Professional Documents
Culture Documents
1
املقدمة
احلمد هلل على إحسانه ،والشكر له على توفيقه وامتنانه ،وأشهد أن ال إله إال هللا وحده
ال شريك له تعظيما لشأنه ،وأشهد أن حممدا عبده ورسوله الداعي إىل رضوانه ،اللهم صلى عليه
املخلوق إىل عبادة اخلالق وحده كما قال تعاىل [لََق ْد بَ َعثْ نَا ِيف ُك ِل أُهم ٍة َر ُس ًوال أ َِن ْاعبُ ُدوا ه
اَّللَ
و ِ
٣٦و هذ معروف عندان لكن هذ امللخص سنبحث ضد التوحيد آال النساء اجتَنبُوا الطهاغُ َ
وت ۖ ] َ ْ
وهو الشرك و أنواعه كي نعرف و جنتنب عنه من كتاب التمهيد لشرح كتاب التوحيد للشيخ
كاتبان امللخص
2
ابب من الشرك لبس احللقة واخليط وحنومها لرفع البالء أو دفعه
هذا ابب شرع به الشيخ -رمحه هللا -يف بيان التوحيد ببيان ضده .ومن املعلوم أن الشيء يُعرف
وما يضاد التوحيد منه ما يضاد أصله ،وهو الشرك األكرب الذي إذا أتى به املكلف فإنه ينقض
توحيده ويكون مشركاً شركاً أكرب خمرجاً من امللة ،فمثل هذا يُقال فيه :أنه قد أيت مبا ينايف التوحيد ،أو ينايف
أصل التوحيد .والثاين :ما ينايف كمال التوحيد الواجب ،وهو ما كان حاصال من جهة الشرك األصغر ،فإنه
ينايف كماله الواجب ،فإذا أتى بشيء منه ،فقد انيف بذلك كمال التوحيد ؛ ألن كمال التوحيد إمنا يكون
ابلتخلص من أنواع الشرك مجيعاً ،وكذلك الرايء فإنه من أفراد الشرك األصغر -أعين :يسري الرايء ،وهو ينا
يف كمال التوحيد ،ومنها أشياء يقول العلماء عنها :إهنا نوع شرك ،فيعربون عن بعض املسائل من الشركيات
أبهنا نوع شرك ،أو :نوع تشريك ،فصارت ألفاظهم -عندان يف هذا الباب أربعة
3
الرابع :قوهلم يف بعض املسائل فيها نوع شرك ،أو نوع تشريك ،وذلك مثل ما سيأيت يف قوله -جل
اَّللِ ُثُه يُنكروهنا ) (النحل ،)۱۸۳ :ويف حنو قوله :أيُ ْش ِرُكو َن َما َال ََيْلُ ُق َشْيئًا َوُه ْم
ت ه ِ
وعال ( : -يَ ْع ِرفُو َن ن ْع َم َ
) َُيلَ ُقو َن } (األعراف۱۹۱ :
قوله ( :ابب من الشرك لبس احللقة واخليط وحنومها ) :املقصود بقوله( :وحنومها) ما يكون حنو
احللقة واخليط مثل اخلرز والتمائم واحلديد ،وحنو ذلك مما قد يلبس ،ومثله أيضاً -ما يعلق يف البيوت ،أو يف
السيارات ،أو يعلق على الصغار ،وحنو ذلك ،مما فيه لبس ،أو تعليق ،فكل ذلك يدخل يف هذا الباب ،وأنه
من الشرك .و احللقة :إما أن تكون من صفر يعين :من حناس ،وإما أن تكون من حديد ،أو تكون من أي
معدن واخليط معروف ،واملراد عقده يف اليد على وجه االعتقاد ،وليس املراد خيطا بعينه والتوحيد يتميز
(لرفع البالء أو دفعه)؛ ألن احلالتني موجوداتن فمنهم من يعلق احللق ،واخليوط ،وحنومها قبل وقوع
البالء لدفعه ،وال شك أن هذا أعظم املاً وذنباً من الذي يعلق هذه األشياء لرفع البالء بعد حصوله ؛ ألنه
يف بده حلقة من صفر فقال« :ما هذه ؟ قال من الواهنة ،فقال« :الزعها فإهنا ال تزيدك إال وهنا ،فإنك لو
مت وهي عليك ،ما أفلحت ابداً مناسبة احلديث للباب ظاهرة ،وهي أنه عليه الصالة والسالم رأى رجالً يف
يده حلقة من صفر -وكان أهل اجلاهلية يعلقوهنا رجاء النفع أو دفع الضر -فقال عليه الصالة والسالم « :
ما هذه ؟ » ،فإن قيل :فما نوع االستفهام يف هذا احلديث؟ اجلواب أن من أهل العلم من قال :إنه
استفهام إنكار .ولكن املسؤول مل يفهم أنه إنكار ،بل فهم أنه استفصال ،فلذلك أجاب ؛ فقال :من
4
الواهنة .وقال آخرون من أهل العلم :إنه حيتمل أن يكون استفهام استفصال أو استفهام إنكار ؛ وهلذا
أجاب املسؤول بقوله :من الواهنة واألظهر األول ،يعين :أنه يفيد اإلنكار الشديد ،وإمنا كان هو األظهر من
حيث داللة السياق عليه ؛ وليس يف السياق ما يدل على أنه كان يقصد بسؤاله االستفصال عن السبب
» .الذي من أجله لبس الرجل حلقة الصفر ،كأن يكون قد لبسها للتحلي ،أو ألي أمر آخر
يف الباب السابق قال اإلمام -رمحه هللا :ابب من الشرك لبس احللقة واخليط وقال هنا :ابب ما
جاء يف الرقى والتمائم ومل يقل :ابب من الشرك الرقى والتمائم ،وذلك ألن الرقى منها ما هو جائز مشروع،
ومنها ما هو شرك ممنوع ،والتمائم منها ما هو متفق عليه أنه شرك ،ومنها ما قد اختلف الصحابة فيه هل هو
من الشرك أو ال ؟ ؛ هلذا عرب -رمحه هللا -بقوله« :ابب ما جاء يف الرقى والتمائم» وهذا من أدب
التصنيف العايل .والرقى مجع رقية وهي معروفة ،وقد كانت العرب تستعملها ،وحقيقتها :أهنا أدعية وألفاظ
تقال أو تتلىُ ،ث يُنفث فيها ،ومنها ما له أثر عضوي يف البدن ،ومنها ما له أثر يف األرواح ،ومنها ما هو
ومنها ما هو شرك ممنوع .وثبت أنه -عليه الصالة والسالم -رقى نفسه ،ورقى غريه ،بل ثبت أنه
رقي -أيضاً -رقاه جربيل ،ورقته عائشة ،فهذا الباب -ابب ما جاء يف الرقى والتمائم -معقود لبيان
حكم الرقى ،وقد رخص الشارع يف الرقى ما مل تكن شركاً ،وهي الرقى اليت خلت من الشرك .وقد سأل
بعض الصحابة النيب عليه الصالة والسالم عن حكم الرقى فقال :اعرضوا علي رقاكم ،ال أبس ابلرقى ما مل
:يكن فيه شرك» وقد قال العلماء :الرقية جتوز بثالثة شروط جممع عليها
5
.األول :أن تكون ابلقرآن ،أو أبمساء هللا ،أو بصفاته
.الثاين :أن تكون ابلكالم العريب ،أي بلسان عريب ،معلوم املعىن
الثالث :أن ال يعتقد أهنا تنفع بنفسها ،بل بتقدير هللا -عز وجل ، -قال بعض العلماء :يدخل يف
الشرط األول أيضا أن تكون مبا ثبت يف السنة ،وعلى هذا فيكون الشرط األول :أن تكون من القرآن ،أو
السنة ،أو أبمساء هللا وبصفاته ،فال تكون الرقى جائزة إال ابجتماع هذه الشروط الثالثة .فإذا ختلف الشرط
األول أو الثاين :ففي جواز الرقية خالف بني أهل العلم ،والشرط الثالث متفق عليه بينهم ،وأما اشرتاط كوهنا
أبمساء هللا وصفاته أو ابلكتاب والسنة ،أو أن تكون بلسان عريب مفهوم ،فإن هذا خمتلف فيه كما تقدم،
وقال بعضهم :يسوع أن تكون الرقية مبا يعلم معناه ويصح املعىن بلغة أخرى ،وال يشرتط أن تكون ابلعربية،
وال يشرتط أن تكون من القرآن أو السنة .وهذه مسائل فيها خالف وحبث .وأما من جهة أتثري غري القرآن
على املرقي وما سبق من اخلالف فاملقصود أن الرقى اجلائزة ابإلمجاع هي ما اجتمعت فيها الشروط الثالثة،
وأما الرقى الشركية احملرمة فهي اليت فيها استعاذة ،أو استغاثة بغري هللا ،أو كان فيها شيء من أمساء
الشياطني ،أو اعتقد املرقي فيها أهنا تؤثر بنفسها وهي اليت قال عليه الصالة والسالم فيها « :إن الرقى
والتمائم والتولة شرك» .فاحلاصل من ذلك :أن الرقى منها ما هو جائز مشروع ،ومنها ما هو شركي ممنوع،
وقد علمت ضابط الرقى اجلائزة املشروعة ،واحملرمة الشركية املمنوعة .والتمائم :مجع متيمة -وقد ذكر تفسريها
خمتصراً من قبل -وهي جتمع أنواعاً كثرية ،فالتمائم جتمع كل ما يُعلق ،أو يتخذ مما يراد منه تتميم أمر اخلري
-للعبد ،أو دفع الضرر عنه ويعتقد فيه أنه سبب .ومل جيعل هللا -جل وعال
6
ذلك الشيء سبباً ال شرعاً وال قدراً .فالتميمة -إذا شيء يتخذ من جلد أو ورق ويكون فيه أذكار
وأدعية وتعوذات تعلق على الصدر ،أو يف العضد ،وقد تُتخذ التميمة من خرزات وحبال وحنو ذلك ،يعلق
على الصدر ،وقد تكون التميمة ابختاذ شيء ُجيعل جلى ابب البيت ،أو يف السيارة ،أو أي مكان ما،
فاحلاصل أن التمائم جيمعها أهنا شيء يراد منه تتميم أمر اخلري ،وتتميم أمر دفع الضر وذلك الشيء مل يؤذن
ابب من تربك بشجر او حجر وحنومها يعين :ما حكم هذا الفعل ؟ اجلواب :هو مشرك ،يعين :
ابب من تربك بشجر أو حجر وحنومها فهو مشرك .وقوله « :من تربك » :التربك تفعل من الربكة ،وهو طلب
الربكة .والربكة مأخوذة -من حيث االشتقاق -من مادة (بروك) ،أو من كلمة (بركة) ،أما اشتقاقها من
الربوك :فربوك البعري يدل على مالزمته وثبوته يف ذلك املكان ،وأما اشتقاقها من الربكة فالربكة هي :جمتمع
املاء ،وهي تدل على كثرة املاء يف هذا املوضع ،وعلى لزومه له ،وعلى ثباته فيه .فيكون معىن الربكة -إذاً -
-كثرة الشيء الذي فيه اخلري ،وثباته ،ولزومه فالتربك هو طلب اخلري الكثري ،وطلب ثباته ،وطلب لزومه،
فتربك ،يعين :طلب الربكة .والنصوص يف القرآن والسنة دلت على أن الربكة من هللا جل وعال وأن هللا جل
وعال -هو الذي يبارك ،وأنه ال أحد من اخللق يبارك أحداً ،قال سبحانه و تَبَ َارَك اله ِذى نَهزَل الْ ُف ْرقَا َن َعلَى
َعْب ِدهِ ﴾ [الفرقان )١ :يعين َ :عظُم خري من نزل الفرقان على عبده ،وكثر ،ودام ،وثبت .وقال ( :تََربَ َك
ك ) امللك )١ :وقال سبحانهَ ﴿ :وتَ َرْكنَا َعلَْي ِه َو َعلَى إِ ْس َح َق ) [الصافات )١١٣ :وقال ( : ِ ِِ
الهذي بِيَده الْ ُم ْل ُ
َو َج َعلَِين ُمبَ َارًكا ) [مرمي ]٣١ :فالذي يبارك هو هللا -جل وعال ، -فال جيوز للمخلوق أن يقول :ابركت
على الشيء ،أو أابرك فعلكم ؛ ألن الربكة وكثرة اخلري ولزومه وثباته ،إمنا ذلك من الذي بيده األمر وهو هللا
عز وجل
7
وقد دلت النصوص يف الكتاب والسنة على أن األشياء اليت أحل هللا -جل وعال -الربكة فيها قد
تكون أمكنة أو أزمنة ؛ وقد تكون خملوقات آدمية فهذان قسمان :القسم األول :أن هللا -تعاىل -ابرك
بعض األماكن كبيت هللا احلرام وحول بيت املقدس ،كما قال سبحانه ﴿ :اله ِذي بََرْكنَا َح ْولَهُ ) اإلسراء،)۱ :
ومعىن كون األرض مباركة :أن يكون فيها اخلري الكثري الالزم الدائم هلا ؛ ليكون ذلك أشجع يف أن يالزمها
أهلها الذين دعوا إليها ،وهذا ال يعين أبداً -أن يتمسح أبرضها ،أو أن يتمسح حبيطاهنا ،ألن بركتها الزمة
ال تنتقل ابلذات .فربكة األماكن ،أو بركة األرض ،وحنو ذلك ،بركة الزمة ال تنتقل ابلذات ،يعين أنك إذا ال
مست األرض ،أو دفنت فيها ،أو تربكت هبا ،فإن بركتها ال تنتقل إليك ابلذات ،وإمنا بركتها من جهة املعىن
فقط كذلك بيت هللا احلرام هو مبارك ال من جهة ذاته ،يعين :ليس كما يعتقد البعض أن من متسح به
انتقلت إليه الربكة ،وإمنا هو مبارك من جهة املعىن يعين :اجتمعت فيه الربكة اليت جعلها هللا يف هذه البنية،
من جهة تعلق القلوب هبا ،وكثرة اخلري الذي يكون ملن أرادها ،وأانها وطاف هبا ،وتعيد عندها ،وكذلك
احلجر األسود ،هو حجر مبارك ،ولكن بركته ألجل العبادة ،يعين ،أن من استلمه تعبداً مطعياً للنيب يف
استالمه له ،ويف تقبيله فإنه يناله به بركة االتباع وقد قال عمر ملا قبل احلجر« :إين ألعلم أنك حجر ال تنفع،
وال تضر ) فقوله :ال تنفع وال تضر ،يعين :ال جيلب ملن قبله شيئا من النفع ،وال يدفع عن أحد شيئاً من
الضر ،وإمنا احلامل على التقبيل جمرد االنساء ،تعبدا هللا ،ولذلك قال .. « :ولوال أين رأيت رسول هللا يقبلك
ما قبلتك » فهذا معىن الربكة اليت جعلت يف األمكنة .وأما معىن كون الزمان مباركاً -مثل شهر رمضان ،أو
بعض أايم هللا الفاضلة فيعين :أن من تعبد فيها ،ورام اخلري فيها ،فإنه ينال من كثرة الثواب ما ال يناله يف
غريها من األزمنة .والقسم الثاين :الربكة املنوطة ببين آدم وهي الربكة اليت جعلها هللا -جل وعال يف املؤمنني
من الناس ،وعلى رأسهم سادة املؤمنني :من األنبياء والرسل ،فهؤالء بركتهم بركة ذاتية ،يعين أن أجسامهم
8
مباركة ،فاهلل -جل وعال -هو الذي جعل جسد آدم مباركاً ،وجعل جسد إبراهيم عليه السالم مباركاً،
وجعل جسد نوح مباركاً ،وهكذا جسد عيسى ،وموسى عليهم مجيعاً الصالة والسالم جعل أجسادهم مجيعاً
-مباركة مبعىن :أنه لو تربك أحد من أقوامهم أبجسادهم إما ابلتمسح هبا ،أو أبخذ عرقها ،أو ابلتربك
ببعض أشعارهم ،فهذا جائز ؛ ألن هللا جعل أجسادهم مباركة بركة متعدية وهكذا نبينا حممد بن عبد هللا هللا
ابب ما جاء يف الذبح لغري هللا من الوعيد وأنه شرك ابهلل جل وعال
قول الشيخ -رمحه هللا « -ابب ما جاء يف الذبح لغري هللا » .الذبح معروف ،وهو :إراقة الدم .
وقوله « :لغري هللا » يعين :متقرابً به إىل غري هللا ،أي :ذبح ألجل غري هللا ،والذبح فيه شيئان مهمان ومها
األول :الذبح ابسم هللا ،أو الذبح ابإلهالل ابسم ما .الثاين :أن يذبح متقرابً ملا يريد أن يتقرب
إليه ،فإذاًُ :ث التسمية ،وُث القصد ،ومها شيئان أما التسمية فظاهر :أن ما ذكر عليه اسم هللا فإنه جائز كما
اَّللِ َعلَْي ِه إِن ُكنتُم بِ َشايَتِ ِه مؤمنني ) [األنعام ]١١٨ :وأن ما مل يذكر اسم هللا
اس ُم ه ِ ِ
قال تعاىل ﴿ :فَ ُكلُوا ممها ذُكَر ْ
عليه ،فهذا الذي أهل لغري هللا ،يعين :ذكر غري اسم هللا عليه ،فهذا ِممها أهل لغري هللا به كما يف قوله تعاىل:
يقال اإلمام -رمحه هللا « : -ابب ال يذبح هللا مبكان يذبح فيه لغري هللا ...قوله « ال يذبح هللا »
هذا على جهة النفي املشتمل على النهي ؛ ألن من أساليب اللغة العربية أنه يُعدل عن التصريح ابلنهي إىل
التصريح ابلنفي ؛ ليدل داللة أبلغ على أن النفي والنهي معاً مقصودان ،فكأنه ال يصح أن يقع أصالً ؛ وهلذا
9
أتى بصيغة النفي فقال « :ابب ال يذبح هللا » .وقال بعض أهل العلم ُحيتمل أن تكون ( ال ) للنهي،
فيكون الفعل املضارع بعدها جمزوماً ،أي« :ابب :ال يذبح هللا مبكان يذبح فيه لغري هللا » .وقوله« :هللا »
.يعين أن تكون النسبكة ،أو أن تكون الذبيحة مراداً هبا وجه هللا -جل وعال
ميكان يذبح فيه لغري هللا » و (الباء) هنا هلا معىن زائد على كلمة (يف) وهذا املعىن الزائد أهنا أفهمت
معىن الظرفية ومعىن اجملاورة مجيعاً ؛ ألن (الباء) تكون للمجاورة أيضاً كما تقول :مررت يزيد ،يعين ،ميكان
قريب من مكان زيد أو مبكان جماور ملكان زيد والظرفية ب (يف) تفيد أنه يف املكاننفسه ،فاستعمال حرف
الباء) يفيد أنه جماور لذلك املكان .وهذان املعنيان معاً مقصودان ،وهو أنه ال يُذبح هللا مبجاورة املكان الذي
يُذبح فيه لغري هللا ،وال يف نفس املكان الذي يذبح فيه لغري هللا ؛ ألهنما هبذا يشرتكان مع الذين يذحبون لغري
هللا جل وعال.
قوله « :ابب من الشرك النذر لغري هللا تعاىل» (من) ها هنا تبعيضية .قوله « :من الشرك النذر » :
النذر مبتدأ مؤخر ،واخلرب قبله ،وأصل اجلملة النذر لغري هللا كائن من الشرك .والشرك هنا :املقصود به الشرك
.األكرب
وال شك أ هن النذر لغريا هللا شرك أكرب ابهلل جل وعال ، -ووجه كونه شركا ابهلل -جل وعال -أن
.النذر هو :إلزام املكلف نفسه بعبادة هللا -جل وعال -إما مطلقا ،وإما بقيد ،فهذه حقيقة النذر
ومما يدل -أيضاً -على أ أن النذر عبادة :أن هللا -جل وعالَ -م َد َح الذين يوفون ابلنذر فقال( :
يُوفُو َن ِابلنهذر َوََيَافُو َن يَ ْوًما َكا َن َشُّرهُ ُم ْستَ ِط ًريا ) اإلنسان ،ومدحه هلم يدل على أن الوفاء ابلنذر أمر حمبوب
10
هللا عز وجل ،وال يكون حمبواب إال وهو مشروع ،وذلك يقتضي أن ه عب ادة م ن العبادات ،بل إن الوفاء ابلنذر
.واجب ؛ ألنه الزام بطاعة ،وقد قال :من نذر أن يطيع هللا فليطعه
ومما يدل -أيضاً - -على كون النذر عبادة قولهَ ﴿ :وَما أَن َف ْقتُم ِمن نه َف َق ٍة أ َْو نَ َذ ْرُُت ِمن نه ْد ٍر فَإِ هن
اَّللَ يَ ْعلَ ُمهُ ﴾ [البقرة )٢٧٠ :ووجه الداللة :حمبة هللا -جل وعال -لذلك الذي حصل منهم تعظيماً له-
ه
واالستعاذة :استفعال ،ومادة (استفعل) موضوعة يف الغالب للطلب فغالب جميء األلف والسني
والتاء للطلب ؛ فمعىن استعاذ ،واستعان واستغاث ،واستسقى :طلب تلك األمور ،وأتيت أحياانً للداللة على
الفعل ،وهو الغىن .و استعاذ) و (استغاث) و ( استعان ) ،وأشباه ذلك ،فيها طلب ،والطلب من أنواع
كان الفعل املتوجه إليه يسمى دعاء ؛وهلذا فإن حقيقة االستعاذة لغةً ،وداللتها شرعاً هي :طلب العوذ ،أو
طلب العياذ ؛ وهو الدعاء املشتمل على ذلك ،واالستغاثة هي :طلب الغوث وهو دعاء مشتمل على ذلك .
وهكذا يف كل ما فيه طلب نقول :إنه دعاء ،وإذا كان دعاء فإنه يكون عبادة ،والعبادة حق هللا وحده دون
من سواه ،كما قام اإلمجاع على هذا ،ودلت النصوص عليه ،كقوله -سبحانه َ ﴿ :-وأَ هن الْ َم َس ِج َد ِهَّللِ فَ َال
ك أهَال تَ ْعبُ ُدواْ إِهال إِ هايهُ ) اإلسراء )٢٣ :وكقوله - : تَ ْدعوا مع هِ
ضى َربُّ َ
َح ًدا ) [اجلن )١٨ :وكقولهَ ﴿ :وقَ َ
اَّلل أ َ ُ ََ
11
اَّللَ َوَال تُ ْش ِرُكوا بِِه َشْي ئًا ) (النساء ١٣٦إذا فكل فعل من األفعال ،أو قول من األقوال
أيضاً َ ﴿ :-و ْاعبُ ُدوا ه
فيه طلب يكون عبادة ؛ ألنه دعاء ؛ وكل طلب فهو دعاء .والطلب َيتلف نوعه ومسماه ابختالف
املطلوب منه :فإذا كان الطلب من مقارن :فيسمى التماساً ،وإذا كان ممن هو دونك فيسمى أمراً ،وإذا كان
ممن هو أعلى منك فيسمى دعاء .واملستعيد واملستغيث ،ال شك أنه طالب من هو أعلى منه :احلاجته إليه
:فلهذا يصح ) ان يكون كل دليل فيه ذكر إفراد هللا -جل وعال ابلدعاء أو ابلعبادة دليال على خصوص
هذه املسألة ،وهي أن االستعادة عبادة من العبادات العظيمة ،وإذ كانت كذلك فإن إفراد هللا هبا واجب
وقوله -هنا « :من الشرك االستعاذة بغري هللا » هذا الغري شامل لكل من يتوجه إليهم ابلعبادة،
ويشركوهنم مع هللا ،ويدخل يف ذلك -ابألولية -ما كان املشركون اجلاهليون يتوجهون إليهم ابلعبادة من
.اجلن واملالئكة والرسل واألنبياء والصاحلني ،واألشجار ،واألحجار ،وغري ذلك من معبوداهتم
لكن هل مقصوده بقوله« :ابب من الشرك االستعاذة بغري هللا » مشول هذا احلكم على فاعله
ابلشرك ،لكل أنواع االستعاذة ،ولو كان فيما يقدر عليه املخلوق؟ واجلواب :أن هذا فيه تفصيل ،فمن
العلماء من يقول :االستعادة ال تصلح إال ابهلل ،وليس ُث استعادة مبخلوق فيما يقدر عليه ؛ ألن االستعادة
توجه القلب ،واعتصامه ،والتجاؤه ،ورغبه ،وهذه املعاين مجيعاً ال تصلح إال هلل -جل وعال
قوله « :ابب من الشرك أن يستغيث بغري هللا أو يدعو غريه الشرك :املراد به كما ذكران فيما سبق -
:الشرك األكرب .قوله « :أن يستغيث » :يعين :االستغاثة ؛ ألن ( أن) مع الفعل تُؤول ي (ابب) من الشرك
االستغاثة بغري هللا ) أو ( استغاثة بغريا هللا ) ،مبصدر ،يعين :وكذلك قوله « :يدعو» يؤول مبصدر ،يعين
من الشرك ( ،دعوة غريه ) ،أو (دعاء غريه) .واالستغاثة -كما ذكران : -طلب ؛ والطلب نوع من أنواع
12
الدعاء ؛ وهلذا قال العلماء :إن يف قوله « أو يدعو غريه » بعد قوله « :أن يستغيث بغري هللا » عطفا للعام
على اخلاص ،ومن املعلوم أن اخلاص قد يُعطف على العام ،وأن العام قد يُعطف على اخلاص .وقوله « :أن
يستغيث بغري هللا » :هذا أحد أفراد الدعاء كما ذكران ألن االستغاثة طلب ،والطلب دعاء.
وقوله « :أو يدعو غريه :هذا لفظ عام يشمل االستغاثة ،واالستعاذة ،ويشمل أصنافاً كثرية من
.أنواع الدعاء
قوله « أن يستغيث » االستغاثة هي .طلب الغوث ،والغوث حيصل ملن وقع يف شدة وكرب َيشى
معه املضرة الشديدة ،أو اهلالك ؛ فيُقال :أغاثه إذا فزع إليه ،وأعانه على كشف ما به ،وخلصه منه ؛ كما
استَ َعثَهُ اله ِذى ِمن ِش َيعتِ ِه َعلَى اله ِذي ِم ْن َع ُدقِ ِه ) [القصص )١٥ :
قال -جل وعال -يف قصة موسى ﴿ :فَ ْ
استَغَتَهُ اله ِذى ِ ، .من ِش َيعتِ ِه ﴾ [القصص ]١٥ :يعين :أن َم ْن كان من شيعة موسى طلب الغوث
فقوله﴿ :فَ ْ
.من موسى على من كان عدواً هلما مجيعاً ،فاغاثه موسى عليه السالم
فاالستغاثة :طلب الغوث ؛ وطلب الغوث ال يصلح إال من هللا فيما ال يقدر عليه إال هللا جل
جالله -؛ ألن االستغاثة ميكن أن تُطلب من املخلوق فيما يقدر عليه .لكن مىت تكون االستغاثة بغري هللا
شركاً أكرب؟ ضبطه بعض أهل العلم بقوهلم :تكون شركاً أكرب ،إذا استغاث ابملخلوق فيما ال يقدر عليه ذلك
املخلوق .وقال آخرون :تكون شركاً أكرب ،إذا استغاث ابملخلوق فيما ال يقدر عليه إال هللا ،وهااتن العباراتن
خمتلفتان .واألصح منهما األخرية ؛ ألن املرء إذا استغاث ابملخلوق فيما ال يقدر عليه إال هللا ؛ وهو يعلم أن
هذا ال يقدر عليه إال هللا :فهذا شرك أكرب ابهلل -جل وعال -ألن حقيقة األمر أنه ال يقدر عليه إال هللا
13
يأما قول من قال من أهل العلم إن االستغاثة شرك أكرب إذا استغاث ابملخلوق فيما ال يقدر عليه،
فإن هذا يَِرُد عليه :أن مثت أشياء قد يكون املخلوق يف ظاهر األمر قادراً عليها ،ولكنه يف احلقيقة ال يقدر
عليها ،لكن هذا الضابط غري منضبط ؛ أل هن من وقع يف شدة ،كغرق -مثالً -وتوجه لرجل يراه أبن يغيثه
فقال خماطباً إايه أستغيث بك أستغيث بك ،أستغيث بك ،وذاك ال حيسن السباحة ،وال حيسن اإلجناء من
الغرق فهذا يكون قد استغاث ابملخلوق فيما ال يقدر عليه املخلوق ،فهل يكون شركاً أكرب ؟ ! ال يكون منه
؟ ألن اإلغاثة من الغرق وحنوه يصلح يف الغالب -أن يكون املخلوق قادراً عليها ،فيكون الضابط الثاين هو
الصحيح ،وهو أن يقال :االستغاثة بغري هللا شرك أكرب إذا كان قد استغاث ابملخلوق فيما ال يقدر عليه إال
هللا ،أما إذا استغاث به فيما يقدر عليه غري هللا من املخلوقني ،لكن هذا املخلوق املعني مل يقدر على هذا
الشيء املعني :فإنه ال يكون شركاً ؛ ألنه ما اعتقد يف املخلوق شيئاً ال يصلح إال هللا -جل جالله . -
فاالستغاثة بغري هللا إذا كانت فيما ال يقدر عليه إال هللا ،فهي شرك أكرب وإذا كانت فيما يقدر عليه املخلوق
فهي جائزة ؛ كما حصل من صاحب موسى ،إذ استغاث مبوسى عليه السالم
ابب الشفاعة
والشفاعة هي :الن صاحب الطلب أصبح مسعا ،بعد أن كان فردا .الدعاء .وطلب الشفاعة هو
:طلب الدعاء ،فإذا قال قائل :أستشفع برسول هللا ،فكأنه قال :أطلب من الرسول هللا أن يدعو يل عند
هللا .فالشفاعة طلب ؛ فمن استشفع فقد طلب الشفاعة .واخلالصة :أن الشفاعة دعاء ،وهي :طلب
حقيقة الشافع -كما تقدم آنفاً -أنه طالب ؛ وألن حقيقة املستشفع أنه طالب -أيضاً ، -فالشافع يف
ظن املستشفع يدعو ،واملستشفع يدعو من أراد منه الشفاعة ،يعين :إذا أتى آت إىل قرب نيب أو قرب ويل ،أو
14
حنو ذلك ،فقال :أستشفع بك ،أو أسال الشفاعة ،فمعناه أنه طلب منه ،ودعا أن يدعو له ؛ فلهذا كان
صرفها ،أو التوجه هبا إىل غري هللا -جل وعال -شركاً أكرب؛ ألهنا يف احلقيقة دعوة لغري هللا ،وسؤال من
الدعاء ،لكن قد جياب دعاؤهم ،وقد ال جياب ،وهذا كما هو حاصل يف شفاعة الناس بعضهم لبعض،
ابلشفاعة احلسنة ،أو ابلشفاعة السيئة ،كما قال تعاىل ( :همن يَ ْش َف ْع َش َف َعةً َح َسنَةً ) [النساء ]٨٥ :وقال:
﴿ َوَمن يَ ْش َفع َش َف َعةً َسيِئَةُ ( النساء ، ١٨٥ :فهذا حيصل لك ن م ن األحياء ؛ ألهنم يف دار تكليف،
ويقدرون على اإلجابة ،وقد أذن هللا يف طلب الشفاعة منهم ؛ وهلذا كان الصحابة يف عهد النيب رمبا أتى
بعضهم النيب عليه الصالة والسالم وطلب أن يشفع له ،يعين :أن يدعو له .فمسألة الشفاعة من املسائل
اليت ختفى على كثريين مبا يف ذلك بعض أهل العلم ؛ ولذا وقع بعضهم يف أغالط يف مسألة طلب الشفاعة
من النيب عليه الصالة والسالم ،فأوردوا قصصاً يف كتبهم فيها استشفاع ابلنيب دون إنكار ،كما فعل النووي و
ابن قدامة يف املغين وغريمها .وهذا ال يعد خالفاً يف املسألة ؛ ألن هذا اخلالف راجع إىل عدم فهم حقيقة
هذا األمر ،ومسألة الشفاعة مسألة فيها خفاء ؛ وهلذا يقول بعض أهل العلم من أئمة الدعوة رمحهم هللا :إن
إقامة احلجة يف مسائل التوحيد ختتلف حبسب قوة الشبهة ،فأقل الشبهات وروداً ،وأيسر احلجج قدوماً على
املخالف هو فيما يتعلق أبصل دعوة غري هللا معه وابالستغاثة بغري هللا ،والذبح لغريه ،وحنو ذلك .ومن
أكثرها اشتباهاً -إال على احملقق من أهل العلم -مسألة الشفاعة؛ وهلذا فإن الشيخ -رمحه هللا -أتى هبذا
الباب ،وقال « :ابب الشفاعة » وبني لك مبا ساق من األدلة من الكتاب والسنة -أن الشفاعة اليت تنفع
ال تصح إال بشروط ،وكذلك فإن هناك شفاعة منفية ،فليست كل الشفاعة مقبولة ،بل منها ما يقبل،
.ومنها ماال يقبل ؛ فاملقبول منها له شروط وضوابط ،واملردود منها فلقيام أوصاف توجب ردها
15
وخالصة الباب :أن تعلق أولئك ابلشفاعة عاد عليهم بعكس ما أرادوا ،فإهنم ملا تعلقوا ابلشفاعة
ُح ِرُموها ؛ ألهنم تعلقوا بشيء مل أيذن هللا -جل وعال -به شرعاً ؛ حيث استخدموا الشفاعات الشركية،
ابب ما جاء أن سبب كفر بين آدم وتركهم دينهم هو الغلو يف الصاحلي
واملقصود ب « الغلو يف الصاحلني » الذي هو سبب كفر بين آدم ،وتركهم ،دينهم الذي أمروا به أهنم
ب يف تعظيمهم حىت آل هبم األمر إىل الشرك .وقوله « :الصاحلون » :يشمل كل من قام جتاوزوا احل هد ِ
الواج َ
َ
به هذا الوصف من األنبياء والرسل ،واألولياء ،من أي ٍ
أمة كانوا .وأصل كلمة ( الصاحلني) أهنا مجع (
الصاحل ) .والصاحل :هو اسم من قام به الصالح ،والصالح يف الكتاب والسنة اترة يكون مبعىن نفي الفساد
أي ما يقابل الفساد ،واترة يكون مبعىن ما يقابل السيئات ،فيقال صاحل مبعىن ليس بذي فساد ،ويقال أيضاً
صاحل مبعىن ليس بسييء .والصاحلون هنا املراد هبم أهل الصالح يعين أهل الطاعة واإلخالص هللا -جل
وعال -الذين اجتنبوا الفساد واجتنبوا السيئات ،وهم الذين اشرتكوا يف فعل الطاعات وترك احملرمات ،أو
كانوا من السابقني ابخلريات ،فاسم الصاحل يقع شرعاً على املقتصد ،وعلى السابق ابخلريات ؛ فاملقتصد
صاحل والسابق ابخلريات ،صاحل ،وكل درجات عند هللا -جل وعال .والغلو يف الصاحلني » يعين :جماوزة
احلد فيهم ،لكن ما احلد الذي أذن به الشرع يف حق الصاحلني ،حىت تعلم مىت يكون تعظيمهم جماوزة للحد
املعلوم ؟ اجلواب :أهنم إذا كانوا من الرسل فباألخذ بشرائعهم ،واتباعهم،واالقتداء هبم ،مع احملبة واالحرتام
واملواالة ،والنصرة ،وغري ذلك من املعاين الداخلة يف احلد املأذون به يف حقهم .أما الغلو فيهم فهو جماوزة
16
هلك الذين تنطعوا فيما أيتون به يف أفعاهلم ،أو أقواهلم ،وهم الذين جاوزوا احلد يف ذلك ،وابتغوا
علم شيء أو تكلفوا شيئاً ،مل أيذن به هللا ؛ فزادوا عما أذن هلم ،فأتوا أبشياء ،مل يُؤذن هلم فيها .والتنطع،
واإلطراء ،والغلو ،متقاربة املعىن جيمعها جماوزة احلد املشروع والغلو يشمل اإلطراء ،ويشمل التنطع ؛ فكل
تنطع ،وكل إطراء :غلو ،والغلو اسم جامع هلذه مجيعاً ،فالشيخ رمحه هللا -يف هذا الباب -بني أن كفر بعي
،آدم وسبب تركهم دينهم :هو الغلو يف الصاحلني ،أبن جاوزوا احلد فيهم ،كما جاوز قوم نوح احلد يف
صاحليهم ،فعكفوا على قبورهم ،وأهلوها ،فصارت آهلة ،والنصارى غلت يف رسوهلم عيسى عليه السالم ،ويف
احلواريني ،ويف البطارقة ،حىت جعلوهم آهلة مع هللا -جل وعال -يستغيثون هبم ،ويؤهلوهنم ،ويسألوهنم،
ويعبدوهنم ،وكذلك وقع الغلو يف هذه األمة من الذين جعلوا للنيب عليه الصالة والسالم نصيباً منخصائص
األلوهية ،وهذا هو عني ما هنى عنه عليه الصالة والسالم بقوله :ال تطروين كما أطرت النصارى املسيح بن
ابب ما جاء من التغليظ فيمن عبد هللا عند قرب رجل صاحل فكيف إذا عبده
يف هذا الباب مع األبواب بعده بيان أن النيب كان حريصاً على هذه األمة ،وأنه كان ابملؤمنني رؤوفاً
رحيماً ،ومن متام حرصه على األمة أن حدرهم اكل وسيلة تصل هبم إىل الشرك ،وسد مجيع الذرائع املوصلة
إىل ذلك ،وغلظ يف ذلك ،وشدهد فيه ،وأبدى وأعاد ،حىت إنه بني ذلك ؛ خشية أن يفوت أتكيده وهو
يعاين سكرات املوت عليه الصالة والسالم فهذه األبواب يف بيان وسائل الشرك األكرب ،وما ينبغي سده
ومنعه من الذرائع املوصل ة إليه ؛ رعاية ومحاية للتوحيد ؛ ألن النيب عليه الصالة والسالم .على من يفعلون
شيئاً من تلك الوسائل ،أو الذرائع املوصلة إىل الشرك .غلظ وهذا الباب يف بيان أحد الوسائل املوصلة إىل
الشرك ،والذرائع اليت حيب منعها .قوله -رمحه هللا « :ابب ما جاء من التغليظ فيمن عبد هللا عند قرب رجل
صاحل» .صورة ذلك أن أييت آت إىل قرب رجل صاحل ،يعلم صالحه كأن يكون من األنبياء واملرسلني ،أو أن
17
يكون من صاحلي هذه األمة ،أو صاحلي أمة غري هذه األمة فيتحرى ذلك املكان ؛ كي يعبد هللا وحده دون
ما سواه ؛ رجاء بركة هذه البقعة .وقد راج هذا األمر عند الكثريين من الناس ،والدمهاء ،حيث اعتقدوا أن ما
حول قبور األنبياء والصاحلني من األمكنة والبقاع مبارك ،وأن العبادة عندها ليست كالعبادة عند غريها.
والنيب عليه الصالة والسالم غلظ يف ذلك وهنى عنه ،مع أن املغلظ عليه مل يعبد إال هللا -جل وعال ،-ومل
يعب د صاحب القرب ،لكنه اختذ ذلك املكان رجاء بركته ،ورجاء تنزل الرمحات كما يقولون -ورجاء تنزل
النسمات ،والفضل من هللا عليه ،فاختاره ألجل بركته ،ولكنه مل يعبد إال هللا -جل وعال -ومع ذلك لعن
قوله « :فيمن عبد هللا» يعين :أنه مل يشرك ابهلل ،بل عبد هللا وحده ؛ أبن صلى هللا خملصاً ،أو دعا
هللا خملصاً ،أو تضرع واستغاث واستعاذ ابهلل -جل وعال -خملصاً لكنه حترى إيقاع هذه العبادات عند قرب
رجل صاحل ألجل الربكة .والرجل الصاحل -كما سبق أن ذكران -هو املقتصد :الذي أتى ابلواجبات ،
وابتعد عن احملرمات ،أو السابق ابخلريات :وهو أعلى درجة ،فالصاحلون من الرجال والنساء من اء مقامات:
ت عِ َ
ند هللا ) [آل عمران )١٦٣ :وبعض أهل العلم يعرب يف تعريف الرجل الصاحل بقوله :الصاحل ﴿ ُه ْم َد َر َج ْ
من عباد هللا ،هو القائم حبقوق هللا ؛ القائم حبقوق عباده ،وهذا تعبري صحيح ؛ وألن املقتصد قائم حبقوق هللا
،قائم حبقوق عباده أتى ابلواجبات ،وانتهى عن احملرمات .وأعظم منه درجة السابق ابخلريات .فأهل السبق
ابخلريات من العباد ال جيوز أن تعظم قبورهم ،وأن يغلى فيها بظن أن البقعة اليت حول قبورهم بقعة مباركة،
فإن هذا الفعل قد جاء فيه الوعيد الذي سيأيت يف هذا الباب وغلظ -عليه الصالة والسالم -فيه على
.فاعله
18