You are on page 1of 6

‫الهجرة رحلة البناء والتغيير‬

‫الهجرة التي ينشدها الإسلام‬

‫الحمد لله رب العالمين‪ ،‬واحد بلا شريك‪ ،‬قهار بلا منازع‪ ،‬قويّ بلا ظهير‪ ،‬عزيزٌ بلا نصير‪ ،‬وأشهد أن لا إله إلا الله الخالق‬
‫المدبر الحكيم‪ ،‬سبحانه سبحانه؛ هو ع ّز كلّ ذليل‪ ،‬وقوة كل ضعيف‪ ،‬وغوث كل ملهوف‪ ،‬وناصر كلّ مظلوم‪ ،‬وأشهد أن سيد الناس‪،‬‬
‫وأشرف الخلق‪ ،‬وقائدنا نحو الحق‪ :‬محمد بن عبدالله‪ ،‬صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ونسائه ومن والاه‪ ،‬أمّا بعد ‪:‬‬

‫فأهلا ومرحبا بكم أيها المهاجرون إلى الله‪ ..‬ها نحن نلتقي في رحاب عامٍ هجريّ جديد‪ ،‬وتتجدد الذكريات السعيدة‬
‫في حي اة أمّة الخير والفضل؛ فقد مرّ على الحدث الأخطر والأجلّ في تاريخ الأمة ‪-‬الهجرة‪ -‬ما يزيد على ألف وأربعمائة وأربعين عامًا‪،‬‬
‫هاجرت الأمّة في تلك السنوات‪ ،‬تارة في سبيل الله‪ ،‬وأخرى في سبيل الهوى والشيطان ‪..‬‬

‫ويتج ّدَّد مع كل عام هجري حديث الخطباء والوعّاظ؛ فمنهم من يقصّ على الناس سيرة الهجرة بأحداثها وتفاصيلها ‪-‬‬
‫ليكرّر ما ذكره كتّاب السير في سيرهم‪ ،‬وكأنَّّه كتاب مسموع‪ ،-‬ومنهم من يركّز على الشخصيات الفدائية فيناقش تضحياتهم وأثرها‬
‫في حياة الأتباع‪ ،‬ومنهم من يذكر للناس دروسها وعبرها؛ رغبةً في التغيير‪ ،‬ومنهم من يضع يده على الوصايا العملية للهجرة‬
‫العصريّة‪ ...‬وكلٌّ يسعى لتقديم الدين للخلْق‪...‬‬

‫التالية‪:‬‬ ‫العناصر‬ ‫هذه‬ ‫خلال‬ ‫من‬ ‫الأغرّ‪،‬‬ ‫الحادث‬ ‫هذا‬ ‫مع‬ ‫لنقف‬ ‫اليوم‬ ‫فدعونا‬
‫أولا‪ :‬هجرة الرسول هجرة للبناء‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬دروس في رحاب الهجرة النبويّة‪.‬‬

‫ثالثًا‪ :‬الهجرة العصرية التي ينشدها الإسلام ‪.‬‬

‫‪‬‬

‫أولا‪ :‬هجرة الرسول هجرة للبناء‪:‬‬

‫لقد كانت هجرته ‪-‬صلى الله عليه وسلّم‪ -‬نموذجًا للتربية والتدريب على ترك ملذات الدنيا الفانية؛ رغبة فيما يبقى عند‬
‫ل من وطنه وكان نشأته؛ فقد وقف ‪-‬عليه الصلاة والسلام‪ -‬على‬
‫ن عقيدة المسلم أج ّ‬
‫ب العالمين‪ ،‬لقد كانت سبيل ًا للإعلان التاريخي بأ ّ‬
‫ر ّ‬
‫ت غَّيْرَّكِ» رواه‬
‫ك مَّا سَّكَّنْ ُ‬
‫ن قَّوْمِي َّأخْرَّجُونِي مِنْ ِ‬
‫ك إِلَّيَّّ‪ ،‬وََّّلوْلَّا أَّ َّّ‬
‫ن َّبلَّدٍ‪ ،‬وََّّأحَّبَّّ ِ‬
‫مشارف مكة يوم خرج منها‪ ،‬وهو يردّد‪ « :‬مَّا أَّطْيَّبَّكِ مِ ْ‬
‫جهِ»‪ ..‬إنها لحظ ة قاسية‪ ،‬لكن الذي وراءها عظيم الشأن يستحق كل‬
‫َّسنٌ صَّحِيحٌ غَّرِيبٌ مِنْ هَّذَّا الوَّ ْ‬
‫الترمذي‪ ،‬وقال‪« :‬هَّذَّا حَّدِيثٌ ح َّ‬
‫تضحية‪..‬‬

‫ن كثيرًا ممن يتحدثون عن رحلة الهجرة ‪-‬وكنت واحدًا منهم يوما ما‪ -‬يصوّرون للناس أن رحلة الهجرة كانت فرارًا‬
‫إّ‬
‫بالدين من مكّة التي عذبَّ أهلُها أهل الإيمان والدين‪ ،‬غير أن الحق ما صوّرته السيرة ذاتها‪ ،‬أنها لم تكن هجرة من مكة؛ بل كانت‬
‫هجرة لها ومن أجلها ‪..‬‬
‫الهجرة‪ :‬كانت طريقًا لتخليص المؤمنين من حالة العوز وقلة الأمن والأمان ‪..‬‬

‫الهجرة‪ :‬كانت سبيل ًا لبناء دولة إسلامية مؤمنة بربها‪ ،‬تسعى لتطبيق ونشر الدين في الأرض‪..‬‬

‫الهجرة‪ :‬كانت بداية الانطلاق بالدين خارج حدود نشأته‪ ،‬وأنه دين عالمي لا ينحصر في زمان ولا مكان‪..‬‬

‫ن بأن رجالها لا ييأسون من روْح الله‪ ،‬ولا يتوقفون عن نشر الخير في الأرض‪..‬‬
‫الهجرة‪ :‬إعلان العقيدة‪ ،‬إعلا ٌ‬

‫الهجرة‪ :‬لم تكن عبارة عن مغادرة مكان ‪-‬أظلم بعض الوقت‪-‬؛ بل مغادرة لكل ظلم وهوى وعصيان‪..‬‬
‫الهجرة‪ :‬كانت فتحًا جدي دًا لدعوة ربّ العالمين‪ ،‬ففتحت آفاقًا جديدة لتاريخ الأمة (حيث الماضي التليد‪ ،‬والحاضر‬
‫المؤلم‪ ،‬والمستقبل المشرق‪)..‬‬

‫الهجرة‪ :‬حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل؛ حيث ينتصر الحق بشخوصه ومبادئه وإن طال الزمان‪ ..‬وصدق‬
‫الله العليّ القدير إذ يقول‪: ‬وَّمَّنْ يُهَّاجِرْ فِي سَّبِيلِ الَّلّهِ يَّجِدْ فِي الْأَّ ْرضِ مُرَّاغَّمًا كَّثِيرًا وَّسَّعَّ ًة[ ‪‬النساء‪ .]011 :‬فهاجَّرُوا والتمَّسُوا الطريق‬
‫إلى الله‪ ،‬فقادهم نحو الرشاد‪ ،‬وكانت الهجرة سببًا في قلب موازين التاريخ‪ ،‬وتغيير وجه البشريّة‬

‫ل وال عزّ‪ ،‬بين الضعف والقوة‪ ،‬بين الهزيمة والانتصار‪ ،‬إنها ح ّد فاصل في تاريخ الإسلام‬
‫الهجرة‪ :‬هي الح ّد الفاصل بين الذ ّ‬ ‫‪..‬‬
‫والدعوة إلى الله تعالى‪ ..‬بل كانت حدًّا فاصلا في حياة البشرية؛ حيث إقرار الحق والعدل‪ ،‬وإقامة التعايش السلمي بين البشر‪ ،‬ودعم‬
‫أسس البناء الحضاري للأمة وعمران الأرض‪ ،‬محققة بذلك صلاح الدنيا بالدين‪..‬‬

‫الهجرة‪ :‬رسالة لمن يجبرون الناس على ترك أوطانهم ‪-‬رغبة في لقمة عيش أو تحقيق أمان‪ -‬فتحافظ الأوطان على‬
‫أبنائها أولا؛ ليحافظ الأبناء على أوطانهم‬

‫إنها رسالةٌ إلى اليائسين والبائسين‪ ،‬وفاقدي الأمل؛ قد يُظلم الطريق أحيانًا‪ ،‬غير أنّ النور سيلحقه يومًا ما‪ ،‬وصدق الله‬
‫إذ يقول‪ : ‬وَّلَّا تَّي َّْأسُوا مِنْ رَّ ْوحِ الَّّلهِ ِإَّنّهُ لَّا يَّيْأَّسُ مِنْ رَّ ْوحِ الَّّلهِ إِلَّّا الْقَّوْمُ الْكَّافِرُونَّ[ ‪‬يوسف‪]..78 :‬‬
‫ثانيًا‪ :‬دروس في رحاب الهجرة النبويّة‪:‬‬

‫لقد مضت الدعوة منذ لحظاتها الأولى نحو تغيير الواقع المرّ الأليم‪ ،‬و تربية الأجيال على الخُلق القويم‪ ،‬ونشر الإيجابية في إصلاح‬
‫ض وَّاسْتَّعْمَّرَّكُ ْم فِيهَّا[ ‪‬هود‪].. 10 :‬‬ ‫ب العالمين‪: ‬هُوَّ أَّن َّ‬
‫ْشأَّكُ ْم مِنَّ اْلأَّ ْر ِ‬ ‫الأرض وتعميرها كما أراد ر ّ‬

‫ورغم عِظم الهدف الذي حرّك النبيّ ^ وأصحابه‪ ،‬إلا أن أعداء الحق لم يألوا جهدا في تعذيبهم والتآمر عليهم‪ ،‬والتضييق عليهم في‬
‫حرياتهم‪ ،‬فصادروا الأموال‪ ،‬وشوهوا الصورة الحسنة للرجال والنساء‪ ،‬وعمدوا إلى الحصار والمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية‪ ،‬وعملوا‬
‫على تجفيف منابع المساندة للحق من داخل مكة وخارجها في أرض الحبشة وغيرها‪ ،‬وشمتوا بالرسول ^ يوم عاد من الطائف مكلومًا‬
‫حزينًا‪ ،‬إلى أن شاء الله التسلية والتسرية عن رسوله وحبيبه‪ ،‬وعن المستضعفين من عباد الله‪ ،‬فأذِن بهجرته الشريفة؛ ليعلن للدنيا‬
‫الدين الحق‪ ،‬وتحقق للنبي القائد ‪-‬صلى الله عليه وسلّم‪ -‬ما أراد وطلب وتمنّى‪ ،‬حتى عاد يومًا إلى مكة فاتحًا‪ ..‬فبعد أن غادرها‬
‫مهاجرًا مطرودًا حزينًا أسيفًا‪ ،‬وأُجبر على تركها‪ ،‬ها هي لحظة الانتصار والفتح‪ ،‬وقد تواضع لربه يشكره ويدعوه أن يقبل منه ويتقبّله‬

‫‪..‬‬
‫ومضت رحلة الهجرة نحو طريقها تشق الغبار والصحراء والمؤامرات‪ ،‬حتى أذن الله بطلوع البدر على المدينة؛ ليشرق أرجاء المعمورة‬
‫كلها ‪ ...‬وإنّ الأمة التي لا تُحسِن قراءة ماضيها‪ ،‬لا يمكنها تجاوز صعوبات وأزمات الحاضر‪ ،‬ولا تستطيع صناعة المستقبل الباهر‪ ،‬فكان‬
‫لا بد من تلمّس عبر الهجرة النبوية وتعلّم الدرر الفاعلة‪ ،‬فلهجرته ‪-‬صلى الله عليه وسلّم‪ -‬دروس وعبر نستلهمها ونعيش في ضوء‬
‫‪:‬‬ ‫التالي‬ ‫النّحو‬ ‫على‬ ‫نورها‬
‫‪ 1.‬الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله واستشعار لذة المعية الإلهية‪ :‬قانون غاب عن أذهان كثير من شباب الأمّة؛ فأغلبهم اعتمد‬
‫ْض‬ ‫على انتظار الرزق يأتيه دون حركة أو سعي‪ ،‬والله أمرنا بحسن السير والبحث في كونه ع ّز وجلّ‪ ،‬فقال‪: ‬هُوَّ الَّّذِي ج َّ‬
‫َّعلَّ لَّكُ ُم الْأَّر َّ‬
‫ن ِرزْ ِق ِه وَِّإلَّ ْي ِه ال ُّنشُو ُر[ ‪‬الملك‪ ،]01 :‬وقد علمتنا رحلة الهجرة هذا القانون الكوني‪ :‬أن نأخذ بكل سبب‬
‫ذَّلُولًا فَّامْشُوا فِي مَّنَّاكِبِهَّا وَّكُلُوا مِ ْ‬
‫ممكن ومتاح وشرعي للوصول للأهداف والغايات المنشودة ‪-‬وهذا هو عين التوكّل على الله‪ ،-‬وربما وقع في رحلة الهجرة أحداث‬
‫تثبت أنّ من وراء الأسباب مسببها‪ ،‬وأن الأمر بيده؛ حتى لا يتعلق العبد بالس بب وينسى ربّ السبب‪ ،‬فوقف المشركون على باب‬
‫الرسول وكادوا أن يقتلوه لولا خروجه وفقا لما أراده الله ومبيت سيدنا علي بن أبي طالب ‪-‬رضي الله عنه‪ -‬مكانه‪ ،‬ووصول المشركين‬
‫ي الرحيم لطف بحبيبه؛ حين‬
‫إلى فم الغار رغم الأخذ بالأسباب‪ ،‬ووصول سراقة خلف الرسول وصحبه‪ ،‬ورغم كل هذا إلا أن الربّ العل ّ‬
‫أعمى أعينهم على بابه أثناء خروجه‪ ،‬وأعمى أعينهم عند فم غار ثور‪ ،‬وهدّأ من شهوة الثراء في نفس سراقة فكتم الخبر عن القوم‪...‬‬
‫فيجب أن يكون اعتمادنا دائمًا على الله‪..‬‬

‫‪ 2.‬الأمل والثقة في نصر الله وأن النصر مع الصبر‪ :‬حتى في أشد ساعات الليل ظلمة؛ فإنّ من وراء الظلمة يأتي النور‪ ،‬ومع العسر‬
‫يأتي يُسْران‪ ،‬ومن باطن المحنة تتولّد المنحة‪ ،‬وقد رأينا ما يؤكد ذلك عمليًّا من خلال رحلة الهجرة‪ ،‬بل ومن قبلها؛ فهذا رسولنا يبث‬
‫الأمل في نفس الخباب ‪-‬بعد أن طاَّلهُ من العذاب ما لحق به‪ ،-‬قائلاً له ولنا من بعده‪ « :‬وَّالَّلّهِ لَّيُتِمَّّنَّّ َّهذَّا الأَّمْرَّ‪ ،‬حَّتَّّى يَّسِيرَّ الرَّّاكِبُ مِنْ‬
‫جلُونَّ»‪ ..‬وها هو ‪-‬صلى الله عليه وسلّم‪ -‬يبث الأمل ولديه‬
‫ْب عَّلَّى غَّنَّمِهِ‪ ،‬وَّلَّكِنَّّكُمْ َّتسْتَّعْ ِ‬
‫صَّنْعَّاءَّ إِلَّى حَّضْرَّمَّوْتَّ‪ ،‬لاَّ يَّخَّافُ ِإلَّّا الَّلّهَّ‪ ،‬أَّوِ الذِّئ َّ‬
‫من اليقين ما ينشر ب ه أمله في نفس صاحبه الصديق‪( :‬لا تحزن)‪( ،‬ما ظنك باثنين الله ثالثهما)؛ بل ووصل الأمر إلى أن حرّكه اليقين‬
‫ي‬
‫ببثّ الأمل في نفس مشرك كسراقة ‪-‬قبل الإسلام‪ -‬كمثل قوله له ‪-‬كما عند البيهقي في السنن‪« -‬كَّأَّنِّي ِبكَّ قَّدْ لَّ ِبسْتَّ سُوَّارَّ ْ‬
‫كِسْرَّى»‪ ،‬يقول له هذه الكلمات وهو مطارَّ ٌد مهاجر مطرود من بلده‪ ...‬إنها الثقة في نصر الله‪ ،‬اليقين في وعد الله!!‬

‫‪ 3.‬الحرص على الصحبة الصالحة‪ :‬إن المسلم أحوج ما يكون إلى صحبة صالحة تأخذ بيده للخير‪ ،‬وتصرفه عن الشرّ‪ ،‬في الرخاء وفي‬
‫ي أنّ الصحبة الصالحة هي الحل في نجاح‬
‫الشدّة‪ ،‬يجد منها في الرخاء عونًا على الطاعة‪ ،‬وفي الشدة تثبيتً ا عليها‪ ،‬وقد أعلن النب ّ‬
‫َّع‬
‫المسلم ووصوله إلى أهدافه؛ حين صحب أبا بكر (إنها الصحبة)‪ ،‬ولماذا الصحبة؟ لأنه كما أخبرنا رسولنا الحبيب‪َّ « :‬فإِنَّّ الشَّّيْطَّانَّ م َّ‬
‫ْع ُد‪»...‬‬
‫أَّب َّ‬ ‫الِاثْنَّيْنِ‬ ‫مِنَّ‬ ‫وَّهُوَّ‬ ‫الوَّاحِدِ‬
‫‪4.‬حسن التخطيط وت وظيف الطاقات‪ :‬فقد امتلأت رحلة الهجرة بكثير من مواقف التخطيط الجيد‪ ،‬بل صار نموذج الهجرة بكامل‬
‫أحداثه سببًا لتعلم الأمة التخطيط وحسن توظيف الأدوار والطاقات‪ ،‬فأسماء امرأة تصنع الطعام وتذهب به إلى الرسول وأبيها‪ ،‬ولماذا‬
‫امرأة؟ حتى لا يشكّ فيها أحد‪ ،‬كما أن عبدال له بن أبي بكر يأتي بالأخبار‪ ،‬ولا عجب فهو شاب صغير ويمكنه أن يتسمّع الأخبار‬
‫بعكس امرأة كأسماء‪ ،‬وعلي ينام مكانه‪ ،‬وابن أريقط يزيل آثار أقدام المترددين عليهما‪ ،‬ودليل مشرك خرّيت يعرف الطرق ومسالكها‬
‫ودروبها (ابن فهيرة)‪ ،‬وهكذا‪ ...‬فلتتعلم الأمة وتخرج من إطار عشوائ يتها التي جعلتها تبعًا لغيرها اليوم‪ ،‬ولم تعد قادرة على أن تكون‬
‫صاحبة قرار ‪-‬ولا حول ولا قوّة إلا بالله‪-‬‬

‫‪..‬‬
‫‪ 5.‬كن قدوة ولو كنت زعيمًا أو قائدًا‪ :‬نعم لقد كان رسولنا هو أكمل البشر وسيد الأنبياء والرسل‪ ،‬لكن موضعه من القيمة والقامة‬
‫الربانية الموضوعة له في الأرض ‪ ،‬لم تجعله يومًا ‪-‬حاشاه‪ -‬متكبرًا أو غليظًا أو مرتفعًا على الناس؛ بل كان يتعب كما تعب أصحابه‪،‬‬
‫ويُعذّب كما ُعذِّبوا‪ ،‬ويهاجر كما يهاجرون‪ ،‬ويُطارَّد كما يطارد المستضعفون‪ ...‬وهكذا هو القائد القدوة‪ ،‬يشارك أتباع الجوع والعطش‬
‫كما كان في خبر الخندق وحفره‪ ،‬ويشاركهم ب ناء المسجد‪ ،‬ويشاركهم المعارك‪ ،‬ولم يكتف بتتبع الأخبار من غرف مكيفة أو قاعات‬
‫مجهّزة‪ ،‬حتى كاد أن يُقتل يوم أُحُد‪ ،‬ولكن عناية الرحمن أيّدته‪ ،‬وصارت محبته في كل قلب ‪.‬‬
‫‪ 6.‬الدعوة لا يحدّها زمان ولا مكان ولا يعطِّلها إنسان‪ :‬الداعي إلى الله لا يضيع أي فرصة تأتيه لصالح دعوته؛ لأنّ الدعوة هي رسالة‬
‫الله للبشر في كل مكان وفي أي زمان‪ ،‬ولذا لاحظنا من الرحلة أن النبي قبلها بقليل خرج إلى الطائف داعيا إلى الله فأبى القوم‬
‫ونكثوا على النخوة والرجولة والعروبة‪ ،‬ولم يتوقف رسول الله عن الحركة‪ ،‬وخرج من بلده ليبلغ رسالة ربه؛ فيا أيها الدعاة لا تتوقفوا‬
‫بدعوتكم عن الانتشار‪ ،‬بشرط ألا تميلوا أو تنحرفوا بها عن مسارها الطبيعي الذي جاءت من أجله في تعبيد الناس لربهم وتعمير‬
‫الأرض‪ ..‬ولنا في نبي الله يوسف السجين الدرس والعبرة‪ ،‬مُنِع من المنابر الدعوية‪ ،‬فلم تتوقف دعوة حتى وهو في باطن عنابر‬
‫السجون ‪..‬‬

‫‪7.‬حب الصِّدِّيق لصاحبه الرسول ‪-‬صلى الله عليه وسلّم‪ :-‬لقد ثبت يقينًا من خلال الرحلة المباركة مدى محبة الصّدّيق أبي بكر‬
‫لصاحبه الرسول‪ ،‬ومدى شفقته عليه‪ ،‬ومدى رغبته في صحبته والسير معه في الطريق‪ ،‬فكم وكم صبر أبي بكر على مرافقته‬
‫وصحبته‪ ،‬ولذا صار أعزّ الناس وأكرم الخلق على الخالق بعد رسل الله ‪-‬عليهم الصلاة والسلام‪ .-‬والناظر في سيرته الشريفة يراه وقد‬
‫تفانى وضحّى بماله ووقته ونفسه وأهل بيته‪ ،‬فله منا أكمل الدعوات بالرضوان وكمال رحمة الله به‪ ..‬وهكذا ينبغي أن تكون المحبة‬
‫الحقيقية في الله‪ ،‬فكما في موقفه الشريف ور سول الله في الهجرة معه‪ ،‬يشرب اللبن‪ ،‬فاسمع ماذا يقول أبو بكر‪ :‬فشرب رسول الله‬
‫حتى ارتويت!! يا الله‬

‫‪ 8.‬المرأة صاحبة دور عظيم في تاريخ الإسلام‪ :‬إلى الذين يتهمون الإسلام بهضم حق المرأة‪ ،‬تعالوا بنظرة بسيطة يسيرة في السيرة‬
‫النبوية ‪-‬بحلقاتها وفصولها ‪-‬نكتشف عظم الدور الذي بذلته المرأة المسلمة‪ ،‬ومدى عناية الإسلام بمكانتها وتقديره لشأنها؛ فأسماء‬
‫ذات النطاقين ضربت لنا وللنساء أروع مثال ونموذج للمرأة العاملة المجِدّة المُجتهدة‪ ،‬صاحبة البذل والعطاء والتضحية‪ ،‬ولا تجد مثل‬
‫هذا النموذج في الدنيا كلها‪..‬وحريّ بكل امرأة مسل مة اليوم أن تسأل نفسها عما قدّمته لدين الله‪ ،‬أم أتراها تسكن بيتها أو تأكل‬
‫‪...‬‬ ‫القدوة‬ ‫ولا أثر لها في مجتمعها وأسرتها‪ ،‬فلتتخذ من أسماء السامية ومثيلاتها النموذج‬ ‫وتشرب‬
‫‪ 9.‬عِظم دور المسجد في حياة الأُمّة‪ :‬وبعد الهجرة ووصول القائد إلى حيث مستقر الدعوة والدولة ‪-‬المدينة الطيبة‪ -‬قام يبني‬
‫ويؤسس لأهم مؤسسة في تاريخ الأمة‪ ،‬وبدون القيام بحقها ومساندتها في دورها الأساس لا قيمة للأمة الإسلامية‪ ،‬فلا يليق بنا أن‬
‫نهمل دور هذه المؤسسة وغيرنا يجعل من كنائسه ومعابده مؤسسات فاعلة في المجتمع بكل ما تعنيه الكلمة‪ ...‬بنى الرسول ‪-‬صلى‬
‫الله عليه وسلّم‪ -‬المسجد وأسسه على أسس متينة؛ رغبة في تجميع الصف والكلمة‪ ،‬وتثقيف أبناء الأمّة‪ ،‬وتوحيد الصف المسلم‪،‬‬
‫وحل المشكلات‪ ،‬وتجييش الجيوش‪ ،‬واستقبال الوفود السياسية فيه؛ فهو الدار الأمّ‪ ،‬والبيت الأكبر للمسلمين‪ ،‬وينبغي أن يعود إليه‬
‫دوره من جديد‪ ،‬ولذا ت وعّد الله من يحاربون بيوته في أرضه ويعملون على تعطيلها عن أداء دورها‪ ،‬فقال سبحانه{ ‪:‬وَّمَّنْ أَّ ْظلَّ ُم مِمَّّنْ‬
‫مَّ َّنعَّ مَّسَّاجِدَّ الَّلّهِ أَّنْ يُذْكَّرَّ فِيهَّا اسْ ُمهُ وَّسَّعَّى فِي خَّرَّابِهَّا أُولَّئِكَّ مَّا كَّانَّ لَّهُمْ أَّنْ يَّدْخُلُوهَّا إِلَّّا خَّائِفِينَّ لَّهُمْ فِي الدُّنْيَّا ِخزْيٌ وَّلَّهُمْ فِي‬
‫ب عَّظِيمٌ} [البقرة‪]..001 :‬‬
‫الْآخِرَّ ِة َّعذَّا ٌ‬

‫ثالثًا‪ :‬الهجرة التي ينشدها الإسلام (الهجرة العصريّة)‬

‫ولا شكّ أن الهجرة الحقيقية المعاصرة لها أشكال‪ ،‬فمن سار عليها رشد وأرشد ‪ -‬وكان من المهاجرين في سبيل الله‪،-‬‬
‫ومن وقف في طريقها فسد وأفسد ‪-‬وكان مهاجرًا في سبيل الشيطان‪ ..-‬وخروجًا من دائرة الهجرة في سبيل الشيطان‪ ،‬فعلينا بتحقيق‬
‫الهجرة الآتية ‪:‬‬

‫‪ 1.‬هجرة من الجسد إلى الروح‪ :‬لقد استهلكت الدنيا كثيرًا من عابديها‪ ،‬فضحت عليهم بزخارفها‪ ،‬وصاروا أسرى لها لا‬
‫يهتدون إلا بهدْيِهَّا‪ ،‬ولا يتحركون إلا برغبتها؛ وبئست المعيشة هذه‬

‫لا بد من هجرة حقيقية من احتياجات الجسد الفانية إلى احتياجات الروح الباقية‪ ،‬وليس معنى هذا أن يعيش المرء فقيرًا ضعيفًا‪،‬‬
‫وإنما ينبغي أن يجعل الدنيا بلذاتها وسيلة له إلى غايته المنشودة ‪-‬عبادة الله ورضوانه وجنته ‪-‬ولا يجعلها غاية له‪ ،‬يخاصم من‬
‫أجلها‪ ،‬ويحب على مائدتها ‪..‬‬

‫‪ 2.‬هجرة من الذنوب إلى التوبة‪ :‬ولن تصح هذه الهجرة إلا بهجرة العُصاة والمعاصِي‪ ،‬قال رسول الله ‪-‬صلى الله عليه‬
‫وسلّم‪( -‬والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)‪ ،‬وأمر الله نبيه بقوله (واهجرهم هجرًا جميلاً)‪ ،‬وتلك هي التوبة الصادقة‪ ،‬لا الكاذبة‬
‫يِ‪ :‬أن النبيَّّ ‪-‬صلَّّى الله عليه وسلم‪-‬‬
‫المزيفة‪ ..‬وهي الهجرة المنشودة؛ فكما عند أبي داوود في السنن عن عبد الله بن حُبْشي الخَّثْعم ّ‬
‫ل القيام" قيل‪ :‬فأيُّ الصدقة أفضل؟ قال" ‪:‬جُهدُ المُقِلِّ" قيل‪ :‬فأيُّ الهِجرة أفضلُ؟ قال‪" :‬مَّن هَّج َّ‬
‫َّر‬ ‫سئل ‪ :‬أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال‪" :‬طو ُ‬
‫يّ الهجْرة أفضل؟‪ ،‬قال‪« :‬أن تَّهْجُرَّ ما كَّرِهَّ ربُّك ‪»...‬‬
‫ما حَّرَّّمَّ الل ُه عليه" وعند أحمد في المسند‪ :‬سئل الرسول الحبيب‪ :‬أ ُ‬

‫‪3.‬هجرة من اليأس إلى الأمل ‪ :‬إنّ رحلة الهجرة المباركة تعلّمنا الأمل واليقين في الله ‪-‬تعالى‪ -‬وأنّ ما عنده لا يضيع‪،‬‬
‫وكم يزداد الأمل يومًا بعد يوم؛ فحين كان الخباب المعذّب المضطهد الذي اكتوي بالنار في رأسه وجسده يعذّب‪ ،‬لم يكن بخاطره‬
‫أن صاحبة ورشة الحدادة التي كان يعمل بها ‪-‬كما يحكي ابن إسحاق‪ -‬ستمرض في رأسها بمرض لا يهدأ طبيًّا إلا إذا اكتوت بالنار‬
‫في رأسها ‪-‬بمثل ما كانت تصنعه فيه ‪ -‬ولم تجد من يقوم لها بهذا إلا خادمها الخبّاب ‪-‬رضي الله عنه‪ !!!-‬فسبحان مقلب الأمور‪،‬‬
‫والدنيا دول‪ ،‬ودوام الحال من المُحال‪ ....‬ورسولنا ^ يشتدّ به الأذَّى ولم يعدم اليقين والأمل في ربه‪ ،‬فلا تحرم نفسَّك من رصيد‬
‫الأمل‪...‬‬

‫‪4.‬هجرة من العشوائية والفوضى إلى التخطيط والنظام‪ :‬أمتنا أمّة النظام والتخطيط‪ ،‬فحياتها تعبديا وحياتيا قائمة على‬
‫النظام والتخطيط الدقيق؛ في ارتباطها بصلوات محددة في مواعيد محددة‪ ،‬وهكذا في كل عبادات الإسلام‪ ،‬ورحلة الهجرة درس‬
‫عظيم في التخطيط ودقته‪ ،‬والتحول من العشوائية في اتخاذ القرارات إ لى التنظيم الدقيق لكل قرار وقياسه على الأهداف‬
‫المنشودة ‪....‬الخ‬

‫‪ 5.‬هجرة من الجهل إلى العلم‪ :‬نريد هجرة حقيقية من الجهل‪ ،‬في زمن لم يعد للجهلاء قيمة‪ ،‬وحتى صارت القوة‪:‬‬ ‫‪..‬‬
‫ليس فيما تملكه من سلاح؛ ‪-‬فكل هذا يمكن محاربته‪ -‬ولكن فيما تحمله من علم ووعي وثقافة‪ ،‬ولذا وجدنا شرذمة اسمها ‪-‬‬
‫(إسرائيل)‪ -‬تنفق ميزانية على التعليم بحجم إنفاق العالم العربي كله على التعليم في بلادنا‪ ..‬فلنهاجر الجهل‪ ،‬ولنعد إلى قانون (اقرأ)‬
‫اقرأ تمحو الأمية الكتابية والأمية الدينية والأمية في أي مجال نحتاج فيه إلى تعلّم‪...‬‬

‫‪6.‬هجرة من التفرق والتشرذم إلى الوحدة والتكامل‪ :‬وهذا هو عين النصر الحقيقي ‪-‬يوم أن تعود الأمة لوحدتها التي أرادها لها الله‬
‫ن[ ‪‬الأنبياء‪ -]29 :‬ولم لا نهاجر إلى الله حقًّا بهجرة الفرقة والتشرذم والتصارع‬
‫بقوله‪: ‬إِنَّّ هَّ ِذ ِه أُمَّّتُ ُكمْ أُمَّّ ًة وَّاحِدَّ ًة َّوأَّنَّا رَّبُّ ُكمْ فَّاعْبُدُو ِ‬
‫والتحارب والتضاد المهين‪ ،‬يقول تعالى محذّرًا‪َّ : ‬وأَّطِيعُوا الَّلّهَّ وَّرَّس َّ‬
‫ُولهُ وَّلَّا تَّنَّازَّعُوا فَّتَّفْشَّلُوا وَّتَّذْهَّبَّ رِيحُكُمْ وَّاصْبِرُوا إِنَّّ الَّلّهَّ مَّعَّ‬
‫الصَّّابِرِينَّ[ ‪‬الأنفال‪].11 :‬‬

‫‪ 7.‬هجرة من الكسل والخمول إلى العمل والإنتاج‪ :‬يقول مولانا الأكرم‪: ‬وَّ قُلِ اعْمَّلُوا فَّسَّيَّرَّى الَّلّهُ عَّمَّلَّ ُكمْ و َّ‬
‫َّرسُوُلهُ وَّالْمُؤْمِنُونَّ وَّسَّتُرَّدُّونَّ‬
‫ُون[ ‪‬التوبة ‪ : 105]..‬والمأمور به في الشريعة ليس حدّ العمل فحسْب؛ بل إتقانه‬
‫إِلَّى عَّالِ ِم الْغَّيْبِ وَّالشَّّهَّادَّةِ فَّيُنَّبِّئُكُ ْم بِمَّا كُنْتُمْ َّتعْمَّل َّ‬
‫َّحدُكُ ْم عَّمَّلَّا أَّنْ يُتْقِ َّنهُ» وفي الإسلام ما يدلِّل على هجران الكسل‬
‫الله يُحِبُّ ِإذَّا عَّمِلَّ أ َّ‬
‫ن َّ‬ ‫وإتمامه على وجهٍ حسَّنٍ؛ ففي الحديث‪ « :‬إِ َّّ‬
‫ل‬
‫والبطالة‪ ،‬فعند البخاري في الصحيح عَّنْ أَّبِي عُبَّ ْيدٍ‪ ،‬مَّوْلَّى عَّ ْبدِ الرَّّحْمَّنِ بْنِ عَّ ْوفٍ‪ ،‬أََّّّنهُ سَّ ِمعَّ أَّبَّا هُرَّيْرَّةَّ َّرضِيَّ الَّّلهُ عَّ ْنهُ‪ ،‬يَّقُولُ‪ :‬قَّالَّ َّرسُو ُ‬
‫َّحدًا‪ ،‬فَّيُعْطِ َّيهُ أَّوْ يَّمْنَّ َّعهُ»‪ ..‬فنريد هجرة‬
‫َّحدُكُمْ حُزْ َّمةً عَّلَّى ظَّهْ ِرهِ‪ ،‬خَّيْرٌ َّلهُ مِنْ أَّنْ َّيسْأَّلَّ أ َّ‬
‫َّسلَّّمَّ‪« :‬لَّأَّنْ يَّحْتَّطِبَّ أ َّ‬
‫صلَّّى اللهُ َّعلَّ ْيهِ و َّ‬
‫الَّلّهِ َّ‬
‫حقيقية نحو العمل وجدية الإنتاج والبذل؛ دينيًّا وعرفيا ووطنيًّا‪..‬‬

‫وأسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأحوال بلادنا‪ ،‬وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن‪،‬‬

‫وأن يعصمنا من كل سوء وبلاء‪...‬‬

You might also like