You are on page 1of 5

‫اخلطبة األوىل‪:‬‬

‫إن احلمد هلل حنمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل تعاىل من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده اهلل فال‬
‫مِض ل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل إله األولني واآلخرين‪ ،‬وأشهد أن حممًد ا عبده‬
‫ورسوله‪ ،‬صلى اهلل عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إىل يوم الدين‪.‬‬

‫أما بعد‪ :‬فاتقوا اهلل أيها املؤمنون‪ ،‬اتقوا اهلل حق التقوى‪ ،‬واشكروا اهلل تعاىل على ما من به عليكم من هذا الدين‬
‫ِض‬ ‫ِن‬ ‫ِد‬
‫وهذا الصراط املستقيم حيث قال جل يف عاله (اْلَيْوَم َأْك َم ْلُت َلُك ْم يَنُك ْم َوَأَمْتْم ُت َعَلْيُك ْم ْع َم يِت َوَر يُت َلُك ُم‬
‫اِإل ْس َالَم ِد يًنا) [املائدة‪.]3 :‬‬

‫بعث اهلل نبينا حممًد ا ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬على حني فرتة من الرسل وانطماس من السبل وجهالة من اخللق‪،‬‬
‫فلم يكن يف األرض من يعرف هلل حًّقا إال بقايا من أهل الكتاب‪.‬‬

‫فبعث اهلل هذا النور املبني‪ ،‬وهذا الرسول الكرمي يف قوٍم مل يسبق هلم عهد برسالة‪ ،‬يف قوٍم ورثوا بعض ما كان عليه‬
‫خليل اهلل إبراهيم من تعظيم البيت احلرام‪ ،‬وإجالل هذه البقعة‪ ،‬وليس عندهم من معرفة اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬وعبادته‬
‫شيء ُيذَك ر‪ ،‬بل كانوا على جاهلية جهالء‪ ،‬كانوا على عماء عظيم كسائر بقاع األرض‪ ،‬إال أن اهلل اصطفى هذه‬
‫البقعة فجاءها هذا النور العظيم‪ ،‬هذا املكان الذي ُعِبد فيه اهلل أوًال؛ مكة البلد احلرام أول بيت ُوضع للناس‪ ،‬منه‬
‫انبثقت آخر رسالة للناس‪ ،‬وآخر رسول بعثه اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬للناس شاء أن يكون من هذه البقعة املباركة لريبط أول‬
‫الزمان بآخره (ِإَّن َأَّو َل َبْيٍت ُوِض َع ِللَّناِس َلَّلِذي ِبَبَّك َة ُمَباَرًك ا َوُه ًد ى ِّلْلَعاَلِم َني ) [آل عمران‪.]96:‬‬

‫فيهم ُبِعث حممد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فجاء النور من هذه البقعة املباركة‪ ،‬خرج رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬دعا قومه إىل أكمل دعوة‪ ،‬وإىل أمت كلمة إىل "ال إله إال اهلل"‪ ،‬دعاهم إىل أن يعبدوا اهلل وحده ال شريك‬
‫له‪ ،‬مل يكثر عليهم طلًبا ومل يكثر عليهم فروًض ا‪ ،‬بل دعاهم إىل عبادة اهلل وحده‪ ،‬إىل أن حيرروا قلوهبم من التعلق‬
‫بغري اهلل‪ ،‬فعُظم ذلك على كثري منهم فقالوا (َأَجَعَل اآْل َهِلَة ِإًهَلا َواِح ًد ا ِإَّن َه َذ ا َلَش ْي ٌء ُعَج اٌب ) [ص‪ ،]5:‬فكذبوه ‪-‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وعاندوه وضَّيقوا عليه وسُّبوه مبا سُّبوه من الكذب واجلنون والسحر‪ ،‬وقد كان محيد السرية‬
‫فيهم ال يعرفون عنه إال احلق واهلدى واخلري والرب‪ ،‬فسريته كانت أعظم شاهد على صدق ما جاء به‪.‬‬

‫كيف ال وسريته طيبة قبل البعثة‪ ،‬فكملها اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬بالرسالة والنور املبني واهلدى القومي الذي جاء به جربيل‬
‫عليه السالم‪.‬‬

‫جاء رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬هلؤالء مبا جاء به فكذبوه أعظم تكذيب‪ ،‬فضاق على النيب ‪-‬صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ -‬األمر يف مكة‪ ،‬فطلب مكاًنا يبِّلغ فيه دين ربه‪ ،‬ويدعو الناس إىل هداية اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬ليخرجهم‬
‫من الظلمات إىل النور‪ ،‬فما كان إال أن أذن اهلل له باهلجرة بعد أن عزم الكفار على قتله كما قال جل يف عاله‪:‬‬
‫(َو ِإْذ ْمَيُك ُر ِبَك اَّلِذ يَن َك َف ُروْا ِلُيْثِبُتوَك َأْو َيْق ُتُلوَك َأْو ْخُيِرُج وَك َوْمَيُك ُروَن َوْمَيُك ُر الّلُه َوالّلُه َخ ْيُر اْلَم اِكِريَن ) [األنفال‪:‬‬
‫‪.]30‬‬

‫خرج رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وقد اختار لصحبته صِّديق هذه األمة‪ ،‬وأفضلها بعد نبيها أبا بكر‬
‫الصديق ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،-‬فلحق رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وأبو بكر بأول خروجهم بغار يف جبل ثور‪،‬‬
‫فكان فيه ثالثة أيام‪ ،‬وعرف املشركون مكان الغار‪ ،‬إال أن اهلل أعماهم‪.‬‬

‫ملا سكن الطلب عنهم خرج ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬موقًنا بنصر اهلل‪ ،‬وتأييده فتبعه من تبعه من املشركني يطلبونه‬
‫رغبًة يف حتصيل اجلائزة اليت وضعتها قريش ملن جاء بالنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وكان ممن تِبع النَّيب ‪-‬صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ -‬سراقُة بن مالك؛ تِبع النَّيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ليظَف ر بتلك اجلائزة‪ ،‬فخرج حنوه حىت كاد أن‬
‫يدركه فلما اقرتب من رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬عثرت به فرسه‪ ،‬فخَّر عنها‪ ،‬مث قام فامتطاها‪ ،‬فتبع النيب‬
‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬فلما قرب منه خَّر ثانية‪ ،‬وحصل ما حصل يف املرة السابقة‪ ،‬حىت إنه اقرتب يف املرة‬
‫الثالثة فسمع قراءة النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪.-‬‬

‫سراقة الذي خرج يَّتِبع النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬اقرتب منه إىل درجة أنه ِمس ع قراءة النيب ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬وهو ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ال يلتفت إليه‪ ،‬وأبو بكر ُيكِثر االلتفاف خائًف ا من إدراكه‪.‬‬

‫يقول سراقة‪" :‬فلما قربت منهم ساخت يد فرسي يف األرض"‪ ،‬أي غاصت يد فرسه الذي عليه يف األرض حىت‬
‫بلغت الركبتني‪َ ،‬فَخ َرْرُت عنها‪ ،‬مث زجرهتا فنهضْت فلم تكد خترج يديها‪ ،‬فلما استوت قائمة إذا ألثر يديها ُعَثاٌن‬
‫َس اِط ع يف السماء مثل الدخان‪ ،‬فاستقسمت باألزالم فخرج الذي أكره‪ ،‬فناديتهم باألمان‪ ،‬فوقفوا فركبت فرسي‬
‫حىت جئتهم‪ ،‬ووقع يف نفسي حني لقيت ما لقيت من احلبس عنهم‪ ،‬أن سيظهر أمر رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬فقلت له‪ :‬إَّن قومك قد جعلوا فيك الدية‪ ،‬وأخربهتم أخبار ما يريد الناس هبم‪ ،‬وعرضت عليهم الزاد واملتاع‬
‫فلم َيْرَزآيِن ‪ ،‬ومل يسأالين‪ ،‬إال أن قال‪ :‬أْخ ِف عنا‪ ،‬يعين رد عنا َم ن يتبعنا من هذه اجلهة‪ ،‬فجعلت ال ألقي أحًد ا يف‬
‫الطلب إال رَددته وقلت له‪ :‬كفيتكم هذا الوجه‪.‬‬

‫فسبحان اهلل! خرج سراقة أول النهار ليدرك ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وصاحبه‪ ،‬وأمسى آخر النهار حارًس ا هلما‬
‫راًّد ا للناس عنهما‪ ،‬وقد أعرب سراقة عن سبب ذلك يف أبيات فقال خياطب أبا جهل‪:‬‬

‫أبا حكم واهلل لو كنَت شاهدًا *** ألمر جوادي إذ تسوخ قوائمه‬

‫علمت ومل َتْش ُك ك بأّن حممدًا *** رسول وبرهان فمن ذا يقاومه؟!‬
‫عليك فُكَّف القوم عنه فإنين *** أرى أمره يومًا ستبدو معامله‬

‫صدق رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فإن اهلل منجز وعده‪ِ( :‬إَّال َتنُصُروُه َفَقْد َنَص َرُه الّلُه ِإْذ َأْخ َرَجُه اَّلِذ يَن َك َف ُروْا‬
‫َثاَيِن اْثَنِنْي ِإْذ َمُها يِف اْلَغاِر ِإْذ َيُقوُل ِلَص اِح ِبِه َال ْحَتَزْن ِإَّن الّلَه َمَعَنا) [التوبة‪ ،]40:‬صدق اهلل فصدقه‪.‬‬

‫شاع خرب خروج رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬من مكة يف جوانب الصحراء‪ ،‬فعلم به البدو واحلضر‪ ،‬وكان‬
‫ممن ترامت إليهم األخبار وطرقتهم أنباء خروج سيد ولد آدم ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬كان من أولئك أهل املدينة‪،‬‬
‫فكانوا خيرجون يرقبون وصول رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ويتشوفون إىل مقدمه الكرمي ومطلعه البهيج كل‬
‫صباح ميدون أبصارهم وقلوهبم إىل حيث تنقطع األنظار يرقبون جميء خري األنام ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬فإذا‬
‫اشتد هبم احلر عادوا إىل بيوهتم‪.‬‬

‫ويف اليوم الثاين عشر من شهر ربيع األول عام ‪ 13‬من البعثة النبوية خرج املهاجرون واألنصار خرجوا على عادهتم‬
‫يرقبون رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فلما محيت الشمس رجعوا كعادهتم‪ ،‬فما لبسوا إال أن مسعوا هاتًف ا‬
‫يصيح ويصرخ بأعلى صوته‪ :‬يا بين قيلة‪ ،‬وهو اسم لألنصار‪ ،‬هذا صاحبكم قد جاء‪ ،‬هذا جدكم الذي تنتظرون‪،‬‬
‫أي هذا حظكم ونصيبكم الذي تنتظرون‪ ،‬فارجتت املدينة تكبًريا‪ ،‬ولبست طيبة حلة البهجة والسرور‪ ،‬وخرج أهلها‬
‫يستقبلون رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬خرجوا رجاًال ونساء صغاًرا وكباًرا‪ ،‬خرجوا للقائه ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬فتلَّق ْوه وحَّيوه بتحية النبوة‪ ،‬أحاطوا به من كل جانب‪ ،‬والسكينة تغشاه والوحي يتنزل عليه ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬فإن اهلل هو مواله وجربيل وصاحل املؤمنني واملالئكة بعد ذلك ظاهرين‪.‬‬

‫بىَن ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أول ما قدم املدينة مسجد قباء وهو أول مسجد ُعِّم ر يف اإلسالم بعد البعثة‪ ،‬بناه يف‬
‫بين عامر‪ ،‬وهذا أول مسجد ُأِّس س على التقوى‪ ،‬مث نزل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف بين النجار عند أخواله‪ ،‬وبىن‬
‫مسجده الذي بقي فيه حىت مات ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬آخى بني املهاجرين واألنصار‪ ،‬كانت هجرته من‬
‫معامل صدق نبوته ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬فصارت املدينة عاصمة أهل اإلسالم ودار اهلجرة‪ ،‬ومأرز أهل اإلميان‪،‬‬
‫فاحلمد هلل محًد ا كثًريا طيًبا مبارًك ا فيه كما حيب ربنا ويرضى‪.‬‬

‫أقول هذا القول وأستغفر اهلل العظيم يل ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم‪.‬‬

‫اخلطبة الثانية‪:‬‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬أمحده حق محده ال أحصي ثناًء عليه‪ ،‬هو كما أثىن على نفسه‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل‬
‫إله األولني واآلخرين‪ ،‬وأشهد أن حممًد ا عبداهلل ورسوله بَّلغ البالغ املبني صلى اهلل عليه وعلى صحبه ومن اتبع‬
‫سنته بإحسان إىل يوم الدين‪.‬‬

‫أما بعد‪ :‬فاتقوا اهلل أيها املؤمنون‪ ،‬والزموا أمره فإن تقواه سبب السعادة والنجاة (َيا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوْا اَّتُق وْا الّلَه َح َّق‬
‫ُتَق اِتِه َوَال ُمَتوُتَّن ِإَّال َوَأنُتم ُّم ْس ِلُم وَن ) [آل عمران‪.]102:‬‬

‫عباد اهلل‪ :‬استمتعتم إىل طرف من نبأ هجرة النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬اليت كانت يف هذا الشهر عام ‪ 13‬من‬
‫بعثته ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪.-‬‬

‫فاتقوا اهلل أيها املؤمنون‪ ،‬وتدبروا ما يف هذه اهلجرة وهذا النبأ العظيم من العرب والعظات؛ فإن اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬أجنى‬
‫رسوله من مكر أعدائه‪ ،‬وأذن بظهور هذا الدين هبذه اهلجرة‪ ،‬ونصره نصًرا عزيًزا ومَّك َنه متكيًنا كبًريا‪ ،‬فكانت هجرته‬
‫مفرًقا عظيًم ا‪ ،‬ونقطة حتول يف دعوة رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪.-‬‬

‫وهبذا ُيعَلم أن اهلل غاِلب على أمره‪ ،‬ولكّن أكثر الناس ال يعلمون‪ ،‬فمهما بلغ كيد الكفار والفجار إلمخاد هذا‬
‫ِإ‬
‫الدين ومنع ظهور أنواره؛ فإن اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬قد أذن بظهوره‪ ،‬ويأىب اهلل إال أن يتم نوره ولو كره الكافرين (َو ْذ ْمَيُك ُر‬
‫ِبَك اَّلِذ يَن َك َف ُروْا ِلُيْثِبُتوَك َأْو َيْق ُتُلوَك َأْو ْخُيِرُج وَك َوْمَيُك ُروَن َوْمَيُك ُر الّلُه َوالّلُه َخ ْيُر اْلَم اِكِريَن ) [األنفال‪.]30:‬‬

‫إن أعداء اهلل مهما بلغوا من القوة يف املكر‪ ،‬والشدة يف الكيد‪ ،‬والرصانة يف التخطيط إلطفاء نور اهلل ‪-‬تعاىل‪-‬‬
‫وأذى عباده إال أن اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬جيري أمره على ما شاء‪ ،‬فما شاء كان وما مل يشأ مل يكن (َك َتَب الَّلُه َأَلْغ ِلَّنَب َأَنا‬
‫َوُرُس ِلي ِإَّن الَّلَه َقِوٌّي َعِزيٌز ) [اجملادلة‪.]21:‬‬

‫أيها املؤمنون‪ :‬هذا الشهر شهر ربيع األول‪ ،‬كان حمل ألحداث كبار غرَّي ت وجه التاريخ‪ ،‬ففيه ُولد رسول اهلل ‪-‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬على قول كثري من أهل العلم‪ ،‬ووصل املدينة مهاجًرا يف هذا الشهر‪ ،‬وفيه تويف ‪-‬صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ -‬وانقَطع الوحُي من السماء‪ ،‬وقد مَض ى الَّس لف الصاحل الذين هم بالكتاب عاِلمون‪ ،‬وبالسنة‬
‫مستمسكون على عدم إحداث شيء يف هذا الشهر من األعياد واملناسبات اليت جيتمع الناس فيها ِلْذكر سريته ‪-‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مل حيدثوا شيًئا من ذلك‪ ،‬فال أعياد وال مناسبات وال موالد وال أفراح‪ ،‬بل هو كسائر‬
‫الشهور‪ ،‬كما أهنم مل حُي ِد ثوا شيًئا لوفاته‪ ،‬فال مآمت وال أحزان وال بكاء وال عويل ملوته ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫وانقطاع الوحي من السماء‪.‬‬

‫بل مضْو ا ‪-‬رمحهم اهلل‪ -‬على عد هذا الشهر كغريه من الشهور‪ ،‬فلما ضُعفت العلوم يف الناس‪ ،‬وانتشر فيهم‬
‫اجلهل‪ ،‬وخفي فيهم نور النبوة حَد ث ما حدث يف القرن الرابع من اهلجرة؛ حيث أحدث العبيديون االحتفال‬
‫مبولد النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬فشاعت هذه البدعة بعد أن زالت دولة العبيديني‪ ،‬شاعت يف املسلمني إىل‬
‫يومنا هذا‪ ،‬وفيه حيتفل كثري من املسلمني مبولد النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وهم يف هذا على درجات بني بدعة‬
‫وبني شرك‪ ،‬فالذين حيدثون موًمسا يبتهجون فيه‪ ،‬ويوزعون فيه احللوى‪ ،‬ويقيمون فيه األطعمة؛ هؤالء وقعوا يف‬
‫بدعة‪.‬‬

‫وأما أولئك الذين ينشدون القصائد الشركية الكفرية اليت يعظمون فيها النّيب مبا ال يليق إال باهلل‪ ،‬وال يكون إال له‪،‬‬
‫فهؤالء قد وقَعوا يف الشرك‪.‬‬

‫وبني هذا وذاك من أنواع االحنراف من الغناء والسفور‪ ،‬ورقص الرجال والنساء يف بعض املوالد ما يعرفه العارفون‬
‫هبذه البدع‪ ،‬ال أقول كل املوالد على هذا النحو‪ ،‬بل منها ما فيه هذه الصورة‪ ،‬يفعلونه تقرًبا إىل اهلل‪ ،‬وظًّنا أنه‬
‫تعظيم للنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬خيالفون أمره‪ ،‬ويَّد ُعون حمّبته‪ ،‬وهذا كذب وزور‪.‬‬

‫فخري األمور الّس الفات على اهلدى *** وشّر األمور احملدثات البدائع‬

‫اللهم أهلنا رشدنا وقنا شر أنفسنا‪ ..‬وارزقنا االستمساك بسنة نبيك صلى اهلل عليه وسلم‬

You might also like