوهاب رحم اهلل اجلميع،
يف اجلواب على مسألة وردت عليهم ،ضمن مسائل عدة:
(املسألة الثالثة عشرة) :فيمن مات قبل هذه الدعوة ،ول يدرك اإلسالم،
وهذه األفعال اليت يفعلها الناس اليوم يفعلها ،ول تقم عليه احلجة ما احلكم فيه؟
وهل يلعن أو يسب أو يكف عنه؟ وهل جيوز البنه الدعاء له؟ وما الفرق بني
من ل يدرك هذه الدعوة ،وبني من أدركها ،ومات معاديًا هلذا الدين وأهله؟
الجواب :أن من مات من أهل الشرك ،قبل بلوغ هذه الدعوة ،فالذي
حيكم عليه أنه إذا كان معروفًا بفعل الشرك ،ويدين به ،ومات على ذلك فهذا
(« )1الدرر السنية».)44 – 46/99( :
-494-
ظاهره أنه مات على الكفر ،فال يدعى له ،وال يضحى له ،وال يتصدق
عليه.
وأما حقيقة أمره فإىل اهلل تعاىل ،فإن كان قد قامت عليه احلجة يف حياته،
وعاند فهذا كافر يف الظاهر والباطن ،وإن كان ل تقم عليه احلجة فأمره إىل اهلل
تعاىل.
مطلقا ،كما يف صحيح سب األموات ً وأما سبه ولعنه فال جيوز ،بل ال جيوز ُّ
البخاري عن عائشة رضي اهلل عنها أن رسول اهلل قال« :ال تسبوا األموات
فإهنم قد أفضوا إىل ما قدموا» ،إالَّ إن كان أحد من أئمة الكفر وقد اغرت الناس
()1
به فال بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية ،واهلل أعلم .
وقال الشيخ عبد العزيز (قاضي الدرعية) ،ومن حوله من العلماء ،يف
املسماة( :املسائل الشرعية إىل علماء الدرعية):
رسالتهم َّ
وأما السؤال الثالث وهو قولكم :قد ورد« :اإلسالم يهدم ما قبله» ،ويف
جيب ما قبله» ويف حديث حجة الودا « :أال إن دم اجلاهلية كله روايةُّ « :
موضو » إخل...
كفرا
وظهر لنا من جوابكم أن املؤمن باهلل ورسوله إذا قال أو فعل ما يكون ً
جهالً منه بذلك فال تكفرونه حىت تقوم عليه احلجة الرسالية ،فهل لو قتل من
هذا حاله قبل ظهور هذه الدعوة موضو أو ال؟
فنقول :إذا كان يعمل بالكفر والشرك جلهله وعدم من ينبهه ال حنكم بكفره
()2
حىت تقام عليه احلجة ،ولكن حنكم بأنه مسلم ،بل نقول :عمله
-496-
هذا كفر يبيح املال والدم.
وإن كنا ال حنكم على هذا الشخ لعدم قيام احلجة عليه ال يقال :إن ل
كافرا فهو مسلم بل نقول :عمله عمل الكفار وإطالق احلكم على هذا يكن ً
الشخ بعينه متوقف على بلوغ احلجة الرسالية إليه.
العرصات،
وقد ذكر أهل العلم أن أصحاب الفرتات ميتحون يوم القيامة يف َ
ول جيعلوا حكمهم حكم الكفار ،وال حكم األبرار .وأما حكم هذا الشخ
إذا قتل مث أسلم قاتله فإنا ال حنكم بديته على قاتله إذا أسلم ،بل نقول اإلسالم
جيب ما قبله؛ ألن القاتل قتله يف حال كفره ،واهلل أعلم...
ُّ
وأما قولكم وهل ينفع هذا املؤمن املذكور ما يصدر منه من أعمال الرب
وأفعال الرب وأفعال اْلري قبل حتقيق التوحيد جاهالً ،فيقال :ال يطلق على الرجل
املذكور اسم اإلسالم فضالً عن اإلميان ،بل يقال :الرجل الذي يفعل الكفر ،أو
يعتقده يف حال جهله وعدم من ينبهه ،إذا فعل شيئًا من أفعال الرب وأفعال اْلري
صحح إسالمه وحقَّق توحيده ،كما يدل عليه حديث أثابه اهلل على ذلك إذا َّ
حكيم بن حزام« :أسلمت على ما أسلفت من خري».
وأما احلج الذي فعله يف تلك احلالة فال حنكم برباءة ذمته به بل نأمره بإعادة
احلج ،ألنا ال حنكم بإسالمه يف تلك احلالة ،واحلج من شرط صحته :اإلسالم،
حجه وهو يفعل الكفر أو يعتقده؟ فكيف حيكم بصحة ِّ
ولكنا ال نكفِّره لعدم قيام احلجة عليه ،فإذا قامت عليه احلجة وسلك غري
()1
سبيل احملجة ،أمرناه بإعادة احلج ليسقط الفرض عنه بيقني» .
-495-
المبحث الرابع
مقتطفات من رسالتي إلمامين من أئمة الدعوة
في حكم العذر بالجهل
وإليكم :بعض مقتطفات من رسائل أئمة الدعوة ،اليت سطَّروها بأيديهم
ليتقرب به إىل اهلل
ليجلوا فيها :حكم من وقع يف الشرك األكرب جبهل وتأويلَّ ،
زلفى يف وقت حال فيه :اجلهل ،وعجمة اللسان ،وخفاء العلم ،مع شيو
التلبيس والتحريف ،عن إقامة احلجة.
وقرر هؤالء األئمة األعالم :أن القيام بالتوحيد ،واالخنال من الشرك ،هو
أصل األصول االعتقادية ،ولقد قامت احلجة فيه على الناس بالرسول والقرآن.
وأن التعريف يكون يف :املسائل اْلفية دون اجللية .وأن عباد القبور ليسوا
مسمى اإلسالم ،ومن مث فعندما يطلق األئمة :النهي مبسلمني ،وال يدخلون يف َّ
عن تكفري املسلمني ،فهو مقيد بعبَّاد القبور وأمثاهلم من املشركني ،ألهنم ليسوا
من أهل القبلة ،فالشرك األكرب مناف للتوحيد واإلسالم ،ومضاد هلما من كل
مسلما ،إالَّ بفعل التوحيد والتزام أحكامه ،مع
وجه ،والعبد يستحيل أن يكون ً
الرباءة واالخنال من الشرك واملشركني.
وأن املشرك اجلاهل من هذه األمة ،الذي ل يتمكن من معرفة احلق لعجزه،
ول تقم عليه حجة البالغ ،فحكمه -على أقل األحوال -حكم أهل الفرتات،
وليس مبسلم على أية حال.
وأن عدم إعذار املشرك جبهله وخروجه من عداد املسلمني ،مسألة وفاقية،
وال تشكل إالَّ على مدخول عليه يف اعتقاده.
وأنه يلزم من إعذار املشرك جبهله :عدم تكفري اليهود والنصارى.
وأن العذاب يف الدارين ال يكون إالَّ بعد بلوغ احلجة.
-494-
مقتطفات من الرسالة األولى
(حكم تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة ،وفهم الحجة)
بقلم :الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن رحمه اهلل تعالى:
احلمد هلل رب العاملني ،وال عدوان إالَّ على الظاملني والعاقبة للمتقني ،وأشهد
أن ال إله إالَّ اهلل األحد الصمد ،الذي ال يستغاث يف الشدائد وال يدعى إالَّ
حممدا عبده
إياه ،فمن عبد غريه فهو :املشرك الكفور ،بن القرآن ،وأشهد أن ً
ورسوله وخليله ،صلَّى اهلل عليه وعلى آله وصحبه أمجعني ،الذي قامت به احلجة
على العاملني ،فال نيب بعده وال رسول ،أما بعد:
فقد بلغنا ومسعنا من فريق ممن يدَّعي العلم والدين ،وممن هو بزعمه مؤم
بالشيخ حممد بن عبد الوهاب :أن من أشرك باهلل وعبد األوثان ال يطلق عليه
الكفر والشرك بعينه .ذلك أن بعض من شافهن منهم بذلك مسع من بعض
اإلخوان أنه أطلق الشرك والكفر على رجل دعا النيب واستغاث به ،فقال له
الرجل :ال تطلق عليه الكفر حىت تعرفه...
رغبوا عن رسائل الشيخ حممد بن عبد الوهاب -قدَّس اهلل روحه -ورسائل
سيمر .ومن له أدىن معرفة إذا
جدا كما ُّ بنيه ،فإهنا كفيلة بتبيني مجيع هذه الشبه ً
جدا ،وال حولحتري ًرأى حال الناس اليوم ،ونزر إىل اعتقاد املشايخ املذكورين َّ
وال قوة إالَّ باهلل ،وذلك أن بعض من أشرنا إليه ،حبثته عن هذه املسألة فقال:
نقول ألهل هذه القباب الذين يعبدوهنا ومن فيها :فعلك هذا شرك وليس هو
مبشرك ،فانظر ترى ،وامحد ربك واسأله العافية .فإن هذا
-491-
()1
اجلواب من بعض أجوبة العراقي ،اليت يرد عليها الشيخ عبد اللطيف.
وذكر الذي حدثن عن هذا أنه سأله بعض الطلبة عن ذلك وعن مستدهلم،
فقال :نكفر النو وال نعني الشخ إالَّ بعد التعريف ،ومستندنا ما رأيناه يف
قدس اهلل روحه -على أنه امتنع من تكفري من عبد بعض رسائل الشيخ حممد َّ -
قبة الكواز وعبد القادر من اجلهال لعدم من ينبِّه...
وحنن نقول :احلمد هلل وله الثناء ،ونسأله املعونة والسداد ،وال نقول إالَّ كما
قال مشاخينا ،الشيخ حممد يف إفادة املستفيد ،وحفيده يف رده على العراقي،
وكذلك هو قول أئمة الدين قبلهم ،ومما هو معلوم باالضطرار من دين اإلسالم:
أن املرجع يف مسائل أصول الدين إىل الكتاب والسنة وإمجا األمة املعترب ،وهو
ما كان عليه الصحابة ،وليس املرجع إىل عال بعينه يف ذلك.
فمن تقرر عنده هذا األصل تقر ًيرا ال يدفعه شبهة وأخذ بشراشري قلبه ،هان
عليه ما قد يراه من الكالم املشتبه يف بعض مصنفات أئمته ،إذ ال معصوم إالَّ
النيب .
ومسألتنا هذه وهي :عبادة اهلل وحده ال شريك له والرباءة من عبادة ما
سواه ،وأن من عبد مع اهلل غريه فقد أشرك الشرك األكرب ،الذي ينقل عن امللَّة،
هي أصل األصول ،وهبا أرسل اهلل الرسل وأنزل الكتب ،وقامت على الناس
احلجة بالرسول وبالقرآن وهكذا جتد اجلواب من أئمة الدين يف ذلك األصل عند
تكفري من أشرك باهلل ،فإنه يستتاب فإن تاب وإالَّ قتل ،وال يذكرون التعريف يف
مسائل األصول ،إمنا يـذكرون التعريـف يف املسائل
( )1هو داود بن جرجيس ،أحد املنافحني عن الشرك وأهله ،واملناوئني لدعوة الشيخ حممد بن عبد
رد عليه الشيخان عبد اهلل بن عبد الرمحن أبو بطني ،وعبد اللطيف بن
الوهاب رمحه اهلل تعاىل ،وقد َّ
مجيعا ،وأسكنهم فسيح جناته.
عبد الرمحن بن حسن ،رمحهم اهلل ً
-491-
اْلفية ،اليت قد خيفي دليلها على بعض املسلمني ،كمسائل ناز هبا بعض
أهل البد ،كالقدرية واملرجئة ،أو يف مسألة خفية :كالصرف والعطف.
مسمى وكيف يعرفون عبَّاد القبور ،وهم ليسوا مبسلمني ،وال يدخلون يف َّ
اجلَنَّةَ َح َّىت
اإلسالم ،وهل يبقى مع الشرك عمل واهلل تعاىل يقولَ ﴿ :والَ يَ ْدخلو َن ْ
اط﴾ [األعرافَ ﴿ ،]45 :وَمن ي ْش ِرْك بِاللَّ ِه فَ َكأََّمنَا َخَّر اْلِي ِ يَلِ َج ْ
اجلَ َمل ِيف َس ِّم ْ َ
الريح ِيف َم َكان َس ِحيق﴾ [احلج،]39 : الس َماء فَـتَ ْخطَفه الطَّْيـر أ َْو تَـ ْه ِوي بِِه ِّ
ِم َن َّ
﴿إِ َّن الليهَ الَ يَـ ْغ ِفر أَن ي ْشَرَك بِِه﴾ [النساء« ،]41 :ومن يشرك باهلل فقد حبط
()1
عمله» .إىل غري ذلك من اآليات ،ولكن هذا املعتقد يلزم منه معتقد قبيح،
وهو :أن احلجة ل تقم على هذه األمة بالرسول والقرآن ،نعوذ باهلل من سوء
الفهم الذي أوجب هلم نسيان الكتاب والرسول .بل أهل الفرتة الذين ،ل
تبلغهم الرسالة والقرآن ،وماتوا على اجلاهلية ال يسمون مسلمني باإلمجا وال
يستغفر هلم ،وإمنا اختلف أهل العلم يف تعذيبهم يف اآلخرة...
قال الشيخ حممد بن عبد الوهاب قدَّس اهلل روحه يف الرسالة اليت كتب إىل
أمحد بن عبد الكرمي صاحب األحساء ،أحد الصلحاء أوالً ،وقبل أن يفتنت،
نصها: فنذكر منها شيئًا ملشاهبة من رددنا عليه كصاحب الرسالة وهذا ُّ
«من حممد بن عبد الوهاب إىل أمحد بن عبد الكرمي سالم على املرسلني،
واحلمد هلل رب العاملني ،أما بعد وصل مكتوبك تقرر املسألة اليت ذكرت ،وتذكر أن
عليك إشكال تطلب إزالته ،مث ورد منك رسالة تذكر أنك عثرت على كالم شيخ
اإلسالم أزال عنك اإلشكال ،فنسأل اهلل أن يهديك لدين اإلسالم ،وعلى أي
شيء يدل كالمه على أن من عبد األوثان عبادة الالَّت والعزى،
وسب دين الرسول بعد ما شهد به ،مثل سب أيب جهل ،أنه ال يكفر بعينه ،بل َّ
-425-
العبارة صرحية واضحة يف تفكري مثل :ابن فريوز وصاحل بن عبد اهلل
ظاهرا ينقل عن امللة فضالً عن غريمها ،هذا صريح واضح من كفرا ً وأمثاهلماً ،
كالم ابن القيم ،ويف كالم الشيخ الذي ذكرت أنه أزال عنك اإلشكال يف كفر
من عبد الوثن ،الذي على قرب يوسف وأمثاله ،ودعاهم يف الشدائد والرخا،
أقر هبا...أقر وشهد به ،ودان بعبادة األوثان بعدما َّ وسب دين الرسول ،بعدما َّ
َّ
مث قال الشيخ رمحه اهلل تعاىل يف تلك الرسالة بعدما ذكر كثرة من ارتد عن
اإلسالم بعد النيب ،كالذين يف زمن أيب بكر حكموا عليهم بالردة مبنع
الزكاة ،وكأصحاب علي وأهل املسجد الذين بالكوفة ،وبنو عبيد القدَّاح ،كل
هؤالء حكموا عليهم بالردة بأعياهنم ،مث قال :وأما عبارة شيخ اإلسالم ابن تيمية
كثريا من
اليت لبسوا هبا عليك فهي أغلظ من هذا كله ،ولو نقول هبا لكفرنا ً
املعني ال يكفر إالَّ إذا قامت عليه احلجة، املشاهري بأعياهنم فإنه صرح فيها :بأن َّ
املعني يكفر إذا قامت عليه احلجة ،فمن املعلوم :أن قيامها ليس معناه فإذا كان َّ
أن يفهم كالم اهلل ورسوله ،مثل أيب بكر الصديق ،بل إذا بلغه كالم اهلل
ورسوله وخال عن ما يعذر به ،فهو كافر ،كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم
احلجة بالقرآن مع قول اهلل تعاىل﴿ :إِنَّا َج َعْلنَا َعلَى قـلوهبِِ ْم أَكِنَّةً أَن يَـ ْف َقهوه﴾
َّ ِ ند اللي ِه ُّ
ين الَالص ُّم الْبكْم الذ َ اب ِع َ َّو َّ ِ
[الكهف ،]64 :وقوله﴿ :إ َّن َشَّر الد َ
يَـ ْع ِقلو َن﴾ [األنفال.]22 :
(المقالت الخفية ،والمسائل الجزئية ،هي التي ل يكفر المعين فيها إل
بعد إقامة الحجة)
وإذا كان كالم الشيخ ليس يف الردة والشرك ،بل يف املسائل اجلزئيات ،مث
قال :يوضح ذلك أن املنافقني إذا أظهروا نفاقهم صاروا مرتدين ،فأين نسبتك أنه
أحدا بعينه.؟!
ال يكفر ً
-429-
أيضا يف كالمه على املتكلمني ،ومن شاكلهم ،ملا ذكر من أئمتهم وقال ً
شيئًا من أنوا الردة ،والكفر قال رمحه اهلل تعاىل :وهذا إذا كان يف املقاالت
اْلفية فقد يقال :إنه خمطئ ضال ل تقم عليه احلجة اليت يكفر تاركها ،لكن يقع
يف طوائف منهم يف هذه األمور الظاهرة ،اليت يعلم املشركون واليهود والنصارى
مدا بعث هبا وكفَّر من خالفها ،مثل :أمره بعبادة اهلل وحده ال شريك أن حم ً
له ،وهنيه عن عبادة أحد سواه من النبيني واملالئكة وغريهم ،فإن هذا أظهر
كثريا من رؤسائهم وقعوا يف هذه األنوا فكانوا مرتدين،
شعائر اإلسالم .مث جتد ً
وكثري تارة يرتد عن اإلسالم ردة صرحية - ،إىل أن قال :-وأبلغ من ذلك أن
منهم من صنف يف الردة ،كما صنف :الرازي يف عبادة الكواكب ،وهذه ردة
عن اإلسالم باتفاق املسلمني.
هذا لفظه حبروفه ،فتأمل كالمه يف التفرقة بني املقاالت اْلفية ،وبني ما حنن
فيه يف كفر املعني ،وتأمل تكفريه رؤسائهم فالنًا وفالنًا بأعياهنم وردهتم ردة
صرحية ،وتأمل تصرحيه حبكاية اإلمجا على ردة الفخر الرازي عن اإلسالم ،مع
كونه من أكابر أئمة الشافعية ،هل يناسب هذا من كالمه أن املعني ال يكفر،
أحب عبد اهلل بن عوف ،وزعم أن ولو دعا عبد القادر يف الرخا والشدة ،ولو َّ
دينه حسن ،مع عبادته أليب حديدة....
انتهى كالم الشيخ من الرسالة املذكورة حبروفه مع بعض االختصار ،فراجعها
جدا....
من التاريخ فإنه نافعة ً
ومن الدليل على مسألتنا ما كتب الشيخ رمحه اهلل تعاىل إىل عيسى بن
قاسم وأمحد بن سويلم ،ملا سأاله عن قول شيخ اإلسالم تقي الدين -قدس اهلل
روحه -من جحد ما جاء به الرسول وقامت عليه احلجة فهو كافر.
فأجاب بقوله :إىل األخوين عيسى بن قاسم وأمحد بن سويلم سالم
-422-
عليكم ورمحة اهلل وبركاته وبعد:
ما ذكرَتوه من كالم الشيخ كل من جحد كذا وكذا ،وأنكم تسألوه عن
هؤالء الطواغيت وأتباعهم هل قامت عليهم احلجة أم ال؟ فهذا من العجب
تشكون يف هذا ،وقد وضحت لكم مر ًارا أن الذي ل تقم عليه العجاب كيف ُّ
احلجة ،هو الذي حديث عهد باإلسالم ،أو الذي نشأ ببادية بعيدة ،أو يكون
ذلك يف مسائل خفية ،مثل :الصرف والعطف ،فال يكفر حىت يعرف.
وأما أصول الدين اليت وضَّحها اهلل يف كتابه فإن حجة اهلل هي :القرآن،
فمن بلغه القرآن فقد بلغته احلجة ،ولكن أصل اإلشكال أنكم ل تفرقوا بني قيام
احلجة وفهم احلجة ،فإن أكثر الكفار واملنافقني ل يفهموا حجة اهلل مع قيامها
َن أَ ْكثَـَره ْم يَ ْس َمعو َن أ َْو يَـ ْع ِقلو َن إِ ْن ه ْم إَِّال
عليهم ،كما قال تعاىل﴿ :أ َْم َْحت َسب أ َّ
َض ُّل َسبِيالً﴾ [الفرقان.]44 : َك ْاألَنْـ َع ِام بَ ْل ه ْم أ َ
وقيام احلجة وبلوغها نو ،وفهمهم إياها نو آخر....
وقد ذكر الشيخ سليمان بن عبد اهلل رمحه اهلل تعاىل يف شرح التوحيد يف
مواضع منه :أن من تكلم بكلمة التوحيد وصلَّى وزكى ،ولكن خالف ذلك
بأفعاله وأقواله من دعاء الصاحلني واالستغاثة هبم والذبح هلم ،أنه شبيه باليهود
والنصارى يف تكلمهم بكلمة التوحيد وخمالفتهم.
فعلى هذا يلزم من قال :بالتعريف للمشركني أن يقول :بالتعريف باليهود
والنصارى ،وال يكفرهم إالَّ بعد التعريف ،وهذا ظاهر باالعتبار ً
جدا.
وأما كالم الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرمحن رمحه اهلل تعاىل على هذه
يسريا ألن املسألة وفاقية ،واملقام مقام
جدا ،فنذكر من ذلك شيئًا ًاملسألة فكثري ً
اختصار ،فلنذكر من كالمه ما ينبهك على الشبه ،اليت استدل هبا من ذكرنا يف
الذي يعبد قبة الكواز ،وأن الشيخ توقف يف تكفريه ،ونذكر أوالً
-423-
مساق اجلواب وما الذي سيق ألجله وهو :أن الشيخ حممد رمحه اهلل ،ومن
حكى عنه هذه القصة يذكرون ذلك معذرة له عن ما يدعيه خصومه عليه من
تكفري املسلمني ،وإالَّ فهي نفسها دعوى ال تصلح أن تكون حجة ،بل حتتاج
لدليل وشاهد من القرآن والسنة ،ومن فتح اهلل بصريته ،وعويف من التعصب،
وكان ممن اعتى ببيان هذه املسألة بيانًا شافيًا ،وجزم بكفر املعني يف مجيع
مصنفاته ،وال يتوقف يف شيء منها ،ولنرجع إىل مساق اجلواب الذي أشرنا إليه.
قال الشيخ عبد اللطيف رمحه اهلل على قول العراقي :قد كفِّرم احلرمني
وأهلها ،فذكر كالمه وأجاب عنه إىل أن قال :قال العراقي :ومن املعلوم أن املنع
من تكفري املسلمني الذين تكلموا يف هذا الباب وإن أخطأوا ،من أحق األغراض
الشرعية ،وهو إذا اجتهد فله أجران إن اصاب ،وإن أخطأ فله أجر واحد .انتهى
كالم العراقي .واجلواب أن يقال :هذا الكالم من جنس حتريفه الذي قررناه ،ويف
هذا حتريفني:
أحدهما :أنه أسقط السؤال وفرضه يف التكفري ،يف املسائل اليت وقع فيها
نزا وخالف بني أهل السنة واجلماعة واْلوارج والروافض ،فإهنم كفروا املسلمني
()1
أصلوه ووضعوه وانتحلوه ما سقط هذا وأهل السنة مبخالفتهم فيما ابتدعوه و َّ
خوفًا من أن يقال دعا أهل القبور وسؤاهلم واالستغاثة هبم من هذا الباب ،ول
يتناز فيها املسلمون ،بل هي جممع على أهنا من الشرك املكفر كما حكاه شيخ
اإلسالم ابن تيمية ،وجعلها مما ال خالف يف التكفري هبا ،فال يصح محل كالمه
هنا على ما جزم هو بأنه كفر جممع عليه،
-424-
خمتلفا ،وقد نزهه اهلل وصانه عن
ولو صح محل هذا العراقي لكان قوله قوالً ً
هذا ،فكالمه متفق يشهد بعضه لبعض.
إذا عرفت هذا عرفت حتريف العراقي يف إسقاطه بعض الكالم وحذفه،
أيضا فاحلذف ألصل الكالم خيرجه عن وجهه وإرادة املقصود. و ً
التحريف الثاني :أن الشيخ رمحه اهلل قال :أصل التكفري للمسلمني،
مسمى املسلمني ،كما سننقل من وعبارات الشيخ أخرجت عبَّاد القبور من َّ
كالمه يف احلكم عليهم بأهنم ال يدخلون يف املسلمني يف مثل هذا الكالم،
كالما فيما أخطأ من املسلمني يف بعض الفرو -إىل أن قال :-فمن فذكر ً
اعتقد يف بشر أنه إله ،أو دعا ميتًا وطلب منه الرزق والنصر واهلداية وتوكل عليه
وسجد له ،فإنه يستتاب فإن تاب وإالَّ ضربت عنقه .انتهى.
فبطل استدالل العراقي واهندم من أصله كيف جيعل النهي عن تكفري
املسلمني متناوالً ملن يدعو الصاحلني ،ويستغيث هبم مع اهلل ،ويصرف هلم من
العبادات ما ال يستحق إالَّ اهلل؟! وهذا باطل بنصوص الكتاب والسنة وإمجا
علماء األمة.
ومن عجيب جهل العراقي أنه حيتج على خصمه بنفس الدعوى ،والدعوى
قاطعا على
ال تصلح دليالً ،فإن دعوى العراقي إلسالم عباد القبور حتتاج دليالً ً
إسالمهم ،فإذا ثبت إسالمهم منع من تكفريهم ،والتفريع ليس مشكالً....
وقال -أي اإلمام حممد بن عبد الوهاب -وقد سئل عن مثل هؤالء
وتأهل ملعرفتها يكفر بعبادة القبور ،وأما
اجلهال ،فقرر :أن من قامت عليه احلجة َّ
من أخلد إىل األرض واتبع هواه فال أردي ما حاله .وقد سبق من كالمه ما فيه
العالَّمة ابن القيم رمحه اهلل جزم بكفر املقلدين ملشاخيهم يف
كفاية ،مع أن َ
وتأهلوا لذلك،
املسائل املكفرة إذا َتكنوا من طلب احلق ومعرفته َّ
-426-
وأعرضوا ،ول يلتفتوا ،ومن ل يتمكن ،ول يتأهل ملعرفة ما جاءت به الرسل،
فهو عنده من جنس أهل الفرتة ،ممن ل تبلغه دعوة لرسول من الرسل.
مسمى املسلمني ،حىت
كال النوعني ال حيكم بإسالمهم ،وال يدخلون يف َّ
عند من ل يكفر بعضهم -وسيأتيك كالمه .-وأما الشرك فهو يصدق عليهم،
وامسه يتناوهلم ،وأي إسالم يبقى مع مناقضة أصله وقاعدته الكربى :شهادة أن
ال إله إالَّ اهلل....
قلت -أي الشيخ إسحاق صاحب الرسالة :-وهذا من أعظم ما يبني
اجلواب عن قوله يف اجلاهل العابد لقبة الكواز ،ألنه ل يستثن يف ذلك ال جاهالً
مطلقا وتوقفه رمحه اهلل يف بعض
وال غريه ،وهذه طريقة القرآن :تكفري من أشرك ً
أيضا فإنه كما ترى توقف مرة كمااألجوبة ،حيمل على أنه ألمر من األمور ،و ً
يف قوله :وأما من أخلد إىل األرض فال أدري ما حاله.
فيا هلل العجب كيف يرتك قول الشيخ يف مجيع املواضع ،مع دليل الكتاب
والسنة ،وأقوال شيخ اإلسالم وابن القيم ،كما يف قوله من بلغه القرآن فقد
قامت عليه احلجة ،ويقبل يف موضع واحد من اإلمجال....
كالما البن القيم ذكره يف طبقات املكلفني نقله عنه الشيخ «عبدولنذكر ً
اللطيف» يف رده على العراقي مثل التفسري ملا ذكرنا لك ،وجيلو عنك بقايا هذه
الشبهة.
قال ابن القيم رمحه اهلل تعاىل يف كتاب طبقات املكلفني ،ملا ذكر رءوس
صدوا عن سبيل اهلل ،وأن عذاهبم مضاعف ،مث قال :الطبقة الكفار ،الذين ُّ
السابعة عشر ،طبقة املقلِّدين َّ
وجهال الكفر وأتباعهم ومحريهم ،الذين هم معهم
تبع ،يقولون :إنا وجدنا آباءنا على أمة ،ولنا أسوة هبم ،ومع هذا فهم مساملون
ألهل اإلسالم غري حماربني هلم ،كنساء احملاربني وخدمهم
-425-
وأتباعهم ،الذين ل ينصبوا أنفسهم ملا نصب له أولئك أنفسهم من السعي
يف إطفاء نور اهلل ،وهدم دينه ،وإمخاد كلماته ،بل هم مبنزلة الدواب ،وقد
أن هذه الطبقة كفار ،وإن كانوا جهاالً مقلدين لرؤساءهم اتفقت األمة على َّ
وأئمتهم ،إالَّ ما حيكى عن بعض أهل البد ،أنه ل حيكم هلؤالء بالنار ،وجعلهم
مبنزلة من ل تبلغه الدعوة ،وهذا مذهب ل يقل به أحد ،من أئمة املسلمني وال
الصحابة وال التابعون وال من بعدهم ،وإمنا يعرف عن بعض أهل الكالم احملدث
يف اإلسالم.
صح عن النيب أنه قال« :ما من مولد إالَّ وهو يولد على الفطرة وقد َّ
فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو ميجسانه» ،فأخرب أن أبواه ينقالنه عن الفطرة إىل
اليهودية أو النصرانية أو اجملوسية ،ول يعترب يف ذلك غري املرىب واملنشأ على ما
عليه األبوان ،وصح عن النيب أنه قال« :إن اجلنة ال يدخلها إالَّ نفس
مسلمة» ،وهذا املقلد ليس مبسلم ،وهو عاقل مكلف ،والعاقل ال خيرج عن
اإلسالم أو الكفر ،وأما من ل تبلغه الدعوة فليس مبكلف يف تلك احلال ،وهو
مبنزلة األطفال واجملانني ،وقد تقدم الكالم عليهم.
ـ قلت :وهذا الصنف أعن من ل تبلغهم الدعوة ،هم الذين استثناهم شيخ
اإلسالم ابن تيمية فيما نقل العراقي ،واستثناهم شيخنا حممد بن عبد الوهاب
رمحه اهلل تعاىل.
واإلسالم :هو توحيد اهلل وعبادته وحده ال شريك له ،واإلميان برسوله
كافرا
واتباعه فيما جاء به .فما ل يأت العبد هبذا فليس مبسلم ،وإن ل يكن ً
معاندا ،فهو كافر جاهل ،فغاية هذه الطبقة أهنم :كفار جهال غري معاندين، ً
كفارا ،فإن الكافر :من جحد توحيد اهللوعدم عنادهم ،ال خيرجهم عن كوهنم ً
وتقليدا ألهل العناد.
عنادا ،وإما جهالً ً
كذب رسوله ،إما ً تعاىل ،و َّ
-424-
فهذا وإن كان غايته أنه غري معاند ،فهو متَّبع ألهل العناد.
وقد أخرب اهلل تعاىل يف القرآن يف غري موضع :بعذاب املقلدين ألسالفهم من
يتحاجون يف النار (مث ذكر آيات يف
ُّ الكفار ،وأن األتبا مع متبوعهم ،وأهنم
هذا وأحاديث مث قال) ،وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إمنا هو :جمرد
اتباعهم وتقليدهم .نعم ال بد يف هذا املقام من تفصيل به يزول اإلشكال ،وهو
الفرق بني :ملقد َتكن من العلم ومعرفة احلق فأعرض عنه ،ومقلد ل يتمكن من
ذلك بوجه ،والقسمان واقعان يف الوجود ،فاملتمكن واملعرض ،مفرط تارك
للواجب عليه ،ال عذر له عند اهلل ،وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي ال
يتمكن من العلم بوجه ،فهم قسمان:
أحدهما :مريد للهدى ،مؤثر له ،حمب له ،غري قادر عليه ،وال على طلبه
لعدم مرشد ،فهذا حكمه حكم أرباب الفرتات ،ومن ل تبلغه الدعوة.
الثاني :معرض ال إرادة له وال حيدث نفسه بغري ما هو عليه.
خريا مما أنا عليه ،لدنت به وتركت ما
فاألول يقول :يا رب لو أعلم لك دينًا ً
أنا عليه ،ولكن ال أعرف سوى ما أنا عليه ،وال اقدر على غريه ،فهو غاية
جهدي وهناية معرفيت.
والثاي :راض مبا عو عليه ال يؤثر غريه عليه وال تطلب نفسه سواه ،وال فرق
عنده بني حال عجزه وقدرته .وكالمها عاجز ،وهذا ال جيب أن يلحق األول ملا
بينهما من الفرق ،فاألول :كما طلب الدين يف الفرتة فلم يظفر به ،فعدل عنه
عجزا وجهالً ،والثاي :كمن ل يطلب بل مات على بعد استفراغ الوسع يف طلبه ً
شركه ،ولو كان طلبه لعجز عنه ،ففرق بني عجز الطالب وعجز املعرض .واهلل
يقضي بني عباده يوم القيامة بعدله وحكمته ،وال يعذب إالَّ من قامت عليه
حجته بالرسل ،فهذا مقطو به يف مجلة
-421-
اْللق ،وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه احلجة أم ال ،فذلك مما ال
ميكن الدخول بني اهلل وعباده فيه.
بل الواجب على العبد أن يعتقد :أن كل من دان بدين غري دين اإلسالم
أحدا إالَّ بعد قيام احلجة عليه بالرسول ،هذا فهو كافر ،وأن اهلل تعاىل ال يعذب ً
يف اجلملة ،والتعيني موكول إىل علم اهلل ،وحكمه هذا يف أحكام الثواب
والعقاب ،وأما أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر األمر ،فأطفال الكفار
وجمانينهم كفار يف أحكام الدنيا هلم حكم أوليائهم.
وهبذا التفصيل يزول اإلشكال يف هذه املسألة وهو مبن على أربعة أصول:
أحدا إالَّ بعد قيام احلجة عليه كما قال أحدها :أن اهلل سبحانه ال يعذب ً
ث َرسوالً﴾ [اإلسراء ،]96 :وقالُّ ﴿ :رسالً تعاىلَ ﴿ :وَما كنَّا م َع ِّذبِ َ
ني َح َّىت نَـْبـ َع َ
الرس ِل﴾ [النساء: ين لِئَالَّ يَكو َن لِلن ِ
َّاس َعلَى اللي ِه ح َّجة بَـ ْع َد ُّ ِِ
ين َومنذر َ ُّمبَ ِّش ِر َ
،]956وذكر آيات مث قال :وقال تعاىلَ ﴿ :وَما ظَلَ ْمنَاه ْم َولَ ِكن َكانوا هم
ِِ
ني﴾ [الزخرف.]45 : الظَّالم َ
والظال :من عرف ما جاء به الرسول ،أو َتكن من معرفته مث خالفه
وأعرض عنه ،وأما من ل يكن عنده من الرسول علم أصالً ،وال َتكن من
معرفته بوجه ،وعجز عن ذلك فكيف يقال أنه ظال.
األصل الثاني :أن العذاب يستحق بشيئني:
أحدمها :اإلعراض عن احلجة وعدم إرادهتا والعمل هبا ومبوجبها.
الثاي :العناد هلا بعد قيامها ،وترك إرادة موجبها.
فاألول :كفر إعراض ،والثاي :كفر عناد.
وأما كفر اجلهل مع عدم قيام احلجة وعدم التمكن من معرفتها ،فهذا هو
الذي نفى اهلل التعذيب عليه حىت تقوم حجته بالرسل.
األصل الثالث :أن قيام احلجة خيتلف باختالف األزمنة واألمكنة
-421-
واألشخاص ،فقد تقوم حجة اهلل على الكفار يف زمان دون زمان ،ويف
بقعة وناحية دون أخرى ،كما أهنا تقوم على شخ دون آخر ،إما لعدم عقله
وَتيزه كالصغري واجملنون ،وإما لعدم فهمه لكونه ال يفهم ول حيضر ترمجان يرتجم
له ،فهذا مبنزلة األصم الذي ال يسمع شيئًا ،وال يتمكن من التفهم وهو أحد
األربعة الذين يدلون على اهلل باحلجة يوم القيامة ،كما تقدم يف حديث األسود
وأيب هريرة وغريمها إىل آخره.
()1
مث قال الشيخ رمحه اهلل :فقف هنا وتأمل هذا التفصيل البديع ،فإنه رمحه
اهلل ل يستثن إالَّ من عجز عن إدراك احلق ،مع شدة طلبه وإرادته له ،فهذا
الصنف هو املراد يف كالم شيخ اإلسالم وابن القيم وأمثاهلما من احملققني ،وأما
العراقي وإخوانه املبطلون فشبهوا بأن الشيخ ال يكفر اجلاهل ،وأنه يقول هو
ترسا يدفعون به اآليات
معذور ،وأمجلوا القول ول يفصلوا ،وجعلوا هذه الشبهة ً
القرآنية ،واألحاديث النبوية ،وصاحوا على عباد اهلل املوحدين ،كما جرى
ألسالفهم من عباد القبور واملشركني.
وإىل اهلل املصري وهو احلاكم بني عباده فيما كانوا فيه خيتلفون إىل آخر ما
ذكر الشيخ رمحه اهلل.
صمم على الباطل، فتأمل إن كنت ممن يطلب احلق بدليله ،وإن كنت ممن َّ
وأراد أن يستدل عليه مبا أمجل من كالم العلماء ،فال عجب.
()2
وصلَّى اهلل على حممد النيب األمي وعلى آله وصحبه أمجعني» .
-435-
مقتطفات من الرسالة الثانية
بقلم الشيخ
عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب
-439-
شرك ،وضالل ،يستتاب صاحبه ،فإن تاب وإالَّ قتل....
واملقصود :بيان ما كان عليه شيخ اإلسالم ،وإخوانه من أهل السنَّة
واجلماعة من إنكار الشرك أألكرب الواقع يف زماهنم ،وذكرهم األدلة من الكتاب
والسنَّة على كفر من فعل هذا الشرك أو اعتقده ،فإنه حبمد اهلل يهدم ما بناه -
هذا اجلاهل املفرتي -على شفا جرف هار....
وال ريب :أن اهلل تعاىل ل يعذر أهل اجلاهلية ،الذين ال كتاب هلم ،هبذا
الشرك األكرب ،كما يف حديث عياض بن محار :عن النيب « :إن اهلل نظر إىل
أهل األرض ،فمقتهم عرهبم وعجمهم ،إالَّ بقايا من أهل الكتاب» ،فكيف
يعذر أمة كتاب اهلل بني أيديهم ،يقرؤونه ،ويسمعونه ،وهو حجة اهلل على
َّاس ولِين َذرواْ بِِه ولِيـعلَمواْ أََّمنَا هو إِلَـه و ِ ِّ
احد َ َ َ َْ عباده ،كما قال تعاىلَ ﴿ :هـ َذا بَالَغ للن ِ َ
اب﴾ [إبراهيم.]62 : ولِي َّذ َّكر أولواْ األَلْب ِ
َ ََ َ ْ
كذلك سنَّة رسول اهلل ،اليت َّبني فيها :افرتاق األمة ،إىل ثالث وسبعني
فرقة ،كلها يف النار إالَّ واحدة ،وهي اجلماعة.
مث جييء من ميوه على الناس ،ويفتنهم عن التوحيد ،بذكر عبارات ألهل
العلم ،يزيد فيها وينق ،وحاصلها :الكذب عليهم؛ ألنه يف أناس هلم إسالم
ودين ،وفيهم مقاالت كفرهم هبا طائفة من أهل العلم ،وتوقف بعضهم يف
تكفريهم حىت تقوم عليهم احلجة ،ول يذكرهم بعض العلماء يف جنس املشركني،
وإمنا ذكروهم يف الفساق ،كما ستقف عليه يف كالم العالَّمة ابن القيم ،إن شاء
اهلل تعاىل...
-432-
قال رمحه اهلل :وفسق االعتقاد كفسق أهل البد ،الذين يؤمنون باهلل
حرمه اهلل ورسوله ،ويوجبون ما أوجبه اهلل؛ ورسوله ،واليوم اآلخر ،وحيرمون ما َّ
وتقليدا للشيوخ ،ويثبتون
ً كثريا مما أثبته اهلل ورسوله ،جهالً وتأويالً،
لكن ينفون ً
ما ل يثبته اهلل ورسوله كذلك ،وهؤالء كاْلوارج املارقة ،وكثري من الروافض،
والقدرية ،واملعتزلة ،وكثري من اجلهمية ،الذين ليسوا غالة يف التجهم.
وأما غالية اجلهمية :فكغالة الرافضة ،وليس للطائفتني يف اإلسالم نصيب؛
ولذلك أخرجهم مجاعة من السلف من الثنتني وسبعني فرقة وقالوا :هم مباينون
للملَّة ...إىل أن قال :فتوبة هؤالء الفساق ،من جهة االعتقادات الفاسدة،
أيضا ،حىت يبينوا فساد ما كانوا مبحض اتبا السنَّة ،وال يكتفي منهم بذلك ً
عليه من البدعة ،إذ التوبة من كل ذنب هي بفعل ضده .انتهى املقصود .فتأمل
كيف جعل أهل هذه البد يف جنس الفساق ،ألهنم يؤمنون باهلل ورسوله ،واليوم
اآلخر....
وقال شيخ اإلسالم رمحه اهلل تعاىل ،يف الفتاوى املصرية :قد قال بعض الناس
()1
إنه جتوهر ،وهذا قول قوم داوموا على الرياضة مدة ،فقالوا :ال نبايل مبا علمنا
،وإمنا األمر والنهي رسم العوام ،ولو جتوهروا سقط عنهم ،وحاصل النبوة يرجع
إىل احلكمة واملصلحة ،واملراد منها ضبط العوام ،ولسنا من العوام فندخل يف
التكليف؛ ألنا قد جتوهرنا ،وعرفنا احلكمة.
فهؤالء أكفر من اليهود والنصارى ،بل هم أكفر أهل األرض ،فإن اليهود
والنصارى آمنوا ببعض ،وكفروا ببعض ،وهؤالء كفروا باجلميع ،خارجون عن
التزام شيء من احلق؛ مث قال :ومن جحد بعض الواجبات
احملرمات الظاهرة ،كالفواحـش والظـلم، الظاهرة املتواترة ،أو جحد بعض َّ
-433-
واْلمر والزنا والربا ،أو جحد حل بعض املباحات الظاهرة املتواترة ،كاْلبز
واللحم والنكاح ،فهو كافر مرتد ،يستتاب فإن تاب وإالَّ قتل.
قلت :ول يقل شيخ اإلسالم :إهنم يعذرون باجلهل ،بل كفَّرهم ،وقال :إهنم
ارتدوا؛ قال :ومن أضمره فهو منافق ،ال يستتاب عند أكثر العلماء؛ ومن هؤالء:
من يستحل بعض الفواحش ،كمواخات النساء األجانب ،واْللوة هبن ،واملباشرة
حمرًما يف الشريعة.هلن ،يف عامة أن حيصل هلن الربكة ،مبا يفعله معهن ،وإن كان َّ
وكذلك من يستحل ذلك يف املردان ،ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم،
ومباشرهتم ،هو طريق لبعض السالكني ،حىت يرتقى يف حمبة املخلوق إىل حمبة
اْلالق ،ويأمرون مبقدمات الفاحشة الكربى ،كما يستحلها من يقول :إن اللواط
مباح مبلك اليمني ،هؤالء كلهم كفار باتفاق أئمة املسلمني .انتهى.
قلت :فنحن -حبمد اهلل -ننكر هذه الكفريات ،ونعادي أهلها ،فإن أىب
املنحرف ،إالَّ أن يطعن علينا بقوله :كفَّرم أمة حممد؛ قلنا :معاذ اهلل ،ال نكفر
مسلما ،وال جنحد ما أعطى اهلل أمة حممد من الفضائل ،اليت ل يعطها أمة ً
قبلها ،وهم األمة الوسط بن الكتاب...
(المشرك :أثبت ما نفته ل إله إل اهلل ،ونفى ما أثبتته ،فكيف يكون
مسلما)؟
ا
وقد اغرت كثري من الناس يف أمر الدين ،مبجرد التلفظ بال إله إالَّ اهلل ،مع
اعتقادا ،فيثبت ما نفته ال إله إالَّ اجلهل مبدلوهلا ،وخمالفة مضموهنا ،قوالً وعمالً و ً
اهلل ،ومن الشرك باهلل ،وينفي ما أثبتته ال إله إالَّ اهلل ،من إخالص العبادة هلل،
ِّين حنَـ َفاء َوي ِقيموا
ني لَه الد َ
ِِ ِ ِ
كما قال تعاىلَ ﴿ :وَما أمروا إَِّال ليَـ ْعبدوا اللَّهَ ْخملص َ
ك ِدين الْ َقيِّ َم ِة﴾ [البينة.]6 : ِ الص َال َة َويـ ْؤتوا َّ
الزَكا َة َو َذل َ َّ
فإذا دعا غري اهلل ،واستغاث به فيما ال يقدر عليه إالَّ اهلل؛ وقال له
املوحدون: ِّ
-434-
ال يعبد إالَّ اهلل ،والعبادة جبميع أنواعها مقصورة على اهلل؛ قال :تنقَّصتم
الصاحلني ،وأمثال ذلك من العبارات ،املتضمنة للكفر مبعى ال إله إالَّ اهلل،
واإلنكار على من دعا إىل مضمون ال إله إالَّ اهلل ،وهو إخالص العبادة هلل ،كما
ين َال يـ ْؤِمنو َن بِ ْاآل ِخَرةِ َوإِ َذا َّ ِ قال تعاىلَ ﴿ :وإِ َذا ذكَِر اللَّه َو ْح َده ْ
َّت قـلوب الذ َ امشَأَز ْ
ين ِمن دونِِه إِ َذا ه ْم يَ ْستَْب ِشرو َن﴾ [الزمر.]46 : ِ َّ ِ
ذكَر الذ َ
فما أشبه هؤالء مبن نزلت فيهم هذه اآلية....
مث إن اجلاهل املرتاب ،قال يف أوراقه قوالً ،قد تقدَّم اجلواب عنه ،وال بد من
اإلميَ ِ
ين َسبَـقونَا بِ ِْ ِ َّ ِ ِ
ان ﴾ ذكره ،قال :فإذا قال املسلمَ ﴿ :ربَّـنَا ا ْغف ْر لَنَا َوِِإل ْخ َواننَا الذ َ
[احلشر .]95 :يقصد من سبقه من قرون األمة باإلميان ،وإن كان قد أخطأ يف
كفرا ،أو فعله ،وهو ال يعلم أنه يضاد الشهادتني ،فإنه من تأويل تأوله ،أو قال ً
إخوانه الذين سبقوه باإلميان.
(األدلة على عدم العذر بالجهل ،أو بالخطأ في الشرك األكبر)
فأقول :انظر إىل هذا التهافت والتخليط ،والتناقض ،وال ريب :أن الكفر
ينايف اإلميان ،ويبطله ،وحيبط األعمال ،بالكتاب والسنَّة وإمجا املسلمني ،قال
اآلخرةِ ِمن ْ ِ
ِ ِ اهلل تعاىل﴿ :ومن يكْفر بِا ِإلميَ ِ
ان فَـ َق ْد َحبِ َ
اْلَاس ِر َ
ين﴾ ط َع َمله َوه َو يف َ َ ََ َ ْ
[املائدة.]6 :
ويقال :كل كافر قد أخطأ ،واملشركون ال بد هلم من تأويالت ،ويعتقدون
أن شركهم بالصاحلني ،تعظيم هلم ينفعهم ،ويدفع عنهم ،فلم يعذروا بذلك
ين َّاختَذوا ِمن دونِِه أ َْولِيَاء َما َّ ِ
اْلطأ ،وال بذلك التأويل ،بل قال اهلل تعاىلَ ﴿ :والذ َ
نَـ ْعبده ْم إَِّال لِيـ َقِّربونَا إِ َىل اللَّ ِه زلْ َفى إِ َّن اللَّهَ َْحيكم بَـْيـنَـه ْم ِيف َما ه ْم فِ ِيه َخيْتَلِفو َن إِ َّن
اللَّهَ َال يَـ ْه ِدي َم ْن ه َو َك ِاذب َكفَّار﴾ [الزمر.]3 :
ون اللي ِه َوَْحي َسبو َن أَنـَّهم اطني أَولِياء ِمن د ِ ِ َّ ِ
وقال تعاىل﴿ :إنـَّهم اختَذوا الشَّيَ َ ْ َ
ُّم ْهتَدو َن﴾ [األعراف.]35 :
-436-
َّ ِ
ض َّل َس ْعيـه ْم ِيف ين َ ين أ َْع َم ًاال * الذ َ وقال تعاىل ﴿ :ق ْل َه ْل نـنَبِّئك ْم بِ ْاأل ْ
َخ َس ِر َ
ك الَّ ِذين َك َفروا بِآي ِ
ات َرِّهبِ ْم ِ ِ احلَيَاةِ ُّ
َ الدنْـيَا َوه ْم َْحي َسبو َن أَنـَّه ْم ْحيسنو َن صْنـ ًعا * أولَئ َ َ ْ
ت أ َْع َماهل ْم فَ َال ن ِقيم َهل ْم يَـ ْوَم الْ ِقيَ َام ِة َوْزنًا ﴾ [الكهف– 953 : ِ ِِ
َول َقائه فَ َحبِطَ ْ
.]956
فأين ذهب عقل هذا عن هذه اآليات ،وأمثاهلا من اآليات احملكمات؟!
والعلماء رمحهم اهلل تعاىل سلكوا منهج االستقامة ،وذكروا باب حكم املرتد،
كفرا ،وهو ال يعلم أنه يضاد كفرا ،أو فعل ً ول يقل أحد منهم :أنه إذا قال ً
الشهادتني ،أنه ال يكفر جلهله .وقد َّبني اهلل يف كتابه :أن بعض املشركني جهال
مقلدون ،فلم يدفع عنهم عقاب اهلل جبهلهم وتقليدهم ،كما قال تعاىلَ ﴿ :وِم َن
َّاس َمن جيَ ِادل ِيف اللَّ ِه بِغَ ِْري ِعْلم َويَـتَّبِع ك َّل َشْيطَان َّم ِريد﴾ إىل قوله﴿ :إِ َىل الن ِ
السعِ ِري﴾ [احلج.]4 - 3 : اب َّ َع َذ ِ
َّاس َمن جيَ ِادل مث ذكر الصنف الثاي :وهم املبتدعون ،بقوله تعاىلَ ﴿ :وِم َن الن ِ
ِيف اللَّ ِه بِغَ ِْري ِعْلم َوَال ه ًدى َوَال كِتَاب ُّمنِري﴾ [احلج .]1 :فسلبهم العلم واهلدى،
اغرت هبم األكثرون ملا عندهم من الشبهات واْلياالت ،فضلُّوا ومع ذلك فقد َّ
ون اللَّ ِه َما َلْ يـنَـِّزْل بِِه
وأضلُّوا ،كما قال تعاىل يف آخر السورة﴿ :ويـعبدو َن ِمن د ِ
ََْ
صري﴾ [احلج.]49 : سْلطَانًا وما لَيس َهلم بِِه ِعْلم وما لِلظَّالِ ِمني ِمن نَّ ِ
َ ََ ََ ْ َ
وقد دلت اآليات احملكمات :على كفر من أِشرك باهلل غريه يف عبادته ،قال
نسا َن ضر َد َعا َربَّه منِيبًا إِلَْي ِه مثَّ إِ َذا َخ َّولَه نِ ْع َمةً ِّمْنه نَ ِس َي َما تعاىلَ ﴿ :وإِ َذا َم َّ ِ
س ْاإل َ
َّع بِك ْف ِرَك قَلِ ًيال ِِ ِ
َند ًادا لِّيض َّل َعن َسبِيله ق ْل َتََت ْ
ِ
َكا َن يَ ْدعو إِلَْي ِه ِمن قَـْبل َو َج َع َل للَّ ِه أ َ
اب النَّا ِر﴾ [الزمر.]1 : َصح ِ إِنَّ َ ِ
ك م ْن أ ْ َ
وهلا نظائر كثرية سوى ما تقدَّم ،كقوله﴿ :قَالواْ أَيْ َن َما كنت ْم تَ ْدعو َن ِمن
ِ ِِ ِ ِ ِ
ين﴾ [األعراف: ضلُّواْ َعنَّا َو َشهدواْ َعلَى أَنفسه ْم أَنـَّه ْم َكانواْ َكاف ِر َ دون الليه قَالواْ َ
.]34
ففي هذه اآلية من البيان :أن معظم شركهم هو :دعاؤهم ،وأنه كفر باهلل،
-435-
فال اعتبار مبن أعمى اهلل بصريته ،عن تدبُّر كتاب اهلل ،وسنَّة رسوله .
وهذا اجلاهل يدَّعي أنه ينقل من «منهاج السنَّة» لشيخ اإلسالم ،وقد
عرفت ما يف ذلك من فساد قصده ،ووضعه العبارة يف غري من هي له ،وما قصد
هبا .وهذا كالم شيخ اإلسالم ،رمحه اهلل تعاىل ،يف املنهاج ،يطابق ما قد أسلفناه
عنه يف هذا اجلواب.
بالردة :خصوم أيب بكر الصديق قال رمحه اهلل تعاىل :وأشهر الناس َّ
وأتباعه ،كمسيلمة الكذاب ،وأتباعه ،وغريهم.
حرقهم علي بالنار ،ملا ادعوا فيه ردة :الغالية الذين َّ
ومن أظهر الناس َّ
اإلهلية؛ والسبئية أتبا عبد اهلل بن سبأ ،الذي أظهر سب أيب بكر وعمر.
وأول من ظهر عنه دعوة النبوة ،من املنتسبني إىل اإلسالم :املختار بن أيب
عبيد ،وكان من الشيعة ،فعلم :أن أعظم الناس ردة هم الشيعة أكثر منهم يف
سائر الطوائف؛ وهلذا ال يعرف أسوأ ردة من ردة الغالية ،كالنصريية ،ومن ردة
اإلمساعيلية الباطنية ،وحنوهم .انتهى.
جهال ،يظنون أهنم على احلق ،ومع ذلك كثريا من هؤالء َّ
ومن املعلوم :أن ً
حكم شيخ اإلسالم بسوء ردهتم.
أيضا :وأشهر الناس بقتال املرتَّدين ،هو أبو بكر الصديق ،فال وقال ً
يكون املرتدون يف طائفة أكثر مما يف خصوم أيب بكر .انتهى.
أخرج البخاري ومسلم يف صحيحهما ،عن أيب هريرة :أن رسول اهلل
قال« :يرد عل َّي يوم القيامة رهط من أصحايب ،أو قال من أميت ،فيجلون عن
احلوض؛ فأقول :أصحايب أصحايب ،فيقال :إنه ال علم لك مبا أحدثوا بعدك،
()1
إهنم ارتدوا على أدبارهم القهقري» ،ويف رواية« :فَـي َحلَّئون» .
-434-
وللبخاري ،قال رسول اهلل « :بيما أنا قائم على احلوض ،إذا زمرة ،حىت
هلم؛ فقلت :إىل أين؟ قال :إىلإذا عرفتهم ،خرج رجل من بين وبينهم ،قالَّ :
النار واهلل؛ قلت :فما شأهنم؟ قال :إهنم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري ،مث
هلم؛ فقلت :إىل
إذا زمرة ،حىت إذا عرفتهم ،خرج رجل من بين وبينهم ،فقالَّ :
أين؟ قال :إىل النار واهلل؛ قلت :فما شأهنم؟ قال :إهنم ارتدوا على أدبارهم ،وال
()1
أراه خيل منهم إالَّ مثل مهالء النعم» .
قلت :فدلَّت األحاديث ،على أن يف خري قرون األمة ،من قد ارتد عن
وصرح به يف منهاج
اإلسالم؛ وذكر شيخ اإلسالم :أن ذلك وقع يف طوائفَّ ،
السنَّة وغريه .وأخبار هؤالء الطوائف ،وذكر مقاالهتم ،وكفرياهتم ،مبسوط يف
كتب العلماء ،وتواريخ اإلسالم ،ال خيفى ذلك إالَّ على من هو أجهل الناس
بالعلم والعلماء ،كهذا اجلاهل البليد ،الذي أخذ عن أشياخه عداوة
()2
التوحيد» .
* * *
( )1الرواية يف البخاري« :مهل النعم» ،قال احلافظ :واهلَ َمل بفتحتني :اإلبل بال را .وقال اْلطايب:
اهلمل ما ال يرعى ،وال يستعمل ،ويطلق على الضوال .واملعى :أنه ال يرده منهم إالَّ القليل ،ألن
اهلمل يف اإلبل قليل بالنسبة لغريه .اهـ« .فتح الباري».)413/99( :
(« )2الدرر السنية» ،)445/99( :ويراجع يف هذا املقام -على سبيل املثال ال احلصر ـ :مفيد
املستفيد يف كفر تارك التوحيد إلمام الدعوة حممد بن عبد الوهاب ،واالنتصار حلزب اهلل املوحدين،
وبيان الشرك أليب بطني...
-431-
المبحث الخامس
األدلة الصحيحة الصريحة الدالة على ثبوت وصف الشرك
وحكمه لمن وقع في عبادة غير اهلل ،وإن كان جاهالا أو متأولا
ولم تقم عليه حجة البالغ
-431-
أيضا رحمه اهلل:
وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين ا
يبني أن اجلهل ليس بعذر يف اجلملة ،قوله يف اْلوارج ما قال ،مع «ومما ِّ
عبادهتم العظيمة .ومن املعلوم :أنه ل يوقعهم ما وقعوا فيه إالَّ اجلهل ،وهل صار
عذرا هلم؟
اجلهل ً
يوضح ما ذكرنا :أن العلماء من كل مذهب ،يذكرون يف كتب الفقه :باب
حكم« املرتد» وهو املسلم الذي يكفر بعد إسالمه.
وأول شيء يبدأون به من أنوا الكفر :الشرك ،يقولون :من اشرك باهلل
كفر ،ألن الشرك عندهم أعظم أنوا الكفر ،ول يقولوا إن كان مثله ال جيهله،
كما قالوا فيما دونه ،وقد قال النيب ملا سئل :أي الذنب أعظم إمثًا عند اهلل؟
ندا وهو خلقك» ،فلو كان اجلاهل أو املقلد ،غري حمكوم قال« :أن جتعل هلل ً
بردته إذا فعل الشرك ،ل يغفلوه ،وهذا ظاهر.
َّ
(األدلة على عدم اإلعذار بالجهل في الشرك األكبر)
وقد وصف اهلل سبحانه أهل النار باجلهل ،كقوله تعاىلَ ﴿ :وقَالوا لَْو كنَّا
السعِ ِري﴾ [امللك.]95 : َصح ِ ِ
اب َّ نَ ْس َمع أ َْو نَـ ْعقل َما كنَّا ِيف أ ْ َ
نس َهل ْم قـلوب الَّ يَـ ْف َقهو َن ِهبَا اجلِ ِّن َوا ِإل ِ
َّم َكثِ ًريا ِّم َن ْ ِ
وقالَ ﴿ :ولََق ْد َذ َرأْنَا جلَ َهن َ
ِ وَهلم أَعني الَّ يـب ِ ِ
ك َكاألَنْـ َع ِام بَ ْل ه ْمصرو َن هبَا َوَهل ْم آ َذان الَّ يَ ْس َمعو َن هبَا أ ْولَـئِ َ ْ َ ْ ْ
ك هم الْغَافِلو َن﴾ [األعراف.]941 : َض ُّل أ ْولَـئِ َ
أَ
احلياةِ َّ ِ
ض َّل َس ْعيـه ْم ِيف ََْ ين َ ين أ َْع َم ًاال * الذ َ وقال﴿ :ق ْل َه ْل نـنَبِّئك ْم بِ ْاأل ْ
َخ َس ِر َ
الدنْـيَا َوه ْم َْحي َسبو َن أَنـَّه ْم ْحي ِسنو َن صْنـ ًعا﴾ [الكهف.]954 ،953 : ُّ
ِ
الضالَلَة إِنـَّهم َّاختَذوا الشَّيَاط َ
ني وقال تعاىل﴿ :فَ ِري ًقا َه َدى َوفَِري ًقا َح َّق َعلَْي ِهم َّ
ون اللي ِه َوَْحي َسبو َن أَنـَّهم ُّم ْهتَدو َن﴾ [األعراف.]35 : أَولِياء ِمن د ِ
َْ
-445-
()1
-عند تفسري هذه اآلية -وهذا يدل على أن اجلاهل غري قال ابن جرير
معذور.
ومن املعلوم :أن أهل البد الذين كفَّرهم السلف والعلماء بعدهم ،أهل علم
حرقهم علي بن وعبادة وفهم وزهد .ول يوقعهم فيما ارتكبوه إالَّ اجلهل .والذين َّ
أيب طالب بالنار ،هل أفنهم إالَّ اجلهل؟ ولو قال إنسان :أنا أشك يف البعث بعد
املوت ،ل يتوقف من له أدىن معرفة يف كفره ،والشاك جاهل ،قال تعاىلَ ﴿ :وإِ َذا
اعة إِن نَّظ ُّن إَِّال ب فِ َيها قـْلتم َّما نَ ْد ِري َما َّ
الس َ اعة َال َريْ َ يل إِ َّن َو ْع َد اللَّ ِه َحق َو َّ
الس َ
ِ
ق َ
ني﴾ [اجلاثية.]32 : ِ ِِ
ظَنًّا َوَما َْحنن مب ْستَـْيقن َ
وقد قال اهلل تعاىل عن النصارىَّ ﴿ :اختَذواْ أَحبارهم ورهبانَـهم أَربابا ِّمن د ِ
ون ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َْ ً
اللي ِه والْم ِسيح ابن مرَمي وما أ ِمرواْ إِالَّ لِيـعبدواْ إِلَـها و ِ
اح ًدا الَّ إِلَـهَ إِالَّ ه َو سْب َحانَه ً َ َْ َ َ َ ْ َ َْ َ َ َ
َع َّما ي ْش ِركو َن﴾ [التوبة.]39 :
قال عدي بن حام للنيب :ما عبدناهم ،قال « :أليس حيلُّون ما حرم
فتحرمونه؟» قال :بلى ،قال« :فتلك وحيرمونه ما أحل اهلل ِّ اهلل فتحلُّونه؟ ِّ
عبادهتم» فذمهم اهلل سبحانه ،ومسَّاهم مشركني ،مع كوهنم ل يعلموا أن فعلهم
معهم هذا عبادة هلم ،فلم يعذروا باجلهل.
ولو قال إنسان عن الرافضة يف هذا الزمان :إهنم معذورون يف سبِّهم
الشيخني وعائشة ،ألهنم جهال مقلِّدون ،ألنكر عليه اْلـاص والعام ،وما
( )1نقل احلافظ ابن كثري رمحه اهلل يف هذه اآلية عن اإلمام ابن جرير الطربي قوله وأقره عليه« :وهذا
أحدا على معصية ركبها ،أو ضاللة من أبني الداللة على خطأ من زعم :أن اهلل ال يعذب ً
عنادا منه لربه فيها ،ألن ذلك لو
اعتقدها ،إالي أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها ،فريكبها ً
كان كذلك ،ل يكن بني فريق الضاللة الذي ضل ،وهو حيسب أنه هاد ،وفريق اهلدى ،فرق.
وقد َّفرق اهلل تعاىل بني أمسائهما وأحكامهما يف هذه اآلية» ،وقال اإلمام البغوي فيها« :وفيه دليل
على أن الكافر ،الذي يظن أنه يف دينه على احلق ،واجلااحد ،واملعاند ،سواء».
-449-
تقدم من حكاية شيخ اإلسالم رمحه اهلل ،إمجا املسلمني على :أن من
جعل بينه وبني اهلل وسائط ،يتوكل عليهم ،ويسأهلم جلب املنافع ودفع املضار،
أنه كافر مشرك ،يتناول اجلاهل وغريه.
(الشرك التعبدي ل يقع إل مع الجهل)
ألنه من املعلوم :أنه إذا كان إنسان يقر برسالة حممد ويؤمن بالقرآن،
ويسمع ما ذكر اهلل سبحانه يف كتابه ،من تعظيم أمر الشرك ،بأنه ال يغفره ،وأن
صاحبه خملد يف النار ،مث يقدم عليه وهو يعرف أنه شرك ،هذا مما ال يفعله
عاقل ،وإمنا يقع فيه من جهل أنه شرك ،وقد قدمنا كالم ابن عقيل يف جزمه
بكفر الذين وصفهم باجلهل فيما ارتكبوه ،من الغلو يف القبور ،نقله عنه ابن
القيم مستحسنًا له.
والقرآن يرد على من قال :إن املقلد يف الشرك معذور ،فقد افرتى وكذب
على اهلل ،وقد قال اهلل تعاىل عن املقلدين من أهل النار﴿ :إِنَّا أَطَ ْعنَا َس َادتَـنَا
السبِ َيال﴾ [األحزاب .]54 :وقال سبحانه حاكيًا عن الكفار َضلُّونَا َّ
َوكبَـَراءنَا فَأ َ
قوهلم﴿ :إِنَّا َو َج ْدنَا آبَاءنَا َعلَى أ َّمة َوإِنَّا َعلَى آثَا ِرِهم ُّم ْهتَدو َن﴾ [الزخرف.]22 :
ويف اآلية األخرى﴿ :إِنَّا َو َج ْدنَا آبَاءنَا َعلَى أ َّمة َوإِنَّا َعلَى آثَا ِرِهم ُّم ْقتَدو َن﴾
[الزخرف.]23 :
واستدل العلماء هبذه اآلية وحنوها ،على أنه ال جيوز التقليد يف التوحيد،
فرضا على كل مكلف أن يعرف التوحيد بدليله، والرسالة ،وأصول الدين ،وأن ً
وكذلك الرسالة ،وسائر أصول الدين ،ألن أدلة هذه األصول ظاهرة وهلل احلمد،
()1
ال خيت مبعرفتها العلماء» .
أيضا رحمه اهلل تعالى: وقال ا
()2
«أمجع العلماء :على أنه ال جيوز التقليد يف التوحيد والرسالة» .
-442-
أيضا رحمه اهلل مبيِّـناا الفرق بين أهل السنة والمعنزلة في صحة وقال ا
اإليمان المقلِّد:
«وفرض على كل أحد :معرفة التوحيد ،وأركان اإلسالم بالدليل.
وال جيوز التقليد يف ذلك ،لكن العامي الذي ال يعرف األدلة إذا كان يعتقد
وحدانية الرب سبحانه ،ورسالة حممد ،ويؤمن بالبعث بعد املوت ،وباجلنة
والنار ،وأن هذه األمور الشركية اليت تفعل عند هذه املشاهد ،باطلة وضالل،
جازما ال شك فيه ،فهو مسلم وإن ل يرتجم اعتقادا ً
ً فإذا كان يعتقد ذلك
بالدليل ،ألن عامة املسلمني ولو لقنوا الدليل ،فإهنم ال يفهمون املعى غالبًا.
ذكر النووي يف شرح مسلم ،يف الكالم على حديث ضمام بن ثعلبة ،قال:
قال أبو عمرو بن الصالح ،فيه داللة ملا ذهب إليه أئمة العلماء ،من أن العوام
جزما من غري شك ً املقلدين مؤمنون ،وأنه يكتفى منهم مبجرد اعتقاد احلق،
()1
وتزلزل ،خالفًا ملن أنكر ذلك من املعتزلة ،وذلك ألنه َّ قرر ضمام
على ما اعتمد عليه يف معرفة رسالته ،وصدقه ،وجمرد إخباره إياه بذلك ،ول
( )1أخرجه اإلمام مسلم يف صحيحه عن أنس بن مالك قال« :جاء رجل من أهل البداية فقال :يا
حممد أتانا رسولك فزعم لنا أن اهلل أرسلك .قال صدق ،قال :فمن خلق السماء قال :اهلل ،قال
فمن خلق األرض؟ قال :اهلل .قال :فمن نصب هذه اجلبال وجعل فيها ما جعل ،قال :اهلل ،قال:
فبالذي خلق السماء وخلق األرض ونصب هذه اجلبال آهلل أرسلك؟ قال :نعم ،قال :وزعم
رسولك أن علينا مخس صلوات يف يومنا وليلتنا .قال :صدق ،قال :فبالذي أرسلك آهلل أمرك هبذا؟
قال :نعم .قال :وزعم رسولك أن علينا زكاة يف أموالنا ،قال :صدق ،قال :فبالذي أرسلك آهلل
أمرك هبذا؟ قال :نعم ،قال وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان يف سنتنا ،قال :صدق .قال:
فبالذي أرسلك أمرك هبذا؟ قال :نعم ،قال :وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطا إليه
وىل .قال :والذي بعثك باحلق ال أزيد عليهن وال أنق منهن. سبيالً ،قال :صدق ،قال :مث َّ
« :لئن صدق ليدخلن اجلنة» .قال النيب
قال اإلمام النووي رمحه اهلل « :اعلم أن هذا الرجل الذي جاء من أهل البادية ،امسه :ضمام بن ثعلبة
مسمى يف رواية البخاري وغريه».
بكسر الضاد املعجمة ،كذا جاء َّ
صحيح مسلم بشرح النووي ،949 – 951/9 :دار الكتب العلمية ،بريوت ،لبنان الطبعة األوىل
9344هـ 9121 -م.
-443-
ينكر عليه ذلك ،وال قال جيب عليك النظر يف معجزايت ،واالستدالل باألدلة
()1
القطعية .انتهى» .
ولقد ذكر الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل نواقض اإلسالم
العشرة ،ون على استواء حكم اجلاد واهلازل واْلائف حال الوقو فيها إالَّ
املتأول ،أو املخطئ ...فقال رمحه اهلل
املكره ،ول يستثن غريه ،مثل اجلاهل ،أو ِّ
تعاىل بعد ذكره هلا« :وال فرق يف مجيع هذه النواقض بني اهلازل واجلاد واْلائف،
إالَّ املكره.
وقوعا فينبغي للمسلم أن
خطرا ،وأكثر ما يكون ً ومبا أهنا من أعظم ما يكون ً
حيذرها ،وخياف منها على نفسه ،نعوذ باهلل من موجبات غضبه وأليم عقابه،
()2
وصلَّى اهلل على خري خلقه حممد وعلى آله وصحبه وسلَّم» .
وقال الشيخ سليمان بن سحمان:
إن الشرك األكرب من عبادة غري اهلل ،وصرفها ملن اشركوا به مع اهلل ،من
األنبياء واألولياء والصاحلني ،فإن هذا ال يعذر أحد يف اجلهل به ،بل معرفته
()3
واإلميان به من ضروريات اإلسالم .اهـ.
-444-
المبحث السادس
حرمة الشرك األكبر وفاقية التحريم ،وإجماعية المنع والتأثيم،
ول توجد شبهة سائغة عليها تدرأ حكم الكفر عن أصحابها،
ومن ثم انتفى العذر بالجهل فيها
إن الغالب على كل مشرك :وقو شبهة عرضت له ،اقتضت كفره وشركه،
فلو أطلقنا العنان للعذر بكل شبهة ،ملا أمكن تكفري مشركي قريش ،وال اليهود
والنصارى وأشباههم.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن -رحمهما اهلل تعالى:-
«واحتج العراقي بقول الشيخ :وقد يكون له شبهات يعذره اهلل فيها.
وليس يف كالم الشيخ العذر بكل شبهة ،وال العذر جبنس الشبهة ،فإن هذا
ال يفيده كالم الشيخ ،وال يفهمه منه إالَّ من ل ميارس شيئًا من العلوم .بل
عبارته صرحية يف إبطال هذا املفهوم .فإهنا تفيد قلة هذا .كما يف املسائل اليت ال
يعرفها إالَّ اآلحاد ،خبالف حمل النزا .فإنه أصل اإلسالم وقاعدته ،ولو ل يكن
من األدلة إالَّ ما َّ
أقر به من يعبد األولياء والصاحلني من ربوبيته تعاىل ،وانفراده
منكرا ملن
كاشفا هلاً ، ً باْللق واإلجياد والتدبري لكفى به دليالً مبطالً للشبهة،
أعرض عنه ،ول يعمل مبقتضاه ،من عبادة اهلل وحده ال شريك له.
ولذلك حكم على املعينني من املشركني من جاهلية العرب األميني لوضوح
األدلة ،وظهور الرباهني .ويف حديث املنتفق« :ما مررت عليه من قرب دوسي أو
حممدا يبشرك بالنار».
قرشي فقل له :إن ً
هذا وهم أهل فرتة فكيف مبن نشأ من هذه األمة وهو يسمع اآليات
القرآنية ،واألحاديث النبوية ،واألحكام الفقهية يف إجياب التوحيد واألمر به،
-446-
وحترمي الشرك والنهي عنه؟ فإن كان ممن يقرأ القرآن فاألمر أعظم وأطم ،ال
سيما إن عاند يف إباحة الشرك ،ودعا إىل عبادة الصاحلني واألولياء ،وزعم أهنا
مستحبة ،وأن القرآن دل عليها ،فهذا كفره أوضح من الشمس يف الظهرية ،وال
يتوقف يف تكفريه من عرف اإلسالم وأحكامه وقواعده وحتريره.
والغالب على كل مشرك أنه عرضت له شبهة اقتضت كفره وشركه ،قال
ين أَ ْشَركواْ لَْو َشاء الليه َما أَ ْشَرْكنَا َوالَ آبَاؤنَا[ ﴾...األنعام: َّ ِ
تعاىلَ ﴿ :سيَـقول الذ َ
،]941وقال﴿ :لَْو َشاء الليه َما َعبَ ْدنَا ِمن دونِِه ِمن َش ْيء َّْحنن َوال آبَاؤنَا َوالَ
َحَّرْمنَا ِمن دونِِه ِمن َش ْيء﴾ [النحل ،]36 :عرضت هلم شبهة القدرية ،فردوا
أمره تعاىل ودينه وشرعه مبشيئته القدرية الكونية .وعلى إطالق هذا العراقي
وفهمه تكون هذه الشبهة مانعة من تكفري أعياهنم.
والنصارى شبهتهم يف القول بالنبوة واألقانيم الثالثة :كون املسيح خلق من
غري أب ،بل بالكلمة ،فاشتبه األمر عليهم ،ألهنم عرفوا من بني سائر األمم
بالبالدة وعدم اإلدراك يف املسائل الدينية ،ول يفرقوا بني اْللق واألمر ،ول يعلموا
أن اْللق يكون بالكلمة ،ال هو نفس الكلمة ،وقد أشار تعاىل على شبهتهم
ند اللي ِه
يسى ِع َ ِ ِ
وردها وأبطلها يف مواضع من كتابه ،كقوله تعاىل﴿ :إ َّن َمثَ َل ع َ
اها إِ َىل َم ْرَميَ﴾ [النساء: ِ
آد َم﴾ [آل عمران ،]61 :وقولهَ ﴿ :وَكل َمته أَلَْق َ َك َمثَ ِل َ
.]949وأكثر أعداء الرسل عرضت هلم شبهات....
وأما مسألة عبادة القبور ودعائهم مع اهلل ،فهي مسألة وفاقية التحرمي،
وإمجاعية املنع والتأثيم ،فلم تدخل يف كالم الشيخ لظهور برهاهنا ،ووضوح
()1
أدلتها ،وعدم اعتبار الشبهة فيها» .
ومن املعلوم بالضرورة من الدين :أن اإلسالم ،والشرك ،نقضيان ،ال
-445-
جيتمعان ،وال يرتفعان ،وعليه يستحيل حتت أي شبهة من الشبه ،أن يكون
مسلما ،ألن ذلك يؤدي إىل اجتما النقيضني ،وقو احملال.
املشرك ً
-444-
سبحانه قائمة بإرساله الرسل ،وإن ل يفهموا حجج اهلل وبيناته.
قال الشيخ موفق الدين أبو حممد بن قدامة -رمحه اهلل تعاىل -ملا أجنز
كالمه :هل كل جمتهد مصيب؟ ورجح قول اجلمهور ،أنه ليس كل جمتهد
مصيبًا ،بل احلق يف قول واحد من أقوال اجملتهدين.
قال :وزعم اجلاحظ :أن من خالف ملة اإلسالم ،إذا نظر فعجز عن إدراك
احلق ،فهو معذور غري آمث ،إىل أن قال :أما ما ذهب إليه اجلاحظ فباطل يقينًا،
قطعا ،أن النيب أمر اليهود وكفر باهلل ،ورد عليه ،وعلى رسوله ،فنعلم ً
وذمهم على اإلصرار ،وقاتلهم مجيعهم ،يقتل البالغ والنصارى باإلسالم وإتباعهَّ ،
منهم ،ونعلم :أن املعاند العارف ممن يقل ،وإمنا األكثر مقلدة اعتقدوا دين
تقليدا ،ول يعرفوا معجزة الرسول وصدقه. آبائهم ً
ين َّ ِ ِ
ك ظَ ُّن الذ َ واآليات الدالة يف القرآن على هذا كثرية ،كقوله تعاىلَ ﴿ :ذل َ
َك َفروا[ ﴾...ص .]24 :وقولهَ ﴿ :و َذلِك ْم ظَنُّكم الَّ ِذي ظَنَنتم بَِربِّك ْم
أ َْرَداك ْم[ ﴾...فصلت ،]23 :وقوله﴿ :إِ ْن ه ْم إَِّال يَظنُّو َن﴾ [اجلاثية،]24 :
وقولهَ ﴿ :وَْحي َسبو َن أَنـَّه ْم َعلَى َش ْيء﴾ [اجملادلة ،]91 :وقولهَ ﴿ :وَْحي َسبو َن أَنـَّهم
ُّم ْهتَدو َن﴾ [الزخرف ،]34 :وقوله﴿ :ق ْل َه ْل نـنَبِّئك ْم بِ ْاأل ْ
َخ َس ِر َ
ين أ َْع َم ًاال *
الدنْـيَا َوه ْم َْحي َسبو َن أَنـَّه ْم ْحي ِسنو َن صْنـ ًعا﴾ احلَيَاةِ ُّ
ض َّل َس ْعيـه ْم ِيف ْ َّ ِ
ين َ
الذ َ
[الكهف.]954 ،953 :
مقلدا أو جمتهدا ،أو خمطئًا ،أو ً ً متأوالً ،أو
فاملدعي أن مرتكب الكفرَّ :
جاهالً ،معذور ،خمالف للكتاب والسنَّة واإلمجا بال شك ،مع أنه ال بد أن
ينقض أصله ،فلو طرد أصله كفر بال ريب ،كما لو توقف يف تكفري من شك
()1
يف رسالة حممد ،وحنو ذلك» .
* * *
-441-
المبحث السابع
العذر بالخطأ في الشرك األكبر ،يلزم منه عدم تكفير طوائف
من الكفار والزنادقة ،قد أجمعت األمة على كفرها ،وكفر من ِّ
شك
في كفرها ،مع بيان أن الحكم بإسالم المشركين الجاهلين
ليس عليه دليل إل مجرد الدعوى المجردة
لقد ظن فريق من املنافحني ،عن املشركني وإسالمهم املزيف :أن رخصة
عمن وقع يف الشرك جاهالً ،ول يدر هؤالء أن الزم اْلطأ ،تدرأ حكم الكفر َّ
هذا األمر ،اهلوي يف مستنقع عدم تكفري طوائف من الكفار والزنادقة ،قد
أمجعت األمة على كفرها ،وكفر من شك يف كفرها ،ولو ل يلتزموه تعذر عليهم
أن يقيموا فرقًا بني ما التزموه ،وما ل يلتزموه.
َتهد هذا فنقول :إن رخصة اْلطأ هلذه األمة خاصة مبن كان مؤمنًا إذا َّ
موحدا ،تارًكا للشرك على علم وبصرية ،ومن مثَّ يكون قد حقق وصف االنتساب ً
املتأول،
للقبلة ،وحق له التمتع برخ أهلها ،من عدم مؤاخذة اجلاهل ،و ِّ
واملخطئ...
وتارة يدور هذا الفريق من املنافحني دورة أخرى ،ويقرروا مقصودهم عن
طريق عبارات أئمة اهلدى وأعالم امللة اليت نصوا فيها :على منع تكفري املسلمني،
وإن وقعوا يف البد املغلظة حىت تقوم عليهم احلجة.
ولقد نسي هؤالء القوم ،أو تناسوا فيما بينهم :أن عبارات هؤالء األئمة قد
أخرجت عباد القبور من عداد املسلمني ،وعليه فاالستدالل باطل قبل التدليل
به ،على حمل النزا .
فلم يبق هلم بعد ذلك إالَّ جمرد الدعوى :إن عبَّاد القبور مسلمون ألن عبَّاد
القبور مسلمون.
-441-
ومن املعلوم بيقني من أوليات كافة العلوم :أن االحتجاج مبجرد الدعوى
على صحتها ،دليل على بطالهنا ،لفقداهنا الدليل ،ألن الدعوى ال تصلح أن
تكون دليالً ،وإالَّ لكثرت الدعاوي ،واستحال إبطال أي منكر مهما طال باعه
يف الغي والنكران.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في بيان تدليس العراقي أحد
المنافحين عن المشركين ،وشركهم:
«قال العراقي :النقل السادس عشر :قال -أي ابن تيمية -يف الفتوى يف
جواب سؤال ورد من كيالن ،يف مسألة خلق القرآن :ما نصه ،فمسألة تكفري
متفرعة على هذا األصل ،ويف األدلة الشرعية ما يوجب أن
أهل األهواء والبد ِّ
أحدا من هذه األمة على خطأ ،وإن عذب املخطئ من غريها - اهلل ال يعذب ً
مث ساق حديث أيب هريرة يف الرجل الذي أمر أوالده بتحريقه ،وأن يذروه يف
البحر ،وأنه شك يف قدرة اهلل ،ومع ذلك غفر اهلل له ملا معه من خوف اهلل
واإلميان به ،مث ذكر كالم الشيخ يف اْلطأ يف الفرو العملية ،وأنه قد وقع من
بعض السلف -وساق قصة داود وسليمان وحكمهما يف الغنم -مث قال :انظر
إىل كالمه وتأمله فإنه أنذر وأعذر ،وحتاشى عن تكفري أهل البد العظام
القائلني بنفي قدرة اهلل أو عدم البعث.
هذا كالمه حبروفه ،مث أطال الكالم يف قصة داود وسليمان وزعم أنه معى
ْما َو ِعْل ًما﴾ [األنبياء ،]41 :تصحيح حكم كل ًّ
قوله تعاىلَ ﴿ :وكال آتَـْيـنَا حك ً
أقر حكمهما. منهما .فإن اهلل ِّ
واجلواب أن يقال :قد أكثر هذا العراقي يف التشبيه بعدم تكفري املخطئ
مر من اجلواب عن هذه الشبه ما فيه كفاية ،وأكثر كالمه وعدم تأثيمه ،وقد َّ
تكرير وإسهاب ،يوهم اجلهال به أنه قد َّقرر الصواب ،وأوضح اْلطاب،
-465-
وال يروج هذا إالَّ على العوام ،ومن ال بصرية له حبقيقة دين اإلسالم.
وقد قدمنا أن طرد قول العراقي واستدالله يفيد عدم التأثيم والتكفري يف
اْلطأ يف مجيع أصول الدين ،كاإلميان بوجود اهلل وربوبيته وإهليته وقدره وقضائه،
واإلميان بصفات كماله الذاتية والفعلية ،ومسألة علمه باحلوادث والكائنات قبل
رد على من كفر معطلة كوهنا ،واملنع من التكفري والتأثيم باْلطأ يف هذا كله ،ي
الذات ،ومعطلة الربوبية ،ومعطلة األمساء والصفات ،ومعطلة إفراده تعاىل
باإلهلية ،والقائلني :بأنه ال يعلم الكائنات قبل كوهنا كغالة القدرية ،ومن قال
بإسناد احلوادث إىل الكواكب العلوية ،ومن قال باألصلني النور والظلمة.
فإن التزم العراقي هذا كله فهو أكفر وأضل من اليهود والنصارى ،وإن زعم
أن مث فارقًا بني هذا وبني مسألة النزا ،اليت هي دعاء األموات والغائبني فيما ال
يقدر عليه إالَّ رب العاملني فليوجدنا هذا الفرق ،وليوجدنا دليالً على صحته.
فإن ل يفعل -ولن يفعل -بطل تقريره وتأصيله ،وعلم أهل العلم واإلميان أنه
مدلس مشبه ،ليس من أهل الفقه والدين ،وال ممن يعرف اإلسالم واملسلمني،
ويفرق بني املوحدين واملشركني ،بل هو يف ظلمات الطبع واجلهل والشرك املبني.
(مناطات رخصة الخطأ)
وكالم شيخ اإلسالم رمحه اهلل إمنا يعرفه ويدريه من مارس كالمه ،وعرف
أصوله ،فإنه قد صرح يف غري موضع أن اْلطأ قد يغفر ملن ل يبلغه الشر ،ول
تقم عليه احلجة يف مسائل خمصوصة ،إذا اتقى اهلل ما استطا واجتهد حبسب
طاقته ،وأين التقوى ،وأين االجتهاد الذي يدَّعيه عبَّاد القبور والداعون للموتى
وللغائبني؟
-469-
وكيف والقرآن يتلى يف املساجد واملدارس والبيوت؟ ونصوص السنة النبوية
جمموعة مدونة معلومة الصحة والثبوت؟
واحلديث الذي ذكره الشيخ يف رجل من أهل الفرتات قام به من خشية اهلل
وخوفه واإلميان بثوابه وعقابه ما أوجب له أن أمر أهله بتحريقه ،فأين هذا من
هؤالء الضالل الذين نبذوا كتاب اهلل وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلوا الشياطني،
وبعدا
فسحقا هلذا اجلاهل املفرتيً ،
ً على دعاء غري اهلل ،والشرك برب العاملني؟
لكل ضال غوي.
ومن تأمل كالم الشيخ وسياقه عرف مقصوده ،وأن الكالم فيمن كفَّر
العصاة وأهل الكبائر ،وذكر نزا الناس يف ذلك.
-462-
دما مثل رفع الصوت باإلهالل ،واإلكثار منه ،وسوق اهلدي، وال توجب ً
وذكر اهلل يف تلك املوضع ،وقلة الكالم إالَّ يف أمر وهني ،فمن فعل ذلك الواجب
وترك احملظور فقد مَّ حجه وعمرته .وهو مقتصد من أصحاب اليمني يف هذا
حجا وعمالً ،وهو سابق العمل .لكن من أتى باملستحب فهو أكمل وأم ً
مقرب.
َّ
ومن ترك املأمور وفعل احملظور لكنه أتى بأركانه وترك مفسداته فحجه
ناق ،يثاب على ما فعله من احلج ويعاقب على ما تركه ،وقد سقط عنه أصل
الفرض .إىل أن قال :فمسألة تكفري أهل األهواء والبد متفرعة على هذا
األصل.
مث ذكر مذاهب األئمة يف ذلك وذكر تكفري اإلمام أمحد للجهمية ،وذكر
كالم السلف يف تكفريهم وإخراجهم من الثالث والسبعني فرقة ،وغلَّظ القول
فيهم ،وذكر الروايتني يف تكفري من ل يكفرهم.
وذكر أن أصول هذه الفرق ،هم اْلوارج والشيعة ،واملرجئة والقدرية ،مث أطال
الكالم يف عدم تكفري هذه األصناف ،واحتج حبديث أيب هريرة ،مث قال :وإذا
كان كذلك فاملخطئ يف بعض املسائل إما أن يلحق بالكفار من املشركني وأهل
الكتاب ،مع مبيانته هلم يف عامة أصول اإلميان.
احملرمات الظاهرة :هو
فإن اإلميان بوجوب الواجبات الظاهرة املتواترة ،وحترمي َّ
من أعظم أصول اإلميان ،وقواعد الدين .وإذا كان ال بد من إحلاق -أي
شبها من إحلاقه
املخطئ -بأحد الصنفني ،فإحلاقه باملؤمنني املخطئني أشد ً
كثريا من أهل البد منافقون النفاق باملشركني وأهل الكتاب .مع العلم بأن ً
األكرب ،فما أكثر ما يوجد يف الرافضة واجلهمية وحنوهم من زنادقة منافقني.
وأولئك يف الدرك األسفل من النار.
-463-
فتبني هبذا مراد الشيخ ،وأنه يف طوائف خمصوصة ،وأن اجلهمية غري داخلني، َّ
وكذلك املشركني .وأهل الكتاب ل يدخلوا يف هذه القاعدة ،فإنه منع إحلاق
املخطئ هبذه األصناف ،مع مباينته هلم يف عامة أصول اإلميان ،وهذا هو قولنا
بعينه .فإنه إذا بقيت معه أصول اإلميان .ول يقع منه شرك أكرب ،وإمنا وقع يف
نو من البد فهذا ال نكفره ،وال خنرجه من امللة.
وهذا البيان ينفعك فيما يأيت من التشبيه بأن الشيخ ال يكفر املخطئ
واجملتهد ،وأنه يف مسائل خمصوصة ،وبني أن اإلميان يزوال بزوال أركانه وقواعده
الكبار ،كاحلج يفسد برتك ركن من أركانه ،وهذا عني قولنا .بل هو أبلغ من
مسألة النزا ،ومن تأمل كالم الشيخ يف هذا الباب عرف املراد ،ومن أزاغ اهلل
قلبه فال حيلة فيه.
موحدا ليس من أهل الشرك، وحديث الرجل الذي أمر أهله بتحريقه كان ً
فقد ثبت من طريق أيب كامل عن محاد عن ثابت عن ايب رافع عن أيب هريرة:
خريا قط إالَّ التوحيد» .فبطل االحتجاج به عن مسألة النزا . «ل يعمل ً
وأما اْلطأ يف الفرو واملسائل االجتهادية إذا اتقى اجملتهد ما استطا فلم
نقل بتكفري أحد بذلك وال بتأثيمه .واملسألة ليسة يف حمل النزا فإيراد العراقي هلا
هنا تكثُّر مبا ليس له ،وتكبري حلجم الكتاب مبا ال يغن عنه فتيالً.
وهل أوقع االحتادية واحللولية فيما هم عليه من الكفر البواح ،والشرك
العظيم ،والتعطيل حلقيقة وجود رب العاملني إالَّ خطائهم يف هذا الباب الذي
اجتهدوا فيه ،فصلُّوا وأضلُّوا عن سواء السبيل؟
وهل قتل احلالج -باتفاق أهل الفتوى على قتله -إالَّ ضالل اجتهاده؟
وهل كفر القرامطة وانتحلوا ما انتحلوه من الفضائح الشنيعة ،وخلعوا
-464-
ربقة الشريعة إالَّ باجتهادهم فيما زعموا؟
وهل قالت الرافضة ما قالت ،واستباحت ،ما استباحت من الكفر والشرك،
وعبادة األئمة اإلثى عشر وغريهم ،ومسبَّة أصحاب الرسول ،وأم املؤمنني
الصديقة بنت الصديق رضي اهلل عنهما ،إالَّ باجتهادهم فيما زعموا؟ وهؤالء
سلف العراقي يف قوله :إن كل خطأ مغفور .وهذا الزم له ال حمي عنه هنا.
واستصحب ما ذكر هنا يف رد ما يأيت ،ومير عليك من حنو هذه الشبهة ،وقد
كررنا اجلواب لتكرير الشبهة ،وإنتقدم يف أول اجلواب ما فيه كفاية ،وإمنا َّ
()1
عادت العقرب فالنعل هلا حاضرة» .
أيضا رحمه اهلل تعالى في بيان تلبيس العراقي والرد عليه:
وقال ا
«مث قال العراقي :النقل السابع والثالثون :قال ابن املقري الشافعي يف خمتصر
الروضة :إن من كان من أهل الشهادة ال يكفر ببدعة على إطالق .وما استند
إىل تأويل يلتبس األمر على مثله ،وهو الذي رجحه شيخنا أبو العباس ابن
تيمية.
والجواب :إن هذه العبارة حيتج هبا على العراقي وأمثاله من القائلني :إن
عبادة األولياء والصاحلني شرك أصغر أو مستحبة ،كما زعمه هذا الضال،
وذلك من وجوه:
األول :أن الكالم يف البدعة ،والبدعة يف عرف الشر :دون الشرك األكرب
والكفر ،فكالمه يف أهل البد .والعراقي تأويله يف أهل الشرك ولذلك فرق
الفقهاء بني املبتد ومن يدعو غري اهلل .ويستغيث به ،ويتوكل عليه ،كما ذكره
ابن القيم وغريه من املصنفني يف الكبائر ،كابن حجر اهليتمي.
الوجه الثاني :أن هذا مقيد مبن كان من أهل الشهادة ،وهذا القيد خيرج
-466-
عبَّاد القبور .ألن املقصود بالشهادة :التوحيد ،كما يف حديث عبد القيس:
«وآمركم باإلميان باهلل وحده ،أتدرون ما اإلميان باهلل؟ شهادة أن ال إله إالَّ اهلل،
حممدا رسول اهلل ،وإقام الصالة وإيتاء الزكاة ،وأن تؤدوا من املغنم اْلمس». وأن ً
وأهل الشهادة :هم أهل اإلميان باتفاق املسلمني ،ومن عداهم ليس من
أهل الشهادة ،وإن قاهلا من قاهلا بلسانه كاليهود واملنافقني.
الثالث :إن قوله :على اإلطالق ال ينايف أنه يكفر ببعض البد املقيدة.
الرابع :إن قوله :وما استند إىل تأويل ،يلتبس األمر على مثله :خمرج لعبَّاد
الردة ،فإنه ال تأويل معهم يلتبس به األمر .وهلذا ل يعذر أهل الفرتة القبور وأهل َّ
()1
وحنوهم ،ممن اختذ مع اهلل إهلًا آخر» .
وسئل الشيخ عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز رمحه اهلل تعاىل :هل يعذر
املسلم إذا فعل شيئًا من الشرك ،كالذبح ،والنذر لغري اهلل جاهالً؟ فأجاب رمحه
اهلل تعاىل قوله:
األمور قسمان :قسم يعذر فيه باجلهل ،وقسم ال يعذر فيه باجلهل .فإذا
كان من أتى ذلك بني املسلمني ،وأتى الشرك باهلل وعبد غري اهلل ،فإنه ال يعذر
ألنه مقصر ل يسأل ،ول يتبصر يف دينه فيكون غري معذور يف عبادته غري اهلل
من :أموات أو أشجار أو أحجار أو أصنام ،إلعراضه وغفلته عن دينه ،كما
نذروا م ْع ِرضو َن﴾ [األحقاف ،]3 :وألن قال اهلل سبحانه﴿ :والَّ ِذين َك َفروا ع َّما أ ِ
َ َ َ
النيب ملا استأذن ربه أن يستغفر ألمه ألهنا ماتت يف اجلاهلية ل يؤذن له
ليستغفر هلا ،ألهنا ماتت على دين قومها عبَّاد األوثان.
وألنه قال لشخ سأله عن أبيه ،قال« :هو يف النار» ،فلما رأى ما يف
وجهه قال« :إي أيب وأباك يف النار»؛ ألنه مات على الشرك باهلل،
-465-
وعلى عبادة غريه سبحانه وتعاىل ،فكيف بالذي بني املسلمني وهو يعبد
البدوي ،أو يعبد احلسني ،أو يعبد الشيخ عبد القادر اجليالي ،أو يعبد الرسول
حممدا ،أو يعبد عليًا أو يعبد غريهم؟! ً
فهؤالء وأِشباههم ال يعذرون من باب أوىل ،ألهنم أتوا الشرك األكرب وهم
بني املسلمني ،والقرآن بني أيديهم ،وهكذا سنة رسول اهلل موجودة بينهم
ولكنهم عن ذلك معرضون.
والقسم الثاني :من يعذر باجلهل ،كالذي ينشأ يف بالد بعيدة عن اإلسالم
يف أطراف الدنيا أو ألسباب أخرى ،كأهل الفرتة ،وحنوه ،ممن ل تبلغهم الرسالة،
فهؤالء معذورون جبهلهم وأمرهم إىل اهلل عز وجل ،والصحيح أهنم ميتحنون يوم
جل
القيامة فيؤمرون ،فإن أجابوا دخلوا اجلنة ،وإن عصوا دخلوا النار لقوله َّ
ث َرسوالً﴾ [اإلسراء ،]96 :وألحاديث وعالَ ﴿ :وَما كنَّا م َع ِّذبِ َ
ني َح َّىت نَـْبـ َع َ
()1
صحيحة وردت يف ذلك .
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء:
(السؤال الثاني من الفتوى رقم )3366
س :هناك من يقول :كل من يتقيد برسالة حممد واستقبل القبلة
يسمه مشرًكا حىت قال :إن حممد بن بالصالة ،ولو سجد لشيخه ل يكفر ،ول ِّ
عبد الوهاب الذي يتكلم يف املشركني يف خلودهم يف النار إذا ل يتوبوا قد أخطأ
وغلط ،وقال :إن املشركني يف هذه األمة يعذهبم مث خيرجهم إىل اجلنة ،وقال :إن
أمة حممد ل خيلد فيهم أحد يف النار.
ج :كل من آمن برسالة نبينا حممد ،وسائر ما جاء به يف الشريعة ،إذا
تدا
كافرا مر ً
سجد بعد ذلك لغري اهلل من ويل وصاحب قرب أو شيخ طريق يعترب ً
عن اإلسالم مشرًكا مع اهلل غريه يف العبادة ،ولو نطق بالشهادتني وقت
(« )1جممو فتاوى ومقاالت متنوعة» للشيخ ابن باز.)24 ،25/4( :
-464-
سجوده؛ إلتيانه مبا ينقض قوله من سجوده لغري اهلل ،لكنه قد يعذر جلهله
إعذارا إليه
فال تنزل به العقوبة حىت يعلم ،وتقام عليه احلجة ،وميهل ثالثة أيام ً
أصر على سجوده لغري اهلل بعد البيان قتل لرياجع نفسه عسى أن يتوب ،فإن َّ
لردته لقول النيب « :من بدل دينه فاقتلوه» أخرجه اإلمام البخاري يف صحيحه
عن ابن عباس رضي اهلل عنهما.
ليسمى كا ًفرا بعد
فالبيان وإقامة احلجة لإلعذار إليه قبل إنزال العقوبة به ،ال َّ
كافرا مبا حدث منه من سجود لغري اهلل ،أو نذره قربة ،أو يسمى ً البيان ،فإنه َّ
ذحبه شاة مثالً لغري اهلل.
وقد دل الكتاب والسنة على أن من مات على الشرك ال يغفر له وخيلد يف
ك لِ َمن ِ ِ ِ
النار لقوله تعاىل﴿ :إِ َّن الليهَ الَ يَـ ْغفر أَن ي ْشَرَك بِِه َويَـ ْغفر َما دو َن ذَل َ
يشاء﴾ [النساء ،]41 :إىل قوله﴿ :ما َكا َن لِْلم ْش ِركِني أَن يـعمرواْ مس ِ
اج َد اهلل َ َْ َ َ َ ََ
ت أ َْع َماهل ْم َوِيف النَّا ِر ه ْم َخالِدو َن﴾
ك َحبِطَ ْ ين َعلَى أَنف ِس ِه ْم بِالْك ْف ِر أ ْولَئِ َ
ِِ
َشاهد َ
[التوبة.]94 :
وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء
الرئيس نائب رئيس اللجنة عضو عضو
( )1
عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز» عبد الرزاق عفيفي عبد اهلل بن غديان عبد اهلل بن قعود
-461-
الفصل الرابع
العالقة بين إقامة الحجة ،والكفر ،وأحكامه.
وفيه مبحثان
المبحث األول :عبادة اهلل وحده ال شريك له ،احلجة عليها بلوغ القرآن،
مع بيان أصناف الذين ال يكفرون حىت تقام عليهم احلجة،
وكذا الفرق بني قيام احلجة وفهمها.
المبحث الثاني :العقوبة واملؤاخذة ال تكون إالَّ بعد قيام احلجة ووضوح
جمرد بيان التوحيد بدليله.
احملجة ،ويكفي يف إقامتها َّ
َّ
-461-
-455-
المبحث األول
عبادة اهلل وحده ل شريك له ،الحجة عليها بلوغ القرآن
مع بيان أصناف الذين ل يكفرون حتى تقام عليهم الحجة
وكذا الفرق بين قيام الحجة وفهمها
إن الذي ل تقم عليه احلجة ،هو من كان حديث عهد باإلسالم ،أو من
نشأ يف بادية بعيدة ،أو يكون ذلك يف مسألة من مسائل الدين اْلفية ،فال
يكفر حىت يعرف.
أما أصول الدين الواضحة احملكمة ،فإن حجة اهلل عليها :بلوغ القرآن.
وينبغي يف هذا املقام :التفريق بني قيام احلجة وفهمها ،فقد تقوم احلجة على
قوم ،مع عدم فقههم لوجه الصواب فيها ،ومراد الرب منها.
قال الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب رمحهما اهلل تعاىل:
بسم اهلل الرمحن الرحيم
إىل اإلخوان ،سالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته .وبعد:
ما ذكرم من قول الشيخ ،كل من جحد كذا وكذا ،وقامت عليه احلجة،
وأنكم شاكون يف هؤالء الطواغيت وأتباعهم ،هل قامت عليهم احلجة ،فهذا من
العجب ،كيف تشكون يف هذا وقد أوضحته لكم مر ًارا؟ فإن الذي ل تقم عليه
احلجة ،هو الذي حديث عهد باإلسالم ،والذي نشأ ببادية بعيدة ،أو يكون
ذلك يف مسألة خفية ،مثل الصرف والعطف ،فال يكفر حىت يعرف.
وأما أصول الدين اليت أوضحها اهلل وأحكمها يف كتابه ،فإن حجة اهلل هو
القرآن ،فمن بلغه القرآن فقد بلغته احلجة ،ولكن أصل اإلشكال ،أنكم ل تفرقوا
بني قيام احلجة ،وبني فهم احلجة ،فإن أكثر الكفـار واملـنافقني من
-459-
املسلمني ،ل يفهموا حجة اهلل مع قيامها عليهم ،كما قال تعاىل﴿ :أ َْم
ِ
َن أَ ْكثَـَره ْم يَ ْس َمعو َن أ َْو يَـ ْعقلو َن إِ ْن ه ْم إَِّال َك ْاألَنْـ َع ِام بَ ْل ه ْم أ َ
َض ُّل َْحت َسب أ َّ
َسبِيالً﴾ [الفرقان.]44 :
وقيام احلجة نو ،وبلوغها نو ،وقد قامت عليهم ،وفهمهم إياها نو آخر،
وكفرهم ببلوغها إياهم ،وإن ل يفهموها ،إن أشكل عليكم ذلك ،فانظروا قوله يف
اْلوارج« :أينما لقيتموهم فاقتلوهم» وقوله« :شر قتلى حتت أدمي السماء» مع كوهنم
يف عصر الصحابة ،وحيقر اإلنسان عمل الصحابة معهم ،ومع إمجا الناس :أن الذي
أخرجهم من الدين ،هو التشدد والغلو واالجتهاد ،وهم يظنون أهنم يطيعون اهلل ،وقد
بلغتهم احلجة ،ولكن ل يفهموها.
وكذلك قتل علي الذين اعتقدوا فيه ،وحتريقهم بالنار ،مع كوهنم تالميذ
الصحابة ،ومع عبادهتم وصالهتم وصيامهم ،وهم يظنون أهنم على حق.
وكذلك إمجا السلف :على تكفري غالة القدرية وغريهم ،مع علمهم وشدة
صنعا ،ول يتوقف أحد من السلف يف عبادهتم ،وكوهنم حيسبون أهنم حيسنون ً
تكفريهم ألجل كوهنم ل يفهموا ،فإن هؤالء كلهم ل يفهموا ،إذا علمتم ذلك:
فإن هذا الذي أنتم فيه كفر .الناس يعبدون الطواغيت ،ويعادون دين اإلسالم،
فيزعمون أنه ليس ردة ،لعلهم ما فهموا احلجة ،كل هذا َّبني.
وأظهر مما تقدم :الذين حرقهم علي ،فإنه يشابه هذا ،وأما إرسال كالم
الشافعية وغريهم ،فال يتصور يأتيكم أكثر مما أتاكم ،فإن كان معكم بعض
()1
اإلشكال ،فارغبوا إىل اهلل تعاىل أن يزيله عنكم ،والسالم» .
مفندا شبهة ألحد وقال الشيخ محد بن ناصر بن معمر رمحه اهلل تعاىلً ،
اجملادلني عن املشركني ،يزعم فيها :أن دعاء غري اهلل شرك أصغر:
«أما قوله -أي اجملادل عن الشرك واملشركني :-إن سلمنا هذا القول -أي:
أن دعاء غري اهلل شرك أكرب ،-وظهر دليله ،فاجلاهل معـذور ،ألنه ل
-452-
يدر ما الشرك والكفر ،ومن مات قبل البيان فليس بكافر ،وحكمه حكم
املسلمني يف الدنيا واآلخرة ،ألن قصة ذات أنواط ،وبن إسرائيل ،حني جاوزوا
البحر ،تدل على ذلك ...إىل آخره.
مبشرين ومنذرين ،لئال يكون فاجلواب أن يقال :إن اهلل تعاىل أرسل الرسل ِّ
للناس على اهلل حجة بعد الرسل ،فكل من بلغه القرآن ودعوة الرسول فقد
نذ َركم بِِه َوَمن بَـلَ َغ﴾ [األنعام.]91 : قامت عليه احلجة ،قال اهلل تعاىل﴿ :أل ِ
ث َرسوالً﴾ [اإلسراء.]96 : وقال تعاىلَ ﴿ :وَما كنَّا م َع ِّذبِ َ
ني َح َّىت نَـْبـ َع َ
وقد أمجع العلماء على أن من بلغته دعوة الرسول ،أن حجة اهلل قائمة
حممدا ،وأنزل عليه الكتاب عليه ،ومعلوم باالضطرار من الدين :أن اهلل بعث ً
ليعبد وحده وال يشرك معه غريه ،فال يدعى إالَّ هو ،وال يذبح إالَّ له ،وال ينذر
إالَّ له ،وال يتوكل إالَّ عليه ،وال خياف خوف الشر إالَّ منه.
اج َد لِلَّ ِه فَ َال تَ ْدعوا َم َع اللَّ ِهَن الْمس ِ
والقرآن مملوء من هذا ،قال اهلل تعاىلَ ﴿ :وأ َّ َ َ
احلَ ِّق﴾ [الرعد ،]94 :وقالَ ﴿ :والَ تَ ْد َح ًدا﴾ [اجلن .]91 :وقال﴿ :لَه َد ْع َوة ْ أَ
ك ون اللي ِه ما الَ ي َنفعك والَ يضُّرَك﴾ [يونس ،]955 :وقال﴿ :فَ ِ ِمن د ِ
ص ِّل لَربِّ َ َ َ َ َ َ َ
ِِ ِ
ني﴾ [املائدة: َو ْاحنَْر﴾ [الكوثر ،]2 :وقالَ ﴿ :و َعلَى الليه فَـتَـ َوَّكلواْ إِن كنتم ُّم ْؤمن َ
ون﴾ اعب ْده وتَـوَّكل علَي ِه﴾ [هود ،]923 :وقال﴿ :وإِيَّاي فَارهب ِ
َ َ َْ ،]23وقال﴿ :فَ ْ َ َ ْ َ ْ
ِِ ِ
ني﴾ [آل عمران ،]946 :وقال: [البقرة ،]45 :وقالَ ﴿ :و َخافون إِن كنتم ُّم ْؤمن َ
ِ ِ
ين﴾ [التوبة.]91 : ك أَن يَكونواْ م َن الْم ْهتَد َ ش إِالَّ الليهَ فَـ َع َسى أ ْولَـئِ َ ﴿ َوَلْ َخيْ َ
واآليات الواردة يف هذا املعى كثرية.
واهلل تعاىل :ال يعذب خلقه إالَّ بعد اإلعذار إليهم ،فأرسل رسله وأنزل
ت أَيْ ِدي ِه ْم فَـيَـقولوا َربَّـنَا لَْوَالَّم ْ
ِ ِ ِ
كتبه ،لئال يقولواَ ﴿ :ولَْوَال أَن تصيبَـهم ُّمصيبَة مبَا قَد َ
ني﴾ [القص .]44 : ِِ ِ ت إِلَْيـنَا َرس ًوال فَـنَتَّبِ َع آيَاتِ َ
ك َونَكو َن م َن الْم ْؤمن َ أ َْر َسْل َ
-453-
ت إِلَْيـنَا ِِ
وقالَ ﴿ :ولَْو أَنَّا أ َْهلَكْنَاهم بِ َع َذاب ِّمن قَـْبله لََقالوا َربَّـنَا لَْوَال أ َْر َسْل َ
ك ِمن قَـْب ِل أَن نَّ ِذ َّل َوَخنَْزى﴾ [طه.]934 : َرس ًوال فَـنَتَّبِ َع آيَاتِ َ
وكل من بلغه القرآن فليس مبعذور ،فإن األصول الكبار ،اليت هي :أصل
دين اإلسالم ،،قد بيَّنها اهلل تعاىل يف كتابه ،وأوضحها وأقام هبا حجته على
جليا ،كما يفهمها فهما ً أن) يفهمها اإلنسان ً عباده ،وليس املراد بقيام احلجة:
(1
من هداه اهلل ووفقه ،وانقاد ألمره» .
وقال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أو بطين:
إنه ال عذر يف اجلهل بأصول التوحيد ،والرسالة وحنوها ،بعد بعثته وبلوغ
حجج اهلل وبيِّناته ،وإن ل يفهمها من بلغته ،فحجة اهلل قائمة على عباده ببلوغ
احلجة ،ال بفهمها ،فبلوغ احلجة شيء ،وفهمها شيء آخر ،وهلذا ل يعذر اهلل
()2
الكفار بعدم فهمهم ،بعد أن بلغتهم حجته وبيناته .اهـ.
وقال الشيخ سليمان بن مسحان -رمحه اهلل تعاىل:-
فمن بلغته رسالة حممد ،وبلغه القرآن فقد قامت عليه احلجة ،قال اهلل
نذ َركم بِِه َوَمن بَـلَ َغ﴾ [األنعام.]91 : تعاىل﴿ :أل ِ
الرس ِل﴾ [النساء: َّاس َعلَى اللي ِه ح َّجة بَـ ْع َد ُّوقال تعاىل﴿ :لِئَالَّ يَكو َن لِلن ِ
.]956
فال يعذر أحد يف عدم اإلميان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر ،فال
عذر له بعد ذلك باجلهل ،وقد أخرب اهلل سبحانه جبهل كثري من الكفار مع
تصرحيه بكفرهم ،ووصف النصارى باجلهل مع أنه ال يشك مسلم يف كفرهم،
جهال مقلَّدون ،ونعتقد كفرهم وكفر من ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم َّ
()3
شك يف كفرهم» .
-454-
المبحث الثاني
العقوبة والمؤاخذة ل تكون إل بعد إقامة الحجة
ويكفي في إقامتها مجرد بيان التوحيد بدليله
-456-
وأظن هذه العبارة مأخوذة ،من قول بعض الفقهاء يف تارك الصالة :أنه ال
يقتل حىت يدعوه إمام أو نائبه إىل فعلها ،والدعاء إىل فعل شيء ،غري بيان
حقا أو باطالً بأدلة الشر ،فالعال مثالً:
احلجة على خطئه أو صوابه ،أو كونه ً
يقيم األدلة الشرعية ،على وجوب قتل تارك الصالة ،مث اإلمام أو نائبه يدعوه إىل
()1
فعلها ،ويستتيبه» .
-455-
الفصل الخامس
أنواع الكفر وحكم تكفير المعين
-454-
-451-
المبحث األول
أنواع الكفر والنفاق األكبر واألصغر.
-451-
اجلوِ و ْ ِ ِ ِ ِ
صنَـعو َن﴾ [النحل.]992 :
اْلَْوف مبَا َكانواْ يَ ْ الليه فَأَ َذاقَـ َها الليه لبَ َ
اس ْ َ
وأما النفاق فنوعان :اعتقادي ،وعملي.
فأما االعتقادي :فهو ستة أنوا :تكذيب الرسول ،أو تكذيب بعض ما
املسرة
جاء به الرسول ،أو بغض الرسول ،أو بغض ما جاء به الرسول ،أو َّ
باخنفاض دين الرسول ،أو الكراهية النتصار دين الرسول ،فهذه األنوا الستة
صاحبها من أهل الدرك األسفل من النار.
وأما العملي :فهو مخسة أنوا ،والدليل قوله « :آية املنافق ثالث :إذا
كذب ،وإذا وعد أخلف ،وإذا اؤَتن خان ،وإذا خاصم فجر ،وإذا عاهد حدَّث َّ
غدر».
()1
نعوذ باهلل من النفاق والشقاق وسوء األدب ،واهلل أعلم .
-445-
المبحث الثاني
متي يصح التكفير وما هي مقومات الحكم به
ومتى ل يصح ،مع بيان أن المكفر يدور أمره
بين الثواب ،والعفو ،واإلثم الشديد.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن -رحمهما اهلل تعالى:-
متأوالً خمطئًا ،وهو ممن يسوغ له
«إن كان املكفِّر لبعض صلحاء األمة ِّ
التأويل ،فهذا وأمثاله ممن رفع عنه احلرج والتأثيم ،الجتهاده ،وبذل وسعه ،كما
يف قصة حاطب بن أيب بلتعة ،فإن عمر وصفه بالنفاق ،واستأذن رسول اهلل
يف قتله ،فقال له رسول اهلل « :وما يدريك أن اهلل اطلع على أهل بدر،
فقال :اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
ومع ذلك فلم يعنف عمر ،على قوله حلاطب :إنه قد نافق ،وقد قال اهلل
تعاىل ﴿ :ربـنا ل تـؤ ِ
اخ ْذنا إِ ْن ن ِسينا أ ْو أ ْخطأْنا ﴾ [البقرة .]215 :وقد ثبت:
أن الرب تبارك وتعاىل ،قال بعد نزول هذه اآلية ،وقراءة املؤمنني هلا« :قد
فعلت».
(التكفري برتك اصول اإلميان ،من أعظم دعائم الدين)
وأما إن كان املكفِّر ألحد من هذه األمة ،يستند يف تكفريه له إىل ن
احا ،كالشرك باهلل ،وعبادة ماكفرا بو ً
وبرهان من كتاب اهلل وسنة نبيِّه ،وقد رأى ً
سواه ،واالستهزاء به تعاىل ،أو بآياته ،أو رسله ،أو تكذيبهم ،أو كراهة ما أنزل
اهلل من اهلدى ودين احلق ،أو جحد صفات اهلل تعاىل ونعوت جالله ،وحنو
ذلك ،فاملكفِّر هبذا وأمثاله ،مصيب مأجور ،مطيع هلل ورسوله....
والتكفري برتك هذه األصول ،وعدم اإلميان هبا ،من أعظم دعائم الدين،
يعرفه كل من كانت له هنمة يف معرفة دين اإلسالم....
-449-
وقد يصدر التكفري لصلحاء األمة ،من أعداء اهلل ورسوله ،أهل اإلشراك له
به ،واإلحلاد يف أمسائه ،فهؤالء يكفِّرون املؤمنني مبحض اإلميان ،وجتريد التوحيد،
ويعيبون أهل اإلسالم ،ويذموهنم على إخالص الدين ،وجتريد املتابعة لرسول اهلل
،بل قد يقاتلوهنم على ذلك ،ويستحلُّون دماءهم وأمواهلم ،كما قال تعاىل:
ِ ِ ِِ ِ َّ ِ
َّم َوَهل ْم
ني َوالْم ْؤمنَات مثَّ َلْ يَـتوبوا فَـلَه ْم َع َذاب َج َهن َ ين فَـتَـنوا الْم ْؤمن َ ﴿إ َّن الذ َ
احلَ ِر ِيق﴾ [الربوج.]95 : َع َذاب ْ
فمن كفَّر املسلمني أهل التوحيد ،أو فتنهم بالقتال أو التعذيب ،فهو من
َحلُّواْ قَـ ْوَمه ْم َد َار ِ ِ َّ ِ
ين بَدَّلواْ ن ْع َمةَ الليه ك ْفًرا َوأ َ
شر أصناف الكفار ،ومن ﴿ :الذ َ
س الْ َقَرار﴾ [إبراهيم.]21 ،21 : ِ ِ
صلَ ْونَـ َها َوبْئ َ
َّم يَ ْ
الْبَـ َوار * َج َهن َ
ويف احلديث« :من قال ألخيه يا كافر ،فقد باء هبا أحدمها».
وأما من أطلق لسانه بالتكفري ،جملرد عداوة ،أو هوى ،أو ملخالفة يف
البني ،والتجاسر علىاجلهال ،فهذا من اْلطأ ِّ
املذهب ،كما يقع لكثري من َّ
احا ،عنده فيه من التكفري ،أو التفسيق والتضليل ،ال يسوغ إالَّ ملن رأى ً
كفرا بو ً
اهلل برهان .واملخالفة يف املسائل االجتهادية ،اليت قد خيفى احلكم فيها على كثري
فسقا ،وقد يكون احلكم فيها قطعيًا جليًا عند
كفرا وال ً
من الناس ،ال تقتضي ً
نفسا
مشتبها خفيًا ،واهلل ال يكلف ً
ً بعض الناس ،وعند آخرين يكون احلكم فيها
إال وسعها....
وبقي قسم خامس ،وهم الذين يكفرون مبا دون الشرك من الذنوب،
كالسرقة والزنا وشرب اْلمر ،وهؤالء هم اْلوارج ،وهم عند أهل السنة ضالَّل
مبتدعة ،قاتلهم أصحاب رسول اهلل ،ألن احلديث قد صح باألمر بقتاهلم
والرتغيب فيه ،وفيه« :أهنم يقرأون القرآن ال جياوز حناجرهم».
وقد غلط كثري من املشركني يف هذه األعصار ،وظنوا أن من كفَّر من
-442-
تلفظ بالشهادتني ،فهو من اْلوارج ،وليس كذلك ،بل التلفظ بالشهادتني
مانعا من التكفري إالَّ ملن عرف معنامها ،وعمل مبقتضامها ،وأخل
ال يكون ً
()1
العبادة هلل ،ول يشرك به سواه ،فهذا تنفعه الشهادتان» .
مسلما فقد كفر»:
وسئل الشيخ أبو بطين عن الذي يروي« :من كفر ا
«فأجاب عفا اهلل عنه :ال أصل هلذا اللفظ فيما نعلم عن النيب ،وإمنا
احلديث املعروف« :من قال ألخيه يا كافر فقد باء هبا أحدمها» ومن كفر
متأوالً ،غضبًا هلل تعاىل ،فريجى العفو عنه ،كما قال
فسقه ،أو نفقهِّ ،
إنسانًا أو َّ
عمر يف شأن حاطب بن أيب بلتعة أنه منافق ،وكذا جرى من غريه من
شخصا أو نفَّقه غضبًا لنفسه أو بغري تأويل،
ً الصحابة وغريهم ،وأما من كفَّر
فهذا خياف عليه.
وأما من جعل سبيل الكفار أهدى من سبيل املؤمنني ،فإن كان مراده:
حال أهل الزمان اليوم ،كأن يقول :إن فعل مشركي الزمان عند القبور وغريها،
أحسن ممن ال يدعو إالَّ اهلل وال يدعو غريه.
فهذا كافر بال شك ،وكذا قولنا :إن فعل مشركي الزمان عند القبور من:
دعاء أهل القبور ،وسؤاهلم قضاء احلاجات ،وتفريج الكربات ،والذبح ،والنذر
هلم ،وقولنا :إن هذا شرك أكرب ،وأن من فعله فهو كافر ،والذين يفعلون هذه
العبادات عند القبور كفار بال شك.
اجلهال :إنكم تكفِّرون املسلمني ،فهذا ما عرف اإلسالم وال التوحيد.
وقول َّ
والظاهر :عدم صحة إسالم هذا القائل ،فإن ل ينكر هذه األمور اليت يفعلها
()2
املشركون اليوم ،وال يراها شيئًا فليس مبسلم» .
-443-
المبحث الثالث
المشرك الجاهل ،الذي لم تقم عليه حجة البالغ
مسلما ،ولو نطق بالشهادتين ،واستقبل القبلة،
ل يكون ا
وقام ببعض الفرائض ،إل أنه ل يعين بالكفر المستلزم
للعقوبة إل بعد إقامة الحجة
إذا وقع العبد يف عبادة غري اهلل جاهالً ،ول تقم عليه حجة البالغ ،يف وقت
يقاس فيه أهله بأهل الفرتات ،فهذا العبد ال حيكم عليه بالكفر حىت تقام عليه
احلجة ،ولكن هذا ال يستلزم احلكم له باإلسالم ،ال وكال ،ألن لإلسالم حد،
من قام به كان من أهله ،ومن ل يقم به حتت أي شبهة من الشبهات فهو
خارج من عداد املسلمني ،وماثل يف عداد املشركني.
كافرا إالَّ بعد قيام احلجة ،ألن
َتهد هذا ،فنقول :إن هذا العبد ال يكون ً إذا َّ
الكفر وصف ومعى متضمن للرد واإلنكار والتكذيب املستلزم للعقوبة ،وهذا ال
يكون إالَّ بعد بلوغ الرسالة وإقامة احلجة ،وكذلك احلكم باْللود يف النريان ملن
أيضا ال يكون إالَّ بعد قيام احلجة بالرسل.
مات على الكفر دون توبة منه ،فهو ً
مسلما ،وإن نطق
فاملشرك اجلاهل الذي ل تقم عليه حجة البالغ ،ال يكون ً
بالشهادتني ،واستقبل القبلة ،وقام ببعض الفرائض.
وهذا هو املقصود املتعني من كالم األئمة :كابن تيمية ،وابن القيم ،وحممد
بن عبد الوهاب ،وأحفاده.
ولذلك عندما يطلق هؤالء األئمة :القول بعدم تكفري املعني ،من الذين
وقعوا يف عبادة غري اهلل ،حىت تقام عليه احلجة ،فمقصودهم األكيد يف هذا
-444-
الشأن هو :الكفر املستلزم للعقوبة يف الدنيا ،واْللود يف النريان يف اآلخرة.
املعني ،الذي وقع يف عبادة غري اهلل،وكما قطع هؤالء األئمة بعدم تكفري َّ
أيضا بعدم إسالمه ،وأثبتوا له حكم حىت تقام عليه احلجة ،فنجدهم قد جزموا ً
الشرك ووصفه ،ولو ل تقم عليه حجة البالغ.
فهؤالء املشركون اجلاهلون يعاملون ،معاملة أهل الفرتات ،سواء بسواء يف
الدنيا واآلخرة.
وهبذا التفصيل ،يزول اإلشكال يف هذه املسألة بالكلية ،أما الذين يريدون
الدفع :يف حنر نصوص الشريعة الواضحة احلاكمة بعكازة قضايا األعيان ،واألدلة
واألقوال املطلقة من غري تقييد ،فشأهنم وما ارتضوه ألنفسهم ،إالَّ أن هذا ليس
من اإلسالم يف شيء ،ونقول هلم:
واإلل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه الطال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب أي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن المف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرمحن رمحهما اهلل تعاىل:
«إن كالم الشيخني -أي ابن تيمية وابن القيم -يف كل موضع فيه البيان
الشايف أن نفي التكفري ِّ
باملكفرات قوهلا وفعلها فيما خيفى دليله ،ول تقم احلجة
على فاعله ،وأن النفي يراد به نفي تكفري الفاعل وعقابه ،قبل قيام احلجة ،وأن
نفي التكفري خمصوص مبسائل النزا بني األمة.
امللمات والشدائد ،فهذا
وأما دعاء الصاحلني ،واالستغاثة هبم ،وقصدهم يف َّ
ال يناز مسلم يف حترميه ،أو احلكم بأنه من الشرك األكرب ،وتقدم عن الشيخ أن
فاعله يستتاب فإن تاب وإالَّ قتل ،كما يف عبارة الرسالة السنية ،وتقدم قوله :من
إمجاعا ،وتقدم
جعل بينه وبني اهلل وسائط يدعوهم ويسأهلم ويتوكل عليهم ،كفر ً
قوله يف الرد على املتكلمني :وهذا إذا كان يف املسائل اْلفية ،فقد يقال إنه
خفي عليهم ،ولكنه يقع منهم يف مسائل يعلم
-446-
اْلاصة والعامة أن الرسول قد جاء هبا ...إخل .وهذا عني كالم شيخنا
حممد بن عبد الوهاب ضاعف اهلل لنا وله الثواب ،وأدخلنا وإياه اجلنة بغري
()1
حساب ،على رغم كل مبري وكذاب» .
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى:
بسم اهلل الرحمن الرحيم
من حممد بن عبد الوهاب ،إىل أمحد بن عبد الكرمي ،سالم على املرسلني،
واحلمد هلل رب العاملني.
تقرر املسألة اليت ذكرت ،وتذكر أن عليك إشكاالً
أما بعد :وصل مكتوبكِّ ،
تطلب إزالته ،مث ورد منك مراسلة ،تذكر أنك عثرت على كالم للشيخ ،أزال
عنك اإلشكال ،فنسأل اهلل أن يهديك لدين اإلسالم.
وعلى أي شيء يدل كالمه ،على أن من عبد األوثان عبادة ،أكرب من
وسب دين الرسول بعدما شهد به ،مثل َّ
سب أيب َّ عبادة الالَّت و َّ
العزى،
جهل ،أنه ال يكفر بعينه .بل العبارة صرحية واضحة يف تكفريه مثل ابن فريوز،
ظاهرا ينقل عن امللة ،فضالً عن غريمها ،هذا
كفرا ً
وصاحل بن عبد اهلل ،وأمثاهلماً ،
صريح واضح ،يف كالم ابن القيم الذي ذكرت ،ويف كالم الشيخ الذي أزال
عنك اإلشكال ،يف كفر من عبد الوثن ،الذي على قرب يوسف وأمثاله ،ودعاهم
أقر به ،ودان بعبادة األوثان بعد
يف الشدائد والرخاء ،وسب دين الرسل بعد ما َّ
أقر هبا....
ما َّ
وإن كنت تزعم أن اإلنسان ،إذا أظهر اإلسالم ال يكفر ،ولو أظهر عبادة
سب دين األنبياء ،ومسَّاه دين أهل العارض،
األوثان ،وزعم أهنا الدين ،وأظهر َّ
وأفىت بقتل من أخل هلل الـدين ،وإحراقه ،وحل ماله ،فهذه مسألتك وقد
-445-
أحدا ،ول َّقررهتا ،وذكرت :أن من زمن النيب إىل يومنا هذا ل يقتلوا ً
يكفِّروه من أهل امللة.
(األدلة الجلية على كفر وقتل من أتى بناقض من أهل القبلة)
ين ِيف قـلوهبِِم َّ ِ ِ ِ َّ ِ
أما ذكرت :قول اهلل تعاىل﴿ :لَئن لْ يَنتَه الْمنَافقو َن َوالذ َ
ني أَيْـنَ َما ث ِقفوا أ ِخذوا َوقـتـِّلوا تَـ ْقتِ ًيال﴾ [األحزاب55 : ِ
َّمَرض﴾ ،إىل قولهَ ﴿ :مْلعون َ
– .]59
ين ي ِريدو َن أَن يَأْ َمنوك ْم َويَأْ َمنواْ قَـ ْوَمه ْم ك َّل َما ِ
آخ ِر َ
واذكر قولهَ ﴿ :ستَجدو َن َ
رُّد َواْ إِ َىل الْ ِفْتنِ ِة أ ْركِسواْ فِيِ َها﴾ [النساء ،]19 :إىل قوله﴿ :فَِإن َّلْ يَـ ْعتَ ِزلوك ْم َويـْلقواْ
السلَ َم َويَكف َُّواْ أَيْ ِديَـه ْم فَخذوه ْم َواقْـتـلوه ْم[ ﴾...النساء.]19 :إِلَْيكم َّ
واذكر قوله يف االعتقاد يف األنبياء﴿ :أَيَأْمركم بِالْك ْف ِر بَـ ْع َد إِ ْذ أَنتم
ُّم ْسلِمو َن﴾ [آل عمران.]15 :
صح عن رسول اهلل أنه شخ رجالً معه الراية إىل من تزوج واذكر ما َّ
امرأة أبيه ،ليقتله ويأخذ ماله.
تزوج امرأة األب؟ أو سب دين األنبياء بعد معرفته؟ فأي هذين أعظم؟ ُّ
كذب اهلل هم بغزو املصطلق ،ملا قيل إهنم منعوا الزكاة ،حىت َّ واذكر أنه قد َّ
من نقل ذلك.
اجتهادا« :لئن أدركتهم ألقتلنهم ً واذكر قوله يف أعبد هذه األمة ،وأشدهم
أجرا ملن قتلهم يوم القيامة». قتل عاد ،أينما لقيتموهم فاقتلوها ،فإن يف قتلهم ً
واذكر قتال الصدِّيق وأصحابه ،مانعي الزكاة ،وسيب ذراريهم ،وغنيمة أمواهلم.
وردهتم ،ملا واذكر إمجا الصحابة ،على قتل أهل مسجد الكوفة ،وكفرهم َّ
قالوا كلمة يف تقرير نبوة مسيلمة ،ولكن الصحابة اختلفوا يف قبول توبتهم ملا
تابوا ،واملسألة يف صحيح البخاري وشرحه يف الكفالة.
واذكر إمجـا الصحابة ملا استفتاهم عمر ،على أن من زعم :أن اْلمر
-444-
ين َآمنوا َو َع ِملوا َّ ِ
س َعلَى الذ َ
حتل للخواص ،مستدالً بقوله تعاىل﴿ :لَْي َ
ات جناح فِيما طَعِموا إِ َذا ما اتـ ََّقوا وآمنوا وع ِملوا َّ ِ
احل ِ
ات مثَّ اتـ ََّق ْوا َو َآمنوا احل َِّ ِ
الص َ َ ْ َ َ ََ َ َ الص َ
ني﴾ [املائدة ،]13 :مع كونه من أهل ِِ َح َسنوا َواللَّه ِحي ُّ
ب الْم ْحسن َ مثَّ اتـ ََّق ْوا َوأ ْ
بدر.
وأمجع الصحابة على كفر من اعتقد يف علي ،مثل اعتقاد هؤالء ،يف عبد
القادر ،وردهتم وقتلهم ،فأحرقهم علي بن أيب طالب وهم أحياء ،فخالفه ابن
عباس يف اإلحراق ،وقال :يقتلون بالسيف ،مع كوهنم من أهل القرن األول،
أخذوا العلم عن الصحابة .واذكر إمجا أهل العلم من التابعني وغريهم ،على
قتل اجلعد بن درهم ،وأمثاله ،قال ابن القيم:
هلل درك من أخي قربان شكر الضحية كل صاحب سنة
بردته وقتله،
ولو ذهبنا نعدِّد من كفَّره العلماء ،مع ادعائه اإلسالم ،وأفتوا ِّ
لطال الكالم ،لكن من آخر ما جرى قصة بن عبيد ،ملوك مصر وطائفتهم،
وهم يدعون أهنم من أهل البيت ،ويصلُّون اجلمعة واجلماعة ،ونصبوا القضاة
واملفتني ،وأمجع العلماء على كفرهم وردهتم وقتاهلم ،وأن بالدهم بالد حرب،
جيب قتاهلم ولو كانوا مكرهني ،مبغضني هلم.
اعا كثرية،
واذكر كالمه يف اإلقنا وشرحه ،يف الردة ،كيف ذكروا أنو ً
كثريا
عمت البلوى هبذه الفرق ،وأفسدوا ً موجودة عندكم ،مث قال منصور :وقد َّ
من عقائد أهل التوحيد ،نسأل اهلل العفو والعافية ،هذا لفظه حبروفه ،مث ذكر قتل
الواحد منهم ،وحكم ماله.
هل قال واحد من هؤالء من الصحابة ،إىل زمن منصور ،إن هؤالء :يكفر
أنواعهم ال أعياهنم؟!...
ـ مث ذكر كالم ابن تيمية يف تكفري من ذبح لغري اهلل ،وحكمه بردة بعض
كثريا ،مث قال:-
املتكلمني ،السابق نقله من قبل ً
-441-
فانظر كالمه يف التفرقة ،بني املقاالت اْلفية ،وبني ما حنن فيه ،يف كفر
وتأمل
املعني ،وتأمل تكفريه رءوسهم ،فالنًا وفالنًا بأعياهنم ،وردهتم ردة صرحية َّ
َّ
تصرحيه حبكاية اإلمجا على ردة الفخر الرازي عن اإلسالم ،مع كونه عند
املعني ال
علمائكم من األئمة األربعة ،هل يناسب هذا ملا فهمت من كالمه :أن َّ
يكفر ،وال دعا عبد القادر يف الرخاء والشدة ،ولو أحب عبد اهلل بن عون ،وزعم
أن دينه حسن ،مع عبادته أيب حديدة ،ولو أبغضك واستنجسك -مع أنك
ملتفتا بعض االلتفات إىل التوحيد ،مع كونك أقرب الناس إليه -ملا رآك ً
توافقهم على شيء من شرطهم ،وكفرهم؟!...
غرك به الشيطان ،من الفهم الفاسد ،الذيفتأمل كالمه ،وأعرضه على ما َّ
كذبت به اهلل ورسوله ،وإمجا األمة ،وحتيَّزت به على عبادة الطواغيت ،فإن
فهمت هذا ،وإالَّ أشري عليك أنك تكثر من التضر والدعاء ،إىل من اهلداية
بيده ،فإن اْلطر عظيم ،فإن اْللود يف النار جزاء الردة الصرحية ،ما يسوى
()1
بضيعة تربح تومان أو نصف تومان» .
ولقد تضافرت األدلة من الكتاب والسنة ،بفهم مجهور أهل العلم على أن:
ويعني بالكفر إذا قامت احلجة عليه ،ولقد قطع
من عبد غري اهلل يكون مشرًكاَّ ،
أئمة الدعوة خبروجه من امللة ولو ل تقم عليه احلجة ،وأما ما دون ذلك من
القدر فالردة فيه متوقفة على قيام احلجة ووضوح احملجة.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى:
«وكيف ال حيكم الشيخان -أي :ابن تيمية وابن القيم -على أحد
بالكفر ،أو الشرك ،وقد حكم به اهلل ورسوله ،وكافة أهل العلم؟
وهذان الشيخان حيكمان :أن من ارتكب ما يوجب الكفر والردة والشرك
-441-
فسقا ،إالَّ
كفرا أو شرًكا أو ً
حيكم عليه مبقتضى ذلك ،ومبوجب ما اقرتف ً
أن يقوم مانع شرعي مينع من اإلطالق ،وهذا له صور خمصوصة ،ال يدخل فيها
()1
مدرا لظهور الربهان ،وقيام احلجة بالرسل»
بشرا أو ً
قربا أو ً
صنما أو ًمن عبد ً
.
وقال عبد اهلل وإبراهيم ،ابنا عبد اللطيف ،وسليمان ابن سحمان:
وأما قول القائل :نقول بأن القول كفر ،وال حنكم بكفر القائل ،فإطالق
هذا جهل صرف ،ألن هذه العبارة ال تنطبق إالَّ على املعني ،ومسألة تكفري
كفرا ،فيقال :من قال هبذا
املعني ،مسألة معروفة إذا قال قوالً يكون القول به ً َّ
القول فهو كافر ،لكن الشخ املعني إذا قال ذلك ال حيكم بكفره حىت تقوم
عليه احلجة ،اليت يكفر هبا تاركها ،وهذا يف املسائل اْلفية ،اليت قد خيفى دليلها
على بعض الناس ،كما يف مسائل القدر واإلرجاء وحنو ذلك ،فما قاله أهل
أمورا كفرية ،من رد أدلة الكتاب والسنة األهواء ،فإن بعض أقواهلم تتضمن ً
كفرا ،وال حيكم على قائله
املتواترة ،فيكون القول املتضمن لرد بعض النصوص ً
بالكفر الحتمال وجود مانع كاجلهل وعدم العلم بنقض الن أو بداللته ،فإن
الشرائع ال تلزم إالَّ بعد بلوغها.
ذكر ذلك اهلل شيخ اإلسالم ابن تيمية قدس اهلل روحه ،يف كثري من كتبه،
أيضا :تكفري أناس من أعيان املتكلمني ،بعد أن َّقرر هذه املسائل ،قال:
وذكر ً
وهذا إذا كان يف املسائل اْلفية ،فقد يقال بعدم التكفري ،وأما ما يقع منهم يف
املسائل الظاهرة اجللية ،أو ما يعلم من الدين بالضرورة ،فهذا ال يتوقف يف كفر
()2
قائله .اهـ.
-415-
(ظاهر اآليات واألحاديث ،وكالم جمهور العلماء ،يدل على تكفير من
عبد مع اهلل غيره بالتعيين)
قال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرحمن أبو بطين -رحمه اهلل تعالى:-
نقول يف تكفري املعني :ظاهر اآليات ،واألحاديث ،وكالم مجهور العلماء يدل
على كفر من أشرك باهلل فعبد معه غريه ،ول تفرق األدلة بني املعني وغريه .قال
تعاىل﴿ :إِ َّن الليهَ الَ يَـ ْغ ِفر أَن ي ْشَرَك بِهِ﴾ [النساء .]41 :وقال تعاىل﴿ :فَاقْـتـلواْ
ني َحْيث َو َج ُّ ِ
دَتوه ْم﴾ [التوبة .]6 :وهذا عام يف كل واحد من الْم ْش ِرك َ
املشركني.
ومجيع العلماء يف كتب الفقه ،يذكرون حكم املرتد ،وأول ما يذكرون من
أنوا الكفر والردة ،الشرك ،فقالوا :إن من أشرك باهلل كفر ،ول يستثنوا اجلاهل،
ولدا كفر ،ول يستثنوا اجلاهل ،ومن قذف عائشة كفر، ومن زعم هلل صاحبة أو ً
إمجاعا ،لقوله تعاىل﴿ :الَ تَـ ْعتَ ِذرواْ قَ ْد
ومن استهزأ باهلل أو رسله أو كتبه ،كفر ً
ِ
معا على كفر َك َف ْرم بَـ ْع َد إِميَانك ْم﴾ [التوبة ،]55 :ويذكرون أنو ً
اعا كثرية جم ً
يفرقوا بني املعني وغريه.صاحبهاَ ،ول ِّ
مث يقولون :فمن ارتد عن اإلسالم قتل بعد االستتابة ،فحكموا بردته قبل
احلكم باستتابته ،فاالستتابة بعد احلكم بالردة ،واالستتابة إمنا تكون ملعني.
ويذكرون يف هذا الباب :حكم من جحد وجوب واحدة من العبادات
احملرمات ،كاْلمر واْلنزير وحنو ذلك ،أو شك فيه استحل شيئًا من ََّّ اْلمس ،أو
يكفر ،إذا كان مثله ال جيهله.
()1
ول يقولوا ذلك يف الشرك وحنوه مما ذكرنا بعضه ،بل أطلقوا كفره
مسلما إالَّ
( )1وذلك ألن الشرائع ال تلزم إالَّ بعد البالغ ،أما التوحيد وترك الشرك ،فلن يكون العبد ً
بتحقيقه ،بل وأخذ على ذلك امليثاق ،وفطر عليه العباد ،ورَّكز يف عقوهلم أدلته وحجه وبراهينه ،مث
قامت األدلة الكونية -اليت ال خيلو منها الكون يف أي بقعة من بقاعه ،وال يف أي حلظة من
حلظاته -شاهدة على صحة التوحيد ،وآمرة به ،وعلى قبح الشرك وناهية عنه .مث جاءت الرسل
=
-419-
ول يقيِّدوه باجلهل ،وال َّفرقوا بني املعني وغريه ،وكما ذكرنا :أن االستتابة إمنا
تكون ملعني.
ولدا؟ أو أنوهل جيوز ملسلم أن يشك يف كفر من قال إن هلل صاحبة أو ً
أحدا من األنبياء؟
جربائيل غلط يف الرسالة؟ أو ينكر البعث بعد املوت؟ أو ينكر ً
وهل ويفرق مسلم بني املعني وغريه يف ذلك وحنوه؟ وقد قال « :من بدل دينه
()1
يعم املعني وغريه» . فاقتلوه» ،وهذا ُّ
=
كلهم ،ختاطب من عبد غري اهلل من أقوامهم بالشرك ،وتوجب عليهم التوبة واالخنال منه ،كل
هذا قبل أن تقيم احلجة عليهم ،وتبني هلم حرمة الشك ،مث تعلمهم أن الدخول يف دينهم ليس له
احدا ال ثاي له ،وهو :االخنال من الشرك إىل االستقامة على التوحيد ،مع إفرادهم إالَّ طري ًقا و ً
عليهم السالم بوحدانية املتابعة ،وحتذرهم بأن من مات منهم غري مؤمن برسالته ،فمصريه نار
أبدا ،وتبشر املؤمنني هبم جبنة عرضها السماوات واألرض ،وهكذا كانت القضية خالدا فيها ً
جهنم ً
واضحة وحامسة ومتفقة يف كل الرساالت وكافة النبوات والشرائع .هذا واهلل أعال وأعلم.
(« )1الدرر السنية».)459/95( :
-412-
المبحث الرابع
فهم وتأويل أئمة الدعوة لموقف الشيخين
ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب
من عدم تكفيرهما للمعين ابتداء ،حتى تقام عليه الحجة
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى ،بعد أن ساق
األدلة الدالة على كفر من عبد غير اهلل سبحانه:
«بقي مسألة حدثت ،تكلَّم هبا شيخ اإلسالم ابن تيمية ،وهو :عدم تكفري
املعني ابتداء ،لسب ذكره رمحه اهلل تعاىل ،أوجب له التوقف يف تكفريه ،قبل َّ
إقامة احلجة عليه ،قال رمحه اهلل تعاىل :وحنن نعلم بالضرورة ،أن النيب ل يشر
أحدا من األموات ،ال األنبياء ،وال الصاحلني ،وال غريهم ،ال
ألحد ،أن يدعو ً
بلفظ االستغاثة ،وال بغريها ،كما أنه ل يشر ألمته السجود مليِّت ،وال إىل
أن ذلك من الشرك ميِّت ،وحنو ذلك ،بل نعلم :أنه هنى عن هذه األمور كلها ،و َّ
الذي حرمه اهلل ورسوله ،ولكن :لغلبة اجلهل ،وقلة العلم بآثار الرسالة ،يف
كثري من املتأخرين ،ل ميكن تكفريهم بذلك ،حىت يبني ما جاء به الرسول ،مما
خيالفه .انتهى.
قلت :فذكر رمحه اهلل تعاىل ،ما أوجب له عدم إطالق الكفر عليهم ،على
التعيني خاصة ،إالَّ بعد البيان واإلصرار ،فإنه قد صار أمة وحده ،ألن من
العلماء من كفره بنهيه هلم عن الشرك يف العبادة ،فال ميكن أن يعاملهم مبثل ما
قال ،كما جرى لشيخنا حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل ،يف ابتداء دعوته،
يدا بن اْلطاب ،قال :اهلل خري من فإنه إذا مسعهم يدعون ز ً
نظرا إىل املصلحة ،وعدمزيـدَ ،تـرينًا هلم على نفي الشرك ،بلني الكالمً ،
-413-
()1
النفرة» .
وقال الشيخ عبد اهلل أبو بطين رحمه اهلل:
«وقولك :إن الشيخ -أي ابن تيمية -يقول ،إن من فعل شيئًا من هذه
احلجة
األمور الشركية ،ال يطلق عليه أنه مشرك كافر ،حىت تقوم عليه َّ
اإلسالمية ،فهو ل يقل ذلك يف الشرك األكرب ،وعبادة غري اهلل ،وحنوه من
الكفر ،وإمنا قال هذا يف :املقاالت اْلفية ،كما قدَّمنا من قوله :وهذا إذا كان
يف املقاالت اْلفية ،فقد يقال ل تقم عليه احلجة اليت يكفر صاحبها ،فلم جيزم
بعدم كفره ،وإمنا قال :قد يقال.
وقوله :قد يقع ذلك يف طوائف منهم ،يعلم العامة واْلاصة ،بل اليهود
حممدا بعث هبا ،وكفَّر من خالفها ،مثل عبادة اهلل وحده
والنصارى ،يعلمون :أن ً
ال شريك له ،وهنيه عن عبادة غريه ،فإن هذا أظهر شرائع اإلسالم ،يعن :فهذا
ال ميكن أن يقال ل تقم عليه احلجة اليت يكفر صاحبها.
واألمر بعبادة اهلل وحده ال شريك له ،والنهي عن عبادة غريه ،هو ما حنن
ين لِئَالَّ يَكو َن لِلن ِ
َّاس َعلَى اللي ِه ح َّجة بَـ ْع َد ِِ
فيه ،قال تعاىلُّ ﴿ :رسالً ُّمبَ ِّش ِر َ
ين َومنذر َ
ِ
يما﴾ [النساء.]956 : الرس ِل َوَكا َن الليه َع ِز ًيزا َحك ً
ُّ
وقوله رمحه اهلل :بل اليهود والنصارى يعلمون ذلك ،حكي لنا من غري واحد
من اليهود يف البصرة ،أهنم عابوا على املسلمني ما يفعلونه عند القبور ،قالوا :إن
كان نبيكم أمركم هبذا فليس بنيب ،وإن ل يأمركم فقد عصيتموه.
وعبادة اهلل وحده ال شريك له ،هي أصل األصول ،الذي خلق اهلل اجلن
اإلنس إَِّال لِيـعبد ِ
ون﴾ اجلِ َّن َو ِْ
واإلنس ألجله ،قال تعاىلَ ﴿ :وَما َخلَ ْقت ْ
َْ َ
[الذاريات ،]65 :أي :يعبدوي وحدي.
-414-
وهو الذي أرسل به مجيع الرسل ،قال تعاىلَ ﴿ :ولََق ْد بَـ َعثْـنَا ِيف ك ِّل أ َّمة َّرسوالً
()1 أ َِن ْاعبدواْ الليه و ِ
وت﴾ [النحل. »]35 : اجتَنبواْ الطَّاغ َ
ََ ْ
-416-
أصول اإلميان.
قال شيخنا -أي عبد اللطيف بن عبد الرمحن -رمحه اهلل :وهذا هو قولنا
بعينه ،فإنه إذا بقيت معه أصول اإلميان ،ول يقع منه شرك أكرب ،وإمنا وقع يف
نو من البد فهذا ال نكفره ،وال خنرجه من امللة ،وهذا البيان ينفعك فيما يأيت
()1
من التشبيه بأن الشيخ ال يكفِّر املخطئ واجملتهد ،وأنه مسائل خمصوصة» .
* * *
-415-
المبحث الخامس
تكفير لمعينين صادر من أئمة الدعوة رحمهم اهلل تعالى
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته إلى عبد اهلل بن عيسى،
وابنه عبد الوهاب جاء فيها:
«ولوال أن الناس إىل اآلن ،ما عرفوا دين الرسول ،وأهنم يستنكرون األمر
الذي ل يألفوه ،لكان شأن آخر ،بل واهلل الذي ال إله إالَّ هو ،لو يعرف الناس
حبل دم ابن سحيم وأمثاله ،ووجوب قتلهم ،كما أمجع األمر على وجهه ألفتيت َّ
()1
حرجا من ذلك» . على ذلك أهل العلم كلهم ال أجد يف نفسي ً
أيضا رحمه اهلل تعالى:
وقال ا
«وما أحسن ما قاله واحد من البوادي ،ملا قدم علينا ومسع شيئًا من
اإلسالم ،قال :أشهد أننا كفار -يعن :هو ومجيع البوادي ،-وأشهد أن املطو
()2
إسالما ،أنه كافر» .
يسميناً :الذي ِّ
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن:
«وذكر شيخ اإلسالم رمحه اهلل :أن الفخر الرازي ،صنَّف «السر املكتوم ،يف
تدا إالَّ أن يكون قد تاب بعد ذلك ،فقد كفر الرازي عبادة النجوم» ،فصار مر ً
بعينه ،ملا زيَّن الشرك ،وقال بعد أن ذكر العلة يف النهي عن اختاذ القبور مساجد،
والنهي عن الصالة عند طلو الشمس ،وعند غروهبا.
فسد الذريعة أن ال يصلَّى يف هذه الساعـة ،وإن كـان املصلي ال
قالُّ :
(« )1مؤلفات الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب» ،القسم اْلامس :الرسائل الشخصية( :ص،394
.)396
(« )2الدرر السنية».)991/1( :
-414-
يصلي إالَّ هلل ،وال يدعو إالَّ اهلل ،لئال يفضي إىل دعائها والصالة هلا ،وهذا
ضل به كثريمن األولني واآلخرين ،حىت شا ذلك يف من أسباب الشرك ،الذي َّ
كثري ممن ينتسب إىل اإلسالم ،وصنف كتابًا على مذهب املشركني ،مثل أيب
معشر البلخي ،وثابت بن قرة ،وأمثاهلما ممن دخل يف الشرك ،وآمن باجلبت
ين أوتواْ ِ َّ ِ
والطاغوت ،وهم ينتسبون إىل الكتاب ،كما قال تعاىل﴿ :أَ َلْ تَـَر إ َىل الذ َ
وت﴾ [النساء .]69 :انتهى. ت والطَّاغ ِ
اب يـ ْؤِمنو َن بِ ِْ ِ
صيبا ِّمن الْ ِكتَ ِ
ِ
اجلْب َ نَ ً َ
املعني،
فانظر إىل هذا اإلمام ،الذي نسب عنه من أزاغ اهلل قلبه ،عدم تكفري َّ
كيف ذكر عن الفخر الرازي ،وأيب معشر ،وغريمها من املصنفني املشهورين ،أهنم
كفروا وارتدوا عن اإلسالم.
وتأمل قوله :حىت شا ذلك يف كثري ممن ينتسب إىل اإلسالم لتعلم ما وقع
رده على يف آخر هذه األمة من الشرك باهلل ،وقد ذكر الفخر الرازي يف ِّ
ردة صرحية باتفاق املتكلِّمني ،وذكر تصنيفه «السر املكتوم» ،وقال :فهذه َّ
()1
املسلمني» .
وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه اهلل تعالى:
«وقد تقدم كالم الشيخ يف الرازي تصنيفه يف دين املشركني ،وأهنا ِرَّدة
معني ،وتقدم يف كالم الشيخ عبد اللطيف -رمحه اهلل -حكاية صرحية ،وهو َّ
معني ،وكذلك اجلهم بن إمجا العلماء على تكفري بشر املريسي ،وهو رجل َّ
صفوان ،واجلعد بن درهم ،وكذلك الطوسي نصري الشرك ،والتلمساي ،وابن
سبعني ،والفارايب ،أئمة املالحدة ،وأهل الوحدة ،وأيب معشر البلخي ،وغريهم.
املعني ما
ويف إفادة املستفيد للشيخ حممد بن عبد الوهاب -رمحه اهلل -يف تكفري َّ
()2
يكفي طالب احلق واهلدى» .
-411-
وجاء يف سؤال ورد على املفيت العام ،الشيخ عبد العزيز ابن باز رمحه اهلل
تعاىل[ :فتوى برقم 3641بتاريخ 9459/3/91هـ]:
«السؤال :يقول اهلل تعاىل﴿ :ما كان لِلنبِ ِّي وال ِذين آمنوا أ ْن ي ْستـ ْغ ِفروا
ِ ِ ِ ِ ِ
صحاب للْم ْش ِركين ول ْو كانوا أولي قـ ْربى م ْن بـ ْعد ما تـبـين له ْم أنـه ْم أ ْ
يم ﴾ [التوبة.]993 : الْج ِح ِ
إن ظاهر اآلية السابقة مينع االستغفار للمشركني ولو كانوا من ذوي القرابة،
والكثري منا حنن أعراب البادية من له والدان وأقرباء ،وقد اعتادوا الذبح عند
فك الكربات ،وشفاء املرضى ،وقد ماتوا على ذلك ،ول يصلهم من القبور ،يف ِّ
يعرفهم معى التوحيد ،ومعى ال إله إالَّ اهلل ،ول يصلهم من يعلمهم أن النذور
والدعاء عبادة ال يصح صرفها إالَّ هلل وحده ،فهل يصح املشي يف جنائزهم،
والصالة عليهم ،والدعاء ،واالستغفار هلم ،وقضاء حجهم والتصدق عليهم؟.
اجلواب :من مات على احلالة اليت وصفت ،ال جيوز املشي يف جنازته ،وال
الصالة عليه ،وال الدعاء ،وال االستغفار له ،وال قضاء حجه ،وال التصدق عنه،
ألن أعماله املذكورة أعمال شركية وقد قال سبحانه وتعاىل يف اآلية السابقة﴿ :
ما كان لِلنبِ ِّي وال ِذين آمنوا أ ْن ي ْستـ ْغ ِفروا لِلْم ْش ِركِين ول ْو كانوا أولِي قـ ْربى ﴾
[التوبة ،]993 :وملا ثبت عنه أنه قال« :استأذنت ريب يف االستغفار ألمي
فلم يأذن يل ،واستأذنته يف زيارة قربها فأذن يل».
وليسوا معذروين مبا يقال عنهم :أهنم ل يأهتم من يبني هلم أن هذه األمور
املذكورة اليت يرتكبوهنا شرك ،ألن األدلة عليها يف القرآن الكرمي واضحة ،وأهل
العلم موجدون بني أظهرهم ،ففي إمكاهنم السؤال عما هم عليه من الشرك
()1
لكنهم قد أعرضوا ،ورضوا مبا هم عليه» .
-411-
وسئلت اللجنة الدائمة سؤال جاء فيه:
س :كنت سألتكم عن حكم صالة من يصلي مؤَتًا بإمام من املشركني
املنتسبني إىل اإلسالم مثل :الذين يذحبون لألولياء ،ويدعوهنم ،وينذرون هلم،
كثريا ما نسأل عن
ويطوفون بالقبور ،ويشدون هلا الرحال ،وغري ذلك .ألنه كان ً
هذا السؤال أثناء جتولنا يف بعض البالد اإلسالمية ،وتكرر السؤال عنه من
اإلخوان أنصار السنة يف السودان لدى زيارتنا للسودان هذه السنة .وقد
مذكرا مساحتكم،
استحسنتم أن نكتب لكم هبذا السؤال ،وها أنا ذا أكتب ً
راجيًا إصدار اجلواب ،ونشره مفصالً ،مع التكرم بالكتابة إلينا به ،شكر اهلل
مساعيكم وأجزل مثوبتكم.
احلمد هلل وحده والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه ...وبعد:
ج :من نذر لغري اهلل ،أو ذبح لغري اهلل ،أو دعا لغري اهلل فيما وراء األسباب
العادية ،كدعائه لشفاء مريض ،أو إلعطائه ذرية ،أو نداء غائب لتفريج كربة،
شد الرحال لشيء من هذه األمور ،أو أو ميت لدفع بالء ،أو طاف بالقبور ،أو َّ
االستعانة باألصنام وحنوها من اجلمادات فهو مشرك شرًكا أكرب ال تصح صالته
يف نفسه فال جيوز االئتمام به يف الصالة ،وال تصح الصالة وراءه لشركه.
وباهلل التوفيق ،وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء
الرئيس نائب رئيس اللجنة عضو عضو
()1
عبد اهلل بن قعود عبد اهلل بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز»
أيضا[ :فتوى رقم ]6116 وسئلت اللجنة الدائمة ا
س :إن السائل ،ومجاعة معه من احلدود الشمالية ،جماورون للمراكز
-415-
العراقية ،وهناك مجاعة على مذهب اجلعفرين ،ومنهم من امتنع عن أكل
علما بأهنم يدعون
ذبائحهم ،ومنهم من أكل ،ونقول هل حيل لنا أن نأكل منها ً
عليًا ،واحلسن ،واحلسني ،وسائر ساداهتم يف الشدة والرخاء؟
احلمد هلل وحده والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه ...وبعد:
ج :إذا كان األمر كما ذكر السائل ،من أن اجلماعة الذين لديه من
اجلعفرية يدعون عليًا ،واحلسن ،واحلسني ،وسادهتم فهم مشركون مرتدون عن
اإلسالم والعياذ باهلل ،ال حيل األكل من ذبائحهم ،ألهنا ميتة ولو ذكروا عليها
اسم اهلل.
وباهلل التوفيق ،وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء
الرئيس نائب رئيس اللجنة عضو عضو
عبد اهلل بن قعود عبد اهلل بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز»
أيضا:
وسئلت اللجنة ا
السؤال األول من الفتوى رقم []4665
س :أنا من قبيلة تسكن يف احلدود الشمالية ،وخمتلطني حنن وقبائل من
العراق ،ومذهبهم شيعة وثنية يعبدون قببًا ويسموهنا :باحلسن واحلسني وعلي،
وإذا قام أحدهم قال يا علي يا حسني ،وقد خالطهم البعض من قبائلنا يف
النكاح ،ويف كل األحوال ،وقد وعظتهم ول يسمعوا وهم يف القرايا واملناصيب،
وأنا ما عندي أعظهم بعلم ،ولكن إي أكره ذلك ،وال أخالطهم ،وقد مسعت أن
ذحبهم ال يؤكل ،وهؤالء يأكلون ذحبهم ،ول يتقيدوا ،نطلب من مساحتكم
توضيح الواجب حنو ما ذكرنا؟
احلمد هلل وحده والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه ...وبعد:
-419-
ج :إذا كان الواقع كما ذكرت ،من دعائهم عليًا ،واحلسن ،واحلسني،
وحنوهم فهم مشركون شرًكا أكرب خيرج من ملة اإلسالم ،فال حيل أن نزوجهم
املسلمات ،وال حيل لنا أن نتزوج من نسائهم ،وال حيل لنا أن نأكل من
ات َح َّىت يـ ْؤِم َّن َوأل ََمة ُّم ْؤِمنَة َخْيـر
نكحواْ الْم ْش ِرَك ِذبائحهم ،قال اهلل تعاىل﴿ :والَ تَ ِ
َ
ِ ِ ِ ِ ِ
ني َح َّىت يـ ْؤمنواْ َولَ َعْبد ُّم ْؤمن َخْيـر ِّمن ِّمن ُّم ْش ِرَكة َولَْو أ َْع َجبَْتك ْم َوالَ تنكحواْ الْمشرك َ
ِ
اجلن َِّة والْم ْغ ِفرةِ بِِإ ْذنِهِ ِ ِ ِ ُّم ْش ِرك َولَْو أ َْع َجبَك ْم أ ْولَـئِ َ
ك يَ ْدعو َن إ َىل النَّار َوالليه يَ ْدع َو إ َىل َْ َ َ َ
َويـبَـ ِّني آيَاتِِه لِلن ِ
َّاس لَ َعلَّه ْم يَـتَ َذ َّكرو َن﴾ [البقرة.]229 :
وباهلل التوفيق وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء
الرئيس نائب رئيس اللجنة عضو عضو
()1
عبد اهلل بن قعود عبد اهلل بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز»
-412-
الفصل السادس
أحكام الديار
وفيه أربعة مباحث:
-413-
-414-
المبحث األول
تعريف دار اإلسالم ،ودار الشرك
دار اإلسالم :هي الدار اليت جتري فيها أحكام اإلسالم ،ولو ل يكن أهلها
مسلمني ،وما دوهنا فهي دار الكفر.
إذا كان الشرك فاشيًا يف بلد ،وتوابعه من االحنالل والفجور ،وانتشرت به
البد ،وصارت الدعوة فيه لغري الكتاب والسنة ،فالقرآن كله ،والعلم الضروري،
مع إمجا العلماء يدلُّون على أن هذا البلد يكون :دار كفر وشرك.
قال الشيخ محد بن عتيق رمحه اهلل تعاىل خماطبًا أحد إخوانه ،ليدلِّل له على
أن بلد اإلحساء دار كفر وشرك يف وقته فقال رمحه اهلل:
«ومن له مشاركة فيها َّقرره احملققون ،قد اطَّلع على أن البلد ،إذا ظهر فيها
احملرمات ،وعطلِّت فيها معال الدين ،أهنا تكون بالد كفر، الشرك ،وأعلنت فيها َّ
تغنم أموال أهلها ،وتستباح دماؤهم ،وقد زاد أهل هذه البلد ،بإظهار املسبَّة هلل
ولدينه ،ووضعوا قوانني ينفذوهنا يف الرعية ،خمالفة لكتاب اهلل وسنة نبيه ،وقد
()1
علمت أن هذه كافية وحدها ،يف إخراج من أتى هبا من اإلسالم» .
وقال الشيخ عبد اهلل أبو بطين:
«قال األصحاب :الدار داران ،دار إسالم ودار كفر ،فدار اإلسالم :هي
اليت جتري أحكام اإلسالم فيها ،وإن ل يكن أهلها مسلمني ،وغريها دار
()2
كفر» .
-416-
وقال الشيخ محد بن عتيق يف جوابه ملن ناظره يف حكم أهل مكة وما يقال
يف البلد نفسه -بعد أن ذكر وجوب إفراد اهلل بالعبادة ،ورسوله باملتابعة:-
علما وعمالً ودعوة ،وكان هذا دين أهل فإذا حتقق وجود هذين األصلني ً
البلد ،أي بلد كان ،بأن عملوا به ،ودعوا إليه ،وكانوا أولياء ملن دان به،
موحدون.
ومعادين ملن خالفه فهم ِّ
وأما إذا كان الشرك فاشيًا مثل :دعاء الكعبة واملقام واحلطيم ،ودعاء األنبياء
والصاحلني ،وإفشاء توابع الشرك مثل :الزنا والربا وأنوا املظال ونبذ السنن وراء
الظهر ،وفشو البد والضالالت ،وصار التحاكم إىل األئمة الظلمة ،ونواب
معلوما يف أي بلد
املشركني ،وصارت الدعوة إىل غري القرآن والسنة ،وصار هذا ً
كان ،فال يشك من له أدىن علم أن هذه البالد حمكوم عليها بأهنا بالد كفر
وشرك ،ال سيما إذا كانوا معادين أهل التوحيد ،وساعني يف إزالة دينهم ،وختريب
بالد اإلسالم.
وإذا أردت إقامة الدليل على ذلك وجدت القرآن كله فيه ،وقد أمجع عليه
العلماء ،فهو معلوم بالضرورة عند كل عال....
ومجا األمر أنه إذا ظهر يف بلد :دعاء غري اهلل ،وتوابع ذلك ،واستمر أهلها
وتقررت عندهم عداوة أهل التوحيد ،وأبوا عن االنقياد عليه ،وقاتلوا عليهَّ ،
للدين ،فكيف ال حيكم عليها بأهنا بلد كفر -ولو كانوا ال ينتسبون ألهل
الكفر وأهنم منهم بريئون -مع مسبتهم هلم وختطئتهم ملن دان به ،واحلكم
عليهم بأهنم خوارج أو كفار ،فكيف إذا كانت هذه األشياء كلها موجودة
()1
فهذه مسألة عامة كلية» .
المبحث الثاني
(« )1جمموعة الرسائل واملسائل النجدية» ،القسم الثالث من اجلزء األول( :ص.)446 – 442
-415-
صفة الدار التي تجب الهجرة منها إل لمن قدر على إظهار دينه
مع تحرير المراد والمتعين من إظهار الدين
دل الكتاب والسنة ،مع صريح العقل :على وجوب اهلجرة من الديار لقد َّ
اليت تظهر فيها أعالم الكفر وتعلوها شعائر الشرك ،ال سيما ملن ل يستطع فيها
على إظهار دينه ،واألمن عليه من الفتنة .وإظهار الدين املبيح لإلقامة بني أظهر
املشركني يعن :إعالن املخالفة لكل طائفة كافرة مبا اشتهر عنها من املعتقد ،مع
التصريح بالعداوة هلا.
ومبعى آخر :القيام بالرباءة من املشركني وآهلتهم املزعومة ،وإعالمهم بأن
حكم ما هم عليه من الشرك والتنديد :كفر صريح ،وضالل مبني ،وانسالخ تام
من الدين ،ال ميكن أن جيتمع بأي حال مع أصل اإلميان والتوحيد.
فإذا جلس املسلم بينهم ،وآثر دنياه على آخرته ،فقد يقع يف موالتهم
ونصرهتم ،وتكثري سوادهم ،وتصحيح ما هم عليه من االعتقادات الباطلة
واألعمال الفاسدة ،ال سيما مع طول األمد ،وبعد العهد بينه وبني املسلمني
وديارهم.
بل وقد جتب اهلجرة والفرار من ديار اإلسالم إذا عالها الفساد ،وعمل فيها
بالبد واملعاصي دون القدرة على تغيريمها ،وإحالل السنة والطاعة حملهما .وها
هنا علة عظيمة ميمونة مباركة ملشروعية اهلجرة ،تتمثل يف اعتزال أهل املنكر
والفساد وَتيز أهل اإلميان والصالح ،ومن مث انتصاب علم اجلهاد لقمع أهل
الشرك والفساد.
ولوال اهلجرة ملا قام الدين ،وال عبد رب العاملني ،وال َتَّت الرباءة من
املشركني...
وهبذا نقطع :أن اهلجرة واجلهاد ،ماضيان إىل قيام الساعة ،حلتمية الصرا ،
واستمرار النزال ،ودوران النضال بني حزب الرمحن ،وحزب الشيطان.
قال الشيخ إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد
-414-
بن عبد الوهاب رحمهم اهلل تعالى:
بسم اهلل الرحمن الرحيم
وبه نستعني ،وال حول وال قوة إالَّ باهلل ،احلمد هلل الذي رضي لنا اإلسالم
صحته وبيَّنها تبيينًا ،وأعان من أراد هدايته على طاعته،
دينًا ،ونصب األدلة على ِّ
وكفى بربك هاديًا ومعينًا.
من إسحاق بن عبد الرمحن بن حسن ،إىل األخ املكرم :عبد اهلل آل أمحد،
وفقنا اهلل وإياه لسلوك الطريق األمحد.
أما بعد :فقد كتبت تسألن عن الصواب عندنا ،يف حكم بلدان املشركني،
وهل جيوز السفر إليها ملن أظهر دينه؟ وما إظهار الدين الذي تربأ به الذمة؟
إيل مبا أماله بعض املنتسبني يف إباحة ذلك ،وأنه صار عندكم مانع وأرسلت َّ
وجميز ،ونعوذ باهلل من التفرق واالختالف....
هذا واعلم :أنه بعد التسليم حلكم السنة والقرآن ،ووجوب الرد إليهما على
كل فرد من افراد نو هذا اإلنسان ،فقد أمجع علماء السنة :أنه إذا تواطأ
الكتاب والسنة ،وصريح العقل على إثبات حكم ،فال ميكن أن يعارض ثبوته
بدليل صحيح صريح ألبتة.
قطعا ،أو كان املعارض به أخطأ يفبل إن كان املعارض مسعيًا كان كذبًا ً
فهمه ،أو عقليًا فكذلك.
تقرر هذا األصل ،فالسؤال عن حكم الدار ،ليرتتب عليه ما زعم اجمليز:
إذا َّ
فاسد االعتبار ،من وجهني:
-411-
(علة وجوب الهجرة)
األول :أن أهل العلم رتَّبوا حكم اهلجرة ،على وجود الشرك ،والبد ،
واملعاصي ،ملن ال يستطيع إنكارها.
ومن املعلوم بالضرورة :أن الشرك باألموات والغائبني ،والتعلق على األنبياء
والصاحلني ،بل :على اجملاذيب واجملانني ،قد ظهر يف ديارهم شعاره ،وتطاير فيها
شراره ،وثار فيها قتامه وغباره ،وعدم فيها للتوحيد أعوانه وأنصاره ،مع ما هم
عليه من البد يف العبادات واالعتقادات ،وأصناف املعاصي ،اليت تشيب اللمم
والنواصي.
فالسؤال عن الدار :هل هي دار إسالم أم ال؟ مبعى أن املقيم فيها ،كاملقيم
يف بلد ساملة من ذلك ،خطأ ظاهر ،وقد تقرر يف عبارات أئمتنا احلنابلة وغريهم:
أهنم يوجبون اهلجرة مبشاهدة ما هو دون ذلك ،حىت من بلد تظهر فيها عقائد
أهل البد ،كاملعتزلة واْلوارج والروافض.
وقد حكى ابن العريب املالكي ،عن ابن القاسم ،قال مسعت مال ًكا يقول :ال
حيل ألحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف؛ وقال يف اإلقنا وشرحه -ملا
ذكرها -فيخرج منها وجوبًا ،إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها ،فعلق
احلكم :بالوصف الذي هو وجود البد واملعاصي ،ملن ال يستطيع إنكارها ،إال
بالدار.
(حكم الدار منوط بالوصف القائم بها ،مع ذكر بعض األحكام المترتبة
عليها)
وإذا كان من املعلوم :أن مصر دار إسالم ،فتحها عمرو بن العاص زمن
اْلليفة الراشد :عمر ،فأين إمجا الناس على أهنا دار حرب أيام بن عبيد
القداح؟! وكذلك جزيرة العرب أيام الردة ،مع أن الدار دار إسالم ،ال دار كفر
أصلي باإلمجا .
-411-
لكن ملا قام هبم الوصف الذي يبيح الدم واملال ،ل يكن لتسميتها دار
إسالم حكم ،وصار احلكم هلذا الوصف الطارئ ،تعريف على حمل طاهر تلوث
به احملل ،وللشيء حكم نظريه ،فكيف مبا هو اقبح وأشد؟! فبطل ما طرده اجمليز
من التعلق باسم الدار....
الوجه الثاي :أن اجمليز علَّق حكم إباحة اإلقامة فيما نقلت عنه ،مبا إذا ل
مصر ًحا بأهنا هي النطق بالشهادتني ،والصالة،
مينعوك عن واجبات دينكِّ ،
والعبادات البدنية ،اليت وافقك عليها املشرك يف هذا الزمان ،فإذا كان كذلك،
فاملدَّعى أوسع من الدليل.
إذ عدم املنع من العبادات البدنية ،والدعاء بداعي الفالح ،موجود يف أكثر
بئرا يف الطريق،
مطرح من أصله ،ولعله السائل جعله ً أقطار األرض ،فالسؤال َّ
وعلى نفسها جتن براقش ،وعلينا أن نقول احلق ،ال تأخذنا يف اهلل لومة الئم،
وهذا جوابنا على املسألة األوىل.
وأما املسألة الثانية ،وهي :ما إظهار الدين؟
شرعا،
فاجلواب -وباهلل التوفيق :-أن إظهار الدين على الوجه املطلوب ً
تباح به اإلقامة بقيد أمن الفتنة ،وال تعارض نصوص اهلجرة املنوطة مبجرد
قطعا ،فيتعني
املساكنة ،إذ هي األصل وإبطال دليل اإلباحة ،ودليل التحرمي ممتنع ً
اجلمع مبا تقرر يف األصول ،من أن العام يبى على اْلاص وال يعارضه.
وإذا كان كذلك ،فال بد من ذكر طرف منها قبل الكالم عليها ،فأقول:
دل الكتاب والسنة واإلمجا ،مع صريح العقل وأصل الوضع ،على وجوب قد َّ
اهلجرة من دار الشرك واملعاصي ،وحترمي اإلقامة فيها.
ين تَـَوفَّاهم الْ َمآلئِ َكة ظَالِ ِمي أَْنـف ِس ِه ْم﴾... ِ َّ ِ
أما الكتاب ،فقد قال تعاىل﴿ :إ َّن الذ َ
املفسرين،
ِّ اآلية [النساء ،]14 :وهذه اآلية ن يف وجـوب اهلـجرة بإمجا
-655-
وفيها ترتب الوعيد على جمرد املقام مع املشرك ،والقرآن إذا أناط احلكم
رده السلف ،وقد ذم اهلل من بعلة أو وصف ،فصرفه عنه من التأويل الذي َّ
أعرض عنه ،فكيف مبن عارضه؟!
اعبد ِ ِ ِ ِ ِ وقد قال تعاىل﴿ :يا ِعب ِاد َّ ِ
ون﴾ ين َآمنوا إ َّن أ َْرضي َواس َعة فَإيَّ َ
اي فَ ْ ي الذ ََ َ َ
[العنكبوت .]65 :قال أبو جعفر ابن جرير ،رمحه اهلل تعاىل :يقول اهلل تعاىل
وحدوي ،وآمنوا برسويل ،إن أرضي واسعة للمؤمنني من عباده ،يا عبادي الذين َّ
ل تضق عليكم فتقيموا مبوضع منها ال حيل لكم املقام فيه ،ولكن إذا عمل
مبكان منها مبعاصي اهلل ،فلم تقدروا على تغيريه ،فاهربوا منه..
نصا يف عدم وجوب اهلجرة ،على من ل مينع فمن غلَّب احلقائق وجعلها ً
من عبادة ربه اليت هي يف زعمه :الصالة ،وما يتعلَّق بالبدن ،ومحل إظهار الدين
ون﴾ [العنكبوت ،]65 :أي: اعبد ِ
اي فَ ْ ِ
على ذلك ،وفهم من قوله تعاىل﴿ :فَإيَّ َ
يف كل مكان من دار إسالم أو كفر ،فقد عكس القضية وأخطأ يف فهمه.
واحلق :أن احلكم فيها منوط مبجرد املقام مع املشركني ،ومشاهدة احملرمات،
قال ابن كثري رمحه اهلل تعاىل ،يف تفسريه على قوله تعاىلَ ﴿ :وإِ ِذ ْاعتَـَزلْتموه ْم َوَما
يَـ ْعبدو َن إَِّال اللَّهَ﴾ [الكهف ،]95 :وإذا فارقتموهم ،وخالفتموهم بأدياتكم ،يف
أيضا بأبدانكم ،فحينئذ هربوا إىل الكهف. عبادهتم غري اهلل ،ففارقوهم ً
وقال يف تفسري آية النساء ،ملا ذكر أقوال السلف يف سبب
نزوهلا :فهذه اآلية عامة يف كل من أقام بني ظهراي املشركني ،وهو
قادر على اهلجرة ،وليس متمكنًا من إقامة الدين ،فهو ظال لنفسه،
ِ َّ ِ
مرتكب حر ًاما باإلمجا ،وبن هذه اآلية ،حيث يقول﴿ :إ َّن الذ َ
ين
تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئِ َكة ظَالِ ِمي أَنْـف ِس ِه ْم﴾ [النساء ،]14 :أي :برتك
يم كنت ْم﴾ [النساء ،]14 :أي ل مكـثتم ههنا ،وتركتم ِ
اهلـجرة﴿ :قَالواْ ف َ
-659-
ض﴾ [النساء ]14 :اآلية .انتهى. ني ِيف األ َْر ِ اهلجرة؟ ﴿قَالواْ كنَّا مست ِ
ض َعف َ
َْ ْ
والدين كلمة جامعة ْلصال اْلري ،أعالها وأغالها التوحيد ولوازمه ،فمن
قصره على العبادات اليت يوافق فيها املشرك ،بل يواليك عليها ،فقد أخطأ.
جدا ،منها :ما رواه أبو داود واحلاكم ،عن مسرة وأما األحاديث فكثري ً
مرفوعا« :من جامع املشرك أو سكن معه فهو مثله» ،ولفظ احلاكم« :وساكنهم ً
أو جامعهم فليس منا» ،وقال :صحيح على شرط البخاري.
مرفوعا:
ومنها :ما رواه أبو داود والنسائي والرتمذي عن جرير بن عبد اهلل ً
«أنا برئ من مسلم يقيم بني ظهراي املشركني ،ال تراءى نارامها» رواه ابن ماجه
أيضا ،ورجال إسناده ثقات ،وهو إن صح مرسالً ،فهو حجة من وجوه متعددة، ً
يعرفها علماء أصول احلديث ،منها :أن املرسل إذا اعتضد بشاهد واحد ،فهو
حجة.
شاهدا ،وتشهد له اآلياتً وقد اعتضد هذا احلديث بأكثر من عشرين
احملكمات ،مع الكليات من الشر ،وأصول يسلمها أهل العلم.
ومنها حديث جرير الذي رواه النسائي وغريه« :أنه بايع النيب أن يعبد
اهلل ،ويقيم الصالة ،ويؤيت الزكاة ،ويفارق املشركني» ،ويف لفظ« :وعلى فراق
املشركني» ،ولو ل يكن إالَّ هذا احلديث لكفى ،لتأخر إسالم جرير.
مرفوعا« :من أقام مع املشركني
ومنها :ما روى الطرباي والبيهقي ،عن جرير ً
فقد برئت منه الذمة» ،قال املناوي :حديث حسن ،يقصر عن رتبة الصحيح،
وصححه بعضهم.
ومنها :ما رواه النسائي وغريه ،من حديث َهبز بن حكيم ،عن أبيه ،عن
مرفوعا« :ال يقبل اهلل من مشرك عمالً بعد ما أسلم أو يفارق املشركني».
جده ً
ومنها :ما رواه النسائي وغريه ،عن أيب سعيد مرفو ًعا« :ال تنقطع
-652-
اهلجرة ما قوتل الكفار» ،ويف معناه حديث معاوية« :ال تنقطع اهلجرة حىت
تنقطع التوبة» احلديث ،وما رواه سعيد بن منصور وغريه« :ال تنقطع اهلجرة ما
كان اجلهاد».
ففي هذه األحاديث مع تباين خمارجها ،واختالف طرقها ،هيئة اجتماعية
يقطع معها هبذا احلكم العظيم ،الذي هو من أعظم من مصاحل الشريعة.
أجل علماء الشافعية ،وأئمة
قال أبو عبد اهلل احلليمي يف اجملالس ،وهو من ِّ
احلديث يف وقته ،وهو يف طبقة احلاكم ،ملا ذكر بقاء اهلجرة قال :إهنا انتقال من
الكفر إىل اإلميان ،ومن دار احلرب إىل دار اإلسالم ،ومن السيئات إىل
احلسنات ،وهذه األشياء باقية ما بقي التكليف.
وقال احلافظ ابن حجر يف الفتح :وقد أفصح ابن عمر باملراد ،فيما ذكره
اإلمساعيلي بلفظ :انقطعت اهلجرة بعد الفتح إىل رسول اهلل ،وال تنقطع ما
قوتل الكفار ،أي :ما دام يف الدنيا دار كفر .انتهى....
وقد بى العالَّمة ابن قدامة ،وابن أيب عمر وغريمها ،كاحلافظ وغريه ،حكم
اإلباحة على مقدمتني :إظهار الدين ،وأداء الواجبات ،واحلكم إذا علِّق بوصفني
خصوصا إذا أعيدت األداة ،وتكررت الصيغة ،وقد أعيدت ً ل يتم بدوهنما،
وتكررت ،وأعيدت الصيغة ،هنا :حيث قالوا :وال ميكنه إظهار دينه ،والاألداة َّ
ميكنه إقامة واجبات دينه ،وهذا يدل على أن لكل مجلة معى غري الذي
لألخرى....
قال يف اإلقنا وشرحه :وجتب اهلجرة على من يعجز عن إظهار دينه بدار
احلرب ،وهو ما يغلب عليها حكم الكفر ،زاد مجاعة وجزم يف املنتهى أو بلد
بغاة ،أو بد مضلَّة ،كالرافضة واْلوارج ،فيخرج منها إىل دار أهل السنة وجوبًا،
إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها.
-653-
فعلم :أن إظهار الدين يف عبارة املوفق ومن قبله ومن بعده من األصحاب،
هو :إظهار التوحيد الذي هو إفراد اهلل بالعبادة ،يف بلد خيفى فيه ،بل جيعل
الوهايب اْلارجي ،صاحب املذهب اْلامس، ضده هو الدين ،ومن تكلَّم به هو َّ
الذي يكفر األمة.
(إظهار الدين يعن :خمالفة كل طائفة عاصية ،مبا اشتهر عنها ،مع التصريح
هلا بشدة العداوة)
وقال الشيخ العالمة محد بن عتيق :وأما مسألة إظهار الدين ،فكثري من
الناس قد ظن :أنه إذا قدر أن يتلفظ بالشهادتني ،وأن يصلي الصالة وال يرد عن
املساجد ،فقد أظهر دينه ،وإن كان ببلد املشركني ،وقد غلط يف ذلك أقبح
الغلط.
هرا للدين ،حىت خيالف كل طائفة مبا اشتهر قال :وال يكون املسلم مظ ً
ويصرح هلا بعداوته ،فمن كان كفره بالشرك فإظهار الدين له ،أن يصرح
عنهاِّ ،
بالتوحيد والنهي عن الشرك ،والتحذير منه ،ومن كان كفره جبحد الرسالة،
حممدا رسول اهلل ،ومن كان كفره برتك
فإظهار الدين عنده التصريح عنده ،بأن ً
الصالة ،فإظهار الدين عنده بفعل الصالة.
ومن كان كفره مبواالة املشركني ،والدخول يف طاعتهم ،فإظهار الدين
التصريح بعداوته وبراءته منه ،ومن املشركني إىل آخر كالمه رمحه اهلل تعاىل ،وقد
مر لك هذا صرحيًا يف كالم الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل ،يف املواضع َّ
اليت نقلها من السرية ،ومسَّاه العالمة عبد اللطيف واجبًا ،قال فيه :وأي رجل نقل
عنه ،ما هو دون هذا الواجب؟!
فاحلاصل :هو ما قدَّمناه ،من أن إظهار الدين الذي تربأ به الذمة ،هو
االمتياز عن عبَّاد األوثان بإظهار املعتقد ،والتصريح مبا هـم عـليه ،والبعد
-654-
عن الشرك ،ووسائله ،فمن كان هبذه املثابة إن عرف الدين بدليله وأمن
الفتنة ،جاز له اإلقامة .واهلل أعلم.
بقي مسألة العاجز عن اهلجرة :ما يصنع؟ قال الوالد رمحه اهلل ،ملا سئل عنه:
املوحد بني ظهراي أناس من املبتدعة واملشركني ،ويعجز عن اهلجرة، وأما إذا كان ِّ
فعليه بتقوى اهلل ،ويعتزهلم ما استطا ،ويعمل مبا وجب عليه يف نفسه ،ومع من
يوافقه على دينه ،وعليهم أن يصربوا على أذى من يؤذيهم يف الدين ،ومن قدر
على اهلجرة وجب عليه ،وباهلل التوفيق .انتهى جوابه .وبه انتهى اجلواب عن
()1
املسألة ،وباهلل التوفيق» .
-656-
المبحث الثالث
األدلة الدالة على وجوب التباعد عن المشركين
والرد على محاولة إسقاط فرض الهجرة من ديار المشركين
-655-
أذى املشركني إياهم أن نرتكهم من غري اختبار ،وال ابتالء وامتحان بأن
قالوا :آمنا بك يا حممد ،وصدقنك مبا جئتنا به من عند اهلل؟ كال لنختربهنم،
ين ِمن قَـْبلِ ِه ْم فَـلَيَـ ْعلَ َم َّن اللَّه َّ ِ
ليتبني الصادق من الكاذب .وقولهَ ﴿ :ولََق ْد فَـتَـنَّا الذ َ
ِ َّ ِ
ني﴾ [العنكبوت ،]3 :قال :نزلت من أجل قوم، ص َدقوا َولَيَـ ْعلَ َم َّن الْ َكاذبِ َين َ الذ َ
كانوا قد أظهروا اإلسالم مبكة ،وختلَّفوا عن اهلجرة.
والفتنة اليت فنت هبا هؤالء ،هي :اهلجرة اليت امتحنوا هبا ،ذكر من قال ذلك،
ب النَّاس أَن يـْتـَركوا أَن مث ذكر بسنده عن الشعيب ،قال :إهنا نزلت﴿ :ال * أ ِ
َحس ََ
يَـقولوا َآمنَّا َوه ْم َال يـ ْفتَـنو َن﴾ اآليتني [العنكبوت ،]2 ،9 :يف أناس مبكة ،قد
أقروا باإلسالم ،فكتب إليهم أصحاب نيب اهلل :أنه ال يقبل منكم إسالم حىت ُّ
فردوهم ،فنزلت فيهم هذه هتاجروا ،فخرجوا عامدين إىل املدينة ،فتبعهم املشركون ُّ
اآلية ،فكتبوا إليهم أنه قد نزلت فيكم هذه اآلية ،آية كذا وكذا.
فقالوا :خنرج ،فإن تبعنا أحد قاتلناه ،قال :فخرجوا ،فاتبعهم املشركون ،فقاتلوهم،
اجرواْ ِمن بَـ ْع ِد ين َه َ
فمنهم من قتل ،ومنهم من جنا ،فأنزل اهلل فيهم﴿ :مثَّ إِ َّن ربَّ ِ ِ
ك للَّذ َ َ َ
ك ِمن بَـ ْع ِد َها لَغَفور َّرِحيم﴾ [النحل ،]995 :وقوله صَبـرواْ إِ َّن َربَّ َ
اهدواْ َو َ
ِ
َما فتنواْ مثَّ َج َ
َّاس َكع َذ ِ ِ ِ ِ َِّ ِ ِ تعاىلَ﴿ :وِم َن الن ِ
اب ي ِيف اللَّه َج َع َل فْتـنَةَ الن ِ َ َّاس َمن يَـقول َآمنَّا بالله فَإذَا أوذ َ
اللَّهِ ﴾...إىل آخر اآلية [العنكبوت ،]95 :قال :نزلت يف قوم من أهل اإلميان،
كانوا مبكة فخرجوا مهاجرين ،فأدركوا وأخذوا ،فأعطوا املشركني ملا ناهلم أذاهم ما
أرادوا منهم ،ذكر اْلرب بذلك.
مث ذكر بسنده عن عكرمة ،عن ابن عباس قال :كان قوم من أهل مكة
أسلموا ،وكانوا يستفتحون بإسالمهم ،فأخرجهم املشركون يوم بدر معهم،
فأصيب بعضهم ،فقال املسلمون :كان أصحاب هؤالء مسلمني وأكرهوا،
ِ ِِ ِِ ِ ِ َّ ِ
ين تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئ َكة ظَالمي أَنْـفسه ْم قَالواْ ف َ
يم فاستغفروا هلم ،فنزلت﴿ :إ َّن الذ َ
كنت ْم﴾...
-654-
[النساء .]14 :قال :فكتبوا إىل من بقي من املسلمني مبكة هبذه اآلية :أن
ال عذر هلم ،فخرجوا ،فلحقم املشركون فأعطوهم الفتنة ،فنزلت هذه اآلية:
َّاس َمن يَـقول َآمنَّا بِاللَّ ِه ﴾...إىل آخر اآلية [العنكبوت ،]95 :فكتب ﴿ َوِم َن الن ِ
املسلمون إليهم بذلك ،فخرجوا وأيسوا من كل خري.
ِ ِ ِ مث نزلت فيهم﴿ :مثَّ إِ َّن ربَّ ِ ِ
اهدواْ اجرواْ من بَـ ْعد َما فتنواْ مثَّ َج َ ين َه َ ك للَّذ ََ َ
ك ِمن بَـ ْع ِد َها لَغَفور َّرِحيم﴾ [النحل ،]995 :فكتبوا إليهم صبَـرواْ إِ َّن َربَّ َ
َو َ
خمرجا ،فخرجوا فأدركهم املشركون ،فقاتلوهم حىت بذلك :أن اهلل قد جعل لكم ً
جنا من جنا ،وقتل من قتل.
فانظر قول املسلمني :كان أصحاب هؤالء مسلمني وأكرهوا ،فاسغفروا هلم،
ين تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئِ َكة ﴾...اآلية [النساء ،]14 :وظاهرها أهنم ِ َّ ِ
فنزلت﴿ :إ َّن الذ َ
مسلما،
هنوا عن االستغفار الدعاء ،ملن قد مات مع سواد املشركني ،ولو كان ً
فما أعز من يتفطن هلذه املسألة ،بل ما أعز من يعتقدها دينًا....
(وجوب تولي المؤمنين ،والبراءة من المشركين)
ذين َك َفرواْ بَـ ْعضه ْم أ َْولِيَاءَّ
أيضا ،يف تفسري قوله تعاىلَ ﴿ :وال َ وقال ابن كثري ً
ض َوفَ َساد َكبِري﴾ [األنفال.]43 : بَـ ْعض إِالَّ تَـ ْف َعلوه تَكن فِْتـنَة ِيف األ َْر ِ
وهذا هو الصنف الثالث من املؤمنني ،وهم الذين آمنوا ول يهاجروا ،هنى اهلل
نبيه أن جيعلهم كاملهاجرين يف املغنم وغري ذلك ،مما يقتضي الوالية.
ذين َك َفرواْ بَـ ْعضه ْم أ َْولِيَاء بَـ ْعض إِالَّ تَـ ْف َعلوه تَكن فِْتـنَة ِيف َّ
مث قالَ ﴿ :وال َ
ض َوفَ َساد َكبِري﴾ [األنفال.]43 : األ َْر ِ
ملا ذكر تعاىل أن املؤمنني بعضهم أولياء بعض ،قطع املواالة بينهم وبني
وحذرهم من توليهم ،والقيام بني أظهرهم. الكفارَّ ،
مث ذكر بسنده عن أسامة ،عن النيب قال« :ال يتوارث أهل ملَّتني،
-651-
ذين َك َفرواْ َّ
مسلما ،مث قرأ قوله تعاىلَ ﴿ :وال َ كافرا ،وال كافر ً وال يرث مسلم ً
ض َوفَ َساد َكبِري﴾ [األنفال: بَـ ْعضه ْم أ َْولِيَاء بَـ ْعض إِالَّ تَـ ْف َعلوه تَكن فِْتـنَة ِيف األ َْر ِ
.»]43
مث ذكر عن الزهري ،أن رسول اهلل :أخذ على رجل دخل يف اإلسالم،
فقال« :تقيم الصالة ،وتؤيت الزكاة ،وحتج البيت ،وتصوم رمضان ،وإنك ال ترى
نار مشرك إالَّ وأنت له حرب» ،وهذا مرسل من هذا الوجه ،وقد روي متصالً
من وجه آخر ،عن رسول اهلل أنه قال« :أنا بريء من كل مسلم بني ظهراي
املشركني ،ال ترتاءا نارمها».
مث ذكر عن مسرة بن جندب ،أما بعد :قال رسول اهلل « :من جامع
ذين َك َفرواْ بَـ ْعضه ْم أ َْولِيَاء َّ
املشرك وسكن معه فإنه مثله» ،وقوله تعاىلَ ﴿ :وال َ
ض َوفَ َساد َكبِري﴾ [األنفال ،]43 :أي :إن بَـ ْعض إِالَّ تَـ ْف َعلوه تَكن فِْتـنَة ِيف األ َْر ِ
ل جتانبوا املشركني ،وتوالوا املؤمنني ،وإالَّ وقعت الفتنة يف الناس ،وهو التباس
األمر ،واختالط املسلم بالكافر ،ويف ذلك ضعف للدِّين ،وقوة للكافرين.
َّخذواْ آبَاءك ْم َوإِ ْخ َوانَك ْم أ َْولِيَاء﴾ وقوله تعاىل﴿ :يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنواْ الَ تَـت ِ
َ َ َ َ
ب إِلَْيكم ِّم َن اللي ِه َوَرسولِِه َوِج َهاد ِيف َسبِيلِ ِه﴾ َح َّ[التوبة ،]23 :إىل قوله﴿ :أ َ
[التوبة.]24 :
قال :يقول تعاىل :ال تتخذوا بطانة وأصدقاء ،تفشون إليهم أسراركم،
وتؤثرون املقام معهم على اهلجرة.
قال ابن عباس :ملا أمر النيب باهلجرة إىل املدينة ،فمنهم من نفر وبادر،
ومنهم من تعلَّق به أهله وأوالده ،يقولون له :ننشدك باهلل أن ال تضيعنا ،فريق
هلم فيقيم عليهم ويد اهلجرة ،فأنزل اهلل هذه اآلية ،فنهوا عن القيام مع
املشركني ،وتكثري سوادهم ،وأخرب أن إيثار هذه األصناف الثمانية ،على ما أمر
يت الليه بِأ َْم ِرِه َوالليهِ
اهلل به من اهلجرة ،معصية هلل ورسوله ،فقال﴿ :فَـتَـَربَّصواْ َح َّىت يَأْ َ
ني﴾ [التوبة.]24 : ِِ ِ
الَ يَـ ْهدي الْ َق ْوَم الْ َفاسق َ
-651-
قلت :ظاهر هذا اْلطاب ،ملن ثبت إسالمه ،ول يصدر منه ما يناقضه ،من
املواالة والنصرة ،واإلعانة بالنفس واملال ،والداللة على عورات املسلمني ،وَتجيد
املشركني يف املنابر واحملافل ،واالحنناء ،وخضع الرأس عند رؤيتهم ،كل هذه
()1
األشياء ،أعظم مما حنن فيه ،وحيكم على من فعلها حبكم اهلل فيه» .
وبني الشيخ سليمان بن سحمان :وجوب اهلجرة على العبد من ديار َّ
املشركني ،والبعد عنهم ،وعدم مساكنتهم وجمامعتهم ،مث أخذ رمحه اهلل يصف
دارا من
أحواالً لكثري من مشركي زمانه ،مث جزم بأن هذه األوصاف مىت علت ً
الديار ،تكون دار شرك حيرم السفر إليها ،ومساكنة أهلها وجمامعتهم ،مث أعقب
ذلك بذكر شبهة يف هذا الشأن لبعض املنتسبني لطلب العلم ،مث استعرض
الردود عليها ،فقال رمحه اهلل:
«وقد نقل إلينا عن بعض من ينتسب إىل طلب العلم :أن يبيح السفر
مطلقا إىل من هذا دينه ،وهذه حنلته ،وهذه حال بلده ،مستدالً بسفر أيب بكر ً
إىل بصرى يف عهد النيب ،وأن النيب ل ينكر عليه سفره ،وأن أبا بكر
ل يكن يظهر دينه ،وليس هذا اجلهل بغريب ممن ل يعرف كفر هؤالء ،وأن أبا
جهل وأشياعه ما وصل كفرهم إىل ساحل هذا الكفر العظيم ،وال عرف أن
بالدهم بالد كفر واحلالة هذه.
ولكن الذي يعلم به من نصح نفسه ،وأراد جناهتا :أن االستدالل جلواز سفر
عوام الناس ،الذين ال يعرفون ما أوجب اهلل عليهم ،من معاداة املشركني،
ومباداهتم بالعداوة والبغضاء ،والتصريح هلم بالرباءة منهم ،ومما يعبدون ،بسفر أيب
بكر ،من دسائس الشيطان ،فإن من املعلوم عند اْلاص
-695-
والعام ،وال ينكره إالَّ مكابر مبخوس احلظ :أن الصحابة يظهرون دينهم،
وقد بايعوا رسول اهلل على أن ال تأخذهم يف اهلل لومة الئم ،وإنكارهم
منكرا معروف مشهور....وأرضاهم باللسان ،على من أحدث حدثًا أو فعل ً
(قيد مهم في الفرق بين السفر إلى ديار المشركين األصليين ،وديار
المشركين المرتدين)
ومن املعلوم :أن النصارى واجملوس يعلمون أن العرب على غري دينهم ،حىت
يف اجلاهلية ،والعرب يعلمون أن هؤالء على غري دين ،فالكل منهم متميز عن
خصوصا بعد البعثة ،فإنه من املعلوم :أن أهل اإلسالم يكفِّروهنم،
ً اآلخر بدينه،
ال يشك يف ذلك أهل الكتاب وال غريهم ،خبالف عباد القبور اليوم وأشياعهم.
فإهنم ينتسبون إىل اإلسالم ،ويتلفَّظون بالشهادتني ،وغالبهم يصلي ويصوم
وحيج ،ومن ال يفعل ذلك قد يعظم من يفعل ذلك ويرى فضله ،ومع هذا كله،
فحاهلم كما تقدم قريبًا ،من صرفهم خال حق اهلل ملعبوداهتم ،ولو علموا ممن
يسافر إىل ديارهم ،أهنم على غري دينهم ،وأهنم يكفِّروهنم ،ألوقعوا هبم الفتنة،
وآلذوهم ،فقياس هؤالء الكفرة على أولئك ،من القياس الباطل املردود ،مع أن
السفر إىل ديار هؤالء وهؤالء ممنو ،لكن أهل الكتاب واجملوس ،يعلمون أهنم
على غري دينهم ،خبالف عباد القبور ،فإهنم يظنون أن من سافر إىل بالدهم
على دينهم.
إذا تبني هذا ،وعلمته ،فسفر أيب بكر ،كان مع إظهار دينه ،ومن أظهر
()1
دينه كما ينبغي ،فال مانع من سفره إن أمن على نفسه ودينه» .
-699-
المبحث الرابع
أحكام وأحوال المقيم بين أظهر المشركين
قال الشيخ أبو بطين في جواب سؤال ورد عليه:
«وما ذكرت من حال من يكون بني ظهراي املشركني ،فإن كان يقدر على
إظهار التوحيد ،حبيث يظهر هلم القول ،بأن هذه األمور الشركية ،اليت تفعل عند
القبور وغريها ،باطل وضاللة ،وأنا بريء منه وممن يفعله ،فمثل هذا ال جتب عليه
اهلجرة ،وإن كان ال يقدر على إظهار ذلك ،مع اعتقاد بطالنه ،وأنه الشرك
()1
العظيم ،فهذا ترك واجبًا عليه ،وال يكفر بذلك» .
وسئل الشيخان حسني وعبد اهلل ابنا الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحهم
مجيعا عن :رجل دخل الدِّين وأحبه وحيب من دخل فيه ،ويبغض الشرك اهلل ً
يصرحون بعداوة أهل اإلسالم ،ويقاتلون أهله ،ويعتذر
وأهله ،ولكن أهل بلده ِّ
كافرا؟ وهل
مسلما أو ً
أن ترك الوطن يشق عليه ،ول يهاجر عنهم ،فهل يكون ً
يعذر بعدم اهلجرة؟
الجواب :أما الرجل الذي عرف التوحيد وآمن به ،وأحبه وأحب أهله،
وعرف الشرك وأبغضه ،وأبغض أهله ،ولكن أهل بلده على الكفر والشرك ،ول
يهاجر ،فهذا فيه تفصيل:
فإن كان يقدر على إظهار دينه عندهم ،ويتربأ مما هم عليه من الكفر
والشرك ،ويظهر هلم كفرهم وعدواهتم ،وال يفتنونه عن دينه ،ألجل عشريته أو
ماله ،أو غري ذلك ،فهذا ال حيكم بكفره ،ولكنه إذا قدر على اهلجرة ول يهاجر،
ومات بني أظهر املشركني ،فيخاف عليه أن يكون قـد دخل يف أهل
-692-
ِ ِِ ِِ ِ ِ َّ ِ
يم كنت ْم ين تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئ َكة ظَالمي أَنْـفسه ْم قَالواْ ف َ هذه اآلية﴿ :إ َّن الذ َ
اجرواْ فِ َيهاض قَالْواْ أَ َل تَكن أَرض اللي ِه و ِاسع ًة فَـتـه ِ
َ َ َ ني ِيف األ َْر ِ َ ْ ْ ْ
قَالواْ كنَّا مست ِ
ض َعف َ
َْ ْ
ص ًري ا﴾ [النساء.]14 : اءت م ِ
ك َمأَْواه ْم َج َهنَّم َو َس ْ َ فَأ ْولَـئِ َ
قل أن يوجد فلم يعذر اهلل إالَّ من ال يستطع حيلة وال يهتدي سبيالً ،ولكن َّ
اليوم من هو كذلك ،إالَّ أن يشاء اهلل ،بل الغالب :أن املشركني ال يدعونه بني
أظهرهم ،بل إما قتلوه ،وإما أخرجوه إن وجدوا إىل ذلك سبيالً.
وأما إن ل يكن له عذر ،وجلس بني أظهرهم ،وأظهر هلم أنه منهم ،وأن
دينهم حق ،ودين اإلسالم باطل ،فهذا كافر مرتد ،ولو عرف الدين بقلبه ،ألنه
مينعه عن اهلجرة حمبة الدنيا على اآلخرة ،ويتكلَّم بكالم الكفر من غري إكراه،
فدخل يف قوله تعاىلَ ﴿ :من َك َفَر بِاللي ِه ِمن بَـ ْع ِد إميَانِِه إِالَّ َم ْن أ ْك ِرَه َوقَـْلبه مطْ َمئِن
ضب ِّم َن اللي ِه َوَهل ْم َع َذاب َع ِظيم ِ ِ
بِا ِإلميَان َولَـكن َّمن َشَر َح بِالْك ْف ِر َ
ص ْد ًرا فَـ َعلَْي ِه ْم َغ َ
َن الليهَ الَ يَـ ْه ِدي الْ َق ْوَم احليا َة الْ ُّدنْـيا علَى ِ
اآلخَرةِ َوأ َّ َ َ ََاستَ َحبُّواْ ْك بِأَنـَّهم ْ
ِ
* َذل َ
()1 ِ
ين﴾ [النحل. »]954 ،955 : الْ َكاف ِر َ
وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف:
«ما يقال يف اهلجرة من بني ظهراي املشركني من البادية واحلاضرة ،وفضلها،
وما الواجب منها ،وما املستحب ،وهل بني بادية جند وغريهم كعنزة والظفري،
ومن واالهم من بادية الشمال ومن جنوب إىل ما ال خيفى على املسؤول.
الجواب :اهلجرة من واجبات الدين ومن أفضل األعمال الصاحلة ،وهي
سبب لسالمة دين العبد وحفظ إلميانه وهي أقسام:
حرمها اهلل يف كتابه وحرمها رسوله على مجيع احملرمات اليت َّ األول :هجر َّ
حرمه اهلل عليه .وقد املكلَّفني ،وأخرب أن من هجرها فقد هجر ما َّ
-693-
أخرب فيما صح عنه« :املهاجر من هجر ما هنى اهلل عنه» ،وهذا أمر
جممل شامل جلميع احملرمات القولية والفعلية.
القسم الثاني :اهلجرة من كل بلد تظهر فيها شعائر الشرك وأعالم الكفر
باحملرمات ،واملقيم فيها ال يقدر على إظهار دينه والتصريح بالرباءة ويعلن فيها َّ
من املشركني وعداوهتم ،ومع هذا يعتقد :كفرهم وبطالن ما هم عليه ،لكن إمنا
حمرما وداخل يف شحا باملال والوطن فهذا عاص ومرتكب ً جلس بني ظهرانيهم ً
ين تَـ َوفَّاهم الْ َمآلئِ َكة ظَالِ ِمي أَنْـف ِس ِه ْم قَالواْ ِ َّ ِ
حكم الوعيد ،قال تعاىل﴿ :إ َّن الذ َ
ض قَالْ َواْ أَ َلْ تَك ْن أ َْرض اللي ِه َو ِاس َعةً
ني ِيف األ َْر ِ فِيم كنتم قَالواْ كنَّا مست ِ
ض َعف ََْ ْ َ ْ
ِ ِ ِ ِ
اءت َمص ًري ا﴾ [النساء .]14 :إىل ك َمأَْواه ْم َج َهنَّم َو َس ْ
فَـتـ َهاجرواْ ف َيها فَأ ْولَـئ َ
ك َع َسى الليه أَن يَـ ْعف َو َعْنـه ْم َوَكا َن الليه َعف ًّوا َغف ًورا﴾ [النساء: قوله﴿ :فَأ ْولَـئِ َ
.]11
فلم يعذر اهلل إالَّ املستعضف الذي ال يقدر على التخل من أيدي
املشركني ،ولو قدر ما عرف سلوك الطريق وهدايته إىل غري ذلك من األعذار.
وقال « :من جامع املشرك أو سكن معه فإنه مثله» فال يقال إنه مبجرد
كافرا ،بل املراد أنه من عجز عن اْلروج من بني ظهراي اجملامعة واملساكنة يكون ً
كرها فحكمه حكمهم يف القتل وأخذ املال ال يف املشركني وأخرجوه معهم ً
اختيارا وأعاهنم ببدنه وماله طوعا و ً الكفر .وأما إن خرج معهم لقتال املسلمني ً
فال شك أن حكمه حكمهم يف الكفر.
أيضا :اهلجرة من بني ظهراي األعراب املتظاهرين بالكفر ومن اهلجرة الواجبة ً
احملرمات وهو عاجز عن إظهار دينه وال قدرة له على والشرك وارتكاب بعض َّ
اإلنكار عليهم ،فهذا هجرته فرض إذا قدر عليها ،فإن تركها مع قدرته
()1
واستطاعته فحكمه حكم من هو يف بلدان املشركني املتقدم ذكرهم» .
-694-
الفصل السابع
أحكام القتال ومشروعية الجهاد
-696-
-695-
المبحث األول
القتال في اإلسالم منوط باإلصرار على فعل الشرك
ول ترتفع السيوف المجردة عليه ،حتى تتم البراءة منه
إلى توحيد اهلل الخالص
إن عبادة اهلل وحده ال شريك له ،والكفر مبا يعبد من دونه ،مها معى
جردت السيوف ،وشر ومدلول (ال إله إالَّ اهلل) ،هذه الكلمة اليت من أجلهاِّ :
اجلهاد ،واهلجرة من البالد ،وامتاز الطيب من خبيث العباد ،وهبا حقنت الدماء
وعصمت األموال ،وجعلت مفرق الطريق الوحيد بني املسلمني واملشركني يف
الدنيا واآلخرة.
ولقد أمجع العلماء على أن عصمة دماء وأمول اْلالئق متوقفة على :اإلتيان
بالتوحيد ،والتزام أحكامه ،مع االخنال من الشرك ،فمىت أىب قوم عن التزام
إمجاعا.
الشرائع ،أو بعض منها ،فالقتال باق على حاله ً
جمرد اإلقرار بالشهادتني ،ال يعصم أصحابه على الدوام ،إالَّ
وهبذا نعلم :أن َّ
مع القيام حبقوقهما.
ومن أجل هذا قامت احلروب والفنت بني اإلمام اجملدِّد وأحفاده مع
خصومهم من أجل التوحيد ،وفيه كانت اْلصومة.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى:
إن مدلول شهادة أن ال إله إالَّ اهلل ،هو االلتزام بعبادة اهلل وحده ال شريك
له ،والكفر مبا يعبد من دون اهلل ،وهذا هو أصل الدين وقاعدته ،وهلذا كانت
هذه الكلمة ،كلمة اإلسالم ،ومفتاح دار السالم ،والفارق بني الكافر واملؤمن
من األنام ،وهلا جردت السيوف ،وشر اجلهاد وامتاز اْلبيث من طـيب
-694-
()1
العباد ،وهبا حقنت الدماء ،وعصمت األموال» .
وقال عبد الرحمن بن حسن رحمه اهلل تعالى:
إن اهلل أمر بقتال املشركني ،حىت يتوبوا من الشرك ،وخيلصوا أعماهلم هلل
تعاىل ويقيموا الصالة ،ويؤتوا الزكاة ،فإن أبوا عن ذلك أو بعضه ،قوتلوا
()2
إمجاعا .اهـ.
ً
وقال الشيخ سليمان بن عبد اهلل يف شرحه على كتاب التوحيد:
قوله« :من قال ال إله إالَّ اهلل وكفر مبا يعبد من دون اهلل» ،اعلم أن النيب
يف هذا احلديث علق عصمة املال والدم بأمرين:
األول :قول ال إله إالَّ اهلل.
الثاني :الكفر مبا يعبد من دون اهلل.
فلم يكتف باللفظ عن املعى ،بل ال بد من قوهلا والعمل هبا.
قلت :وقد أمجع العلماء على معى ذلك ،فال بد يف العصمة من اإلتيان
بالتوحيد ،والتزام أحكامه ،وترك الشرك كما قال تعاىلَ ﴿ :وقَاتِلوه ْم َح َّىت الَ
صري﴾ تَكو َن فِْتـنَة ويكو َن الدِّين كلُّه لِليه فَِإ ِن انتَـهواْ فَِإ َّن الليه ِمبَا يـعملو َن ب ِ
َ َْ َ َ َْ ََ
[األنفال ،]31 :والفتنة هنا :الشرك ،فدل على أنه إذا وجد الشرك فالقتال باق
ني َكآفَّةً َك َما يـ َقاتِلونَك ْم َكآفَّةً﴾ [التوبة: ِ ِ
حبال ،كما قال تعاىلَ ﴿ :وقَاتلواْ الْم ْش ِرك َ
ِ ِ
ني َحْيث احلرم فَاقْـتـلواْ الْم ْش ِرك َ انسلَ َخ األَ ْشهر ْ ،]35وقال تعاىل﴿ :فَإ َذا َ
صد فَِإن تَابواْ َوأَقَامواْ َّ
الصالَةَ احصروه ْم َواقْـعدواْ َهل ْم ك َّل َم ْر َ َو َج ُّ
دَتوه ْم َوخذوه ْم َو ْ
الزَكا َة فَ َخلُّواْ َسبِيلَه ْم إِ َّن الليهَ َغفور َّرِحيم﴾ [التوبة.]6 :َوآتَـواْ َّ
فأمر بقتاهلم على فعل التوحيد ،وترك الشرك ،وإقامة شعائر الدين الظاهرة،
فإذا فعلوها خلي سبيلهم ،ومىت أبوا عن فعلها أو فعل شيء منـها،
-691-
إمجاعا ،ولو قالوا :ال إله إالَّ اهلل....
فالقتال باق حباله ً
أيضا عن عبد اهلل بن عمر قال :قال رسول اهلل : ويف «الصحيحني» ً
«أمرت أن أقاتل الناس حىت يشهدوا أن ال إله إالَّ اهلل ،وأن ً
حممدا رسول اهلل،
ويقيموا الصالة ،ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوه عصموا من دماءهم وأمواهلم إالَّ حبقها
وحساهبم على اهلل».
فهذا احلديث كآية براءة َّبني فيه ما يقاتل عليه الناس ابتداء ،فإذا فعلوه،
وجب الكف عنهم إالَّ حبقه ،فإن فعلوا بعد ذلك ما يناقض هذا اإلقرار
والدخول يف اإلسالم ،وجب القتال حىت يكون الدين كله هلل ،بل وأقروا
حتري
باألركان اْلمسة وفعلوها ،وأبوا عن فعل الوضوء للصالة وحنوه ،أو عن ِّ
إمجاعا ،ول
حمرمات اإلسالم كالربا أو الزنا أو حنو ذلك ،وجب قتاهلم ً بعض َّ
تعصمهم ال إله إالَّ اهلل وال ما فعلوه من األركان ،وهذا من أعظم ما يبني معى ال
إله إالَّ اهلل ،وأنه ليس املراد منها جمرد النطق ،فإذا كانت ال تعصم من استباح
حمرًما ،أو أىب عن فعل الوضوء مثالً بل يقاتل على ذلك حىت يفعله ،فكيف َّ
تعصم من دان بالشرك وفعله وأحبه ومدحه ،وأثن على أهله ،وواىل عليه،
وعادى عليه ،وأبغض التوحيد الذي هو إخالص العبادة هلل ،وتربأ منه ،وحارب
أهله ،وكفرهم ،وصد عن سبيل اهلل كما هو شأن عباد القبور.
وقد أمجع العلماء على أن من قال :ال إله إالَّ اهلل ،وهو مشرك أنه يقاتل
()1
حىت يأيت بالتوحيد» .
«وقد قال علماؤنا رمحهم اهلل تعاىل :إذا قال الكافر :ال إله إالَّ اهلل ،فقد
-691-
شر يف العاصم لدمه ،فيجب الكف عنه ،فإن َتَّم ذلك حتقَّقت العصمة
وإالَّ بطلت ،ويكون النيب قد قال كل حديث يف وقت ،فقال« :أمرت أن
أقاتل الناس ،حىت يقولوا ال إله إالَّ اهلل» ،وليعلم املسلمون :أن الكافر احملارب،
معصوما.
ً إذا قاهلا كف عنه ،وصار دمه وماله
مث بني يف احلديث اآلخر :أن القتال ممدود إىل الشهادتني والعبادتني،
فقال« :أمرت أن أقاتل الناس ،حىت يشهدوا أن ال إله إالَّ اهلل ،وأن ً
حممدا رسول
اهلل ،ويقيموا الصالة ،ويؤتوا الزكاة» ،فبني :أن َتام العصمة وكماهلا إمنا حيصل
بذلك ،ولئال تقع الشبهة :بأن جمرد اإلقرار يعصم على الدوام ،كما وقعت
()1
لبعض الصحابة ،حىت جالها أبو بكر الصديق ،مث وافقوه . »
وقال الشيخ عبد الرمحن بن حسن يف جواب على سؤال ورد عليه من ابنه
مجيعا:
عبد اللطيف رمحهم اهلل ً
«اعلم وفقك اهلل أن أهل جند كانوا قبل ظهور هذه الدعوة اإلسالمية فيهم
بأَسوأ حال.
أما األعراب فال يلتفت أحد منهم لشريعة اإلسالم ،ال يف العبادات ،وال يف
غريها من األحكام يف الدماء ،وال يف األموال ،وال يف النكاح ،والطالق،
واملواريث ،وغري ذلك ،وكانوا يف شر عظيم فيما بينهم من احلروب كل طائفة
تقاتل األخرى ،وتستحل دماءها وأمواهلا ،واحلضر عندهم يف غاية الذل يأخذون
كرها.
املال منهم ً
من اهلل هبذه الدعوة ،وقام اجلهاد أجلبوا كلهم على فلما َّ
َّ
حماربة من دعاهم إىل اإلسالم ،والتزام شرائعه ،فحصل التأييد من اهلل
ملن قام بدينه فجاهدوا األعـراب ،وغريهم على طاعة رهبم ،والتزام ما شرعه
-625-
فبقوا على جهاد األعراب ،كلما أسلمت قبيلة جاهدوا هبا األخرى ،فما
زالوا جياهدوهنم على أن يسلموا ،ويصلُّوا ،ويزكوا ،وأكثرهم ألقى السلم ألهل
()1
اإلسالم» .
وقال الشيخ أبو بطين رحمه اهلل تعالى:
والشيخ حممد بن عبد الوهاب ،قاتل من قاتله ،ليس لكوهنم بغاة ،وإمنا
()2
قاتلهم على :ترك الشرك ،وإزالة املنكرات ،وعلى إقامة الصالة ،وإيتاء الزكاة»
.
-629-
المبحث الثاني
مجرد العتصام باإلسالم مع عدم اللتزام بشرائعه
ليس بمسقط للقتال ،بل ويقاتل أهله قتال كفر وردة
حتى يكون الدين كله هلل
إن اهلل سبحانه ،اشرتى من املؤمنني :أمواهلم وأنفسهم ،وأمرهم ببذهلما يف
سبيله ،حىت يكون الدين كله هلل ،وتلك بيقني هي علة مشروعية القتال يف
اإلسالم ،وعليه :فإذا كان بعض الدين هلل ،وبعضه لغري اهلل ،وجب القتال
إمجاعا ،حىت يكون الدين كله هلل ،ومن مث كان :كل طائفة ممتنعة عن التزام ً
شريعة من شرائع اإلسالم ،الظاهرة املتواترة ،فإهنا تقاتل عليها ،وإن كانت مقرة
هبا ،وناطقة بالشهادتني ،وملتزمة لبقية الشرائع ،بغري خالف بني العلماء.
وتقاتل على ذلك :قتال كفر وردة ،تغنم أمواهلا ،وتسىب ذراريها.
قال الشيخ عبد اهلل بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم اهلل تعالى:
«قال الشيخ تقي الدين رمحه اهلل تعاىل -ملا سئل عن قتل التتار مع
التمسك بالشهادتني ،وملا زعموا من اتبا أصل اإلسالم -فقال :كل طائفة
ممتنعة عن التزام شرائع اإلسالم الظاهرة املتواترة من هؤالء القوم أو غريهم ،فإنه
جيب قتاهلم حىت يلتزموا شرائعه ،وإن كانوا مع ذلك ناطقني بالشهادتني،
وملتزمني ببعض شرائعه ،كما قاتل أبو بكر والصحابة مانعي الزكاة.
وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم ،مع سابقة مناظرة عمر أليب بكر رضي اهلل
عنهما ،فاتفق الصحابة على القتال على حقوق اإلسالم عمالً بالكتاب والسنة.
وكذلك ثبت عن النيب من عشرة أوجه احلديث عن اْلوارج
واألمـر بقتاهلم ،وأخرب أهنم شر اْللق واْلليقة ،مع قوله« :حتقرون صالتكم
-622-
مع صالهتم وصيامكم مع صيامهم» ،فعلم :أن جمرد االعتصام باإلسالم
مع عدم التزام شرائعه ،ليس مبسقط للقتال ،فالقتال واجب حىت يكون الدين
كله هلل ،وحىت ال تكون فتنة ،فمىت كان الدين لغري اهلل فالقتال واجب.
فأميا طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات املفروضات ،أو الصيام ،أو
احلج ،أو عن التزام حترمي الدماء ،واألموال ،أو اْلمر ،أو الزنا ،أو امليسر ،أو
نكاح احملارم ،أو عن التزام جهاد الكفر ،أو ضرب اجلزية على أهل الكتاب ،أو
غري ذلك من التزام واجبات الدين ،أو حمرماته الىت ال عذر ألحد يف جحودها،
أو تركها ،واليت يكفر الواحد جبحودها ،فإن الطائفة املمتنعة تقاتل عليها وإن
كانت مقرة هبا ،وهذا مما ال أعلم فيه خالفًا بني العلماء ،وإمنا اختلف العلماء
أصرت على ترك بعض السنن كركعيت الفجر أو األذان يف الطائفة املمتنعة ،إذا َّ
أو اإلقامة عند من ال يقول بوجوهبا ،وحنو ذلك من الشعائر ،فهل تقاتل الطائفة
املمتنعة على تركها أم ال؟
فأما الواجبات أو احملرمات املذكورة وحنوها فال خالف يف القتال عليها،
وهؤالء عند احملققني من العلماء ليسوا مبنزلة البغاة اْلارجني على اإلمام ،أو
اْلارجني عن طاعته ،كأهل الشام مع أمري املؤمنني على بن أىب طالب ،فإن
أولئك خارجون عن طاعة إمام معني ،أو خارجون عليه إلزالة واليته ،وأما
املذكورون فهم خارجون عن اإلسالم ،مبنزلة مانعي الزكاة ،ومبنزلة اْلوارج الذين
قاتلهم علي بن أيب طالب ،وهلذا افرتقت سريته يف قتاله أهل البصرة وأهل
الشام ،ويف قتاله ألهل النهروان ،فكانت سريته مع البصريني والشاميني سرية
األخ مع أخيه ،ومع اْلوارج خبالف ذلك ،وثبتت النصوص عن النيب مبا
استقر عليه إمجا الصحابة من قتال الصديق ملانعي الزكاة ،وقتال علي
للخوارج .انتهى كالمه رمحه اهلل تعاىل.
-623-
فتأمل رمحك اهلل تعاىل تصريح هذا اإلمام يف هذه الفتوى :بأن من امتنع عن
شريعة من شرائع اإلسالم الظاهرة ،كالصلوات اْلمس ،والصيام ،والزكاة ،أو
احملرمات كالزنا أو حترمي الدماء واألموال ،أو شرب اْلمر أو
احلج ،أو ترك َّ
املسكرات ،أو غري ذلك ،أنه جيب قتل الطائفة املمتنعة عن ذلك حىت يكون
الدين كله هلل ،ويلتزموا مجيع شرائع اإلسالم ،إن كانوا مع ذلك ناطقني
بالشهادتني ،وملتزمني ببعض شرائع اإلسالم ،وأن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء
من سائر الطوائف ،الصحابة فمن بعدهم ،وأن ذلك عمل بالكتاب والسنة.
فتبني لك أن جمرد االعتصام باإلسالم ،مع عدم التزام شرائعه ليس مبسقط
صرح به يف آخر
للقتال ،وأهنم يقاتلون قتال كفر وخروج عن اإلسالم ،كما َّ
الفتوى بقوله :وهؤالء عند احملققني من العلماء ليسوا مبنزلة البغاة اْلارجني على
اإلمام ،بل هم خارجون عن اإلسالم مبنزلة مانعي الزكاة .واهلل أعلم.
وقال الشيخ رمحه اهلل تعاىل يف آخر كالمه على كفر مانعي الزكاة:
والصحابة ل يقولوا هل أنت مقر بوجوهبا أو جاحد هلا؟
هذا ل يعهد عن الصحابة حبال ،بل قال الصدِّيق لعمر رضي اهلل عنهما:
واهلل لو منعوي عناقًا كانوا يؤدوهنا إىل رسول اهلل لقاتلتهم على منعها.
فجعل املبيح للقتال :جمرد املنع ال جحد الوجوب ،وقد روي أن طوائف
يقرون بالوجوب لكن خبلوا هبا ،ومع هذا فسرية اْللفاء فيهم سرية
منهم كانوا ُّ
واحدة وهي :قتل مقاتلتهم ،وسيب ذراريهم ،وغنيمة أمواهلم ،والشهادة على
الردة .وكان من أعظم فضائل الصدِّيقمجيعا :أهل َّ
قتالهم بالنار ،ومسوهم ً
عندهم أن ثبته اهلل على قتاهلم ،ول يتوقف كما توقف غريه حىت ناظرهم فرجعوا
إىل قوله.
-624-
املقرين بنبوة مسيلمة فهؤالء ل يقع بينهم نزا يف قتاهلم ،وهذه وأما قتال ِّ
حجة من قال إن قاتلوا اإلمام عليها كفروا وإالَّ فال ،فإن كفر هؤالء وإدخاهلم
يف أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة املستند إىل نصوص الكتاب والسنة،
()1
خبالف من ل يقاتل اإلمام عليها» .
وقال الشيخ عبد اهلل أبو بطين رحمه اهلل تعالى:
«وأما من ادعى أن من قال :ال إله إالَّ اهلل ،فإنه ال جيوز قتله ،وإن فعل أي
ذنب ،وال قتال الطائفة املمتنعة إذا قالوا هذه الكلمة ،فهذا قول خمالف للكتاب
كافرا بال شك....
والسنة ،واإلمجا ،ولو طرد هذا القائل أصله ،لكان ً
(األدلة على كفر وقتل ،من فعل ما يستوجبهما أو واح ادا منهما ،ممن
انتسب إلى أهل القبلة)
ونذكر بعض ما اطلعنا عليه ،من كالم فقهاء املذاهب ،قال الشيخ
فرضا أخره لبقاء ركعة بسجدهتا من الضروري ،قتل األجهوري املالكي :من ترك ً
كافرا،
حدا على املشهور ،وقال ابن حبيب ومجاعة خارج املذهبً : بالسيف ً
واختاره ابن عبد السالم.
وقال يف فضل األذان ،قال املازري :يف األذان معنيان:
أحدهما :إظهار شعائر اإلسالم ،والتعريف بأن الدار دار إسالم ،وهو فرض
كفاية يقاتل أهل القرية حىت يفعلوه ،إن عجز عن قهرهم على إقامته إالَّ بقتال،
والثاني :الدعاء إىل الصالة واإلعالم بوقتها.
وقال اآليب يف شرح مسلم ،واملشهور :أن األذان فرض كفاية على
أهـل املصر ،ألنه شعار اإلسالم ،فقد كان رسول اهلل إن ل يسمع أذانًا
-626-
أغار وإالَّ أمسك ،وقول املصنف :يقاتلون عليه ،ليس القتال عليه من
خصائ القول بالوجوب ،ألنه ن عن عياض يف قول املصنف :والوتر غري
واجب ،ألهنم اختلفوا يف التمايل على ترك السنن ،هل يقاتلون عليها؟
والصحيح قتاهلم وإكراههم ،ألن يف التمايل على تركها إماتتها .انتهى.
وقال يف فضل صالة اجلماعة :صالة اجلماعة مستحبَّة للرجل يف نفسه،
فرض كفاية يف اجلملة ،يعن على أهل املصر ،قال :ولو تركوها قوتلوا ،كما
تقدم .انتهى.
وقال الشيخ أمحد بن محدان ،األذرعي الشافعي ،يف «كتاب قوت احملتاج،
جاحدا وجوهبا ،كفر باإلمجا ،وذلك جار ً يف شرح املنهاج» :من ترك الصالة
معلوما من الدين بالضرورة ،فإن تركها كسالً جممعا عليهً ، يف أي جحود كان ً
حدا على الصحيح ،واملشهور... قتل ً
وقال ابن حجر اهليثمي يف «التحفة» ،يف باب حكم تارك الصالة :إن ترك
جاحدا وجوهبا ،كفر باإلمجا ،أو تركها كسالً مع اعتقاد وجوهبا ،قتل ً الصالة
الزَكاةَ فَ َخلُّواْ َسبِيلَه ْم﴾ [التوبة: كما قال تعاىل﴿ :فَِإن تَابواْ َوأَقَامواْ َّ
الصالََة َوآتَـواْ َّ
،]6وحديث« :أمرت أن أقاتل الناس حىت يشهدوا أن ال إله إالَّ اهلل ،وأن
حممدا رسول اهلل» احلديث ،فإهنما شرطا يف الكف عن القتل واملقاتلة :اإلسالم، ً
وإقام الصالة وإيتاء الزكاة ،لكن الزكاة ميكن اإلمام أخذها ولو باملقاتلة ممن
امتنعوا وقاتلوا ،فكانت فيها على حقيقتها ،خبالفها يف الصالة ،فإنه ال ميكنه
()1
فعلها باملقاتلة ،فكانت فيها مبعى القتل» .اهـ.
-625-
المبحث الثالث
بعض األسباب الموجبة لقتال أهلها
-624-
أن يشق عصاكم ،ويفرق مجاعتكم ،فاضربوا عنقه كائنًا من كان».
وما زال األئمة يف كل زمان ومكان ،جياهدون من خرج عن طاعة إمام
املسلمني ،والعلماء جياهدون معهم وحيضوهنم على ذلك ،ويصنفون التصانيف
يف فضل ذلك ،ويف فضل من قام فيه ،ال يشك أحد منهم يف ذلك ،إالَّ أن يأمر
اإلمام مبعصية اهلل ،فال حتل طاعته ألحد ،بل حترم طاعة خملوق يف معصية
اْلالق.
وأهل حائل :أمرهم اإلمام بالدخول يف الطاعة ،ولزوم السنة واجلماعة،
ومنابذة أهل الشرك ،وعداوهتم وتكفريهم ،فأبوا ذلك وتربءوا منه ،واإلمام يقول
-من أول األمر إىل يومنا هذا -هلم :الشريعة ،مقدمة بين وبينكم ،منشي على
ما حكمت به ،على العني والرأس ،فلم يقبلوا ول ينقادوا ،فوجب قتاهلم على
مجيع املسلمني ْلروجهم عن الطاعة ،حىت يلتزموا ما أمرهم به اإلمام ،من طاعة
اهلل تعاىل.
األمر الثاني :مما يوجب اجلهاد ملن اتصف به ،عدم تكفري املشركني ،أو
الشك يف كفرهم ،فإن ذلك من نواقض اإلسالم ومبطالته ،فمن اتصف به فقد
كفر ،وحل دمه وماله ،ووجب قتاله حىت يكفر املشركني ،والدليل على ذلك
قوله « :من قال ال إله إالَّ اهلل ،وكفر مبا يعبد من دون اهلل ،حرم ماله ودمه»،
فعلَّق عصمة املال والدم بأمرين:
والثاني :الكفر مبا يعبد من دون اهلل. األول :قول ال إله إالَّ اهلل.
األول :قوله :ال إله إالَّ اهلل ،واملراد معناها ال َّ
جمرد لفظها ،ومعناها هو توحيد
اهلل جبميع أنوا العبادة.
األمر الثاني :الكفر مبا يعبد من دون اهلل ،واملراد بذلك تكفري املشركني،
والرباءة منهم ومما يعبدون مع اهلل.
فمن ل يكفِّر املشركني من الدولة الرتكية ،وعبَّاد القبور ،كأهل مكة
-621-
وغريهم ،ممن عبد الصاحلني ،وعدل عن توحيد اهلل إىل الشرك ،وبدَّل سنَّة
رسوله بالبد ،فهو كافر مثلهم ،وإن كان يكره دينهم ،ويبغضهم ،وحيب
اإلسالم واملسلمني ،فإن الذي ال يكفِّر املشركني ،غري مصدِّق بالقرآن ،فإن
القرآن قد كفر املشركني ،وأمر بتكفريهم ،وعداوهتم وقتاهلم.
قال الشيخ :حممد بن عبد الوهاب ،رمحه اهلل يف نواقض اإلسالم.
صحح مذهبهم، الثالث :من ل يكفر املشركني ،أو شك يف كفرهم ،أو َّ
كفر.
وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل :من دعا علي بن أيب طالب ،فقد
كفر ،ومن شك يف كفره ،فقد كفر.
األمر الثالث :مما يوجب اجلهاد ملن اتصف به ،مظاهرة املشركني وإعانتهم
على املسلمني بيد أو بلسان أو بقلب أو مبال ،فهذا كفر خمرج من اإلسالم،
فمن أعان املشركني على املسلمني ،وأمد املشركني من ماله مبا يستعينون به على
اختيارا منه ،فقد كفر. حرب املسلمني ً
قال الشيخ حممد بن عبد الوهاب ،يف نواقض اإلسالم ،الثامن :مظاهرة
ين َآمنواْ الَ َّ ِ
املشركني ومعاونتهم على املسلمني ،والدليل قوله تعاىل﴿ :يَا أَيُّـ َها الذ َ
َّص َارى أ َْولِيَاء بَـ ْعضه ْم أ َْولِيَاء بَـ ْعض َوَمن يَـتَـ َوَّهلم ِّمنك ْم فَِإنَّه
ود َوالن َ
ِ
تَـتَّخذواْ الْيَـه َ
ِمْنـه ْم﴾ [املائدة ،]69 :فمن اتصف بشيء من هذه الصفات ،مما ينقض
شيئا من شعائر اإلسالم الظاهرة ،أو امتنع عن أداء شريعة من اإلسالم ،أو منع ً
شرائع اإلسالم الظاهرة ،فإنه جياهد حىت يقر بذلك ويلتزمه.
يتبني لك ،أن جهاد أهل حائل ،من أفضل اجلهاد ،ولكن ال يرى وهبذا َّ
ذلك إالَّ أهل البصائر ،وأما من ال بصرية عنده ،فهو ال يرى اجلهاد إالَّ ألهل
()1
األوثان خاصة ،وأما من اقر بالشهادتني ،فال يرى جهاده» .
-621-
وقال الشيخ محد بن عتيق ،رمحه اهلل تعاىل ،لبعض إخوانه:
بلغن ما ساءي ،وعسى أن يكون كذبًا ،وهو :أنك تنكر على من اشرتى
قهرا ،فإن كان صدقًا فال أدري ما من أموال أهل األحساء ،اليت تؤخذ منهم ً
عرض لك ،والذي عندنا أنه ال ينكر مثل هذا ،إالَّ من يعتقد معتقد أهل
الضالل ،القائلني :أن من قال ال إله إالَّ اهلل ال يكفر ،وأن ما عليه أكثر اْللق
من فعل الشرك وتوابعه ،والرضا بذلك ،وعدم إنكاره ،ال خيرج من اإلسالم.
وبذلك عارضوا الشيخ حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل ،يف أصل هذه
الدعوة ،ومن له مشاركة فيما َّقرره احملققون ،قد اطلع على أن البلد ،إذا ظهر
احملرمات ،وعطِّلت فيها معال الدين ،أهنا تكون بالد فيها الشرك ،وأعلنت فيها َّ
كفر ،تغنم أموال أهلها ،وتستباح دماؤهم ،وقد زاد أهل هذه البلد ،بإظهار
املسبَّة هلل ولدينه ،ووضعوا قوانني ينفذوهنا يف الرعية ،خمالفة لكتاب اهلل وسنة نبيه
()1
،وقد علمت أن هذه كافية وحدها ،يف إخراج من أتى هبا من اإلسالم» .
-635-
المبحث الرابع
المراد من إنكار النبي على أحد أصحابه
لقتله مشراكا بعد ما تلفظ بالشهادتين
وأما حديث أسامة بن زيد رضي اهلل عنهما الذي أنكر فيه النيب :قتله
ملشرك بعد ما تلفظ بـ :ال إله إالَّ اهلل ،فإليكم بيانه واملراد منه ،وفق األصول
الكلية ،واملقتضيات الشرعية.
سئل أبناء الشيخ ومحد بن ناصر ،عن املشرك إذا قال ال إله إالَّ اهلل حال
احلرب؟
فأجابوا :هذا حيتاج إىل تفصيل ،فإن كان املشرك ال يتلفظ هبا يف حال
شركه وكفره ،كحال املشركني الذين يف زمن النيب ،فهذا إذا قال :ال إله إالَّ
اهلل ،وجب الكف عنه ،ألهنا دليل على إسالمه وإقراره ،ألن املشركني يف زمن
النيب ال يقولوهنا ،وإذا قاهلا أحدهم كانت دالة على إسالمه ،وهذا معى
األحاديث اليت جاءت يف الكف عمن قال ال إله إالَّ اهلل.
كحديث أيب هريرة املتَّفق عليه« :أمرت أن أقاتل الناس حىت يقولوا ال إله
إالَّ اهلل ،فإذا قالوها عصموا من دماءهم وأمواهلم إالَّ حبقها ،وحساهبم على اهلل
عز وجل».
وكذلك حديث أسامة ،ملا قتل الرجل يف احلرب بعدما قال :ال إله إالَّ اهلل،
فلما ذكر ذلك لرسول اهلل أنكر ذلك عليه ،وقال« :أقتلته بعدما قال ال إله
تعوذًا ،ويف رواية :إمنا قاهلا خوفًا من إالَّ اهلل؟» ،فقال :يا رسول اهلل ،إمنا قاهلا ُّ
السالح ،فقال« :أفال شققت عن قلبه».
قال العلماء :ويف ذلك أنزل اهلل﴿ :يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنواْ إِ َذا ضربـتم ِيف سبِ ِيل الليهِ
َ َْ ْ َ َ َ َ َ
ت م ْؤمنًا[ ﴾...النساء ،]14 :فدلَّت ِ فَـتََبـَّيـنواْ َوالَ تَـقولواْ لِ َم ْن أَلَْقى إِلَْيكم َّ
السالََم لَ ْس َ
-639-
اآلية على أنه جيب الكف عن املشرك إذا أظهر اإلسالم ،ولو ظن أنه إمنا
قال ذلك خوفًا من السيف ،فإن تبني بعد ذلك أنه إمنا أظهر اإلسالم تعو ًذا،
التبني هو :التثبت والتأي،
قتل ،وهلذا قال تعاىل﴿ :فَـتَبَـيَّـنواْ﴾ [النساء ،]14 :و ُّ
حىت يتبني حقيقة األمر ،وأما إذا كان املشرك يتلفظ بال إله إالَّ اهلل ،يف حال
وردته ،ويفعل من األفعال ما يوجب كفره وأخذ ماله ،فهذا يقتل ويباح كفره َّ
دمه وماله ،كما قال الصديق ،لعمر ،ملا ارتدت العرب بعد وفاة رسول اهلل
وكان فيهم طائفة يشهدون أن ال إله إالَّ اهلل ،وأن ً
حممدا رسول اهلل ،ويصلون،
ولكنهم منعوا الزكاة....
أحدا يشهد أن ال إله إالَّ اهلل ،أهنم
وأما قولك :إن املسلمني إذا أمسكوا ً
يقتلونه ويأسرونه ،فجواب هذه املسألة ،نظري اجلواب يف اليت قبلها ،وحنن نقول:
ال إله إالَّ اهلل قول وعمل ،فمن قال ال إله إالَّ اهلل ،ول يعلم معناها ،ول يعمل
مبقتضاها ،ل ينفعه ذلك ،فإن املنافقني الذين يف الدرك األسفل يف النار ،يقولون
ال إله إالَّ اهلل ول ينفعهم ذلك.
وكذلك بنو حنيفة ،الذين قاتلهم أصحاب رسول اهلل ،يقولون :ال إله إالَّ
اهلل ،ويؤذِّنون ،ويصلَّون ،وهم كفار باإلمجا ،وقد أراد النيب أن يغزو بن
املصطلق ملا قيل له إهنم منعوا الزكاة ،وهم يقولون :ال إله إالَّ اهلل ،ويؤذنون
ويصلون ،وكذلك على حرق الغالية ،وهم يقولون :ال إله إالَّ اهلل.
وكذلك اْلوارج الذين قال فيهم النيب « :حيقر أحدكم صالته مع
صالهتم ،وصيامه ،مع صيامهم ،وقراءته مع قراءهتم» ،وأخرب أهنم شر قتيل حتت
أدمي السماء ،وقاتلهم علي ،وهم يقولون :ال إله إالَّ اهلل ،ويعملون أعماالً
()1
شاقة» .
-632-
المبحث الخامس
الجهاد ل يسقط بحال عن األمة
والقيام به شرط في صحة اإلمامة
-633-
ويقال :بأي كتاب ،أم بأية حجة أن اجلهاد ال جيب إالَّ مع إمام متبع؟!
هذا من الفرية يف الدين ،والعدول عن سبيل املؤمنني ،واألدلة على إبطال
هذا القول أشهر من أن تذكر ،من ذلك عموم األمر باجلهاد ،والرتغيب فيه،
ضه ْم بِبَـ ْعض لََّف َس َد ِت َّاس بَـ ْع َ
ِ
والوعيد يف تركه ،قال تعاىلَ ﴿ :ولَْوالَ َدفْع الليه الن َ
ضهم َّ ِ
َّاس بَـ ْع َ
األ َْرض﴾ [البقرة ،]269 :وقال يف سورة احلجَ ﴿ :ولَْوَال َدفْع الله الن َ
ص َو ِامع﴾ [احلج.]45 : ت َ ِ
ببَـ ْعض َّهلد َ
ِّم ْ
وكل من قام باجلهاد يف سبيل اهلل ،فقد أطا اهلل و َّأدى ما فرضه اهلل ،وال
()1
إماما إالَّ باجلهاد ،ألنه ال يكون جهاد إالَّ بإمام ،واحلق عكس يكون اإلمام ً
اح َدة أَن تَـقوموا لِلَّ ِه َمثْـ َى َعظكم بِو ِ
َ
ما قلته يا رجل ،وقد قال تعاىل﴿ :قل إَِّمنَا أ ِ
ْ
ِ ِ ِ ِ
اه َد فَإمنَا جيَاهد لنَـ ْفسه﴾َّ ِ َوفـَر َادى ﴾...اآلية [سبأ ،]45 :وقالَ ﴿ :وَمن َج َ
[العنكبوت.]5 :
ويف احلديث« :ال تزال طائفة» احلديث ،والطائفة حبمد اهلل موجودة جمتمعة
على احلق ،جياهدون يف سبيل اهلل ،ال خيافون لومة الئم ،قال تعاىل﴿ :يَا أَيُّـ َها
ف يَأِْيت الليه بَِق ْوم ِحيبُّـه ْم َو ِحيبُّونَه﴾ ين َآمنواْ َمن يَـ ْرتَ َّد ِمنك ْم َعن ِدينِ ِه فَ َس ْو َ َّ ِ
الذ َ
ضل اللي ِه يـ ْؤتِي ِه َمن يَ َشاء َوالليه َو ِاسع َعلِيم﴾ ك فَ ْ
ِ
[املائدة ]64 :إىل قولهَ ﴿ :ذل َ
[املائدة ،]64 :أي :واسع الفضل والعطاء ،عليم مبن يصلح للجهاد.
والعرب واألدلة على بطالن ما ألفته ،كثري يف الكتاب والسنة والسري
()2
واألخبار ،وأقوال أهل العلم باألدلة واآلثار ،ال تكاد ختفى على البليد إذا
مهاجرا فطلبت قريش من رسول اهلل أن يرده ً علم بقصة أيب بصري ،ملا جاء
إليهم ،بالشرط الذي كان بينهم يف صلح احلديبية ،فانفلت منهم حني قتل
كني ،اللذين أتيا يف طلبه. املشر ْ
( )1هكذا يف األصل وإن كان السياق يقتضي :ألنه ...واهلل تعاىل أعلم.
( )2بياض باألصل (هكذا يف األصل).
-634-
فرجع إىل الساحل ملا مسع رسول اهلل يقول« :ويل ِّأمه مسعر حرب ،لو
فتعرض لعري قريش -إذا أقبلت من الشام -يأخذ ويقتل، كان معه غريه»َّ ،
فاستقل حبرهبم دون رسول اهلل ألهنم كانوا معه يف صلح -القصة بطوهلا -
فهل قال رسول اهلل أخطأم يف قتال قريش ،ألنكم لستم مع إمام؟
سبحان اهلل ما أعظم مضرة اجلهل على أهله؟ عيا ًذا باهلل من معارضة احلق
وحا َوالَّ ِذي باجلهل والباطل ،قال اهلل تعاىلَ ﴿ :شر لَكم ِّمن الدِّي ِن ما و َّ ِِ
صى به ن ً َ َ َ ََ
ك﴾ [الشورى....]93 : أ َْو َحْيـنَا إِلَْي َ
وال ريب :أن فرض اجلهاد باق إىل يوم القيامة ،واملخاطب به املؤمنون ،فإذا
كان هناك طائفة جمتمعة هلا منعة ،وجب عليها أن جتاهد يف سبيل اهلل مبا تقدر
عليه ،ال يسقط عنها فرضه حبال ،وال عن مجيع الطوائف ،ملا ذكرت من
اآليات ،وقد تقدم احلديث« :ال تزال طائفة» احلديث.
فليس يف الكتاب والسنَّة ما يدل على أن اجلهاد يسقط يف حال دون حال،
()1
وال جيب على أحد دون أحد ،إالَّ ما استثن يف سورة براءة ،وتأمل قوله:
()2
﴿ َولَيَنصَر َّن اللَّه َمن يَنصره﴾ [احلج. »]45 :
-636-
-635-
الفصل الثامن
نواقض اإلسالم وأحكام الردة والمرتدين
وفيه مبحثان:
المبحث األول :تعريف َّ
الردة ،وأمهية اإلحاطة برءوس مسائلها.
المبحث الثاني :متعلقات َّ
الردة ،مع ذكر أهم أحكامها.
-634-
المبحث األول
تعريف الردة ،وأهمية اإلحاطة برءوس مسائلها
ال نشك يف أن العلم بنواقض اإلسالم ،ومبطالت اإلميان ،من افرض
الفرائض ،وأهم املطالب ،ولذا فينبغي على املسلم اإلحاطة هبا ،أو على األقل
مبعاقد فروعها ومسائلها ،لئال يقع يف شيء من حمذوراهتا وهو ال يشعر.
حس املسلمني بقدر ما ستظل الفروق وبقدر وضوح هذه النواقض يف ي
يتسى للمؤمنني:
واحلدود بني اإلسالم والكفر ،ظاهرة وبينة وفاصلة ،ومن مثي ِّ
القيام بفريضة الوالء والرباء ،اليت هي عمود من أعمدة امللة ،وركن ركني من
أركاهنا.
والردة :هي الكفر بعد اإلسالم ،وتكون بالقول ،والفعل واالعتقاد ،والشك،
وليس من شروطها أن يقول املرتد :ارتددت عن دين ،ولكن إن قاهلا ،اعترب قوله
من أنوا الردة.
ولقد كثرت وشاعت نواقض اإلسالم ،على ألسنة وجوارح كثري من العامة،
من غري أن يعلم أكثرهم بكوهنا ردة خمرجة من امللة ،وحمبطة لكل األعمال
وتوجب التحذير ،فلعلها إذا بانت هلم واتضحت، الصاحلة ،فلذا لزم التنبيهَّ ،
يتعرضون لسيف الشر املشهر فوق رءوس املرتدين يف سارعوا إىل اجتناهبا ،لئال َّ
الدنيا ،وكذا اهلوي يف اْللود األبدي يف نار جهنم يف اآلخرة ،أعاذنا اهلل برمحته
مجيعا منها.
ً
-631-
()1
تَ ْستَـ ْه ِزؤو َن﴾ [التوبة]56 :؛ فمن أشرك باهلل تعاىل كفر بعد إسالمه ،ولو
مكرها حبق كفر ،أو جحد ربوبيته أو وحدانيته كفر ،أو جحد صفة من ً
صفاته ،أو َّادعى النبوة ،أو صدَّق من َّادعاها بعد النيب ،أو استهزأ باهلل أو
()2
رسله ،أو هزل فيه ذكر اهلل تعاىل» .
أيضا رمحه اهلل تعاىل:
وقال ً
اعلم :أن من أعظم نواقض اإلسالم عشرة.
األول :الشرك يف عبادة اهلل وحده ال شريك له ،والدليل قوله تعاىل﴿ :إِ َّن
ك لِ َمن يَ َشاء﴾ [النساء،]995 : ِ ِ ِ
الليهَ الَ يَـ ْغفر أَن ي ْشَرَك بِِه َويَـ ْغفر َما دو َن َذل َ
ومنه الذبح لغري اهلل ،كمن يذبح للجن ،أو القباب.
الثاني :من جعل بينه وبني اهلل وسائط ،يدعوهم ويسأهلم الشفاعة ،كفر
إمجاعا.
ً
صحح مذهبهم، الثالث :من ل يكفر املشركني ،أو شك يف كفرهم ،أو َّ
إمجاعا.
كفر ً
الرابع :من اعتقد أن غري هدي النيب أكمل من هديه ،أو أن حكم غريه
أحسن من حكمه ،كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه ،فهو كافر.
الخامس :من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول ،ولو عمل به ،كفر
ِ
ط أ َْع َما َهل ْم﴾ َحبَ َ ك بِأَنـَّه ْم َك ِرهوا َما أ َ
َنزَل اللَّه فَأ ْ إمجاعا ،والدليل قوله تعاىلَ ﴿ :ذل َ ً
[حممد.]1 :
السادس :من استهزأ بشيء من دين اهلل ،أو ثوابه ،أو عقابه ،كفر ،والدليل
قوله تعاىلَ ﴿ :ولَئِن َسأَلْتَـه ْم لَيَـقول َّن إَِّمنَا كنَّا َخنوض َونَـْل َعب ق ْل أَبِاللي ِه َوآيَاتِِه
َوَرسولِِه كنت ْم تَ ْستَـ ْه ِزؤو َن * الَ تَـ ْعتَ ِذرواْ قَ ْد َك َف ْرم بَـ ْع َد إِميَانِك ْم﴾ [التوبة،56 :
.]55
( )1هكذا يف األصل ولعلها :ال.
(« )2الدرر السنية».)11/11/9( :
-631-
السابع :السحر ومنه الصرف ولعطف ،فمن فعله ،أو رضي به ،كفر،
َحد َح َّىت يَـقوالَ إَِّمنَا َْحنن فِْتـنَة فَالَ تَكْف ْر﴾ ِ ِ
والدليل قوله تعاىلَ ﴿ :وَما يـ َعلِّ َمان م ْن أ َ
[البقرة.]952 :
الثامن :مظاهرة املشركني ومعاونتهم على املسلمني ،والدليل قوله تعاىل:
ِِ ِ ِ
ني﴾ [املائدة: ﴿ َوَمن يَـتَـ َوَّهلم ِّمنك ْم فَِإنَّه مْنـه ْم إِ َّن الليهَ الَ يَـ ْهدي الْ َق ْوَم الظَّالم َ
.]69
التاسع :من اعتقد أن بعض الناس ال جيب عليه اتباعه ،وأنه يسعه
اْلروج من شريعته ،كما وسع اْلضر اْلروج من شريعة موسى عليهما السالم،
فهو كافر.
العاشر :اإلعراض عن دين اهلل ،ال يتعلمه وال يعمل هبا ،والدليل قوله تعاىل:
ني منتَ ِقمو َن﴾ ِ ِ ِ ِ ِ
ض َعْنـ َها إِنَّا م َن الْم ْج ِرم َ ﴿ َوَم ْن أَظْلَم ممَّن ذ ِّكَر بِآيَات َربِّه مثَّ أ َْعَر َ
[السجدة.]22 :
وال فرق يف مجيع هذه النواقض ،بني اهلازل ،واجلاد واْلائف ،إالَّ املكره.
وقوعا ،فينبغي للمسلم خطرا ،ومن أكثر ما يكون ً وكلها من أعظم ما يكون ً
أن حيذرها ،وخياف منها على نفسه.
()1
نعوذ باهلل من موجبات غضبه وأليم عقابه ،وصلَّى اهلل على حممد» .
خيرا:
وسئلت اللجنة الدائمة ،جزى اهلل أصحابها عن المسلمين ا
السؤال الثاني والثالث من الفتوى رقم 2606
س :يقال إن الردة قد تكون فعلية أو قولية ،فالرجاء أن تبينوا يل باختصار
واضح أنوا الردة الفعلية والقولية واالعتقادية؟
احلمد هلل والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه ....وبعد:
-645-
ج :الردة :هي الكفر بعد اإلسالم ،وتكون بالقول والفعل واالعتقاد
والشك.
فمن أشرك باهلل ،أو جحد ربوبيته ،أو وحدانيته ،أو صفة من صفاته ،أو
احملرمات
سب اهلل ،أو رسوله ،أو جحد شيئًا من َّ بعض كتبه ،أو رسله ،أو َّ
اجملمع على حترميها ،أو استحله ،أو جحد وجوب ركن من أركان اإلسالم
اْلمسة ،أو شك يف وجوب ذلك ،أو يف صدق حممد ،أو غريه من األنبياء،
أو شك يف البعث ،أو سجد لصنم ،أو كوكب ،وحنوه ،فقد كفر ،وارتد عن
دين اإلسالم.
وعليك بقراءة أبواب حكم الردة من كتب الفقه اإلسالمي فقد اعتنوا به
رمحهم اهلل .وهبذا تعلم من األمثلة السابقة الردة القولية والعملية واالعتقادية
وصورة الردة يف الشك.
كسب الدين ،ويقال ِّ س :يقال إن الردة القولية تكون بلفظ كلمة الردة
أيضا إن من ارتد هبذا السبب أو ما شاهبه فقد بطل ما عمل قبل ذلك من ً
صالة وصيام وزكاة ...إخل ،أو نذر نذره على نفسه .فهل جيب قضاء ما فات أو
ما بطل بذلك السبب أو ال إن كان نعم فهل يتم قضاء الصوم بالتتابع يف
األيام أم ال؟
ج :سبق بيان أنوا الردة ،وليس من شرط ذلك أن يقول املرتد ارتددت عن
دين ،لكن لو قال ذلك اعترب قوله من أنوا الردة.
وليس على املرتد إذا رجع إىل اإلسالم أن يقضي ما ترك يف حال الردة من
صالة وصوم وزكاة ...إخل .وما عمله يف إسالمه قبل الردة من األعمال الصاحلة
ل يبطل بالردة إذا رجع إىل اإلسالم ،ألن اهلل سبحانه علق ذلك مبوته على
ِ َّ ِ
ك﴾... ين َك َفروا َوَماتوا َوه ْم كفَّار أولَئِ َ الكفر كما قال عز وجل ﴿ :إ َّن الذ َ
[البقرة ،]959 :اآلية من سورة البقرة ،وقال سبحانهَ ﴿ :وَمن يَـ ْرتَ ِد ْد ِمنك ْم َعن
اآلخَرةِ[ ﴾...البقرة: ك حبِطَت أ َْعماهلم ِيف ا ُّلدنْـيا و ِ ِ ِ ِ ِِ
َ َ ت َوه َو َكافر فَأ ْولَـئ َ َ ْ َ ْ دينه فَـيَم ْ
-649-
،]294اآلية من سورة البقرة.
أما نذره حال إسالمه فهو باق إذا كان النذر طاعة ،فعليه أن يويف به بعد
الرجو إىل اإلسالم ،وهكذا ما يف ذمته من حق هلل أو لعبادة قبل أن يرتد فهو
باق.
وباهلل التوفيق ،وصلَّى اهلل على نبينا حممد وآله وصحبه وسلَّم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء
الرئيس نائب رئيس اللجنة عضو عضو
()1
عبد اهلل بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز عبد اهلل بن قعود
-642-
المبحث الثاني
متعلقات الردة ،مع ذكر أهم أحكامهما
لقد مرق من اإلسالم بعض أهله ،وذلك على عهد النيب وخلفائه من
بعده ،مع استقباهلم للقبلة ،وما كانوا عليه من العبادة والزهد والور .
فإذا كان كذلك ،فليعلم :أن املنتسب لإلسالم ،بل وللسنَّة ،يف هذه
أيضا من الدين ،ويرتد عن امللَّة ،بفعل ناقض من نواقض األزمان ،قد ميرق ً
الشهادتني.
والردة قد تتعلق بـ :حق اهلل سبحانه ،أو كتبه ،أو أنبيائه ،أو مالئكته ،أو
أحكامه وشريعته وأوامره ونواهيه وأخباره...
واملسلم إذا وقع يف ناقض من نواقض اإلسالم ،ارتد بذلك ونطقه
بالشهادتني ،وانتسابه للملة ،مع عمله ببعض الشرائع ،ال يدرأ عنه :الكفر،
والردة ،والقتل بعد االستتابة.
فإذا أتى الشهادة ،حبكم العادة ،حال ردته وكفره ،ول ختلعه من الكفر الذي
تائبا من الباب الذي خرج منه حل فيه ،فال يرتفع عنه حكمه ،حىت يدخل ً
كافرا.
ً
قطوف من رسالة
الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة
-643-
بالشهادتني ،وانتسابه إىل اإلسالم ،وعمله ببعض شرائع الدين ،ال مينع من
تكفريه وقتله ،وإحلاقه باملرتدين...
فنقول :أما كالم الشافعية :فقال ابن حجر يف كتاب «الزواجر عن اقرتاف
الكبائر» الكبرية األوىل :الكفر والشرك ،أعاذنا اهلل منه ،وملا كان الكفر أعظم
الذنوب ،كان أحق أن يبسط الكالم عليه وعلى أحكامه ،قال اهلل تعاىل ﴿ :إِ َّن
ك لِ َمن يَ َشاء﴾ [النساء...]995 : ِ ِ ِ
الليهَ الَ يَـ ْغفر أَن ي ْشَرَك بِِه َويَـ ْغفر َما دو َن َذل َ
مث قال« :تنبيهات» منها :بيان الشرك ،وذكر مجلة من أنواعه ،لكثرة وقوعها
يف الناس ،وعلى ألسنة العامة ،من غري أن يعلموا أهنا كذلك فإذا بانت هلم
فلعلهم أن جيتنبوها ،لئال حتبط أعمال مرتكيب ذلك ،وخيلدون يف أعظم العذاب،
جدا.
وأشد العذاب ،ومعرفة ذلك أمر مهم ً
(أخطار الردة):
مكفرا حتبط مجيع أعماله ،وجيب عليه قضاء الواجب منها، فإن من ارتكب ً
املكفرات، توسع أصحابه يف ِّ عند مجاعة من أئمة ،كأيب حنيفة ،ومع ذلك فقد َّ
جدا وبالغوا يف ذلك أكثر من بقية أئمة املذاهب، وعدوا منها مجالً مستكثرة ً
هذا مع قوهلم :إن الردة حتبط مجيع األعمال ،وبأن من ارتد بانت منه زوجته،
املكفرات؛ فتعني على وحرمت عليه ،فمع هذا التشديد ،بالغوا يف االتسا يف ِّ
كل ذي مسكة يف دينه :أن يعرف ما قالوه ،حىت جيتنبه ،وال يقع فيه فيحبط
عمله ،ويلزمه قضاؤه ،وتبني منه زوجته عند هؤالء األئمة....
فصل :وأما كالم احلنفية ،فقال يف كتاب تبيني احملارم املذكورة يف القرآن،
«باب الكفر» ،وهو :السرت وجحود احلق ،وإنكاره ،وهو أول ما ذكره يف القرآن
ين َك َفرواْ َس َواء َعلَْي ِه ْم أَأَن َذ ْرتَـه ْم أ َْم ِ َّ ِ
العظيم من املعاصي ،قال اهلل تعاىل ﴿ :إ َّن الذ َ
نذ ْره ْم الَ يـ ْؤِمنو َن﴾ [البقرة.]5 : َل ت ِ
ْ
-644-
وهو أكرب الكبائر على اإلطالق ،فال كبرية فوق الكفر -إىل أن قال.-
(أنواع الكفر):
أن ما يلزم به الكفر أنوا ،نو يتعلَّق باهلل سبحانه ،ونو يتعلَّق واعلم َّ
بالقرآن وسائر الكتب املنزلة ،ونو يتعلق بنبينا حممد وسائر األنبياء واملالئكة
والعلماء ،ونو يتعلق باألحكام.
فأما :ما يتعلق باهلل سبحانه ،إذا وصف اهلل سبحانه مبا ال يليق به ،بأن شبه
اهلل سبحانه بشيء من املخلوقات أو نفى صفاته ،أو قال باحللول واالحتاد ،أو
معه قدمي غريه ،أو معه مدبِّر مستقل غريه ،أو اعتقد أنه سبحانه جسم ،أو
حمدث ،أو غري حي ،أو اعتقد أنه ال يعلم اجلزئيات ،أو كفر باسم من أمسائه،
أو أمر من أمره ،أو وعيده أو وعده ،أو أنكرمها ،أو سجد لغري اهلل.
ولدا ،أو صاحبة ،أو أنه متولد من سب اهلل سبحانه ،أو َّادعى أن له ً
أو َّ
شيء كائن عنه ،أو أشرك بعبادته شيئًا من خلقه ،أو افرتى على اهلل سبحانه
وتعاىل الكذب ،بادعاء اإلهلية أو الرسالة ،أو نفى أن يكون خالقه ربه ،وقال
ليس يل ربًا ،أو قال لذرة من الذرات :هذه خلقت عبثًا ومهالً ،وما أشبه ذلك
كبريا؛ يكفر يف هذه الوجوه
علوا ًمما ال يليق به ،سبحانه وتعاىل عما يقولون ً
أصر على ذلك ،وإن تاب عمدا أو هزالً ،ويقتل إن َّ
كلها باإلمجا ،سواء فعله ً
تاب اهلل عليه ،وسلم من القتل .انتهى كالمه حبروفه.
فتأمل رمحك اهلل تصرحيه بأن من أشرك يف عبادة اهلل غريه ،أنه يكفر َّ
أصر على ذلك....
باإلمجا ،ويقتل إن َّ
فصل :وأما كالم احلنابلة ،فقال اإلمام أبو الوفاء ابن عقيل:
ملا صعبت التكاليف على اجلهال والطغام ،عدلوا عن أوضا الشر ،إىل تعظيم
أوضا وضعوها ألنفسهم ،فسهلت عليهم إذا ل يدخلوا هبا حتت أمر
-646-
غريهم ،وهم عندي كفار هبذه األوضا ،مثل تعظيم القبور ،وخطاب املوتى
باحلوائج ،وكتب الرقا ،فيها :يا موالي افعل يب كذا وكذا ،وإلقاء اْلرق على
الشجر ،اقتداءً مبن عبد الالت والعزى .انتهى كالمه.
فتأمل قوله :وهم عندي كفار هبذه األوضا ،وتشبيهه إياهم مبن عبد
الالت والعزى.
وقال الشيخ تقي الدين يف الرسالة السنية ،ملا ذكر حديث اْلوارج ،ومروقهم
من الدين ،وأمره بقتاهلم ،قال :فإذا كان على عهد النيب وخلفائه من
انتسب إىل اإلسالم ،من مرق منه من عبادته العظيمة ،فليعلم :أن املنتسب إىل
أيضا من اإلسالم ،وذلك بأسباب، اإلسالم والسنة يف هذه األزمان ،قد ميرق ً
منها :الغلو الذي ذمه اهلل يف كتابه ،حيث قال﴿ :يا أ َْهل الْ ِكتَ ِ
اب الَ تَـ ْغلواْ ِيف َ َ
ِدينِك ْم ﴾...اآلية [النساء....]949 :
وقال رمحه اهلل تعاىل -أي شيخ اإلسالم ،يف الكالم على قوله تعاىل:
﴿ َوَما أ ِه َّل بِِه لِغَ ِْري اللي ِه﴾ [البقرة .]943 :ظاهرة :أنه ما ذبح لغري اهلل ،سواء
لفظ به أو ل يلفظ ،وحترمي هذا أظهر من حترمي ما ذحبه للحم ،وقال فيه باسم
متقربني به إىل اهلل ،كان أزكى مما ذحبناه للحم،
املسيح وحنوه ،كما أن ما ذحبناه ِّ
وقلنا عليه باسم اهلل ،فإن عبادة اهلل بالصالة له ،والنسك له ،أعظم من
كفرا من االستعانة بغري
االستعانة بامسه يف فواتح األمور ،والعبادة لغري اهلل أعظم ً
اهلل ،فلو ذبح لغري اهلل متقربًا إليه حلرم ،وإن قال فيه باسم اهلل ،كما قال فعله
طائفة من منافقي هذه األمة ،وإن كان هؤالء مرتدين ال تباح ذبيحتهم حبال،
لكن جيتمع يف الذبيحة مانعان ،ومن هذا ما يفعل مبكة وغريها من الذبح
للجن .انتهى كالم الشيخ رمحه اهلل.
فتأمل رمحك اهلل هذا الكالم ،وتصرحيـه فيه :بأن من ذبح لغري اهلل مـن
-645-
هذه األمة ،فهو كافر مرتد ،ال تباح ذبيحته ،ألنه جيتمع فيها مانعان.
األول :أهنا ذبيحة مرتد ،وذبيحة املرتد ال تباح باإلمجا .
حرم اهلل ذلك يف قوله ﴿ :قل الَّ أ َِجد الثاي :أهنا مما أهل به لغري اهلل ،وقد َّ
ِ ِ ِيف َما أ ْو ِح َي إِ ََّ
يل حمََّرًما َعلَى طَاعم يَطْ َعمه إالَّ أَن يَكو َن َمْيتَةً أ َْو َد ًما َّم ْسف ً
وحا أ َْو
َحلْ َم ِخن ِزير فَِإنَّه ِر ْجس أ َْو فِ ْس ًقا أ ِه َّل لِغَ ِْري اللي ِه بِِه﴾ [األنعام.]946 :
وتأمل قوله :ومن هذا ما يفعل مبكة وغريها من الذبح للجن .واهلل أعلم....
-644-
رسوله فهو كافر مرتد عن اإلسالم ،وإن أقر جبميع ما أنزل اهلل ،وإن كان
هازالً بذلك ل يقصد معناه بقلبه ،كما قال الشافعي :من هزل بشيء من آيات
بسب اهلل ،أو سب رسوله ؟ اهلل فهو كافر ،فكيف مبن هزل ِّ
سب اهلل تعاىل وهلذا قال الشيخ تقي الدين :قال أصحابنا وغريهم ،من َّ
جادا ،لقوله تعاىل ﴿ :ق ْل أَبِاللي ِه َوآيَاتِِه َوَرسولِِه كنت ْم تَ ْستَـ ْه ِزؤو َن
مازحا أو ً
كفرً ،
* الَ تَـ ْعتَ ِذرواْ قَ ْد َك َف ْرم بَـ ْع َد إِميَانِك ْم[ ﴾...التوبة .]55 ،56 :قال :وهذا هو
الصواب املقطو به .انتهى.
ومعى قول إسحاق رمحه اهلل تعاىل :أو دفع شيئًا مما أنزل اهلل ،أن يدفع أو
يرد شيئًا مما أنزل اهلل يف كتابه ،أو على لسان رسوله من الفرائض ،أو
الواجبات ،أو املسنونات ،أو املستحبات ،بعد أن يعرف أن اهلل أنزله يف كتابه،
أو أمر به رسوله ،أو هنى عنه ،مث دفعه بعد ذلك ،فهو كافر مرتد ،وإن كان
مقرا بكل ما أنزل اهلل يف كتابه من الشر ،إالَّ ما دفعه وأنكره ،ملخالفته هلواه أو ً
جممعا عليه
فرعا ًعادته ،أو عادة أهل بلده ،وهذا معى قول العلماء :من أنكر ً
كفر ،فإذا كان من أنكر النهي عن األكل بالشمال ،أو النهي عن إسبال
الثياب ،بعد معرفته أن الرسول هنى عن ذلك ،فهو كافر مرتد ،ولو كان من
أعبد الناس وأزهدهم....
فصل :قال يف اإلقنا وشرحه «باب حكم املرتد» ،وهو الذي يكفر بعد
مكرها،مميزا ،فتصح ردته كإسالمه ،ال ً إسالمه ،نط ًقا ،أو ش ًكا ،أو فعالً ،ولو ً
ان﴾ [النحل ،]955 :ولو هازالً، لقوله ﴿ :إِالَّ من أ ْك ِره وقَـْلبه مطْمئِن بِا ِإلميَ ِ
َ َْ َ َ
ِ ِ ِ ِ
لعموم قوله تعاىلَ ﴿ :من يَـ ْرتَ َّد منك ْم َعن دينه﴾ [املائدة ،]64 :وأمجعوا على
وجوب قتل املرتد؛ فمن أشرك باهلل تعاىل ،كفر بعد إسالمه ،لقوله تعاىل﴿ :إِ َّن
ك لِ َمن يَ َشاء﴾ ِ ِ ِ
الليهَ الَ يَـ ْغفر أَن ي ْشَرَك بِِه َويَـ ْغفر َما دو َن َذل َ
[النساء.]995 :
-641-
ولدا
أو جحد ربوبيته ،أو جحد صفة من صفاته ،أو اختذ له صاحبة أو ً
مكذب كفر ،أو َّادعى النبوة ،أو صدَّق من َّادعاها بعد النيب كفر ،ألنه ِّ
لقوله تعاىل﴿ :ولَ ِكن َّرس َ ِ
ني﴾ [األحزاب ،]45 :أو جحد ام النَّبِيِّ َ
ول اللَّه َو َخ ََ َ
احدا ممن
نبيًا ،أو كتابًا من كتب اهلل ،أو شيئًا منه ،أو جحد املالئكة ،أو و ً
سب اهلل ورسوله ثبت أنه ملك كفر ،لتكذيبه القرآن ،أو جحد البعث كفر ،أو َّ
كفر ،أو استهزأ باهلل أو كتبه ،أو ورسله ،لقوله ﴿ :ق ْل أَبِاللي ِه َوآيَاتِِه َوَرسولِِه كنت ْم
تَ ْستَـ ْه ِزؤو َن﴾ [التوبة.]56 :
مبغضا لرسوله ،أو ملا جاء به اتفاقًا ،أو جعل بينه وبني قال الشيخ :أو كان ً
إمجاعا ،ألن ذلك كفعل اهلل وسائط ،يتوكل عليهم ويدعوهم ويسأهلم ،كفر ً
عابدي األصنام ،قائلنيَ ﴿ :ما نَـ ْعبده ْم إَِّال لِيـ َقِّربونَا إِ َىل اللَّ ِه زلْ َفى﴾ [الزمر.]3 :
أو أتى بقول ،أو فعل صريح يف االستهزاء بالدين ،الذي شرعه اهلل ،كفر،
لآلية السابقة ،أو وجد منه امتهان للقرآن ،كفر.
وإن أتى بقول خيرجه عن اإلسالم ،مثل أن يقول :هو يهودي ،أو نصراي،
فهو كافر ،أو سخر بوعد اهلل ،أو وعيده ،فهو كافر ،ألنه كاالستهزاء باهلل ،أو
ل يكفر من دان بغري اإلسالم أو شك يف كفرهم -إىل أن قال -ومن قال:
أنا حمتاج إىل حممد ،يف علم الظاهر ،دون علم الباطن ،أو قال :من األولياء من
يسعه اْلروج عن الشريعة ،كما وسع اْلضر اْلروج من شريعة موسى ،فهو
كافر.
احدا منهم ،واقرتن بسبِّه دعوى أن عليًا إله ،وأن سب الصحابة ،أو و ً ومن َّ
جربائيل غلط ،فال شك يف كفر هذا ،بل ال شك يف كفر من توقف يف
مطلقا ،فهذا حمل اْلالف ،توقف أمحد يف تكفريه تكفريه ،وأما من لعن ،أو قبَّح ً
()1
وقتله» .
-641-
-665-
الفصل التاسع
أشهر الشبهات المثارة على أئمة الدعوة
والرد الوافر عليها
-669-
-662-
المبحث األول
الرد على شبهة التنقص بمقام الرب سبحانه
(شبهة التجسيم)
تلك الشبهة اليت ل يزل أعداء أهل السنة واجلماعة يرموهنم هبا ،وما نقموا
منهم إالَّ أهنم وصفوا رهبم مبا وصف به نفسه ،ووصفه به رسول اهلل ،على
وجه يليق جبالله وكماله وعظيم سلطانه ،من غري تعطيل ،وال حتريف ،وال تشبيه،
متَّبعني يف ذلك -ال مبتدعني -صحابة النيب ،الذين هم أعلم األمة برِّهبا
ونبيِّها ودينها ،وذلك بإمجا األمة ،شاء أهل األهواء ذلك أم أبوا.
قال أحد المناوئين لدعوة الشيخ اإلمام محمد بن عبد الوهاب رحمه
اهلل تعالى:
[كتهمة الوهابية للذات العلية يعتقدون بأن هلل جسم حمدود ،مؤلَّف من
أعضاء ،يد حمسوسة يبطش هبا ،ورجل ميشي هبا ،جيلس ويقوم ،ويغدو ويروح،
وينزل ويرتفع ،فأصبحوا كإخواهنم النصارى يف الناسوت والالهوت ،لعب إبليس
اجملسمة ليسوا من بلحاهم حىت أرداهم وأخرجهم من دائرة اإلسالم ،ألن ِّ
اإلسالم يف شيء ...إخل].
قال الشيخ عبد اهلل بن عبد الرمحن اجلربين حفظه اهلل تعاىل يف الرد على هذا
االفرتاء:
واجلواب أن يقال :مراده بالوهابية :أتبا أئمة الدعوة السلفية ،اليت
قام هبا يف جند الشيخ حممد بن عبد الوهاب جمدِّد القرن الثاي عشر،
()1
وهو وأتباعه رمحهم اهلل هلم مذهب خاص ،بل هو يف العقيدة على معتقد
-663-
السلف الصاحل واألئمة األربعة ومن تبعهم بإحسان ،وهم يف الفرو على
مذهب اإلمام أمحد بن حنبل إمام السنة واحلديث ،مع أهنم ال يعيبون من تبع
مذهب إمام من األئمة املعتربين ،وإذا تبني هلم احلق والصواب يف غري مذهب
آنفا أننا متَّبعون للن والدليل ندور معه
إمامهم ،تبعوه مع من كان ،وقد ذكرنا ً
حيث دار ،ففيما ذكره هذا القائل عدة أخطاء:
-664-
يف هذه الصفات ،فإنا نثبتها إثبات وجود ال إثبات تكيف وحتديد ،كما
قال ذلك أكابر األئمة ،فكيف يلزم من ذلك أن تكون جمسمة؟!
وكذا قوله( :حمدود) .نفضل ترك اْلوض يف احلد ،مع أنه من املسائل اليت
أثبتها بعض السلف ونفاها البعض ،ولكن األفضل التوقف ،حيث إن البحث
يف ذلك مْبتَ َد ،وإن اللفظ ل يرد يف األدلة ،ومع ذلك فعذر من أثبت احلد
مقصدا ظاهره الصحة.
ً ومن نفاه أن لكل منهما
وباجلملة :فال اختصاص لنا هبذا دون غرينا ،ولكن هذا الكاتب مزجي
البضاعة يف عقيدة السلف وأقواهلم ،وكان األوىل أن يوجه طعنه لومه على علماء
السلف وأئمتهم ،فإن هذه األقوال واملذاهب املأثورة عنهم مدونَّة يف مؤلفاهتم
()1
املوجود املشهور!!» .
-666-
المبحث الثاني
الرد على شبهة التنقص بحق النبي
والزدراء بمقام الرسالة
-665-
واألموال فإن ذلك شرط لصحة اإلميان ،لقوله « :ال يؤمن أحدكم،
حىت أكون أحب إليه من ولده ،ووالده والناس أمجعني» ،ولكن ال خنرجه هبذه
خالقا ،أو رازقًا ،وإمنا ميزته احملبة عن طبيعة البشر فنجعله ربًا ،أو إهلًا ،أو ً
الرسالة ،حيث فضله اهلل على مجيع البشر ،وأنزل عليه الوحي وكلفه حبمل
متصفا بالبشرية وبالعبودية. الرسالة وتبليغها إىل مجيع الناس ،مع أنه ال يزال ً
يل﴾ [الكهف ،]995 :بل وحى إِ ََّ ِ
قال اهلل تعاىل﴿ :ق ْل إَّمنَا أَنَا بَ َشر ِّمثْـلك ْم ي َ
إن الرسل كلهم ل خيرجوا عن وصف البشرية كما حكى اهلل عن الرسل قوهلم
ـك َّن الليهَ َمي ُّن َعلَى َمن يَ َشاء ِم ْن ِعبَ ِادهِ﴾ وألممهم﴿ :إِن َّْحنن إِالَّ ب َشر ِّمثْـلكم ولَ ِ
ْ َ َ
[إبراهيم ،]99 :وملا تعنَّت بعض املشركني وطلبوا منه بعض اآليات اليت ال يقدر
َّ
عليها إالَّ اهلل ،قال اهلل تعاىل له﴿ :ق ْل سْب َحا َن َرِّيب َه ْل كنت إَالَّ بَ َشًرا َّرسوالً﴾
[اإلسراء .]13 :فهل من دليل يفيد أن الرسل ما خرجوا عن طبيعة البشرية،
فصاروا يعلمون الغيب وميلكون التصرف يف الكون ،ويشاركون الرب يف اإلعطاء
واملنع ،والضر والنفع ،وحنو ذلك؟ أليس قد قال اهلل تعاىل لنبيه ﴿ :ق ْل َما
وحى إِ ََّ
يل ِ ِ ِ ِ
الرس ِل َوَما أ َْد ِري َما يـ ْف َعل ِيب َوَال بك ْم إ ْن أَتَّبع إَّال َما ي َ كنت بِ ْد ًعا ِّم ْن ُّ
َوَما أَنَا إَِّال نَ ِذير ُّمبِني﴾ [األحقاف.]1 :
بل أمره اهلل تعاىل أن ينفي عن نفسه هذه األمور ،حيث قال تعاىل﴿ :قل
ب َوال أَقول لَك ْم إِ ِّي َملَك﴾ ِ ِ ِِ
الَّ أَقول لَك ْم عندي َخَزآئن الليه َوال أ َْعلَم الْغَْي َ
[األنعام....]65 :
-664-
جوابه أن يقال :مىت حكمنا بكفر من وصفه بأنه نور؟! أين نصوص علماء
الدعوة يف ذلك؟! هذا من الكذب الصريح والبهتان املبني ،بل هم متَّبعون ملا
وصفه اهلل به من ذلك ،كما يف قوله تعاىل﴿ :قَ ْد َجاءكم ِّم َن اللي ِه نور َوكِتَاب
ُّمبِني﴾ [املائدة.]96 :
قال أبو جعفر بن جرير الطربي رمحه اهلل يف تفسري هذه اآلية من سورة
حممدا الذي أنار اهلل به احلق وأظهر به اإلسالم ،وحمق به املائدة :يعن بالنورً :
كثريا مما
الشرك ،فهو نور ملن استنار به يبني احلق ،ومن إنارته احلق تبيينه لليهود ً
كانوا خيفون من الكتاب.
لكن ال يلزم من هذا الوصف أن يًصرف له شيء من حق اهلل فال يدعى مع
()1
اهلل وال يعظَّم كتعظيم اهلل ،وال يوصف بشيء من خصائ اهلل» .
-661-
المبحث الثالث
الرد على شبهة تكفير المسلمين واعتزالهم
سلفا
شبهة تكفري املسلمني :الشبهة الدائمة الدوران بدعاة التوحيد ،وامل َعدَّة ً
ودوما من أعدائهم أهل اإلرجاء واْلنو واإلرجاف ،إهنم اْلوارج وأهل ً
التكفري ...وقد استباحوا دماء املصلِّني ،واستحلوا أعراضهم ،وجعلوها مبنزلة
الكفار األصليني من اليهود والنصارى واملشركني.
لقد وقف الغالة من أهل اإلرجاء هذا املوقف ألن الشرك واملعصية عندهم
على رتبة واحدة ،وال فرق يف األمساء واألحكام ،ومن مث نظروا إىل من يكفرون
بالشرك كنظرهتم للذين يكفرون باملعصية ،وظنوا بل قطعوا وقَّرروا :أن اجلميع قد
خرج من حتت عباءة اْلوارج ،الذين هم أهل التكفري ،سبحانك هذا هبتام عظيم
وإفك مبني.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما اهلل تعالى في بيان
هذه الشبهة والرد عليها:
«قال العراقي :واْلوارج هم كما يف البخاري ومسلم وغريمها من سائر كتب
احلديث أناس عمدوا إىل آيات نزلت يف الكفار فجعلوها على املؤمنني -وأطال
الكالم يف اْلوارج ،وذكر بعض النصوص فيهم مع تصرف وعدم حتقيق ومعرفة
للنقل -إىل أن قال -فتبني لك أن عالمة اْلوارج تنزيلهم آيات القرآن النازلة
أحدا من أهل السنة يتفوهيف الكفار على املؤمنني من أهل القبلة ،وهلذا ما ترى ً
أحدا.
بذلك وال يكفر ً
ومنشأ هذه البدعة من سوء الظن واتبا العقل -مث ذكر حديث اعرتاض
ذي اْلويصرة التميمي على قسمة رسول اهلل ،وما قال لـه ،ثـم ذكر
-661-
قول اْلوارج «ال حكم إالَّ هلل» وقال بعده :وكذلك إخواهنم يف هذا الزمان
يقولون« :ال يعبد إالَّ اهلل» ،فنقول :صدقتم هذه كلمة حق ،ولكن أين الذي
ناطقا بالشهادتني ،ويصلي ويصوم ويزكي وحيج؟مسلما ً
يعبد غريه إذا كان ً
والجواب أن يقال:
وصحت هبا األخبار يف شأن إن األحاديث واآلثار اليت جاءت هبا السنة َّ
اْلوارج ووصفهم وذمهم ،فهي معروفة مشهورة عند أهل العلم باحلديث واآلثار.
وقد ساقها مسلم يف صحيحه من حنو عشرة أوجه .وهذا العراقي ليس من رجال
هذا الشأن وال حيسن احلكاية والنقل ،وال َتييز له بني مرفوعها وموقوفها،
وصحيحها وسقيمها وغريه.
يوضحه قوله :واْلوارج هم يف البخاري ومسلم وغريمها من سائر كتب
احلديث أناس عمدوا إىل آيات نزلت يف الكفار فجعلوها على املؤمنني.
فهذا كالم غيب غوي ال يدري الصناعة وال يعرف ما يف تلك البضاعة ،فإن
مرفوعا باتفاق .وليس يف سائر كتب احلديث والسنن األربعة، هذا اللفظ ليس ً
وصحيحي البخاري ومسلم ،وليس فيها هذا اللفظ ،فكالمه كالم جاهل
بصناعة احلديث وروايته ولسنا بصدد بيان جهله وإفالسه من العلوم ،وإمنا املراد
كشف شبهه وردها.
وحاصل مقصوده ونقله :تشبيه أهل اإلسالم والتوحيد باْلوارج يف تكفريهم
من عبد األنبياء واألولياء والصاحلني ،ودعاهم مع اهلل ،ألن عباد القبور عنده
أهل سنة ومجاعة ،وأهل اإلسالم من جنس اْلوارج .الذين يكفرون أهل القبلة،
هذا حاصل إسهابه ومضمون خطابه ،لكن أطال مبا ال طائل حتته.
وحنن نتكلَّم على بدء أمر اْلوارج وحقيقة مذهبهم ،مث نتكلم على مذهب
عبَّاد القبور وما هم عليه ،مث نتبع ذلك بفصل نافع يف بيـان حـال
-655-
الشيخ حممد رمحه اهلل وتقرير مذهبه ،وما كان عليه يف املعتقد والدين،
ليعلم الواقف على ما قرنناه حقيقة املذاهب ،وحاصل العقائد ،فيما وقعت فيه
قل أن يوجد نظريهَّ ،بني
اْلصومة فنقول( :وأخذ الشيخ يتكلم يف حبث نفيسَّ ،
فيه بداية خروج اْلوارج ،وحقيقة مذهبهم واألسباب الداعية ْلروجهم ،إىل أن
ملخ أمرهم. قال رمحه اهلل) :هذا َّ
وقد عرفت شبهتهم اليت جزموا ألجلها بكفر علي وشيعته ،ومعاوية
وأصحابه .وبقي معتقدهم يف أناس متفرقني بعد هذه الوقعة ،مث اجتمعت هلم
شوكة ودولة فقاتلهم املهلَّب بن أيب صفرة ،وقاتلهم احلجاج بن يوسف ،وقاتلهم
قبله ابن الزبري زمن أخيه عبد اهلل .وشا عنهم التكفري بالذنوب ،يعن ما دون
الشرك ،وهبذا تعرف حقيقة احلال ،ويزول اإلشكال الذي نشأت منه الشبهة.
وما أحسن ما قال العالمة ابن القيم يف نونيته:
ومـن العجـائب أنهم قالوا لمن
قـد دان باآلثـار والـقـرآن
أنتـم بذا مـثل الخـوارج إنهم
أخذوا الظواهر ،ما اهتدوا لمعـان
وهذا داء قدمي يف أهل الشرك والتعطيل" من كفَّرهم بعبادهتم غري اهلل
وتعطيل أوصافه وحقائق أمساءه ،قالوا له :أنت مثل اْلوارج ،يكفرون بالذنوب
ويأخذون بظواهر اآليات.
ومعلوم أن الذنوب تتفاوت وختتلف حبسب منافاهتا ألصل احلكمة املقصودة
بإجياد العال ،وخلق اجلن واإلنس ،وحبسب ما يرتتب عليها من هضم حقوق
الربوبية ،وتنق رتبة اإلهلية ،وقد كفَّر اهلل ورسوله بكثري
-659-
من جنس الذنوب كالشرك وعبادة الصاحلني ،وأخرب أنه أكرب الكبائر،
كما يف الصحيحني من حديث ابن مسعود قال :قلت :يا رسول اهلل ،أي
ندا وهو خلقك ،قال قلت :مث أي؟ قال :أن الذنب أعظم؟ قال :أن جتعل هلل ً
ِ َّ ِ
ين َال يَ ْدعو َن َم َع اللَّه إِ َهلًا َ
آخَر َوَال تزاي حبليلة جارك .فأنزل اهلل تعاىلَ ﴿ :والذ َ
احلَ ِّق[ ﴾...الفرقان.]51 : س الَِّيت َحَّرَم اللَّه إَِّال بِ ْ
يَـ ْقتـلو َن النَّـ ْف َ
فمن أنكر التكفري مجلة فهو حمجوج بالكتاب والسنة .ومن فرق بني ما فرق
اهلل ورسوله بينه من الذنوب ،ودان حبكم الكتاب والسنة وإمجا األمة يف الفرق
أحدا بذنببني الذنوب فقد أنصف ،ووافق أهل السنة واجلماعة ،وحنن ل نكفر ً
دون الشرك األكرب الذي أمجعت األمة على كفر فاعله ،إذا قامت عليه احلجة،
وقد حكى اإلمجا على ذلك غري واحد ،كما حكاه يف اإلعالم البن حجر
()1
الشافعي» .
(شبهة العتزال):
حتقيقا مللة إبراهيم اْلليل -بالرباءة من املشركني وملا قام أئمة الدعوة ً -
وآهلتهم اليت يعبدوهنا من دون اهلل واعتزاهلم .صرخ الشيطان يف آذان حزبه
ومريديه :إن هؤالء من نسل املعتزلة ،وخرجوا من ضئضئي عمرو بن عبيد،
ت َكلِ َمةً َختْرج ِم ْن أَفْـ َو ِاه ِه ْم
وواصل بن عطاء إماما االعتزال وأهل الكالم ﴿ َكبـَر ْ
إِن يَـقولو َن إَِّال َك ِذبًا﴾ [الكهف.]6 :
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما اهلل تعالى في أثناء رده على
واحد من المشركين يتهمهم بهذا اإلفك والبهتان:
يسمي أهل التوحيد واإلخالص النافني للشرك، «إن هذا امللحد املبهرجِّ ،
املعادين ألهله :معتزلة ،واملعتزلة طائفة معروفة ،ابتدعوا بنـفي القدر ،فنفوا
-652-
ما أثبته اهلل يف كتابه ،وما أثبته رسوله مبا جرى به القلم مبا يكون إىل
يوم القيامة ،واعتزلوا جملس احلسن البصري ،رمحه اهلل تعاىل ،ومسُّوا معتزلة لذلك،
فإهنم اعتزلوا أهل السنة ،وخالفوهم فيما ذكرنا ،وقالوا :باملنزلة بني املنزلتني ،قالوا
يف صاحب الكبرية فاسق ال مؤمن وال كافر ،وقالوا :بتخليده يف النار.
أيضا ما تواترت به األحاديث :أن اهلل يدخل من يشاء من أهل وخالفوا ً
املعاصي النار ،مث خيرجهم منها مبا معهم من التوحيد ،فإذا جازاهم اهلل تعاىل
بإدخاهلم النار ،ومكثهم فيها على قدر ذنوهبم ،أخرجهم مبا معهم من التوحيد،
فأدخلهم اجلنة برمحته ،وهذا هو الذي عليه أهل السنة واجلماعة ،فإهنم خالفوا
هذه الطائفة وكل مبتد .
جهما وشيعته ،يف نفي الصفات ،فنفوا ما أثبته
مث إن هؤالء املعتزلة :وافقوا ً
اهلل لنفسه يف كتابه ،وأثبته له رسوله يف سنته ،من صفات كماله ،ونعوت
جالله ،على ما يليق بعظمته ،ففارقت هذه الطائفة أهل السنة ،هبذه البد
أيضا ،فهذا هو الذي تعلق به املبهرج
وغريها ،فلم يثبتوا الشفاعة ألهل الكبائر ً
امللحد.
احدا ،فظن أن من تعلق فإنه جعل الشرك وما دونه من الكبائر بابًا و ً
بالشفعاء ،ورغب إليهم ،وسأهلم أن يشفعوا له ،أن ذلك يوجب له شفاعتهم،
فظن هذا الظن ،أنه ال ينكر هذا إالَّ املعتزلة ،ألهنم ينكرون الشفاعة يف أهل
الكبائر ،على مذهبهم ،وهذه الشفاعة أبطلها القرآن ،فالحظ فيها ملشرك....
فاملعتزلة الذين تقدم ذكر بدعتهم ،لسنا حبمد اهلل يف شيء من مقاالهتم ،بل
ننكرها عليهم ،ونعتقد أهنم خالفوا ما تواترت به النصوص ،وتظاهرت عليه أدلة
ني يَ َديْ ِه َوَال ِم ْن َخْل ِف ِه تَن ِزيل
اطل ِمـن بَـ ْ ِ
القرآن ،الـذي ﴿َال يأْتِ ِيه الْب ِ
َ َ
-653-
محيد﴾ [فصلت....]42 : ِّمن ح ِكيم َِ
ْ َ
(وجوب البراءة من المشركين)
فاحلنفاء أهل التوحيد ،اعتزلوا هؤالء املشركني ،ألن اهلل أوجب على أهل
التوحيد اعتزاهلم وتكفريهم والرباءة منهم ،كما قال تعاىل عن خليله إبراهيم :
ون اللَّ ِه َوأ َْدعو َرِّيب َع َسى أََّال أَكو َن بِد َعاء َرِّيب ﴿وأ َْعتَ ِزلكم وما تَ ْدعو َن ِمن د ِ
ْ ََ َ
َش ِقيًّا﴾ [مرمي ،]41 :إىل قوله﴿ :فَـلَ َّما ْاعتَـَزَهل ْم َوَما يَـ ْعبدو َن من دون الله﴾
ِ َّ ِ ِ
[مرمي ،]41 :وقال﴿ :إِنَّا بـراء ِمنكم وِممَّا تَـعبدو َن ِمن د ِ
ون اللَّ ِه َك َف ْرنَا بِك ْم َوبَ َدا َْ ْ َ
ِ َّ ِ ِ
ضاء أَبَ ًدا َح َّىت تـ ْؤمنوا بالله َو ْح َده﴾ [املمتحنة،]4 : بَـْيـنَـنَا َوبَـْيـنَكم الْ َع َد َاوة َوالْبَـ ْغ َ
وقال عن أهل الكهفَ ﴿ :وإِ ِذ ْاعتَـَزلْتموه ْم َوَما يَـ ْعبدو َن إَِّال اللَّهَ فَأْووا إِ َىل
ف ﴾...اآلية [الكهف.]95 : الْ َك ْه ِ
فال يتم ألهل التوحيد توحيدهم ،إالَّ باعتزال أهل الشرك ،وعداوهتم
وتكفريهم ،فهم معتزلة هبذا االعتبار ،ألهنم اعتزلوا أهل الشرك ،كما اعتزهلم
()1
اْلليل إبراهيم . »
-654-
المبحث الرابع
الرد على أشهر الشبهات المثارة في حق إمام الدعوة
محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى
ولقد أشا املشركون عن إمام الدعوة رمحه اهلل تعاىل :أنه ينهى عن الصالة
على النيب ،وأنه يريد أن يهدم قبته ،وأن الشيخ ِّ
يقرر :أن الناس منذ
ستمائة سنة ليسوا على شيء ،وأنه مبطل كتب املذاهب.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اهلل تعالى في رده على هذه
التـ ِّرهات:
بسم اهلل الرحمن الرحيم
حممدا أن ابن صياح:
الذي يعلم من وقف عليه من اإلخوان ،املتبعني ً
سألن عما ينسب إيل؟ فطلب من أن أكتب اجلواب ،فكتبته:
احلمد هلل رب العاملني ،أما بعد :فما ذكره املشركون على أي أهنى عن
أمرا ،هدمت قبة النيب ،أو أي الصالة على النيب ،أو أي أقول :لو أن يل ً
أتكلم يف الصاحلني ،أو أهنى عن حمبتهم ،فكل هذا كذب وهبتان ،افرتاه عل َّي
الشياطني ،الذين يريدون أن يأكلوا الناس بالباطل ،مثل أوالد مشسان ،وأوالد
()2 ()1
إدريس الذين يأمرون الناس ينذرون هلم ،وينخوهنم ،ويندبوهنم ،وكذلك
فقراء الشيطان ،الذين ينتسبون إىل الشيخ عبد القادر رمحه اهلل ،وهو منهم
بريء ،كرباءة علي بن أيب طالب من الرافضة....
( )1ينخوهنم ،أي :يعظموهنم ،والنخوة :العظمة والكرب والفخر .انظر :لسان العرب -مادة (خنا).
( )2الندب :فيه تعديد احملاسن ،واالستجابة للمندوب راجع :املصدر السابق -مادة (ندب).
-656-
واجلملة :فالذي أنكره :االعتقاد يف غري اهلل ،مما ال جيوز لغريه ،فإن كنت
قلته من عندي ،فارم به ،أو من كتاب لقيته ليس عليه عمل فارم به كذلك ،أو
وعما أمجع
نقلته عن أهل مذهيب فارم به ،وإن كنت قلته عن أمر اهلل ورسولهَّ ،
عليه العلماء يف كل مذهب ،فال ينبغي لرجل يؤمن باهلل واليوم اآلخر أن يعرض
عنه ألجل أهل زمانه ،أو أهل بلده ،وأن أكثر الناس يف زمانه أعرضوا عنه...
فإذا كان من اعتقد يف عيسي ابن مرمي ،مع أنه نيب من األنبياء وندبه وخناه
فقد كفر ،فكيف مبن يعتقدون يف الشياطني ،كالكلب :أيب حديدة ،وعثمان،
الذي يف الوادي ،والكالب األخر يف اْلرج ،وغريهم يف سائر البلدان ،الذين
()1
يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اهلل؟!» .
أيضا رحمه اهلل تعالى في رسالة بعث بها إل أهل القصيم جاء
وقال ا
فيها:
«مث ال خيفى عليكم :أنه بلغن أن رسالة سليمان بن سحيم ،قد وصلت
إليكم ،وأنه قبلها وصدَّقها بعض املنتمني للعلم يف جهتكم ،واهلل يعلم أن الرجل
أمورا ل أقلها ،ول يأت أكثرها على بايل.
افرتى على ً
فمنها قوله :إي مبطل كتب املذاهب األربعة ،وإي أقول :إن الناس من
ستمائة سنة ليسوا على شيء ،وإي َّادعي االجتهاد ،وإي خارج عن التقليد،
توسل بالصاحلني ،وإي
وإي أقول :إن اختالف العلماء نقمة ،وإي أكفر من َّ
أكفر البوصريي لقوله :يا أكرم اْللق ،وإي أقول :لو اقدر على
هدم قبة رسول اهلل ،هلدمتها ،ولو أقدر على الكعبة ألخذت ميزاهبا ،وجعلت
هلا ميزابًا من خشب ،وإي أحرم زيارة قـرب النيب ،وإي أنـكر
-655-
()1
أكفر زيارة قرب الوالدين وغريمها ،وإي أكفر من حلف بغري اهلل .وإي
( )1قول الشيخ رمحه اهلل تعاىل :وإي أكفر ابن الفارض وابن عريب ،وكذا بعض ما جاء قبله ،وبعض ما
جاء بعده ،ال بد فيه من النظر :بعني االعتبار والتأمل.
وال يسعنا يف ذلك إالَّ تأويل إمام الدعوة الثاي الشيخ عبد الرمحن بن حسن رمحهما اهلل تعاىل -وقد
مر علينا من قبل -أن هذا الكالم وأمثاله مثل :قوله وإن كنا ال نكفر من عبد الصنم عند قرب
فالن بن فالن ...هو من باب السياسة الشرعية القائمة على مراعاة أحوال املدعوين ،وحىت
يتمكن اإلمام من َترين قومه على نفي الشرك ،كيف ال وقد قرر الشيخ عبد الرمحن :أن ابن عريب
هو إمام أهل الوحدة الذين هم أكفر أهل األرض .اهـ .فتح اجمليد( :ص.)954
وهذا مما يؤكد على أن الدعوة الوهابية قد مرت بفرتات متباينة يف اجلهر بأحكام التكفري ،وال أدل على
يما ألفتيت حبل دم ابن سحيم ذلك من قول الشيخ حممد بن عبد الوهاب أن األمر لو كان مستق ً
مر علينا من قبل.ووجوب قتله .وقد َّ
وأما بالنسبة لكفر إمامي الزندقة ابن عريب وابن الفارض فنكتفي هنا بذكر كالم شيخ اإلسالم ابن تيمية
يف حبث قل نظريه يف بيان كفر الرافضة واالحتادية ،قرر فيه الشيخ أن كفرمها أعظم من كفر اليهود
مسلما يف
والنصا رى ،بل وقد اتفق عليه سائر أهل امللل ،بل ويضيف الشيخ إىل هذا :أن من كان ً
الباطن ،وهو جاهل معظم لقول إمامي الزندقة فهو منهم ،وهبذا نقطع أن ظاهر كالم اإلمام حممد
بن عبد الوهاب غري مراد وأنه من باب املعاريض املمدوحة ،وهلذا ختمه بقوله :جوايب عن هذه
امل سائل أن أقول سبحانك هذا هبتان عظيم ،فتأمل أخي بعني اإلنصاف هذه اجلملة جتد ما قررناه
صحيحا منضطبًا بفضل اهلل تعاىل.
ً
يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية يف النقل املشار إليه ساب ًقا« :وهذا الذي ذكرته حال أئمتهم وقادهتم
العاملني حبقيقة قوهلم ،وال ريب أنه قد انضم إليهم من الشيعة والرافضة من ال يكون يف الباطن
عاملا حبقيقة باطنهم ،وال مواف ًقا هلم على ذلك ،فيكون من أتبا الزنادقة املرتدين ،املوايل هلم،
ً
املناصر هلم ،مبنزلة أتبا االحتادية ،الذين يوالوهنم ويعظموهنم ،وينصروهنم ،وال يعرفون حقيقة قوهلم
يف وحدة الوجود ،وأن اْلالق هو املخلوق.
مسلما يف الباطن ،وهو جاهل معظِّم لقول ابن عريب وابن سبعني ،وابن الفارض وأمثاهلم من فمن كان ً
معظما للقائلني مبذهب احللول واالحتاد ،فإن نسبة هؤالء إىل
أهل االحتاد فهو منهم ،وكذا من كان ً
اجلهمية كنسبة أولئك إىل الرافضة واجلهمية ،ولكن القرامطة أكفر من االحتادية بكثري ،وهلذا كان
أحسن عوامهم أن يكونوا رافضة جهمية ،وأما االحتادية ففي عوامهم من ليس برافضي ،وال
جهمي صريح ،ولكن ال يفهم كالمهم ،ويعتقد أن كالمهم كالم األولياء احملققني ،وبسط هذا
اجلواب له مواضع غري هذا .واهلل أعلم» .انتهى كالمه حبروفه رمحه اهلل تعاىل« .جممو الفتاوى»:
( ، )944/36ومن أراد الوقوف على هذا البحث فلرياجع من هذا اجلزء صفحة (– 925
.)944
-654-
ابن الفارض ،وابن عريب ،وإي أحرق دالئل اْلريات ،وروض الرياحني ،وأمسيه
روض الشياطني.
جوايب عن هذه املسائل ،أن أقول :سبحانك هذا هبتان عظيم ،وقبله من
يسب عيسى ابن مرمي ،ويسب الصاحلني ،فتشاهبت قلوهبم حممدا أنه ُّهبت ً
ين الَ يـ ْؤِمنو َن﴾ بافرتاء الكذب وقول الزور ،قال تعاىل﴿ :إَِّمنَا يـ ْف ِرتي الْ َك ِذ َّ ِ
ب الذ َ َ ََ
[النحل ،]956 :هبتوه بأنه يقول :إن املالئكة ،وعيسى ،وعز ًيزا يف النار،
ِ َّ ِ
ك َعْنـ َها مْبـ َعدو َن﴾ احل ْس َى أ ْولَئِ َ
ت َهلم ِّمنَّا ْ فأنزل اهلل يف ذلك﴿ :إ َّن الذ َ
ين َسبَـ َق ْ
[األنبياء.]959 :
وأما املسائل األخر وهي :أي أقول ال يتم إسالم اإلنسان حىت يعرف معى
ال إله إالَّ اهلل ،وأي أعرف من يأتين مبعناها ،وأي أكفر الناذر إذا أراد بنذره
التقرب لغري اهلل ،وأخذ النذر ألجل ذلك ،وأن الذبح لغري اهلل كفر ،والذبيحة
حرام ،فهذه املسائل حق ،وأمنا قائل هبا ،ويل عليها دالئل من كالم اهلل وكالم
سهل اهلل تعاىل، رسوله ،ومن أقوال العلماء املتبعني ،كاألئمة األربعة ،وإذا َّ
بسطت اجلواب عليها يف رسالة مستقلة ،إن شاء اهلل تعاىل.
مث اعلموا وتدبَّروا قوله تعاىل﴿ :يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنوا إِن جاءكم فَ ِ
اسق بِنَبَأ َ َ (ْ َ )1 َ َ
صيبوا قَـ ْوًما ِجبَ َهالَة ﴾...اآلية [احلجرات. »]5 : فَـتَبـيَّـنوا أَن ت ِ
َ
-651-
ملخص مفيد ألهم مسائل وفوائد الباب الثالث
ـ ال يصح إسالم أحد إال مبعرفة ما وضع له لفظ الشهادة ،ودل عليه،
وقبوله ،واالنقياد للعمل به.
ـ إن النطق بكلميت الشهادة دليل العصمة ال أنه عصمة ،أو يقال :هو
العصمة لكن بشرط العمل.
عاصما للدم واملال ،بل وال معرفة
ً ـ التلفظ بـ «ال إله إالَّ اهلل» وحده ليس
معناها مع لفظها ،بل وال اإلقرار بذلك ،بل وال كون املتلفظ هبا ال
يدعو إال اهلل وحده ،بل ال حيرم ماله ودمه حىت يضيف إىل ذلك :الكفر
مبا يعبد من دون اهلل ،فإن شك أو تردد ل حيرم دمه وماله.
ـ أمجع العلماء :على أن من قال ال إله إال اهلل ،وهو مشرك أنه يقاتل حىت
يأيت بالتوحيد.
ـ من أظهر التوحيد وجب الكف عنه ،إىل أن يتبني منه ما خيالف ذلك.
ـ التكفري برتك أصول التوحيد ،وعدم اإلميان هبا ،من أعظم دعائم الدين.
ـ لو عرف العبد معى :ال إله إال اهلل لعرف أن من شك ،أو تردد يف كفر
من أشرك مع اهلل غريه ،أنه ل يكفر بالطاغوت.
ـ من ل يكفر املشركني ،أو شك يف كفرهم ،أو صحح مذهبهم كفر.
ـ أمجع العلماء :على أن شام الرسول كافر ،وحكمه عند األئمة القتل،
ومن شك يف كفره كفر.
ـ من قال :من أتى بالشهادتني ،وصلى ،وصام ،ال جيوز تكفريه ،وإن عبد
غري اهلل ،فهو كافر ،ومن شك يف كفره فهو كافر.
-651-
ـ أصول الدين ،اليت أوضحها اهلل ،وأحكمها يف كتابه ،فإن حجة اهلل عليها
هي القرآن ،فمن بلغه القرآن فقد بلغته احلجة.
ـ من دعا علي بن أيب طالب فقد كفر ،ومن شك يف كفره فقد كفر.
ـ أهل الفرتة ،الذين ل تبلغهم الرسالة والقرآن ،وماتوا على اجلاهلية ،ال
يسمون مسلمني باإلمجا ،وال يستغفر هلم ،وإمنا اختلف أهل العلم يف
تعذيبهم يف اآلخرة.
ـ قال حممد بن عبد الوهاب :كالم ابن تيمية يف عدم تكفري املعني ليس ىف
تعذيبهم ىف اآلخرة.
ـ قال حممد بن عبد الوهاب :كالم ابن تيمية ىف تكفري املعني ليس ىف الردة
والشرك ,بل ىف املسائل اجلزئيات.
ـ اإلسالم :هو توحيد اهلل وعبادته وحده ال شريك له ,واإلميان برسوله ,
واتباعه فيما جاء به .فما ل يأت العبد هبذا فليس مبسلم ,وإن ل يكن
معندا فهو كافر جاهل. كافرا ً
ً
أحدا إال بعد قيام احلجة عليه.
ـ اهلل سبحانه ال يعذب ً
ـ قيام احلجة خيتلف باختالف األزمنة ،واألمكنة ،واألشخاص.
ـ اهلل سبحانه ل يعذر أهل اجلاهلية ،الذين ال كتاب هلم بفعل الشرك
األكرب ،فكيف يعذر أمة ،كتاب اهلل بني أيديهم يقرؤونه ويسمعونه.
ـ املشرك نفى ما أثبتته «ال إله إال اهلل» ،وأثبت ما نفته «ال إله إال اهلل».
ـ كل كافر قد أخطأ ،واملشركون ال بد هلم من تأويالت ،فلم يعذروا بذلك
اْلطأ ،وال بذلك التأويل.
كفرا،
كفرا ،أو فعل ً ـ ل يقل أحد من العلماء يف باب املرتد :أنه إذا قال ً
وهو ال يعلم أنه يضاد الشهادتني ،أنه ال يكفر جلهله.
ـ إن اإلنسان يكفر بكملة خيرجها من لسانه ،وقد يقوهلا وهو جاهل
-645-
مبعناها ،فال يعذر باجلهل ،وقد يقوهلا وهو يظن أهنا تقربه إىل اهلل.
ـ ال جيوز التقليد يف الشرك ألنه تركه هو أصل األصول ،وال عذر ملكلف يف
اجلهل حبرمته.
مقلدا ،أو
جمتهدا ،أو خمطئًا ،أو ً ـ املدعي :أن مرتكب الكفر متأوالً ،أو ً
جاهالً معذور ،خمالف للكتاب والسنة واإلمجا بال شك ،مع أنه ال بد
أن ينقض أصله ،فلو طرد اصله كفر فال ريب.
ـ كل من بلغه القرآن ،فليس مبعذور يف األصول الكبار ،اليت هي أصل دين
اإلسالم.
ـ عدم تكفري املعني حىت تقام احلجة ،ال يكون إال يف املسائل اليت قد خيفى
دليلها على بعض الناس ،كما يف مسائل القدر ،واإلرجاء ،وحنو ذلك.
ـ ظاهر اآليات ،واألحاديث ،وكالم مجهور العلماء يدل :على كفر من
أشرك باهلل فعبد معه غريه ،ول تفرق األدلة بني املعني ،وغريه.
ـ ل يستثن العلماء اجلاهل من حكم الكفر إذا عبد مع اهلل غريه ،بل وكفروه
بعينه ،وذلك مبسوط يف كتب الفقه يف باب املرتد.
ـ من عبد غري اهلل فهو مشرك شرًكا أكرب ،ال تصح صالته يف نفسه ،فال
جيوز االئتمام به يف الصالة ،وال تصح الصالة وراءه لشركه.
ـ من دعا غري اهلل عبادة فهو مشرك مرتد عن اإلسالم ،ال حيل األكل من
ذبيحته ألهنا ميتة ،ولو ذكر اسم اهلل عليها.
ـ البلد الذي يظهر فيه الشرك ،ويعلم فيه باحملرمات ،ويعطل فيه مصاحل
الدين ،يكون بلد كفر.
ـ دار اإلسالم :هي اليت جتري أحكام اإلسالم فيها ،وإن ل يكن أهلها
مسلمني،
-649-
وغريها دار كفر.
ـ قال اإلمام مالك :ال حيل ألحد أن يقم بأرض يسب فيها السلف.
ـ قال اإلمام ابن كثري :كل من أقام بني ظهراي املشركني ،وهو قادر على
اهلجرة ،وليس متمكنًا من إقامة الدين ،فهو ظال لنفسه ،مرتكب حر ًاما
باإلمجا .
مظهرا للدين يف دار الكفر ،حىت خيالف كل طائفة مبا ـ ال يكون املسلم ً
اشتهر عنها من الضالل ،ويصرح هلا بالعداوة.
ـ إذا كان املوحد بني ظهراي أناس من املبتدعة واملشركني ،وهو عاجز عن
اهلجرة ،فعليه بتقوى اهلل ،ويعتزهلم ما استطا ،ويعمل مبا وجب عليه يف
نفسه ،ومع من يوافقه على دينه ،وعليهم الصرب على األذى حىت جيعل
اهلل هلم خمرجا.
ـ قال ابن كثري :إن ل جتانبوا املشركني ،وتوالوا املؤمنني ،وإال وقعت الفتنة يف
الناس ،وهو التباس األمر ،واختالط املسلم بالكافر ،ويف ذلك ضعف
للدين ،وقوة للكافرين.
مكرها لقتال املسلمني ،فحكمه حكم الكفار يف ـ من خرج من املشركني ً
القتل ،وأخذ املال ال يف الكفر ،وأما إن خرج معهم لقتال املسلمني
اختيارا ،وأعاهنم ببدنه وماله ،فال شك أن حكمه حكمهم يف طوعا و ً ً
الكفر.
ـ إن اهلل أمر بقتال املشركني حىت يتوبوا من الشرك ،وخيلصوا أعماهلم هلل
تعاىل ،ويقيموا الصالة ،ويؤتوا الزكاة ،فإن أبوا عن ذلك ،أو بعضه ،قوتلوا
إمجاعا.
ً
ـ قال ابن تيمية يف حق التتار :كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع اإلسالم
-642-
الظاهرة املتواترة ،من هؤالء القوم أو غريهم ،فإنه جيب قتاهلم حىت يلتزموا
شرائعه ،وإن كانوا مع ذلك ناطقني بالشهادتني ،وملتزمني ببعض
شرائعه ،كما قاتل أبو بكر والصحابة مانعي الزكاة؛ وعلى ذلك اتفق
الفقهاء بعدهم.
ـ قال ابن تيمية :إن جمرد االعتصام باإلسالم مع عدم التزام شرائعه ،ليس
مبسقط للقتال ،فالقتال واجب حىت يكون الدين كله هلل ،وحىت ال تكون
فتنة ،فمىت كان الدين لغري اهلل فالقتال واجب.
ـ إن مما يوجب اجلهاد ملن اتصف به :عدم تكفري املشركني ،أو الشك يف
كفرهم ،فإن ذلك من نواقض اإلسالم ومبطالته ،فمن اتصف به فقد
وحل دمه وماله.
كفر ،ي
ـ إن مما يوجب اجلهاد ملن اتصف به :مظاهرة املشركني ،وإعانتهم على
املسلمني ،بيد ،أو بلسان ،أو بقلب ،أو مبال ،فهذا كفر خمرج من
اإلسالم.
ـ الردة :هي الكفر بعد اإلسالم ،وتكون بالقول ،والفعل ،واالعتقاد،
والشك .وليس من شرطها أن يقول املرتد :ارتددت عن دين ،لكن لو
قال ذلك ،اعترب قوله من أنوا الردة.
ـ احلنفاء أهل التوحيد :اعتزلوا أهل الشرك ،ألن اهلل أوجب على أهل التوحيد
اعتزاهلم ،وتكفريهم ،والرباءة منهم.
-643-
-644-
الخاتمة
أسأل اهلل العلى القدير :أن أكون قد وفقت يف عرض وإبانة مشولية منهج
أئمة الدعوة -رمحهم اهلل تعاىل -وأن أكون قد سامهت ولو بقدر ضئيل يف
تقدمي منهج ،وسط ،مستقيم يف االعتقاد واألحكام ،يصلح أن تنتهجه األمة
وتصار من قِبَل كافة امللل والنحل ،اْلارجة عن هدف َ اإلسالمية ،وهي تصا ِر
وجود البشرية ،واملرتدة عن فطرة اْلليقة ،فطرة اهلل ،اليت فطر الناس عليها.
وال شك أن وسطية ،وخريية هذا الرتاث تعود إىل اعتماد أصحابه يف
االعتقاد ،واملسائل ،والدالئل على الكتاب والسنة بفهم أصحاب الثالثة القرون
األوىل ،قرون اْلريية واالستقامة.
وأريد أن ألفت نظر إخواي الكرام ،بعد سؤال كثري منهم عن الكتاب الذي
نوهت بذكره يف هناية كتاب «فتاوى األئمة النجدية» ،اْلاص «بتقريب تراث
شيخ اإلسالم ابن تيمية يف االعتقاد واألحكام» أي لظروف معينة اضطررت أن
أخرجه يف صورة رسائل متسلسلة -إن شاء اهلل وأعان -وإن كنت أَتى أن
ولكن اهلل املستعان ،وعليه التكالن.
أخرجه كامالًْ ،
يل بالدعاء إىل من بيده ملكوت السماوات وأَتى من إخواي أن ال يبخلوا ي
واألرض أن يعينن على التوفيق ،واإلخالص والسداد يف إخراج هذا الكتاب على
الوجه الالئق برتاث شيخ اإلسالم ابن تيمية ،ذلك العال الرباي ،الذي طاملا
واجه الطواغيت ،واملنافقني ،والكفار ،واملشركني ،واملالحدة ،واملبتدعني ،حيًا
وميتًا.
-646-
وأبشركم بأن الرسالة األوىل قد انتهيت منها بفضل اهلل ،وهي حتت الطبع
اآلن إن شاء اهلل تعاىل.
خالصا ،وأن ال جيعل
ً أسأل اهلل سبحانه أن جيعل هذا العمل صاحلًا ،ولوجه
ذخرا طيبًا يل،
فيه ألحد من دونه من شيء ،وأن يبارك فيه ،وأن جيعله ً
وعتقا لنا من النريان يف اآلخرة.
وألوالدي ،وألهلي يف الدنياً ،
-645-
فهرس المراجع والمصادر
ـ تيسري الكرمي الرمحن يف تفسري كالم املنَّان -لعبد الرمحن بن ناصر
السعدي -تقدمي :حممد زهري النجار ،الناشر :دار املدي ،سنة الطبع
9451هـ 9111 -م.
ـ الدرر السنية يف األجوبة النجدية -جمموعة رسائل ومسائل علماء جند
األعالم ،من عصر :الشيخ حممد بن عبد الوهاب إىل عصرنا هذا -
مجع :عبد الرمحن بن حممد بن قاسم العاصمي القحطاي النجدي
احلنبلي -الطبعة اْلامسة سنة الطبع9493 :هـ 9112 -م.
ـ جمموعة الرسائل واملسائل النجدية -لبعض علماء جند األعالم -أشرف
على إعادة الطبع :عبد السالم بن برجس بن ناصر آل عبد الكرمي -
الناشر :دار العاصمة (الرياض) -الطبعة الثانية يف عام9451 :هـ.
ـ مؤلفات الشيخ اإلمام حممد بن عبد الوهاب -قام على تصحيحها
وطباعتها :عبد العزيز زيد الرومي ،د .حممد بلتاجي ،د .سيد حجاب،
الناشر :جامعة اإلمام حممد بن سعود اإلسالمية.
ـ جمموعة التوحيد -جمموعة رسائل البن تيمية ،وحممد بن عبد الوهاب
وأحفاده -الناشر :دار العليان للنشر والنسخ والتصوير (القصيم -
بريدة).
ـ عقيدة املوحدين والرد على الضالل املبتدعني :مكتبة الطرفني (الطائف) -
الطبعة األوىل -سنة الطبع9499 :هـ 9119 -م.
ـ تيسري العزيز احلميد يف شرح كتاب التوحيد -سليمان بن عبد اهلل بن
حممد بن عبد الوهاب -حتقيق :جمدي بن منصور بن سيد الشورى ـ
-644-
الناشر :دار الكتب العلمية (بريوت -لبنان) -الطبعة األوىل -سنة
الطبع9495 :هـ 9115 -م.
ـ فتح اجمليد شرح كتاب التوحيد -عبد الرمحن بن حسن بن حممد ابن عبد
الوهاب -حتقيق :حممد حامد الفقي -تعليق :عبد العزيز بن عبد اهلل
بن باز -الناشر :مكتبة الرتاث اإلسالمي (القاهرة).
ـ التوحيد وقرة عيون املوحدين يف حتقيق دعوة األنبياء واملرسلني -عبد
الرمحن بن حسن بن حممد بن عبد الوهاب -حتقيق :بشري حممد عون -
الناشر :مكتبة املؤيد (الطائف) ،ومكتبة دار البيان (دمشق) -الطبعة
األوىل -سنة الطبع9499 :هـ 9115 -م.
ـ منهاج التأسيس والتقديس يف كشف شبهات داود بن جرجيس -للشيخ
عبد اللطيف بن عبد الرمحن بن حسن بن حممد بن عبد الوهاب -
الناشر :دار اهلداية للطبع والنشر والرتمجة (الرياض) -الطبعة الثانية -
سنة الطبع9454 :هـ 9114 -م.
ـ كشف الشبهتني -سليمان بن سحمان النجدي احلنبلي -صححه:
عبد السالم بن برجس بن ناصر آل عبد الكرمي -الناشر :دار العاصمة
(الرياض) الطبعة األوىل -سنة الطبع9451 :هـ.
ـ فتاوى ورسائل حممد بن إبراهيم -مجع وحتقيق وترتيب :حممد بن عبد
الرمحن بن قاسم -مطبعة احلكومة مبكة املكرمة -الطبعة األوىل -سنة
الطبع9311 :هـ.
ـ فتاوى عبد اهلل بن محيد -مجعها :عمر بن حممد بن عبد الرمحن القاسم -
الناشر :دار القاسم للنشر (الرياض) -الطبعة األوىل -سنة الطبع:
9491هـ.
-641-
ـ فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء -مجع وترتيب :أمحد بن
عبد الرزاق الدويش -الناشر :الرئاسة العامة إلدارات البحوث العلمية
واإلفتاء والدعوة واإلرشاد (الرياض) -طبع :مكتبة املعارف بالرياض -
الطبعة األوىل -سنة الطبع9499 :هـ.
ـ جممو فتاوى ومقاالت متنوعة -لعبد العزيز بن عبد اهلل بن باز -مجع
وإشراف :د .حممد بن سعد الشويعر -الناشر :مكتبة املعارف للنشر
والتوزيع (الرياض) الطبعة الثانية -سنة الطبع9491 :هـ 9114 -م.
ـ نقد القومية العربية على ضوء اإلسالم والواقع -عبد العزيز بن عبد اهلل ابن
باز -الناشر :املكتب اإلسالمي -الطبعة السادسة -سنة الطبع:
9451هـ 9111 -م.
ـ الكنز الثمني :جممو فتاوى ورسائل عبد اهلل بن عبد الرمحن اجلربين -مجع
وإعداد :أبو أنس على بن حسن أبو لوز -الناشر :مكتبة الصقر
السعودية (الرياض) -الطبعة األويل -سنة الطبع9494 :هـ.
ـ جممو فتاوى ورسائل حممد بن صاحل العثيمني -مجع :فهد بن ناصر
السليمان -الناشر :دار الوطن للنشر (الرياض) -الطبعة الثالثة -سنة
الطبع9499 :هـ.
ـ اإلرشاد إىل تصحيح االعتقاد -صاحل بن فوزان بن عبد اهلل الفوزان -
الناشر :دار ابن اجلوزي (الدمام) -الطبعة الرابعة -سنة الطبع:
9425هـ 9111 -م.
-641-
-615-
فهرست الموضوعات
-619-
شروط صحة اإلسالم وقبوله 45 ..........................................
املبحث الثالث
الرباءة من الشرك وأهله 41 ..............................................
شرط يف صحة اإلسالم وقبوله باإلمجا 41 ................................
الفصل الثاي
حقيقة التوحيد وأركانه ومقتضياته وأنواعه 62 ...............................
مدخل مفيد لفهم قضية التوحيد 64 ......................................
املبحث األول
معى اإلله الذي ينبغي معرفته ،والعمل مبوجبه66 .......................... ،
املبحث الثاي
ُّ
حد العبادة وكيفية القيام هبا 65 ..........................................
املبحث الثالث
من شروط صحة العبادة :الكفر بالطاغوت61 ........................... ،
املبحث الرابع
حقيقة التوحيد ،وأنواعه ،وحدود العالقة بينها 55 ..........................
املبحث اْلامس
كمال اهلل املطلق من مجيع الوجوه أوجب له سبحانه وحدانيته 53 ............
املبحث السادس
أصول التوحيد العاصمة من الشرك والتنديد 56 ............................
املبحث السابع
شروط وأركان كلمة «ال إله إال اهلل» مع بيان أن املقصود األعظم
املبحث الثامن
أحوال وأصناف الناطقني بكلمة التوحيد 44 ...............................
-612-
الفصل الثالث
كيفية اإلميان بالرسالة وحتقيق أركاهنا ومقتضياهتا 41 ........................
املبحث األول
نعمة بعثة الرسل ،وحاجة الناس املاسة إليها 15 ............................
املبحث الثاي
علة بعثته ،ودالئل نبوته 19 ...........................................
املبحث الثالث
مقتضيات الشهادة بالنبوة ولوازمها 14 ....................................
املبحث الرابع
اإلميان بوحدانية اهلل يف ربوبيته وألوهيته 15 .................................
املبحث اْلامس
كيف بلغ النيب التوحيد 11 ...........................................
وصان جنابه من أي حدث دخيل عليه؟ 11 ..............................
املبحث السادس
حكم من سب النيب ،أو استهزأ حبكم من أحكامه 19 ...................
الفصل الرابع
أصول اإلميان ومقتضياته ولوازمه 14 ......................................
َتهيد هام لسرب أغوار قضية اإلميان 15 ....................................
املبحث األول
اإلميان قول وعمل ،يزيد بالطاعة ،وينق باملعصية 11 ......................
املبحث الثاي
اإلسالم واإلميان وحدود العالقة بينهما 952 ...............................
املبحث الثالث
-613-
أصل اإلميان الذي ال يصح إال بتحقيقه954 ..............................
املبحث الرابع
وجوب التباين بني أصل اإلميان وشعبه 951 ...............................
املبحث اْلامس
حكم االستثناء يف اإلميان 992 ..........................................
املبحث السادس
كلما عظم اإلميان ،اشتد اْلوف من الكفر والنفاق 996 ...................
الفصل اْلامس
الطاغوت وصفة الكفر به 991 ..........................................
املبحث األول
معى الطاغوت وبعض أفراده 925 .......................................
املبحث الثاي
رءوس الطواغيت ،وصفة الكفر هبا 924 ..................................
املبحث الثالث
تكفري الطاغوت وشيعته ،والرباءة منهم ،شرط يف صحة اإلسالم 924 ........
املبحث الرابع
الكفر بالطاغوت شطر التوحيد ،والتوحيد أساس اإلميان 921 ...............
الفصل السادس
احلكم هلل وحده وحكم من بدل شرائع اإلسالم 932 .......................
املبحث األول
الطاعة يف التحليل والتحرمي 934 .........................................
املبحث الثاي
أمر اهلل املؤمنني برد كل ما تناوعوا فيه من أصول دينهم 935 ................
-614-
املبحث الثالث
من أعظم الفساد يف األرض :التحاكم إىل غري اهلل ورسوله931 ............ ،
املبحث الرابع
من خرج عن حكم اهلل ،وعدل إىل ما سواه من األحكام اجلاهلية 942 .......
املبحث اْلامس
أميا طائفة امتنعت عن شريعة من شرائع اإلسالم 962 ......................
الفصل السابع
حقيقة الوالء والرباء 966 ................................................
املبحث األول
األدلة الدالة من القرآن والسنة ،والسرية النبوية 964 ........................
املبحث الثاي
مواالة املسلمني ،والرباءة من املشركني 959 ................................
املبحث الثالث
الرباءة من املشركني شرط لصحة التوحيد وقبوله 954 .......................
املبحث الرابع
مواالة املشركني وصوره املكفرة ،والغري مكفرة951 ..........................
املبحث اْلامس
مواالة املشركني املنتسبني للملة 949 ......................................
املبحث السادس
إذا تعذر علو التوحيد ،وإظهار الرباءة من املشركني يف بلد 944 ..............
الفصل الثامن
األمساء والصفات 941 .................................................
ومنهج السلف يف اإلميان هبا 941 .......................................
-616-
املبحث األول
منهج السلف الصاحل يف اإلميان بأمساء اهلل وصفاته 919 ....................
املبحث الثاي
داللة أمساء اهلل احلسى وصفاته العال914 .................................
على أنه املعبود وحده بال شريك 914 ....................................
الفصل التاسع
القضاء والقدر ومنهج السلف يف اإلميان به 914 ..........................
املبحث األول
قواعد السلف الذهبية يف اإلميان بالقضاء والقدر 911 ......................
املبحث الثاي
وجوب التسليم لقضاء اهلل ،ومقدوراته العامة 916 .........................
«باب ما جاء يف اللَّو» 916 ............................................
املبحث الثالث
مثرات اإلميان بالقضاء والقدر 911 .......................................
ملخ مفيد 259 .....................................................
ألهم مسائل ،وفوائد الباب األول 259 ...................................
الباب الثاني
الشرك واملشركون 251 ..................................................
الفصل األول
حد الشرك ودرجاته وأنواعه وأحكامه 299 ................................ ُّ
املبحث األول
تعريف الشرك 293 .....................................................
املبحث الثاي
-615-
الشرك أكرب الكبائر ،وبيان علة عدم مغفرته 294 ..........................
املبحث الثالث
أنوا الشرك ودرجاته وأحكامه 229 ......................................
املبحث الرابع
خطر الشرك ،ووجوب احلذر منه بتجنب أسبابه 225 ......................
الفصل الثاي
العلم سبيل النجاة من الشرك 221 .......................................
وإال وقع باجلهل والتلبيس وتغيري احلقائق 221 .............................
املبحث األول
الناس مكلفون مبعرفة الشرك ،حىت تتحقق الرباءة منه239 ................. ،
فهي أصل األصول االعتقادية ،وال يصح إسالم املرء إال بالقيام هبا 239 ......
املبحث الثاي
كيف دخل الشرك يف األمة؟ 233 .......................................
املبحث الثالث
الغلو :من أعظم أسباب املروق من اإلسالم235 ......................... ،
(باب) ما جاء أن سبب كفر بن آدم234 ...............................
املبحث الرابع
اختاذ الوسائط جللب املنافع ودفع املضار 245 .............................
املبحث اْلامس
ضرورة التحذير من الشرك ووسائله 243 ..................................
املبحث السادس
التحذير من ألفاظ ال ينبغي أن تقال يف حق اهلل سبحانه 269 ..............
الفصل الثالث
-614-
الفتنة بالقبور ،واملفاسد املرتتبة عليها266 ................................ ،
مع الرد على أشهر شبهات أهلها 266 ...................................
املبحث األول
تعظيم القبور من أعظم أسباب الشرك ،وعبادة األوثان 264 ................
املبحث الثاي
ال جيوز ختصي القبور بنو من عبادة اهلل سبحانه 261 ....................
املبحث الثالث
حرمة اختاذ القبور مساجد 253 ..........................................
املبحث الرابع
أشهر شبهات أهل القبور ،والرد الباهر عليها 249 .........................
الفصل الرابع
الشفاعة ،أنواعها ،وشروطها وأسباب حتصيلها ،وموانع احلرمان منها 214 .....
املبحث األول
الشفاعة شروطها وأنواعها 211 ..........................................
املبحث الثاي
عدم فقه الفرق بني الشفاعة عند اْلالق 213 ..............................
املبحث الثالث
الفرق بني الشفاعة املثبتة ،واملنفية يف القرآن العظيم 214 ....................
الفصل اْلامس
املشرك مغبون يف دينه إلخالله 353 ......................................
املبحث األول
جيب إخالص مجيع أنوا العبادة هلل وحده 356 ............................
املبحث الثاي
-611-
كل من عبد غري اهلل ،فقد أخل بكل شروط الكلمة العاصمة351 ......... ،
الفصل السادس
أشهر شبهات املشركني وعلمائهم 393 ...................................
مع سهام الردود عليها 393 .............................................
املبحث األول
الرد على أشهر شبهات املشركني 396 ....................................
املبحث الثاي
الرد على أشهر شبهات علماء املشركني 323 ..............................
الفصل السابع
األدلة اجللية من الشريعة الربانية 331 .....................................
املبحث األول
داللة الكتاب ،والسنة ،واإلمجا ،بفهم األئمة العلماء349 ................ ،
املبحث الثاي
فعل اإلنسان يف الظاهر دليل على عقيدته يف الباطن 345 ..................
الفصل الثامن
علة قتال املشركني ،ووجوب الرباءة منهم341 ............................ ،
املبحث األول
اآلثار الوخيمة النامجة عن اْلروج على أصل الوالء والرباء 369 ..............
املبحث الثاي
اإلمجا على حرمة التحيز للمشركني ،وجمامعتهم364 ..................... ،
املبحث الثالث
تعريف دار الشرك ،وواجب املسلمني حنوها 355 ..........................
املبحث الرابع
-611-
وجوب قتال املشركني حىت يكون الدين كله هلل 354 .......................
ملخ مفيد ألهم مسائل وفوائد الباب الثاي 351 ........................
الباب الثالث
األحكام املرتتبة 343 ...................................................
على مفهوم التوحيد والشرك 343 ........................................
الفصل األول
شروط عصمة الدم واملال 346 ..........................................
املبحث األول
شروط عصمة الدم واملال 344 ..........................................
املبحث الثاي
اللفظ اجملرد عن املعى ال يدخل صاحبه يف اإلسالم 315 ...................
املبحث الثالث
اقرتان النطق بالشهادتني مع فعل الشرك ،ال أثر له 314 ....................
املبحث الرابع
من أتى بالتوحيد ول يأت مبا ينافيه والتزم شرائع اإلسالم 315 ...............
الفصل الثاي
حكم الشك يف كفر الكافر ،وصوره311 ................................ .
املبحث األول
تكفري املشركني املستند إىل الربهان والدليل من أعظم دعائم الدين 319 ......
املبحث الثاي
حكم الشك يف كفر الكافر ،وصوره ومناطاته ،وبأدىن نظر فيها314 .........
املبحث الثالث
مىت يعذر الشاك يف كفر الكافر 314 .....................................
-615-
املبحث الرابع
عدم تكفري املشركني ،أو الشك يف كفرهم ،يوجب اجلهاد ألهله 459 ........
الفصل الثالث
العذر باجلهل 453 .....................................................
املبحث األول
الزمان ،زمان فرتة 456 ..................................................
املبحث الثاي
حكم من مات يف الفرتة مشرًكا ول تقم عليه حجة البالغ 455 .............
املبحث الثالث
من َعبَد غري اهلل فليس مبسلم ،ولو كان جاهالً 451 .......................
املبحث الرابع
مقتطفات من رساليت إلمامني من أئمة الدعوة يف حكم العذر باجلهل 494 ...
مقتطفات من الرسالة األوىل 491 ........................................
(حكم تكفري املعني والفرق بني قيام احلجة ،وفهم احلجة) 491 .............
مقتطفات من الرسالة الثانية بقلم الشيخ عبد الرمحن بن حسن بن حممد بن عبد
الوهاب 432 ..........................................................
املبحث اْلامس
األدلة الصحيحة الصرحية الدالة على ثبوت وصف الشرك 445 ..............
املبحث السادس
حرمة الشرك األكرب وفاقية التحرمي ،وإمجاعية املنع والتأثيم 445 ..............
املبحث السابع
العذر باْلطأ يف الشرك األكرب ،يلزم منه عدم تكفري طوائف 465 ............
الفصل الرابع
-619-
العالقة بني إقامة احلجة ،والكفر ،وأحكامه455 ...........................
املبحث األول
عبادة اهلل وحده ال شريك له ،احلجة عليها بلوغ القرآن 452 ................
املبحث الثاي
العقوبة واملؤاخذة ال تكون إال بعد إقامة احلجة 455 .......................
ويكفي يف إقامتها جمرد بيان التوحيد بدليله 455 ...........................
الفصل اْلامس
املعني 451 .....................................
أنوا الكفر وحكم تكفري ي
املبحث األول
أنوا الكفر والنفاق األكرب واألصغر445 ................................ .
املبحث الثاي
ميت يصح التكفري وما هي مقومات احلكم به442 .........................
املبحث الثالث
املشرك اجلاهل ،الذي ل تقم عليه حجة البالغ 446 .......................
املبحث الرابع
فهم وتأويل أئمة الدعوة ملوقف الشيخني 414 .............................
املبحث اْلامس
تكفري ملعينني صادر من أئمة الدعوة رمحهم اهلل تعاىل 411 ..................
الفصل السادس
أحكام الديار 414 .....................................................
املبحث األول
تعريف دار اإلسالم ،ودار الشرك 415 ....................................
املبحث الثاي
-612-
صفة الدار اليت جتب اهلجرة منها إالَّ ملن قدر على إظهار دينه 411 ..........
املبحث الثالث
األدلة الدالة على وجوب التباعد عن املشركني 654 ........................
املبحث الرابع
أحكام وأحوال املقيم بني أظهر املشركني 693 .............................
الفصل السابع
أحكام القتال ومشروعية اجلهاد 695 .....................................
املبحث األول
القتال يف اإلسالم منوط باإلصرار على فعل الشرك 691 ....................
املبحث الثاي
جمرد االعتصام باإلسالم مع عدم االلتزام بشرائعه 623 ......................
املبحث الثالث
بعض األسباب املوجبة لقتال أهلها 621 ..................................
املبحث الرابع
املراد من إنكار النيب على أحد أصحابه 632 ...........................
املبحث اْلامس
اجلهاد ال يسقط حبال عن األمة 634 ....................................
الفصل الثامن
الردة واملرتدين 631 ..............................
نواقض اإلسالم وأحكام َّ
املبحث األول
تعريف الردة ،وأمهية اإلحاطة برءوس مسائلها 631 .........................
املبحث الثاي
الردة ،مع ذكر أهم أحكامهما 644 ............................. متعلقات َّ
-613-
قطوف من رسالة الكلمات النافعة يف املكفرات الواقعة 644 ................
الفصل التاسع
أشهر الشبهات املثارة على أئمة الدعوة 662 ..............................
والرد الوافر عليها 662 ..................................................
املبحث األول
الرد على شبهة التنق مبقام الرب سبحانه 664 ...........................
املبحث الثاي
الرد على شبهة التنق حبق النيب 664 .................................
واالزدراء مبقام الرسالة 664 ..............................................
املبحث الثالث
الرد على شبهة تكفري املسلمني واعتزاهلم 655 .............................
املبحث الرابع
الرد على أشهر الشبهات املثارة يف حق إمام الدعوة 655 ...................
حممد بن عبد الوهاب رمحه اهلل تعاىل 655 ................................
ملخ مفيد ألهم مسائل وفوائد الباب الثالث 645 ......................
اْلاَتة 645 ...........................................................
فهرس املراجع واملصادر 641 ............................................
فهرست املوضوعات 612 ...............................................
-614-