You are on page 1of 104

‫‪165‬‬ ‫الرسالة السابعة‪ :‬اإلميان باملالئكة‬

‫الرسالة السابعة‬

‫اإلميان باملالئكة‬
‫الرسالة السابعة‪ :‬اإلميان باملالئكة‬ ‫‪166‬‬
‫‪167‬‬ ‫الرسالة السابعة‪ :‬اإلميان باملالئكة‬

‫املقدمة‬

‫احلمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم على رسول اهلل‪ ،‬نبينا حممد وعلى آله وصحبه‬
‫ومن وااله‪ ،‬أما بعد‪.‬‬
‫فإن اإلميان باملالئكة هو الركن الثاني من أركان اإلميان‪ ،‬والكالم على هذا‬
‫الركن ههنا سيكون يف املسائل التالية‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬تعريف املالئكة‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬ما يتضمن اإلميان باملالئكة‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬مثرات اإلميان باملالئكة‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬املالئكة أجسام‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬عالقة املالئكة ببين آدم عموماً‪.‬‬
‫سادساً‪ :‬املفاضلة بني املالئكة وصاحلي البشر‪.‬‬
‫فإىل تفصيل تلك املسائل‪ ،‬واهلل املستعان‪ ،‬وعليه التكالن‪.‬‬
‫الرسالة السابعة‪ :‬اإلميان باملالئكة‬ ‫‪168‬‬
‫أوالً‪ :‬تعري املمجئ ة‬
‫أ_ التعريف اللغوي‪ :‬أصل هذه الكلمة َألَكَ‪ ،‬أي أرسل‪ ،‬ومنه املألوكة‪ ،‬وهي‬
‫الرسالة‪ ،‬ومعنى ألكين‪ :‬أرسلين ومنه قول الشاعر‪:‬‬
‫ل أعلمه ـ ـ ـ ـ ــم بن ـ ـ ـ ـ ــواح اخل ـ ـ ـ ـ ــرب‬ ‫ألِ انـ ـ ـ ـ ـ ليه ـ ـ ـ ــا ف ـ ـ ـ ـ ـ الرس ـ ـ ـ ــو‬
‫فامللك يف اللغة هو املرسل‪.‬‬
‫ب_ التعريف االصطالحي للمالئكة‪ :‬املالئكة عامل غييب خملوقون من نور‬
‫عابدون هلل _تعاىل_ وليس هلم من خصائص الربوبية‪ ،‬وال األلوهية شيء‪ ،‬أي‬
‫أنهم ال يَخْلُقون‪ ،‬وال يَرزُقون‪ ،‬وال جيوز أن يعبدوا مع اهلل‪ ،‬أو من دون اهلل‪.‬‬
‫وقد منحهم اهلل _عز وجل_ االنقياد التام ألمره‪ ،‬والقوة على تنفيذه‪.‬‬
‫واملالئكة عددهم كثري‪ ،‬وال حيصيهم إال اهلل(‪.)1‬‬
‫ثانياً‪ :‬ما يتضمق اإلميان باملمجئ ة‬
‫اإلميان باملالئكة يتضمن ما يلي‪:‬‬
‫‪ _1‬اإلميان بوجودهم‪.‬‬
‫‪ _2‬اإلميان مبا علمنا امسه منهم بامسه كجربيل‪ ،‬ومن مل نعلم امسه نؤمن به‬
‫إمجاالً‪ ،‬أي نؤمن بأن هلل مالئكة كثريين‪ ،‬وال يلزم معرفة أمسائهم‪.‬‬
‫‪ _3‬اإلميان مبا علمنا من صفاتهم‪ ،‬كصفة جربيل؛ فقد أخرب النيب"أنه رآه‬
‫على صفته اليت خلقه اهلل عليها‪ ،‬وله ستمائة جناح قد سدَّ األُفق‪.‬‬
‫وقد يتحول امللك بأمر اهلل إىل هيئة رجل‪ ،‬كما حصل جلربيل حني أرسله اهلل‬

‫‪ _ 1‬انظر رسائل يف العقيدة للشيخ حممد بن عثيمني‪ ،‬ص‪.19‬‬


‫‪169‬‬ ‫الرسالة السابعة‪ :‬اإلميان باملالئكة‬

‫ل لَهَا بَشَراً سَوِيّاً] (مريم‪.)17:‬‬


‫إىل مريم أم املسيح _عليهما السالم_‪[ :‬فَتَمَثَّ َ‬
‫وحني جاء إىل النيب" وهو جالس بني أصحابه بصورة رجل شديد بياض‬
‫الثياب‪ ،‬شديد سواد الشعر‪ ،‬ال يُرَى عليه أثرُ السفر‪ ،‬وال يعرفه أحدٌ من أصحاب‬
‫رسول اهلل"فجلس إىل رسول اهلل"وأسند ركبتيه إىل ركبته‪ ،‬ووضع كفيه على‬
‫فخذيه‪ ،‬وسأل النيب"عن اإلسالم‪ ،‬واإلميان‪ ،‬واإلحسان‪ ،‬والساعة‪ ،‬وأماراتها‪،‬‬
‫فأجابه النيب"ثم قال بعد أن ولَّى‪= :‬هذا جربيل أتاكم يعلمكم دينكم‪.)1(+‬‬
‫وكذلك املالئكة الذين أرسلهم اهلل إىل إبراهيم ولوط _عليهما السالم_ على‬
‫هيئة رجال‪.‬‬
‫‪ _1‬اإلميان مبا علمنا من أعماهلم اليت يقومون بها‪ ،‬كتسبيح اهلل‪ ،‬وعبادته ليالً‬
‫ونهاراً دون ملل وال فتور‪.‬‬
‫وقد يكون لبعضهم أعمال خاصة‪ ،‬كـ =جربيل‪ +‬األمني على وحي اهلل يرسله‬
‫اهلل بالوحي إىل األنبياء والرسل‪ ،‬ومثل =ميكائيل‪ +‬املوكل بالقطر أي النبات‪ ،‬ومثل‬
‫=مالك‪ +‬املوكل بالنار‪ ،‬ومثل املالئكة املوكلني حبفظ بين آدم‪ ،‬وغريهم كثري(‪.)2‬‬

‫ثالثاً‪ :‬مثرات اإلميان باملمجئ ة‬

‫اإلميان باملالئكة يثمر مثرات جليلة منها‪:‬‬


‫‪ _1‬العلم بعظمة اهلل _تعاىل_ وقوته‪ ،‬وسلطانه‪ :‬فإن عظمة املخلوق من عظمة‬
‫اخلالق‪.‬‬

‫‪ _ 1‬رواه مسلم (‪.)8‬‬


‫‪ _ 2‬انظر رسائل يف العقيدة للشيخ حممد بن عثيمني ص‪.21_19‬‬
‫الرسالة السابعة‪ :‬اإلميان باملالئكة‬ ‫‪174‬‬
‫‪ _2‬شكر اهلل على عنايته ببين آدم حيث وكل بهم من هؤالء املالئكة من‬
‫يقومون حبفظهم‪ ،‬وكتابة أعماهلم‪ ،‬وغري ذلك من مصاحلهم‪.‬‬
‫‪ _3‬التقرب إىل اهلل حبب املالئكة على ما قاموا به من مراضي اهلل‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬املمجئ ة أجسام‬

‫لقد صرحت النصوص بأن املالئكة أجسام خالفاً ملن ضل يف هذا الباب من‬
‫أهل الزيغ الذي أنكروا كون املالئكة أجساماً‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنهم عِبَارةٌ عن قوى اخلري‬
‫الكامنة يف املخلوقات‪.‬‬
‫وهذا تكذيب لكتاب اهلل _تعاىل_ وسنة رسوله " وإمجاع املسلمني‪.‬‬
‫قال اهلل _تعاىل_‪[ :‬الْحَ ْمدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَاألَرْضِ جَاعِلِ الْمَالئِكَ ِة رُسُالً‬
‫أُولِي أَجْنِحَ ٍة مَثْنَى وَثُالثَ وَرُبَاعَ]‪.‬‬
‫وقال‪[ :‬وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى َّالذِينَ كَفَرُوا الْمَالئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُو َههُمْ‬
‫وَأَدْبَارَهُمْ]‪.‬‬
‫وقال‪[ :‬وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَالئِكَةُ بَاسِطُوا َأْيدِيهِمْ‬
‫أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ]‪.‬‬
‫ِي‬
‫ُزعَ َعنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَل ُّ‬
‫وقال‪ [ :‬حَتَّى إِذَا ف ِّ‬
‫الْكَبِريُ]‪.‬‬
‫وقال يف أهل اجلنة‪[ :‬وَالْمَالئِكَةُ َيدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ ِمنْ كُلِّ بَابٍ سَالمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا‬
‫صَبَرْتُ ْم فَنِعْ َم عُقْبَى الدَّارِ]‪.‬‬
‫ويف الصحيحني عن أبي هريرة ÷ عن النيب " قال‪= :‬إذا أحب اهلل العبد‬
‫‪170‬‬ ‫الرسالة السابعة‪ :‬اإلميان باملالئكة‬

‫نادى جربيل أن اهلل حيب فالناً فأحبه‪ ،‬فيحبه جربيل‪ ،‬فينادي جربيل يف أهل السماء‬
‫أن اهلل حيب فالناً فأحبوه‪ ،‬فيحبه أهل السماء‪ ،‬ثم يوضع له القبول يف‬
‫األرض‪.)1(+‬‬
‫ويف صحيح البخاري عن أبي هريرة ÷ قال‪ :‬قال النيب "‪= :‬إذا كان يوم‬
‫اجلمعة كان على كل باب من أبواب املسجد املالئكة يكتبون األول فاألول؛ فإذا‬
‫جلس اإلمام طووا الصحف‪ ،‬وجاءوا يستمعون الذكر‪.)2(+‬‬
‫وهذه النصوص صرحية يف أن املالئكة أجسام ال قوى معنوية كما قال‬
‫الزائغون‪ ،‬وعلى مقتضى هذه النصوص أمجع املسلمون(‪.)3‬‬
‫خامساً‪ :‬عمج ة املمجئ ة ببً آدم عموماً‬

‫عالقة املالئكة ببين آدم عالقة وثيقة‪ ،‬ومن مظاهر تلك العالقة ما يلي‪:‬‬
‫‪ _1‬قيامهم على اآلدمي عند خلقه‪ :‬فقد روى مسلم يف صحيحه عن أبي ذر‪،‬‬
‫قال‪ :‬مسعت رسول اهلل " يقول‪= :‬إذا مرّ بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة‪ ،‬بعث اهلل‬
‫إليها ملكاً‪ ،‬فصورها‪ ،‬وخلق مسعها وبصرها‪ ،‬وجِ ْلدَها‪ ،‬وحلمها‪ ،‬وعظامَها‪ ،‬ث ّم‬
‫قال‪ :‬أي ربّ‪ :‬أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب املَلَك‪.)4(+‬‬
‫وعن ابن مسعود ÷ قال‪ :‬حدثنا رسول اهلل " وهو الصادق املصدوق قال‪:‬‬

‫‪ _ 1‬البخاري (‪ )7485‬ومسلم (‪.)2637‬‬


‫‪ _ 2‬البخاري (‪.)3139‬‬
‫‪ _ 3‬انظر رسائل يف العقيدة‪ ،‬للشيخ حممد بن عثيمني ص‪.21_21‬‬
‫‪ _ 4‬مسلم (‪.)2645‬‬
‫الرسالة السابعة‪ :‬اإلميان باملالئكة‬ ‫‪171‬‬
‫= إن أحدكم جيمع خلقه يف بطن أمه أربعني يوماً‪ ،‬ثمّ يكون علقة مثل ذلك‪ ،‬ثمّ‬
‫يكون مضغة مثل ذلك‪ ،‬ثم يبعث اهلل إليه ملكاً يؤمر بأربع كلمات‪ ،‬ويقال له‪:‬‬
‫اكتب عمله ورزقه‪ ،‬وشقي أو سعيد‪ ،‬ثم ينفخ فيه الروح‪.)1(+‬‬
‫‪ _2‬حفظهم البن آدم‪ :‬قال اهلل _تعاىل_‪[ :‬سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْ َل وَمَنْ‬
‫جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (‪ )11‬لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ َبيْنِ يَدَيْهِ‬
‫وَمِنْ َخلْفِهِ يَحْ َفظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ] (الرعد‪. )11_11 :‬‬
‫وقد بني ترمجان القرآن ابن عباس _رضي اهلل عنهما_ أن املعقبات من اهلل هم‬
‫املالئكة جعلهم اهلل؛ ليحفظوا اإلنسان من أمامه ومن ورائه‪ ،‬فإذا جاء قدر اهلل‬
‫_الذي قدّر أن يصل إليه_ خلوا عنه‪.‬‬
‫‪ _3‬أنهم سفراء اهلل إىل رسله وأنبيائه‪ :‬وقد أعلمنا اهلل أن جربيل خيتص بهذه‬
‫َزلَهُ َعلَى َقلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ‬
‫املهمة‪ [ :‬قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ ن َّ‬
‫يَدَيْهِ] (البقرة‪.)97:‬‬
‫وقال‪[ :‬نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ األَمِنيُ (‪ )193‬عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ ِمنْ الْمُنذِرِي َن‬
‫(‪ ])194‬الشعراء‪.‬‬
‫‪ _1‬حتريك بواعث اخلري يف نفوس العباد‪ :‬فقد وكَّل اهلل بكل إنسان قريناً من‬
‫املالئكة‪ ،‬وقريناً من اجلنّ‪ ،‬ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال‪ :‬قال رسول‬
‫اهلل "‪= :‬ما منكم من أحد إال وقد وُكّل به قرينُه من اجلن‪ ،‬وقرينه من‬
‫املالئكة‪.+‬‬

‫‪ _ 1‬رواه البخاري (‪ ،)3218‬ومسلم (‪.)2643‬‬


‫‪173‬‬ ‫الرسالة السابعة‪ :‬اإلميان باملالئكة‬

‫قالوا‪ :‬وإياك يا رسول اهلل؟ قال‪= :‬وإياي‪ ،‬إال أن اهلل أعانين عليه فأسلم‪ ،‬فال‬
‫يأمرني إال خبري‪.)1( +‬‬
‫ولعلّ هذا القرين من املالئكة غريُ املالئكة الذين أمروا حبفظ أعماله‪ ،‬قيَّضه‬
‫اهلل له؛ ليهديه‪ ،‬ويرشده‪.‬‬
‫وقرين اإلنسان من املالئكة وقرينه من اجلنّ يتعاوران اإلنسان‪ ،‬هذا يأمره‬
‫بالشر ويرغبه فيه‪ ،‬وذاك حيثه على اخلري ويرغبه فيه‪ ،‬فعن ابن مسعود ÷‪ :‬أن‬
‫رسول اهلل " قال‪= :‬إن للشيطان ملة بابن آدم‪ ،‬وللملك ملة‪ ،‬فأمّا ملة الشيطان‬
‫فإيعاد بالشر‪ ،‬وتكذيب باحلق‪ ،‬وأمّا ملة امللك فإيعاد باخلري‪ ،‬وتصديق باحلق‪،‬‬
‫فمن وجد من ذلك شيئاً فليعلم أنّه من اهلل‪ ،‬وليحمد اهلل‪ ،‬ومن وجد األخرى‪،‬‬
‫الشْيطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ‬
‫فليتعوذ باهلل من الشيطان الرجيم‪ ،‬ثم قرأ‪َّ [ :‬‬
‫بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِ َرةً مِنْهُ وَفَضْالً وَاللَّهُ وَاسِعٌ َعلِيمٌ] (البقرة‪.) 268:‬‬
‫قال ابن كثري‪ ،‬بعد إيراده هلذا احلديث‪= :‬هكذا رواه الرتمذي والنسائي يف‬
‫كتابي التفسري من سننهما مجيعاً‪ ،‬عن هناد بن السري‪.‬‬
‫وأخرجه ابن حبان يف صحيحه‪ ،‬عن أبي يعلى املوصلي‪ ،‬عن هناد به‪ ،‬وقال‬
‫الرتمذي‪ :‬حسن غريب‪ ،‬وهو حديث أبي األحوص‪ ،‬يعين سالم بن سليم ‪.+...‬‬
‫‪ _5‬تسجيل أعمال بين آدم‪ :‬فهناك مالئكة موكلون حبفظ أعمال بين آدم من‬
‫خري وشرّ‪ ،‬وهؤالء هم املعنيون بقوله _تعاىل_‪[ :‬وَإِنَّ َع َليْكُمْ لَحَا ِفظِنيَ(‪)11‬‬
‫كِرَاماً كَاتِبِنيَ(‪ )11‬يَ ْعلَمُونَ مَا تَفْ َعلُونَ (‪ ])12‬اإلنفطار ‪.‬‬

‫‪ _ 1‬مسلم (‪.)2814‬‬
‫الرسالة السابعة‪ :‬اإلميان باملالئكة‬ ‫‪174‬‬
‫وقد وكل اهلل بكل إنسان ملكني حاضرين‪ ،‬ال يفارقانه‪ ،‬حيصيان عليه أعماله‬
‫حبْلِ‬
‫حنُ أَقْرَبُ إِلَْيهِ ِمنْ َ‬
‫وأقواله‪[ :‬وَلَقَدْ خَلَ ْقنَا اإلِنْسَانَ وَنَعْلَ مُ مَا تُوَسْوِسُ ِبهِ َنفْ ُسهُ وَنَ ْ‬
‫ظ مِنْ‬
‫الْوَرِيدِ (‪ )16‬إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ َعنْ الْيَمِنيِ وَ َعنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (‪ )17‬مَا يَ ْلفِ ُ‬
‫قَوْلٍ إِالَّ لَدَْيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (‪ ])18‬ق‪.‬‬
‫ومعنى قعيد‪ :‬أي مرتصد‪.‬‬
‫ورقيب عتيد‪ :‬أي مراقب مُعِدٌّ لذلك ال يرتك كلمة تفلت ‪.‬‬
‫‪ _6‬نزع أرواح العباد عندما تنتهي آجاهلم‪ :‬فقد اختص اهلل بعض مالئكته بنزع‬
‫أرواح العباد عندما تنتهي آجاهلم اليت قدرها اهلل هلم‪ ،‬قال _تعاىل_‪[ :‬قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ‬
‫مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ ِبكُمْ ثُمَّ إِلَى رَِّبكُمْ تُرْجَعُونَ] (السجدة‪.)11:‬‬
‫والذين يقبضون األرواح أكثر من ملك‪ [ :‬وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ ِعبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَْي ُكمْ‬
‫حفَ َظةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّْتهُ رُسُُلنَا وَهُمْ ال ُيفَرِّطُونَ (‪ )61‬ثُمَّ رُدُّوا إِلَى‬
‫َ‬
‫حكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَا ِسبِنيَ (‪ ])62‬األنعام‪.‬‬
‫اللهِ مَوْالهُمْ الْحَقِّ أَال َلهُ الْ ُ‬
‫َّ‬
‫وتنزع املالئكة أرواح الكفرة واجملرمني نزعاً شديداً عنيفاً بال رفق وال هوادة‪:‬‬
‫[ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَالِئ َكةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا‬
‫أَنفُ َسكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ] (األنعام‪.)93:‬‬
‫وقال‪ [ :‬وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ َكفَرُوا الْمَالِئ َكةُ َيضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ َوأَ ْدبَارَهُمْ‬
‫وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ] (األنفال‪.)51:‬‬
‫وقال‪َ [ :‬فكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَالِئ َكةُ َيضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ َوأَدْبَارَهُمْ]‬
‫(حممد‪.)27:‬‬
‫أما املؤمنون فإن املالئكة تنزع أرواحهم نزعاً رفيقاً‪.‬‬
‫‪ _7‬إقباهلم على املؤمنني‪ :‬وذلك مبحبتهم‪ ،‬وتسديدهم‪ ،‬والصالة عليهم‬
‫‪175‬‬ ‫الرسالة السابعة‪ :‬اإلميان باملالئكة‬

‫كصالتهم على معلم اخلري‪ ،‬والذين ينتظرون صالة اجلماعة‪ ،‬والذين يصلون يف‬
‫الصف األول‪ ،‬والذين يسدون الفرج بني الصفوف‪ ،‬والذين يتسحرون‪ ،‬ويصلون‬
‫على النيب" والذين يعودون املرضى‪.‬‬
‫ومن إقباهلم على املؤمنني تأمينهم على دعائهم‪ ،‬واستغفارهم هلم‪ ،‬وشهودهم‬
‫جمالس العلم وحِلَق الذِّكر‪ ،‬وتسجيل الذين حيضرون اجلمعة‪ ،‬وتنزهلم عند من يُقرأ‬
‫( ‪)1‬‬
‫القرآن‪ ،‬ومقاتلتهم مع املؤمنني يف احلروب إىل غري ذلك من األعمال‪.‬‬
‫‪ _8‬بغضهم للكافرين‪ :‬فاملالئكة ال حيبون الكفرة الظاملني‪ ،‬بل يعادونهم‬
‫وحياربونهم‪ ،‬ويزلزلون قلوبهم‪ ،‬ويلعنونهم ‪.‬‬
‫سادساً‪ :‬املفا لة ب املمجئ ة وصاحل البشر‬
‫هذه املسألة وقع اخلالف فيها قدمياً‪ ،‬وكثرت فيها األقوال‪ ،‬وحتقيق القول‬
‫وخالصته يف هذه املسألة ما ذكره شيخ اإلسالم ابن تيمية × من أن صاحلي البشر‬
‫أفضل باعتبار كمال النهاية وذلك إمنا يكون إذا دخلوا اجلنة‪ ،‬ونالوا الزلفى‪ ،‬وسكنوا‬
‫الدرجات العال‪ ،‬وحياهم الرمحن‪ ،‬وخصهم مبزيد قربه‪ ،‬وجتلى هلم‪ ،‬يستمتعون‬
‫بالنظر إىل وجهه الكريم‪ ،‬وقامت املالئكة يف خدمتهم بإذن ربهم ‪.‬‬
‫واملالئكة أفضل باعتبار البداية؛ فإن املالئكة اآلن يف الرفيق األعلى‪ ،‬منزهون عمّا‬
‫يالبسه بنو آدم‪ ،‬مستغرقون يف عبادة الرب‪.‬‬
‫وال ريب أن هذه األحوال اآلن أكمل من أحوال البشر‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪ :‬وبهذا التفصيل يتبني سرّ التفضيل‪ ،‬وتتفق أدلة الفريقني‪ ،‬ويصالَح‬
‫كلٌّ منهم على حقه‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر عامل املالئكة األبرار‪ ،‬د‪ .‬عمر األشقر ص‪.76_59‬‬


‫الرسالة السابعة‪ :‬اإلميان باملالئكة‬ ‫‪176‬‬
‫واهلل أعلم بالصواب(‪.)1‬‬

‫‪ _ 1‬انظر جمموع الفتاوى ‪ ،351/11‬ولوامع األنوار البهية للسفاريين ‪ ،368/2‬وشرح العقيدة الطحاوية ص‪،338‬‬
‫وكتاب السيوطي احلبائك يف أخبار املالئك وفيه مبحث طويل يف ذلك من ص‪ ،251_213‬وانظر عامل املالئكة األبرار‬
‫ص‪.96‬‬
‫‪177‬‬ ‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬

‫الرسالة الثامنة‬

‫اإلميان بالكتب‬
‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬ ‫‪178‬‬
‫‪179‬‬ ‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬

‫املقدمة‬

‫احلمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم على رسول اهلل‪ ،‬أما بعد‪.‬‬


‫فإن اإلميان بالكتب هو الركن الثالث من أركان اإلميان‪ ،‬والكالم على هذا‬
‫الركن ههنا سيكون يف املباحث التالية‪:‬‬
‫املبحث األول‪ :‬مفهوم اإلميان بالكتب‪ ،‬وما يتعلق به‪.‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬مواضع االتفاق واالختالف بني الكتب السماوية‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬القرآن‪ ،‬والتوراة‪ ،‬واإلجنيل‪.‬‬
‫فهذه املباحث‪ ،‬وما يندرج حتتها من مسائل هي حمور احلديث يف الصفحات‬
‫التالية‪ ،‬فإىل تفاصيل ذلك‪.‬‬
‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬ ‫‪184‬‬
‫املبحث األول‪ :‬مفهوم اإلميان بالكتب‪ ،‬وما يتعلق به‬

‫أوالً‪ :‬تعري ال ت لغةً وشرعاً‬


‫الكتب يف اللغة‪ :‬مجع كتاب مبعنى مكتوب‪ ،‬مثل فراش مبعنى مفروش‪ ،‬وإله‬
‫مبعنى مألوه‪ ،‬وغراس مبعنى مغروس‪.‬‬
‫ومادة (كتب) تدور حول اجلمع والضم‪ ،‬ومسي الكاتب كاتباً؛ ألنه جيمع‬
‫احلروف‪ ،‬ويضم بعضها إىل بعض‪.‬‬
‫ومنه الكتيبة من اجليش مسيت كتيبةً؛ الجتماعها‪ ،‬وانضمام بعضها إىل‬
‫بعض‪ ،‬ومنه تسمية اخلياط كاتباً؛ ألنه جيمع أطراف الثوب إىل بعض‪ ،‬كما يف‬
‫مقامات احلريري(‪ )1‬حيث قال ملغزاً‪:‬‬
‫حرف ـاً وال ــرأوا مــا خ ـطَّ يف ال ت ـ‬ ‫وكـ ـ ــاتب ومـ ـ ــا خط ـ ــ أناملـ ـ ــهم‬
‫ويَقْصدُ بهم اخلياطني‪.‬‬
‫أما يف الشرع‪= :‬فاملراد بها الكتب اليت أنزهلا اهلل _تعاىل_ على رسله؛ رمحة‬
‫للخلق‪ ،‬وهداية هلم؛ ليصلوا بها إىل سعادة الدنيا واآلخرة‪.)2(+‬‬

‫ثانياً‪ :‬ما يتضمق اإلميان بال ت‬


‫‪ _1‬اإلميان بأنها أنزلت من عند اهلل حقَّاً‪.‬‬
‫‪ _2‬اإلميان مبا علمنا امسه منها بامسه كالقرآن الذي نُزِّل على حممد"‬
‫والتوراة اليت أُنزلت على موسى"واإلجنيل الذي نزل على عيسى _عليه الصالة‬

‫‪ _ 1‬مقامات احلريري‪ ،‬ص‪.286‬‬


‫‪ _ 2‬رسائل يف العقيدة للشيخ حممد بن عثيمني‪ ،‬ص‪.23‬‬
‫‪180‬‬ ‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬

‫والسالم_ والزبور الذي أوتيه داود_عليه السالم_‪.‬‬


‫وأما ما مل نعلمه من الكتب املنزلة فنؤمن به إمجاالً‪.‬‬
‫‪ _3‬تصديق ما صح من أخبارها‪ ،‬كأخبار القرآن‪ ،‬وأخبار ما مل يبدل‪ ،‬أو‬
‫حيرف من الكتب السابقة‪.‬‬
‫‪ _4‬العمل مبا مل ينسخ منها‪ ،‬والرضا‪ ،‬والتسليم به‪ ،‬سواء فهمنا حكمته أو‬
‫مل نفهمها‪.‬‬
‫ومجيع الكتب السابقة منسوخة بالقرآن العظيم‪ ،‬قال اهلل _تعاىل_‪[ :‬وَأَنزَلْنَا‬
‫إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَْينَ َيدَيْهِ ِمنْ الْكِتَابِ وَ ُمهَيْمِناً عَلَيْهِ]‬
‫(املائدة‪.)48:‬‬
‫أي حاكماً عليه‪ ،‬وعلى هذا فال جيوز العمل بأي حكم من أحكام الكتب‬
‫السابقة إال ما صح وأقره القرآن(‪.)1‬‬

‫ثالثاً‪ :‬أهمية اإلميان بال ت‬


‫لإلميان بالكتب أهمية عُظمى تتجلى يف أمور منها ما يلي‪:‬‬
‫‪ _1‬اإلميان بالكتب أصل من أصول العقيدة‪ ،‬وركن من أركان اإلميان‪ ،‬وال‬
‫يصح إميان أحد إال إذا آمن بالكتب اليت أنزهلا اهلل على رسله _عليهم السالم_‪.‬‬
‫‪ _2‬أن اهلل _عز وجل_ أثنى على الرسل الذين يبلغون عن اهلل رساالته؛ فقال‬
‫_عز وجل_‪َّ [ :‬الذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَاالتِ اللَّهِ َويَخْشَ ْونَهُ وَال يَخْشَوْنَ أَحَداً إِالَّ اللَّهَ]‬

‫‪ _1‬انظر رسائل يف العقيدة ص‪.23‬‬


‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬ ‫‪181‬‬
‫(األحزاب‪.)39 :‬‬
‫كما أخرب _سبحانه_ أن الرسول " واملؤمنني آمنوا مبا أنزل من عند اهلل من‬
‫كتب‪ ،‬قال _تعاىل_‪ [ :‬آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ ِإَليْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ‬
‫بِاللَّهِ وَمَالئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُ ُسلِهِ] (البقرة‪.)285 :‬‬
‫‪ _3‬أن اهلل أمر املؤمنني بأن يؤمنوا مبا أنزله كما يف قوله _تعاىل_‪[ :‬قُولُوا آمَنَّا‬
‫بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ ِإَليْنَا وَمَا أُنزِلَ ِإلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَاألَسْبَاطِ‬
‫وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ال نُفَرِّقُ َبيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ‬
‫وَنَحْنُ لَهُ مُ ْسلِمُونَ] (البقرة‪.)136 :‬‬
‫‪ _1‬أن اهلل أهلك األمم بسبب تكذيبهم برساالته‪ ،‬كما أخرب اهلل عن صاحل‬
‫بقوله‪ [ :‬فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَْبلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ‬
‫ال تُحِبُّونَ النَّاصِحِنيَ] (األعراف‪.)79 :‬‬
‫‪ _5‬أن من أنكر شيئاً مما أنزل اهلل فهو كافر كما قال _تعاىل_‪[ :‬وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ‬
‫وَمَالئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُ ُسلِهِ وَاْليَوْمِ اآلخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَالالً بَعِيداً] (النساء‪.)136:‬‬

‫رابعاً‪ :‬مثرات اإلميان بال ت‬


‫اإلميان بالكتب يثمر مثراتٍ جليلةً منها‪:‬‬
‫‪ _1‬العلم بعناية اهلل؛ حيث أنزل لكل قوم كتاباً يهديهم به‪.‬‬
‫‪ _2‬العلم حبكمة اهلل؛ حيث شرع لكل قوم ما يناسبهم‪ ،‬ويالئم أحواهلم‪.‬‬
‫‪ _3‬التحرر من زباالت أفكار البشر بهدي السماء‪.‬‬
‫‪183‬‬ ‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬

‫‪ _4‬السري على طريقٍ مستقيمةٍ واضحةٍ ال اضطراب فيها وال اعوجاج‪.‬‬


‫‪ _5‬الفرح بذلك اخلري العظيم [ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِ َذلِكَ َف ْليَفْرَحُوا هُوَ‬
‫َخيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ](يونس‪.)58 :‬‬
‫‪ _6‬شكر اهلل على هذه النعمة العظيمة‪.‬‬
‫‪ _7‬التحرر من التخبط الفكري والعقدي(‪.)1‬‬

‫خامساً‪ :‬أدلة اإلميان بال ت‬


‫لقد تظاهرت األدلة من الكتاب والسنة على اإلميان بالكتب‪ ،‬فمن ذلك قوله‬
‫_تعاىل_‪[ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ َعلَى‬
‫رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ] (النساء‪ )136 :‬وقوله _تعاىل_‪[ :‬وَقُلْ‬
‫آمَنْتُ بِمَا أَْنزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ] (الشورى‪.)15 :‬‬
‫وقال _عليه الصالة والسالم_ كما يف حديث جربيل املشهور عندما سأله عن‬
‫اإلميان قال‪ =:‬أن تؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله‪+‬احلديث(‪.)2‬‬

‫سادساً‪ :‬الغاية مق نلال ال ت‬


‫أنزلت الكتب السماوية كلُّها لغايةٍ واحدةٍ‪ ،‬وهدف واحد وهو أن يُعَْبدَ اهلل‬
‫وحده ال شريك له‪ ،‬ولتكون منهج حياة للبشر الذين يعيشون يف هذه األرض‪،‬‬
‫تقودهم مبا فيها من هداية إىل كل خري‪ ،‬ولتكون روحاً ونوراً حتيي نفوسهم‪،‬‬

‫‪ _1‬انظر‪ :‬رسائل يف العقيدة اإلسالمية‪ ،‬ص‪.23‬‬


‫‪ _2‬رواه البخاري (‪ )51‬ومسلم (‪.)8‬‬
‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬ ‫‪184‬‬
‫وتكشف ظلماتها‪ ،‬وتنري هلم دروب احلياة كلها(‪.)1‬‬

‫سابعاً‪ :‬ما يضاد اإلميان بال ت‬


‫يضاد اإلميان بالكتب تكذيبها‪ ،‬والكفر بها‪ ،‬وحتريفها‪.‬‬
‫كما يضادها‪ :‬اإلعراضُ عن القرآن‪ ،‬وادعاء نسخه‪ ،‬والتحاكم إىل غريه‪،‬‬
‫وادعاء نقصه‪ ،‬ومضاهاته‪ ،‬ومعارضته‪.‬‬

‫ثامناً‪ :‬الطوائ اليت لّ يف باب اإلميان بال ت‬


‫هذا وإن هناك طوائفَ كثريةً ضلت يف هذا الباب منها‪:‬‬
‫‪ _1‬اليهود‪ :‬وذلك بتكذيبِهم للقرآن‪ ،‬وتكذيبُهم للقرآن هو يف احلقيقة‬
‫تكذيب جلميع الكتب السماوية‪.‬‬
‫‪ _2‬النصارى‪ :‬يقال عنهم ما قيل عن اليهود‪ ،‬وقد مر احلديث عنهما‪.‬‬
‫‪ _3‬الشيعة‪ :‬وذلك بادعائها أن القرآن ناقص وحمرّف‪ ،‬وأن القرآن الكامل مع‬
‫الغائب الذي سيخرج يف آخر الزمان من سرداب سامراء!‬
‫ثم إنهم ضلوا يف هذا الباب بسبب جعلهما ما يف اجلفر واجلامعة مصدراً للتلقي‬
‫عندهم‪.‬‬
‫وضلوا _أيضاً_ يف تأويل القرآن حيث أغرقوا يف الباطنية يف تأويله(‪.)2‬‬

‫‪ _1‬انظر الرسل والرساالت‪ ،‬د‪ .‬عمر األشقر‪ ،‬ص‪.235‬‬


‫‪ _ 2‬انظر الشيعة والسنة‪ ،‬إلحسان إهلي ظهري‪ ،‬ص‪ ،78‬وانظر‪ :‬بطالن عقائد الشيعة‪ ،‬حملمد‬
‫عبدالستار التونسي‪ ،‬ص‪ ،35‬ومسألة التقريب بني أهل السنة والشيعة‪ ،‬د‪ .‬ناصر القفاري ‪.215_212/1‬‬
‫‪185‬‬ ‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬

‫‪ _1‬البابية والبهائية‪ :‬وذلك بادعائها نسخ القرآن الكريم‪ ،‬والشريعة‬


‫اإلسالمية بشريعة الباب والبهاء(‪.)1‬‬
‫‪ _5‬التيجانية‪ :‬وذلك بتفضيلها أورادَها وأذكارَها _كصالة الفاتح_ على القرآن‬
‫الكريم؛ حيث قالوا‪ :‬إن قراءة صالة الفاتح مرة واحدة أفضل من قراءة القرآن‬
‫ستة آالف مرة(‪.)2‬‬
‫‪ _6‬غالة الصوفية عموماً‪ :‬وذلك بادعائهم العلم اللَّدُنِّي الذي يوحى إليهم‪،‬‬
‫ويغنيهم عن القرآن كما يزعمون‪.‬‬
‫ثم إن مصدر التلقي عندهم ليس القرآن والسنة بل يقوم على الرؤى‬
‫واألحالم‪ ،‬والكشف‪ ،‬وغري ذلك(‪ )3‬مما خيالف ما جاء يف القرآن‪.‬‬
‫‪ _7‬النصريية والدروز وسائر الفرق الباطنية‪ :‬وذلك باحنرافهم يف تأويل‬
‫القرآن‪ ،‬وإغراقهم يف التأويل الباطين‪ ،‬وإخراج القرآن عن معانيه وحقائقه‬
‫الصحيحة‪ ،‬وكذلك ادعاء بعضهم نسخ اإلسالم كما يقول علي بن الفضل‬
‫الباطين _قبحه اهلل_‪:‬‬
‫وهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ا نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ب ـ ـ ـ ـ ـ ــً يع ـ ـ ـ ـ ـ ــرب‬ ‫ت ـ ـ ـ ـ ـ ــول نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ بـ ـ ـ ـ ـ ــً هاش ـ ـ ـ ـ ـ ــم‬
‫شـ ـ ـ ـ ــريعة هـ ـ ـ ـ ـ ا الـ ـ ـ ـ ــن‬ ‫وهـ ـ ـ ـ ـ‬ ‫ل ـ ـ ـ ـ ـ ــل ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ مضـ ـ ـ ـ ـ ــى شـ ـ ـ ـ ـ ــرعةٌ‬

‫‪ _ 1‬انظر البابية عرض ونقد‪ ،‬إلحسان إهلي ظهري‪ ،‬ص‪ 114‬والبابية للكاتب‪ ،‬والبائية نقد‬
‫وحتليل‪ ،‬إلحسان إهلي ظهري‪ ،‬ص‪ 222‬والبهائية للكاتب‪.‬‬
‫‪ _ 2‬انظر التيجانية‪ ،‬لعلي الدخيل اهلل‪ ،‬ص‪.123 -116‬‬
‫‪ _ 3‬انظر التصوف املنشأ واملصادر‪ ،‬إلحسان إهلي ظهري‪ ،275 -261 ،‬وهذه هي الصوفية‪،‬‬
‫للشيخ عبدالرمحن الوكيل‪ ،‬ص‪.71‬‬
‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬ ‫‪186‬‬
‫وفـ ـ ـ ــرل الصـ ـ ـ ــيام فلـ ـ ـ ــم نتعـ ـ ـ ــ‬ ‫فقـ ــد ح ـ ــط عنـ ــا ف ـ ــرول الص ـ ــمجة‬
‫إىل آخر ذلك الكفر الصراح البواح(‪.)1‬‬
‫‪ _8‬املشرعون والقانونيون‪ :‬الذين أعرضوا عن حتكيم القرآن‪ ،‬وعارضوه‬
‫بزباالت أفكارهم‪ ،‬زاعمني أنه ال يناسب العصر احلديث‪ ،‬وال يفي حباجاته‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر‪ :‬كشف أسرار الباطنية‪،‬البن أبي الفضائل احلمادي اليمين‪ ،‬ص‪ ،51‬واحلركات‬
‫الباطنية‪ ،‬د‪ .‬حممد بن أمحد اخلطيب‪ ،‬ص‪ 66‬و‪ ،349‬والنصريية‪ ،‬د‪ .‬سهل الفيل‪ ،‬ص‪،87‬‬
‫والباكورة السليمانية يف كشف أسرار الديانة النصريية لسليمان األذني‪ ،‬ص‪.51 -48‬‬
‫‪187‬‬ ‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬
‫املبحث الثاني‪ :‬مواضع االتفاق واالختالف بني الكتب السماوية‬

‫االتفاق ب ال ت السماوية‬ ‫أوالً‪ :‬موا‬


‫تتفق الكتب السماوية يف أمور عديدة منها‪:‬‬
‫‪ _1‬وحدة املصدر‪ :‬فمصدرها واحد؛ فهي منزلة من عند اهلل‪ ،‬قال _تعاىل_‪:‬‬
‫[امل (‪ )1‬اللَّهُ ال ِإلَهَ إِالَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (‪ )2‬نَزَّلَ َع َليْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً‬
‫لِمَا َبيْنَ يَدَيْهِ وَأَْنزَلَ التَّوْرَاةَ وَاإلِنْجِيلَ (‪ )3‬مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَْنزَلَ‬
‫الْفُرْقَانَ](آل عمران‪.)4_1:‬‬
‫‪ _2‬وحدة الغاية‪ :‬فالكتب السماوية غايتها واحدة‪ ،‬فهي كلها تدعو إىل عبادة‬
‫اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وإىل دين اإلسالم؛ فاإلسالم هو دين مجيع الرسل‪،‬‬
‫قال _تعاىل_‪َ [:‬ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُوالً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ]‬
‫(النحل‪.)36 :‬‬
‫وقال _تعاىل_‪[ :‬إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ اإلِسْالمُ] (آل عمران‪.)19 :‬‬
‫واإلسالم هو الدين الذي أُمِر به إبراهيم _عليه السالم_‪[ :‬إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ‬
‫أَ ْسلِمْ قَالَ أَ ْسلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِنيَ] (البقرة‪.)131 :‬‬
‫وقال موسى _عليه السالم_ لقومه‪[ :‬يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَ َع َليْهِ تَوَكَّلُوا‬
‫إِنْ كُنْتُمْ مُ ْسلِمِنيَ] (يونس‪.)84 :‬‬
‫واحلواريون قالوا لعيسى _عليه السالم_‪[ :‬آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُ ْسلِمُونَ]‬
‫(آل عمران‪.)52 :‬‬
‫فالغاية _إذاً_ هي الدعوة إىل دين اإلسالم‪ ،‬وإىل عبادة اهلل وحده ال شريك له‪.‬‬
‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬ ‫‪188‬‬
‫‪ _3‬مسائل العقيدة‪ :‬فالكتب اشتملت على اإلميان بالغيب‪ ،‬ومسائل العقيدة‪،‬‬
‫كاإلميان بالرسل‪ ،‬والبعث والنشور‪ ،‬واإلميان باليوم اآلخر إىل غري ذلك‪.‬‬
‫فمسائل العقيدة من باب األخبار اليت ال تنسخ‪.‬‬
‫‪ _1‬القواعد العامة‪ :‬فالكتب السماوية تقرر القواعد العامة‪ ،‬اليت البد أن‬
‫تعيها البشرية؛ كقاعدة الثواب والعقاب‪ ،‬وهي أن اإلنسان حياسب بعمله‪،‬‬
‫فيعاقب بذنوبه وأوزاره‪ ،‬وال يؤاخذ جبريرة غريه‪ ،‬ويثاب بسعيه‪ ،‬وليس له سعي‬
‫غريه كما قال _تعاىل_‪[ :‬أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (‪ )36‬وَإِبْرَاهِي َم الَّذِي‬
‫وَفَّى (‪ )37‬أَالَّ َتزِرُ وَازِ َرةٌ وِزْرَ أُخْرَى (‪ )38‬وَأَنْ َلْيسَ لِإلِنسَانِ إِالَّ مَا سَعَى‬
‫جزَاءَ األَوْفَى] (النجم‪:‬‬
‫جزَاهُ الْ َ‬
‫(‪ )39‬وَأَنَّ سَ ْعيَهُ سَوْفَ يُرَى (‪ )41‬ثُمَّ يُ ْ‬
‫‪.)41_36‬‬
‫ومن ذلك احلث على تزكية النفس‪ ،‬وبيان أن الفالح احلقيقي ال يتحقق إال‬
‫بتزكية النفس بالطاعة هلل‪ ،‬والعبودية له‪ ،‬وإيثار اآلجل على العاجل‪.‬‬
‫قال _تعاىل_‪[ :‬قَدْ أَ ْفلَحَ مَنْ َتزَكَّى (‪ )14‬وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (‪ )15‬بَلْ‬
‫حيَاةَ الدُّْنيَا (‪ )16‬وَاآلخِ َرةُ َخيْرٌ وَأَْبقَى (‪ )17‬إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ‬
‫تُؤْثِرُونَ الْ َ‬
‫األُولَى (‪ )18‬صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى] (األعلى‪.)19_14 :‬‬
‫ومن تلك القواعد أن الذي يستحق وراثة األرض هم عباد اهلل الصاحلون؛‬
‫[ َولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ األَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ]‬
‫(األنبياء‪.)115 :‬‬
‫ومن ذلك أن العاقبة للتقوى وللمتقني‪ ،‬كما قال _تعاىل_‪[ :‬وَالْعَاقِبَةُ‬
‫‪189‬‬ ‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬

‫لِلتَّقْوَى] (طه‪ )132 :‬وقال‪[ :‬وَالْعَاقِبَةُ ِللْمَُّتقِنيَ] (األعراف‪.)128 :‬‬


‫‪ _5‬العدل والقسط‪ :‬فجميع األنبياء _عليهم السالم_ محلوا ميزان العدل‬
‫والقسط‪ ،‬قال _تعاىل_‪[ :‬لَقَدْ أَرْ َسلْنَا رُ ُسلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَْن َزلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ‬
‫وَالْمِيزَانَ ِليَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] (احلديد‪.)25 :‬‬
‫‪ _6‬حماربة الفساد واالحنراف‪ :‬وهذا ما اتفقت عليه الرساالت؛ سواء كان‬
‫الفساد عقدياً أو خلقياً‪ ،‬أو احنرافاً عن الفطرة‪ ،‬أو عدواناً على البشر‪ ،‬أو تطفيفاً‬
‫يف الكيل وامليزان‪ ،‬أو غري ذلك‪.‬‬
‫‪ _7‬الدعوة إىل مكارم األخالق‪ :‬فالكتب كلها دعت إىل مكارم األخالق‪،‬‬
‫كالعفو عن املسيء‪ ،‬وكالصرب على األذى‪ ،‬وكالقول احلسن‪ ،‬وبر الوالدين‪،‬‬
‫والوفاء بالعهد‪ ،‬وصلة األرحام‪ ،‬وإكرام الضيف‪ ،‬والتواضع‪ ،‬والعطف على‬
‫املساكني‪ ،‬إىل غري ذلك من مكارم األخالق‪.‬‬
‫‪ _8‬كثري من العبادات‪ :‬فكثري من العبادات اليت نقو م بها كانت معروفة عند‬
‫حيْنَا ِإَليْهِمْ فِعْلَ‬
‫الرسل وأتباعهم‪ ،‬كالصالة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬قال _تعاىل_‪[ :‬وَأَوْ َ‬
‫خيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّالةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ] (األنبياء‪.)73 :‬‬
‫الْ َ‬
‫وإمساعيل _عليه السالم_‪[ :‬كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّالةِ وَالزَّكَاةِ] (مريم‪)55:‬‬
‫وقال اهلل ملوسى _عليه السالم_‪[ :‬فَاعُْب ْدنِي وَأَقِمْ الصَّالةَ ِلذِكْرِي] (طه‪)14:‬‬
‫ت‬
‫وقال عيسى _عليه السالم_ كما أخرب اهلل عنه‪[ :‬وَأَ ْوصَانِي بِالصَّال ِة وَالزَّكَا ِة مَا دُمْ ُ‬
‫حَيّاً] (مريم‪.)31:‬‬
‫والصوم _كذلك_ مفروض علينا كما هو مفروض على من قبلنا‪ ،‬قال‬
‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬ ‫‪194‬‬
‫الصيَامُ كَمَا كُتِبَ َعلَى الَّذِينَ مِنْ‬
‫_تعاىل_‪[ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ َعلَيْكُمْ ِّ‬
‫قَْبلِكُمْ] (البقرة‪.)183 :‬‬
‫واحلج كذلك‪ ،‬كما يف قول اهلل _تعاىل_ إلبراهيم _عليه السالم_‪[ :‬وَأَذِّنْ فِي‬
‫النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَاالً] (احلج‪.)27 :‬‬
‫وقد جعل اهلل لكل أمة مناسكها وعبادتها‪ ،‬قال _عز وجل_‪[ :‬وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا‬
‫مَنْسَكًا لَِيذْكُرُوا اسْمَ اللَّ ِه عَلَى مَا رَزََقهُ ْم ِم ْن َبهِيمَةِ ا َألنْعَامِ](احلج‪.)1()34:‬‬

‫االختمجف ب ال ت السماوية‬ ‫ثانياً‪ :‬موا‬


‫ختتلف الكتب السماوية يف الشرائع‪ ،‬فشريعة عيسى ختالف شريعة موسى‬
‫_عليهما السالم_ يف بعض األمور‪ ،‬وشريعة حممد"ختالف شريعة موسى‬
‫وعيسى _عليهما السالم_ يف أمور‪.‬‬
‫قال _تعاىل_‪[:‬لِكُلٍّ جَ َعلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً](املائدة‪.)48 :‬‬
‫وليس معنى ذلك أن الشرائع ختتلف اختالفاً كلياً؛ فالناظر يف الشرائع جيد أنها‬
‫متفقة يف املسائل األساسية‪ ،‬وقد مر بنا شيء من ذلك‪ ،‬فاالختالف بينها إمنا‬
‫يكون يف التفاصيل‪.‬‬
‫فعدد الصلوات‪ ،‬وأركانها‪ ،‬وشروطها‪ ،‬ومقادير الزكاة‪ ،‬ومواضع النسك‪،‬‬
‫وحنو ذلك_قد ختتلف من شريعة إىل شريعة‪ ،‬وقد يُحِل اهلل أمراً يف شريعة‬
‫حلكمة‪ ،‬وحيرمه يف شريعة أخرى حلكمة يعلمها_عز وجل_وال يلزم أن نعلمها‪،‬‬

‫‪ _1‬انظر الرسل والرساالت ص‪.249_235‬‬


‫‪190‬‬ ‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬

‫ومن األمثلة على ذلك مايلي‪:‬‬


‫‪ _1‬الصوم‪ :‬فقد كان الصائم يفطر يف غروب الشمس‪ ،‬ويباح له الطعام‪،‬‬
‫والشراب‪ ،‬والنكاح إىل طلوع الفجر ما مل ينم‪ ،‬فإن نام قبل الفجر حرم عليه‬
‫ذلك كله إىل غروب الشمس من اليوم الثاني‪ ،‬فخفف اهلل عن هذه األمة‪ ،‬وأحله‬
‫من الغروب إىل الفجر‪ ،‬سواء نام أو مل ينم‪ ،‬قال _تعاىل_‪[ :‬أُحِلَّ لَكُمْ َلْيلَةَ‬
‫الصيَامِ الرَّفَثُ ِإلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ َعلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ‬
‫ِّ‬
‫تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ َع َليْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَاآلنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ‬
‫خيْطِ األَسْ َودِ مِنْ‬
‫خيْطُ األَْبيَضُ مِنْ الْ َ‬
‫لَكُمْ وَ ُكلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْ َ‬
‫الْفَجْرِ] (البقرة‪.)187 :‬‬
‫‪ _2‬سرت العورة حال االغتسال‪ :‬مل يكن واجباً عند بين إسرائيل‪ ،‬ففي‬
‫احلديث الذي رواه البخاري ومسلم‪= :‬كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر‬
‫بعضهم إىل بعض‪ ،‬وكان موسى يغتسل وحده‪.)1(+‬‬
‫‪ _3‬األمور احملرمة‪ :‬فمما أحله اهلل آلدم تزويج بناته من بنيه‪ ،‬ثم حرم اهلل هذا‬
‫بعد ذلك‪.‬‬
‫وكان التسري على الزوجة مباحاً يف شريعة إبراهيم‪ ،‬وقد فعله إبراهيم يف‬
‫هاجر ملا تسرى بها على سارة‪.‬‬
‫وقد حرَّم اهلل مثل هذا على بين إسرائيل يف التوراة‪.‬‬
‫وكذلك اجلمع بني األختني كان سائغاً‪ ،‬وقد فعله يعقوب فتزوج بابنيت خاله‪:‬‬

‫‪ _1‬البخاري (‪ )278‬مسلم (‪.)339‬‬


‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬ ‫‪191‬‬
‫ليَّا‪ ،‬وراحيل؛ وهما أختان‪ ،‬ثم حُرِّمَ عليهم يف التوراة‪.‬‬
‫ومما حرَّمه اهلل على اليهود ما قصه علينا يف سورة األنعام‪ ،‬قال _تعاىل_‪:‬‬
‫[ وَ َعلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا َع َليْهِمْ‬
‫جزَيْنَاهُمْ‬
‫شُحُومَهُمَا إِالَّ مَا حَ َملَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخَْتلَطَ بِ َعظْمٍ َذلِكَ َ‬
‫بِبَ ْغيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ] (األنعام‪.)146 :‬‬
‫ثم جاء عيسى _عليه السالم_فأحل لبين إسرائيل بعض ما حرم عليهم‪.‬‬
‫وجاءت الشريعة اخلامتة‪ ،‬لتكون القاعدة‪ :‬إحالل الطيبات وحتريم اخلبائث‪.‬‬
‫ومما متيزت به الشريعة اخلامتة أنها عامة جلميع الناس إىل قيام الساعة‪ ،‬خبالف‬
‫الشرائع األخرى‪ ،‬فهي خاصة بقوم دون قوم‪ ،‬أو فرتة دون فرتة(‪.)1‬‬

‫‪ _1‬انظر الرسل والرساالت ص‪.251‬‬


‫‪193‬‬ ‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬
‫املبحث الثالث‪ :‬القرآن‪ ،‬والتوراة‪ ،‬واإلجنيل‬

‫أوالً‪ :‬القرآن ومنللته مق ال ت املتقدمة‬


‫القرآن آخر الكتب السماوية وهو خامتها‪ ،‬وهو أطوهلا‪ ،‬وأمشلها‪ ،‬وهو‬
‫احلاكم عليها‪.‬‬
‫قال اهلل _تعاىل_‪ [ :‬وَأَن َزلْنَا ِإَليْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا َبيْنَ يَدَيْهِ مِنْ‬
‫الْكِتَابِ وَمُ َهيْمِناً َع َليْهِ] (املائدة‪.)48 :‬‬
‫وقال _تعاىل_‪[ :‬وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ‬
‫الَّذِي َبيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ ال رَيْبَ فِيهِ مِ ْن رَبِّ الْعَالَمِنيَ] (يونس‪.)37 :‬‬
‫وقال‪ [ :‬مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى َولَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي َبيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ‬
‫شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] (يوسف‪.)111 :‬‬
‫قال أهل التفسري يف قوله _تعاىل_‪[ :‬وَمُ َهيْمِناً َع َليْهِ]‪ :‬مهيمناً وشاهداً على ما‬
‫قبله من الكتب‪ ،‬ومصدقاً هلا؛ يعين يصدق ما فيها من الصحيح‪ ،‬وينفي ما وقع‬
‫فيها من حتريف‪ ،‬وتبديل‪ ،‬وتغيري‪ ،‬وحيكم عليها بالنسخ أو التقرير‪.‬‬
‫وهلذا خيضع له كل متمسك بالكتب املتقدمة ممن مل ينقلب على عقبيه كما‬
‫قال _تبارك وتعاىل_‪[ :‬الَّذِينَ آَتيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَْبلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (‪ )52‬وَإِذَا‬
‫يُْتلَى َعلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَْبلِهِ مُ ْسلِمِنيَ]‬
‫(القصص‪.) 53 _ 52:‬‬
‫فالقرآن هو رسالة اهلل جلميع اخللق‪ ،‬وقد تكفل _سبحانه_ حبفظه [إِنَّا نَحْنُ‬
‫َزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَا ِفظُونَ] (احلجر‪.)9 :‬‬
‫ن َّ‬
‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬ ‫‪194‬‬
‫وال يقبل اهلل من أحد ديناً إال ما جاء يف هذا القرآن العظيم(‪.)1‬‬
‫قال الشيخ عبدالرمحن بن سعدي × يف قوله _تعاىل_‪[ :‬وَمُ َهيْمِناً َع َليْهِ]‪:‬‬
‫= أي مشتمالً على ما اشتملت عليه الكتب السابقة وزيادة يف املطالب اإلهلية‪،‬‬
‫واألخالق النفسية؛ فهو الكتاب الذي يتبع كل حق جاءت به الكتب‪ ،‬فأمر به‪،‬‬
‫وحث عليه‪ ،‬وأكثر من الطرق املوصلة إليه‪.‬‬
‫وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقني والالحقني‪ ،‬وهو الكتاب الذي فيه احلكم‬
‫واحلك مة‪ ،‬واألحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة‪ ،‬فما شهد له بالصدق‬
‫فهو املقبول‪ ،‬وما شهد له بالرد فهو مردود قد دخله التحريف والتبديل‪ ،‬وإال لو‬
‫كان من عند اهلل مل خيالفه‪.)2(+‬‬

‫ثانياً‪ :‬التوراة‬
‫‪ _1‬التوراة يف األصل‪:‬‬
‫التوراة _يف األصل_ هي الكتاب الذي أنزله اهلل على موسى _عليه السالم_‬
‫والتوراة كتاب عظيم اشتمل على النور واهلداية كما قال _تعاىل_‪[ :‬إِنَّا أَن َزلْنَا‬
‫التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَ ْسلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ‬
‫وَاألَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْ ِفظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ] (املائدة‪.)44 :‬‬

‫‪ _1‬انظر أعالم السنة املنشورة العتقاد الطائفة الناجية املنصورة للشيخ حافظ احلكمي‪ ،‬ص‪-81‬‬
‫‪82‬؛ السؤال رقم ‪.81‬‬
‫‪ _2‬تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان البن سعدي ‪.491/1‬‬
‫‪195‬‬ ‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬

‫وقال _تعاىل_‪ [ :‬ثُمَّ آَتيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ َتمَاماً َعلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيالً‬
‫لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ ِبلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ] (األنعام‪.)154 :‬‬
‫وكثرياً ما يقرن اهلل _عز وجل_ يف القرآن بني التوراة والقرآن؛ وذلك ألنهما‬
‫أفضل كتابني أنزهلما اهلل على خلقه‪.‬‬
‫هذه باختصار هي حقيقة التوراة اليت أنزلت على موسى _عليه السالم_‪.‬‬
‫‪ _2‬التوراة املوجودة اليوم( ‪:)1‬‬
‫أما التوراة املوجودة اليوم فهي ما يطلق على الشريعة املكتوبة‪ ،‬كما يطلق لفظ‬
‫(التلمود) على الشريعة الشفهية‪.‬‬
‫والتوراة املوجودة اليوم تشتمل على مخسة أسفار وهي‪:‬‬
‫األول‪ :‬سفر التكوين‪ :‬ويتحدث هذا السفر عن خلق العامل‪ ،‬وظهور اإلنسان‪،‬‬
‫وطوفان نوح‪ ،‬ووالدة إبراهيم إىل موت يوسف _عليه الصالة والسالم_‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬سفر اخلروج‪ :‬ويتحدث عن حياة بين إسرائيل يف مصر‪ ،‬منذ أيام‬
‫يعقوب إىل خروجهم إىل أرض كنعان مع موسى ويوشع بن نون‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬سفر الالويني‪ :‬نسبة إىل الوي بن يعقوب‪ ،‬ويف هذا السفر حديث‬
‫عن الطهارة‪ ،‬والنجاسة‪ ،‬وتقديم الذبائح‪ ،‬والنذر‪ ،‬وتعظيم هارون وبنيه‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬سفر العدد‪ :‬حيصي قبائل بين إسرائيل منذ يعقوب‪ ،‬وأفرادَهم‬
‫ومواشيهم‪.‬‬
‫اخلامس‪ :‬سفر التثنية‪ :‬وفيه أحكام‪ ،‬وعبادات‪ ،‬وسياسة‪ ،‬واجتماع‪ ،‬واقتصاد‪،‬‬

‫‪ _1‬انظر مقارنة بني القرآن والتوراة حملمد الصوياني‪.‬‬


‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬ ‫‪196‬‬
‫وثالثة خطابات ملوسى _عليه السالم_‪.‬‬
‫هذه هي التوراة املوجودة اليوم‪ ،‬وكل عاقل منصف _فضالً عن املسلم املؤمن_‬
‫يعلم براءة التوراة اليت أنزهلا اهلل على موسى _عليه السالم_ مما هو موجود يف‬
‫التوراة اليوم‪ ،‬وذلك ألمور عديدة منها‪:‬‬
‫أ_ ما حصل للتوراة من الضياع والنسخ والتحريف والتدمري‪ ،‬فلقد حُرِّف‬
‫فيها‪ ،‬وبُدِّل‪ ،‬وضاعت‪ ،‬وتعرضت لسبع تدمريات‪ ،‬منذ عهد سليمان _عليه‬
‫السالم_(‪ )945‬قبل امليالد إىل أن حصل التدمري السابع عام ‪613‬م مما يدل على‬
‫ضياعها وانقطاع سندها‪.‬‬
‫ب_ ما تشتمل عليه من عقائد باطلة ال متت إىل ما جاء به املرسلون بأدنى صلة‪.‬‬
‫ج_ اشتماهلا على تنقص الرب _جل وعال_ وتشبيهه باملخلوقني‪ ،‬ومن ذلك‬
‫قوهلم‪=:‬إن اهلل تصارع مع يعقوب ليلة كاملة فصرعه يعقوب‪.+‬‬
‫ومن ذلك قوهلم‪ = :‬إن اهلل ندم على خلق البشر ملا رأى من معاصيهم‪ ،‬وأنه‬
‫بكى حتى رمد فعادته املالئكة‪.+‬‬
‫تعاىل اهلل عما يقول الظاملون علوّاً كبرياً‪.‬‬
‫د_ اشتماهلا على سب األنبياء والطعن فيهم‪ ،‬ومن ذلك قوهلم‪=:‬إن نيب اهلل‬
‫هارون صنع عجالً‪ ،‬وعبده مع بين إسرائيل‪.+‬‬
‫وقوهلم‪ = :‬إن لوطاً شرب مخراً حتى سكر‪ ،‬ثم قام على ابنتيه فزنى بهما‬
‫الواحدة تلو األخرى‪.+‬‬
‫وقوهلم‪= :‬إن سليمان _عليه السالم_ ارتد يف آخر عمره‪ ،‬وعَبَدَ األصنام‪،‬‬
‫‪197‬‬ ‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬

‫وبنى هلا املعابد‪ ،‬إىل غري ذلك من خمازي إخوان القردة‪.)1(+‬‬


‫هـ _ اشتماهلا على املغالطات واملستحيالت واملتناقضات‪.‬‬
‫و_ أن املعركة اليت قامت بني التوراة وحقائق العلم احلديث أثبتت ما يف التوراة‬
‫من األخطاء العلمية‪.‬‬
‫ومن تلك الكتب اليت تكلمت على هذا املوضوع كتابان هما‪( :‬أصل اإلنسان)‬
‫و(التوراة واإلجنيل والقرآن والعلم) لعامل فرنسي امسه (موريس بوكاي) حيث‬
‫أثبت وجود أخطاء علمية يف التوراة واإلجنيل‪ ،‬وأثبت يف الوقت نفسه عدم تعارض‬
‫القرآن مع العلم احلديث وحقائقه‪ ،‬بل سجل شهادات تفوق سبق القرآنُ فيها‬
‫العل َم بألف وأربعمائة عام(‪.)2‬‬

‫ثالثاً‪ :‬اإلجنيل‬
‫‪ _1‬اإلجنيل يف األصل‪:‬‬
‫هو الكتاب العظيم الذي أنزله اهلل على عيسى _عليه السالم_ متمماً للتوراة‪،‬‬
‫ومؤيداً هلا‪ ،‬وموافقاً هلا يف أكثر األمور الشرعية‪ ،‬يهدي إىل الصراط املستقيم‪،‬‬
‫ويبني احلق من الباطل‪ ،‬ويدعو إىل عبادة اهلل وحده دون من سواه‪.‬‬
‫هذا هو اإلجنيل الذي أنزل على عيسى _عليه السالم_‪.‬‬
‫وبعد موت عيسى _عليه السالم_ دخل التحريف اإلجنيل فَغُيِّر فيه‪ ،‬وبدِّل‪،‬‬
‫وزيد فيه‪ ،‬ونقص‪.‬‬

‫‪ _1‬انظر الرسل والرساالت‪.115 -114 ،‬‬


‫‪ _2‬انظر التوراة واإلجنيل والقرآن والعلم (ملوريس بوكاي) ترمجة الشيخ حسن خالد‪.‬‬
‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬ ‫‪198‬‬
‫‪ _2‬اإلجنيل بعد عيسى _عليه السالم_‪:‬‬
‫الكتاب املقدس لدى النصارى يشمل التوراة‪ ،‬واألناجيل‪ ،‬ورسائل الرسل‪.‬‬
‫وتسمى التوراةُ العهدَ القديم‪ ،‬وتسمى األناجيلُ‪ ،‬ورسائلَ الرسلِ العهدَ‬
‫اجلديد‪.‬‬
‫فالعهد اجلديد _إذاً_ هو الذي يشتمل على أناجيلهم‪ ،‬واألناجيل املعتربة عند‬
‫النصارى أربعة هي‪:‬‬
‫الثاني‪ :‬إجنيل مرقُس‪.‬‬ ‫األول‪ :‬إجنيل يوحنَّا‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إجنيل لُوقا‪.‬‬ ‫الثالث‪ :‬إجنيل مَتَّى‪.‬‬
‫وهناك أناجيل أخرى مثل إجنيل برنابا‪ ،‬وأناجيل أخرى أهملت‪.‬‬
‫هذا وقد بيَّن كثري من العلماء املسلمني قدمياً وحديثاً ومن علماء النصارى‬
‫الذين دخلوا يف اإلسالم‪ ،‬أو املتحررين منهم من ربقة التقليد _ عدم صحة هذه‬
‫األناجيل املوجودة يف أيدي النصارى‪ ،‬ووجهوا إليها انتقادات كثرية‪ ،‬ومن هؤالء‬
‫شيخ اإلسالم ابن تيمية _رمحه اهلل تعاىل_ يف كتابه‪ :‬اجلواب الصحيح ملن بدل‬
‫دين املسيح‪ ،‬وابن القيم _رمحه اهلل تعاىل_ يف كتابه‪ :‬هداية احليارى يف أجوبة‬
‫اليهود والنصارى‪.‬‬
‫ومن العلماء املُحْدَثني الشيخ رمحة اهلل اهلندي _رمحه اهلل تعاىل_ يف كتابه‪:‬‬
‫إظهار احلق‪ ،‬والشيخ حممد أبو زهرة _رمحه اهلل تعاىل_ يف كتابه‪ :‬حماضرات يف‬
‫النصرانية‪ ،‬ومن علماء النصارى الذين أسلموا إبراهيم خليل أمحد كما يف‬
‫كتابه‪ :‬حماضرات يف مقارنة األديان‪.‬‬
‫وفيما يلي إمجال لبعض األمور اليت تبني بطالن األناجيل املوجودة بأيدي‬
‫‪199‬‬ ‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬

‫النصارى اليوم وعدم صحتها‪:‬‬


‫أ_ أن هذه األناجيل اليت بأيدي النصارى مل يُ ْملِها عيسى _عليه السالم_ ومل‬
‫تنزل عليه وحياً‪ ،‬ولكنها كتبت بعده‪.‬‬
‫ب_ ما وقع يف األناجيل من تالعب النساخ‪ ،‬وتبديلهم وحتريفهم‪.‬‬
‫ج_ اشتماهلا على املتناقضات‪ ،‬واالختالفات‪ ،‬وقد أحصى الشيخ رمحة اهلل‬
‫اهلندي _يف آخر كتابه إظهار احلق_ أكثر من مائة اختالف بني هذه األناجيل‪.‬‬
‫د_ انقطاع السند يف نسبتها لكتابها‪.‬‬
‫هـ_ اشتماهلا على تنقص الرب _جل وعال_ وعلى نسبة القبائح لألنبياء _عليهم‬
‫السالم_‪.‬‬
‫و_ اشتماهلا على العقائد الباطلة املخالفة للنقل والعقل‪.‬‬
‫ز_ تعارضها مع احلقائق العلمية‪ ،‬كما أثبت ذلك عدد من العلماء؛ منهم‬
‫موريس بوكاي وقد مر معنا ذلك قريباً‪.‬‬
‫ح_ أن تلك األناجيل _وبغض النظر عن كونها حمرفة_ ختلو من أي تصور‬
‫حمدد لنظام سياسي‪ ،‬أو اجتماعي‪ ،‬أو اقتصادي‪ ،‬أو علمي‪.‬‬
‫وباجلملة فإن األناجيل املوجودة اليوم ليست هي اإلجنيلَ الذي أُنزل على‬
‫عيسى _عليه السالم_ وإمنا هي خليط من ديانات ووثنيات هندية‪ ،‬ويونانية‪،‬‬
‫ومصرية قدمية‪.‬‬
‫وهي _كذلك_ صورة ملا صنعه بولس شاؤل الذي غيَّر دين النصارى‪.‬‬
‫وال يعين أن اإلجنيل خيلو من كلمات للمسيح‪ ،‬وإن كان ذلك ال يثبت يف‬
‫ميزان النقد العلمي‪ ،‬وإمنا يُقال ذلك ألن ما يف القرآن يؤيده‪ ،‬ويصدقه‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬هل او ألحد اتباع التوراة أو اإلجنيل بعد نلول القرآن؟‬


‫الرسالة الثامنة‪ :‬اإلميان بالكتب‬ ‫‪344‬‬
‫ال يسوغ ألحد ذلك؛ لالعتبارات السابقة‪ ،‬وألنها _وعلى فرض صحتها_‬
‫كانت خاصة ألمة معينة‪ ،‬ولفرتة حمددة‪ ،‬وألنها نسخت بالقرآن الكريم‪.‬‬
‫ومن هنا يتبني بطالن هذه الكتب‪ ،‬وعدم جواز العمل بها إال ما أقره القرآن‪،‬‬
‫ويتبني لنا ضالل اليهود والنصارى وبطالن مزاعمهم‪ ،‬كيف وقد قال النيب"‪:‬‬
‫=ال يسمع بي أحد من هذه األمة يهودي وال نصراني ثم ميوت ومل يؤمن بالذي‬
‫أرسلت به إال كان من أصحاب النار‪.)1(+‬‬

‫‪ _1‬رواه مسلم (‪.)153‬‬


‫‪340‬‬ ‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬

‫الرسالة التاسعة‬

‫اإلميان بالرسل‬
‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬ ‫‪341‬‬
‫‪343‬‬ ‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬

‫املقدمة‬

‫احلمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم على رسول اهلل‪ ،‬نبينا حممد وعلى آله وصحبه‬
‫ومن وااله‪ ،‬أما بعد‪.‬‬
‫فإن اإلميان بالرسل هو الركن الرابع من أركان اإلميان‪ ،‬والكالم على هذا‬
‫الركن ههنا سيكون من خالل املباحث اآلتية‪:‬‬
‫املبحث األول‪ :‬مفهوم النبوة والرسالة‪.‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬حقيقة األنبياء والرسل‪ ،‬وعصمتهم‪ ،‬ومثرات اإلميان بهم‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬عقيدة ختم النبوة‪ ،‬وما يتعلق بها‪.‬‬
‫فهذه املباحث‪ ،‬وما حتتها هي مدار احلديث يف الصفحات التالية؛ فإىل تفاصيل‬
‫ذلك‪.‬‬
‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬ ‫‪344‬‬
‫املبحث األول‪ :‬مفهوم النبوة والرسالة‬

‫أوالً‪ :‬تعري النبوة والرسالة يف اللغة‬


‫أ_ تعريف النبوة يف اللغة‪ :‬النبوة يف اللغة هلا ثالثة اشتقاقات؛ فهي إما مأخوذة‬
‫من النبأ وهو‪ :‬اخلرب الذي له خطب وشأن؛ فتكون النبوة مبعنى اإلخبار‪.‬‬
‫وإما أن تكون مأخوذة من النباوة‪ ،‬أو النَّْبوَة وكالهما يدل على االرتفاع؛‬
‫فتكون مبعنى الرفعة والعلو‪.‬‬
‫وإما أن تكون مأخوذة من النَّيب‪ ،‬وهو مبعنى الطريق؛ فتكون النبوة مبعنى‬
‫( ‪)1‬‬
‫الطريق إىل اهلل _عز وجل_‪.‬‬
‫واحلقيقة أن النبوة الشرعية تشمل كل هذه املعاني؛ إذ النبوة إخبار عن اهلل _عز‬
‫وجل_ وهي رفعة لصاحبها؛ ملا فيها من التشريف والتكريم‪ ،‬وهي الطريق‬
‫املوصلة إىل اهلل _سبحانه_‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن أوىل هذه املعاني بلفظ النبوة والنيبِّ هو اشتقاقها من النبأ؛ ألن‬
‫النيب مَُنَّبٌأ من اهلل‪ ،‬وهو كذلك ينبئ الناس عن اهلل‪ ،‬وتتحقق نبوته مبجرد ذلك‪،‬‬
‫وبهذا التحقق تثبت له أوصاف العلو واالرتفاع‪ ،‬وكونه طريقاً إىل معرفة اهلل _عز‬
‫وجل_‪.‬‬
‫ونرى مصداق ذلك ما يرتدد يف القرآن من اطالق النبأ على اخلرب‪ ،‬فمثالً يقول‬
‫اهلل _سبحانه وتعاىل_‪[ :‬نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] (احلجر‪.)49:‬‬
‫ويقول حكاية عن رسول اهلل"أنه قال‪[:‬نَبََّأنِي الْعَلِي ُم الْخَبِريُ] (التحريم‪.)3:‬‬

‫‪ _ 1‬انظر معجم مقاييس اللغة البن فارس ‪ ،385_384/5‬ولسان العرب ‪.164_162/1‬‬


‫‪345‬‬ ‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬

‫وغري ذلك عشرات اآليات كلها تذكر اإلنباء مبعنى اإلخبار‪.‬‬


‫ولعل ذلك يؤكد لنا أن النبوة مشتقة من النبأ‪ ،‬وهو اإلخبار؛ فيكون معنى‬
‫( ‪)1‬‬
‫النيب هو‪ :‬املُخْبَرُ من اهلل‪ ،‬أو املُخْبِرُ عن اهلل _جلَّ وعال_‪.‬‬
‫ب_ تعريف الرسالة يف اللغة‪ :‬أصل هذه املادة‪ :‬الراء والسني والالم (رسل)‪.‬‬
‫والرسول مأخوذ من اإلرسال‪ ،‬وهو التوجيه‪ ،‬أو من التتابع؛ أخذاً من قوهلم‬
‫رسل اللنب‪ :‬إذا تتابع دره؛ فالرسول _إذاً_ إما أن يكون مأخوذاً من كونه يوجِّه‬
‫الناس‪ ،‬أو من كون الوحي يتتابع عليه(‪.)2‬‬
‫فهذا هو املعنى اللغوي للنيب الرسول‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬تعري النبوة والرسالة يف الشرع‬


‫حدُثُ يف الشخص‬‫ميكن تعريف النبوة والرسالة يف الشرع بأن يقال‪ :‬هي صفةٌ تَ ْ‬
‫بعد أن يصطفيه اهلل _عز وجل_ فيخربه خبرب السماء‪ ،‬ويأمره بتبليغه‪.‬‬
‫فالنبوة والرسالة تتحقق مبجرد اصطفاء اهلل للشخص بالوحي بغض النظر عما‬
‫يدور من اخلالف حول الفرق بني النيب والرسول‪ ،‬والنسبة بينهما(‪ )3‬على ما‬
‫سيأتي بيانه يف الفقرة التالية‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬الفرق ب الن والرسول‬


‫للعلماء يف حتديد الفرق بني النيب والرسول‪ ،‬وحتديد مسمى كل منهما كالم‬
‫كثري ال يسلم من نقد‪ ،‬لكن األمر الراجح عند كثري من أهل العلم أن هناك فرقاً‬
‫بني مسمى النيب‪ ،‬ومسمى الرسول‪ ،‬وإن اختلفوا يف حتديد املراد بكل منهما‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر عقيدة ختم النبوة د‪ .‬أمحد بن سعد الغامدي ص‪.15_14‬‬


‫‪ _ 2‬انظر لسان العرب ‪.284_283/1‬‬
‫‪ _ 3‬انظر عقيدة ختم النبوة‪ ،‬د‪ .‬أمحد الغامدي ص‪.16_15‬‬
‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬ ‫‪346‬‬
‫وأيضاً فإن النبوة أعم من الرسالة؛ فكل رسول نيب‪ ،‬وليس كلُّ نيبٍّ رسوالً‪.‬‬
‫والذي يظهر _واهلل أعلم_ أن النيب‪ :‬هو من َنَّبَأه اهلل بشرع سابق ينذر به أهل‬
‫ذلك الشرع‪ ،‬وقد يؤمر بتبليغ بعض األوامر يف قضية معينة‪ ،‬أو الوصايا واملواعظ‬
‫وذلك كأنبياء بين إسرائيل؛ إذ كانوا على شريعة التوراة‪ ،‬ومل يأتِ أحد منهم بشرع‬
‫جديد ناسخ للتوراة‪ ،‬فتكون منزلته حينئذ مبنزلة اجملدد لتعاليم الرسل السابقني‪.‬‬
‫أما الرسول فهو من بعثه اهلل بشرع وأمره بتبليغه إىل من خالفوا أوامره‪ ،‬سواء‬
‫كان هذا الشرع جديداً يف نفسه‪ ،‬أو بالنسبة ملن بعث إليهم‪ ،‬ورمبا أتى بنسخ‬
‫بعض أحكام شريعة من قبله(‪.)1‬‬

‫رابعاً‪ :‬دالئل النبوة‬


‫النبوة من أعظم الدعاوى‪ ،‬وال يدَّعيها إال أكذب الناس‪ ،‬أو أصدقهم‪.‬‬
‫والنبوة تثبت بدالئل كثرية أعظمها اآليات اليت تسمى باملعجزات‪ ،‬وتثبت‬
‫باألعمال العظيمة‪ ،‬واألخالق الفاضلة‪ ،‬والسري احلميدة‪.‬‬
‫فمن ادعى النبوة‪ ،‬وأيده اهلل باملعجزات‪ ،‬واشتهر بالصدق‪ ،‬واألمانة‪،‬‬
‫واألخالق الفاضلة‪ ،‬والسرية احلميدة _ فهو نيب موحى إليه‪ ،‬مؤيد من اهلل‪.‬‬
‫وإن كان خبالف ذلك فهو كاذب دجال مدَّعٍ للنبوة‪ ،‬وال بد أن يفضحه اهلل‬
‫_عز وجل_‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر النبوات البن تيمية ص‪ ،227_225‬وأصول الدين للبغدادي ص‪ ،154‬وعقيدة ختم النبوة‬
‫ص‪ ،16_15‬وحمبة الرسول" بني االتباع واالبتداع لعبدالرؤوف حممد عثمان ص‪ ،15‬والرسل‬
‫والرساالت د‪ .‬عمر األشقر ص‪.15_14‬‬
‫‪347‬‬ ‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬
‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬ ‫‪348‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬حقيقة األنبياء والرسل‪ ،‬وعصمتهم‪ ،‬ومثرات اإلميان بهم‬

‫أوالً‪ :‬حقيقة األنبيا والرسل‬


‫األنبياء والرسل بشر خملوقون يوحى إليهم‪ ،‬وليس هلم من خصائص الربوبية‬
‫واأللوهية شيء‪ ،‬قال اهلل _تعاىل_ عن نبيه حممد" وهو سيد الرسل وأعظمهم‬
‫جاهاً عند اهلل‪ [ :‬قُلْ ال أَ ْملِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَال ضَرّاً إِالَّ مَا شَاءَ اللَّهُ َولَوْ كُنتُ‬
‫خيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِالَّ نَذِيرٌ وَبَشِريٌ لِقَوْمٍ‬
‫أَ ْعلَمُ الْ َغيْبَ السْتَكْثَرْتُ مِنْ الْ َ‬
‫يُؤْمِنُونَ] (األعراف‪.)188:‬‬
‫وقال _تعاىل_‪[ :‬قُلْ إِنِّي ال أَ ْملِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَال رَشَداً (‪ )21‬قُلْ إِنِّي لَنْ‬
‫يُجِريَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ َولَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ ُملْتَحَداً (‪])22‬اجلن‪.‬‬
‫وتلحقهم خصائص البشرية من املرض‪ ،‬والنوم‪ ،‬واملوت‪ ،‬واحلاجة إىل الطعام‬
‫والشراب‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬قال اهلل _تعاىل_ عن إبراهيم _عليه الصالة والسالم_ يف‬
‫ني‬
‫ت َفهُوَ يَشْفِ ِ‬
‫وصفه لربه _تعاىل_‪[ :‬وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي َويَسْقِنيِ (‪ )79‬وَإِذَا مَرِضْ ُ‬
‫ني (‪ ])81‬الشعراء‪.‬‬
‫ُم يُحْيِ ِ‬
‫َالذِي يُمِيتُنِي ث َّ‬
‫(‪ )81‬و َّ‬
‫وقد وصفهم اهلل _تعاىل_ بالعبودية له يف أعلى مقاماتها‪ ،‬ويف سياق الثناء عليهم‬
‫فقال _تعاىل_ يف نوح _عليه السالم_‪[ :‬إِنَّهُ كَا َن عَبْدًا شَكُوراً] (اإلسراء‪.)3:‬‬
‫وقال يف حممد"‪[ :‬تَبَا َركَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ َعلَى عَبْ ِدهِ ِليَكُونَ ِللْعَالَمِنيَ‬
‫نَذِيراً (‪ ])1‬الفرقان‪.‬‬
‫ذام‬ ‫ِّ‬
‫ولذذا فذذي هعذذمشه وهوذذحا و عنذذو ‪ْ [ :‬ورِذذي شا ْ ذخِا وشاعِْذ ِ‬
‫شم (‪ )46‬وهِ َّ ِّذ ْ ِ ْ ذخ ا رذِذاْ‬‫(‪ )45‬هِ َّ ا ْاظِْ ذ ا ِّه ْ ِعاارِِذ ذق ِْكذمل شرذ َّخ ِ‬
‫ام (‪ ])47‬ص‪.‬‬ ‫ْشرذِِّْ خ ْا شا ْا ِ‬
‫‪349‬‬ ‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬

‫وقال يف عيسى بن مريم _عليه السالم_‪ [ :‬إِنْ هُوَ إِالَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا َع َليْهِ‬
‫( ‪)1‬‬
‫وَجَ َعلْنَاهُ مَثَالً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (‪ ])59‬الزخرف‪.‬‬
‫والرسالة اصطفاء من اهلل ال تأتي باالكتساب‪ ،‬واجملاهدة‪.‬‬
‫والرسل خري البشر‪ ،‬وصفوتهم‪ ،‬وخالصتهم‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬عصمة األنبيا والرسل‬


‫اتفقت األمة على أن األنبياء والرسل معصومون يف حتمُّل الرسالة‪ ،‬وفيما‬
‫يبلغون به عن ربهم _جل وعال_‪.‬‬
‫صوْنَ شيئاً مما أوحاه اهلل إليهم‪ ،‬وال ينسون شيئاً من ذلك إال ما كان قد‬
‫فال يُنْقِ ُ‬
‫نسخ‪.‬‬
‫وقد تكفل اهلل لنبيه حممد" بأن يقرئه فال ينسى شيئاً مما أوحى إليه إال شيئاً‬
‫أراد اهلل أن ينسيه إياه‪ ،‬قال _عز وجل_‪[ :‬سَنُقْرِئُكَ فَال تَنسَى (‪ )6‬إِالَّ مَا شَاءَ‬
‫اللَّهُ] األعلى‪.‬‬
‫والرسل _كذلك_ معصومون يف التبليغ؛ فال يكتمون شيئاً من الوحي‪ ،‬ذلك أن‬
‫الكتمان خيانة‪ ،‬والرسل يستحيل ذلك يف حقهم‪ ،‬قال _تعاىل_‪[ :‬وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا‬
‫بَعْضَ األَقَاوِيلِ (‪ )44‬ألَ َخ ْذنَا مِنْهُ بِالْيَمِنيِ (‪ )45‬ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِنيَ (‪])46‬‬
‫احلاقة‪.‬‬
‫أ ما األعراض اجلبلية البشرية فال تنايف العصمة؛ فإبراهيم _عليه السالم_‬
‫أوجس يف نفسه خيفة عندما رأى أيدي ضيفه ال متتد إىل الطعام الذي قدمه هلم‪،‬‬

‫‪ _1‬انظر رسائل يف العقيدة للشيخ حممد بن عثيمني ص‪.26_25‬‬


‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬ ‫‪304‬‬
‫ومل يكن يعلم أنهم مالئكة‪.‬‬
‫وموسى _عليه السالم_ غضب غضباً شديداً‪ ،‬وأخذ برأس أخيه جيره إليه‪،‬‬
‫وألقى األلواح ويف نسختها هدى _ عندما عاد إىل قومه بعد أن مت ميقات ربه‪،‬‬
‫فوجدهم يعبدون العجل‪.‬‬
‫ومن ذلك نسيان الرسول" يف غري البالغ‪ ،‬ويف غري أمور التشريع؛ كما يف‬
‫حديث ذي اليدين عندما سها _عليه الصالة والسالم_ يف الصالة‪.‬‬
‫بل قد صرح _عليه الصالة والسالم_ بطروء النسيان عليه كعادة البشر فقال‪:‬‬
‫=إمنا أنا بشر أنسى كما تنسون‪ ،‬فإذا نسيت فذكروني‪.)1(+‬‬
‫واألنبياء قد خيطئون يف إصابة احلق يف القضاء‪ ،‬وقد تقع منهم الصغائر‪،‬‬
‫ولكنهم ال يقرون على ذلك‪ ،‬ويوفقون لألوبة وتدارك اخلطأ؛ مبعنى أن اهلل _عز‬
‫وجل_ ال يقرهم على الذنب واخلطأ‪ ،‬بل يوحي إليهم بالصواب‪ ،‬ويوفقهم‬
‫للتوبة بعد الذنب؛ فتكون حاهلم بعد ذلك أكمل منها قبلها‪.‬‬
‫أما القبائح وكبائر الذنوب فهم معصومون منها باتفاق األمة‪.‬‬
‫فهذا هو خالصة القول يف مسألة عصمة األنبياء‪ ،‬وهناك تفصيالت ليس هذا‬
‫جمال بسطها(‪.)2‬‬

‫ثالثاً‪ :‬ما يتضمنه اإلميان بالرسل‬

‫‪ _ 1‬أخرجه البخاري (‪ )392‬ومسلم (‪.)572‬‬


‫‪ _ 2‬انظر جمموع الفتاوى ‪ 313_293/11‬و ‪ ،151/15‬والرسل والرساالت ص‪.116_99‬‬
‫‪300‬‬ ‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬

‫اإلميان بالرسل يتضمن أربعة أمور‪:‬‬


‫األول‪ :‬اإلميان بأن رسالتهم حق من اهلل _تعاىل_ فمن كفر برسالة واحد منهم‬
‫فقد كفر بهم مجيعاً كما قال اهلل _تعاىل_‪[ :‬كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْ َسلِنيَ]‪.‬‬
‫فجعلهم اهلل مكذبني جلميع الرسل مع أنه مل يكن رسول غريه حني كذبوه‪.‬‬
‫وعلى هذا فالنصارى الذين كذبوا حممداً"ومل يتبعوه هم مكذبون للمسيح ابن‬
‫مريم غري متبعني له _أيضاً_ ال سيما وأنه قد بشَّرهم مبحمد "‪.‬‬
‫وال معنى لبشارتهم به إال أنه رسول إليهم ينقذهم اهلل به من الضاللة‪ ،‬ويهديهم‬
‫إىل صراط مستقيم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬اإلميان مبن علمنا امسه منهم بامسه مثل حممد وإبراهيم وموسى‬
‫ونوح وعيسى _عليهم الصالة والسالم_‪.‬‬
‫وهؤالء اخلمسة هم أولو العزم من الرسل‪ ،‬وقد ذكرهم اهلل _تعاىل_ يف‬
‫موضعني من القرآن يف سورة األحزاب يف قوله‪[ :‬وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّنيَ مِيثَاقَهُمْ‬
‫وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ]‪.‬‬
‫ويف سورة الشورى يف قوله‪[ :‬شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي‬
‫َصيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَال تََتفَرَّقُوا‬
‫حيْنَا ِإَليْكَ وَمَا و َّ‬
‫أَوْ َ‬
‫فِيهِ]‪.‬‬
‫وأما من مل نعلم امسه منهم فنؤمن به إمجاالً قال اهلل _تعاىل_‪َ [ :‬ولَقَدْ أَرْ َسلْنَا‬
‫رُسُالً مِنْ قَْبلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا َع َليْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ َع َليْكَ ]‬
‫(غافر‪.)78:‬‬
‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬ ‫‪301‬‬
‫الثالث‪ :‬تصديق ما صح عنهم من أخبار‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬العمل بشريعة من أرسل إلينا منهم وهو خامتهم حممد " املرسل إىل‬
‫مجيع الناس قال اهلل _تعاىل_‪[ :‬فَال وَرَبِّكَ ال يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَ َر‬
‫جدُوا فِي أَنفُ ِسهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ َويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (‪])65‬‬
‫بَيَْنهُمْ ثُمَّ ال يَ ِ‬
‫النساء(‪.)1‬‬

‫رابعاً‪ :‬مثرات اإلميان باألنبيا والرسل‬


‫اإلميان باألنبياء والرسل يثمر مثرات جليلة منها‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬العلم برمحة اهلل _تعاىل_ وعنايته بعباده؛ حيث أرسل إليهم الرسل؛‬
‫ليهدوهم إىل صراط اهلل _تعاىل_ ويبينوا هلم كيف يعبدون اهلل؛ ألن العقل البشري‬
‫ال يستقل مبعرفة ذلك‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬شكره _تعاىل_ على هذه النعمة الكربى‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬حمبة الرسل _عليهم الصالة والسالم_ وتعظيمهم‪ ،‬والثناء عليهم مبا‬
‫يليق بهم؛ ألنهم رسل اهلل _تعاىل_ وألنهم قاموا بعبادته وتبليغ رسالته والنصح‬
‫لعباده(‪.)2‬‬

‫‪ _ 1‬انظر رسائل يف العقيدة للشيخ حممد بن عثيمني ص‪.26‬‬


‫‪ _ 2‬رسائل يف العقيدة ص‪.27‬‬
‫‪303‬‬ ‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬

‫املبحث الثالث‪ :‬عقيدة ختم النبوة‪ ،‬وما يتعلق بها‬

‫أوالً‪ :‬مفهوم عقيدة ختم النبوة‬


‫املقصود خبتم النبوة‪ :‬انتهاء إنباءِ اهللِ الناسَ‪ ،‬وانقطاع وحي السماء(‪.)1‬‬
‫ومعنى ذلك اعتقاد أن النبواتِ قد ختمت بنبوة النيب حممد" وأن وحي السماء‬
‫انقطع مبوته _عليه الصالة والسالم_ وأن ذلك من صميم عقيدة املسلمني‪ ،‬وأن من‬
‫ادعى خالف ذلك فهو كافر باهلل مكذب لنبيه"‪.‬‬
‫وقد دل على ذلك الكتاب والسنة واإلمجاع‪.‬‬
‫وقد وردت األدلة من القرآن الكريم على عقيدة ختم النبوة بصور عدة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أ_ التصريح باخلتم‪ ،‬قال _تعاىل_‪[ :‬مَا كَا َن مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ َولَكِنْ‬
‫رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنيَ] (األحزاب‪.)41:‬‬
‫ففي هذه اآلية الكرمية تصريح خبامتية حممد" لألنبياء قبله‪ ،‬فال نيب بعده وال‬
‫رسول‪.‬‬
‫وهذا هو ما فهمه املفسرون لكتاب اهلل _تعاىل_ من عصر صدر اإلسالم إىل‬
‫يومنا هذا(‪.)2‬‬
‫ب_ تقرير تلك العقيدة بطريق االستلزام العقلي‪ :‬وذلك يف عدد من اآليات‪،‬‬

‫‪ _ 1‬انظر عقيدة ختم النبوة بالنبوة احملمدية ص‪.16‬‬


‫‪ _ 2‬انظر عقيدة ختم النبوة بالنبوة احملمدية ص‪.24_19‬‬
‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬ ‫‪304‬‬
‫كاآليات الدالة على عموم رسالة نبينا حممد " كقوله _تعاىل_‪[ :‬قُلْ يَا أَيُّهَا‬
‫النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ ِإَليْكُمْ جَمِيعاً] (األعراف‪.)158:‬‬
‫وكاآليات الدالة على تعهد اهلل _عز وجل_ حبفظ كتابه‪.‬‬
‫وكاآليات اليت تقرر حجية القرآن على كلِّ مَنْ َبلَغ [وَأُوحِيَ ِإلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ‬
‫ألُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ َبلَغَ] (األنعام‪.)19:‬‬
‫وكاآليات اليت تطالب الناس باإلميان بالرسل السابقني‪ ،‬والكتب السماوية‬
‫السابقة فحسب‪ ،‬دون أن تطالبهم باإلميان بغريهم(‪.)1‬‬
‫أما داللة السنة فقد كان النيب " مهتماً بتقرير عقيدة ختم النبوة‪ ،‬وتأكيدها‪،‬‬
‫حبيث إنه قد قررها مبختلف األساليب البيانية‪ ،‬ويف سائر املناسبات اخلاصة‬
‫والعامة‪ ،‬ومل يرتك شبهة ميكن أن تغبِّش صورتها إال وأزاهلا حتى تركها واضحة‬
‫جلية‪.‬‬
‫واملتتبع ألحاديث الرسول" يرى أنها قد أَ َّكدَت خَتميةَ النبوة بعبارات متنوعة‬
‫يصل بعضها إىل حد التواتر‪.‬‬
‫وهي يف مجلتها متواترة تواتراً قطعياً ال يُبْقِ ي جماالً للشك أو الرتدد يف كون‬
‫النيب" خاتَمَ األنبياء(‪.)2‬‬
‫وقد ساق أ‪ .‬د أمحد بن سعد الغامدي يف كتابه ختم النبوة مخسة وستني حديثاً‬
‫يف ذلك الشأن‪.‬‬

‫‪ _ 1‬انظر عقيدة ختم النبوة ص‪.29_19‬‬


‫‪ _ 2‬انظر عقيدة ختم النبوة ص‪.54_31‬‬
‫‪305‬‬ ‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬

‫ومنها قوله"‪ = :‬وإنه سيكون من أميت كذابون كلهم يزعم أنه نيب‪ ،‬وأنا خامت‬
‫النبيني ال نيب بعدي‪.)1(+‬‬

‫ثانياً‪ :‬مفهوم املعجلة‪ ،‬وال رامة‪ ،‬واألحوال الشيطانية‬


‫املعجلة‪ :‬أمر خارق للعادة جيريه اهلل على يد نيب من أنبيائه‪ ،‬تأييداً له‪،‬‬
‫وتصديقاً‪.‬‬
‫وتسمى املعجزة‪ :‬اآلية‪.‬‬
‫ومعنى األمر اخلارق للعادة‪ :‬هو ما يكون على خالف مألوف اآلدميني‪ ،‬وما‬
‫كان خارجاً عن طاقتهم‪.‬‬
‫وال رامة‪ :‬هي أمر خارق للعادة جيريه اهلل على يد ولي من أوليائه؛ معونة له‬
‫على أمر ديين أو دنيوي‪.‬‬
‫وتكون على يد املؤمن الولي التقي املُتَّبِع للشرع‪.‬‬
‫وهي _يف احلقيقة_ معجزة لنبيه؛ ألنها مل تقع إال بسبب اتباعه له‪.‬‬
‫ومن تلك الكرامات قصة العالء بن احلضرمي وأصحابه حني مشوا على‬
‫املاء‪ ،‬ورؤية عمر جليش سارية وهو على منرب املدينة‪ ،‬ونداؤه ألمري اجليش وهو‬
‫بنهاوند‪ :‬يا سارية اجلبل؛ حتذيراً له من العدو مع بعد املسافة‪ ،‬ونزول املالئكة‬
‫على أسيد بن احلضري لسماع قراءته‪.‬‬
‫واألحوال الشيطانية‪ :‬أمور خارقة للعادة جتري على يد مُعْرِض عن الشرع‪،‬‬

‫‪ _ 1‬أخرجه أمحد (‪ )22448‬واحلاكم ‪.496/4‬‬


‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬ ‫‪306‬‬
‫ص ُّد بها الشياطنيُ‬
‫صادٍّ عن احلق؛ متلبس باملعاصي؛ فذلك من األحوال اليت تَ ُ‬
‫الناسَ عن اتباع احلق‪ ،‬كدخوهلا يف األصنام‪ ،‬وتكليم عابديها‪ ،‬أو احلكم‬
‫بينهم‪ ،‬أو قضاء بعض حوائجهم‪ ،‬وقد ترفع بعض الضُّالَّل يف اهلواء ثم تعيده‪،‬‬
‫أو تنقله من بلد بعيد وهكذا‪.‬‬
‫وهذه الثالثة _املعجزة‪ ،‬والكرامة‪ ،‬واألحوال الشيطانية_ جتتمع يف كونها‬
‫خارقةً للعادة ‪ ،‬وتنفرد املعجزة بكونها واقعة على يد نيب؛ فيؤيده اهلل ويظهره‪،‬‬
‫وتنفرد الكرامة بكونها على يد وليٍّ متبع‪ ،‬وتنفرد األحوال الشيطانية بكونها‬
‫َعي خمالف ضال‪.‬‬
‫واقعة على يدِ د ٍّ‬
‫واملعتزلة أنكروا الكرامة ألنها _بزعمهم_ لو صحت ألشبهت املعجزة‪ ،‬وألدى‬
‫ذلك إىل التباس النيب بالولي‪ ،‬وذلك ال جيوز _بزعمهم_‪.‬‬
‫وهذا باطل‪ ،‬وفيه إنكار للمحسوسات‪ ،‬ودعواهم إمنا تصح إذا ادعى من‬
‫يأتي باخلارقِ النبوةَ‪.‬‬
‫وهذا ال يقع من الولي‪ ،‬ولو ادعى ذلك مل يكن ولياً‪ ،‬بل كان متنبئاً كذاباً(‪.)1‬‬

‫ثالثاً‪ :‬ادعا النبوة‬


‫ظهرت يف العصور اإلسالمية األوىل ويف العصر احلديث حركات التنبؤ اليت‬
‫يدعي أصحابها أنهم أنبياء‪ ،‬وقامت تلك احلركات مدفوعة بأسباب كثرية يأتي‬
‫على رأسها‪ :‬اجلهل‪ ،‬والعصبية القبلية‪ ،‬والعصبية الشعوبية‪ ،‬واحلقد اليهودي‬

‫‪ _ 1‬انظر مذكرة يف التوحيد للشيخ حممد بن قاسم ص‪.17_16‬‬


‫‪307‬‬ ‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬

‫والصلييب‪.‬‬
‫زد على ذلك االحنرافَ يف الفكر الشيعي خصوصاً يف مسألة اإلمامة وعصمة‬
‫األئمة‪ ،‬واجملاهدات الصوفية الغالية‪ ،‬والظروف السيئة اليت مرت بها األمة‬
‫خصوصاً يف العصور املتأخرة‪.‬‬
‫ومن أشهر املتنبئني يف عصر صدر اإلسالم‪ :‬األسود العنسي‪ ،‬وطليحة ابن‬
‫خويلد‪ ،‬ومسيلمة‪ ،‬وسجاح التغلبية‪.‬‬
‫وأشهرهم يف العصرين األموي والعباسي‪ :‬املختار بن عبيد‪ ،‬واحلارث ابن‬
‫سعيد‪ ،‬وبيان ابن مسعان‪ ،‬واملغرية العجلي‪ ،‬وأبو اخلطاب األسدي‪ ،‬وعلي ابن‬
‫الفضل احلمريي‪.‬‬
‫أما يف العصر احلديث فقد ادعى النبوة كثريون‪ ،‬وأشهر هؤالء حممد بن علي‬
‫الشريازي زعيم الدعوة البابية‪ ،‬وحسني بن علي املازندراني زعيم الدعوة‬
‫البهائية‪ ،‬وأمحد القادياني زعيم الدعوة القاديانية‪.‬‬
‫واحلديث عن بطالن تلك الدعاوى يطول‪ ،‬واجملال ال يتسع لذلك‪ ،‬بل إن‬
‫فسادها يغين عن إفسادها(‪.)1‬‬

‫مد "‬ ‫رابعاً‪ :‬خصائص نبينا‬


‫ص نبينا حممدٌ" خبصائص كثرية‪ ،‬واجملال ال يتسع إلحصائها‪ ،‬ومنها‬
‫اخُْت َّ‬
‫على سبيل اإلمجال ما يلي‪:‬‬
‫‪ _1‬عموم رسالته"‪ :‬يقول اهلل _عز وجل_‪[ :‬قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ‬

‫‪ _ 1‬انظر عقيدة ختم النبوة ص‪ ،271_171‬وانظر رسائل يف األديان والفرق واملذاهب للكاتب‬
‫ص‪.315_223‬‬
‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬ ‫‪308‬‬
‫اللَّهِ ِإَليْكُمْ جَمِيعاً] (األعراف‪.)158:‬‬
‫فهذه اآلية الكرمية تدل على عموم رسالته" إىل الناس مجيعاً‪ ،‬وهذه هي‬
‫إحدى اخلصائص اليت انفرد بها" عن األنبياء قبله؛ إذ كان النيب إمنا بعث إىل‬
‫قومه خاصة‪ ،‬ثم يبقى غريهم حمتاجاً إىل من يبلغه أمر اهلل _عز وجل_‪.‬‬
‫ولئال يُتَوَ َّهمَ هذا يف رسولنا _عليه الصالة والسالم_ بيَّن اهلل _سبحانه وتعاىل_‬
‫عموم رسالته إىل الناس مجيعاً(‪.)1‬‬
‫وقال _عليه الصالة والسالم_‪= :‬وكان النيب يُبعث إىل قومه خاصة‪ ،‬وبُعثت‬
‫إىل الناس كافة‪.)2(+‬‬
‫‪ _2‬أن اهلل _عز وجل_ تكفل بإظهار دينه على مجيع األديان‪ :‬قال اهلل _عز‬
‫وجل_‪ [ :‬هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ِلُيظْهِ َرهُ َعلَى الدِّينِ كُلِّهِ‬
‫َولَوْ كَ ِرهَ الْمُشْرِكُونَ (‪ ])33‬التوبة‪.‬‬
‫‪ _3‬أن اهلل _عز وجل_ تكفل حبفظ الكتاب الذي أنزل على حممد"‪ :‬قال‬
‫َزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَا ِفظُونَ (‪ ])9‬احلجر‪.‬‬
‫_تبارك وتعاىل_‪[ :‬إِنَّا نَحْنُ ن َّ‬
‫‪ _1‬أن دينه _عليه الصالة والسالم_ كامل صاحل لكل زمان ومكان وأمة‪ :‬قال‬
‫اهلل _عز وجل_‪[ :‬اْليَوْمَ أَكْ َملْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ َع َليْكُمْ نِعْمَتِي وَ َرضِيتُ‬
‫لَكُمْ اإلِسْالمَ دِيناً‪( ]...‬املائدة‪.)3:‬‬
‫‪ _5‬أنه _عليه الصالة والسالم_ نصر بالرعب مسرية شهر‪ ،‬وأحلت له الغنائم‪،‬‬

‫‪ _ 1‬عقيدة ختم النبوة ص‪.24‬‬


‫‪ _ 2‬أخرجه البخاري (‪.)438‬‬
‫‪309‬‬ ‫الرسالة التاسعة‪ :‬اإلميان بالرسل‬

‫وجعلت له األرض مسجداً وطهوراً‪ ،‬وأميا رجل من أمته أدركته الصالة فليصل‪،‬‬
‫كما صح بذلك احلديث عنه "(‪.)1‬‬
‫‪ _6‬ما أظهر اهلل على يديه من املعجزات الكثرية املتنوعة‪.‬‬
‫‪ _7‬أنه أكثر الناس تابعاً يوم القيامة‪.‬‬
‫‪ _8‬أنه يشفع للخالئق الشفاعة الكربى يوم القيامة إذا ختلى األنبياء عن ذلك‪.‬‬
‫‪ _9‬أنه أول من يستفتح باب اجلنة‪ ،‬وأن أمته أول األمم دخوالً للجنة‪.‬‬
‫إىل غري ذلك مما اختص به _عليه الصالة والسالم_‪.‬‬

‫‪ _1‬أخرجه البخاري (‪.)438‬‬


‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪314‬‬

‫الرسالة العاشرة‬

‫خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬


‫‪310‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪311‬‬
‫املقدمة‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬


‫احلمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم على رسول اهلل‪ ،‬وبعد‪.‬‬
‫فلما أَرَدْتُ جَمْعَ ما كتبته من رسائل يف العقيدة يف كتاب واحد _ كان من‬
‫ضمن تلك الرسائل كتاب عنوانه‪:‬‬
‫اإلميان باليوم اآلخر‬
‫أحوال الرب خ _ أشراط الساعة _ أحوال القيامة‬
‫ولكنين ترددت يف ذلك كثرياً؛ ألن الكتاب املذكور يقع يف مائة وأربعة ومثانني‬
‫صفحة من القطع الكبري‪.‬‬
‫ولو أضيف إىل هذا اجملموع لكرب حجمه‪ ،‬زيادة على كربه‪ ،‬هذا من جهة‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى كنت أرغب يف إضافته؛ ألن هذا اجملموع حيتوي على مجيع‬
‫أركان اإلميان عدا اإلميان باليوم اآلخر‪.‬‬
‫ثم استقر األمر على اختيار بعض املسائل من ذلك الكتاب؛ لتضاف إىل هذا‬
‫اجملموع مع مراعاة االختصار‪ ،‬والتخفف من العزو؛ فمن أراد االستزادة من ذلك‬
‫فلرياجع األصل؛ فإىل تلك املسائل‪ ،‬واهلل املستعان‪ ،‬وعليه التكالن‪.‬‬
‫‪313‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬
‫متهيد‪ :‬تعريفات ومقدمات‬

‫أوالً‪ :‬تعريفات حول اليوم اآلخر‬


‫‪ _0‬تعريف اليوم اآلخر‪ :‬هو يوم القيامة الذي يبعث فيه الناس للحساب‬
‫واجلزاء‪.‬‬
‫ومسي بذلك‪ :‬ألنه ال يوم بعده؛ حيث يستقر أهل اجلنة يف منازهلم‪ ،‬وأهل‬
‫النار يف منازهلم ‪.‬‬
‫‪ _1‬معنى اإلميان باليوم اآلخر‪ :‬التصديق اجلازم بإتيانه‪ ،‬وجبميع تفاصيله‪،‬‬
‫والعمل مبوجب ذلك‪.‬‬
‫‪ _3‬مفهوم اإلميان باليوم اآلخر‪ :‬اإلميان باليوم اآلخر يشمل كل ما ورد يف أخبار‬
‫ذلك اليوم‪ ،‬وما يتعلق به؛ فيدخل يف ذلك اإلميان بأشراط الساعة وأماراتها اليت‬
‫تكون قبلها‪ ،‬وباملوت وما بعده من فتنة القرب‪ ،‬وعذابه‪ ،‬ونعيمه‪ ،‬وبالنفخ بالصور‪،‬‬
‫وخروج اخلالئق من القبور‪ ،‬وباجلزاء‪ ،‬واحلساب‪ ،‬وما يف موقف القيامة من‬
‫األهوال‪ ،‬واألفزاع‪ ،‬وتفاصيل احملشر‪ ،‬ونشر الصحف‪ ،‬ووضع املوازين‪،‬‬
‫وبالصراط‪ ،‬والقنطرة‪ ،‬واحلوض‪ ،‬والشفاعة‪ ،‬وغريها‪ ،‬وباجلنة ونعيمها‪ ،‬الذي‬
‫أعاله النظر إىل وجه اهلل _عز وجل_ وبالنار وعذابها الذي أشده حجب أهلها عن‬
‫ربهم _عز وجل_‪.‬‬
‫‪ _4‬أمساء اليوم اآلخر‪ :‬عدد بعض العلماء أمساء اليوم اآلخر‪ ،‬ومن هؤالء‬
‫القرطبـي × حيث ذكر ما يزيد على مخسني امساً؛ وشرع يف شرحها‪.‬‬
‫ومنهم ابن كثـري × حيث ذكر لليوم اآلخر أكثر من مثانني امساً‪.‬‬
‫‪ _ 6‬ومن أشهر تلك األمساء‪ :‬الساعة‪ ،‬ويوم القيامة‪ ،‬ويوم الوعيد‪ ،‬ويوم‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪314‬‬
‫الدين‪ ،‬ويوم احلسرة‪ ،‬والدار اآلخرة‪ ،‬ويوم التناد‪ ،‬ويوم اجلمع‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬أهمية اإلميان باليوم اآلخر‬


‫لإلميان باليوم اآلخر أهمية عظمى‪ ،‬ومما يدل على ذلك ما يلي‪:‬‬
‫‪ _ 1‬كثرة وروده يف نصوص الشرع‪.‬‬ ‫‪ _ 0‬أنه أحد أركان اإلميان الستة‪.‬‬
‫‪ _ 3‬كثرة ارتباطه باإلميان باهلل _تعاىل_‪ _ 4 .‬كثرة الثناء على املؤمنني به‪،‬‬
‫والذم للكافرين به‪ _ 5 .‬كثرة املؤلفات اليت حتدثت عنه‪ _ 6 .‬كثرة أمساء اليوم‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫‪ _ 7‬ما يرتتب على اإلميان به من الثمرات اجلليلة‪ ،‬واآلثار العظيمة‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬مثرات اإلميان باليوم اآلخر‬


‫اإلميان باليوم اآلخر يثمر مثراتٍ جليلةً‪ ،‬وأخالقاً مجيلة‪ ،‬وعبوديات متنوعة‪،‬‬
‫وآثاراً محيدة تعود على الفرد واجلماعة يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ومن ذلك ما يلي‪:‬‬
‫‪ _ 0‬زيادة اإلميان‪.‬‬
‫‪ _ 1‬انبعاث الرجاء واخلوف‪.‬‬
‫‪ _ 3‬العلم بفضل اهلل‪ ،‬وعدله‪ ،‬وحكمته‪.‬‬
‫‪ _ 4‬االعتدال يف حال السراء والضراء‪.‬‬
‫‪ _ 5‬قيام األخالق اجلميلة‪.‬‬
‫‪ _ 6‬تسلية املؤمن عما يفوته يف هذه الدنيا مبا يرجوه من نعيم اآلخرة‪.‬‬
‫‪315‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪316‬‬
‫املوت‪ ،‬والربزخ‪ ،‬والقرب‬

‫أوالً‪ :‬املـــوت‬
‫أ_ تعريف املوت‪ :‬املوت ضد احلياة‪ ،‬ونقيضها‪.‬‬
‫قال القرطيب × يف تعريفه‪= :‬قال العلماء‪ :‬املوت ليس بعدمٍ مَحْض‪ ،‬وال‬
‫فناء صِرْف‪ ،‬وإمنا هو انقطاع تعلُق الروح بالبدن‪ ،‬ومفارقته‪ ،‬وحيلولة بينهما‪،‬‬
‫وتَبَدُّل حالٍ‪ ،‬وانتقال من دار إىل دار‪.+‬‬
‫ب_ املوت يأتي فجأة‪ :‬قال القرطيب ×‪= :‬وأمجعت األمة على أن املوت‬
‫ليس له سنٌ معلوم‪ ،‬وال زمن معلوم‪ ،‬وال مرض معلوم‪ .‬وذلك ليكون املرء على‬
‫أهبة من ذلك‪ ،‬مستعداً لذلك‪. +‬‬

‫ثانياً‪ :‬الـبــر خ‬
‫أ_ تعريفه يف اللغة‪ :‬الربزخ يف كالم العرب هو احلاجز بني الشيئني‪.‬‬
‫قال اهلل _تعاىل_‪[ :‬وَجَعَلَ َبيْنَهُمَا بَرْزَخاً] الفرقان‪ ،53 :‬أي‪ :‬حاجزاً‪.‬‬
‫ب_ الربزخ يف الشرع‪ :‬هو الدار اليت تعقب املوت إىل البعث‪.‬‬
‫قال _تعاىل_‪[ :‬وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ِإلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] املؤمنون‪.044 :‬‬
‫قال جماهد‪ :‬هو ما بني املوت والبعث‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬القـبـر‬
‫أ_ تعريفه‪ :‬القرب مدفن اإلنسان‪ ،‬ومجعه قبور‪ ،‬واملقبَُرةُ بفتح الباء وضمها‬
‫موضع القبور‪ ،‬واملقبَر‪ :‬موضع القرب‪.‬‬
‫ب _ فتنة القرب‪ :‬الفتنـة تطلـق على عـدة معـان‪ ،‬منها االختبار واالمتحان‪.‬‬
‫‪317‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫وفتنة القرب‪ :‬هي سؤال امللكني امليتَ بعد دفنه عن ربه‪ ،‬ودينه‪ ،‬ونبيه‪.‬‬
‫جـ _ صفة فتنة القرب‪ :‬إذا دفن امليت يف قربه تُعادُ له الروح‪َ ،‬فيُسأل‪ ،‬ويقال له‪:‬‬
‫مَنْ ربُّك‪ ،‬وما دينك‪ ،‬ومن نبيك؟‬
‫فيقول املؤمن‪ :‬ربي اهلل‪ ،‬وديين اإلسالم‪ ،‬ونبيي حممد‪.‬‬
‫ويضل اهلل الظاملني‪ ،‬فيقول الكافر‪ :‬هاه‪ ،‬هاه ال أدري‪.‬‬
‫ويقول املنافق أو املرتاب‪ :‬ال أدري‪ ،‬مسعت الناس يقولون شيئاً فقلته‪.‬‬
‫د _ وصف امللكني وتسميتها‪ :‬جاء يف بعض األحاديث وصف امللكني املوكلني‬
‫بفتنة القرب‪ ،‬وتسميتها‪.‬‬
‫فعن أبي هريرة ÷ قال‪ :‬قال النيب " =إذا قرب أحدكم _ أو اإلنسان _ أتاه‬
‫( ‪)1‬‬
‫ملكان أسودان أزرقان‪ ،‬يقال ألحدهما‪ :‬املنكر‪ ،‬ولآلخر‪ :‬النكري‪.+‬‬
‫هـ _ هل تفنت األمم السابقة يف قبورها أو أن ذلك خاص بهذه األمة؟ قال‬
‫بعض العلماء‪ :‬إن األمم السابقة ال تفنت يف قبورها؛ حبجة أنها رفضت االستجابة‬
‫لرسلها‪ ،‬فعوجلت بالعذاب وأن هذه األمة قد أُمسك عنها العذاب‪ ،‬وبعث‬
‫الرسول بالسيف فمن دخل اإلسالم خمافة القتل ثم نافق عذب يف قربه‪.‬‬
‫وهذا القول حمل نظر‪ ،‬والصحيح أن األمم السابقة تفنت يف قبورها‪ ،‬وتعذب‬
‫أو تنعم‪.‬‬
‫و _ هل يفنت الكافر يف قربه؟ الصحيح أنه يفنت‪ ،‬فالفتنة عامة للكافر وغريه‪،‬‬

‫‪ _1‬أخرجه الرتمذي (‪ ،)1171‬وقال حسن غريب‪ ،‬وابن أبي عاصم يف السنة (‪ )864‬قال‬
‫األلباني‪=:‬واسناده حسن‪ ،‬وفيه رد على من أنكر من املعاصرين تسمية امللكني مبنكر ونكري‪.+‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪318‬‬
‫كما جاء يف األحاديث من أن الكافر أو املنافق يقول إذا سُئل =هاه هاه ال أدري‪.+‬‬
‫ز _ هل األطفال ميتحنون يف قبورهم؟ اجلواب أن هذه املسألة قد اختلف فيها‬
‫على قولني‪:‬‬
‫األول‪ :‬قول من قال‪ :‬إنهم يسألون‪ ،‬وحجة أولئك أنه يشرع الصالة عليهم‪،‬‬
‫وسؤال اهلل أن يقيهم عذاب القرب وفتنة القرب‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬قول من قال بأنهم ال يسألون؛ ألن السؤال إمنا يكون ملن عقل الرسول‬
‫واملُرْسِل‪ ،‬فيسأل‪ :‬هل آمن بالرسول وأطاعه أم ال‪.‬‬
‫أما الطفل الذي ال متييز له بوجه ما _ كيف يسأل؟‬
‫والذي يظهر من كالم ابن تيمية‪ ،‬وابن القيم _ رمحهما اهلل _ أنهما مييالن إىل‬
‫القول األول‪.‬‬
‫وهذا ما سيتضح يف الفقرة التالية‪.‬‬
‫ح _ هل يفنت غري املكلف؟ اجلواب أن هذه املسالة قد اختلف فيها‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ×‪= :‬وقد تواترت األحاديث عن النيب " يف‬
‫هذه الفتنة من حديث الرباء ابن عازب‪ ،‬و أنس بن مالك‪ ،‬وأبي هريرة وغريهم‬
‫_رضي اهلل عنهم_‪.‬‬
‫وهي عامة للمكلفني إال النبيني فقد اختلف فيهم‪ ،‬وكذلك اختلف يف غري‬
‫املكلفني كالصبيان واجملانني؛ فقيل يفتنون وقيل ال يفتنون؛ ألن احملنة إمنا تكون‬
‫للمكلفني‪ ،‬وهذا قول القاضي وابن عقيل‪.‬‬
‫وعلى هذا فال يلقنون بعد املوت‪.‬‬
‫‪319‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫وقيل يلقنون‪ ،‬ويفتنون _أيضاً_‪.‬‬


‫وهذا قول أبي حكيم‪ ،‬وأبي احلسن بن عبدوس‪ ،‬ونقله عن أصحابه‪ ،‬وهو‬
‫مطابق لقول من يقول‪ :‬إنهم يكلفون يوم القيامة كما هو قول أكثر أهل العلم‪،‬‬
‫وأهل السنة من أهل احلديث والكالم‪ ،‬وهو الذي ذكره أبو احلسن األشعري÷‬
‫عن أهل السنة‪ ،‬واختاره‪ ،‬وهو مقتضى نصوص اإلمام أمحد‪.+‬‬
‫وقال يف موضع آخر بعد كالم قريب من الكالم السابق بعد أن ذكر حجة‬
‫القائلني بالقول بأنهم يفتنون =ومن قال باألول‪ :‬يستدل مبا يف املوطأ عن أبي‬
‫هريرة ÷ أنه صلى على صغري مل يعمل خطيئة قط فقال‪= :‬اللهم قه عذاب‬
‫القرب وفتنة القرب‪ +‬وهذا يدل على أنه يفنت‪.‬‬
‫وأيضاً فهذا مبينٌّ على أن أطفال الكفار الذين مل يكلفوا يف الدنيا يكلفون يف‬
‫اآلخرة‪ ،‬كما وردت بذلك أحاديث متعددة‪.‬‬
‫وهو القول الذي حكاه أبو احلسن األشعري عن أهل السنة واجلماعة؛ فإن‬
‫النصوص عن األئمة كاإلمام أمحد وغريه‪ :‬الوقف يف أطفال املشركني كما ثبت‬
‫يف الصحيحني عن النيب " أنه سئل عنهم فقال‪= :‬اهلل أعلم مبا كانوا عاملني‪.+‬‬
‫وثبت يف صحيح البخاري أن منهم من يدخل اجلنة‪.‬‬
‫وثبت يف صحيح مسلم أن الغالم الذي قتله اخلَضِر طُبِعَ يوم طُبِعَ كافراً‪.‬‬
‫فإن كان األطفال وغريهم منهم شقي وسعيد فإذا كان ذلك المتحانهم يف‬
‫الدنيا مل مينع امتحانهم يف القبور‪.‬‬
‫لكن هذا مبين على أنه ال يُشهد لكل معني من أطفال املؤمنني بأنه يف اجلنة‪،‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪334‬‬
‫وإن شُهد هلم مط لقاً‪ ،‬ولو شهد هلم مطلقا؛ فالطفل قد يكون منافقاً بني مؤمنني‪،‬‬
‫واهلل أعلم‪.+‬‬
‫قال ابن القيم ×‪= :‬وأما حديث أبي هريرة(‪ ÷ )1‬فليس املراد بعذاب‬
‫القرب فيه عقوبة على الطفل على ترك طاعة‪ ،‬أو فعل معصية؛ فإن اهلل ال يعذب‬
‫أحداً بال ذنب عمله‪.‬‬
‫بل عذاب القرب قد يراد به األمل الذي حيصل للميت بسبب غريه‪ ،‬وإن مل يكن‬
‫عقوبة على عمل عمله‪.‬‬
‫ومنه قوله "‪= :‬إن امليت ليعذب ببكاء أهله‪ +‬أي يتأمل‪ ،‬ويتوجع منه‪ ،‬ال أنه‬
‫يعاقب بذنب احلي =وال تزر وازرة وزر أخرى‪.+‬‬
‫وهذا كقول النبـي "‪= :‬السفر قطعة من العذاب‪.+‬‬
‫فالعذاب أعم من العقوبة‪.‬‬
‫وال ريب أن يف القرب من اآلالم واهلموم واحلسرات ما قد يسري أثره إىل‬
‫الطفل؛ فيتأمل به؛ فيشرع للمصلي عليه أن يسأل اهلل _تعاىل_ له أن يقيه ذلك‬
‫العذاب‪ ،‬واهلل أعلم‪.+‬‬

‫‪ _1‬يعين احلديث الذي مضى ذكره قبل قليل‪،‬حديث أبي هريرة أنه "صلى على صغري مل يعمـل‬
‫خطيئة قط‪،‬فقال‪ =:‬اللهم قه عذاب القرب وفتنة القرب‪.+‬‬
‫‪330‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬
‫نعيم القرب وعذابه‬

‫أوالً‪ :‬تعريفه‪ :‬هو اسم لنعيم الربزخ وعذابه‪ ،‬وهو نتيجة لفتنة القرب؛ فنعيم‬
‫القرب للمؤمنني الصادقني‪ ،‬وعذابه للظاملني من املنافقني والكافرين‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬تواتر األخبار يف نعيم القرب وعذابه‪ :‬يقول شارح الطحاوية‪ :‬لقد‬
‫تواترت األخبار عن رسول اهلل " يف ثبوت عذاب القرب ونعيمه ملن كان أهال‬
‫لذلك؛ فيجب اعتقاد ذلك‪ ،‬واإلميان به‪.+‬‬
‫ثالثاً‪ :‬نعيم القرب وعذابه يف القران الكريم‪ :‬نعيم القرب وعذابه يف الربزخ مذكور‬
‫يف غري ما آية؛ حيث وردت إشارات يف القرآن تدل على وقوعه‪.‬‬
‫وقد ترجم البخاري × يف كتاب اجلنائز لعذاب القرب‪ ،‬فقال‪= :‬باب ما جاء‬
‫يف عذاب القرب‪.+‬‬
‫ثم ساق يف الرتمجة قوله _تعاىل_‪[ :‬وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ‬
‫جزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ]‬
‫الْمَوْتِ وَالْمَالئِكَةُ بَا ِسطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ اْليَوْمَ تُ ْ‬
‫األنعام‪.93 :‬‬
‫رابعاً‪ :‬اإلميان بعذاب القرب ونعيمه بال كيفية‪ :‬قال شارح الطحاوية × بعد‬
‫أن تكلم على تواتر األخبار يف عذاب القرب ونعيمه‪= :‬فيجب اعتقاد ذلك‪،‬‬
‫واإلميان به وال نتكلم يف كيفيته؛ إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته؛ لكونه ال عهد‬
‫له به يف هذه الدار‪.‬‬
‫والشرع ال يأتي مبا حتيله العقول‪ ،‬ولكن قد يأتي مبا حتار فيه العقول؛ فإن‬
‫عودة الروح للجسد ليس على الوجه املعهود يف الدنيا‪ ،‬بل تعاد الروح إليه إعادة‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪331‬‬
‫غري اإلعادة املألوفة يف الدنيا‪.+‬‬
‫خامساً‪ :‬هل عذاب القرب ونعيمه خاص مبن دفن يف قرب‪ ،‬أو هو شامل؟‬
‫واجلواب عن ذلك أن عذاب القرب ونعيمه شامل ملن دفن يف قرب أو غريه؛ فكل من‬
‫مات وهو مست حق للعذاب أو النعيم ناله نصيبه منه‪ ،‬سواء قرب أم مل يقرب‪ ،‬وسواء‬
‫كان يف فالة‪ ،‬أو يف مكان حيفظ فيه كالثالجة‪ ،‬أو أنه قد أكلته السباع‪ ،‬أو احرتق‬
‫حتى صار رماداً ونسف باهلواء‪ ،‬أو صلب‪ ،‬أو غرق يف البحر‪ ،‬أو غري ذلك؛‬
‫فالعذاب أو النعيم يصل إليه كما يصل إىل املقبور‪.‬‬
‫وإمنا مسي عذاب القرب ونعيمه باعتبار الغالب واألصل‪.‬‬
‫سادساً‪ :‬هل يَ ْفهَم فتنةَ القرب‪ ،‬وجييب عن سؤال امللكني َمنْ ال يعرف العربية؟‬
‫فقد مر بنا أن سؤال الناس يف قبورهم يكون بصيغة‪ :‬من ربك؟‪ ،‬وما دينك‪ ،‬وما‬
‫نبيك؟‬
‫واجلواب عن هذا اإلشكال‪:‬‬
‫هو أن اإلنسان يفهم السؤال‪ ،‬وجييب عنه‪ ،‬ولو مل يكن يعرف العربية‪.‬‬
‫سابعاً‪ :‬هل عذاب القرب ونعيمه على البدن أو على الروح؟ اجلواب أن عذاب‬
‫القرب ونعيمه يكون على البدن والروح معاً‪.‬‬
‫قال ابن تيمية ×‪= :‬مذهب سلف األمة‪ ،‬وأئمتها أن امليت إذا مات يكون يف‬
‫نعيم أو عذاب‪ ،‬وأن ذلك حيصل لروحه ولبدنه‪ ،‬وأن الروح تبقى بعد مفارقة‬
‫البدن منعمةً أو معذبةً‪ ،‬وأنها تتصل بالبدن أحياناً‪ ،‬فيحصل له معها النعيم‬
‫والعذاب‪.+‬‬
‫ثامناً‪ :‬هل عذاب القرب دائم أو منقطع؟ عذاب القرب على نوعني‪:‬‬
‫‪333‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫أحدهما‪ :‬دائم‪ ،‬ويدل على هذا قوله _تعاىل_‪[ :‬النَّارُ يُعْرَضُونَ َعلَيْهَا غُدُوّاً‬
‫وَعَ ِشيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْ ِخلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ] غافر‪. 46 :‬‬
‫وكذلك يف حديث الرباء بن عازب يف قصة سؤال الكافر يف قربه‪ ،‬وفيه =ثم‬
‫يفتح له باب إىل النار‪ ،‬فينظر إىل مقعده فيها حتى تقوم الساعة‪.+‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬أنه إىل مدة ثم ينقطع‪ :‬وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت‬
‫جرائمهم‪ ،‬فيعذب حبسب جرمه‪ ،‬ثم خيفف عنه‪ ،‬كما يعذب يف النار مدة ثم‬
‫يزول عنه العذاب‪.‬‬
‫وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء‪ ،‬أو صدقة‪ ،‬أو ثواب حج يصله من بعض‬
‫أقاربه‪ ،‬أو غريهم‪.‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪334‬‬
‫الــروح‬

‫أوالً‪ :‬حقيقة الروح اليت يف البدن‪ :‬اختلف الناس يف حقيقـة الروح اليت يف البـدن‬
‫اختالفـاً كثرياً‪ ،‬وأحسن ما قيل يف ذلك؛ ما ذكره ابن القيم × يف كتابه الروح؛‬
‫حيث ساق ستة أقوال يف الروح نقلها عن الرازي‪ ،‬واختار آخرها‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫=السادس‪ :‬أنه جسم خمالف باملاهية هلذا اجلسم احملسوس‪ ،‬وهو جسم نوراني‪،‬‬
‫علوي‪ ،‬خفيف‪ ،‬حي‪ ،‬متحرك ينفذ يف جوهر األعضاء‪ ،‬ويسري فيها سريان املاء‬
‫يف الورد‪ ،‬وسريان الدهن يف الزيتون‪ ،‬والنار يف الفحم‪.+‬‬
‫ثانياً‪ :‬مل مسيت الروح بهذا االسم؟ ألن بها حياة البدن‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬هل الروح والنفس شيء واحد أو أنهما متغايران؟ الروح اليت يف البـدن‬
‫هي النفس؛ فهذا املخلوق الذي تكـون به احلياة‪ ،‬وتفقد بفقده يسمى روحاً‪،‬‬
‫ونفساً؛ فهما بهذا االعتبار مرتادفان‪ ،‬يُعَبَّر بكل واحد منهما عن اآلخر‪ ،‬ويدل‬
‫عليه‪ ،‬وال مينع أن يكون لكل واحد منهما إطالقات؛ فالنفس تطلق على‬
‫الروح‪ ،‬ولكن غالباً ما تسمى به نفساً إذا كانت متصلة بالبدن‪ ،‬أما إذا أخذت‬
‫جمردة فتسمية الروح أغلب عليها‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬مسكن الروح‪ :‬اجلسد هو مسكن الروح‪ ،‬وهي تسري يف اجلسد كله‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ×‪= :‬ال اختصاص للروح بشيء من اجلسد؛‬
‫بل هي سارية يف اجلسد‪ ،‬كما تسري اليت هي عَرَض يف مجيع اجلسد؛ فإن احلياة‬
‫مشروطة بالروح‪ ،‬فإذا كانت الروح يف اجلسد كان فيه حياة‪ ،‬وإذا فارقته الروح‬
‫فارقته احلياة‪.+‬‬
‫‪335‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫خامساً‪ :‬الروح خملوقة‪ :‬فاحلق الذي ال جيوز العدول عنه أن الروح خملوقة‪،‬‬
‫وقد دل على ذلك الكتاب والسنة واإلمجاع ‪.‬‬
‫قال‪ :‬شيخ اإلسالم ابن تيمية × =روح اآلدمي مبدعة باتفاق سلف األمة‪،‬‬
‫وأئمتها‪ ،‬وسائر أهل السنة‪.+‬‬
‫سادساً‪ :‬هل متوت الروح؟ اجلواب أن الناس قد اختلفوا يف ذلك‪ ،‬والصواب‬
‫كما قال ابن القيم × أن يقال =موت النفوس هو مفارقتها ألجسادها‪،‬‬
‫وخروجها منها‪ ،‬فإن أريد مبوتها هذا القدر فهي ذائقة املوت ‪.‬‬
‫وإن أريد أنها تَعْدَم‪ ،‬وتضمحل‪ ،‬وتصري عدماً حمضاً _ فهي ال متوت بهذا‬
‫االعتبار‪ ،‬بل هي باقية بعد خلقها يف النعيم أو العذاب‪.+‬‬
‫سابعاً‪ :‬مستقر األرواح يف الربزخ‪ :‬األرواح متفاوتة يف مستقرها يف الربزخ‬
‫أعظم تفاوت‪ ،‬فمنها أرواح يف أعلى عليني‪ ،‬ومنها أرواح يف أسفل سافلني‪،‬‬
‫ومنها ما هو بني ذلك؛ فالناس يتفاوتون حبسب إميانهم‪ ،‬وأعماهلم‪.‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪336‬‬
‫إنكار عذاب القرب ونعيمه والرد على من زعم ذلك‬

‫أنكر بعض الزائغني من املالحدة والزنادقة ومن حنا حنوهم عذاب القرب‪،‬‬
‫وسعته‪ ،‬وضيقه‪ ،‬وكونه حفرة من حفر النار‪ ،‬أو روضة من رياض اجلنة‪ ،‬وكون‬
‫امليت ال يُجلس‪ ،‬وال يقعد‪.‬‬
‫واجلواب عن هذه املزاعم يسري _حبمد اهلل_ فهي مزاعم باطلة مردودة بالشرع‪،‬‬
‫واحلس‪ ،‬والعقل‪ ،‬وإليك بعض الوجوه اليت يرد بها على تلك املزاعم‪.‬‬
‫‪ _0‬أن عذاب القرب ونعيمه ثابت بالشرع‪ :‬وقد مضى ذكر لبعض تلك‬
‫النصوص‪ ،‬بل إن أحاديث هذا الباب متواترة كما يف فقرة سابقة‪.‬‬
‫‪ _1‬أنه جيب التأدب مع نصوص الشرع‪ :‬فال جيوز معارضتها بهذه الشبه الفاسدة‬
‫الداحضة اليت لو تأمل املعارض بها ما جاء يف الشرع حق التأمل لعلم بطالن هذه‬
‫الشبه؛ ففي الشرع ما قد حتار فيه العقول‪ ،‬ولكن ليس فيه ما حتيله العقول‪.‬‬
‫‪ _3‬أن أحوال الربزخ من أحوال الغيب اليت ال يدركها احلس‪ :‬ولو كانت‬
‫تدرك باحلس لفاتت فائدة اإلميان بالغيب‪ ،‬ولتساوى املؤمنون بالغيب‪،‬‬
‫واجلاحدون يف التصديق بها‪.‬‬
‫‪ _4‬أن احلس يدل على وقوع عذاب القرب‪ :‬فالنائم يرى يف منامه أنه يف مكان‬
‫فسيح بهيج يتنعم فيه‪ ،‬ويرى أنه يف مكان ضيق موحش يتأمل منه‪ ،‬ورمبا يستيقظ‬
‫أحيانا مما رأى‪ ،‬ورمبا يرى أثراً لألمل يف بدنه‪ ،‬وهو مع ذلك يف فراشه داخل‬
‫حجرته على ما هو عليه‪ ،‬والنوم أخو املوت‪.‬‬
‫‪ _5‬أن العقل يدل على وقوع عذاب القرب‪ :‬ومن ذلك _أيضاً_ أن النائم يف‬
‫منامه يرى الرؤيا احلق املطابقة للواقع‪ ،‬ورمبا رأى النيب"على صفته‪ ،‬ومن رآه‬
‫‪337‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫على صفته فقد رآه حقاً‪.‬‬


‫ومع ذلك فإن النائم يف حجرته على فراشه بعيداً عما رأى‪.‬‬
‫فإذا كان هذا ممكناً يف أحوال الدنيا أفال يكون ممكنا يف أحوال اآلخرة؟‬
‫‪ _6‬أن النعيم‪ ،‬والعذاب ‪ ،‬وسعة القرب‪ ،‬وضيقه إمنا يدركها امليت دون غريه‪:‬‬
‫ونظري ذلك كما _مضى_ أن النائم يرى يف منامه أنه يف مكان ضيق موحش‪ ،‬أو يف‬
‫مكان واسع بهيج‪ ،‬وهو بالنسبة لغريه مل يتغري حاله‪ ،‬فهو يف منامه وبني فراشه‬
‫وغطائه‪.‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪338‬‬
‫أشراط الساعة‬

‫أوالً‪ :‬قواعد عامة جمملة‪:‬‬


‫‪ _ 0‬الساعة آتية ال ريب فيها‪ ،‬قال _تعاىل_‪[ :‬إِنَّ السَّاعَةَ آِتيَةٌ] طه‪. 05 :‬‬
‫‪ _ 1‬الساعة قريبـة‪ ،‬قال _تعاىل_‪[:‬اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ] القمر‪. 0 :‬‬
‫‪ _ 3‬ال يعلم وقت الساعة إال اهلل قال _ عزوجل _‪[ :‬يَسَْألُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ‬
‫أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا ِعلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ال يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِالَّ هُوَ] األعراف‪. 087 :‬‬
‫‪ _ 4‬الساعة غيب‪ ،‬واإلميان بها من مجلة اإلميان بالغيب‪.‬‬
‫‪ _ 5‬ال جيوز االشتغال بتحديد زمن الساعة‪.‬‬
‫‪ _ 6‬للساعة أمارات تدل على قربها‪ ،‬ووقوعها‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬املوقف الصحيح من أشراط الساعة‪:‬‬
‫أن نؤمن مبا جاء من النصوص يف شأنها‪ ،‬وأال نكلف أنفسنا يف استدعائها‬
‫وطلبها وتنزيلها على الواقع‪.‬‬
‫بل ندع تفسريها للواقع؛ حتى ال نرجم بالغيب‪ ،‬ونقْفُوَ ما ليس لنا به علم؛‬
‫اقتداء بالسلف الصاحل الذين آمنوا بتلك النصوص‪ ،‬وأدوها إلينا بكل صدق‬
‫وأمانة‪ ،‬ومل يقحموا الظنون يف تعيينها‪ ،‬وترتيب بعضها على بعض مبجرد الرأي‪.‬‬
‫وبذلك نسلم من صنيع بعض الناس الذين ربطوا بني النصوص الواردة يف‬
‫أحوال آخر الزمان وأشراط الساعة وبني حال العامل يف زماننا هذا‪ ،‬فرتبوا بعضها‬
‫على بعض‪ ،‬وبنوا على ذلك أموراً نتج عنها فنت عظيمة‪ ،‬وانتهاك للحرمات‪.‬‬
‫وخالصة ذلك القول يف هذه املسألة‪ :‬أن نؤمن بتلك النصوص‪ ،‬وندع تفسريها‬
‫‪339‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫للواقع‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬اإلميان بأشراط الساعة ال يعين البطالة‪ ،‬وترك األخذ باألسباب‪ :‬ألن‬
‫تلك األشراط أمـور قدريـة كونية‪ ،‬وحنن مأمورون شرعاً ودينا بالتكاليف‬
‫الشرعية‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬الساعة يف االصطالح الشرعي‪ :‬هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة‪.‬‬
‫مسيت الساعة بذلك‪ :‬إما لقربها؛ فإن كل آتٍ قريب‪ ،‬أو لسرعة احلساب‬
‫فيها‪ ،‬أو ألنها تأتي بغتة يف ساعة‪ ،‬أو لسعي األرواح إىل األجساد بسرعة يف‬
‫ذلك اليوم‪ ،‬أو لغري ذلك‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬تعريف أشراط الساعة‪ :‬هي عالماتها‪ ،‬وأعالمها اليت تسبقها‪،‬‬
‫وتدل على قربها‪ ،‬وقيامها‪ ،‬وجميء الساعة بعدها‪ ،‬وانتهاء الدنيا وانقضائها‪.‬‬
‫سادساً‪ :‬أقسام أشراط الساعة‪ :‬تنقسم إىل قسمني‪:‬‬
‫‪ _ 1‬أشراط صغرى‪ :‬وهي اليت تتقدم الساعة بأزمان متطاولة‪ ،‬وتكون من‬
‫نوع املعتاد‪ ،‬كقبض العلماء‪ ،‬وظهور اجلهل‪ ،‬وشرب اخلمر‪ ،‬والتطاول يف‬
‫البنيان‪ ،‬وحنو ذلك كما سيأتي بيانه‪.‬‬
‫وقد يكون بعضها مصاحبا لألشراط الكربى‪.‬‬
‫‪ _ 2‬أشراط كربى‪ :‬وهي األمور العظام اليت تظهر قرب قيام الساعة‪ ،‬وتكون‬
‫غري معتادة الوقوع‪ ،‬كظهور الدجال‪ ،‬ونزول عيسى‪ ،‬وخروج يأجوج ومأجوج‪،‬‬
‫وطلوع الشمس من مغربها‪.‬‬
‫سابعاً‪ :‬احلكمة يف تقديم أشراط الساعة وداللة الناس عليها‪ :‬قال القرطيب×‪:‬‬
‫=واحلكمة يف تقديم األشراط‪،‬وداللة الناس عليها تنبيه الناس من رقدتهم‪ ،‬وحثهم‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪344‬‬
‫على االحتياط ألنفسهم بالتوبة واإلنابة؛ كي ال يباغتوا باحلول بينهم وبني تدارك‬
‫العوارض منهم؛ فينبغي للناس أن يكونوا بعد ظهور أشراط الساعة قد نظروا‬
‫ألنفسهم‪ ،‬وانقطعوا عن الدنيا‪ ،‬واستعدوا للساعة املوعود بها‪ ،‬واهلل اعلم‪.+‬‬
‫ثامناً‪ :‬ترتيب أشراط الساعة الكربى‪ :‬لقد جاءت األحاديث اليت نصت على‬
‫أشراط الساعة الكربى جمموعة غري مرتبة؛ إذ كان ترتيبها يف الذكر ال يقتضي‬
‫ترتيبها يف الوقوع؛ فقد جاء العطف فيها بالواو‪ ،‬وذلك ال يقتضي الرتتيب‪.‬‬
‫ومن النصوص مـا خالف ترتيـب األشراط فيها ترتيبها يف نص آخر‪.‬‬
‫وهذه مجلة من األحاديث اليت تعرضت لذكر األشراط الكربى مجلة‪ ،‬أو‬
‫ذكر بعضها‪.‬‬
‫روى اإلمام مسلم يف صحيحه عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال‪ :‬اطلع‬
‫النيب" علينا‪ ،‬وحنن نتذاكر‪ ،‬فقال‪= :‬ما تذاكرون؟‪ +‬قالوا‪ :‬نذكر الساعة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫=إنها لن تقوم حتى ترو قبلها عشر آيات‪.+‬‬
‫فذكر الدخان‪ ،‬والدجال‪ ،‬والدابة‪ ،‬وطلوع الشمس من مغربها‪ ،‬ونزول عيسى‬
‫بن مريم _عليه السالم_ ويأجوج ومأجوج‪ ،‬وثالثة خسوف‪ :‬خسف باملشرق‪،‬‬
‫وخسف باملغرب‪ ،‬وخسف جبزيرة العرب‪ ،‬وآخر ذلك نار خترج من اليمن تطرد‬
‫( ‪)1‬‬
‫الناس إىل حمشرهم‪.‬‬
‫وروى مسلم هذا احلديث عن حذيفة بن أسيد بلفظ آخر‪ ،‬قال أسيد‪ :‬كان‬
‫النيب " يف غرفة‪ ،‬وحنن أسفل منه‪ ،‬فاطلع إلينا فقال‪ = :‬ما تذكرون؟‪+‬قلنا‬

‫‪ _1‬رواه مسلم (‪. )2911‬‬


‫‪340‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫الساعة‪ .‬قال‪= :‬إن الساعة ال تكون حتى تكون عشر آيات‪ :‬خسف باملشرق‪،‬‬
‫وخسف باملغرب‪ ،‬وخسف يف جزيرة العرب‪ ،‬والدخان‪ ،‬والدجال‪ ،‬ودابة‬
‫األرض‪ ،‬ويأجوج ومأجوج‪ ،‬وطلوع الشمس من مغربها‪ ،‬ونار خترج من قعرة‬
‫عدن ترحل الناس‪.+‬‬
‫ويف رواية يف العاشرة‪ :‬نزول عيسى ابن مريم ‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ويف رواية‪ :‬وريح تلقي الناس يف البحر‪.‬‬
‫وروى مسلم _ أيضاً _ عن أبي هريرة ÷ أن رسول اهلل " قال‪= :‬بادروا‬
‫باألعمال ستاً‪ ،‬طلوع الشمس من مغربها‪ ،‬أو الدخان‪ ،‬أو الدجال‪ ،‬أو الدابة‪،‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫أو خاصة أحدكم‪ ،‬أو أمر العامة‪.+‬‬
‫ويف لفظ آخر‪= :‬بادروا باألعمال ستاً‪ :‬الدجال‪ ،‬والدخان‪ ،‬ودابة األرض‪،‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫وطلوع الشمس من مغربها‪ ،‬وأمر العامة‪ ،‬وخويصة أحدكم‪. +‬‬
‫وعن عبداهلل بن عمرو÷ قال‪ :‬حفظت من رسول اهلل حديثاً مل أُنْسَهُ بعد‪،‬‬
‫مسعت رسول اهلل " يقول‪= :‬إن أول اآليات خروجاً طلوع الشمس من‬
‫مغربها‪ ،‬وخروج الدابة على الناس ضحى‪ ،‬وأيهما ما كانت قبل صاحبتها‬
‫( ‪)4‬‬
‫فاألخرى على إثرها قريباً‪.+‬‬
‫والذي ميكن معرفته من خالل هذه األحاديث هو ترتيب بعض األشراط من‬

‫‪ _1‬رواه مسلم (‪. )2911‬‬


‫‪ _2‬رواه مسلم (‪. )2947‬‬
‫‪ _3‬املرجع السابق ‪.‬‬
‫‪ _4‬رواه مسلم (‪. )2941‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪341‬‬
‫خالل حدوث بعضها إثر بعض؛ ألن الرتتيب جاء بلفظني خمتلفني يف ترتيب‬
‫بعض األشراط‪ ،‬ويف أداة العطف؛ حيث جاء مرة بـ(أو)‪ ،‬ومرة بـ(الواو) وهما‬
‫ال يدالن على الرتتيب‪.‬‬
‫وهلذا اختلف العلماء يف ترتيب األشراط‪ ،‬وقد مجع احلافظ ابن حجر ×‬
‫بني أولية الدجال‪ ،‬وأولية خروج الشمس من مغربها‪ ،‬فقال‪= :‬الذي يرتجح من‬
‫جمموع األخبار أن خروج الدجال أول اآليات العظام املؤذنة بتغري األحوال العامة‬
‫يف معظم األرض‪ ،‬وينتهي ذلك مبوت عيسى _عليه السالم_‪.‬‬
‫وأن طلوع الشمس من مغربها هو أول اآليات العظام املؤذنة بتغري العامل‬
‫العلوي‪ ،‬وينتهي ذلك بقيام الساعة‪.‬‬
‫ولعل خروج الدابة يقع يف ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من املغرب‪+‬‬
‫ثم قال‪ = :‬واحلكمة يف ذلك أنه عند طلوع الشمس من املغرب يغلق باب‬
‫التوبة؛ فتخرج الد ابة؛ متيز املؤمن من الكافر؛ تكميالً للمقصود من إغالق باب‬
‫التوبة‪.‬‬
‫وأول اآليات املؤذنة بقيام الساعة النار اليت حتشر الناس‪.+‬‬
‫وقال الطيبـي × =اآليات أمارات للساعة‪ ،‬إما على قربها‪ ،‬وإما على‬
‫حصوهلا‪.‬‬
‫فمن األول‪ :‬الدجال‪ ،‬ونزول عيسى‪ ،‬ويأجوج ومأجوج‪ ،‬واخلسف‪.‬‬
‫ومن الثاني‪ :‬الدخان‪ ،‬وطلوع الشمس من مغربها‪ ،‬وخروج الدابة‪ ،‬والنار‬
‫اليت حتشر الناس‪.+‬‬
‫وهذا تقسيم حسن دقيق‪.‬‬
‫‪343‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫تاسعاً‪ :‬تتابع ظهور األشراط الكربى‪ :‬بغض النظر عن ترتيب األشراط الكربى؛‬
‫فإنها إذا ظهر منها أول عالمة تتابعت اآليات كتتابع اخلرز يف النظام‪ ،‬يتبع بعضها‬
‫بعضاً‪ ،‬وال يكاد يفصل بينها فاصل‪.‬‬
‫روى الطرباني يف األوسط عن أبي هريرة ÷ عن النيب " قال‪= :‬خروج‬
‫( ‪)1‬‬
‫اآليات بعضها على إثر بعض‪ ،‬يتتابعْن كما تتابع اخلرز يف النظام‪.+‬‬
‫وروى اإلمام أمحـد عن عبداهلل بن عمرو‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل "‪=:‬اآليات‬
‫( ‪)2‬‬
‫خرزات منظومات يف سلك؛ فإن يقطع السلك يتبعْ بعضها بعضاً‪.+‬‬
‫والذي يظهر _ واهلل أعلم _ أن املراد بهذه اآليات هي عالمات الساعة الكربى؛‬
‫فإن ظاهر هذه األحاديث يدل على تقارب ظهورها تقارباً شديداً‪.‬‬
‫قال ابن حجر ×‪ = :‬وقد ثبت أن اآليات العظام مثل السلك إذا انقطع تناثر‬
‫اخلرز بسرعة وهو عند أمحد‪.+‬‬

‫‪ _1‬قال اهليثمي =رواه الطرباني يف األوسط‪ ،‬ورجالـه رجـال الصـحيح غـري عبـداهلل بـن أمحـد بـن‬
‫حنبل ‪ ،‬وداود الزهرانـي‪ ،‬وكالهمـا ثقـة‪ +‬جممـع الزوائـد ‪،331/7‬وقـال األلبـاني يف صـحيحه اجلـامع‬
‫(‪= :)3222‬صحيح‪.+‬‬
‫‪ _2‬املسند (‪ )7141‬حتقيق أمحد شاكر‪ ،‬وقال =إسناده صحيح‪.+‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪344‬‬
‫املسيح الدجال‬

‫أوالً‪ :‬تعريف املسيح الدجال‪ :‬هو مسيح الضاللة الذي خيرج يف آخر‬
‫الزمـان‪ ،‬والذي يفنت الناس مبا يعطـاه من اآليـات واخلـوارق كإنـزال املطر‪،‬‬
‫وإحياء األرض بالنبات‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬صفة الدجال‪ :‬الدجال رجل من بين آدم له صفات كثرية جاءت بها‬
‫األحاديث؛ لتعريف الناس به‪ ،‬وحتذيرهم من شره؛ حتى إذا خرج عرفه املؤمنون؛‬
‫فال يفتنون به‪ ،‬بل يكونون على بَيِّنة من أمره‪.‬‬
‫وهذه الصفات متيزه عن غريه من الناس؛ فال يغرت به إال اجلاهل الذي غلبت‬
‫عليه الشقوة‪.‬‬
‫ومن صفات الدجال‪ :‬أنه رجل شاب‪ ،‬أمحر‪ ،‬قصري‪ ،‬أفحج‪ ،‬جعد الرأس‪،‬‬
‫أجلى اجلبهة‪ ،‬عريض النحر‪ ،‬ممسوح العني اليمنى‪ ،‬وهذه العني ليست بناتئة‪،‬‬
‫_أي بارزة_ وال جحراء _ أي غائرة منجحرة _ كأنها عنبة طافئة‪ ،‬وعينه اليسرى‬
‫عليها ظفرة غليظة‪ ،‬ومكتوب بني عينيه (ك ف ر) باحلروف املقطعة‪ ،‬أو (كافر)‬
‫بدون تقطيع‪ ،‬يقرؤها كل مسلم كاتب وغري كاتب‪.‬‬
‫ومن صفاته أنه عقيم ال يولد له‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫هذه بعض صفاته اليت صرحت بها األحاديث‪.‬‬

‫‪ _1‬انظر على سبيل املثال صحيح البخاري (‪0881‬و‪ )7031‬ومسلم‬


‫وسنن أبي داوود‬ ‫(‪1944‬و‪1941‬ا‪ ،1940‬و‪1945‬ا‪1944‬و‪1947‬ا‪)1946‬‬
‫‪.443/00‬‬
‫‪345‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫ثالثاً‪ :‬مكان خروجه‪ :‬خيرج الدجال من جهة املشرق من خراسان‪ ،‬من‬


‫يهودية أصبهان‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬سرعة انتقاله يف األرض‪ :‬بعد أن خيرج الدجال يسري يف األرض فال‬
‫يدع بلداً إال دخله إال مكـة واملدينة فال يستطيع دخوهلما؛ ألن املالئكة حترسهما‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬دعاوى الدجال‪ :‬الدجال يدعي النبوة‪ ،‬ثم يدعي الربوبية‪،‬‬
‫واأللوهية‪.‬‬
‫سادساً‪ :‬ما يدعو إليه‪ :‬الدجال يدعو إىل فتنة الناس‪ ،‬وصدهم عن دينهم‪،‬‬
‫ويدعو إىل تصديقه‪ ،‬واإلميان بأنه الرب اإلله‪ ،‬وذلك بسبب ما يعطاه من اآليات‬
‫واخلوارق‪.‬‬
‫سابعاً‪ :‬عظم فتنته‪ :‬فتنة الدجال أعظم الفنت‪ ،‬أو من أعظم الفنت منذ خلق اهلل‬
‫آدم إىل قيام الساعة؛ وذلك بسبب ما خيلق اهلل معه من اخلوارق العظيمة اليت‬
‫تبهر العقول‪ ،‬وحتري األلباب‪.‬‬
‫فقد ورد أن معه جنةً وناراً‪ ،‬وجنته ناره‪ ،‬وناره جنته‪ ،‬وأن معه أنهار املاء‪،‬‬
‫وجبال اخلبز‪ ،‬وأنه يأمر السماء أن متطر فتمطر‪ ،‬واألرض أن تنبت فتنبت‪.‬‬
‫وورد أن كنوز األرض تتبعه‪ ،‬وأنه يقطع األرض بسرعة عظيمة كسرعة‬
‫الغيث إذا استدبرته الريح‪ ،‬وأن اجلماد واحليوان يستجيب له‪ ،‬وأنه يقتل شاباً ثم‬
‫حيييه إىل غري ذلك من اخلوارق اليت جاءت بها األحاديث الصحيحة‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك فإن مجيع األنبياء حذروا أقوامهم من فتنة الدجال‪،‬‬
‫ورسولنا" كان أشدهم؛ حتذيراً منه‪.‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪346‬‬
‫جاء يف صحيح مسلم عن عمران بن حصني÷قال‪= :‬مسعت رسول اهلل"‬
‫_يقول_ ما بني خلق آدم إىل قيام الساعة خلق أكرب من الدجال‪. )1(+‬‬
‫وجاء يف صحيح البخاري عن أنس ÷ =ما بُعث نيب إال أنذر أمته األعور‬
‫الكذاب‪ ،‬أال إنه أعور‪ ،‬وإن ربكم ليس بأعور‪ ،‬وإن بني عينيه مكتوب كافر‪.)2(+‬‬
‫ثامناً‪ :‬أتباعه‪ :‬أكثر أتباع الدجال من اليهود‪ ،‬والعجم‪ ،‬والرتك‪ ،‬وأخالط‬
‫الناس‪ ،‬وغالبهم األعراب والنساء‪.‬‬
‫روى مسلم عن أنس بن مالـك ÷ أن رسول اهلل " قال‪= :‬يتبع الدجال من‬
‫يهود أصبهان سبعون ألفًا عليهم الطيالسة‪. )3(+‬‬
‫وعن أبي بكر الصديق÷قال‪ :‬حدثنا رسول اهلل" قال‪= :‬الدجال خيرج من‬
‫أرض باملشرق يقال هلا‪:‬خراسان‪ ،‬يتبعه أقوام كأن وجوهم املَجانُّ املُطْ َرقة(‪.)5(+)4‬‬
‫قال ابن كثري ×‪= :‬والظاهر واهلل _أعلم_ أن املراد هؤالء الرتك أنصار‬
‫الدجال‪.+‬‬
‫تاسعاً‪ :‬ما وجه كون أكثر أتباعه من األعراب والنساء؟ أما األعراب فألن‬

‫‪ _1‬رواه مسلم (‪. )2946‬‬


‫‪ _2‬رواه البخاري (‪. )1317‬‬
‫‪ _3‬رواه مسلم (‪. )4492‬‬
‫‪ _4‬اجملان املطرقة‪ :‬اجملان مجع جمن وهـو الـرتس‪ ،‬واملطرقـة هـي عوليـت بطـراق‪ ،‬وهـو اجللـد الـذي‬
‫يغشاه‪ ،‬حيث شبَّه وجوههم يف عرضها وغلظها‪ ،‬ونتوء وجناتهـا بـالرتس املطرقـة‪ .‬انظـر التـذكرة ص‪674‬‬
‫ـ‪.675‬‬
‫‪ _5‬رواه الرتمذي ‪،495/6‬وقال األلباني‪=:‬صحيح‪+‬انظر صحيح اجلامع (‪. )3398‬‬
‫‪347‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫اجلهل غالب عليهم‪ ،‬وملا جاء يف حديث أبي أمامة الطويل من قوله "‪= :‬وإن‬
‫من فتنته _أي الدجال_ أن يقول لألعرابي أرايت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد‬
‫أني ربك؟‬
‫فيقول‪ :‬نعم‪ ،‬فيتمثل له شيطانان يف صورة أبيه وأمه‪ ،‬فيقوالن‪ :‬يا بين!‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫اتبعه؛ فإنه ربك‪.+‬‬
‫وأما النساء فحاهلن أشد من حال األعراب؛ لسرعة تأثرهن‪ ،‬وغلبة اجلهل‬
‫عليهن؛ ففي احلديث عن ابن عمر _رضي اهلل عنهما_ قال‪ :‬قال النيب "‪:‬‬
‫=ينزل الدجال يف هذه السبخة مبرقناة( ‪ )2‬فيكون أكثر من خيرج إليه النساء‪ ،‬حتى‬
‫إن الرجل يرجع إىل محيمه‪ ،‬وإىل أمه‪ ،‬وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً؛ خمافة‬
‫أن خترج إليه‪. )3(+‬‬
‫عاشراً‪ :‬مكثه يف األرض‪ :‬ميكث يف األرض أربعني يوماً‪ ،‬يوم كسنة‪ ،‬ويوم‬
‫كشهر‪ ،‬ويوم كأسبوع‪ ،‬وسائر أيامه كسائر أيامنا؛ فمجموع مكثه يف األرض‬
‫بأيامنا هذه أربعة عشر شهراً‪ ،‬وأربعة عشر يوماً تقريباً‪.‬‬
‫جاء يف حديث النواس بن مسعان ÷ يف ذكر الدجال أن الصحابة قالوا‪= :‬يا‬
‫رسول اهلل! وما لبثه يف األرض؟ = قال أربعون يوماً‪ ،‬يوم كسنة‪ ،‬ويوم كشهر‪،‬‬

‫‪ _1‬رواه ابن ماجه ‪ 1359/2‬ـ‪.1363‬‬


‫‪ _2‬مرقناة‪ :‬وادٍ باملدينة يأتي من الطائف ومير بطرق القدوم يف أصل قبور الشهداء يف أحد ‪ .‬انظر‬
‫معجم البلدان ‪.411/4‬‬
‫‪ _3‬رواه أمحد ‪ 191/7‬حتقيق أمحد شاكر وقال‪= :‬إسناده صحيح‪.+‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪348‬‬
‫ويوم كجمعة‪ ،‬وسائر أيامه كأيامكم‪. )1(+‬‬
‫حادي عشر‪ :‬الوقاية من فتنة الدجال‪ :‬لقـد أرشـد النيب " أمته إىل ما‬
‫يعصمها من فتنة املسيح الدجال‪ ،‬وإليك بعض اإلشارات املوجزة اليت تعصم‬
‫( ‪)2‬‬
‫من تلك الفتنة العظيمة‪.‬‬
‫‪ _1‬التمسك باإلسالم‪ ،‬واالعتصام باهلل _جل وعال_ قال _تعاىل_‪[ :‬وَمَنْ‬
‫يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ ِإلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] آل عمران‪.040 :‬‬
‫‪ _ 1‬العلم بأمساء اهلل وصفاته‪ :‬اليت ال يشاركه فيها أحد؛ فيعلم أن الدجال‬
‫بَشَـر يأكـل ويشـرب‪ ،‬ويعرتيه ما يعتـري البشر‪ ،‬وأن اهلل _تعاىل_ منزه من ذلك‪،‬‬
‫وأن الدجال أعور‪ ،‬واهلل ليس بأعور‪ ،‬وأنه ال أحد يرى ربه حتى ميـوت‪،‬‬
‫والدجال يراه النـاس عند خروجه مؤمنهم وكافرهم‪.‬‬
‫‪ _ 3‬التعوذ باهلل من فتنة الدجال‪ :‬وخاصة يف الصالة‪ ،‬وقد جاءت األحاديث‬
‫الصحيحة يف ذلك‪.‬‬
‫ومن ذلك ما رواه الشيخان عن عائشة _رضي اهلل عنها_ أن رسول اهلل "‬
‫كان يدعو يف الصالة‪ = :‬اللهم إني أعوذ بك من عذاب القرب‪ ،‬وأعوذ بك من فتنة‬
‫املسيح الدجال‪. )3(+‬‬
‫‪ _ 4‬حفظ آيات من سورة الكهف‪ :‬فقد أمـر النبـي " بقراءة فواتح سورة‬

‫‪ _1‬رواه مسلم(‪. )1937‬‬


‫‪ _2‬انظر تفصيل ذلك يف أشراط الساعة للوابل ص‪.315‬‬
‫‪ _3‬رواه البخاري (‪831‬ا‪833‬ا‪ )1397‬ومسلم (‪. )589‬‬
‫‪349‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫الكهف على الدجال‪ ،‬ويف بعض الروايات خواتيمها‪ ،‬وذلك بقراءة عشر آيات‬
‫من أوهلا أو آخرها‪.‬‬
‫جاء يف صحيح مسلم من حديث النواس بن مسعان الطويل =من أدركه منكم‬
‫فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف‪. )1(+‬‬
‫وجاء يف مسلم _ أيضاً _ عن أبي الدرداء أن النيب " قال‪= :‬من حفظ عشر‬
‫آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال‪+‬أي من فتنته‪.‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫قال مسلم‪=:‬قال شعبة‪ :‬من آخر الكهف‪ ،‬وقال همام‪ :‬من أول الكهف‪+‬‬
‫‪.‬‬
‫‪ _ 5‬الفرار من الدجال واالبتعاد عنه‪ :‬وذلك بسبب ما معه من الشبهات‬
‫واخلوارق العظيمة اليت جيريها اهلل على يديه؛ فتنة للناس؛ فإنه يأتيه الرجل وهو‬
‫يظن يف نفسه اإلميان والثبات‪ ،‬فيتبع الدجال‪.‬‬
‫قال النيب "‪ = :‬من مسع بالدجال فلينأ عنه؛ فواهلل إن الرجل ليأتيه وهو حيسب‬
‫( ‪)3‬‬
‫أنه مؤمن‪ ،‬فيتبعه مما يبعث به من الشبهات‪ ،‬أو ملا يبعث به من الشبهات‪.+‬‬
‫ثاني عشر‪ :‬هالك الدجال‪ :‬يكون هالك الدجال على يدي عيسى بن مريم‬
‫_عليه السالم_ كما دلت على ذلك األحاديث الصحيحة‪.‬‬

‫‪ _1‬رواه مسلم (‪. )2937‬‬


‫‪ _2‬رواه مسلم (‪. )819‬‬
‫‪ _3‬أخرجه احلاكم ‪،531/4‬وقال‪=:‬هذا حديث صحيح اإلسناد على شرط مسلم ومل‬
‫خيرجه‪+‬وسكت عنه الذهيب ‪.‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪354‬‬
‫وذلك أن الدجال يظهر على األرض كلها إال مكة واملدينة‪ ،‬ويكثر أتباعه‬
‫وتعم فتنته‪ ،‬وال ينجو منها إال قلة من املؤمنني‪.‬‬
‫وعند ذلك ينزل عيسى _عليه السالم_ على املنارة الشرقية بدمشق‪ ،‬ويلتف‬
‫حوله عباد اهلل املؤمنون‪ ،‬فيسري بهم قاصداً املسيح الدجال‪ ،‬ويكون الدجال عند‬
‫نزول عيسى متوجهاً حنو بيت املقدس‪ ،‬فيلحق به عيسى عند باب (لـدّ) ‪.‬‬
‫فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب امللح‪ ،‬فيقول له عيسى _عليه السالم_‪= :‬إن‬
‫لي فيك ضربة لن تفوتين‪.‬‬
‫فيتداركه عيسى‪ ،‬فيقتله حبربته‪ ،‬وينهزم أتباعه‪ ،‬فيتبعهم املؤمنون‪ ،‬فيقتلونهم‪،‬‬
‫حتى يقول الشجر واحلجر‪ :‬يا مسلم! يا عبداهلل! هذا يهودي خلفي فاقتله‪ ،‬إال‬
‫شجر الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود‪. )1(+‬‬
‫ثالث عشر‪ :‬فتنة الدجال فتنة شخص‪ ،‬وفتنة جنس‪ :‬ففتنة الدجال _ إذاً _‬
‫على نوعني‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬فتنة شخص‪ :‬واملقصود بهذه الفتنة الدجال الذي خيرج يف آخر‬
‫الزمان كما مر احلديث عنه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬فتنة جنس‪ :‬واملقصود بها كل فتنة يقارنها متويهات‪ ،‬ويقرتن بها‬
‫شبهات؛ فإنها من جنس فتنة الدجال‪.‬‬
‫رابع عشر‪ :‬خرب ابن صياد وهل هو الدجال األكرب‪:‬‬
‫‪ _1‬تعريف بابن صياد‪ :‬امسه صايف‪ ،‬وقيل عبداهلل بن صياد‪ ،‬أو صائد‪.‬‬

‫‪ _1‬انظر صحيح مسلم(‪. )2937‬‬


‫‪350‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫كان من يهود املدينة‪ ،‬وقيل من األنصار‪ ،‬وكان صغريًا عند قدوم النيب" املدينة‪.‬‬
‫وذكر ابن كثري أنه أسلم‪ ،‬وكان ابنه عمارة من سادات التابعني‪ ،‬روى عنه‬
‫اإلمام مالك وغريه‪.‬‬
‫وترجم له ابن حجر × وقال‪= :‬ومن ولده عمارة بن عبداهلل بن صياد وكان‬
‫من خيار املسلمني من أصحاب سعيد بن املسيب‪ ،‬روى عنه مالك وغريه‪.+‬‬
‫‪ _2‬أحوال ابن صياد‪ :‬كان دجاالً‪ ،‬وكان يتكهن أحياناً‪ ،‬فيصدُق‪ ،‬ويكذب‪،‬‬
‫فانتشر خربه بني الناس‪ ،‬وشاع أنه الدجال‪.‬‬
‫‪ _3‬هل ابن صياد هو الدجال الذي خيرج يف آخر الزمان؟ واجلواب أن العلماء‬
‫من الصحابة ومَن بعد هم قد اختلفوا يف أمره اختالفاً كثرياً‪ ،‬فمنهـم من قال‪ :‬إنـه‬
‫الدجـال‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬إنه من مجلـة الكهنة واملمخرقني الكذابني‪.‬‬
‫ولعل الصواب _واهلل أعلم_ أنه ليس الدجال األكرب‪ ،‬وإمنا هو من مجلة‬
‫الدجاجلة‪.‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪351‬‬
‫نزول عيسى بن مريم ـ عليه السالم ـ‬

‫أوالً‪ :‬صفة عيسى _عليه السالم_‪ :‬صفته اليت جاءت بها الروايات أنه رجل‬
‫مربوع القامة‪ ،‬ليس بالطويل وال بالقصري‪ ،‬أمحر‪ ،‬جعد الرأس‪ ،‬عريض‬
‫الصدر‪ ،‬سبط الشعر‪ ،‬كأمنا خرج من دمياس _ أي محام _ له لِمَّةٌ قد رجَّلها متأل‬
‫ما بني منكبيه(‪. )1‬‬
‫ثانياً‪ :‬تواتر األخبار يف نزوله‪ :‬يستخلص من النصوص الواردة يف شأن عيسى‬
‫_عليه السالم_ أنه نازل ال حمالة‪ ،‬وأن النصوص بذلك متواترة؛ فالتكذيب بنزوله‬
‫تكذيب للرسول "‪.‬‬
‫بل هو تكذيب للقرآن الكريم الذي دل على نزول عيسى _عليه السالم_‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬صفة نزوله‪ :‬بعد خروج الدجال‪ ،‬وإفساده يف األرض يبعث اهلل عيسى‬
‫_عليه السالم_ فينزل إىل األرض‪ ،‬ويكون نزوله عند املنارة البيضاء شرقي دمشق‬
‫الشام وعليه مهرودتان(‪ ، )2‬واضعاً كفيه على أجنحة ملكني‪ ،‬إذا طأطأ رأسه‬
‫قطر‪ ،‬وإذا رفعه حتدَّر منه مجانٌ كاللؤلؤ‪ ،‬وال حيل لكافر جيد ريح نَفَسه إال‬
‫مات‪ ،‬ونـفَسُه ينتهي حيث ينتهي طَرْفـه‪.‬‬
‫ويكون نزوله على الطائفة املنصورة اليت تقاتل على احلق‪ ،‬وتكون جمتمعة لقتال‬
‫الدجال؛ فينزل وقت إقامة صالة الفجر‪ ،‬ويصلي خلف أمري تلك الطائفـة‪ ،‬بعد أن‬
‫يقـال له‪ :‬تعال صل لنا‪ ،‬فيقـول _عليه السالم_‪= :‬ال؛ إن بعضكم على بعض‬

‫‪ _1‬انظر صحيح البخاري (‪3437‬و‪ )3438‬ومسلم (‪. )168‬‬


‫‪ _2‬مهرودتان‪ :‬أي ثوبني مصبوغني بورس‪ ،‬ثم زعفران ‪.‬انظر شرح النووي ملسلم ‪.67/18‬‬
‫‪353‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫أمراء؛ تَكْرِمة اهلل هذه األمة‪. )1(+‬‬


‫رابعاً‪ :‬احلكمة من نزول عيسى _عليه السالم_ دون غريه‪ :‬لقد تلمس بعض‬
‫العلماء حكمة ذلك‪ ،‬ومن األوجه اليت قيلت ما يلي‪:‬‬
‫‪ _ 0‬الرد على اليهود‪ _ 1 .‬أن إنزاله؛ لدنو أجله؛ ليدفن يف األرض‪.‬‬
‫‪ _ 3‬أن عيسى _عليه السالم_ وجد فضل أمة حممد يف اإلجنيل كما يف قوله‬
‫_تعاىل_‪ [ :‬وَمََثلُهُمْ فِي اإلِنْجِيلِ َكزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطَْأهُ فَآزَ َرهُ فَاسْتَ ْغلَظَ فَاسْتَوَى َعلَى‬
‫سُوقِهِ] الفتح‪. 19 :‬‬
‫‪ _ 4‬أنه ينزل مكذبا للنصارى‪ _ 5 .‬أن خصوصيته بذلك لقول النيب "‪:‬‬
‫=أنا أوىل الناس بعيسى بن مريم يف الدنيا واآلخرة‪. )2(+‬‬
‫خامساً‪ :‬قتله للدجال‪ :‬مر عند احلديث عن الدجال أن عيسى _عليه السالم_‬
‫يقتل الدجال‪ ،‬فتكون نهاية الدجال على يد عيسى _عليه السالم_‪.‬‬
‫سادساً‪ :‬حكمه بالقسط بشريعة اإلسالم‪ :‬فعيسى _عليه السالم_ سوف حيكم‬
‫بالشريعة احملمدية‪ ،‬ويكون من أتباع حممد " فلن ينزل بشرع جديد؛ ألن دين‬
‫اإلسالم خامت األديان‪.‬‬
‫وهو عام جلميع اخللق‪ ،‬باقٍ إىل قيام الساعة ال ينسخ؛ فيكون عيسى _عليه‬
‫السالم_ حاكماً من حكام هذه األمة‪ ،‬وجمدداً ألمر اإلسالم؛ إذ ال نيب بعد‬
‫حممد"‪.‬‬
‫وإذا نزل عيسى حكم بالقسط‪ ،‬وكسر الصليب _ وهو رمز النصرانية احملرفة _‬

‫‪ _1‬انظر صحيح البخاري (‪ )3449‬ومسلم (‪. )155‬‬


‫‪ _2‬رواه البخاري (‪. )3443‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪354‬‬
‫وقَتَل اخلنزير الذي حَرَّمه اإلسالم‪ ،‬ووضع اجلزية؛ فال يقبل من اليهود‬
‫والنصارى والكفار عموماً إال اإلسالم‪.‬‬
‫سابعاً‪ :‬مدة بقائه بعد نزوله‪ :‬جاء يف بعض الروايات أنه ميكث سبع سنني‪،‬‬
‫ويف بعضها أربعني سنة؛ ففي رواية اإلمام مسلم عن عبداهلل بن عمرو _ رضي اهلل‬
‫عنهما _‪ = :‬فيبعث اهلل عيسى بن مريم‪ ،‬ثم ميكث الناس سبع سنني ليس بني‬
‫اثنني عداوة‪ ،‬ثم يرسل اهلل رحياً باردة من قبل الشام‪ ،‬فال يبقى على وجه‬
‫األرض أحد يف قلبه مثقال من خري أو إميان إال قبضته‪. )1(+‬‬
‫ويف رواية اإلمام أمحد وأبي داود‪= :‬فيمكث يف األرض أربعني سنة‪ ،‬ثم‬
‫يتوفى‪ ،‬ويصلي عليه املسلمون‪. )2(+‬‬
‫وكال هاتني الروايتني صحيحة‪ ،‬وهذا مشكل إال أن تُحْمَل رواية السبع سنني‬
‫على مدة إقامته بعد نزوله‪ ،‬ويكون ذلك مضافاً إىل مكثه يف األرض قبل رفعه إىل‬
‫السماء‪ ،‬وكان عمره إذ ذاك ثالثا وثالثني سنة على املشهور‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫‪ _1‬رواه مسلم(‪. )2941‬‬


‫‪ _2‬مسند اإلمام أمحد ‪،416/2‬بهامشه منتخب الكنز‪،‬قال بـن حجـر‪=:‬صـحيح‪،493 /6،+‬‬
‫وسنن أبي داوود ‪ 456/11‬مع عون املعبود‪.‬‬
‫‪355‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬
‫خروج يأجوج ومأجوج‬

‫أوالً_ التعريف اللغوي لـ‪ :‬يأجوج ومأجوج‪ :‬قيل‪ :‬هما امسان عربيان‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫أعجميان‪ ،‬وقد قرأهما عاصم باهلمز‪ ،‬والباقون بغري همز‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أصلهم‪ :‬أصل يأجوج ومأجوج من البشر‪ ،‬ومن ذرية آدم وحواء‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬صفتهم‪ :‬أما صفتهم اليت جاءت بها األحاديث فهي أنهم يشبهون أبناء‬
‫جنسهم من الرتك الغتم _أي العجم_ املغول‪ ،‬صغار العيون‪ ،‬ذلف األنوف‪،‬‬
‫صهب الشعور‪ ،‬عراض الوجوه‪ ،‬كأن وجوههم املَجَانُّ املُطْرَقة على أشكال‬
‫الرتك وألوانهم ‪.‬‬
‫والذي تدل عليه الروايات الصحيحة أنهم رجال أقوياء ال طاقة ألحد بقتاهلم‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬فسادهم‪ :‬إذا خرج يأجوج ومأجوج حصل على أيديهم أذى كبري‪،‬‬
‫وفتنة عظمى‪ ،‬وشر مستطري‪.‬‬
‫وهم مجوع كثرية حتى إنهم؛ لكثرتهم إذا مر أوهلم على حبرية طربية عند‬
‫خروجهم شربوا املاء الذي فيها جَميعَه؛ فإذا مر آخرهم قالوا قد كان يف هذه‬
‫البحرية ماء‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬هالكهم‪ :‬يكون بعد أن يقتل عيسى الدجالَ‪ ،‬حيث يهلك اهلل يأجوج‬
‫ومأجوج بربكة دعاء عيسى _عليه السالم_ كما جاء يف حديث النواس بن مسعان‬
‫الطويل‪ ،‬وفيه‪ = :‬فريغب نيب اهلل عيسى وأصحابه إىل اهلل؛ فريسل اهلل طرياً كأعناق‬
‫البُخت _ غالظ اإلبل _ فتحملهم‪ ،‬فتطرحهم حيث شاء اهلل‪.)1(+‬‬

‫‪ _ 1‬رواه مسلم (‪.)2937‬‬


‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪356‬‬
‫أشراط الساعة الكربى الدالة على حصوهلا‬

‫أوالً‪ :‬الدخــان‬
‫فظهور الدخان يف آخر الزمان من عالمات الساعة الكربى اليت دل عليها‬
‫الكتاب والسنة‪.‬‬
‫أدلة ظهور مق ال تاب والسنة‪:‬‬
‫أ _ أدلة ظهوره من الكتاب‪ :‬قال اهلل _تعاىل_‪[ :‬فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ‬
‫بِدُخَانٍ مُبِنيٍ (‪ )04‬يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ َألِيمٌ ] الدخان‪.00 _04 :‬‬
‫وللعلماء يف املراد بهذا الدخان قوالن‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن هذا الدخان هو ما أصاب قريشاً من الشدة واجلوع عندما دعا‬
‫عليهم النيب " حني مل يستجيبوا له؛ فأصبحوا يرون يف السماء كهيئة الدخان‪.‬‬
‫وإىل هذا القول ذهب ابن مسعود ÷ وتبعه مجاعة من السلف ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن هذا الدخان من اآليات املنتظرة اليت مل جتيء بعد‪ ،‬وسيقع قرب‬
‫قيام الساعة‪ ،‬وإىل هذا القول ذهب ابن عباس وبعض الصحابة والتابعني ‪.‬‬
‫ب _ أدلة ظهوره من السنة‪ :‬مضى ذكر بعض األحاديث يف ذلك‪ ،‬ومنها ما‬
‫جاء صحيح مسلم عن أبي هريرة ÷ أن رسول اهلل " قال‪ = :‬بادروا باألعمال‬
‫ستاً‪ :‬الدجال‪ ،‬والدخان‪ )1(+‬احلديث‪.‬‬
‫وجاء يف حديث حذيفة يف أشراط الساعة الكربى‪= :‬والدخان‪. )2(+‬‬

‫مق مغربها‬ ‫ثانياً‪ :‬طلوع الشم‬

‫‪ _1‬رواه مسلم(‪. )2947‬‬


‫‪ _2‬مضى خترجيه‪.‬‬
‫‪357‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫فطلوع الشمس من مغربها من عالمات الكربى‪ ،‬وهو ثابت بالكتاب والسنة‪.‬‬


‫قال اهلل _تعاىل_[يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ال يَنفَعُ نَفْساً إِميَانُهَا لَمْ تَكُنْ‬
‫آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِميَانِهَا َخيْراً ] األنعام‪. 058 :‬‬
‫فقد دلت األحاديث الصحيحة أن املراد ببعض اآليات املذكورة يف اآلية طلوع‬
‫الشمس من مغربها‪ ،‬وهو قول أكثر املفسرين ‪.‬‬
‫وجاء يف الصحيحني عن أبي هريرة ÷ أن رسول اهلل " قال‪= :‬ال تقوم‬
‫الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها‪ ،‬فإذا اطلعت‪ ،‬فرآها الناس آمنوا‬
‫أمجعون؛ فذاك حني ال ينفع نفسا إميانها مل تكن آمنت من قبل أو كسبت يف‬
‫إميانها خرياً‪. )1(+‬‬
‫وروى مسلم عن أبي هريرة ÷ أن رسول اهلل " قال‪= :‬بادروا باألعمال‬
‫ستاً‪ :‬طلوع الشمس من مغربها‪ +‬احلديث(‪. )2‬‬
‫ما العلة من كون اإلميان ال ينفع إذا طلعت الشمس من مغربها؟ قال‬
‫القرطيب×‪= :‬قال العلماء‪ :‬وإمنا ال ينفع نفساً إميانها عند طلوعها من مغربها؛‬
‫ألنه خلص إىل قلوبهم من الفزع ما ختمد معه كل شهوة من شهوات النفس‪ ،‬وتفرت‬
‫كل قوة من قوى البدن‪ ،‬فيصري الناس كلهم؛ إليقانهم بدنو القيامة يف حال من‬
‫حضرة املوت من انقطاع الدواعي إىل أنواع املعاصي عنهم‪ ،‬وبطالنها من أبدانهم؛‬
‫فمن تاب يف مثل هذه احلال مل تقبل توبته كما ال تقبل توبة من حضره املوت‪. )3(+‬‬

‫ثالثاً‪ :‬الداب ــة‬

‫‪ _1‬البخاري (‪ 4635‬و‪ 4635‬و‪ 6516‬و‪ )7121‬ومسلم (‪. )157‬‬


‫‪ _2‬مسلم (‪. )2947‬‬
‫‪ _3‬التذكرة للقرطيب ص‪.794‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪358‬‬
‫ظهور دابة األرض يف آخر الزمان من أشراط الساعة الكربى الثابتة بالكتاب‬
‫والسنة‪.‬‬
‫أ _ األدلة من الكتاب‪ :‬قال اهلل _تعاىل_‪[ :‬وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ َعلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ‬
‫دَابَّةً مِنْ األَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا ال يُوقِنُونَ] النمل‪.81 :‬‬
‫فهذه اآلية الكرمية صرحت خبروج الدبة‪ ،‬وأن ذلك يكون عند فساد الناس‪،‬‬
‫وتركهم أوامر اهلل‪ ،‬وتبديلهم الدين احلق‪ ،‬فيخرج اهلل هلم دابة من األرض‬
‫تكلمهم على ذلك‪.‬‬
‫ب _ وأما األدلة من السنة فكثرية ‪ ،‬وقد مضى شيء منها‪ ،‬ومن ذلك ما رواه‬
‫مسلم يف صحيحة عن أبي هريرة ÷ قال‪ :‬قال رسول اهلل "‪= :‬ثالث إذا‬
‫خرجن ال ينفع نفساً إميانها مل تكن آمنت من قبل أوكسبت يف إميانها خرياً‪:‬‬
‫طلوع الشمس من مغربها‪ ،‬والدجال‪ ،‬ودابة األرض‪. )1(+‬‬
‫ج_ مكان خروج الدابة‪ :‬قيل‪ :‬يف مكة من أعظم املساجد‪ ،‬وقيل‪ :‬هلا ثالث‬
‫خرجات‪ ،‬فمرة خترج يف بعض البوادي‪ ،‬مرة يف بعض القرى‪ ،‬ثم تظهر يف‬
‫املسجد احلرام‪.‬‬
‫وهناك أقوال أخرى غالبها يدور على أن خروجها من احلرم املكي ‪.‬‬
‫د _ عمل الدابة‪ :‬إذا خرجت الدابة العظيمة فإنها تسم املؤمن والكافر‪.‬‬
‫فأما املؤمن؛ فإنها جتلو وجهه حتى يشرق‪ ،‬ويكون ذلك عالمة إميانه‪.‬‬
‫وأما الكافر فإنها ختطمه على أنفه؛ عالمة على كفره ‪.‬‬

‫شر النا‬ ‫رابعاً‪ :‬النار اليت‬

‫‪ _1‬مسلم (‪. )158‬‬


‫‪359‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫أ _ مكان خروجها‪ :‬جاءت الروايات بأن خروجها يكون من اليمن من قعرة‬


‫عدن‪ ،‬وخترج من حبر حضرموت كما جاء يف روايات أخرى‬
‫جاء يف حديث حذيفة بن أسيد يف صحيح مسلم يف ذكر أشراط الساعة‬
‫قوله"‪= :‬وآخر ذلك نار خترج من اليمن تطرد الناس إىل حمشرهم‪.+‬‬
‫ويف رواية ملسلم عن حذيفة _ أيضاً _‪ = :‬ونار خترج من قعرة عدن ترحل‬
‫الناس‪.+‬‬
‫ب _ كيفية حشرها‪ :‬عند ظهور هذه النار العظيمة من اليمن تنتشر يف‬
‫األرض‪ ،‬وتسوق الناس إىل أرض احملشر‪ ،‬والذين حيشرون على ثالثة أفواج‪:‬‬
‫األول‪ :‬فوج راغبون‪ ،‬طاعمون‪ ،‬كاسون‪ ،‬راكبون‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬فوج ميشون تارة‪ ،‬ويركبون أخرى‪ ،‬يعتقبون على البعري الواحد‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬حتشرهم النار‪ ،‬فتحيط بهم من ورائهم‪ ،‬وتسوقهم من كل جانب إىل‬
‫أرض احملشر‪ ،‬ومن ختلف أكلته النار‪.‬‬
‫وقد صحت بذلك األحاديث ‪.‬‬
‫ج _ أرض احملشر‪ :‬حيشر الناس إىل الشام يف أخر الزمان‪ ،‬وهي أرض احملشر‪،‬‬
‫كما جاءت بذلك األحاديث الصحيحة ‪.‬‬
‫د _ هذا احلشر يف الدنيا‪ :‬وليس املراد به حشر الناس بعد البعث من القبور‪.‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪364‬‬
‫من أحوال القيامة وأخبارها‬

‫أوالً‪ :‬النفخ يف الصور‬


‫‪ _1‬النفخ يف الصور يف الشرع‪ :‬هو نفخ إسرافيل يف القرن الذي التقمه ووكل‬
‫إليه النفخ فيه وقت قيام الساعة ‪.‬‬
‫‪ _2‬األدلة على النفخ يف الصور‪:‬‬
‫دل على النفخ يف الصور الكتاب والسنة واإلمجاع‪:‬‬
‫أ _ األدلة من القرآن على النفخ‪ :‬قال _تعاىل_‪[ :‬وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ‬
‫فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي األَرْضِ إِالَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ ِقيَامٌ‬
‫يَْنظُرُونَ] الزمر‪.68 :‬‬
‫وقال _عز وجل_‪[:‬وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَ َفزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَ َمنْ فِي‬
‫األَرْضِ إِالَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ] النمل‪. 87 :‬‬
‫جدَاثِ إِلَى رَبِّهِ ْم يَنسِلُونَ] يس‪.50:‬‬
‫خ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُ ْم ِمنْ األَ ْ‬
‫وقال‪َ [ :‬ونُفِ َ‬
‫ب _ األدلة من السنة‪ :‬جاء يف صحيح مسلم عن عبداهلل بن عمرو _ رضي اهلل‬
‫عنهما _ قال‪ :‬قال رسول اهلل "‪= :‬ثم ينفخ يف الصور فال يسمعه أحد إال أصغى‬
‫لِيتاً ورفع ليتاً(‪ )1‬ثم ال يبقى أحد إال صعق‪ ،‬ثم ينزل اهلل مطراً كأنه الطل أو الظل‬
‫(شك الراوي) فتنبت منه أجساد الناس‪ ،‬ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام‬
‫ينظرون‪. )2(+‬‬
‫‪ _3‬عدد النفخات‪ :‬عدد النفخات اليت ينفخ فيها إسرافيل يف الصور نفختان‪:‬‬

‫‪ _1‬اللِّيت‪:‬صفحة العنق‪،‬وإصغاؤه‪ :‬إمالته‪.‬‬


‫‪ _2‬مسلم(‪. )294‬‬
‫‪360‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫أ _ نفخة الصعق‪ :‬وهي النفخة اليت ينفخ فيه فيفزع الناس‪ ،‬ويصعقون‪.‬‬
‫ب _ نفخة البعث‪ :‬وهي النفخة اليت يقوم الناس فيها من األجداث أحيا ًء‬
‫لرب العاملني‪.‬‬
‫وقد ذهب بعض أهل العلم إىل أن النفخات ثالث هي‪:‬‬
‫ب _ نفخة الصعق‪.‬‬ ‫أ _ نفخة الفزع بدون الصعق‪.‬‬
‫ج _ نفخة البعث والقيام لرب العاملني‪.‬‬
‫فمن فسر الفزع بالصعق فهما اثنتان عنده‪ ،‬ومن فسر الفزع بغري الصعق فهي‬
‫ثالث ‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬الـبـع ـ ل‬
‫‪ _1‬تعريف البعث يف اللغة‪ :‬هو اإلرسال‪ ،‬والنشر‪ ،‬والتحريك‪ ،‬وحنو ذلك‬
‫من املعاني ‪.‬‬
‫‪ _2‬البعث يف الشرع‪ :‬هو املعاد اجلسماني‪ ،‬وإحياء األموات يوم القيامة؛‬
‫حلسابهم والقضاء بينهم ‪.‬‬
‫‪ _3‬واإلميان بالبعث دل عليه الكتاب والسنة‪ ،‬واإلمجاع‪ ،‬والعقل‪ ،‬والفطرة‬
‫السليمة‪ ،‬وهو مقتضى احلكمة؛ حيث تقتضي أن جيعل اهلل هلذه اخلليقة معاداً‬
‫جيازيهم فيه على ما كلفلَّهم به على ألسنة رسله ‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬احلسـ ــاب‬


‫‪ _1‬احلساب يف الشرع‪ :‬هو إطـالعُ اهلل عِبادَه على أعماهلم يوم القيامة‪،‬‬
‫وإنباؤهم مبا قدموه من خري وشر ‪.‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪361‬‬
‫‪ _2‬األدلة على إثبات احلساب‪ :‬احلساب ثابت بالكتاب والسنة‪ ،‬وإمجاع‬
‫املسلمني‪.‬‬
‫‪ _3‬كيفية احلساب وصفته‪ :‬دلت نصوص الشرع على كيفية احلساب‪ ،‬وصفته‪.‬‬
‫وميكن إمجال ذلك أن يقال‪ :‬إن اهلل _عزوجل_ يوقف عباده بني يديه‪،‬‬
‫فيقررهم بذنوبهم اليت ارتكبوها‪ ،‬وبأعماهلم اليت عملوها‪ ،‬وبأقواهلم اليت‬
‫قالوها‪ ،‬ويعرفهم مبا كانوا عليه يف الدنيا ومن كفرو إميان‪ ،‬وطاعة وعصيان‪،‬‬
‫واستقامة واحنراف‪ ،‬وما يستحقونه على ما قدموه من مثوبة أو عقوبة‪.‬‬
‫واحلساب شامل ملا يقوله ا لرب هلم‪ ،‬وما يقولون له‪ ،‬وما يعتذرون به من‬
‫معاذير‪ ،‬وما يقيمه عليهم من حجج وبراهني‪ ،‬وما يكون هناك من شهادة‬
‫الشهود‪ ،‬ووزن األعمال‪ ،‬وما جرى جمرى ذلك‪.‬‬
‫‪ _4‬أنواع احلساب‪ :‬احلساب منه العسري‪ ،‬ومنه اليسري‪ ،‬ومنه حساب التقرير‬
‫والتكريم‪ ،‬ومنه حساب التوبيخ والتقريع‪ ،‬ومنه الفضل والصفح‪ ،‬ومنه املؤاخذة‬
‫واجملازاة‪ ،‬ومتولي ذلك أكرم األكرمني‪ ،‬وأرحم الرامحني‪ ،‬وأحكم احلاكمني ‪.‬‬
‫‪ _5‬عموم احلساب‪ ،‬ومن ال حساب عليهم‪ :‬احلساب عام جلميع الناس‪ ،‬إال‬
‫من استثناهم النيب " كما يف حديث السبعني ألفاً‪.‬‬
‫‪ _6‬كيفية حماسبة الكفار‪ :‬قال شيخ اإلسالم ابن تيمية × =وحياسب اهلل‬
‫اخلالئق‪ ،‬وخيلو بعبده املؤمن‪ ،‬فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك يف الكتاب والسنة‪.‬‬
‫وأما الكفار فال حياسبون حماسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنه ال حسنات هلم‪،‬‬
‫ولكن تعد أعماهلم‪ ،‬وحتصى‪ ،‬فيوقفون عليها‪ ،‬ويقررون بها‪ ،‬وخيزون بها‪. +‬‬
‫‪363‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫‪ _7‬أول من حياسب من األمم‪ :‬أول من حياسب من األمم أمة حممد "‪.‬‬


‫‪ _8‬أول ما حياسب عليه العبد‪ :‬الصالة؛ فإن صلحت صلح سائر عمله‪ ،‬وإن‬
‫فسدت فسدت سائر عمله؛ كما جاء عن النيب "(‪. )1‬‬
‫‪ _9‬أول ما يُقْضَى بني الناس‪ :‬وأما أول ما يقضي بني الناس فهو يف الدماء؛‬
‫( ‪)2‬‬
‫لقول النيب "‪= :‬أول ما يقضي بني الناس يوم القيامة يف الدماء‪ +‬متفق عليه‬
‫‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬املـيـ ــلان‬


‫‪ _1‬امليزان يف اللغة‪ :‬أصله مِوْزان‪ ،‬وانقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها‪ ،‬ومجعه‬
‫موازين‪ ،‬وامليزان اسم لآللة اليت يوزن بها األشياء‪ ،‬أو هو ما تقدر به األشياء‬
‫خفةً وثقالً ‪.‬‬
‫‪ _2‬امليزان يف الشرع‪ :‬هو ما يضعه اهلل يوم القيامة لوزن أعمال العباد ‪.‬‬
‫‪ _3‬أدلة إثبـات امليزان‪ :‬دل على املـيزان الكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬واإلمجاع‪.‬‬
‫فمن أدلة الكتاب العزيز قوله _تعاىل_‪َ [ :‬ونَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ ِليَوْمِ الْ ِقيَامَةِ‬
‫فَال ُت ْظلَمُ نَ ْفسٌ َشيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْ قَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أََتيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِنيَ]‬
‫األنبياء‪.47 :‬‬

‫‪ _1‬انظــر ســنن الرتمــذي(‪ )403‬وابــن ماجــه (‪ )0416‬صــححه األلبــاني يف صــحيح اجلــامع‬


‫(‪. )1414‬‬
‫‪ _2‬البخاري(‪ )6864‬ومسلم(‪. )0678‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪364‬‬
‫ومن أدلة السنة‪ :‬قال النيب "‪ = :‬كلمتان حبيبتان إىل الرمحن‪ ،‬خفيفتان على‬
‫اللسان ثقيلتان يف امليزان‪ :‬سبحان اهلل وحبمده‪ ،‬سبحان اهلل العظيم‪ +‬متفق‬
‫عليه(‪. )1‬‬
‫وأما اإلمجاع‪ :‬فقد أمجع السلف على ثبوت ذلك ‪.‬‬
‫‪ _4‬هل امليزان حسي أو معنوي‪ :‬امليزان الذي توزن به األعمال حسي‬
‫حقيقي‪ ،‬له كفتان‪ ،‬ولسان ‪.‬‬
‫‪ _5‬ما احلكمة من نصب امليزان ؟ احلكمة‪ :‬إظهار عدل اهلل _عز وجل_‪.‬‬

‫خامساً‪ :‬نشر كت األعمال‬


‫‪ _1‬كتب األعمال‪ :‬هي الدواوين‪ ،‬والصحائـف اليت أحصيت فيها األعمال‪.‬‬
‫‪ _2‬ومعنى نشر كتب األعمال‪ :‬إظهارها يوم القيامة‪ ،‬وتوزيعها؛ فآخذ‬
‫بيمينه‪ ،‬وآخذ بشماله وراء ظهره‪.‬‬
‫‪ _3‬األدلة على ذلك‪ :‬لقد دل على نشر كتب األعمال الكتاب‪ ،‬والسنة‪،‬‬
‫وإمجاع األمة‪.‬‬
‫قال اهلل _تعاىل_‪[:‬فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ ِبيَمِينِهِ (‪ )7‬فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً‬
‫يَسِرياً (‪ )8‬وَيَن َقلِبُ ِإلَى أَ ْهلِهِ مَسْرُوراً (‪ )9‬وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْ ِرهِ (‪)04‬‬
‫صلَى سَعِرياً(‪ ])01‬االنشقاق‪.‬‬
‫فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً (‪ )00‬وَيَ ْ‬
‫وعن عائشة _ رضي اهلل عنها _ أنها سألت النيب " هل تذكرون أهليكم؟‬

‫‪ _1‬البخاري(‪ )7563‬ومسلم(‪. )1694‬‬


‫‪365‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫قال‪=:‬أما يف ثالثة مواطن فال يذكر أحد أحداً‪:‬عند امليزان‪ ،‬حتى يَعْلم أخيِفُّ‬
‫ميزانه أم يثقل‪ ،‬وعند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه يف ميينه أم يف‬
‫مشاله أم وراء ظهره‪ ،‬وعند الصراط إذا وضع بني ظهراني جهنم حتى‬
‫جيوز‪.)1(+‬‬
‫‪ _4‬صفة أخذ الكتاب‪ :‬املؤمن يأخذ كتابه بيمينه يؤتاه من أمامه‪ ،‬فيفرح‬
‫ويستبشر ويقول‪[:‬هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَاِبيَهْ] احلاقة‪.09 :‬‬
‫والكافر يأخذه بشماله‪ ،‬ويؤتاه من وراء ظهره‪ ،‬فيدعو بالويل والثبور‪،‬‬
‫ويقول‪[ :‬يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَاِبيَهْ (‪َ )15‬ولَمْ أَدْرِ مَا حِسَاِبيَهْ (‪])16‬احلاقة‪.‬‬

‫سادساً‪ :‬احلول‬
‫‪ _1‬احلوض يف الشرع‪ :‬هو حوض املاء النازل من الكوثر يف عرصات القيامة‬
‫للنيب " ‪.‬‬
‫‪ _2‬أدلتــه‪ :‬دل على احلوض الكتاب والسنة‪ ،‬وإمجاع أهل السنة‪.‬‬
‫أما الدليل من الكتاب فقوله _ عزوجل _ لنبيه"‪[:‬إِنَّا أَ ْع َطيْنَاكَ الْكَوْثَرَ] ‪.‬‬
‫أما من السنة فقد تواترت األحاديث يف ذلك‪.‬‬
‫قال شارح الطحاوية ×‪= :‬األحاديث الواردة يف ذكر احلوض تبلغ حد‬
‫التواتر‪ ،‬رواها من الصحابة بضع وثالثون صحابياً‪. +‬‬

‫‪ _1‬أخرجه أبوداود (‪ )4755‬واحلاكم ‪،578/4‬وقال‪=:‬صحيح إسناده على شرط الشيخني لوال‬


‫إرسال فيه بني احلسن وعائشة‪ +‬ووافقه الذهيب‪.‬‬
‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪366‬‬
‫ومن األحاديث الواردة يف ذلك قوله "‪ = :‬إني فرطكم على احلوض من مرَّ‬
‫عليَّ شرب‪ ،‬ومن شرب مل يظمأ أبداً‪َ ،‬ليَرِدَنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونين ثم‬
‫حيال بيين وبينهم‪ +‬متفق عليه(‪. )1‬‬
‫‪ _3‬الواردون للحوض‪ ،‬واملردودون عنه‪ :‬الواردون للحوض هم املؤمنون‪،‬‬
‫حدِثون‪ ،‬املبدِّلون الناكصون على‬
‫الصادقون‪ ،‬املتبعون واملردودون عنه هم املُ ْ‬
‫أعقابهم‪.‬‬

‫سابعاً‪ :‬الص ــراط‬


‫‪ _1‬الصراط يف الشرع‪ :‬هو اجلسر املمدود على جهنم؛ ليعرب الناس عليه إىل‬
‫اجلنة ‪.‬‬
‫‪ _2‬أدلة ثبوته‪ :‬الصراط ثابت بالكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬واتفاق أهل السنة ‪.‬‬
‫فمن األدلة من الكتاب‪ :‬قوله _تعاىل_‪[ :‬وَإِنْ مِنْكُمْ إِالَّ وَارِدُهَا كَانَ َعلَى رَبِّكَ‬
‫ضيّاً] مريم‪.70 :‬‬
‫حَتْماً مَقْ ِ‬
‫فسرها مجاعة من السلف باملرور على الصراط‪ ،‬وفسرها مجاعة منهم‬
‫بالدخول يف النار لكن ينجون منها ‪.‬‬
‫ومن األدلة من السنة ما جاء يف الصحيحني من حديث أبي سعيد اخلدري‬
‫الطويل‪ ،‬وفيه‪ = :‬ثم يضرب اجلسر على جهنم‪ ،‬وحتل الشفاعة‪ ،‬ويقولون‪:‬‬

‫‪ _1‬البخاري(‪6583‬و‪ ،)7151‬ومسلم (‪. )2291‬‬


‫‪367‬‬ ‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬

‫اللهم سلم سلم‪. )1(+‬‬


‫‪ _3‬ورود الناس على الصراط‪ :‬ورودهم عليه يعين مرورهم عليه‪،‬‬
‫وورودهم عليه على قدر أعماهلم‪.‬‬
‫‪ _4‬من أول من يعرب الصراط ؟ أول من يعربه من األنبياء حممد "‪ ،‬ومن‬
‫األمم أمته "‪.‬‬
‫‪ _5‬هل مير الكفار بالصراط؟ الذي دلت عليه األحاديث أن الصراط إمنا‬
‫ينصب للمؤمنني‪ ،‬وفيهم املنافقون‪ ،‬وعصاة املؤمنني؛ فهؤالء هم الذين ينصب‬
‫هلم الصراط ‪.‬‬
‫قال ابن رجب ×‪ = :‬واعلم أن الناس منقسمون إىل مؤمن يعبد اهلل ال‬
‫يشرك به شيئا‪ ،‬ومشرك يعبد مع اهلل غريه؛ فأما املشركون فإنهم ال ميرون على‬
‫الصراط‪ ،‬وإمنا يَقَعون يف النار قبل وضع الصراط‪. +‬‬
‫‪ _6‬القنطـرة‪ :‬وهي اليت بني اجلنة والنار‪ ،‬ويسميها بعض العلماء الصراط‬
‫الثاني ‪.‬‬

‫ثامناً‪ :‬اجلنة والنار‬


‫‪ _1‬اجلنة يف الشرع‪ :‬هي دار النعيم اليت أعدها اهلل يف اآلخرة للمؤمنني‬
‫املتقني‪ ،‬املخلصني هلل‪ ،‬املتبعني لرسله ‪.‬‬
‫‪ _2‬النار يف الشرع‪ :‬هي دار العذاب اليت أعدها اهلل يف اآلخرة للكافرين الذين‬

‫‪ _1‬البخاري(‪4581‬و‪ )4919‬ومسلم(‪. )183‬‬


‫الرسالة العاشرة‪ :‬خالصة اإلميان باليوم اآلخر‬ ‫‪368‬‬
‫كفروا باهلل‪ ،‬وعصوا رسله ‪.‬‬
‫‪ _3‬اجلنة درجات‪ ،‬والنار دركات‪ :‬فأهل اجلنة تتفاوت درجاتهم يف النعيم‬
‫حبسب أعماهلم الصاحلة‪.‬‬
‫وأهل النار تتفاوت دركاتهم يف العذاب حبسب أعماهلم السيئة ‪.‬‬
‫‪ _4‬اجلنة والنار خملوقتان موجودتان اآلن‪ :‬قال اهلل _تعاىل_ يف اجلنة‪[ :‬أُعِدَّتْ‬
‫ِللْمُتَّقِنيَ]آل عمران‪ 033 :‬وقال يف النار‪[ :‬أُعِدَّتْ ِللْكَافِرِينَ] البقرة‪.14 :‬‬
‫واإلعداد‪ :‬التهيئة‪.‬‬
‫جزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ‬
‫‪ _5‬اجلنة والنار ال تفنيان‪ :‬قال اهلل _تعاىل_‪َ [ :‬‬
‫تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا األَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ] البينة‪.8 :‬‬
‫وقال _تعاىل_‪[ :‬وَال ِليَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (‪ )068‬إِالَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا‬
‫أَبَداً]النساء‪.‬‬
‫‪ _6‬ما معنى اإلميان باجلنة والنار؟ معناه التصديق اجلازم بوجودهما‪ ،‬وأنهما‬
‫خملوقتان اآلن‪ ،‬وأنهما باقيتان بإبقاء اهلل هلما‪ ،‬ال تفنيان أبداً وال تبيدان‪.‬‬
‫ويدخل يف ذلك اإلميان بكل ما احتوت عليه اجلنة من النعيم‪ ،‬وما احتوت‬
‫عليه النار من العذاب األليم(‪. )1‬‬

‫‪ _1‬انظر أعالم السنة املنشورة ص‪.115‬‬

You might also like