You are on page 1of 44

‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪5‬‬

‫نص الحديث‬
‫عن عمر بن اخلطاب ‪ ‬قال‪ :‬بينما حنن جلوس عند رسول اهلل‬
‫‪ ‬ذات يوم‪ ،‬إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب‪ ،‬شديد سواد‪،‬‬
‫الش عر ال ي رى عليه أثر الس فر‪ ،‬وال يعرفه منا أحد‪ ،‬حىت جلس إىل‬
‫النيب ‪ ،‬فأسند ركبتيه إىل ركبتيه‪ ،‬ووضع كفيه على فخذيه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫يا حممد! أخ ربين عن اإلس الم‪ ،‬فق ال رس ول اهلل ‪« :‬اإلس الم أن‬
‫تش هد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأن محم ًدا رس ول اهلل‪ ،‬وتقيم الص الة‪،‬‬
‫وت ؤتي الزك اة‪ ،‬وتص وم رمض ان‪ ،‬وتحج ال بيت إن اس تطعت إليه‬
‫س بيال» ق ال‪ :‬ص دقت‪ ،‬ق ال‪ :‬فعجبنا له! يس أله ويص دقه‪ .‬ق ال‪:‬‬
‫ف أخربين عن اإلميان‪ ،‬ق ال‪« :‬أن ت ؤمن باهلل‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬وكتبه‪،‬‬
‫ورسله‪ ،‬واليوم اآلخر‪ ،‬وتؤمن بالقدر خيره وشره» قال‪ :‬صدقت‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬ف أخربين عن اإلحس ان‪ ،‬ق ال‪« :‬أن تعبد اهلل كأنك ت راه‪ ،‬ف إن‬
‫لم تكن ت راه فإنه ي راك»‪ .‬ق ال‪ :‬ف أخربين عن الس اعة‪ ،‬ق ال‪« :‬ما‬
‫المس ئول عنها ب أعلم من الس ائل»‪ .‬ق ال‪ :‬ف أخربين عن أماراهتا‪،‬‬
‫ق ال‪« :‬أن تلد األمة ربتها‪ ،‬وأن ت ري الحف اة الع راة العالة رع اء‬
‫مليا‪ ،‬مث ق ال يل‪:‬‬
‫الش اء يتط اولون في البني ان»‪ ،‬مث انطلق‪ ،‬فلبثت ًّ‬
‫«يا عمر‪ ،‬أت دري من الس ائل؟» قلت‪ :‬اهلل ورس وله أعلم‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫«فإنه جبريل‪ ،‬أتاكم يعلمكم دينكم» رواه مسلم‪.‬‬
‫‪6‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫شرح الحديث‬
‫هذا احلديث تفرد به مسلم عن البخاري بإخراجه فخرجه من‬
‫طريق كهمس عن عبد اهلل بن بري دة عن حيىي بن يعمر ق ال‪ :‬ك ان‬
‫أول من ق ال يف الق در بالبص رة معبد اجلهني ف انطلقت أنا ومحيد بن‬
‫عبد ال رمحن احلم ريي ح اجني أو معتم رين فقلنا‪ :‬لو لقينا أح ًدا من‬
‫أص حاب رس ول اهلل ‪ ‬فس ألناه عما يق ول ه ؤالء يف الق در فوفق لنا‬
‫عبد اهلل بن عمر بن اخلط اب رضي اهلل عنهما داخال املس جد‪،‬‬
‫فاكتنفته أنا وص احيب أح دنا عن ميينه واآلخر عن مشاله فظننت أن‬
‫ص احيب س يكل الكالم إىل فقلت‪ :‬أبا عبد ال رمحن إنه قد ظهر قبلنا‬
‫ن اس يق رءون الق رآن ويتقف رون العلم وذكر من ش أهنم‪ ،‬وأهنم‬
‫يزعم ون أن ال ق در‪ ،‬وأن األمر أنف فق ال‪ :‬إذا لقيت أولئك‬
‫ف أخربهم أىن ب ريء منهم وأهنم ب رآء مين‪ ،‬وال ذي حيلف به عبد اهلل‬
‫ابن عمر لو أن ألح دهم مثل أحد ذهبً ا فأنفقه ما قبل اهلل منه حىت‬
‫يؤمن بالقدر مث قال‪ :‬حدثين أيب عمر بن اخلطاب ‪ ‬قال‪ :‬بينما حنن‬
‫عند رسول اهلل ‪ ..‬فذكر احلديث بطوله‪.‬‬
‫مث خرجه من ط رق أخ رى بعض ها يرجع إىل عبد اهلل بن بري دة‬
‫وبعض ها يرجع إىل حيىي بن يعمر وذكر أن يف بعض ألفاظها زي ادة‬
‫ونقص انا وخرجه ابن حب ان يف ص حيحه من طريق س ليمان ال تيمي‬
‫عن حيىي بن يعمر وقد خرجه مسلم من هذا الطريق إال أنه مل يذكر‬
‫لفظه وفيه زيادات منها يف اإلسالم‪ ،‬قال‪« :‬وتحج وتعتمر وتغتسل‬
‫من الجنابة‪ ،‬وأن تتم الوض وء‪ ،‬وتص وم رمض ان» ق ال‪ :‬ف إذا أنا‬
‫فعلت ذلك فأنا مس لم؟ ق ال‪« :‬نعم» وق ال يف اإلميان‪« :‬وت ؤمن‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪7‬‬
‫بالجنة والن ار والم يزان»‪ ،‬ق ال‪ :‬ف إذا فعلت ذلك فأنا م ؤمن؟ ق ال‪:‬‬
‫«نعم»‪ ،‬وقال يف آخره‪« :‬هذا جبريل أتاكم ليعلمكم أمر دينكم‪،‬‬
‫خ ذوا عنه‪ ،‬والذي نفسي بيده ما ش به على منذ أت اني قبل مرتي‬
‫هذه وما عرفته حتى ولى»(‪ )1‬وخرجاه يف الصحيحني من حديث‬
‫يوما ب ارزا للن اس‪ ،‬فأت اه رجل‬ ‫أيب هري رة ‪ ‬ق ال‪ :‬ك ان رس ول اهلل ‪ً ‬‬
‫فق ال‪ :‬ما اإلميان؟ ق ال‪« :‬اإليم ان أن ت ؤمن باهلل‪ ،‬ومالئكته‪،‬‬
‫وكتابه‪ ،‬وبلقائه‪ ،‬ورس له‪ ،‬وت ؤمن ب البعث اآلخر» ق ال‪ :‬يا رس ول‬
‫اهلل! ما اإلس الم؟ ق ال‪« :‬اإلس الم أن تعبد اهلل ال تش رك به ش يئًا‪،‬‬
‫وتقيم الص الة المكتوبة‪ ،‬وت ؤدي الزك اة المفروضة‪ ،‬وتص وم‬
‫رمض ان»‪ ،‬ق ال‪ :‬يا رس ول اهلل! ما اإلحس ان؟ ق ال‪« :‬أن تعبد اهلل‬
‫كأنك تراه‪ ،‬فإن ك إن ال تراه فإنه يراك» قال‪ :‬يا رسول اهلل! مىت‬
‫الس اعة؟ ق ال‪« :‬ما المس ئول عنها ب أعلم من الس ائل‪ ،‬ولكن‬
‫س أحدثك عن أش راطها؛ إذا ول دت األمة ربتها فذاك من‬
‫أش راطها‪ ،‬وإذا رأيت الحف اة الع راة رءوس الن اس فذاك من‬
‫أشراطها‪ ،‬وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها‪،‬‬
‫في خمس ال يعلمهن إال اهلل» مث تال رسول اهلل ‪ِ: ‬إ َّن اللَّهَ عن َدهُ‬
‫ِ‬
‫ث َو َي ْعلَم َما فِي ْ ِ‬ ‫اع ِة َو ُيَن ِّز ُل الْغَْي َ‬ ‫ِ‬
‫اَألر َح ام َو َما تَ ْد ِري َن ْف ٌ‬
‫س‬ ‫ُ‬ ‫الس َ‬‫ْم َّ‬
‫عل ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وت ِإ َّن اللَّهَ َعل ٌ‬
‫يم‬ ‫ض تَ ُم ُ‬‫َأي َْأر ٍ‬ ‫ب غَ ًدا َو َما تَ ْد ِري َن ْف ٌ‬
‫س بِ ِّ‬ ‫َّماذَا تَ ْكس ُ‬
‫بِير‪[ ‬لقم ان‪ ،]34 :‬ق ال‪ :‬مث أدبر الرجل‪ ،‬فق ال رس ول اهلل ‪:‬‬ ‫َخ ٌ‬
‫«على بالرجل‪ ،‬فأخ ذوا ل يردوه فلم ي روا ش يًئا» فق ال رس ول اهلل‬

‫‪1‬‬
‫(?)أخرجه ابن حبان يف صحيحه برقم (‪.)173‬‬
‫‪8‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫‪« :‬هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم»(‪ )1‬وخرجه مسلم بسياق‬
‫أمت من ه ذا‪ ،‬وفيه يف خص ال اإلميان‪« :‬وت ؤمن بالق در كله»‪ ،‬وق ال‬
‫يف اإلحسان‪« :‬أن تخشى اهلل كأنك تراه»(‪.)2‬‬
‫وخرجه اإلم ام أمحد يف مس نده(‪ )3‬من ح ديث ش هر بن‬
‫حوشب‪ ،‬عن ابن عب اس رضي اهلل عنهما‪ ،‬ومن ح ديث ش هر بن‬
‫أيض ا عن ابن ع امر أو أيب ع امر أو أيب مالك‪ ،‬عن النيب ‪،‬‬
‫حوشب ً‬
‫ويف حديثه ق ال‪ :‬ونس مع رجع النيب ‪ ،‬وال ن رى ال ذي يكلمه‪ ،‬وال‬
‫نس مع كالمه‪ ،‬وه ذا ي رده ح ديث عمر ال ذي خرجه مس لم وهو‬
‫أصح‪ .‬وقد روي حديث عمر عن النيب ‪ ‬من حديث أنس بن مالك‬
‫جدا؛‬
‫وجرير بن عبد اهلل البجلي وغريمها‪ ،‬وهو حديث عظيم الشأن ً‬
‫يش تمل على ش رح ال دين كله وهلذا ق ال النيب ‪ ‬يف آخ ره‪« :‬ه ذا‬
‫جبريل أت اكم يعلمكم دينكم»‪ ،‬بعد أن ش رح درجة اإلس الم‪،‬‬
‫ودرجة اإلميان‪ ،‬ودرجة اإلحس ان؛ فجعل ذلك كله دينا‪ ،‬واختلفت‬
‫الرواية يف تق دمي اإلس الم على اإلميان وعكسه‪ ،‬ففي ح ديث عمر‬
‫ال ذي خرجه مس لم أنه ب دأ بالس ؤال عن اإلس الم‪ ،‬ويف ح ديث‬
‫الرتم ذي وغ ريه أنه ب دأ بالس ؤال عن اإلميان‪ ،‬كما يف ح ديث أيب‬
‫هري رة ‪ ،‬وج اء يف بعض رواي ات ح ديث عمر أنه س أله عن‬
‫اإلحسان بني اإلسالم واإلميان‪.‬‬
‫فأما اإلس الم فقد فس ره النيب ‪ ‬بأعم ال اجلوارح الظ اهرة من‬

‫‪1‬‬
‫(?) رواه البخاري (‪ ،)4777( ،)50‬ومسلم (‪ )9‬واللفظ له‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) رواه مسلم برقم (‪.)10‬‬
‫‪3‬‬
‫(?) (‪.)1/319‬‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪9‬‬
‫الق ول والعمل‪ ،‬وأول ذلك «ش هادة أن ال إله إال اهلل وأن محم ًدا‬
‫رس ول اهلل»‪ ،‬وهو عمل اللس ان مث «إق ام الص الة وإيت اء الزك اة‪،‬‬
‫وص وم رمض ان‪ ،‬وحج ال بيت من اس تطاع إليه س بيال» وهي‬
‫منقسمة إىل عمل بدين كالصالة والصوم‪ ،‬وإىل عمل مايل وهو إيتاء‬
‫الزك اة‪ ،‬وإىل ما هو م ركب منهما ك احلج بالنس بة إىل البعيد عن‬
‫مكة‪ .‬ويف رواية ابن حب ان أض اف إىل ذلك‪ :‬االعتم ار والغسل من‬
‫اجلنابة وإمتام الوضوء ويف هذا تنبيه على أن مجيع الواجبات الظاهرة‬
‫داخلة يف مس مى اإلس الم‪ ،‬وإمنا ذكر ههنا أص ول أعم ال اإلس الم‬
‫اليت ينبين عليها كما س يأتى ش رح ذلك يف ح ديث ابن عمر رضي‬
‫اهلل عنهما‪« :‬ب ني اإلس الم على خمس‪ »...‬يف موض عه إن ش اء اهلل‬
‫تعاىل‪.‬‬
‫وقوله يف بعض الرواي ات‪ :‬ف إذا فعلت ذلك فأنا مس لم؟ ق ال‪:‬‬
‫«نعم»‪ ،‬يدل على أن من أكمل اإلتيان مبباين اإلسالم اخلمس صار‬
‫حكم ا‪ ،‬ف إذا‬
‫لما ً‬ ‫لما حقا‪ ،‬مع أن من أقر بالش هادتني ص ار مس ً‬‫مس ً‬
‫دخل يف اإلسالم بذلك ألزم بالقيام ببقية خصال اإلسالم‪ ،‬ومن ترك‬
‫الشهادتني خرج من اإلسالم‪ ،‬ويف خروجه من اإلسالم برتك الصالة‬
‫خالف مش هور بني العلم اء‪ ،‬وك ذلك يف تركه بقية مب اين اإلس الم‬
‫اخلمس‪ ،‬كما سنذكره يف موضعه إن شاء اهلل تعاىل‪ .‬ومما يدل على‬
‫أن مجيع األعم ال الظ اهرة ت دخل يف مس مى اإلس الم قوله ‪:‬‬
‫«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»(‪.)1‬‬
‫ويف الص حيحني عن عبد اهلل بن عم رو رضي اهلل عنهما؛ أن‬
‫‪1‬‬
‫(?) البخاري (‪ ،)6484( ،)10‬ومسلم (‪.)40‬‬
‫‪10‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫رجاًل س أل النيب ‪ :‬أي اإلس الم خري؟ ق ال‪« :‬أن تطعم الطع ام‪،‬‬
‫وتقرأ السالم على من عرفت ومن لم تعرف»(‪.)1‬‬
‫ويف ص حيح احلاكم عن أيب هري رة ‪ ،‬عن النيب ‪ ‬ق ال‪« :‬إن‬
‫وءا ومن ارًا كمن ار الطريق»‪ ،‬بني ذلك‪« :‬أن تعبد اهلل‬
‫لإلس الم ض ً‬
‫وال تش رك به ش يًئا‪ ،‬وتقيم الص الة‪ ،‬وت ؤتي الزك اة‪ ،‬وتص وم‬
‫رمض ان‪ ،‬واألمر ب المعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وتس ليمك على‬
‫ب ني آدم إذا لقيتهم‪ ،‬وتس ليمك على أهل بيتك إذا دخلت‬
‫عليهم‪ ،‬فمن انتقص منهن شيًئا فهو سهم من اإلسالم تركه‪ ،‬ومن‬
‫يتركهن فقد نبذ اإلسالم وراء ظهره»(‪.)2‬‬
‫وخرج ابن مردويه من حديث أيب الدرداء ‪ ،‬عن النيب ‪ ‬قال‪:‬‬
‫«لإلس الم ض ياء ون ور وعالم ات كمن ار الطريق‪ ،‬فرأس ها‬
‫وجماعها‪ :‬شهادة أن ال إله إال اهلل وأن محم ًدا رسول اهلل‪ ،‬وإقام‬
‫الص الة‪ ،‬وإيت اء الزك اة‪ ،‬وإتم ام الوض وء‪ ،‬والحكم بكت اب اهلل‬
‫وس نة نبيه ‪ ،‬وطاعة والة األمر‪ ،‬وتس ليمكم على أنفس كم‪،‬‬
‫وتسليمكم على أهليكم إذا دخلتم بيوتكم‪ ،‬وتسليمكم على ب ني‬
‫آدم إذا لقيتموهم»‪.‬‬
‫ويف إسناده ضعف ولعله موقوف (‪.)3‬‬
‫وصح من ح ديث أيب إس حاق عن ص لة بن زفر عن‬ ‫َّ‬
‫حذيفة ‪ ‬ق ال‪« :‬اإلس الم ثمانية أس هم؛ اإلس الم س هم والص الة‬

‫‪1‬‬
‫(?) رواه البخاري (‪ ،)6236( ،)28( ،)12‬ومسلم (‪.)1013‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) صحيح احلاكم (‪.)1/21‬‬
‫‪3‬‬
‫(?) أورده اهليثمي يف اجملمع (‪ ،)1/38‬ونسبه إىل الطرباين يف الكبري‪.‬‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪11‬‬
‫س هم والزك اة س هم والجه اد س هم وص وم رمض ان س هم ولعل‬
‫الس هم الث امن الحج واألمر ب المعروف س هم والنهي عن المنكر‬
‫سهم وخاب من ال سهم له»‪.‬‬
‫مرفوعا واملوقوف أصح (‪.)1‬‬
‫ً‬ ‫وخرجه البزار‬
‫ورواه بعض هم عن أيب إس حاق عن احلارث عن علي بن أيب‬
‫ط الب ‪ ‬عن النيب ‪ ،‬خرجه أبو يعلى املوص لي وغ ريه‪ ،‬واملوق وف‬
‫على حذيفة أصح‪ .‬قال الدارقطين وغريه‪ :‬وقوله يعين اإلسالم سهم؛‬
‫أي الش هادتني؛ ألهنما علم اإلس الم‪ ،‬وهبما يصري اإلنس ان مس لما‪،‬‬
‫أيض ا كما روي‬‫وك ذلك ت رك احملرم ات داخل يف مس مى اإلس الم ً‬
‫عن النيب ‪ ‬أنه ق ال‪« :‬من حسن إس الم الم رء تركه ما ال يعنيه»‪.‬‬
‫وسيأيت يف موضعه إن شاء اهلل تعاىل‪.‬‬
‫أيض ا ما خرجه اإلم ام أمحد والرتم ذي‬ ‫وي دل على ه ذا ً‬
‫والنس ائي من ح ديث العرب اض بن س ارية رضي اهلل عنهم عن‬
‫النيب ‪ ،‬ق ال‪« :‬ض رب اهلل مثاًل ص راطا مس تقيما‪ ،‬وعلى جنب تي‬
‫الص راط س وران فيهما أب واب مفتحة‪ ،‬وعلى األب واب س تور‬
‫داع يق ول‪ :‬ي ا أيها الن اس ادخل وا‬
‫مرخ اة‪ ،‬وعلى ب اب الص راط ٍ‬
‫الص راط جميعا وال تعوج وا‪ ،‬وداع ي دعو من ج وف الص راط‪،‬‬
‫ف إذا أراد أحد أن يفتح ش يًئا من تلك األب واب ق ال‪ :‬ويحك ال‬
‫تفتحه فإنك إن تفتحته تلجه؛ والص راط اإلس الم والس وران‬
‫ح دود اهلل عز وجل واألب واب المفتحة مح ارم اهلل‪ ،‬وذلك‬
‫ال داعي على رأس الص راط كت اب اهلل‪ ،‬وال داعي من ج وف‬

‫‪1‬‬
‫(?)أخرجه البزار برقم (‪.)336‬‬
‫‪12‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬

‫الص راط واعظ اهلل في قلب كل مس لم» ‪ .‬زاد الرتم ذي ‪َ ‬واللَّهُ‬


‫(‪)2‬‬

‫يم‪[ ‬ي ونس‪:‬‬ ‫صر ٍ‬


‫اط ُّم ْستَ ِق ٍ‬ ‫ِإ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يَ ْدعُو ِإلَى َدا ِر َّ ِ‬
‫السالَم َو َي ْهدي َمن يَ َشاء لَى َ‬
‫‪.]25‬‬
‫ففي ه ذا املثل ال ذي ض ربه النيب ‪ ‬أن اإلس الم هو الص راط‬
‫املس تقيم ال ذي أمر اهلل باالس تقامة عليه‪ ،‬وهنى عن جماوزة ح دوده‬
‫وأن من ارتكب شيًئا من احملرمات فقد تعدى حدوده‪ .‬وأما اإلميان‬
‫فقد فس ره النيب ‪ ‬يف ه ذا احلديث باالعتق ادات الباطنة فق ال‪« :‬أن‬
‫ت ؤمن باهلل‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورس له‪ ،‬والي وم اآلخر ‪-‬البعث بعد‬
‫املوت‪ -‬وتؤمن بالقدر خيره وشره» وقد ذكر اهلل يف كتابه اإلميان‬
‫ول بِ َما‬‫الر ُس ُ‬ ‫آم َن َّ‬‫هبذه األص ول اخلمسة يف مواضع كقوله تع اىل‪َ  :‬‬
‫ِه َو ُر ُس لِ ِه‪‬‬
‫اهلل وماَل ِئ َكتِ ِه و ُكتُب ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫آم َن بِ َ َ‬ ‫ُأن ِز َل ِإلَْي ِه من َّربِّه َوال ُْمْؤ منُ و َن ُك لٌّ َ‬
‫آم َن بِاللَّ ِه َوالَْي ْوِم‬
‫ْبِر َم ْن َ‬ ‫[البق رة‪ ،]285 :‬وقوله تع اىل‪َ  :‬ولَ ِك َّن ال َّ‬
‫ين‪ ‬اآلية [البق رة‪ ،]277 :‬وق ال‬ ‫ْكتَ ِ ِ‬ ‫اآلخِ ِر والْمآلِئ َك ِة وال ِ‬
‫اب َوالنَّبيَّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫اه ْم‬ ‫ِ‬ ‫تع اىل‪ :‬الَّ ِذين يْؤ ِمنُ و َن بِالْغَي ِ ِ‬
‫الص الةَ َوم َّما َر َزقْنَ ُ‬ ‫يم و َن َّ‬ ‫ب َويُق ُ‬ ‫ْ‬ ‫َُ‬
‫ك َو َما ُأنْ ِز َل ِم ْن َق ْب َ‬
‫لِك‬ ‫ين ُيْؤ ِمنُ و َن بِ َما ُأنْ ِز َل ِإلَْي َ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫يُنف ُق و َن * َوالذ َ‬
‫َوبِاآْل ِخ َر ِة ُه ْم يُوقِنُو َن‪[ ‬البقرة‪.]4-3 :‬‬
‫واإلميان بالرسل يل زم منه اإلميان جبميع ما أخ ربوا به من‬
‫املالئكة واألنبي اء والكت اب والبعث والق در وغري ذلك من تفاص يل‬
‫ما أخ ربوا به‪ ،‬وغري ذلك من ص فات اهلل تع اىل‪ ،‬وص فات الي وم‬
‫اآلخر كالص راط وامليزان واجلنة والن ار‪ ،‬وقد أدخل يف اإلميان اإلميانُ‬

‫‪2‬‬
‫(?) رواه أمحد (‪ ،)183-4/182‬والرتم ذي (‪ ،)2859‬وق ال‪ :‬حسن‬
‫غريب‪ ،‬وصححه احلاكم (‪ )1/73‬على شرط مسلم وأقره الذهيب‪.‬‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪13‬‬
‫بالق در خ ريه وش ره؛ وألجل ه ذه الكلمة روى ابن عمر رضي اهلل‬
‫حمتجا به على من أنكر الق در وزعم أن األمر‬ ‫عنهما ه ذا احلديث ً‬
‫ُأنف‪ ،‬يعين أنه مس تأنف‪ ،‬مل يس بق به س ابق ق در من اهلل عز وجل‪،‬‬
‫وقد غلظ عبد اهلل بن عمر عليهم وت ربأ منهم وأخرب أنه ال تقبل‬
‫منهم أعماهلم بدون اإلميان بالقدر‪.‬‬
‫واإليمان بالقدر على درجتين‪:‬‬
‫إح داهما‪ :‬اإلميان ب أن اهلل تع اىل س بق يف علمه ما يعمله العب اد‬
‫من خري وشر وطاعة ومعص ية قبل خلقهم وإجيادهم‪ ،‬ومن هو منهم‬
‫من أهل اجلنة‪ ،‬ومن هو منهم من أهل الن ار‪ ،‬وأعد هلم الث واب‬
‫والعق اب ج زاء ألعم اهلم قبل خلقهم وتك وينهم وأنه كتب ذلك‬
‫عن ده وأحص اه‪ ،‬وأن أعم ال العب اد جتري على ما س بق يف علم ه‬
‫وكتابه‪.‬‬
‫والدرجة الثانية‪ :‬إن اهلل خلق أفع ال العب اد كلها من الكفر‬
‫واإلميان والطاعة والعصيان‪ ،‬وشاءها منهم؛ فهذه الدرجة يثبتها أهل‬
‫الس نة واجلماعة وتنكرها القدرية‪ ،‬والدرجة األوىل أثبتها كثري من‬
‫القدرية ونفاها غالهتم كمعبد اجلهين ال ذي س ئل ابن عمر عن‬
‫مقالته‪ ،‬وكعمرو بن عبيد وغريه‪.‬‬
‫وقد ق ال كثري من أئمة الس لف‪ :‬ن اظروا القدرية ب العلم ف إن‬
‫أقروا به خصموا‪ ،‬وإن جحدوا فقد كفروا‪.‬‬
‫يريدون أن من أنكر العلم القدمي السابق بأفعال العباد‪ ،‬وأن اهلل‬
‫تع اىل قس مهم قبل خلقهم إىل ش قي وس عيد وكتب ذلك عن ده يف‬
‫كتاب حفيظ ‪ -‬فقد كذب بالقرآن فيكفر بذلك‪ ،‬وإن أقروا بذلك‬
‫‪14‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫وأنكروا أن اهلل خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية‬
‫قدرية‪ ،‬فقد خصموا؛ ألن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه‪.‬‬
‫ويف تكفري هؤالء نزاع مشهور بني العلماء وأما من أنكر العلم‬
‫الق دمي فنص الش افعي وأمحد على تكف ريه‪ ،‬وك ذلك غريمها من أئمة‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫ف إن قيل‪ :‬فقد ف رق النيب ‪ ‬يف ه ذا احلديث بني اإلس الم‬
‫واإلميان‪ ،‬وجعل األعمال كلها من اإلسالم ال من اإلميان‪ ،‬واملشهور‬
‫عن السلف وأهل احلديث أن اإلميان قول وعمل ونية‪ ،‬وأن األعمال‬
‫كلها داخلة يف مس مى اإلميان‪ .‬وحكى الش افعي على ذلك إمجاع‬
‫الص حابة والت ابعني ومن بع دهم ممن أدركهم‪ ،‬وأنكر الس لف على‬
‫شديدا‪ ،‬وممن أنكر ذلك على‬ ‫ً‬ ‫إنكارا‬
‫من أخرج األعمال من اإلميان ً‬
‫قائله وجعله ق واًل حمدثا س عيد بن جبري وميم ون بن مه ران وقت ادة‬
‫خِتيانِي والنخعي والزه ري وإب راهيم وحيىي بن أيب كثري‬ ‫وأي وب السَّ ْ‬
‫وغ ريهم وق ال الث وري‪ :‬هو رأي حمدث أدركنا الن اس على غ ريه‪،‬‬
‫وق ال األوزاعي‪ :‬ك ان من مضى من الس لف ال يفرق ون بني العمل‬
‫واإلميان‪ ،‬وكتب عمر بن عبد العزيز إىل أهل األمص ار‪ :‬أما بعد ف إن‬
‫دودا وس ننًا‪ ،‬فمن اس تكملها اس تكمل‬ ‫لإلميان ف رائض وش رائع وح ً‬
‫اإلميان‪ ،‬ومن مل يس تكملها مل يس تكمل اإلميان‪ .‬ذك ره البخ اري يف‬
‫صحيحه(‪ .)1‬قيل‪ :‬األمر على ما ذكره وقد دل على دخول األعمال‬
‫ت‬‫كِر اللَّهُ َو ِجلَ ْ‬ ‫يف اإلميان قوله تع اىل‪ِ :‬إنَّ َما ال ُْمْؤ ِمنُ و َن الَّ ِذ َ ِإ‬
‫ين ذَا ذُ َ‬
‫اد ْت ُه ْم ِإ َ‬
‫يمانًا َو َعلَى َربِّ ِه ْم َيَت َو َّكلُ و َن‬ ‫وب ُه ْم َوِإذَا تُلِيَ ْ‬
‫ت َعلَْي ِه ْم آيَاتُ هُ َز َ‬ ‫ُقلُ ُ‬
‫‪1‬‬
‫(?) تعلي ًقا يف كتاب اإلميان‪ ،‬باب قول النيب ‪« :‬بين اإلسالم على مخس»‪.‬‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪15‬‬

‫اه ْم ُي ْن ِف ُق و َن * ُأولَِئ َ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫ِ‬ ‫* الَّ ِذ ِ‬
‫الص اَل ةَ َوم َّما َر َزقْنَ ُ‬
‫يم و َن َّ‬
‫ين يُق ُ‬
‫َ‬
‫ال ُْمْؤ ِمنُو َن َح ًّقا‪[ ‬األنفال‪.]4-2 :‬‬
‫ويف الصحيحني عن ابن عباس رضي اهلل عنهما أن النيب ‪ ‬قال‬
‫لوفد عبد القيس‪« :‬آم ركم ب أربع‪ :‬اإليم ان باهلل وح ده‪ ،‬وهل‬
‫ت درون ما اإليم ان باهلل؟ ش هادة أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وإق ام الص الة‪،‬‬
‫وإيت اء الزك اة‪ ،‬وص وم رمض ان‪ ،‬وأن تعط وا من المغنم‬
‫الخمس»(‪.)1‬‬
‫ويف الص حيحني عن أيب هري رة ‪ ‬عن النيب ‪ ‬ق ال‪« :‬اإليم ان‬
‫بضع وس بعون ‪ -‬أو‪ :‬بضع وس تون ش عبه ‪ -‬فأفض لها ق ول ال إله‬
‫إال اهلل وأدناها إماطة األذى عن الطريق والحي اء ش عبة من‬
‫اإليمان» ولفظه ملسلم(‪.)2‬‬
‫ويف الص حيحني عن أيب هري رة ‪ ‬عن النيب ‪ ‬ق ال‪« :‬ال ي زني‬
‫ال زاني حين ي زني وهو م ؤمن‪ ،‬وال يش رب الخمر حين يش ربها‬
‫وهو مؤمن‪ ،‬وال يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»(‪.)3‬‬
‫فل وال أن ت رك ه ذه الكب ائر من مس مى اإلميان ملا انتفى اسم‬
‫اإلميان عن مرتكب شيء منها ألن االسم ال ينتفى إال بانتفاء بعض‬
‫أركان املسمى أو واجباته وأما وجه اجلمع بني هذه النصوص وبني‬
‫ح ديث س ؤال جربيل عليه الس الم عن اإلس الم واإلميان وتفريق‬
‫النيب ‪ ‬بينهما وإدخاله األعم ال يف مس مى اإلس الم دون مس مى‬
‫‪1‬‬
‫(?) البخاري (‪ ،)523‬ومسلم (‪.)17‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) البخاري (‪ ،)9‬ومسلم (‪.)35‬‬
‫‪3‬‬
‫(?) البخاري (‪ ،)2475‬و(‪ ،)5578‬و(‪ ،)6772‬و(‪ ،)6810‬ومسلم (‬
‫‪.)57‬‬
‫‪16‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬

‫اإلميان فإنه يتضح بتقرير أصل وهو أن من األمساء ما يك ون ش اماًل‬


‫ملس ميات متع ددة عند إف راده وإطالقه ف إذا ق رن ذلك االسم بغ ريه‬
‫داال على بعض تلك املس ميات واالسم املق رون به دال على‬ ‫ص ار ًّ‬
‫باقيها وهذا كاسم الفقري واملسكني فإذا أفرد أحدمها دخل فيه كل‬
‫من هو حمت اج ف إذا ق رن أح دمها ب اآلخر دل أحد االمسني على بعض‬
‫أن واع ذوي احلاج ات واآلخر على باقيها فكه ذا اسم اإلس الم‬
‫واإلميان‪ ،‬إذا أف رد أح دمها دخل فيه اآلخر‪ ،‬ودل ب انفراده على ما‬
‫ي دل عليه اآلخر ب انفراده ف إذا قرن بينهما دل أحدمها على بعض ما‬
‫يدل عليه بانفراده ودل اآلخر على الباقي‪.‬‬
‫وقد ص رح هبذا املعىن مجاعة من األئمة‪ ،‬ق ال أبو بكر‬
‫اإلمساعيلي يف رس الته إىل أهل اجلبل‪ :‬ق ال كثري من أهل الس نة‬
‫واجلماعة إن اإلميان ق ول وعمل واإلس الم فعل ما ف رض اهلل على‬
‫موما إىل آخر‬‫اإلنس ان أن يفعله‪ ،‬إذا ذكر كل اسم على حدته مض ً‬
‫فقيل املؤمنون واملسلمون مجيعا مفردين أريد بأحدمها معىن مل يرد به‬
‫اآلخر وإذا ذكر أحد االمسني مشل الكل وعمهم‪.‬‬
‫(‪) 1‬‬
‫أيض ا اخلط ايب يف كتابه (مع امل الس نن)‬
‫وقد ذكر ه ذا املعىن ً‬
‫وتبعه عليه مجاعة من العلم اء من بع ده‪ ،‬وي دل على ص حة ذلك أن‬
‫ردا يف ح ديث وفد عبد القيس مبا‬ ‫النيب ‪ ‬فسر اإلميان عند ذك ره مف ً‬
‫فسر به اإلس الم املق رون باإلميان يف ح ديث جربيل‪ ،‬وفسر يف‬
‫(‪) 2‬‬
‫حديث آخر اإلسالم مبا فسر به اإلميان كما يف مسند اإلمام أمحد‬

‫‪1‬‬
‫(?) (‪.)4/313‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) (‪.)4/114‬‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪17‬‬
‫عن عم رو بن َعبَسة ق ال‪ :‬ج اء رجل إىل النيب ‪ ‬فق ال‪ :‬يا رس ول‬
‫اهلل! ما اإلسالم؟ قال‪« :‬أن تسلم قلبك هلل‪ ،‬وأن يسلم المسلمون‬
‫من لسانك ويدك»‪ ،‬قال‪ :‬فأي اإلسالم أفضل؟ قال‪« :‬اإليمان»‪،‬‬
‫قال‪ :‬وما اإلميان؟ قال‪« :‬أن تؤمن باهلل ومالئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪،‬‬
‫والبعث بعد الم وت» ق ال‪ :‬ف أي اإلميان أفضل؟ ق ال‪« :‬الهج رة»‬
‫ق ال‪ :‬فما اهلج رة؟ ق ال‪« :‬أن تهجر الس وء» ق ال‪ :‬ف أي اهلج رة‬
‫أفضل؟ ق ال‪« :‬الجه اد»‪ .‬فجعل النيب ‪ ‬اإلميان أفضل اإلس الم‪،‬‬
‫وأدخل فيه األعم ال‪ ،‬وهبذا التفص يل يظهر حتقيق الق ول يف مس ألة‬
‫اإلميان واإلس الم هل مها واحد أو مها خمتلف ان‪ ،‬ف إن أهل الس نة‬
‫واحلديث خمتلف ون يف ذلك وص نفوا يف ذلك تص انيف متع ددة‪،‬‬
‫فمنهم من يدعي أن مجهور أهل السنة على أهنما شيء واحد منهم‬
‫حممد بن نصر املروزي وابن عبد الرب وقد روي ه ذا الق ول عن‬
‫س فيان الث وري من رواية أي وب بن س ويد ال رملي عنه وأي وب فيه‬
‫ض عف‪ ،‬ومنهم من حيكي عن أهل الس نة التفريق بينهما ك أيب بكر‬
‫بن الس معاين وغ ريه وقد نقل ه ذا التفريق بينهما عن كثري من‬
‫الس لف منهم قت ادة وداود بن أيب هند وأبو جعفر الب اقر والزه ري‬
‫ومحاد بن زيد وابن مه دي وش ريك وابن أيب ذئب وأمحد بن حنبل‬
‫وأبو خيثمة وحيىي بن معني وغ ريهم على اختالف بينهم يف ص فة‬
‫التفريق بينهما‪ ،‬وكان احلسن وابن سريين يقوالن‪ :‬مسلم‪ ،‬ويهابان‪:‬‬
‫م ؤمن‪ ،‬وهبذا التفص يل ال ذي ذكرن اه ي زول االختالف‪ .‬فيق ال‪ :‬إذا‬
‫أف رد كل من اإلس الم واإلميان بال ذكر فال ف رق بينهما حينئذ‪ ،‬وإن‬
‫قرن بني االمسني كان بينهما فرق‪.‬‬
‫‪18‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫والتحقيق يف الفرق بينهما أن اإلميان هو تصديق القلب وإقراره‬
‫ومعرفته واإلس الم هو استس الم العبد هلل وخض وعه وانقي اده له‪،‬‬
‫وذلك يك ون بالعمل وهو ال دين كما مسي اهلل يف كتابه اإلس الم‬
‫دينا‪.‬‬
‫ويف ح ديث جربيل مسي النيب ‪ ‬اإلس الم واإلميان واإلحس ان‬
‫أيض ا مما ي دل على أن أحد االمسني إذا أف رد دخل فيه‬
‫دينا وه ذا ً‬
‫اآلخر‪ ،‬وإمنا يف رق بينهما حيث ق رن أحد االمسني ب اآلخر فيك ون‬
‫حينئذ املراد باإلميان جنس تصديق القلب وباإلسالم جنس العمل‪.‬‬
‫ويف املسند لإلمام أمحد عن أنس ‪ ‬عن النيب ‪ ‬قال‪« :‬اإلسالم‬
‫عالنية‪ ،‬واإليم ان في القلب»(‪ )1‬وه ذا ألن األعم ال تظهر عالنية‬
‫والتص ديق يف القلب ال يظه ر‪ ،‬وك ان النيب ‪ ‬يق ول يف دعائه إذا‬
‫صلى على امليت‪« :‬اللهم من أحييته منا فأحيه على اإلسالم‪ ،‬ومن‬
‫توفيته منا فتوفه على اإليمان»(‪)2‬؛ ألن العمل باجلوارح إمنا يتمكن‬
‫منه يف احلي اة فأما عند املوت فال يبقى غري التص ديق ب القلب ومن‬
‫هنا قال احملققون من العلماء كل مؤمن مسلم‪ ،‬فإن من حقق اإلميان‬
‫ورسخ يف قلبه ق ام بأعم ال اإلس الم‪ ،‬كما ق ال ‪« :‬أال وإن في‬
‫الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله‪ ،‬وإذا فسدت فسد‬
‫الجسد كله أال وهي القلب» فال يتحقق القلب باإلميان إال‬
‫وتنبعث اجلوارح يف أعمال اإلسالم‪ ،‬وليس كل مسلم مؤمنا فإنه قد‬

‫‪1‬‬
‫(?) (‪.)3/143‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) رواه أمحد (‪ )2/368‬من ح ديث أيب هري رة‪ ،‬وأبو داود (‪،)3201‬‬
‫والرتمذي (‪ )1024‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪19‬‬
‫تاما مع عمل‬ ‫يك ون اإلميان ض عيفا فال يتحقق القلب به حتققا ًّ‬
‫مسلما‪ ،‬وليس مبؤمن اإلميان التام‬ ‫جوارحه بأعمال اإلسالم‪ ،‬فيكون ً‬
‫آمنَّا قُل لَّ ْم تُْؤ ِمنُ وا َولَ ِكن قُولُ وا‬ ‫ِ‬
‫كما ق ال تع اىل‪ :‬قَ الَت اَأل ْع َر ُ‬
‫اب َ‬
‫َأس لَ ْمنَا َولَ َّما يَ ْد ُخ ِل اِإل يْ َم ا ُن فِي ُقلُ وبِ ُك ُم‪[ ‬احلج رات‪ ،]14 :‬ومل‬ ‫ْ‬
‫يكون وا من افقني بالكلية على أصح التفس ريين وهو ق ول ابن عب اس‬
‫وغريه‪ ،‬بل كان إمياهنم ضعيفا ويدل عليه قوله تعاىل‪َ  :‬وِإن تُ ِطيعُ وا‬
‫اللَّهَ َو َر ُس ولَهُ ال يَلِ ْت ُكم ِّم ْن َأ ْع َم الِ ُك ْم َش ْيًئا‪[ ‬احلج رات‪ ]14 :‬يعين ال‬
‫ينقص كم من أجورها‪ ،‬ف دل على أن معهم من اإلميان ما تقبل به‬
‫أعم اهلم‪ ،‬وك ذلك ق ول النيب ‪ ‬لس عد بن أيب وق اص ملا ق ال له‪ :‬مل‬
‫تعط فالنا وهو م ؤمن‪ ،‬فق ال النيب ‪« :‬أو مس لم»(‪ ،)1‬يشري إىل أنه‬
‫مل حيقق مق ام اإلميان وإمنا هو يف مق ام اإلس الم الظ اهر وال ريب أنه‬
‫ميت ض عف اإلميان الب اطن ل زم منه ض عف أعم ال اجلوارح الظ اهرة‬
‫أيض ا‪ ،‬لكن اسم اإلميان ينفى عمن ت رك ش يًئا من واجباته كما يف‬ ‫ً‬
‫قوله‪« :‬وال يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»‪ ،‬وقد اختلف أهل‬
‫الس نة هل يس مى مؤمنا ن اقص اإلميان أو يق ال‪ :‬ليس مبؤمن لكنه‬
‫مسلم على قولني؛ ومها روايتان عن أمحد‪.‬‬
‫وأما اسم اإلس الم فال ينتفي بانتف اء بعض واجباته أو انته اك‬
‫بعض حمرماته وإمنا ينفي باإلتي ان مبا ينافيه بالكلية وال يع رف يف‬
‫شيء من السنة الصحيحة نفى اإلسالم عمن ترك شيًئا من واجباته‪،‬‬
‫كما ينفي اإلميان عمن ت رك ش يًئا من واجباته‪ ،‬وإن ك ان قد ورد‬
‫أيض ا‪ ،‬وقد‬ ‫إطالق الكفر على فعل بعض احملرم ات وإطالق النف اق ً‬
‫‪1‬‬
‫(?) رواه البخاري (‪ ،)27‬و(‪ ،)1478‬ومسلم (‪.)150‬‬
‫‪20‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬

‫افرا كف ًرا أص غر أو‬ ‫اختلف العلم اء هل يس مى م رتكب الكب ائر ك ً‬


‫مناف ًقا النف اق األص غر‪ ،‬وال أعلم أن أح ًدا منهم أج از إطالق نفى‬
‫اسم اإلس الم عنه إال أنه روي عن ابن مس عود ‪ ‬أنه ق ال‪ :‬ما ت ارك‬
‫افرا ب ذلك خارجا عن‬ ‫الزك اة مبس لم‪ ،‬وحيتمل أنه ك ان ي راه ك ً‬
‫اإلسالم‪ ،‬وكذلك روي عن عمر فيمن متكن من احلج ومل حيج أهنم‬
‫ليس وا مبس لمني‪ ،‬والظ اهر أنه ك ان يعتقد كف رهم وهلذا أراد أن‬
‫يض رب عليهم اجلزية بقوله‪ :‬مل ي دخلوا يف اإلس الم بعد فهم‬
‫مس تمرون على كت ابيّتهم وإذا ت بني أن اسم اإلس الم ال ينتفي إال‬
‫بوجود ما ينافيه وخيرج عن امللة بالكلية‪ ،‬فاسم اإلسالم إذا أطلق أو‬
‫اق رتن به املدح دخل فيه اإلميان كله من التص ديق وغ ريه كما س بق‬
‫يف حديث عمرو بن عََبسة‪.‬‬
‫وخ رج النس ائي من ح ديث عقبة بن مالك أن النيب ‪ ‬بعث‬
‫سرية فغارت على قوم فقال رجل منهم‪ :‬إني مسلم‪ ،‬فقتله رجل من‬
‫شديدا‪ ،‬فقال‬‫ً‬ ‫السرية‪ ،‬فنمى احلديث إىل رسول اهلل ‪ ‬فقال فيه ق واًل‬
‫الرجل‪ :‬إمنا قاهلا تع وذا من القتل‪ ،‬فق ال النيب ‪« :‬إن اهلل أبى علي‬
‫مؤمن ا» ثالث م رات‪ ،‬فل وال أن اإلس الم املطلق ي دخل فيه‬ ‫أن أقتل ً‬
‫اإلميان والتص ديق باألص ول اخلمسة مل يصر من ق ال‪ :‬أنا مس لم ‪-‬‬
‫مؤمنا مبج رد ه ذا الق ول‪ ،‬وقد أخرب اهلل تع اىل عن ملكة س بأ أهنا‬
‫ت َن ْف ِس ي‬ ‫ب ِإنِّي ظَلَ ْم ُ‬‫دخلت يف اإلس الم هبذه الكلمة‪ ،‬ق الت‪َ  :‬ر ِّ‬
‫ين‪[ ‬النمل‪ ،]44 :‬وأخرب عن‬ ‫ِ‬ ‫ت َم َع ُس لَْي َما َن لِلَّ ِه َر ِّ‬
‫ب ال َْع الَم َ‬ ‫َأس لَ ْم ُ‬
‫َو ْ‬
‫يوسف عليه السالم أنه دعا بأن ميوت على اإلسالم‪ .‬وهذا كله يدل‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪21‬‬
‫على أن اإلسالم املطلق يدخل فيه ما يدخل يف اإلميان من التصديق‪.‬‬
‫ويف س نن ابن ماجه عن ع دي بن ح امت ق ال‪ :‬ق ال يل‬
‫رس ول اهلل ‪« :‬يا ع دي أس لم تس لم»‪ .‬قلت‪ :‬وما اإلس الم؟ ق ال‪:‬‬
‫«أن تش هد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وتش هد أنى رس ول اهلل‪ ،‬وت ؤمن‬
‫باألقدار كلها‪ ،‬خيرها وشرها‪ ،‬وحلوها ومرها»‪ .‬فهذا نص يف أن‬
‫اإلميان بالقدر من اإلسالم‪.‬‬
‫مث إن الش هادتني من خص ال اإلس الم بغري ن زاع‪ ،‬وليس املراد‬
‫اإلتي ان بلفظهما دون التص ديق هبما؛ فعلم أن التص ديق هبما داخل‬
‫يف اإلس الم‪ ،‬وقد فسر اإلس الم املذكور يف قوله تع اىل‪ِ :‬إ َّن ال د َ‬
‫ِّين‬
‫ِعن َد اللَّ ِه اِإل ْس الَ ُم‪[ ‬آل عم ران‪ ]19 :‬بالتوحيد والتص ديق طائفةٌ من‬
‫الس لف منهم حممد بن جعفر بن الزبري‪ ،‬وأما إذا نفي اإلميان عن‬
‫أحد وأثبت له اإلس الم ك األعراب ال ذين أخرب اهلل عنهم فإنه ينتفي‬
‫عنهم رس وخ اإلميان يف القلب‪ ،‬وتثبت هلم املش اركة يف أعم ال‬
‫اإلس الم الظ اهرة مع ن وع إميان يص حح هلم العمل؛ إذ ل وال ه ذا‬
‫القدر من اإلميان مل يكونوا مسلمني‪ ،‬وإمنا نفي عنهم اإلميان النتفاء‬
‫ذوق حقائقه ونقص بعض واجباته وه ذا مبين على أن التص ديق‬
‫القائم بالقلوب يتفاضل وهذا هو الصحيح‪ ،‬وهو أصح الروايتني عن‬
‫أيب عبد اهلل أمحد بن حنبل ف إن إميان الص ديقني ال ذين يتجلى الغيب‬
‫لقل وهبم حىت يصري كأنه ش هادة حبيث ال يقبل التش كيك وال‬
‫االرتي اب ليس كإميان غ ريهم ممن ال يبلغ ه ذه الدرجة حبيث لو‬
‫ش كك لدخله الشك؛ وهلذا جعل النيب ‪ ‬مرتبة اإلحس ان أن يعبد‬
‫العبد ربه كأنه ي راه‪ ،‬وه ذا ال حيصل لعم وم املؤم نني‪ ،‬ومن هنا ق ال‬
‫‪22‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫بعضهم‪ :‬ما سبقكم أبو بكر ‪ ‬بكثرة صوم وال صالة‪ ،‬ولكن بشيء‬
‫وقر يف ص دره‪ .‬وس ئل ابن عمر رضي اهلل عنهما‪ :‬هل ك انت‬
‫الص حابة رضي اهلل عنهم يض حكون؟ فق ال‪ :‬نعم وإن اإلميان يف‬
‫قل وهبم أمث ال اجلب ال‪ ،‬ف أين ه ذا ممن اإلميان يف قلبه ما ي زن ذرة أو‬
‫شعرية‪ ،‬كالذين خيرجون من أهل التوحيد من النار فهؤالء يصح أن‬
‫يقال مل يدخل اإلميان يف قلوهبم لضعفه عندهم‪ .‬وهذه املسائل أعين‬
‫جدا فإن اهلل‬
‫مسائل اإلسالم واإلميان والكفر والنفاق مسائل عظيمة ً‬
‫عز وجل علق هبذه األمساء الس عادة والش قاوة واس تحقاق اجلنة‬
‫والن ار واالختالف يف مس مياهتا أول اختالف وقع يف ه ذه األمة‪،‬‬
‫وهو خالف اخلوارج للص حابة حيث أخرج وا عص اة املوح دين من‬
‫اإلسالم بالكلية وأدخلوهم يف دائرة الكفر وعاملوهم معاملة الكفار‬
‫واس تحلوا ب ذلك دم اء املس لمني وأم واهلم مث ح دث بع دهم خالف‬
‫املعتزلة باملنزلة وقوهلم باملنزلة بني املنزلتني‪ ،‬مث حدث خالف املرجئة‬
‫وقوهلم إن الفاسق مؤمن كامل اإلميان‪.‬‬
‫وقد ص نف العلم اء ق دميًا وح ديثًا يف ه ذه املس ائل تص انيف‬
‫متع ددة وممن ص نف يف اإلميان من أئمة الس لف اإلم ام أمحد وأبو‬
‫عبيد القاسم بن س الم وأبو بكر بن أيب ش يبة وحممد بن أس لم‬
‫الطوسي وك ثرت فيه التص انيف بع دهم من مجيع الطوائف وقد‬
‫ذكرنا هاهنا نكتًا جامعة ألصول كثرية من هذه املسائل واالختالف‬
‫فيها وفيه إن شاء اهلل كفاية‪.‬‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪23‬‬

‫فصل‬
‫قد تقدم أن األعمال تدخل يف مسمى اإلسالم ومسمى اإلميان‬
‫أيضا وذكرنا ما يدخل يف ذلك من أعمال اجلوارح الظاهرة ويدخل‬ ‫ً‬
‫أيض ا أعمال اجلوارح الباطنة فيدخل يف أعمال اإلسالم‬ ‫يف مسماها ً‬
‫إخالص ال دين هلل تع اىل والنصح له ولعب اده وس المة القلب هلم من‬
‫الغش واحلسد واحلقد وتوابع ذلك من أن واع األذى وي دخل يف‬
‫مس مى اإلميان َو َج ُل القل وب من ذكر اهلل وخش وعها عند مساع‬
‫ذك ره وكتابه وزي ادة اإلميان ب ذلك وحتقيق التوكل على اهلل عز‬
‫سرًا وعالنية والرضا باهلل ربا وباإلس الم دينا‬
‫وجل وخ وف اهلل ّ‬
‫ومبحمد ‪ ‬رس واًل ‪ ،‬واختي ار تلف النف وس ب أعظم أن واع اآلالم على‬
‫الكفر واستش عار ق رب اهلل من العبد ودوام استحض اره وإيث ار حمبة‬
‫اهلل ورس وله على حمبة ما س وامها واحلب يف اهلل والبغض فيه والعط اء‬
‫له واملنع له وأن يك ون مجيع احلرك ات والس كنات له ومساحة‬
‫النف وس بالطاعة املالية والبدنية واالستبش ار بعمل احلس نات والف رح‬
‫هبا واملساءة بعمل السيئات واحلزن عليها‪ ،‬وإيثار املؤمنني لرسول اهلل‬
‫‪ ‬على أنفس هم وأم واهلم وك ثرة احلي اء وحسن اخللق وحمبة ما حيبه‬
‫خصوص ا اجلريان‬
‫ً‬ ‫لنفسه وإلخوانه املؤم نني ومواس اة املؤم نني‬
‫ومعاض دة املؤم نني ومناص رهتم واحلزن مبا حيزهنم ولن ذكر بعض‬
‫النصوص الواردة بذلك فأما ما ورد يف دخوله يف اسم اإلسالم ففي‬
‫مس ند اإلم ام أمحد والنس ائي عن معاوية بن حي دة‪ ،‬ق ال‪ :‬قلت‪ :‬يا‬
‫رس ول اهلل! بال ذي بعثك ب احلق ما ال ذي بعثك اهلل به؟ ق ال‪:‬‬
‫«اإلس الم» قلت‪ :‬وما اإلس الم؟ ق ال‪« :‬أن تس لم قلبك هلل تع الى‬
‫‪24‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫وأن توجه وجهك إلى اهلل‪ ،‬وأن تصلي الصالة المكتوبة‪ ،‬وت ؤدي‬
‫الزك اة المفروضة» ويف رواية قلت‪ :‬وما آية اإلس الم؟ ق ال‪« :‬أن‬
‫تق ول‪ :‬أس لمت وجهي هلل وتخليت‪ ،‬وتقيم الص الة‪ ،‬وت ؤتي‬
‫الزك اة‪ ،‬وكل المس لم على المس لم ح رام»(‪ ،)1‬ويف الس نن عن‬
‫جبري بن مطعم عن النيب ‪ ‬أنه ق ال يف خطبته ب اخليف من مىن‪:‬‬
‫«ثالث ال يغل عليهن قلب مس لم‪ :‬إخالص العمل هلل‪ ،‬ومناص حة‬
‫والة األم ور‪ ،‬ول زوم جماعة المس لمين؛ ف إن دع وتهم تحيط من‬
‫ورائهم»(‪ )2‬ف أخرب أن ه ذه الثالث اخلص ال تنفي الغل عن قلب‬
‫املسلم‪.‬‬
‫ويف الص حيحني عن أيب موسى عن النيب ‪ ‬أنه س ئل‪ :‬أي‬
‫املسلمني أفضل؟ فقال‪« :‬من سلم المسلمون من لسانه ويده»(‪.)3‬‬
‫ويف صحيح مسلم عن أيب هريرة ‪ ‬عن النيب ‪ ‬قال‪« :‬المسلم‬
‫أخو المس لم؛ ال يظلمه‪ ،‬وال يخذله‪ ،‬وال يحق ره‪ ،‬بحسب امرئ‬
‫من الشر أن يحقر أخاه المسلم‪ ،‬كل المسلم على المسلم ح رام‬
‫دمه وماله وعرضه»(‪.)4‬‬
‫وأما ما ورد يف دخوله يف اسم اإلميان فمثل قوله‪ِ :‬إنَّ َما‬
‫وب ُه ْم َوِإذَا تُلِيَ ْ‬ ‫ين ِإذَا ذُكِ َر اللَّهُ َو ِجلَ ْ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت َعلَْي ِه ْم آَيَاتُ هُ‬ ‫ت ُقلُ ُ‬ ‫ال ُْمْؤ منُو َن الذ َ‬
‫الص اَل ةَ َو ِم َّما‬‫يم و َن َّ‬ ‫اد ْتهم ِإيمانًا و َعلَى ربِّ ِهم يَتو َّكلُ و َن * الَّ ِذ ِ‬
‫ين يُق ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ََْ‬ ‫َز َ ُ ْ َ َ‬
‫‪1‬‬
‫(?) مسند اإلمام أمحد (‪ ،)5-5/3‬والنسائي (‪ ،5/4‬و‪ ،)83-82‬وصححه‬
‫ابن حبان (‪.)106‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) رواه أمحد (‪ ،)1/8‬والطرباين يف الكبري(‪.)1541‬‬
‫‪3‬‬
‫(?) البخاري (‪ ،)11‬ومسلم (‪.)42‬‬
‫‪4‬‬
‫(?) برقم (‪.)2564‬‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪25‬‬
‫ك ُه ُم ال ُْمْؤ ِمنُ و َن َح ًّقا‪[ ‬األنف ال‪،]4-2 :‬‬ ‫اه ْم ُي ْن ِف ُق و َن * ُأولَِئ َ‬
‫َر َزقْنَ ُ‬
‫ْأن لِلَّ ِذين آَمنُوا َأ ْن تَ ْخ َش ع ُقلُ وبهم ِ‬
‫لِذ ْك ِر اللَّ ِه َو َما َن َز َل‬ ‫وقوله‪َ :‬ألَم ي ِ‬
‫َ ُُ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬
‫ال َعلَْي ِه ُم‬ ‫اب ِم ْن َق ْب ُل فَطَ َ‬ ‫ِ‬
‫ين ُأوتُ وا الْكتَ َ‬
‫َّ ِ‬
‫ْح ِّق َواَل يَ ُكونُ وا َكالذ َ‬
‫م َن ال َ‬
‫ِ‬
‫وب ُه ْم‪[ ‬احلدي د‪ ،]16 :‬وقوله‪َ  :‬و َعلَى اللَّ ِه َفلْيََت َو َّك ِل‬ ‫ت ُقلُ ُ‬‫اَأْلم ُد َف َق َس ْ‬
‫َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‪‬‬ ‫ال ُْمْؤ منُ و َن‪ ،‬وقول ه‪َ  :‬و َعلَى اللَّه َفَت َو َّكلُ واْ ِإن ُكنتُم ُّمْؤ من َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين‪[ ‬آل عم ران‪:‬‬ ‫[املائ دة‪ ،]23 :‬وقول ه‪َ  :‬و َخ افُون ِإن ُكنتُم ُّمْؤ من َ‬
‫‪.]175‬‬
‫ويف صحيح مسلم عن العباس بن عبد املطلب عن النيب ‪ ‬قال‪:‬‬
‫«ذاق طعم اإليم ان من رضي باهلل ربا‪ ،‬وباإلس الم دينا‪ ،‬وبمحمد‬
‫رس واًل »(‪ )1‬والرضا بربوبية اهلل يتض من الرضا بعبادته وح ده ال‬
‫شريك له‪ ،‬وبالرضا بتدبريه للعبد واختياره له والرضا باإلسالم دينا‬
‫يتض من اختي اره على س ائر األدي ان والرضا مبحمد رس واًل يتض من‬
‫الرضا جبميع ما ج اء به من عند اهلل وقب ول ذلك بالتس ليم‬
‫ك اَل ُيْؤ ِمنُ و َن َحتَّى يُ َح ِّك ُم َ‬
‫وك‬ ‫واالنش راح كما ق ال تع اىل‪ :‬فَاَل َو َربِّ َ‬
‫ت‬ ‫يما َش َج َر َب ْيَن ُه ْم ثُ َّم اَل يَجِ ُدوا فِي َأْن ُف ِس ِه ْم َح َر ًجا ِم َّما قَ َ‬
‫ض ْي َ‬ ‫فَ‬
‫ِ‬
‫َويُ َسلِّ ُموا تَ ْسلِ ًيما‪[ ‬النساء‪.]65 :‬‬
‫ويف الصحيحني عن أنس عن النيب ‪ ‬قال‪« :‬ثالث من كن فيه‬
‫وجد بهن حالوة اإليم ان‪ :‬من ك ان اهلل ورس وله أحب إليه مما‬
‫س واهما‪ ،‬وأن يحب الم رء ال يحبه إال هلل‪ ،‬وأن يك ره أن يرجع‬
‫إلى الكفر بعد إذ أنقذه اهلل منه كما يكره أن يلقى في النار» ويف‬
‫رواية‪« :‬وجد بهن طعم اإليم ان» ويف بعض الرواي ات‪« :‬طعم‬

‫‪1‬‬
‫(?) رواه مسلم برقم (‪.)34‬‬
‫‪26‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫اإليمان وحالوته»(‪.)1‬‬
‫ويف الص حيحني عن أنس ‪ ‬عن النيب ‪ ‬ق ال‪« :‬ال ي ؤمن‬
‫أحدكم أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» ويف‬
‫رواية‪« :‬من أهله وماله والناس أجمعين»(‪.)2‬‬
‫ويف مس ند اإلم ام أمحد عن أيب رزين العقيلي ق ال‪ :‬قلت‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل! ما اإلميان؟ قال‪« :‬أن تشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال‬
‫ش ريك له‪ ،‬وأن محم ًدا عب ده ورس وله‪ ،‬وأن يك ون اهلل ورس وله‬
‫أحب إليك مما س واهما‪ ،‬وأن تح ترق في الن ار أحب إليك من‬
‫أن تش رك باهلل ش يًئا‪ ،‬وأن تحب غ ير ذي نسب ال تحبه إال هلل‪،‬‬
‫ف إذا كنت ك ذلك فقد دخل حب اإليم ان في قلبك كما دخل‬
‫حب الماء للظمآن في اليوم القائظ»‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل! كيف‬
‫يل بأن أعلم إني مؤمن؟ قال‪« :‬ما من أمتي ‪-‬أو قال‪ :‬هذه األمة‪-‬‬
‫خيرا‪ ،‬وال‬
‫عبد يعمل حسنة فيعلم أنها حسنة‪ ،‬وأن اهلل جازيه بها ً‬
‫يعمل س يئة فيعلم أنها س يئة‪ ،‬ويس تغفر اهلل منها‪ ،‬ويعلم أنه ال‬
‫يغفرها إال اهلل ‪ -‬إال وهو مؤمن»(‪.)3‬‬
‫ويف املس ند وغ ريه عن عمر بن اخلط اب ‪ ‬عن النيب ‪ ‬ق ال‪:‬‬
‫«من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن»(‪.)4‬‬
‫ويف مس ند بقي بن خملد عن رجل مسع رس ول اهلل ‪ ‬ق ال‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫(?) البخاري (‪ ،)21( ،)16‬و(‪ ،)6041‬و(‪ ،)6941‬ومسلم (‪.)43‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) البخاري (‪ ،)15‬ومسلم (‪.)44‬‬
‫‪3‬‬
‫(?) مسند اإلمام أمحد (‪.)12-4/11‬‬
‫‪4‬‬
‫(?) مس ند اإلم ام أمحد (‪ 1/18‬و‪ ،)26‬والرتم ذي (‪ )2166‬وق ال‪ :‬حسن‬
‫صحيح‪.‬‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪27‬‬
‫«ص ريح اإليم ان إذا أس أت أو ظلمت عب دك أو أمتك أو أح ًدا‬
‫من الناس صمت وتصدقت وإذا أحسنت استبشرت»‪.‬‬
‫ويف مس ند اإلم ام أمحد عن أيب س عيد عن النيب ‪ ‬ق ال‪:‬‬
‫«المؤمنون في الدنيا على ثالثة أجزاء‪ :‬الذين آمنوا باهلل ورسوله‬
‫ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اهلل‪ ،‬والذي‬
‫يأمنه الن اس على أم والهم وأنفس هم‪ ،‬ثم ال ذي إذا أش رف على‬
‫طمع تركه هلل عز وجل»(‪.)1‬‬
‫أيض ا عن عم رو بن عبسة ق ال‪ :‬قلت‪ :‬يا رس ول اهلل! ما‬
‫وفيه ً‬
‫اإلس الم؟ ق ال‪« :‬طيب الكالم وإطع ام الطع ام» قلت‪ :‬ما اإلميان؟‬
‫ق ال‪« :‬الص بر والس ماحة» قلت‪ :‬أي اإلس الم أفضل؟ ق ال‪« :‬من‬
‫س لم المس لمون من لس انه وي ده» قلت‪ :‬أي اإلميان أفضل؟ ق ال‪:‬‬
‫«خلق حس ن»(‪ ،)2‬وقد فسر احلسن البص ري الصرب والس ماحة‬
‫فق ال‪ :‬هو الصرب عن حمارم اهلل‪ ،‬والس ماحة ب أداء ف رائض اهلل عز‬
‫وج ل‪ .‬ويف الرتم ذي وغ ريه عن عائشة عن النيب ‪ ‬ق ال‪« :‬أكمل‬
‫المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»(‪.)3‬‬
‫وخرجه أبو داود وغ ريه من ح ديث أيب هري رة‪ ،‬وخرجه ال بزار‬
‫يف مسنده من حديث عبد اهلل بن معاوية الغاضري عن النيب ‪ ‬قال‪:‬‬
‫«ثالث من فعلهن فقد طعم طعم اإليمان‪ :‬من عبد اهلل وحده بأنه‬
‫ال إله إال اهلل‪ ،‬وأعطى زك اة ماله طيبة بها نفسه في كل ع ام ‪-‬‬

‫‪1‬‬
‫(?) مسند اإلمام أمحد (‪.)3/8‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) املصدر السابق (‪.)4/385‬‬
‫‪3‬‬
‫(?) رواه الرتمذي برقم (‪.)2612‬‬
‫‪28‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫ف ذكر احلديث ويف آخ ره ‪ -‬فق ال رجل‪ :‬فما تزكية املرء نفسه يا‬
‫رسول اهلل؟ قال‪ :‬أن يعلم أن اهلل معه حيث كان»(‪.)1‬‬
‫وخرج أبو داود أول احلديث دون آخره‪.‬‬
‫وخرج الطرباين من حديث عبادة بن الصامت عن النيب ‪ ‬قال‪:‬‬
‫«إن أفضل اإليمان أن تعلم أن اهلل معك حيثما كنت»‪.‬‬
‫ويف الص حيحني عن عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما عن‬
‫النيب ‪ ‬قال‪« :‬الحياء من اإليمان»(‪.)2‬‬
‫وخرج اإلمام أمحد وابن ماجه من حديث العرباض بن سارية‬
‫رضي اهلل عنهم ا عن النيب ‪ ‬ق ال‪« :‬إنما الم ؤمن كالجمل األنف‪،‬‬
‫حيثما قيد انقاد»(‪.)3‬‬
‫َأص لِ ُحوا َب ْي َن‬ ‫ِ‬
‫وق ال اهلل عز وج ل‪ِ :‬إنَّ َما ال ُْمْؤ منُ و َن ِإ ْخ َوةٌ فَ ْ‬
‫َأ َخ َويْ ُك ْم‪[ ‬احلجرات‪.]10 :‬‬
‫ويف الصحيحني عن النعمان بن بشري ‪ ‬عن النيب ‪ ‬قال‪« :‬مثل‬
‫المؤم نين في ت وادهم وت راحمهم وتع اطفهم مثل الجسد إذا‬
‫(‪)4‬‬
‫اش تكى منه عضو ت داعى له س ائر الجسد ب الحمى والس هر»‬
‫أيض ا‪:‬‬ ‫ويف رواية ملس لم‪« :‬المؤمن ون كرجل واح د» ويف رواية له ً‬
‫«المس لمون كرجل واحد إن اش تكى عينه اش تكى كله‪ ،‬وإن‬
‫اشتكى رأسه اشتكى كله»‪.‬‬
‫ويف الص حيحني عن أيب موسى ‪ ‬عن النيب ‪ ‬ق ال‪« :‬الم ؤمن‬
‫‪1‬‬
‫أيضا البخاري يف التاريخ الكبري (‪.)32-5/31‬‬
‫(?) رواه ً‬ ‫‪2‬‬
‫(?) البخاري (‪ )24‬و(‪.)6118‬‬
‫‪3‬‬
‫(?) رواه أمحد (‪ ،)4/126‬وابن ماجه (‪.)43‬‬
‫‪4‬‬
‫(?) البخاري (‪ ،)6011‬ومسلم (‪.)586‬‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪29‬‬
‫ضا»(‪ )1‬وشبك بني أصابعه‪.‬‬ ‫للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بع ً‬
‫ويف مس ند اإلم ام أمحد عن س هل بن س عد ‪ ‬عن النيب ‪ ‬ق ال‪:‬‬
‫«المؤمن من أهل اإليمان بمنزلة الرأس من الجسد؛ يألم الم ؤمن‬
‫ألهل اإليم ان كما ي ألم الجسد لما في ال رأس»(‪ ،)2‬ويف س نن أيب‬
‫داود عن أيب هري رة ‪ ‬عن النيب ‪ ‬ق ال‪« :‬الم ؤمن م رآة الم ؤمن‪،‬‬
‫المؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيعته‪ ،‬ويحوطه من ورائه»(‪.)3‬‬
‫ويف الص حيحني عن أنس ‪ ‬عن النيب ‪ ‬ق ال‪« :‬ال ي ؤمن‬
‫أح دكم ح تى يحب ألخيه ما يحب لنفس ه»(‪ ،)4‬ويف ص حيح‬
‫البخ اري عن أيب ش ريح الكعيب ‪ ‬عن النيب ‪ ‬ق ال‪« :‬واهلل ال ي ؤمن‬
‫واهلل ال ي ؤمن واهلل ال ي ؤمن» ق الوا‪ :‬ومن ذاك يا رس ول اهلل؟ ق ال‪:‬‬
‫«من ال يأمن جاره بوائقه»(‪.)5‬‬
‫وخ رج احلاكم من ح ديث ابن عب اس رضي اهلل عنهما عن‬
‫النيب ‪ ‬قال‪« :‬ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع»(‪.)6‬‬
‫وخرج اإلمام أمحد والرتمذي من حديث سهل بن معاذ اجلهين‬
‫عن أبي ه‪ ،‬عن النيب ‪ ‬ق ال‪« :‬من أعطى هلل‪ ،‬ومنع هلل‪ ،‬وأحب هلل‪،‬‬
‫وأبغض هلل» زاد اإلم ام أمحد‪« :‬وأنكح لل ه فقد اس تكمل‬
‫إيمانه»(‪.)7‬‬
‫‪1‬‬
‫(?) البخاري (‪ )481‬و(‪ ،)6026‬ومسلم (‪.)2585‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) مسند اإلمام أمحد (‪.)5/340‬‬
‫‪3‬‬
‫(?) رواه أبو داود برقم (‪.)4918‬‬
‫‪4‬‬
‫(?) البخاري (‪ ،)13‬ومسلم (‪.)45‬‬
‫‪5‬‬
‫(?) برقم (‪ ،)6016‬ومسلم (‪ )46‬من حديث أيب هريرة‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫(?) املستدرك (‪.)4/167‬‬
‫‪7‬‬
‫(?) رواه أمحد (‪ ،)3/440‬والرتم ذي (‪ ،)2521‬وص ححه احلاكم (‬
‫‪30‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫ويف رواية لإلم ام أمحد أنه س أل النيب ‪ ‬عن أفضل اإلميان‪،‬‬
‫فق ال‪« :‬أن تحب هلل‪ ،‬وتبغض هلل‪ ،‬وتعمل لس انك في ذكر اهلل»‬
‫فق ال‪ :‬وم اذا يا رس ول اهلل؟ ق ال‪« :‬وأن تحب للن اس ما تحب‬
‫لنفسك‪ ،‬وتكره لهم ما تكره لنفسك» ويف رواية له‪« :‬وأن تقول‬
‫خيرا أو تصمت»(‪ ،)1‬ويف هذا احلديث أن كثرة ذكر اهلل من أفضل‬ ‫ً‬
‫اإلميان‪.‬‬
‫أيض ا من ح ديث عم رو بن اجلم وح أنه مسع النيب ‪‬‬ ‫وخ رج ً‬
‫يقول‪« :‬ال يستحق العبد صريح اإليمان حتى يحب هلل‪ ،‬ويبغض‬
‫هلل؛ ف إذا أحب هلل وأبغض لل ه فقد اس تحق الوالية من اهلل‬
‫تعالى»(‪.)2‬‬
‫أيض ا من ح ديث ال رباء بن ع ازب ‪ ‬عن النيب ‪ ‬ق ال‪:‬‬ ‫وخ رج ً‬
‫«إن أوثق عري اإليمان أن تحب في اهلل وتبغض في اهلل»(‪.)3‬‬
‫وق ال ابن عب اس رضي اهلل عنهما‪ :‬من أحب يف اهلل وأبغض يف‬
‫اهلل وواىل يف اهلل وع ادى يف اهلل فإمنا ين ال والية اهلل ب ذلك‪ ،‬ولن جيد‬
‫عبد طعم اإلميان وإن ك ثرت ص الته وص ومه حىت يك ون ك ذلك‪.‬‬
‫وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك ال جيدي على‬
‫أهله شيًئا‪.‬‬
‫خرجه ابن جرير الطربي‪ ،‬وحممد بن نصر املروزي‪.‬‬
‫فصل‬
‫‪.)1/164‬‬
‫‪1‬‬
‫(?) (‪ )5/247‬من حديث معاذ بن جبل‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) املسند (‪.)3/430‬‬
‫‪3‬‬
‫(?) رواه أمحد (‪.)4/286‬‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪31‬‬
‫وأما اإلحس ان فقد ج اء ذك ره يف الق رآن يف مواضع‪ ،‬ت ارة‬
‫مقرون ا باإلميان‪ ،‬وت ارة مقرونا باإلس الم‪ ،‬وت ارة مقرونا ب التقوى أو‬
‫ً‬
‫َّ ِ‬
‫ين‬ ‫بالعمل الص احل‪ ،‬ف املقرون باإلميان كقوله تع اىل‪ :‬لَْي َ‬
‫س َعلَى الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ات جنَ ِ‬ ‫آمنُ واْ و َع ِملُ واْ َّ ِ ِ‬
‫يما طَع ُم واْ ِإذَا َما َّات َق واْ َّو َ‬
‫آمنُ واْ‬ ‫اح ف َ‬ ‫الص ال َح ُ ٌ‬ ‫َ َ‬
‫ب‬ ‫َأح َس نُواْ َواللَّهُ يُ ِح ُّ‬
‫آمنُ واْ ثُ َّم َّات َق واْ َّو ْ‬ ‫الص الِ َح ِ‬
‫ات ثُ َّم َّات َق واْ َّو َ‬ ‫َو َع ِملُ واْ َّ‬
‫آمنُ وا َو َع ِملُ وا‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين َ‬ ‫ين‪[ ‬املائدة‪ ،]93 :‬وكقوله تعاىل‪ِ :‬إ َّن الذ َ‬ ‫ال ُْم ْحسن َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫س َن َع َمالً‪[ ‬الكهف‪]30 :‬‬ ‫َأح َ‬
‫َأج َر َم ْن ْ‬ ‫يع ْ‬ ‫الص ال َحات ِإنَّا ال نُض ُ‬
‫َأس لَ َم َو ْج َه هُ لِلّ ِه َو ُه َو‬
‫واملق رون باإلس الم كقوله تع اىل‪َ  :‬بلَى َم ْن ْ‬
‫َأج ُرهُ ِعن َد َربِِّه‪[ ‬البق رة‪ ]112 :‬وكقوله تع اىل‪َ  :‬و َمن‬ ‫ِ‬
‫ُم ْحس ٌن َفلَ هُ ْ‬
‫ك بِالْعُ ْر َو ِة ال ُْو ْث َقى‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يُ ْس ل ْم َو ْج َه هُ ِإلَى اللَّه َو ُه َو ُم ْحس ٌن َف َق د ْ‬
‫استَ ْم َس َ‬
‫اآلية [لقم ان‪ ]22 :‬واملق رون ب التقوى كقوله تع اىل‪ِ :‬إ َّن اللَّهَ َم َع‬
‫مفردا‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين ُه ْم ُم ْحسنُو َن‪[ ‬النحل‪ ،]128 :‬وقد يذكر ً‬ ‫ين َّات َق ْوا َوالذ َ‬
‫الذ َ‬
‫ِ‬
‫ادةٌ‪[ ‬يونس‪.]26 :‬‬ ‫ْح ْسنَى َو ِزيَ َ‬ ‫َأح َسنُواْ ال ُ‬ ‫ين ْ‬ ‫كقوله تعاىل‪ :‬للَّذ َ‬
‫وقد ثبت يف صحيح مسلم عن النيب ‪ ‬تفسري الزيادة بالنظر إىل‬
‫وجه اهلل عز وجل يف اجلنة‪ ،‬وه ذا مناسب جلعله ج زاء ألهل‬
‫اإلحس ان‪ ،‬وألن اإلحس ان هو أن يعبد املؤمن ربه يف ال دنيا على‬
‫وجه احلض ور واملراقبة كأنه ي راه بقلبه وينظر إليه يف ح ال عبادته‬
‫فكان جزاء ذلك النظر إىل وجه اهلل عيانًا يف اآلخرة‪.‬‬
‫وعكس ه ذا ما أخرب اهلل تع اىل به عن ج زاء الكف ار يف اآلخ رة‬
‫‪ِ‬إَّن ُه ْم َع ْن َربِِّه ْم َي ْو َمِئ ٍذ لَ َم ْح ُجوبُ و َن‪[ ‬املطففني‪ ،]15 :‬وجعل ذلك‬
‫ج زاء حلاهلم يف ال دنيا وهو ت راكم ال ران على قل وهبم حىت حجبت‬
‫عن معرفته ومراقبته يف ال دنيا‪ ،‬فك ان ج زاؤهم على ذلك أن حجب وا‬
‫‪32‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫عن رؤيته يف اآلخ رة‪ ،‬وقوله ‪ ‬يف تفسري اإلحس ان‪« :‬أن تعبد اهلل‬
‫كأنك تراه الخ»‪ .‬يشري إىل أن العبد يعبد اهلل تعاىل على هذه الصفة‬
‫وهو استحض ار قربه وأنه بني يديه كأنه ي راه وذلك ي وجب اخلش ية‬
‫واخلوف واهليبة والتعظيم‪ ،‬كما ج اء يف رواية أيب هري رة ‪« ‬أن‬
‫أيض ا النصح يف العب ادة وب ذل‬
‫تخشى اهلل كأنك ت راه»‪ .‬وي وجب ً‬
‫اجلهد يف حتسينها وإمتامها وإكماهلا‪.‬‬
‫وقد وصى النيب ‪ ‬مجاعة من الصحابة هبذه الوصية كما روى‬
‫إبراهيم اهلجري عن أيب األحوص عن أيب ذر ‪ ‬قال‪ :‬أوصاين خليلي‬
‫‪ ‬أن أخشى اهلل كأين أراه فإن مل أكن أراه فإنه يراين‪.‬‬
‫وروي عن ابن عمر رضي اهلل عنهما ق ال‪ :‬أخذ رس ول اهلل ‪‬‬
‫ببعض جسدي فقال‪« :‬اعبد اهلل كأنك تراه»‪ .‬وخرجه النسائي من‬
‫مرفوعا وموقوفا‪« :‬كن كأنك ت رى اهلل ف إن‬ ‫ً‬ ‫ح ديث زيد ابن أرقم‬
‫لم تكن تراه فإنه يراك»‪.‬‬
‫وخرج الطرباين من حديث أنس ‪ ‬أن رجاًل قال‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫حدثين حبديث واجعله موجزا‪ .‬فقال‪ «:‬صل صالة مودع فإنك إن‬
‫كنت ال تراه فإنه يراك»‪.‬‬
‫ويف حديث حارثة املشهور وقد روي من وجوه مرسلة وروي‬
‫ال له‪« :‬يا حارثة كيف‬ ‫متصال واملرسل أصح أن النيب ‪ ‬ق‬
‫أصبحت؟» قال‪ :‬أصبحت مؤمنا حقا‪ .‬قال‪ « :‬انظر ما تقول فإن‬
‫لكل ق ول حقيقة »‪ .‬ق ال‪ :‬يا رس ول اهلل ع زفت نفسي عن ال دنيا‪،‬‬
‫فأس هرت ليلي وأظم أت هناري وك أين أنظر إىل ع رش ريب ب ارزا‪،‬‬
‫وك أين أنظر إىل أهل اجلنة يف اجلنة كيف ي تزاورون فيها‪ ،‬وك أين‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪33‬‬
‫أنظر إىل أهل الن ار كيف يتع اوون فيها‪ .‬ق ال‪ « :‬أبص رت ف الزم؛‬
‫نور اهلل اإليمان في قلبه »‪.‬‬
‫عب ٌد َّ‬
‫وروي من حديث أيب أمامة ‪ ‬أن النيب ‪ ‬وصى رجاًل فقال له‪:‬‬
‫« استحي من اهلل استحياءك من رجلين من صالحي عشيرتك ال‬
‫يفارقانك »‪.‬‬
‫ويروى من وجه آخر مرس اًل ‪ « :‬استحي من ربك »‪ .‬ويروى‬
‫عن معاذ أن النيب ‪ ‬وصاه ملا بعثه إىل اليمن فقال‪ « :‬استحِ من اهلل‬
‫كما تس تحي من رجل ذي هيبة من أهلك »‪ .‬وس ئل النيب ‪ ‬عن‬
‫كشف العورة خاليا فقال‪ « :‬اهلل أحق أن يستحيا منه »‪.‬‬
‫ووصى أبو ال درداء رجاًل فق ال له‪ :‬اعبد اهلل كأنك ت راه‪.‬‬
‫وخطب عروة بن الزبري إىل ابن عمر ابنته ومها يف الطواف فلم جيبه‪،‬‬
‫مث لقيه بعد ذلك فاعت ذر إليه وق ال‪ :‬كنا يف الط واف نتخايل اهلل بني‬
‫أعيننا‪ .‬أخرجه أبو نعيم وغريه‪.‬‬
‫قوله ‪ « :‬ف إن لم تكن ت راه فإنه ي راك »‪ .‬قيل‪ :‬إنه تعليل‬
‫لألول؛ فإن العبد إذا أمر مبراقبة اهلل تعاىل يف العبادة واستحضار قربه‬
‫من عب ده حىت ك أن العبد ي راه‪ ،‬فإنه قد يشق ذلك عليه فيس تعني‬
‫على ذلك بإميانه ب أن اهلل ي راه‪ ،‬ويطلع على س ره وعالنيته وباطنه‬
‫وظ اهره وال خيفى عليه ش يء من أم ره‪ ،‬ف إذا حتقق ه ذا املق ام س هل‬
‫عليه االنتق ال إىل املق ام الث اين وهو دوام التحقيق بالبص رية إىل ق رب‬
‫اهلل من عبده ومعيته حىت كأنه يراه‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬بل هو إش ارة إىل أن من شق عليه أن يعبد اهلل تع اىل‬
‫كأنه ي راه‪ ،‬فليعبد اهلل على أن اهلل ي راه ويطلع عليه فليس تحي من‬
‫‪34‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫نظ ره إليه‪ ،‬كما ق ال بعض الع ارفني‪ :‬اتق اهلل أن يك ون أه ون‬
‫الناظرين إليك‪.‬‬
‫وق ال بعض هم‪ :‬خف اهلل على ق در قدرته عليك واس تحي من‬
‫اهلل على قدر قربه منك‪.‬‬
‫وق ال بعض الع ارفني من الس لف‪ :‬من عمل هلل على املش اهدة‬
‫فهو عارف‪ ،‬ومن عمل على مشاهدة اهلل إياه فهو خملص‪ ،‬فيه إشارة‬
‫إىل املقامني اللذين تقدم ذكرمها‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬مقام اإلخالص؛ وهو أن يعمل العبد على استحضار‬
‫مش اهدة اهلل إي اه واطالعه وقربه منه‪ ،‬ف إذا استحضر العبد ه ذا يف‬
‫عمله عمل عليه فهو خملص هلل تعاىل؛ ألن استحضاره ذلك يف عمله‬
‫مينعه من االلتفات إىل غري اهلل وإرادته بالعمل‪.‬‬
‫والث اني‪ :‬مق ام املش اهدة؛ وهو أن يعمل العبد على مقتضى‬
‫مش اهدته هلل تع اىل بقلبه‪ ،‬وهو أن يتن ور القلب باإلميان وتنفذ‬
‫البصرية يف العرفان حىت يصرب الغيب كالعيان‪.‬‬
‫وهذا هو حقيقة مقام اإلحسان املشار إليه يف حديث جربيل‬
‫عليه الس الم‪ ،‬ويتف اوت أهل ه ذه املقام ات فيه حبسب ق وة نف وذ‬
‫البصائر‪.‬‬
‫وقد فسر طائفة من العم اء املثل األعلى املذكور يف قوله تع اىل‪:‬‬
‫ض‪[ .‬ال روم‪ .]27 :‬وهبذا‬ ‫اَألر ِ‬ ‫ِ‬
‫الس َم َاوات َو ْ‬‫‪َ ‬ولَ هُ ال َْمثَ ُل اَأل ْعلَى فِي َّ‬
‫ض َمثَ ُل نُ و ِر ِه‬
‫اَألر ِ‬ ‫ِ‬
‫الس َم َاوات َو ْ‬
‫ور َّ‬‫املعىن ومثل ه قوله تع اىل‪ :‬اللَّهُ نُ ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫اح‪[ .‬النور‪.]35 :‬‬ ‫َك ِم ْش َكاة فِ َيها م ْ‬
‫صبَ ٌ‬
‫واملراد‪ :‬مثل ن وره يف قلب املؤمن‪ .‬ك ذا قال ه أيب بن كعب‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪35‬‬
‫وغريه من السلف‪.‬‬
‫وقد س بق ح ديث‪ « :‬أفضل اإليم ان أن تعلم أن اهلل معك‬
‫حيث كنت »‪ ،‬وح ديث‪ :‬ما تزكية املرء نفسه؟ ق ال‪ « :‬أن يعلم‬
‫أن اهلل معه حيث كان »‪.‬‬
‫وخرج الطرباين من حديث أيب أمامة عن النيب ‪ ‬قال‪ « :‬ثالثة‬
‫في ظل اهلل تع الى ي وم ال ظل إال ظله‪ :‬رجل حيث توجه علم أن‬
‫اهلل معه »‪ .‬وذكر احلديث‪.‬‬
‫وقد دل الق رآن على ه ذا املعىن يف مواضع متع ددة؛ كقوله‬
‫اع ِإذَا‬ ‫ادي َعنِّي فَ ِإ نِّي قَ ِر ِ‬ ‫ك ِعب ِ‬
‫يب َد ْع َوةَ َّ‬
‫الد ِ‬ ‫يب ُأج ُ‬ ‫ٌ‬ ‫تعاىل‪َ  :‬وِإذَا َسَألَ َ َ‬
‫ان‪[ .‬البق رة‪َ  .]186 :‬و ُه َو َم َع ُك ْم َأيْ َن َما ُكنتُ ْم‪[ .‬احلديد‪،]4 :‬‬ ‫َد َع ِ‬
‫وقوله‪َ  :‬ما يَ ُكو ُن ِمن نَّ ْج َوى ثَالثَ ٍة ِإالَّ ُه َو َرابِعُ ُه ْم َوال َخ ْم َس ٍة ِإالَّ ُه َو‬
‫اد ُس ُه ْم َوال َأ ْدنَى ِمن ذَ َ‬
‫لِك َوال َأ ْك َث َر ِإالَّ ُه َو َم َع ُه ْم َأيْ َن َما َك انُوا‪.‬‬ ‫سِ‬
‫َ‬
‫ْأن وما َت ْتلُو ِم ْن هُ ِمن ُق ر ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫آن‬ ‫ْ‬ ‫[اجملادلة‪ ،]7 :‬وقوله‪َ  :‬و َما تَ ُك و ُن في َش َ َ‬
‫يض و َن فِي ِه‪.‬‬ ‫ودا ِإ ْذ تُِف ُ‬ ‫ِ‬
‫َوالَ َت ْع َملُ و َن م ْن َع َم ٍل ِإالَّ ُكنَّا َعلَْي ُك ْم ُش ُه ً‬
‫يد‪[‬ق‪،]16 :‬‬ ‫[يونس‪ ،]61 :‬وقوله‪ :‬ونَحن َأقْرب ِإلَي ِه ِمن حب ِل الْو ِر ِ‬
‫َ ْ ُ َ ُ ْ ْ َْ َ‬
‫وقوله‪َ  :‬والَ يَ ْستَ ْخ ُفو َن ِم َن اللَّ ِه َو ُه َو َم َع ُه ْم‪[ .‬النساء‪.]108 :‬‬
‫وقد وردت األح اديث الص حيحة بالن دب إىل استحض ار ه ذا‬
‫الق رب يف ح ال العب ادات‪ ،‬كقوله ‪« :‬إن أح دكم إذا ق ام يص لي‬
‫ربه بينه وبين القبلة»(‪ .)1‬وقوله‪ « :‬إن اهلل‬ ‫فإنما ين اجي ربه‪ ،‬أو ُّ‬
‫قِبل وجهه إذا ص لى » (‪ ،)2‬وقوله‪ « :‬إن اهلل ينصب وجهه لوجه‬

‫‪1‬‬
‫(?) البخاري (‪ ،)405‬ومسلم (‪.)551‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) البخاري (‪ ،)406‬ومسلم (‪.)547‬‬
‫‪36‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫عب ده في ص الته ما لم يلتفت »‪ ،‬وقوله لل ذين رفع وا أص واهتم‬
‫ميعا‬
‫بال ذكر‪« :‬إنكم ال ت دعون أصم وال غائبًا إنكم ت دعون س ً‬
‫قريبًا»‪ ،‬ويف رواية‪ « :‬وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته »‪،‬‬
‫ويف رواية‪ « :‬هو أق رب إلى أح دكم من حبل الوريد » (‪،)1‬‬
‫وقوله‪ « :‬يقول اهلل عز وجل أنا مع عبدي إذا ذكرني وتحركت‬
‫بي شفتاه » (‪ ،)2‬وقوله‪« :‬يقول اهلل عز وجل أنا مع ظن عبدي بي‬
‫وأنا معه حيث ذك رني؛ ف إن ذك رني في نفسه ذكرته في نفسي‬
‫وإن ذك رني في مأل ذكرته في مأل خ ير منه‪ ،‬وإن تق رب م نى‬
‫باعا‪،‬‬
‫ذراعا تق ربت منه ً‬ ‫ذراعا‪ ،‬وإن تق رب م نى ً‬
‫ش ًبرا تق ربت منه ً‬
‫وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» (‪.)3‬‬
‫احتادا‬
‫بيها أو حل واًل أو ً‬ ‫ومن فهم ش يًئا من ه ذه النص وص تش ً‬
‫فإمنا ُأتي من جهله وس وء فهمه عن اهلل عز وجل وعن رس وله ‪،‬‬
‫ِ ِِ‬
‫س َكمثْل ه َش ْيءٌ‬
‫واهلل ورس وله بريئ ان من ذلك كله‪ ،‬فس بحان من لَْي َ‬
‫الس ِميع الب ِ‬
‫صريُ‪.‬‬ ‫َو ُه َو َّ ُ َ‬
‫املزين‪ :‬من مثلك يا ابن آدم؛ خلِّي بينك وبني احملراب‬
‫ق ال بكر ّ‬
‫ئت دخلت على اهلل عز وجل ليس بينك وبينه‬ ‫واملاء؛ كلما ش‬
‫ترمجان‪.‬‬
‫ومن وصل إىل استحض ار ه ذا يف ح ال ذكره هلل وعبادته‬
‫استأنس باهلل واستوحش من خلقه ضرورة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫(?) البخاري (‪ ،)2992‬ومسلم (‪.)2074‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) البخاري يف‪.)436(:‬‬
‫‪3‬‬
‫(?) البخاري (‪ ،)7405‬ومسلم (‪.)2675‬‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪37‬‬
‫وق ال ث ور بن يزي د‪ :‬ق رأت يف بعض الكتب أن عيسى عليه‬
‫كثريا‪ ،‬وكلموا‬‫السالم قال‪ :‬يا معشر احلواريني‪ ،‬كلموا اهلل عز وجل ً‬
‫الن اس قلياًل ‪ .‬ق الوا‪ :‬كيف نكلم اهلل كث ًريا؟ ق ال‪ :‬اخل وا مبناجاته‪،‬‬
‫اخلوا بدعائه‪ .‬خرجه أبو نعيم‪.‬‬
‫أيض ا بإسناده عن رباح قال‪ :‬كان عندنا رجل يصلي‬ ‫وخرج ً‬
‫كل ي وم وليلة ألف ركعة‪ ،‬حىت أقعد من رجليه‪ ،‬فك ان يص لي‬
‫جالسا كل ليلة ألف ركعة‪ ،‬فإذا صلى العصر احتىب فاستقبل القبلة‪،‬‬ ‫ً‬
‫ت بس واك‪ ،‬بل عجبت للخليقة‬ ‫يق ول‪ :‬عجبت للخليقة كيف أَِنس َ ْ‬
‫كيف استأنست قلوهبا بذكر سواك‪.‬‬
‫وق ال أبو أس امة‪ :‬دخلت على حممد بن النضر احلارثي فرأيته‬
‫كأنه ينقبض فقلت‪ :‬كأنك تك ره أن ت ؤتى؟ ق ال‪ :‬أجل‪ .‬فقلت‪ :‬أو‬
‫ما تستوحش؟ فقال‪ :‬كيف أستوحش وهو يقول‪ « :‬أنا جليس من‬
‫ذكرني »!‬
‫وقيل ملالك بن مغ ول وهو ج الس يف بيته وح ده‪ :‬أال‬
‫تستوحش؟ فقال‪ :‬أو يستوحش مع اهلل أحد؟!‬
‫وك ان ح بيب أبو حممد خيلو يف بيته ويق ول‪ :‬من مل تقر عينه‬
‫بك فال قرت عينه‪ ،‬ومن مل يأنس بك فال أنس‪.‬‬
‫وق ال غ زوان‪ :‬إىن أص بت راحة قليب يف جمالسة من لديه‬
‫حاجيت‪.‬‬
‫وقال مسلم بن يسار‪ :‬ما تلذذ املتلذذون مبثل اخللوة مبناجاة اهلل‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫وق ال مس لم بن عابد‪ :‬ل وال اجلماعة ما خ رجت من ب ايب أب ًدا‬
‫‪38‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫حىت أموت‪.‬‬
‫وق ال‪ :‬ما جيد املطيع ون هلل ل ذة يف ال دنيا أحلى من اخلل وة‬
‫مبناج اة س يدهم‪ ،‬وال أحسب هلم يف اآلخ رة من عظيم الث واب أكرب‬
‫يف صدورهم وألذ يف قلوهبم من النظر إليه‪ .‬مث غشي عليه‪.‬‬
‫وعن إب راهيم بن أدهم ق ال‪ :‬أعلى ال درجات أن تنقطع إىل‬
‫ربك‪ ،‬وتس تأنس إليه بقلبك وعقلك ومجيع جوارحك؛ حىت ال‬
‫ترجو إال ربك وال ختاف إال ذنبك‪ ،‬وترسخ حمبته يف قلبك حىت ال‬
‫ت ؤثر عليها ش يًئا‪ ،‬ف إذا كنت ك ذلك مل تبال يف بر كنت أو يف حبر‬
‫أو يف س هل أو يف جب ل‪ ،‬وك ان ش وقك إىل لق اء احلبيب ش وق‬
‫الظم آن إىل املاء الب ارد وش وق اجلائع إىل الطع ام الطيب‪ ،‬ويك ون‬
‫ذكر اهلل عندك أحلى من العسل وأحلى من املاء العذب الصايف عند‬
‫العطشان يف اليوم الصائف‪.‬‬
‫وق ال الفض يل‪ :‬ط وىب ملن اس توحش من الن اس‪ ،‬وك ان اهلل‬
‫جليسه‪.‬‬
‫وق ال أبو س ليمان‪ :‬ال آنسين اهلل إال به أب ًدا‪ .‬وق ال مع روف‬
‫ون جليسك وأنيسك وموضع‬ ‫لرجل‪ :‬توكل على اهلل حىت يك‬
‫شكواك‪.‬‬
‫وقال ذو النون‪ :‬من عالمات احملبني هلل أن ال يأنسوا بسواه وال‬
‫يستوحشوا معه‪ .‬مث قال‪ :‬إذا سكن القلب حب اهلل تعاىل أنس باهلل؛‬
‫ألن اهلل أجل يف صدور العارفني أن حيبوا سواه‪.‬‬
‫وكالم الق وم يف ه ذا الب اب يط ول ذك ره ج ًدا وفيما ذكرنا‬
‫كفاية إن ش اء اهلل تع اىل‪ ،‬فمن تأمل ما أش رنا إليه مما دل عليه ه ذا‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪39‬‬
‫احلديث العظيم علم أن مجيع العل وم واملع ارف ترجع إىل ه ذا‬
‫احلديث ويدخل حتته‪ ،‬وأن مجيع العلماء من فرق هذه األمة ال خترج‬
‫عل ومهم اليت يتكلم ون فيها عن ه ذا احلديث وما دل عليه جممال‬
‫ومفصال؛ ف إن الفقه اء إمنا يتكلم ون يف العب ادات اليت هي من مجلة‬
‫خص ال اإلس الم‪ ،‬ويض يفون إىل ذلك الكالمَ يف أحك ام األم وال‬
‫واألبض اع وال دماء‪ ،‬وكل ذلك من علم اإلس الم كما س بق التنبيه‬
‫عليه‪ ،‬ويبقى كثري من علم اإلس الم من اآلداب واألخالق‪ ،‬وغري‬
‫ون على معىن‬ ‫ذلك ال يتكلم عليه إال القليل منهم‪ ،‬وال يتكلم‬
‫الشهادتني ومها أصل اإلسالم كله‪.‬‬
‫والذين يتكلمون يف أصول الديانات يتكلمون على الشهادتني‬
‫وعلى اإلميان باهلل ومالئكته وكتبه ورس له والي وم اآلخر واإلميان‬
‫بالق در‪ ،‬وال ذين يتكلم ون على علم املع ارف واملع امالت يتكلم ون‬
‫على مق ام اإلحس ان وعلى األعم ال الباطنة اليت ت دخل يف اإلميان‬
‫أيض ا؛ كاخلش ية واحملبة والتوكل والرضا والصرب وحنو ذلك‪،‬‬ ‫ً‬
‫فاحنص رت العل وم الش رعية اليت يتكلم عليها ف رق املس لمني يف ه ذا‬
‫احلديث ورجعت كلها إليه‪ ،‬ففي ه ذا احلديث وح ده كفاية وهلل‬
‫احلمد واملنة‪.‬‬
‫وبقي الكالم على ذكر الس اعة من احلديث؛ فق ول جربيل عليه‬
‫الس الم‪ :‬أخ ربين عن الس اعة‪ .‬فق ال النيب ‪ « :‬ما المس ئول عنها‬
‫ب أعلم من الس ائل »‪ .‬يعين أن علم اخللق كلهم يف وقت الس اعة‬
‫س واء‪ ،‬وه ذه إش ارة إىل أن اهلل تع اىل اس تأثر بعلمها‪ ،‬وهلذا ج اء أن‬
‫الع امل إذا س ئل عن ش يء ال يعلمه أن يق ول ال أعلمه وأن ذا ال‬
‫‪40‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫ينقصه ش يًئا‪ ،‬بل هو من ورعه ودينه؛ ألن ف وق كل ذي علم عليم‬
‫يف ح ديث أيب هري رة ‪ ‬وق ال النيب ‪ ‬يف مخس ال يعلمهن إال اهلل‬
‫ث َو َي ْعلَ ُم َما فِي‬
‫اع ِة َو ُيَن ِّز ُل الْغَْي َ‬ ‫ِإ َّ ِ ِ‬
‫الس َ‬ ‫تعاىل‪ ،‬مث تال ‪َّ ‬ن اللهَ عن َدهُ عل ُ‬
‫ْم َّ‬
‫ِ‬ ‫ْ ِ‬
‫َأي‬
‫س بِ ِّ‬ ‫ب غَ ًدا َو َما تَ ْد ِري َن ْف ٌ‬ ‫س َّماذَا تَ ْكس ُ‬ ‫اَألر َح ام َو َما تَ ْد ِري َن ْف ٌ‬
‫يم َخبِ ٌير‪[ .‬لقمان‪ ،]34 :‬وقوله عز وجل‪ :‬‬ ‫ِ‬
‫وت ِإ َّن اللَّهَ َعل ٌ‬‫ض تَ ُم ُ‬ ‫َْأر ٍ‬
‫ْم َها ِعن َد َربِّي الَ يُ َجلِّ َيها‬ ‫ِ‬
‫اها قُ ْل ِإنَّ َما عل ُ‬
‫الس َ ِ‬
‫اعة َأيَّا َن ُم ْر َس َ‬ ‫ك َع ِن َّ‬ ‫يَ ْسَألُونَ َ‬
‫ض الَ تَ ْأتِي ُك ْم ِإالَّ َب ْغتَ ةً‪‬‬‫اَألر ِ‬ ‫ِ‬
‫الس َم َاوات َو ْ‬ ‫ت فِي َّ‬ ‫لَِوقْتِ َها ِإالَّ ُه َو َث ُقلَ ْ‬
‫[األعراف‪.]187 :‬‬
‫ويف ص حيح البخ اري عن ابن عمر رضي اهلل عنهما عن‬
‫النيب ‪ ‬ق ال ‪ « :‬مف اتيح الغيب خمس ال يعلمهن إال اهلل »‪ .‬مث تال‬
‫اع ِة‪ )1(‬اآلية‪.‬‬ ‫ِإ َّ ِ ِ‬
‫الس َ‬
‫ْم َّ‬ ‫هذه اآلية‪َّ  :‬ن اللهَ عن َدهُ عل ُ‬
‫وخرجه اإلم ام أمحد ولفظه أن النيب ‪ ‬ق ال‪ « :‬أوتيت مف اتيح‬
‫اع ِة‪ ‬اآلية»(‪.)2‬‬ ‫ِإ َّ ِ ِ‬
‫الس َ‬
‫ْم َّ‬‫كل شيء إال الخمس‪َّ  :‬ن اللهَ ع ْن َدهُ عل ُ‬
‫أيض ا بإس ناده عن ابن مس عود ‪ ‬ق ال‪ :‬أويت ن بيكم ‪‬‬ ‫وخ رج ً‬
‫اع ِة‪ ‬اآلية (‪.)3‬‬ ‫ِإ َّ ِ ِ‬
‫الس َ‬
‫ْم َّ‬‫مفاتيح كل شيء غري مخس ‪َّ ‬ن اللهَ ع ْن َدهُ عل ُ‬
‫فقوله ف أخربين عن أمارهتا يعين عن عالماهتا اليت ت دل على‬
‫اقرتاهبا ويف ح ديث أيب هري رة أن النيب ‪ ‬ق ال‪ « :‬س أحدثك عن‬
‫أيضا‪ ،‬وقد ذكر النيب ‪ ‬للساعة عالمتني‪:‬‬ ‫أشراطها»‪ .‬وهي عالماهتا ً‬
‫يدهتا‬ ‫األولى‪« :‬أن تلد األمة ربتها»‪ ،‬واملراد بربتها‪ :‬س‬

‫‪1‬‬
‫(?) رواه البخاري برقم (‪.)1039‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) مسند اإلمام أمحد (‪.)86 -2/85‬‬
‫‪3‬‬
‫(?) مسند اإلمام أمحد (‪.)1/438‬‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪41‬‬
‫ومالكتها‪ .‬ويف ح ديث أيب هري رة ‪ « :‬ربها »‪ .‬وه ذه إش ارة إىل‬
‫فتح البالد وكثرة جلب الرقيق حىت تكثر الس راري وتكثر أوالدهن‬
‫فتكون األمة رقيقة لسيدها وأوالده منه مبنزلته؛ فإن ولد السيد مبنزلة‬
‫السيد فيصري ولد األمة مبنزلة رهبا وسيدها‪.‬‬
‫وذكر اخلط ايب أنه اس تدل ب ذلك من يق ول‪ :‬إن أم الولد إمنا‬
‫تعتق على ولدها من نصيبه من مرياث والده وإهنا تنتقل إىل أوالدها‬
‫ب املرياث فتعتق عليهم وإهنا قبل م وت س يدها تب اع‪ .‬ق ال‪ :‬ويف ه ذا‬
‫االستدالل نظر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قد اس تدل بعض هم به على عكس ذلك‪ ،‬وأن أم الولد ال‬
‫تباع وأهنا تعتق مبوت سيدها بكل حال؛ ألنه جعل ولد األمة رهبا‪،‬‬
‫فكأن ولدها هو الذي أعتقها فصار عتقها منسوبا إليه؛ ألنه سبب‬
‫عتقها فصار كأنه موالها‪.‬‬
‫وهذا كما روي عن النيب ‪ ‬أنه قال يف أم ولده مارية ملا ولدت‬
‫إبراهيم عليه السالم‪ « :‬أعتقها ولدها »(‪.)1‬‬
‫وقد اس تدل هبذا اإلم ام أمحد ‪ ‬فإنه ق ال يف رواية حممد بن‬
‫احلكم عنه‪ « :‬تلد األمة ربتها »‪ .‬تك ثر أمه ات األوالد‪ ،‬يق ول‪ :‬إذا‬
‫ول دت فقد عتقت لول دها‪ .‬وق ال‪ :‬فيه حجة أن أمه ات األوالد ال‬
‫يبعن‪.‬‬
‫وقد فسر قوله « تلد األمة ربتها » بأنه يك ثر جلب الرقيق‬
‫حىت جتلب البنت فتعتق مث جتلب األم فتش رتيها البنت وتس تخدمها‬
‫وهي جاهلة بأهنا أمها‪ ،‬وقد وقع ه ذا يف اإلس الم‪ .‬وقيل‪ :‬معن اه أن‬
‫‪1‬‬
‫(?) رواه ابن ماجه (‪ ،)2516‬واحلاكم (‪ ،)2/19‬والبيهقي (‪.)10/346‬‬
‫‪42‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫اإلماء تلدن امللوك‪.‬‬
‫وق ال وكيع‪ :‬معن اه تلد العجم الع رب والع رب مل وك العجم‬
‫وأرباب هلم‪.‬‬
‫والعالمة الثاني ة‪« :‬أن ت رى الحف اة الع راة العالة» واملراد‬
‫بالعالة‪ :‬الفق راء كقوله تع اىل‪َ  :‬و َو َج َد َك َع اِئالً فَ َأ ْغنَى‪[ .‬الض حى‪:‬‬
‫‪.]8‬‬
‫وقوله‪ « :‬رع اء الش اء يتط اولون في البني ان » هك ذا يف‬
‫حديث عمر ‪ ،‬واملراد‪ :‬أن أسافل الناس يصريون رؤساءهم وتكثر‬
‫أمواهلم حىت يتباهوا بطول البنيان وزخرفته وإتقانه‪.‬‬
‫ويف ح ديث أيب هري رة ‪ ‬ذكر ثالث عالم ات منها‪ :‬أن تك ون‬
‫احلف اة الع راة رؤس اء الن اس‪ .‬ومنها‪ :‬أن يتط اول رعاء البهم يف‬
‫البني ان‪ ،‬وروى ه ذا احلديث عبداهلل بن عط اء عن عبداهلل بن بري دة‬
‫فق ال فيه‪ « :‬وأن ت رى الصم البكم العمي الحف اة رعاء الش اء‬
‫يتط اولون في البني ان مل وك الن اس »‪ ،‬ق ال‪ :‬فق ام رجل ف انطلق‬
‫فقلنا‪ :‬يا رسول اهلل من هؤالء الذين نعتَّ؟ قال‪ «:‬هم العريب»‪.‬‬
‫وك ذا روى ه ذا احلديث هبذه اللفظة األخ رية علي بن زيد عن‬
‫حيىي بن يعمر عن ابن عمر‪ ،‬وأما األلف اظ األوىل فهي يف الص حيح‬
‫من حديث أيب هريرة مبعناه ا‪ ،‬وقوله‪« :‬الصم البكم العمي» إشارة‬
‫إىل جهلهم وعدم علمهم وفهمهم ويف هذا املعىن أحاديث متعددة‪.‬‬
‫فخ رج اإلم ام أمحد والرتم ذي من ح ديث حذيفة ‪ ‬عن‬
‫النيب ‪ ‬قال‪ «:‬ال تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪43‬‬
‫بن لكع»(‪ .)1‬ويف صحيح ابن حبان عن أنس عن النيب ‪ ‬قال‪ « :‬ال‬
‫تنقضي الدنيا حتى تكون عند لكع بن لكع »(‪.)2‬‬
‫وخ رج الط رباين من ح ديث أيب ذر ‪ ‬عن النيب ‪ ‬ق ال‪« :‬ال‬
‫تقوم الساعة حتى يغلب على الدنيا لكع بن لكع »‪.‬‬
‫وخ رج اإلم ام أمحد والط رباين من ح ديث أنس ‪ ‬عن النيب ‪‬‬
‫قال‪ « :‬بين يدي الساعة سنون خداعة يتهم فيها األمين ويؤتمن‬
‫فيها المتهم وينطق فيها الرويبضة »‪ .‬ق الوا‪ :‬وما الرويبضة؟ ق ال‪:‬‬
‫«الس فيه ينطق في أمر العامة »‪ .‬ويف رواية‪ « :‬الفاسق يتكلم في‬
‫أمر العامة »‪ .‬ويف رواية اإلم ام أمحد‪ « :‬إن بين ي دي ال دجال‬
‫سنين خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويخ ون‬
‫فيها األمين ويؤتمن فيها الخائن »‪ .‬وذكر بقيته (‪.)3‬‬
‫ومض مون ما ذكر من أش راط الس اعة يف ه ذا احلديث يرجع‬
‫إىل أن األم ور توسد إىل غري أهلها‪ ،‬كما ق ال النيب ‪ ‬ملن س أله عن‬
‫الس اعة‪ « :‬إذا وسد األمر إلى غ ير أهله ف انتظر الس اعة »(‪ )4‬فإنه‬
‫إذا ص ار احلف اة الع راة رع اء الش اء وهم أهل اجلهل واجلف اء رؤس اء‬
‫الناس وأصحاب الثروة واألموال حىت يتطاولوا يف البنيان فإنه يفسد‬
‫َأس الناس من كان فقريا عائال‬ ‫بذلك نظام الدين والدنيا‪ ،‬فإنه إذا َر َ‬
‫عاما أو خاصا يف بعض‬ ‫فص ار ملكا على الن اس س واء ك ان ملكه ً‬
‫‪1‬‬
‫(?) رواه أمحد (‪ ،)5/389‬والرتمذي (‪.)2209‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) صحيح ابن حبان‪ ،‬برقم (‪.)6721‬‬
‫‪3‬‬
‫(?) رواه أمحد يف مس نده (‪ ،)3/220‬والطرباين يف األوسط‪ ،‬وجود إسناده‬
‫احلافظ بن حجر يف فتح الباري (‪.)13/84‬‬
‫‪4‬‬
‫(?) رواه البخاري (‪ ،)59‬و(‪ )6496‬من حديث أيب هريرة‪.‬‬
‫‪44‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫األش ياء فإنه ال يك اد يعطى الن اس حق وقهم بل يس تأثر عليهم مبا‬
‫استوىل عليهم من املال فقد قال بعض السلف‪ :‬ألن متد يدك إىل فم‬
‫الت نني فيقض مها خري لك من أن متدها إىل يد غين قد ع اجل الفقر‪،‬‬
‫وإذا كان مع هذا جاهال جافيا فسد بذلك الدين؛ ألنه ال يكون له‬
‫مهة يف إص الح دين الن اس وال تعليمهم بل مهته يف جباية املال‬
‫واكتن ازه وال يب ايل مبا أفسد من دين الن اس وال مبن أض اع من أهل‬
‫حاجاهتم‪ ،‬وقال يف حديث آخر‪« :‬ال تقوم الساعة حتى يسود كل‬
‫قبيلة منافقوها» وإذا صار ملوك الناس ورؤوسهم على هذه احلال‬
‫انعكست س ائر األح وال فص دق الك اذب وك ذب الص ادق وائتمن‬
‫اخلائن وخ ون األمني وتكلم اجلاهل وس كت الع امل أو ع دم بالكلية‬
‫كما صح عن النيب ‪ ‬أنه ق ال‪« :‬إن من أش راط الس اعة أن يرفع‬
‫العلم ويظهر الجهل»(‪ )1‬وأخرب أنه «يقبض العلم بم وت العلم اء‬
‫ح تى إذا لم يبق ع الم اتخذ الن اس رؤس اء جه اال فس ئلوا ف أفتوا‬
‫بغير علم فضلوا وأضلوا»(‪.)2‬‬
‫وق ال الش عيب‪ :‬ال تق وم الس اعة حىت يصري العلم جهاًل واجلهل‬
‫علما‪ ،‬وه ذا كله من انقالب احلق ائق يف آخر الزم ان وانعك اس‬ ‫ً‬
‫مرفوعا‪« :‬إن من‬
‫ً‬ ‫األمور‪ ،‬ويف صحيح احلاكم عن عبد اهلل بن عمرو‬
‫أشراط الساعة أن توضع األخيار وترفع األشرار»(‪.)3‬‬
‫ويف قوله‪« :‬يتط اولون في البني ان» دليل على ذم التب اهي‬

‫‪1‬‬
‫(?) البخاري (‪ ،)80‬ومسلم (‪.)2671‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) البخاري (‪ ،)100‬ومسلم (‪.)2773‬‬
‫‪3‬‬
‫(?) صحيح احلاكم (‪ ،)555-4/554‬وصححه ووافقه الذهيب‪.‬‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪45‬‬
‫خصوصا بالتطاول يف البنيان‪ ،‬ومل يكن إطالة البناء معروفا‬
‫ً‬ ‫والتفاخر‬
‫يف زمن النيب ‪ ‬وأص حابه رضي اهلل عنهم بل ك ان بني اهنم قصريًا‬
‫بق در احلاجة‪ ،‬وروى أبو الزن اد عن األع رج عن أيب هري رة ‪ ‬ق ال‪:‬‬
‫ق ال رس ول اهلل ‪« :‬ال تق وم الس اعة ح تى يتط اول الن اس في‬
‫البنيان» خرجه البخاري(‪.)1‬‬
‫وخرج أبو داود من حديث أنس ‪ ‬أن النيب ‪ ‬خرج فرأى قبة‬
‫مشرفة‪ ،‬فقال‪« :‬ما هذه؟» قالوا‪ :‬هذه لفالن ‪-‬رجل من األنصار‪-‬‬
‫فج اء ص احبها فس لم على رس ول اهلل ‪ ،‬ف أعرض عنه فعل ذلك‬
‫م رارا‪ ،‬فه دمها الرجل(‪ ،)2‬وخرجه الط رباين من وجه آخر عن أنس‬
‫أيض ا‪ ،‬وعن ده فق ال‪ :‬النيب ‪« :‬كل بن اء ‪-‬وأش ار بي ده هك ذا على‬
‫ً‬
‫رأسه‪ -‬أكثر من هذا فهو وبال» وقال يف حديث ابن السائب عن‬
‫احلسن‪ :‬كنت أدخل بي وت أزواج النيب ‪ ‬يف خالفة عثم ان ‪‬‬
‫فأتناول سقفها بيدي وروى عن عمر ‪ ‬أنه كتب‪ :‬ال تطيلوا بناءكم‬
‫فإنه شر أي امكم‪ ،‬وق ال يزيد بن أيب زي اد‪ :‬ق ال‬
‫حذيفة ‪ ‬لس لمان‪ :‬أال تبين لك مس كنا يا أبا عبد اهلل؟ ق ال‪ :‬مل؟‬
‫لتجعلين ملكا‪ ،‬ق ال‪ :‬ال‪ ،‬ولكن نبين لك بيتًا من قصب ونس قفه‬
‫ب البواري‪ ،‬إذا قمت ك اد أن ميس رأسك وإذا منت ك اد أن ميس‬
‫طرفيك‪ ،‬قال‪ :‬كأنك كنت يف نفسي‪.‬‬
‫وعن عمار بن أيب عمار قال‪ :‬إذا رفع الرجل بناءه فوق سبعة‬
‫أذرع نودي‪ :‬يا أفسق الفاسقني إىل أين؟ خرجه كله ابن أيب الدنيا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫(?) برقم (‪.)7121‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) رواه أبو داود برقم (‪ )5237‬وإسناده حسن‪.‬‬
‫‪46‬‬ ‫شرح حديث جبريل‬
‫وقال يعقوب بن أيب شيبة يف مسنده قال‪ :‬بلغين عن ابن عائشة‬
‫قال‪ :‬حدثنا ابن أيب مشيل قال‪ :‬نزل املسلمون حول املسجد ‪-‬يعين‬
‫بالبص رة‪ -‬يف َأْخِبيَ ة الشعر ففشا فيهم السرق فكتبوا إىل عمر فأذن‬
‫هلم يف الرياع فبنوا بالقصب ففشا فيهم احلريق فكتبوا إىل عمر فأذن‬
‫هلم يف املدر وهني أن يرفع الرجل مسكه أك ثر من س بعة أذرع‪،‬‬
‫وق ال‪ :‬إذا ب نيتم منه بي وتكم ف ابنوا منه املس جد‪ ،‬ق ال ابن عائشة‪:‬‬
‫وكان عتبة بن غزوان بىن مسجد البصرة بالقصب وقال‪ :‬من صلى‬
‫فيه وهو من قصب أفضل ممن ص لى فيه وهو من لنب‪ ،‬ومن ص لى‬
‫فيه وهو من لنب أفضل ممن صلى فيه وهو من آجر‪.‬‬
‫وخ رج ابن ماجه من ح ديث أنس عن النيب ‪« :‬ال تق وم‬
‫الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد»(‪ )1‬من حديث ابن عباس‬
‫رضي اهلل عنهما عن النيب ‪ ‬ق ال‪« :‬أراكم تش رفون مس اجدكم‬
‫بع دي كما ش رفت اليه ود كنائس ها وكما ش رفت النص ارى‬
‫بيعها»(‪.)2‬‬
‫وروي ابن أيب ال دنيا بإس ناده عن إمساعيل بن مس لم عن‬
‫احلسن ‪ ‬ق ال‪ :‬ملا بىن رس ول اهلل ‪ ‬المس جد ق ال‪« :‬ابن وه عريشا‬
‫كع ريش موسى» قيل للحسن‪ :‬وما ع ريش موسى؟ ق ال‪ :‬إذا رفع‬
‫يده بلغ العريش‪ ،‬يعين‪ :‬السقف‪.‬‬
‫واهلل أعلم وص لى اهلل وس لم على نبينا حممد وعلى آله وص حبه‬
‫‪1‬‬
‫(?) سنن ابن ماجه (‪ ،)739‬وصححه ابن حبان (‪.)1614‬‬
‫‪2‬‬
‫(?) رواه ابن ماجه (‪ ،)740‬ورواه أبو داود (‪ )448‬بلف ظ‪« :‬ما أم رت‬
‫بتش ييد املس اجد»‪ ،‬ق ال ابن عب اس‪( :‬لتزخرفنها كما زخرفتها اليه ود‬
‫والنصارى) وصححه ابن حبان (‪.)1615‬‬
‫شرح حديث جبريل‬ ‫‪47‬‬
‫وسلم‪.‬‬

You might also like