المقدمة :يمكن الحديث عن أنواع مختلفة من الحجاج وفق منطق التطور التاريخي، ويمكن حصرها في حجاج التأثير (حجاج الباتوس) ،وحجاج اإلقناع ،وحجاج المغالطة ،وحجاج الجدل ،وحجاج االقتناع ،وحجاج اللغة ،وحجاج السؤال ،وحجاج األسلوب ،وحجاج الخطاب ،وحجاج التداول ،وحجاج المنطق الطبيعي ،وحجاج الصورة البصرية.ومن هنا ،سنتوقف ،في موضوعنا هذا ،عند حجاج المغالطة ،أو حجاج التغليط ،أو الحجاج المغالطي ،أو الحجاج السفسطائي. إذا ً ما الحجاج المغالطي؟ وما سياقه التاريخي والتداولي؟ وما مقوماته الحجاجية؟ وما أهم آلياته االستداللية؟ هذا ما سوف نتعرف إليه في المباحث التالية: المبحث األول :مفهوم حجاج المغالطة من المعروف أن الغلط صفة طبيعية في اإلنسان ،مادامت مرتبطة بالنسيان والسهو والخطأ.لكن أن يتعمد اإلنسان هذا الغلط في مواجهة اآلخرين ومحاججتهم ،فهذا ما يسمى بحجاج المغالطة ،أو حجاج التغليط ،أو الحجاج المغالطي .ويعني هذا أن المتكلم يستعمل حججا مغلوطة ،أو يوظف خطابا مليئا بالمغالطات من أجل دفع المتلقي أو السامع أو المخاطب إلى االقتناع ،أو تغيير سلوكه تجاه المتكلم المتلفظ .وهذا ما نجده، اليوم ،عند أغلب المحامين والسياسيين والخطباء والشكاك الذين يستعملون أدلة وسفسطات واهية غير مقنعة ،واستخدام براهين وحجج مغلوطة من أجل االنتصار على الخصم أو إفحامه أو مواجهته لتحقيق مصلحة معينة .ولهذا ،فلقد كان المنهج المغالطي ينطلق من مقدمات خاطئة ،ويصل إلى نتائج خاطئة. ويفهم من هذا أن الحجاج المغالطي هو أن يقصد المتكلم" إلى هذه األغالط قصدا، صارت مغالطات يهدف من ورائها إلى إقناع المتلقي برأي ما ،أو دفعه إلى تغيير سلوك معين با حتجاج مغالط ،أو بالعبارة األرسطية بسفسطات ،وحد السفسطة أنها استدالل صحيح في الظاهر معتل في الحقيقة ،إما لفساد في المضمون أو في الصورة]1[". وقد حدد أرسطو خمسة مقاصد رئيسة للحجاج المغالطي"،إما تبكيت المخاطب ،وإما أن يلزمه شنعة وأمرا هو في المشهور كاذب ،وإما أن يشككه ،وإما أن يصيره بحيث يأتي بكالم مستحيل المفهوم ،وإما أن يصيره إلى أن يأتي بهذر من القول يلزم عنه مستحيل في المفهوم بحسب الظن]2[". ويعني هذا أن المحاج السفسطائي يدور حول أمور خمسة رئيسة هي: -1إلزام المخاطب أمرا شنيعا معلوما كذبه؛ -2االعتراض على المخاطب؛ -3تشكيك المخاطب فيما لديه من دعاوى وأفكار وقضايا؛ -4جعل المخاطب يدلي بكالم يصعب فهمه ،ويستحيل استيعابه؛ -5دفع المخاطب إلى اإلدالء بالقول الهذر. ويعني هذا أن المغالطة السفسطائية عبارة عن استدالل صحيح في الظاهر .بيد أنه معتل في الحقيقة.أي ":إن المغالطة نوع من العمليات االستداللية التي يقوم بها المتكلم، وتكون منطوية على فساد في المضمون أو الصورة إما بقصد أو دون قصد[".]3 ومن هنا ،يهدف حجاج المغالطة إلى تغليط اآلخر بمجموعة من الحجج واألدلة والبراهين والسفسطات التي تبدو أنها صحيحة ويقينية على مستوى االستدالل الظاهري ،لكنها واهية ومضللة وباطلة على مستوى الفحص والتأمل واالستقراء من جهة ،وعلى مستوى تقويم المنطلقات الفكرية والمنطقية من جهة أخرى. وتعد الحوارات والخطابات السياسية أكثر الخطابات التي تقوم على الحجاج المغالطي.وفي هذا ،يقول الباحث المغربي عبد العلي قادا ":ولعل الخطاب السياسي من أكثر أنواع الخطابات اعتمادا على المغالطات ،نظرا إلى طبيعته النفعية التي تروم تحقيق المكاسب ،وتعول في الغالب على تغيير السلوكيات والمواقف بغض النظر عن تأسيس قناعات حقيقية لدى المتلقين.ونحن إذ نروم في هذا المطلب الكشف عن بعض أ ساليب المغالطة أو السفسطات في الخطاب السياسي األندلسي خالل القرن الهجري الخامس من خالل الرسائل المتداولة في المجتمع األندلسي آنذاك ،فإننا النقصد التقييم الخلقي لهذا الخطاب؛ ألن التمييز بين الغلط والمغالطة يرجع إلى النيات ،ونحن النحاكم النبات ،وإنما نسعى إلى التنبيه إلى ما اعتور ذلك الخطاب السياسي عفوا أو قصدا من مغالطات[".]4 ومن هنا ،يتضح لنا أن الخطب السياسية من جهة أولى ،والمحاورات من جهة ثانية، ومرافعات المحامين من جهة ثالثة ،تلتجىء إلى المناورة والسفسطة وتغليط السامع المتلقي من أجل الظفر بالمنافع التي يهدف إليها المحاج أو وكيل المحاج.أي :يروم الحصول على المكاسب المادية والمعنوية بتوظيف الحجج النافعة ،أو االستعانة بالحجج البراجماتية . المبحث الثاني :السياق التاريخي لقد ارتبط حجاج التغليط أو المغالطة أو الحجاج المغالطي بالفالسفة السوفسطائيين بوجه خاص .ويعني السوفسطائي ( )Un Sophisteالمتخصص في المعرفة ،أو الرجل الحكيم ،أو الفيلسوف الخبير ،أو األستاذ المقتدر ،أو الخطيب المفوه ،أو المعلم المحنك في الجدل ،أو الفصيح البليغ على غرار الفيلسوف الذي يعني محب الحكمة. بيد أن مصطلح السفسطائي مفهوم قدحي بامتياز ،أطلقه أفالطون ،كما هو مثبت في محاوراته ،على الفيلسوف المراوغ الذي يأخذ أجرا على حكمته ،أو يطلق على ذلك الشخص الذي انحرف بالفلسفة ،فجعلها وسيلة لالرتزاق ،أو ذلك المدعي الذي حاربه سقراط باستدالالته العقلية .ولقد أطلق كسينوفان ) ]5[(Xénophonهذا المصطلح أيضا على الفيتاغوريين[.]6 ونجد هذا المصطلح نفسه عند أرسطو الذي تحدث عن المقاييس المنطقية في كتابه (تفنيدات السفسطائيين]7[ )Les Réfutations sophistiques /؛ حيث أشار ،في كتابه المنطقي (األرغانون) ،إلى المقاييس المنطقية السليمة والمنسجمة ،والمقاييس غير السليمة كالمقياس أو االستدالل الصوفي المغالطي. و" قديما ارتبطت هذه التسمية بتلك الحركة الفكرية واالجتاعية التي نشأت وترعرت في اليونان القديمة حالل القرن الخامس قبل الميالد ،والتي رفعت شعار" اإلنسان مقياس كل شيء" ،فتنكرت لكل القيم الموضوعية والمعايير الثابتة ،سواء في أمور الفكر واالعتقاد أو السلوك واألخالق ،فكان دعاة هذه الحركة يخاطبون الناس قائلين : إن الحقيقة ما يراه الفرد حقيقة ،والفضيلة ما يبدو له فضيلة ،وهكذا بالنسبة لكل األمور. وقد انتهى بهم هذا المذهب إلى التأكيد على أن اللجوء إلى الحيل الخطابية واألالعيب القولية أمر مشروع ،إذا كانت نتيجته في نهاية المطاف تحقيق مصلحة شخصية راجحة ،وقد برعوا براعة كبيرة في توظيف األساليب البالغية والخطابية ،ومهروا في إبداع التقنيات اللغوية المفيدة في كسب تأييد الجمهور ،وحشد المناصرين في المعارك السياسية التي كانت أثينا مسرحا لها على عهد نظامها الديمقراطي الفريد .وقد تمكن السفسطائيون من إقناع صفوة المجتمع آنذاك بضرورة تلقي دروس في هذا المجال ،إن كانوا يرغبون في امتالك أسباب السلطان ،مادام ذلك اليحصل بغير سطوة اللسان ،فكانوا يحققون من وراء ذلك أرباحا طائلة ،والزال الباحثون إلى اليوم يعترفون للسفسطائيين بالدور الكبير في تطوير الخطابة والبالغة ويعدونهم أساتذتها المبرزين[]9[".]8 ولم يكن السفوسطائيون يسعون فقط إلى الدفاع عن الحقيقة ،والعدالة ،والقيم ،والمعرفة الحقة ؛ بل كان همهم الوحيد هو التوسل باالستدالل اإلقناعي المغالطي قصد تحقيق األرباح المادية والمعنوية ،وخدمة المصلحة الشخصية الضيقة؛ وهذا ما جعل سقراط يثور عليهم باسم العقل والمعرفة الفلسفية اليقينية. والغريب أن هناك من يدافع عنهم ،على أساس أنهم رجال تربية متميزون من جهة أولى ،ومفكرون إنسانيون مناضلون من جهة ثانية ،ويعتبرون أيضا من رواد البالغة والخطابة من جهة ثالثة ،ويعدون كذلك مصدر فلسفة التنوير ومابعد الحداثة الغربية من جهة رابعة[.]10 إذاً ،لقد ظهرت السفسطائية في القرن الخامس قبل الميالد[]11؛ عصر سقراط المعروف بالفلسفة والخطابة والبالغة ،بعدما أن انتقل المجتمع األثيني من طابع زراعي إقطاعي مرتبط بالقبيلة ،إلى مجتمع تجاري يهتم بتطوير الصناعات ،وتنمية الحرف ،واالعتماد على الكفاءة الفردية والمبادرة الحرة[ .]12ولقد أصبح المجتمع، في ظل صعود هذه الطبقة االجتماعية الجديدة (رجال التجارة وأرباب الصناعات)، مجتمعا ديمقراطيا يستند إلى حرية التعبير ،واالحتكام إلى المجالس االنتخابية، والتصويت باألغلبية[ .]13ولم يعد هناك ما يسمى بالحكم الوراثي ،أو ما يسمى كذلك بالتفو يض اإللهي ،بل كل مواطن حر له الحق في الوصول إلى أعلى مراتب السلطة. لذلك ،سارع أبناء األغنياء إلى تعلم فن الخطابة والجدل السياسي إلفحام خصومهم السياسيين .وفي هذا الظرف التاريخي والسياسي ،ظهر السفسطائيون ليسلحوا هؤالء بآليات الجدل والخطابة[ ،]14واستعمال بالغة الكلمة في المرافعات والمناظرات الحجاجية والخطابية .وقد ترتب على ذلك أن تحولت الفلسفة إلى وسيلة لكسب األرباح المادية ،والسيما أن أغلب المتعلمين من طبقة األغنياء .وأكثر من هذا لم يعد التعليم سريا أو مقتصرا على طبقة اجتماعية معينة ،كطبقة الفالسفة ،وطبقة الحكام ،وطبقة النبالء ،كما كان يحدث في الفترة السابقة ،بل أصبح التعليم عموميا وشعبيا مقابل أجر يدفع للمدرس أو األستاذ ،وهذا ما كان يفعله السوفسطائيون. ومن جهة أخرى ،يمكن الحديث عن ثالث مراحل بارزة في تطور السفسطائيين: -1المرحلة السفسطائية األولى :هي التي ترتبط بالسفسطائيين األوائل الذين عاشوا في أهم ومن الميالد. قبل الخامس القرن (،)Calliclès فالسفتهاالسوفسطائيين[]15جورجياس(،)Gorgiasوكاليكليس (،)Prodicosوأنتيفون وبروديكوس (،)Protagoras وبروتاغوراس (،)Antiphonوثراسماك ( ،)Thrasymaqueوهيبياس اإليلي (Hippias )]16[...d'Élis -2المرحلة السفسطائية الثانية[ :]17ترتبط هذه المرحلة بالقرن الثاني قبل الميالد[ ،]18وتقترن بعلماء البالغة [ ]19الذين يعلمون طلبتهم علم البالغة والخطابة وتجنيس الخطابات[.]20 -3المرحلة السفسطائية الثالثة :هي مرحلة القرنين الخامس والرابع قبل الميالد ،وقد ارتبطت بمجموعة من البيروقراطيين ورجال الدين[ ،]21أمثال :هيميريوس ( ،)Himériosوتيمستيوس ( ،)Thémistiosوكوريسيوس ( Choricios de )Gazaمن مدينة غزة[.]22 المبحث الثالث :محاور الفكر السفسطائي لقد اهتم السوفسطائيون بالسياسة ،والقانون ،والقضاء ،والنحو ،واللغة ،والفلسفة، والخطابة ،والبالغة ،والمنطق[...]23لذا ،يغلب الطابع الموسوعي على إنتاجهم المتنوع .ويمكن تحديد منطلقاتهم الفكرية وفق علم تاريخ األفكار فيما يلي: -1عدم االعتراف بالحقيقة اليقينية المطلقة بدليل أنها نسبية؛ -2الميل نحو التحليل الواقعي للظروف ،واألحداث ،والوضعيات ،والخصائص، واألمكنة؛ -3دراسة مختلف المجاالت الكونية والفيزيائية والعلمية وفق مقاربة براجماتية منفعية فينومينولوجية ظاهراتية ،برفض كل التصورات الميتافيزيقية والميتولوجية، متسائلين :فيماذا ينفع هذا؟ وكيف أستخدم هذا؟ -4عدم دراسة اللغة في حد ذاتها ولذاتها ،بل على أساس أنها وسيلة لإلقناع ليس إال. -5استعمال المترادفات في معناها الضيق على أساس أن لكل مفهوم معنى واحدا يدل عليه؛ -6االهتمام بالخطابة والبالغة والتربية؛ -7االبتعاد عن االنشغاالت الميتافيزيقية ،واالرتباط بالواقع المجتمعي والسياسي واالقتصادي والتربوي. إذاً ،لقد آمن التيار السفسطائي بالنسبية ،والشك ،والالتمذهب ،والتالعب اللفظي، وتضييع الحقيقة ،وعدم االعتراف بها؛ مما أدى بسقراط إلى القول بأن الحقيقة اليمكن الوصول إليها بالظن والشك والفكر السفسطائي المغالطي ،بل نصل إليها بالعقل والحوار الجدلي التوليدي ،واستخدام العقل واللوغوس والمنطق[.]24 ولم يكن السوفسطائيون يهتمون بالمتافيزيقا كثيرا ،فما كان يهمهم هو مشاكل أثينا السياسية واالقتصادية والمجتمعية؛ ألن العالم الطبيعي أكثر انتظاما واتساقا وانسجاما، على عكس الواقع اليوناني الذي كان يعيش الفوضى واالضطراب والصراع حول السلطة ،والتأهب الدائم لمواجهة اعتداءات الفرس .لذا ،أنزل السوفسطائيون الفلسفة من السماء إلى األرض على غرار سقراط ،فاهتموا بأمور السياسة ،والعدالة ،والدين، واألخالق ،والمجتمع ...وفي هذا الصدد ،تقول أميرة حلمي مطر ":إن فلسفة السفسطا يين إنما تعد حلقة اتصال في غاية األهمية بالنسبة لتاريخ الفلسفة اليونانية، ذلك ألنهم قد نقلوا مشكلة البحث من عالم الطبيعة إلى عالم األخالق والسياسة ،فكانوا أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى األرض على نحو ما فعل معاصرهم سقراط، كذلك جاءت فلسفتهم تعكس المضمون الجديد لالتجاهات السياسية واالجتماعية الجديدة ،فكانت أقرب ما تكون إلى فلسفة التنوير التي سادت القرن الثامن عشر في فرنسا ،وبخاصة مع فولتير وديدرو وروسو ،وذلك عقب الثورة الصناعية التي تمت في أوربا [".]25 ولم يبق لنا من مؤلفات السوفسطائيين سوى شذرات ونتف مقطعة هنا وهناك[.]26 فضال عما تركه الفيلسوف أفالطون من محاورات ساخرة حول السوفسطائيين في كتابه (الجمهورية)[.]27 ومن هنا ،يعد بروتوغوراس(480-410ق.م) من أهم الفالسفة السوفسطائيين الذين اهتموا بالقانون ،وقد كتب مؤلفا عنوانه (الحقيقة) ،وقد اتهم بالشك واإللحاد ،وأحرقت كتبه حينما قال شذرته المعروفة ":ال أستطيع أن أعلم إن كان اآللهة موجودين أم غير موجودين ،فإن أمورا كثيرة تحول بيني وبين هذا العلم ،أخصها غموض المسألة، وقصر الحياة "[ .] 28وقال أيضا" :إن اإلنسان مقياس األشياء جميعا ".هو مقياس وجود ما يوجد منا ،ومقياس الوجود ماال يوجد]29[". وكان بروتاغوراس يمارس التعليم ،ويحصر تلمذة المتعلم في" معرفة النصيحة الصائبة فيما يخص األمور الخاصة به .أي :كيف يدبر أموره المنزلية ،وفيما يخص األمور المدنية ،أي كيف يصير أعظم ما يكون قدرة على العمل والكالم في معالجة أمور المدينة والدولة]30[". ويعد جورجياس (480-475ق.م) أيضا من أهم الفالسفة الذين ينتمون إلى المذهب السوفسطائي .فلقد اختص بتدريس البالغة والخطابة البيانية .كما اشتغل بالطبيعيات، واللغة ،والجدل ،والحجاج .وألف كتابا عنوانه( في الالوجود) ،يرتكز على ثالث قضايا أساسية هي :أوال ،اليوجد شيء .وثانيا ،وإذا كان هناك شيء ،فاإلنسان قاصر عن إدراكه .وثالثا ،إذا فرضنا أن إنسانا أدركه ،فلن يستطيع أن يوصله إلى غيره من الناس. وكان هدف جورجياس هو تكوين السياسيين والخطباء والبالغيين من أجل الظفر بالمناصب العليا في الدولة.وفي هذا ،يقول جورجياس ":إنني أتحدث عن القدرة على إقناع القضاة في المحاكم وأعضاء المجلس في مجلس المدينة ،ومجموع المواطنين في مجلس الشعب ،بفضل الخطب ،باختصار ،القدرة على اإلقناع في أي جمع للمواطنين كيفما كان[".]31 وقد كدس جورجياس أمواال طائلة بفضل تعليمه المأجور.وفي هذا ،يقول سقراط": بالفعل ،فجورجياس السفسطائي الليونتيني الذائع الصيت ،أتى إلى هنا منتدبا من مدينته ،بصفته األقدر ،من بين اليونتينيين ،على التفاوض في قضايا الدولة ،وحاز مجدا أثيال لدى الجمهور بخطابته ،وعلى الصعيد الخاص ،كنز واستولى على أموال طائلة من هذه المدينة ،بتقديمه دروسا وبمحاورة الشباب"[ .]32وينطبق الشيء نفسه على بروتاغوراس وأفروديقوس على حد سواء. وعليه ،فلقد كانت الفلسفة السوفسطائية نقدا تحليليا للفلسفة الميتافزيقية الكونية والطبيعية ،ولم يتخذ فالسفتها مذهبا أو اتجاها فلسفيا معينا .ومن ثم ،فلقد كانت تؤمن بالوجود اإلنساني بدل االهتمام بالوجود الفيزيائي الطبيعي ،أو االنشغال بالوجود الميتافيزيقي ،فاإلنسان هو مقياس كل األشياء .ولم ينظر السوسفسطائيون إلى الخطابة باعتبارها جدال بل اعتبروها علما معرفيا حقيقيا ،تعتمد على المهارة والبراعة واإلتقان والحرفية.ولقد أصبحت البالغة عند السفسطائيين لها القدرة على تثبيت القول الواحد، وتأييد نقيضه في الوقت نفسه ،ومعارضة المذاهب الفلسفية بعضها ببعض[.]33 ومن هنا ،فلقد " ورث الفكر اليوناني عن هذه الحركة النقدية للسفسطة عداء متأصال لم يقف عند حدود السفسطة ،بل امتدت بعض آثاره إلى كل مظاهر الخطابة والبالغة، أي :مجمل الفكر المؤسس على التقنيات اللغوية ،مقابل تمجيد الطرائق البرهانية الخالصة المبنية على قواعد العقل وأصول المنطق.وقد انعكس هذا العداء في مجمل الفكر الذي تفاعل مع التراث اليوناني كما هو الشأن في قطاعات كبيرة من الفلسفة اإلسالمية والفلسفة الغربية الوسطوية والحديثة وجزء غير يسير من المعاصرة.ونجد بقايا من هذه النظرة القدحية مبثوثة في نصوص الفالسفة والمفكرين الذين تعاقبوا على امتداد هذه الحقبة ،بل إن آثار هذه النظرة التزال قائمة إلى اليوم لدى عامة الناس الذين يتوجسون من شخصية الخطيب[ ،]34وينظرون إلى الخطبة كنوع من الكالم األجوف الذي يكاد يخلو من المصداقية الواقعية]35[". و ثمة إشارات منطقية أخرى عند السفسطائيين ،والسيما عند جورجياس الذي أنكر األنطولوجيا الممكنة في كتابه (المختصر في عدم وجود الذاتTraité du non-/ .)êtreومن ثم ،فلقد رفض الحقيقة المادية للمنطق مستبدال إياها بالمنطق الذاتي للغة. ويعني هذا أن الجدل السفسطائي يقوم " على أساس التالعب اللغوي بمدلول األلفاظ.ولم يكن هم السفسطائيين البحث عن الحقيقة لذاتها ،وإنما كانوا يتوسلون النجاح والمنفعة في حياتهم العملية ،فاستعملوا الخطابة كوسيلة لإلقناع والتأثير في سامعيهم ،على اعتبار أن الخطابة تعتمد على زخرف القول واأللفاظ البراقة أكثر من اعتمادها على العقل وحججه المنطقية.وكانوا يرون أن اإلنسان هو مقياس كل شيء ،فمايراه حقا فهو حق ،ومايراه باطال فهو باطل]36[". ونفهم من هذا كله أن السوفسطائيين قد أنكروا مبادىء الميتافيزيقا ،فاهتموا بظواهر األشياء ،وأعطوا أهمية كبرى للبالغة والخطابة والجدل ،وتعليم الناس مقابل أجر مادي إلشباع رغباتهم المادية والمعنوية. المبحث الرابع :تقويم حجاج التغليط تتمثل إيجابيات السوفسطائيين في كونهم رجال علم وتعليم وسياسة وخطابة وبالغة، ينتقلون من مدينة إلى أخرى ،وقد أسدوا خدمات جلى إلى البالغة من جهة ،والخطابة من جهة أخرى.وفي هذا اإلطار ،يقول هنري مارو ( ":)Marrouإن المشكل الذي سعى السفسطائيون في حله ونجحوا فيه هو ،على العموم ،تكوين رجل السياسة ،لقد كان الم شكل األكثر استعجاال في عصرهم .فبعد أزمة حكم الطغاة في القرن السادس، بدأنا نرى حياة سياسية شديدة الحدة تحرك أغلب المدن اليونانية ،وخاصة أثينا الديمقراطية :لقد أضحت ممارسة السلطة وتسيير الشأن العام الشغل الشاغل والنشاط األكثر نبال واألكثر تقديرا عند اإلنسان اليوناني ،كما صار الهدف األسمى الذي يحرك طموحه...وقد جعل السفسطائيون تعليمهم في خدمة هذا المثل األعلى الجديد للفضيلة السياسية :إعداد الذهن لمهنة رجل الدولة ،وتكوين شخصية زعيم المستقبل ،ذلك كان برنامجهم]37[". ويعني هذا أن السفسطائيين كانوا واقعيين ،وليسوا مثاليين كسقراط وأفالطون ،يعرفون واقعهم بشكل جيد.لذلك ،ابتعدوا عن األمور الميتافيزيقية ،فاهتموا بعلوم الظواهر، واحتكوا بمجتمعهم بشكل عضوي ،وربطوا تدريس العلم بالمقابل المادي ،وهذا هو عين الواقعية البراجماتية ،واهتموا بأمور السياسة من أجل تدبير أمور الدولة .ويعني هذا أنهم كانوا يصدرون عن منطق عملي مستقبلي منفعي صرف .وفي هذا ،تقول جاكلين دوروميلي( ":).De Romilly Jفكون بعض المعارف الفكرية قابلة ألن تبلغ وأنها ذات نفع مباشر ،فإن كانوا يتقاضون أجرا فألنهم كانوا يبلغون علما بشكل احترافي]38[". وكان تعليم السفسطائيين خاضعا لسوق العرض والطلب.وفي هذا السياق ،يقول أوكتاف نافار( ":)Navarre .Oفي غياب دواع أكثر نبال ،هناك دافع عملي ،كان سيقود السفسطائيين حتما لقصر أغنياء نبالء ،طموحهم المعلن أن يضطلعوا يوما بدور سياسي ،فما كان هؤالء يأتون سعيا وراءه ،في مدرسة السفسطائيين ،هو األداة الضرورية لممارسة التاثير السياسي .أي :الخطابة]39[". واهتم السفسطائيون كذلك بمجال التربية والتعليم .وفي هذا ،يقول هنري مارو ":بسبب التنوع والغموض الذي يطبع أفكارهم ،فإن هذه األفكار كانت منفلتة لكي يسوغ ربطها بمدرسة معينة بالمعنى الفلسفي للكلمة :فليس من قاسم مشترك يجمعهم سوى مهنة التعليم]40[". ومن إيجابياتهم أيضا أنهم " كانوا باختصار معلمين للخطابة ،وفي الوقت نفسه فالسفة بالمعنى القوي لهذه الكلمة ،وكانت مذاهبهم تحرر العقول وتحفزها ،وتشق لها طرقا غير معبدة .إن هؤالء الفالسفة الجدد -وينبغي عدم خلطهم بفالسفتنا -باشروا بذلك ثورة ثقافية وأخالقية حقيقية"[.]41 ومن جهة أخرى ،كانت نظرة معظم المفكرين إلى السفسطائيين نظرة سلبية قاتمة في عمومها ،على أساس أن هؤالء قد وظفوا العلم في غير موضعه الحقيقي ،وربطوه بمقابل مالي ومادي.وفي هذا ،تقول باربرا كاسان ( ":)B.Cassinمن مجموع محاورات أفالطون تنبثق الصورة التي ستصبح منذئذ سائدة عن السفسطائية.إنها فاقدة لالعتبار على جميع األصعدة والمستويات.فعلى صعيد مبحث الوجودية ،اليهتم والعرض .وفي المنطق اليبحث عن الحقيقة أوَ السفسطائي بالوجود ،بل يلجأ إلى العدم الصرامة الجدلية ،بل عن الرأي والترابط المنطقي الظاهري واإلقناع والغلبة في المقارعات الخطابية فقط .وفي علم األخالق والتربية والسياسة اليضع نصب عينيه الحكمة والفضيلة ،سواء بالنسبة للفرد أو للمدينة ،بل يسعى للسلطة الشخصية والمال.وهو فاقد لالعتبار حتى على صعيد األدب ،مادامت الوجوه البالغية المستعملة في أسلوبه ليست سوى تصنع فارغ معرفيا]42[". ويقول أفالطون عن هؤالء السفسطائيين الذين يعلمون مقابل أجر مرتفع على لسان سقراط الساخر ،والسيما في محاورته المسماة بـ(دفاع سقراط) ":ذلك ليس ألنني ال أعتبر القدرة على تعليم الناس أمرا جميال ،كما يفعل جورجياس الليونتيني وأفروديقوس الخيوسي وهيباس اإللياني.فهؤالء األشخاص المرموقون كانوا يجتذبون الشباب الذين بإمكانهم ،بدون أي نفقة ،أن يرتبطوا بهذا أو ذاك من مواطنيهم الذين يمكنهم االختيار فيما بينهم.إنهم يعرفون كيف يقنعونهم بترك بني وطنهم والمجيء إليهم :فيدفعون لهم أجرا عاليا ،ويعترفون لهم ،فوق ذلك ،بالفضل العظيم]43[". ومن هنا ،كانت صورة السفسطائيين دائما سلبية عند أعدائهم ،وتتمثل في كونهم خاطئين ومغلوبين على أمرهم ،وبعيدين عن الحقيقة اليقينية المطلقة .ومن ثم ،يظهر السفسطائيون -حسب جيلبير ديربي (« - )G.Dherbeyفي وضع المغلوبين دوما ومسبقا ،فهم ليسوا موجودين إال ليكونوا على خطأ"]44[. ومن السلبيات األخرى التي ترتبط بالسفوسطائيين أن مجمل أفكارهم قد ضاعت ،ولم تبق من آثارهم سوى شذرات ونتف وفقرات ومقاطع منثورة هنا وهناك ،بمعزل عن سياقها الفكري والمجتمعي والتداولي ؛ وهذا ما حدا بجاكلين دي روميلي ( De )Romilly .Jإلى القول ":فكل مقتطفات سفسطائيينا التتجاوز ،إذا جمعنا بعضها إلى بعض ،عشرين صفحة[".]45 وأكثر من هذا التشكل السفسطائية ،في الحقيقة " ،مذهبا أو مدرسة فكرية قائمة الذات، بل هي اسم يطلق على طائفة من الفكرين عاشوا في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميالد ،تعددت مشاربهم واهتماماتهم ،ولم يكن يجمع بينهم ،كما يقول ديربي جلبير ،سوى لحظة تاريخية ووضع اجتماعي[".]46 ومن ثم ،فلقد تعرض الحجاج المغالطي عند السوفسطائيين النتقادات عنيفة ووجيهة وسديدة من ثالثة فالسفة كبار هم :سقراط ،وأفالطون ،وأرسطو. ويعد سقراط أول فيلسوف يواجه الحجاج السفسطائي ،فلقد واجههم بالجدل المفاهيمي، واستخدام الحوار التهكمي ،باالعتماد على البيان والنقد التوليدي؛ إذ توصل إلى أن السوفسطائيين يتالعبون بمعاني األلفاظ .ومن هنا ،فللحقيقة -حسب سقراط -قيمة فكرية وعلمية ومعرفية .لذا ،يرد عند أفالطون ،في (محاورة جورجياس) على لسان سقراط ،أن الحقيقة اليقينية هي التي نعتمد فيها على الحوار العقالني البناء والجدل المنطقي والمناظرة الحجاجية الهادفة ،دون اللجوء إلى استخدام األكاذيب ،وبالغة المغالطة ،وسفسطة الشك والمراوغة [ .]47ويعني هذا أن الحقيقة يجب أن تكون موضوعية ،تقال لذاتها ،وتتسم بالحرية والنـزاهة والحياد واالستقاللية عند إبداء المواقف واآلراء والمعتقدات ،دون إكراه ،أو ضغط ،أو جبر. أما أفالطون ،فلقد حاربهم وفق منطق جدلي متميز ،باستعمال الجدل الصاعد والجدل النازل ،والتمييز بين عالم محسوس زائف ،وعالم معقول ثابت ،وقد اعتبرهم حبيسي العالم الحسي المتغير ،وهم غير قادرين عن التجرد لالطالع على ثوابت عالم المثل. وفيما يخص أرسطو ،فلقد تسلح بالمنطق المعياري بغية إفحام الخصوم من السوفسطائيين الذين كانوا يعتمدون على المنهج المغالطي الذي ينطلق من مقدمات خاطئة للوصول إلى نتائج خاطئة ،وكانوا يشككون الناس في معارفهم بصفة خاصة، والمعرفة اإلنسانية بصفة عامة؛ إذ كانوا ينكرون الحقيقة ،ويقولون باستحالة المعرفة، وصعوبة بناء حقائقها .لذلك ،أسسوا منهجا شكيا في الفلسفة مع جورجياس وبروتاغوراس... بيد أن أرسطو هو الوحيد الذي حارب السوفسطائيين بمقاييس المنطق ،وقواعد الفكر، ومبادئه السليمة ،بالتوقف عند أخطائهم وتناقضاتهم وأغالطهم المنطقية.وقد اكتشف أغالطهم على مستوى األلفاظ والمعاني ،مادام السفسطائي يلتجىء إلى اللعب على اللفظ المشترك الدال على المعنى ونقيضه ،واللعب باإلحالة والتقديم والتأخير ،واللعب على اإلسناد تفريدا وتركيبا ،واللعب على إعجام األلفاظ وشكلها ،والتالعب كذلك بقسمة األلفاظ. بيد أن هناك دراسات حديثة ومعاصرة قد دافعت عن الحجاج السفسطائي ،وحاولت أن تستفيد من إيجابياته ،والعمل على تجديده وتطويره في إطار حوار تداولي معاصر. وفي هذا ،يقول رشيد الراضي ":والتزال هذه النصوص التراثية [السفسطائية]تحتفظ بقدر كبير من أهميتها حتى في عصرنا هذا ،بل إن أهميتها تنكشف يوما عن يوم مع االنتشار الهائل لمظاهر الممارسة الحجاجية في ظل عالم أصبحت سمته هي التواصل، وخصوصا في صورته الحجاجية.وهذا ما يفسر عودة الباحثين المعاصرين في قضايا الحجاج والخطابة إلى كتب القدماء في هذا الباب ،محاولين استخراج ما تزخر به من درر ،وإعادة صياغتها بشكل تصير معه قابلية لإلسهام في تطوير الممارسة الحوارية المعاصرة ،وتجنبها السقوط في مظاهر العبث والمشاغبة السفسطائية التي تضر بالعلم وتفسد العمل.وللوقوف على هذه الحقيقة يمكن على سبيل المثال الرجوع إلى الكتاب الشهير لهامبلين ( )Hamblinالمعنون بـ ( السفسطات ،]48[)Fallacies/وكذلك الوصف الدقيق الذي قام به كل من إيمرن وروب خروتندورست الهولنديين في مقالهما الشهير ( السفسطات من منظور تداولي جدلي)[ ،]49وأبحاث دوغالس والتون في نخبة من كتبه ومقاالته[ ،]50وآخرون قد أعادوا إحياء درس السفسطة القديم في إطار المتطلبات النظرية والعملية المعاصرة]51[". ويعني هذا كله أن هناك من قدح في المنهج السفسطائي التغليطي بالتوقف عن السلبيات فقط .وهناك من دافع عن منهجهم بتنقيحه وتطويره وتصويبه من أجل توظيفه في مجاالت المحاورة ،والمناظرة ،والمساجلة ،والجدال ،والحوار اإلعالمي والتواصلي... المبحث الخامس :حجج المقياس المغالطي يستند الحجاج المغالطي إلى مجموعة من التقنيات واآلليات اإلستراتيجية كالتناقض،والمفارقة ،وغياب األدلة والشواهد والحجج المقنعة ،والمغالطة بالتجهيل، وسفسطة عبء التدليل ،والدعوى الخاطئة ،والتشكيك ،والكذب ،والتنصل من قول الحقيقة ،وسفسطة المصادرة على المطلوب ،وسفسطات التجريح (عورات العارض)، ورفض الدعوى المعروضة ،وسفسطات السلطة[ ]52والقوة[ ]53والجاه ،وتحوير الدعوى وتحريفها ،والسفسطات الجماهرية (االعتقادات العامة) ،وسفسطة التعميم المتسرع ،وسفسطة العاطفة ،وسفسطة التأويل ،إلخ... ولقد أحصى أرسطو ست مغالطات على مستوى اللفظ هي :االشتراك في اللفظ، واالشتراك في التركيب ،والتركيب ،والتقسيم ،واإلعجام ،وصيغة اللفظ.في حين ،هناك سبعة مغالطات على مستوى المعنى هي :المغالطات المتعلقة بالعرض ،واستعمال العبارة في معناها المطلق أو المقيد ،وعدم العلم بشروط التنفيذ ،وموضع الالحق، وموضع المصادرة على المطلوب ،وموضع جعل ما ليس بعلة علة ،وجمع مسألتين في مسألة واحدة[.]54 وسنستعرض ،اآلن ،أهم الححج التي اعتمد عليها السوفسطائيون في إفحام خصومهم، واستمالة الغير ،وتغليط اآلخر على النحو التالي: الحجة األولى :حجة تجريح الشخص تهدف هذه الحجة إلى تجريح الشخص المتكلم ،على أساس أن له عيبا يخدش شخصيته وأفكاره .ومن ثم ،ترفض الفكرة أو األطروحة المقدمة ال على أساس مضمون هذه الفكرة ،بل على أساس عيب الشخص ،وعلى أساس القدح والتجريح.ويشبه هذا ،بشكل من األشكال ،ما يسمى عند علماء الحديث بالتجريح والتعديل؛ حيث ينكرون حديث الراوي بسبب عيب من العيوب التي يتصف بها. الحجة الثانية :حجة أنت أيضا ترتبط هذه الحجة أيضا بحجة تجريح الشخص.ولكن هذا التجريح اليمس المتكلم فقط، بل يمس أيضا المخاطب ،على أساس تبادل التهم واألغاليط .كأن يفند المحاج فكرة محاوره ،ثم يواجهه بدوره بأنه هو أيضا قد دافع عن هذه الفكرة سابقا. الحجة الثالثة :حجة الخبير تحيل هذه الحجة على حجة العلم والسلطة والخبرة ،كأن يستهدي المحاج ،في دفاعه عن قضية ما ،أو تغليط السامع ،برأي خبير بارز لمراوغة الغير. الحجة الرابعة :حجة المآل تلتمس صدق الفكرة أو كذبها بالنظر إلى النتائج المترتبة عليها ،فإن كانت النتائج إيجابية ،كانت الفكرة مقبولة ،وإن كانت النتائج سلبية ،فالفكرة مرفوضة من األصل، وعدت كاذبة وغير صادقة. الحجة الخامسة :حجة العاطفة يلتجىء المحاج أيضا إلى استخدام العواطف ،واالستعانة بالباتوس الهووي الستمالة الغير وجذبه إليه. الحجة السادسة :حجة االسترحام: تس تدعي هذه الحجة الرحمة والشفقة إلقناع خصمه بصحة فكرته ووجاهتها ،وتقبل ظروفه الخاصة والعامة. الحجة السابعة :حجة السخرية يلتجىء المحاج ،في تغليط المخاطب ،إلى أساليب السخرية واالستهزاء بدل التوسل بالحجاج المنطقي السليم والمنسجم. الحجة الثامنة :حجة اإلغاظة يلت جىء المحاج أيضا ،قصد تغليط المخاطب ،إلى إثارة غيظ اآلخر وغضبه وحنقه قصد التأثير في موقفه من الدعوى. الحجة التاسعة :حجة العصا أو التخويف يلتجىء المحاج إلى آليات التخويف والترهيب ،واستعمال العنف المادي والرمزي من أجل التأثير في الغير وإفحامه ،ويسمى هذا بالتطرف الفكري. الحجة العاشرة :حجة رجل القش تهدف هذه الحجة إلى " تهوين الرأي الذي تتم محاورته ،بإعادة بنائه على نحو يصير من اليسير نقضه وبيان تهافته ،بحيث يكون من ينسب إليه هذا الرأي كرجل القش الذي يتهاوى بضربة واحدة توحي بأن منتقد الفكرة قد أقام الحجة على فسادها فعال .إن األمر يتعلق إذا بتحريف وتزييف يطال رأي الطرف الذي تتم محاورته قصد االقتدار على كسره بأيسر سبيل"]55[. ويعني هذا أن هذه الحجة تهدف إلى إفحام الخصم بضربة قاضية ،باستعمال منهج التغليط بشكل مباشر ،وتزييف الحقائق بعضها أو كلها. الحجة الحادية عشرة :حجة عبء التدليل يقصد بها التهرب من عبء التدليل؛ ألن تسفيه رأي المخاطب وتهوينه هو ،في الحقيقة، تهرب من مواجهة الرأي اآلخر بالحقيقة اليقينية ،واألدلة المقنعة .ويمكن تسميتها أيضا بحجة التهرب؛ ألن المحاج ليس له أدلة وبراهين لمواجهة الخصم. الحجة الثانية عشرة :حجة المصادرة على المطلوب ويقصد بها إدراج النتيجة في المقدمات" التي يلزم إقامة الدليل على صدقها ،وذلك حتى يتوهم المخاطب أن هذه النتيجة من المقدمات المسلمة ،وقد يتم هذا اإلدراج إما صراحة أو بصورة ضمنية... وواضح وجه السفسطة في هذا األسلوب ،فوضع النتيجة ضمن المقدمات اليعني بالضرورة أنها صادقة ما لم يقم الدليل على ذلك ،وإال سنكون كم يدور في حلقة مفرغة، بحيث إذا سأل المعترض عن األصل في صدق النتيجة ،يحال على المقدمات ،فيجد نفسه مرة أخرى أمام النتيجة نفسها المراد تأصيل صدقها ،ومن هنا كانت تسمية هذه السفسطة بالدور ،أما تسميتها بالمصادرة على المطلوب ،فألن المطلوب هنا هو النتيجة التي ينبغي إقامة الدليل على صدقها ،فبدل ذلك نصار عليها ونجعلها ضمن المقدمات[".]56 ويعني هذا أن هناك من السفسطائيين من يوهم المخاطب بصحة مقدماته في البداية على أنها من المسلمات اليقينية ،ولكنها زائفة وواهية اليمكن االعتماد عليها. الحجة الثالثة عشرة :حجة الحداثي يحاجج المتكلم الغير ،ويحاول إقناعه سفسطائيا بصدق قضيته ،على أساس أنها ترتبط بالحداثة والتجديد من جهة ،أو تقترن بفلسفة ما بعد الحداثة من جهة أخرى .بيد أن هذه الدعوى التي تتأسس على الحداثة حجة واهية ليس لها دليل منطقي أو استدالل معقول. الحجة الرابعة عشرة :حجة التراثي تعاكس هذه الحجة ما سبق أن قلناه في حق حجة الحداثة .وتتأسس هذه الحجة على أن الفكرة أو القضية صادقة ويقينية ،مادامت هي قضية أصالة ،وترتبط بالتراث ارتباطا وثيقا .كما يبدو ذلك جليا في كتابات التراثيين السلفيين الذين يعدون التراث أساس الحداثة والتقدم والتنمية. الحجة الخامسة عشرة :حجة التعميم المتسرع تعد حجة التعميم من الحجج الواهية التي يلتجىء إليها السفسطائيون للدفاع عن قضاياهم وأفكارهم .بيد أن هذه الحجة تنقصها العينة التمثيلية لكي تكون صادقة في توصيفها للمجتمع األصل ،كقولنا :كل المغاربة فقراء ،أو كل الوزراء لصوص ،أو كل التالميذ غشاشون...فهذا التعميم متسرع ،تنقصه األدلة والحجج اإلحصائية الصادقة. الحجة السادسة عشرة :حجة السببية الزائفة يدافع المحاج على قضيته بدعوى أن ثمة سببا ونتيجة يتحكمان في الدعوى.بيد أن السببية قد تكون زائفة ،والعالقة لها بالنتيجة .ومن ثم ،تتخذ السببية الظاهرة حجة لتعضيد الدعوى وتقويتها ومساندتها.بيد أنها حجة خادعة ومضللة وغير مقنعة . الحجة السابعة عشرة :حجة المنحدر المنزلق تعني هذه الحجة أن يدعي" الفرد لزوم وقوع حدث ما كنتيجة لحدث آخر دون أن يدلل على ذلك بحجج مقبولة ،وهي كما يبدو قريبة من السفسطة السابقة ،فهما يشتركان معا في االستغالل السيء لما يسمى بالحجاج السببي.وتبلغ هذه السفسطة حدودها القصوى حين يوهم المسفسط بأن هناك سلسلة من النتائج المتعاقبة المترتبة على حدث ما ،دون االستناد في ذلك إلى أي دليل مقبول]57["... ويعني هذا كله أن هناك من السفسطائيين من يستغل الرابط السببي ليوهم المخاطب بصدق قضيته ووجاهتها وصحتها ،على الرغم من أنها واهية وغير صحيحة أصال. الحجة الثامنة عشرة :حجة ما يراه الناس قد يعتمد االستدالل والحجاج على رأي أغلبية الناس باعتبار ذلك حجة ،مادامت تستند إلى رأي األغلبية أو ا ألكثرية ،على أساس أن األغلبية التخطىء ،وما اجتمع عليه الناس فهو بمثابة إجماع وحجة صادقة ،اليمكن أن يصلها البطالن أو الكذب أو االفتراء .بيد أن الحقيقة أن ما يراه الناس ليس دائما صحيحا أو صادقا. الحجة التاسعة عشرة :حجة ماجرى به العمل تعد حجة ما جرى العمل به من حجج األكثرية ،مادامت تستند إلى رأي أكثر الناس. وهي من أقدم الحجج في التراث العربي اإلسالمي ،فقد التجأ إليها الفقهاء المالكيون في إصدار مجموعة من الفتاوى ،كما يتضح ذلك جليا في مذهب مالك بن أنس .ويعني هذا أن حجة العمل بالسلوك أو التصرف قاعدة مشروعة وصحيحة وصادقة ويقينية اليمكن الطعن فيها ،مادامت قائمة على العادة والتكرار واالستمرار. وللتمثيل " :قال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي هللا عنه":تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور"كل ذلك يفرض على القاضي أن يبحث في التراث الفقهي على ما يستند عليه في حل يستند عليه في محل المعضلة التي بين يديه،فإذا لم يسعفه الراجح أو المشهور بحث حتى في األقوال الضعيفة ،والمهم عنده أن تبقى أحكامه داخل إطار الشريعة ال تخرج عليها ،إذا تبعه القضاة على ذلك،كنا أمام ما يسمى بالعمل أو بالعمليات الفقهية ،أو ما يسمى بما جرى به العمل[".]58 ويعني هذا أن ما جرى به العمل حجة رئيسة في الفقه المالكي ،بيد أن السفسطائي يمكن أن يستعين بها لتغليط الخصم ،أو تزييف الحقائق والقضايا. الحجة العشرون :حجة ما يهوى الجمهور غالبا ،ما تستعمل هذه الحجة في معرفة مواقف الرأي العام ،واالستعانة بأذواقهم المختلفة والمتنوعة.بيد أن هذه الحجة مجرد سفسطة واهية وغير مقنعة ،فكيف يمكن االحتكام إلى أهواء الجمهور وميولهم ورغباتهم في معرفة فنان حقيقي؟ أو معرفة مبدع أو مسرحي أو شاعر ما؟ أو اختيار فيلم سينمائي وترجيحه على باقي األفالم السينمائية األخرى؟ أو انتقاء لوحة تشكيلية ما؟ والسيما إذا كان الجمهور اليفقه لغة السينما ،واليعرف قواعد الموسيقا ،واليفهم أصول التشكيل وقواعده الفنية والجمالية؟ الخاتمة: وخالصة القول ،لقد تمثل السفوسطائيون عدة أطاريح فكرية جادة كاألطاريح اإلبستمولوجية المعرفية التي تنطلق من التصورات البراجماتية والنفعية والظاهراتية ؛ واألطاريح السياسية التي ركزت على الرؤية الوضعية على أساس أن اإلنسان هو مقياس كل شيء؛ واألطاريح القيمية التي ترى أن الشخص هو الذي يحدد مفهوهه الخاص للحقيقة والفضيلة ،مادامت الحقيقة نسبية وغير موجودة أصال. ويعني مصطلح السوفسطائي( )Un sophisteالمدرس ،والخطيب،والحكيم، والمتخصص في المعرفة .وقد كان السوفسطائيون بارعين في الخطابة والبالغة والجدل في أثينا ،وبالضبط في القرن الخامس قبل الميالد ،وضمن سياق سياسي ديمقراطي .ولقد ظهر السوفسطائيون في عهد سقراط .وكان هدف هؤالء إقناع اآلخرين ،والتأثير فيهم بواسطة البالغة والخطابة وعلم الجدل والمناظرة .ولقد اتخذ مصطلح(السوفسطائي) ،عند سقراط وأفالطون ،مفهوما قدحيا سلبيا ،ينم عن لغة التهكم والسخرية والهجاء والتعريض .وقد عرف أفالطون السوفسطائي بأنه ذلك ا لشخص المستغل الذي يدرس أبناء الطبقات الغنية أو المتميزة مقابل أجر .وقد خص أفالطون السفسطائيين بمجموعة من المحاورات لمناقشتهم بطريقة حوارية ساخرة، متهكما من مفهومهم النسبي للحقيقة ،ومنتقدا مقاييسهم االستداللية الخاطئة .وإذا كان السوفسطائيون ينكرون الحقيقة ،ويشككون فيها ،فإن سقراط يرى أن ثمة حقيقة واحدة هي حقيقة الخير ،والجمال ،والحق. ولقد ثار سقراط وأفالطون معا على هذا النوع من التعليم الشعبي السفسطائي ،مستخدما في ذلك الجدل والتهكم والحوار التوليدي .وقد ساهم الفيلسوف كسينوفان أيضا في مواجهة السوفسطائيين على غرار سقراط وأفالطون.كما دحض أرسطو أقيسة السوفسطائيين في كتابه (األرغانون)؛ حيث خصص مبحثا للرد على دعاوى السوفسطائيين في كتابه ( التفنيدات السفسطائية). ومن جهة أخرى ،لقد استخدم السوفسطائيون مجموعة من الحجج لتغليط المخاطبين تتعلق بحجج األلفاظ ،وحجج المعاني ،وحجج المفاهيم ،وحجج الصور.بيد أن هناك من استفاد من أفكارهم في مجال التربية والتعليم والمرافعة ،أو في مجال الجدل والخطابة والبالغة؛ بل هناك من طور المنهج السفطائي بشكل إيجابي مثمر بغية استخدامه في المحاورات والمناظرات والتواصل اإلعالمي والحواري والجدلي.