You are on page 1of 15

‫حجاج التغليط عند السفسطائيين‬

‫د‪ .‬جميل حمداوي‬


‫المقدمة‪ :‬يمكن الحديث عن أنواع مختلفة من الحجاج وفق منطق التطور التاريخي‪،‬‬
‫ويمكن حصرها في حجاج التأثير (حجاج الباتوس)‪ ،‬وحجاج اإلقناع‪ ،‬وحجاج‬
‫المغالطة‪ ،‬وحجاج الجدل‪ ،‬وحجاج االقتناع‪ ،‬وحجاج اللغة‪ ،‬وحجاج السؤال‪ ،‬وحجاج‬
‫األسلوب‪ ،‬وحجاج الخطاب‪ ،‬وحجاج التداول‪ ،‬وحجاج المنطق الطبيعي‪ ،‬وحجاج‬
‫الصورة البصرية‪.‬ومن هنا‪ ،‬سنتوقف‪ ،‬في موضوعنا هذا‪ ،‬عند حجاج المغالطة‪ ،‬أو‬
‫حجاج التغليط‪ ،‬أو الحجاج المغالطي‪ ،‬أو الحجاج السفسطائي‪.‬‬
‫إذا ً ما الحجاج المغالطي؟ وما سياقه التاريخي والتداولي؟ وما مقوماته الحجاجية؟ وما‬
‫أهم آلياته االستداللية؟ هذا ما سوف نتعرف إليه في المباحث التالية‪:‬‬
‫المبحث األول‪ :‬مفهوم حجاج المغالطة‬
‫من المعروف أن الغلط صفة طبيعية في اإلنسان‪ ،‬مادامت مرتبطة بالنسيان والسهو‬
‫والخطأ‪.‬لكن أن يتعمد اإلنسان هذا الغلط في مواجهة اآلخرين ومحاججتهم‪ ،‬فهذا ما‬
‫يسمى بحجاج المغالطة‪ ،‬أو حجاج التغليط‪ ،‬أو الحجاج المغالطي‪ .‬ويعني هذا أن المتكلم‬
‫يستعمل حججا مغلوطة‪ ،‬أو يوظف خطابا مليئا بالمغالطات من أجل دفع المتلقي أو‬
‫السامع أو المخاطب إلى االقتناع‪ ،‬أو تغيير سلوكه تجاه المتكلم المتلفظ‪ .‬وهذا ما نجده‪،‬‬
‫اليوم‪ ،‬عند أغلب المحامين والسياسيين والخطباء والشكاك الذين يستعملون أدلة‬
‫وسفسطات واهية غير مقنعة‪ ،‬واستخدام براهين وحجج مغلوطة من أجل االنتصار‬
‫على الخصم أو إفحامه أو مواجهته لتحقيق مصلحة معينة‪ .‬ولهذا‪ ،‬فلقد كان المنهج‬
‫المغالطي ينطلق من مقدمات خاطئة‪ ،‬ويصل إلى نتائج خاطئة‪.‬‬
‫ويفهم من هذا أن الحجاج المغالطي هو أن يقصد المتكلم" إلى هذه األغالط قصدا‪،‬‬
‫صارت مغالطات يهدف من ورائها إلى إقناع المتلقي برأي ما‪ ،‬أو دفعه إلى تغيير‬
‫سلوك معين با حتجاج مغالط‪ ،‬أو بالعبارة األرسطية بسفسطات‪ ،‬وحد السفسطة أنها‬
‫استدالل صحيح في الظاهر معتل في الحقيقة‪ ،‬إما لفساد في المضمون أو في‬
‫الصورة‪]1[".‬‬
‫وقد حدد أرسطو خمسة مقاصد رئيسة للحجاج المغالطي‪"،‬إما تبكيت المخاطب‪ ،‬وإما‬
‫أن يلزمه شنعة وأمرا هو في المشهور كاذب‪ ،‬وإما أن يشككه‪ ،‬وإما أن يصيره بحيث‬
‫يأتي بكالم مستحيل المفهوم‪ ،‬وإما أن يصيره إلى أن يأتي بهذر من القول يلزم عنه‬
‫مستحيل في المفهوم بحسب الظن‪]2[".‬‬
‫ويعني هذا أن المحاج السفسطائي يدور حول أمور خمسة رئيسة هي‪:‬‬
‫‪ -1‬إلزام المخاطب أمرا شنيعا معلوما كذبه؛‬
‫‪ -2‬االعتراض على المخاطب؛‬
‫‪ -3‬تشكيك المخاطب فيما لديه من دعاوى وأفكار وقضايا؛‬
‫‪ -4‬جعل المخاطب يدلي بكالم يصعب فهمه‪ ،‬ويستحيل استيعابه؛‬
‫‪ -5‬دفع المخاطب إلى اإلدالء بالقول الهذر‪.‬‬
‫ويعني هذا أن المغالطة السفسطائية عبارة عن استدالل صحيح في الظاهر‪ .‬بيد أنه‬
‫معتل في الحقيقة‪.‬أي‪ ":‬إن المغالطة نوع من العمليات االستداللية التي يقوم بها المتكلم‪،‬‬
‫وتكون منطوية على فساد في المضمون أو الصورة إما بقصد أو دون قصد[‪".]3‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬يهدف حجاج المغالطة إلى تغليط اآلخر بمجموعة من الحجج واألدلة‬
‫والبراهين والسفسطات التي تبدو أنها صحيحة ويقينية على مستوى االستدالل‬
‫الظاهري‪ ،‬لكنها واهية ومضللة وباطلة على مستوى الفحص والتأمل واالستقراء من‬
‫جهة‪ ،‬وعلى مستوى تقويم المنطلقات الفكرية والمنطقية من جهة أخرى‪.‬‬
‫وتعد الحوارات والخطابات السياسية أكثر الخطابات التي تقوم على الحجاج‬
‫المغالطي‪.‬وفي هذا‪ ،‬يقول الباحث المغربي عبد العلي قادا‪ ":‬ولعل الخطاب السياسي‬
‫من أكثر أنواع الخطابات اعتمادا على المغالطات‪ ،‬نظرا إلى طبيعته النفعية التي تروم‬
‫تحقيق المكاسب‪ ،‬وتعول في الغالب على تغيير السلوكيات والمواقف بغض النظر عن‬
‫تأسيس قناعات حقيقية لدى المتلقين‪.‬ونحن إذ نروم في هذا المطلب الكشف عن بعض‬
‫أ ساليب المغالطة أو السفسطات في الخطاب السياسي األندلسي خالل القرن الهجري‬
‫الخامس من خالل الرسائل المتداولة في المجتمع األندلسي آنذاك‪ ،‬فإننا النقصد التقييم‬
‫الخلقي لهذا الخطاب؛ ألن التمييز بين الغلط والمغالطة يرجع إلى النيات‪ ،‬ونحن النحاكم‬
‫النبات‪ ،‬وإنما نسعى إلى التنبيه إلى ما اعتور ذلك الخطاب السياسي عفوا أو قصدا من‬
‫مغالطات[‪".]4‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬يتضح لنا أن الخطب السياسية من جهة أولى‪ ،‬والمحاورات من جهة ثانية‪،‬‬
‫ومرافعات المحامين من جهة ثالثة‪ ،‬تلتجىء إلى المناورة والسفسطة وتغليط السامع‬
‫المتلقي من أجل الظفر بالمنافع التي يهدف إليها المحاج أو وكيل المحاج‪.‬أي‪ :‬يروم‬
‫الحصول على المكاسب المادية والمعنوية بتوظيف الحجج النافعة‪ ،‬أو االستعانة‬
‫بالحجج البراجماتية ‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬السياق التاريخي‬
‫لقد ارتبط حجاج التغليط أو المغالطة أو الحجاج المغالطي بالفالسفة السوفسطائيين‬
‫بوجه خاص‪ .‬ويعني السوفسطائي (‪ )Un Sophiste‬المتخصص في المعرفة‪ ،‬أو‬
‫الرجل الحكيم‪ ،‬أو الفيلسوف الخبير‪ ،‬أو األستاذ المقتدر‪ ،‬أو الخطيب المفوه‪ ،‬أو المعلم‬
‫المحنك في الجدل‪ ،‬أو الفصيح البليغ على غرار الفيلسوف الذي يعني محب الحكمة‪.‬‬
‫بيد أن مصطلح السفسطائي مفهوم قدحي بامتياز‪ ،‬أطلقه أفالطون‪ ،‬كما هو مثبت في‬
‫محاوراته‪ ،‬على الفيلسوف المراوغ الذي يأخذ أجرا على حكمته‪ ،‬أو يطلق على ذلك‬
‫الشخص الذي انحرف بالفلسفة‪ ،‬فجعلها وسيلة لالرتزاق‪ ،‬أو ذلك المدعي الذي حاربه‬
‫سقراط باستدالالته العقلية‪ .‬ولقد أطلق كسينوفان )‪ ]5[(Xénophon‬هذا المصطلح‬
‫أيضا على الفيتاغوريين[‪.]6‬‬
‫ونجد هذا المصطلح نفسه عند أرسطو الذي تحدث عن المقاييس المنطقية في كتابه‬
‫(تفنيدات السفسطائيين‪]7[ )Les Réfutations sophistiques /‬؛ حيث أشار‪ ،‬في‬
‫كتابه المنطقي (األرغانون)‪ ،‬إلى المقاييس المنطقية السليمة والمنسجمة‪ ،‬والمقاييس‬
‫غير السليمة كالمقياس أو االستدالل الصوفي المغالطي‪.‬‬
‫و" قديما ارتبطت هذه التسمية بتلك الحركة الفكرية واالجتاعية التي نشأت وترعرت‬
‫في اليونان القديمة حالل القرن الخامس قبل الميالد‪ ،‬والتي رفعت شعار" اإلنسان‬
‫مقياس كل شيء"‪ ،‬فتنكرت لكل القيم الموضوعية والمعايير الثابتة‪ ،‬سواء في أمور‬
‫الفكر واالعتقاد أو السلوك واألخالق‪ ،‬فكان دعاة هذه الحركة يخاطبون الناس قائلين ‪:‬‬
‫إن الحقيقة ما يراه الفرد حقيقة‪ ،‬والفضيلة ما يبدو له فضيلة‪ ،‬وهكذا بالنسبة لكل األمور‪.‬‬
‫وقد انتهى بهم هذا المذهب إلى التأكيد على أن اللجوء إلى الحيل الخطابية واألالعيب‬
‫القولية أمر مشروع‪ ،‬إذا كانت نتيجته في نهاية المطاف تحقيق مصلحة شخصية‬
‫راجحة‪ ،‬وقد برعوا براعة كبيرة في توظيف األساليب البالغية والخطابية‪ ،‬ومهروا‬
‫في إبداع التقنيات اللغوية المفيدة في كسب تأييد الجمهور‪ ،‬وحشد المناصرين في‬
‫المعارك السياسية التي كانت أثينا مسرحا لها على عهد نظامها الديمقراطي الفريد‪ .‬وقد‬
‫تمكن السفسطائيون من إقناع صفوة المجتمع آنذاك بضرورة تلقي دروس في هذا‬
‫المجال‪ ،‬إن كانوا يرغبون في امتالك أسباب السلطان‪ ،‬مادام ذلك اليحصل بغير سطوة‬
‫اللسان‪ ،‬فكانوا يحققون من وراء ذلك أرباحا طائلة‪ ،‬والزال الباحثون إلى اليوم يعترفون‬
‫للسفسطائيين بالدور الكبير في تطوير الخطابة والبالغة ويعدونهم أساتذتها‬
‫المبرزين[‪]9[".]8‬‬
‫ولم يكن السفوسطائيون يسعون فقط إلى الدفاع عن الحقيقة‪ ،‬والعدالة‪ ،‬والقيم‪ ،‬والمعرفة‬
‫الحقة ؛ بل كان همهم الوحيد هو التوسل باالستدالل اإلقناعي المغالطي قصد تحقيق‬
‫األرباح المادية والمعنوية‪ ،‬وخدمة المصلحة الشخصية الضيقة؛ وهذا ما جعل سقراط‬
‫يثور عليهم باسم العقل والمعرفة الفلسفية اليقينية‪.‬‬
‫والغريب أن هناك من يدافع عنهم‪ ،‬على أساس أنهم رجال تربية متميزون من جهة‬
‫أولى‪ ،‬ومفكرون إنسانيون مناضلون من جهة ثانية‪ ،‬ويعتبرون أيضا من رواد البالغة‬
‫والخطابة من جهة ثالثة‪ ،‬ويعدون كذلك مصدر فلسفة التنوير ومابعد الحداثة الغربية‬
‫من جهة رابعة[‪.]10‬‬
‫إذاً‪ ،‬لقد ظهرت السفسطائية في القرن الخامس قبل الميالد[‪]11‬؛ عصر سقراط‬
‫المعروف بالفلسفة والخطابة والبالغة‪ ،‬بعدما أن انتقل المجتمع األثيني من طابع‬
‫زراعي إقطاعي مرتبط بالقبيلة‪ ،‬إلى مجتمع تجاري يهتم بتطوير الصناعات‪ ،‬وتنمية‬
‫الحرف‪ ،‬واالعتماد على الكفاءة الفردية والمبادرة الحرة[‪ .]12‬ولقد أصبح المجتمع‪،‬‬
‫في ظل صعود هذه الطبقة االجتماعية الجديدة (رجال التجارة وأرباب الصناعات)‪،‬‬
‫مجتمعا ديمقراطيا يستند إلى حرية التعبير‪ ،‬واالحتكام إلى المجالس االنتخابية‪،‬‬
‫والتصويت باألغلبية[‪ .]13‬ولم يعد هناك ما يسمى بالحكم الوراثي‪ ،‬أو ما يسمى كذلك‬
‫بالتفو يض اإللهي‪ ،‬بل كل مواطن حر له الحق في الوصول إلى أعلى مراتب السلطة‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬سارع أبناء األغنياء إلى تعلم فن الخطابة والجدل السياسي إلفحام خصومهم‬
‫السياسيين‪ .‬وفي هذا الظرف التاريخي والسياسي‪ ،‬ظهر السفسطائيون ليسلحوا هؤالء‬
‫بآليات الجدل والخطابة[‪ ،]14‬واستعمال بالغة الكلمة في المرافعات والمناظرات‬
‫الحجاجية والخطابية‪ .‬وقد ترتب على ذلك أن تحولت الفلسفة إلى وسيلة لكسب األرباح‬
‫المادية‪ ،‬والسيما أن أغلب المتعلمين من طبقة األغنياء‪ .‬وأكثر من هذا لم يعد التعليم‬
‫سريا أو مقتصرا على طبقة اجتماعية معينة‪ ،‬كطبقة الفالسفة‪ ،‬وطبقة الحكام‪ ،‬وطبقة‬
‫النبالء‪ ،‬كما كان يحدث في الفترة السابقة‪ ،‬بل أصبح التعليم عموميا وشعبيا مقابل أجر‬
‫يدفع للمدرس أو األستاذ‪ ،‬وهذا ما كان يفعله السوفسطائيون‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬يمكن الحديث عن ثالث مراحل بارزة في تطور السفسطائيين‪:‬‬
‫‪ -1‬المرحلة السفسطائية األولى‪ :‬هي التي ترتبط بالسفسطائيين األوائل الذين عاشوا في‬
‫أهم‬ ‫ومن‬ ‫الميالد‪.‬‬ ‫قبل‬ ‫الخامس‬ ‫القرن‬
‫(‪،)Calliclès‬‬ ‫فالسفتهاالسوفسطائيين[‪]15‬جورجياس(‪،)Gorgias‬وكاليكليس‬
‫(‪،)Prodicos‬وأنتيفون‬ ‫وبروديكوس‬ ‫(‪،)Protagoras‬‬ ‫وبروتاغوراس‬
‫(‪،)Antiphon‬وثراسماك (‪ ،)Thrasymaque‬وهيبياس اإليلي ‪(Hippias‬‬
‫)‪]16[...d'Élis‬‬
‫‪ -2‬المرحلة السفسطائية الثانية[‪ :]17‬ترتبط هذه المرحلة بالقرن الثاني قبل‬
‫الميالد[‪ ،]18‬وتقترن بعلماء البالغة [‪ ]19‬الذين يعلمون طلبتهم علم البالغة والخطابة‬
‫وتجنيس الخطابات[‪.]20‬‬
‫‪ -3‬المرحلة السفسطائية الثالثة‪ :‬هي مرحلة القرنين الخامس والرابع قبل الميالد‪ ،‬وقد‬
‫ارتبطت بمجموعة من البيروقراطيين ورجال الدين[‪ ،]21‬أمثال‪ :‬هيميريوس‬
‫(‪ ،)Himérios‬وتيمستيوس (‪ ،)Thémistios‬وكوريسيوس ( ‪Choricios de‬‬
‫‪ )Gaza‬من مدينة غزة[‪.]22‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬محاور الفكر السفسطائي‬
‫لقد اهتم السوفسطائيون بالسياسة‪ ،‬والقانون‪ ،‬والقضاء‪ ،‬والنحو‪ ،‬واللغة‪ ،‬والفلسفة‪،‬‬
‫والخطابة‪ ،‬والبالغة‪ ،‬والمنطق[‪...]23‬لذا‪ ،‬يغلب الطابع الموسوعي على إنتاجهم‬
‫المتنوع‪ .‬ويمكن تحديد منطلقاتهم الفكرية وفق علم تاريخ األفكار فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬عدم االعتراف بالحقيقة اليقينية المطلقة بدليل أنها نسبية؛‬
‫‪ -2‬الميل نحو التحليل الواقعي للظروف‪ ،‬واألحداث‪ ،‬والوضعيات‪ ،‬والخصائص‪،‬‬
‫واألمكنة؛‬
‫‪ -3‬دراسة مختلف المجاالت الكونية والفيزيائية والعلمية وفق مقاربة براجماتية منفعية‬
‫فينومينولوجية ظاهراتية‪ ،‬برفض كل التصورات الميتافيزيقية والميتولوجية‪،‬‬
‫متسائلين‪ :‬فيماذا ينفع هذا؟ وكيف أستخدم هذا؟‬
‫‪ -4‬عدم دراسة اللغة في حد ذاتها ولذاتها‪ ،‬بل على أساس أنها وسيلة لإلقناع ليس إال‪.‬‬
‫‪ -5‬استعمال المترادفات في معناها الضيق على أساس أن لكل مفهوم معنى واحدا يدل‬
‫عليه؛‬
‫‪ -6‬االهتمام بالخطابة والبالغة والتربية؛‬
‫‪ -7‬االبتعاد عن االنشغاالت الميتافيزيقية‪ ،‬واالرتباط بالواقع المجتمعي والسياسي‬
‫واالقتصادي والتربوي‪.‬‬
‫إذاً‪ ،‬لقد آمن التيار السفسطائي بالنسبية‪ ،‬والشك‪ ،‬والالتمذهب‪ ،‬والتالعب اللفظي‪،‬‬
‫وتضييع الحقيقة‪ ،‬وعدم االعتراف بها؛ مما أدى بسقراط إلى القول بأن الحقيقة اليمكن‬
‫الوصول إليها بالظن والشك والفكر السفسطائي المغالطي‪ ،‬بل نصل إليها بالعقل‬
‫والحوار الجدلي التوليدي‪ ،‬واستخدام العقل واللوغوس والمنطق[‪.]24‬‬
‫ولم يكن السوفسطائيون يهتمون بالمتافيزيقا كثيرا‪ ،‬فما كان يهمهم هو مشاكل أثينا‬
‫السياسية واالقتصادية والمجتمعية؛ ألن العالم الطبيعي أكثر انتظاما واتساقا وانسجاما‪،‬‬
‫على عكس الواقع اليوناني الذي كان يعيش الفوضى واالضطراب والصراع حول‬
‫السلطة‪ ،‬والتأهب الدائم لمواجهة اعتداءات الفرس‪ .‬لذا‪ ،‬أنزل السوفسطائيون الفلسفة‬
‫من السماء إلى األرض على غرار سقراط‪ ،‬فاهتموا بأمور السياسة‪ ،‬والعدالة‪ ،‬والدين‪،‬‬
‫واألخالق‪ ،‬والمجتمع ‪...‬وفي هذا الصدد‪ ،‬تقول أميرة حلمي مطر‪ ":‬إن فلسفة‬
‫السفسطا يين إنما تعد حلقة اتصال في غاية األهمية بالنسبة لتاريخ الفلسفة اليونانية‪،‬‬
‫ذلك ألنهم قد نقلوا مشكلة البحث من عالم الطبيعة إلى عالم األخالق والسياسة‪ ،‬فكانوا‬
‫أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى األرض على نحو ما فعل معاصرهم سقراط‪،‬‬
‫كذلك جاءت فلسفتهم تعكس المضمون الجديد لالتجاهات السياسية واالجتماعية‬
‫الجديدة‪ ،‬فكانت أقرب ما تكون إلى فلسفة التنوير التي سادت القرن الثامن عشر في‬
‫فرنسا‪ ،‬وبخاصة مع فولتير وديدرو وروسو‪ ،‬وذلك عقب الثورة الصناعية التي تمت‬
‫في أوربا [‪".]25‬‬
‫ولم يبق لنا من مؤلفات السوفسطائيين سوى شذرات ونتف مقطعة هنا وهناك[‪.]26‬‬
‫فضال عما تركه الفيلسوف أفالطون من محاورات ساخرة حول السوفسطائيين في‬
‫كتابه (الجمهورية)[‪.]27‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬يعد بروتوغوراس(‪480-410‬ق‪.‬م) من أهم الفالسفة السوفسطائيين الذين‬
‫اهتموا بالقانون‪ ،‬وقد كتب مؤلفا عنوانه (الحقيقة)‪ ،‬وقد اتهم بالشك واإللحاد‪ ،‬وأحرقت‬
‫كتبه حينما قال شذرته المعروفة ‪ ":‬ال أستطيع أن أعلم إن كان اآللهة موجودين أم غير‬
‫موجودين‪ ،‬فإن أمورا كثيرة تحول بيني وبين هذا العلم‪ ،‬أخصها غموض المسألة‪،‬‬
‫وقصر الحياة "[‪ .] 28‬وقال أيضا‪" :‬إن اإلنسان مقياس األشياء جميعا‪ ".‬هو مقياس‬
‫وجود ما يوجد منا‪ ،‬ومقياس الوجود ماال يوجد‪]29[".‬‬
‫وكان بروتاغوراس يمارس التعليم‪ ،‬ويحصر تلمذة المتعلم في" معرفة النصيحة‬
‫الصائبة فيما يخص األمور الخاصة به‪ .‬أي‪ :‬كيف يدبر أموره المنزلية‪ ،‬وفيما يخص‬
‫األمور المدنية‪ ،‬أي كيف يصير أعظم ما يكون قدرة على العمل والكالم في معالجة‬
‫أمور المدينة والدولة‪]30[".‬‬
‫ويعد جورجياس (‪480-475‬ق‪.‬م) أيضا من أهم الفالسفة الذين ينتمون إلى المذهب‬
‫السوفسطائي‪ .‬فلقد اختص بتدريس البالغة والخطابة البيانية‪ .‬كما اشتغل بالطبيعيات‪،‬‬
‫واللغة‪ ،‬والجدل‪ ،‬والحجاج‪ .‬وألف كتابا عنوانه( في الالوجود)‪ ،‬يرتكز على ثالث قضايا‬
‫أساسية هي‪ :‬أوال‪ ،‬اليوجد شيء‪ .‬وثانيا‪ ،‬وإذا كان هناك شيء‪ ،‬فاإلنسان قاصر عن‬
‫إدراكه‪ .‬وثالثا‪ ،‬إذا فرضنا أن إنسانا أدركه‪ ،‬فلن يستطيع أن يوصله إلى غيره من الناس‪.‬‬
‫وكان هدف جورجياس هو تكوين السياسيين والخطباء والبالغيين من أجل الظفر‬
‫بالمناصب العليا في الدولة‪.‬وفي هذا‪ ،‬يقول جورجياس‪ ":‬إنني أتحدث عن القدرة على‬
‫إقناع القضاة في المحاكم وأعضاء المجلس في مجلس المدينة‪ ،‬ومجموع المواطنين في‬
‫مجلس الشعب‪ ،‬بفضل الخطب‪ ،‬باختصار‪ ،‬القدرة على اإلقناع في أي جمع للمواطنين‬
‫كيفما كان[‪".]31‬‬
‫وقد كدس جورجياس أمواال طائلة بفضل تعليمه المأجور‪.‬وفي هذا‪ ،‬يقول سقراط‪":‬‬
‫بالفعل‪ ،‬فجورجياس السفسطائي الليونتيني الذائع الصيت‪ ،‬أتى إلى هنا منتدبا من‬
‫مدينته‪ ،‬بصفته األقدر‪ ،‬من بين اليونتينيين‪ ،‬على التفاوض في قضايا الدولة‪ ،‬وحاز‬
‫مجدا أثيال لدى الجمهور بخطابته‪ ،‬وعلى الصعيد الخاص‪ ،‬كنز واستولى على أموال‬
‫طائلة من هذه المدينة‪ ،‬بتقديمه دروسا وبمحاورة الشباب"[‪ .]32‬وينطبق الشيء نفسه‬
‫على بروتاغوراس وأفروديقوس على حد سواء‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فلقد كانت الفلسفة السوفسطائية نقدا تحليليا للفلسفة الميتافزيقية الكونية‬
‫والطبيعية‪ ،‬ولم يتخذ فالسفتها مذهبا أو اتجاها فلسفيا معينا‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فلقد كانت تؤمن‬
‫بالوجود اإلنساني بدل االهتمام بالوجود الفيزيائي الطبيعي‪ ،‬أو االنشغال بالوجود‬
‫الميتافيزيقي‪ ،‬فاإلنسان هو مقياس كل األشياء‪ .‬ولم ينظر السوسفسطائيون إلى الخطابة‬
‫باعتبارها جدال بل اعتبروها علما معرفيا حقيقيا‪ ،‬تعتمد على المهارة والبراعة واإلتقان‬
‫والحرفية‪.‬ولقد أصبحت البالغة عند السفسطائيين لها القدرة على تثبيت القول الواحد‪،‬‬
‫وتأييد نقيضه في الوقت نفسه‪ ،‬ومعارضة المذاهب الفلسفية بعضها ببعض[‪.]33‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فلقد " ورث الفكر اليوناني عن هذه الحركة النقدية للسفسطة عداء متأصال‬
‫لم يقف عند حدود السفسطة‪ ،‬بل امتدت بعض آثاره إلى كل مظاهر الخطابة والبالغة‪،‬‬
‫أي‪ :‬مجمل الفكر المؤسس على التقنيات اللغوية‪ ،‬مقابل تمجيد الطرائق البرهانية‬
‫الخالصة المبنية على قواعد العقل وأصول المنطق‪.‬وقد انعكس هذا العداء في مجمل‬
‫الفكر الذي تفاعل مع التراث اليوناني كما هو الشأن في قطاعات كبيرة من الفلسفة‬
‫اإلسالمية والفلسفة الغربية الوسطوية والحديثة وجزء غير يسير من المعاصرة‪.‬ونجد‬
‫بقايا من هذه النظرة القدحية مبثوثة في نصوص الفالسفة والمفكرين الذين تعاقبوا على‬
‫امتداد هذه الحقبة‪ ،‬بل إن آثار هذه النظرة التزال قائمة إلى اليوم لدى عامة الناس الذين‬
‫يتوجسون من شخصية الخطيب[‪ ،]34‬وينظرون إلى الخطبة كنوع من الكالم األجوف‬
‫الذي يكاد يخلو من المصداقية الواقعية‪]35[".‬‬
‫و ثمة إشارات منطقية أخرى عند السفسطائيين‪ ،‬والسيما عند جورجياس الذي أنكر‬
‫األنطولوجيا الممكنة في كتابه (المختصر في عدم وجود الذات‪Traité du non-/‬‬
‫‪.)être‬ومن ثم‪ ،‬فلقد رفض الحقيقة المادية للمنطق مستبدال إياها بالمنطق الذاتي للغة‪.‬‬
‫ويعني هذا أن الجدل السفسطائي يقوم " على أساس التالعب اللغوي بمدلول األلفاظ‪.‬ولم‬
‫يكن هم السفسطائيين البحث عن الحقيقة لذاتها‪ ،‬وإنما كانوا يتوسلون النجاح والمنفعة‬
‫في حياتهم العملية‪ ،‬فاستعملوا الخطابة كوسيلة لإلقناع والتأثير في سامعيهم‪ ،‬على‬
‫اعتبار أن الخطابة تعتمد على زخرف القول واأللفاظ البراقة أكثر من اعتمادها على‬
‫العقل وحججه المنطقية‪.‬وكانوا يرون أن اإلنسان هو مقياس كل شيء‪ ،‬فمايراه حقا فهو‬
‫حق‪ ،‬ومايراه باطال فهو باطل‪]36[".‬‬
‫ونفهم من هذا كله أن السوفسطائيين قد أنكروا مبادىء الميتافيزيقا‪ ،‬فاهتموا بظواهر‬
‫األشياء‪ ،‬وأعطوا أهمية كبرى للبالغة والخطابة والجدل‪ ،‬وتعليم الناس مقابل أجر‬
‫مادي إلشباع رغباتهم المادية والمعنوية‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬تقويم حجاج التغليط‬
‫تتمثل إيجابيات السوفسطائيين في كونهم رجال علم وتعليم وسياسة وخطابة وبالغة‪،‬‬
‫ينتقلون من مدينة إلى أخرى‪ ،‬وقد أسدوا خدمات جلى إلى البالغة من جهة‪ ،‬والخطابة‬
‫من جهة أخرى‪.‬وفي هذا اإلطار‪ ،‬يقول هنري مارو (‪ ":)Marrou‬إن المشكل الذي‬
‫سعى السفسطائيون في حله ونجحوا فيه هو‪ ،‬على العموم‪ ،‬تكوين رجل السياسة‪ ،‬لقد‬
‫كان الم شكل األكثر استعجاال في عصرهم‪ .‬فبعد أزمة حكم الطغاة في القرن السادس‪،‬‬
‫بدأنا نرى حياة سياسية شديدة الحدة تحرك أغلب المدن اليونانية‪ ،‬وخاصة أثينا‬
‫الديمقراطية‪ :‬لقد أضحت ممارسة السلطة وتسيير الشأن العام الشغل الشاغل والنشاط‬
‫األكثر نبال واألكثر تقديرا عند اإلنسان اليوناني‪ ،‬كما صار الهدف األسمى الذي يحرك‬
‫طموحه‪...‬وقد جعل السفسطائيون تعليمهم في خدمة هذا المثل األعلى الجديد للفضيلة‬
‫السياسية‪ :‬إعداد الذهن لمهنة رجل الدولة‪ ،‬وتكوين شخصية زعيم المستقبل‪ ،‬ذلك كان‬
‫برنامجهم‪]37[".‬‬
‫ويعني هذا أن السفسطائيين كانوا واقعيين‪ ،‬وليسوا مثاليين كسقراط وأفالطون‪ ،‬يعرفون‬
‫واقعهم بشكل جيد‪.‬لذلك‪ ،‬ابتعدوا عن األمور الميتافيزيقية‪ ،‬فاهتموا بعلوم الظواهر‪،‬‬
‫واحتكوا بمجتمعهم بشكل عضوي‪ ،‬وربطوا تدريس العلم بالمقابل المادي‪ ،‬وهذا هو‬
‫عين الواقعية البراجماتية‪ ،‬واهتموا بأمور السياسة من أجل تدبير أمور الدولة ‪ .‬ويعني‬
‫هذا أنهم كانوا يصدرون عن منطق عملي مستقبلي منفعي صرف‪ .‬وفي هذا‪ ،‬تقول‬
‫جاكلين دوروميلي(‪ ":).De Romilly J‬فكون بعض المعارف الفكرية قابلة ألن تبلغ‬
‫وأنها ذات نفع مباشر‪ ،‬فإن كانوا يتقاضون أجرا فألنهم كانوا يبلغون علما بشكل‬
‫احترافي‪]38[".‬‬
‫وكان تعليم السفسطائيين خاضعا لسوق العرض والطلب‪.‬وفي هذا السياق‪ ،‬يقول‬
‫أوكتاف نافار(‪ ":)Navarre .O‬في غياب دواع أكثر نبال‪ ،‬هناك دافع عملي‪ ،‬كان‬
‫سيقود السفسطائيين حتما لقصر أغنياء نبالء‪ ،‬طموحهم المعلن أن يضطلعوا يوما بدور‬
‫سياسي‪ ،‬فما كان هؤالء يأتون سعيا وراءه‪ ،‬في مدرسة السفسطائيين‪ ،‬هو األداة‬
‫الضرورية لممارسة التاثير السياسي‪ .‬أي‪ :‬الخطابة‪]39[".‬‬
‫واهتم السفسطائيون كذلك بمجال التربية والتعليم ‪.‬وفي هذا‪ ،‬يقول هنري مارو‪ ":‬بسبب‬
‫التنوع والغموض الذي يطبع أفكارهم‪ ،‬فإن هذه األفكار كانت منفلتة لكي يسوغ ربطها‬
‫بمدرسة معينة بالمعنى الفلسفي للكلمة‪ :‬فليس من قاسم مشترك يجمعهم سوى مهنة‬
‫التعليم‪]40[".‬‬
‫ومن إيجابياتهم أيضا أنهم " كانوا باختصار معلمين للخطابة‪ ،‬وفي الوقت نفسه فالسفة‬
‫بالمعنى القوي لهذه الكلمة‪ ،‬وكانت مذاهبهم تحرر العقول وتحفزها‪ ،‬وتشق لها طرقا‬
‫غير معبدة‪ .‬إن هؤالء الفالسفة الجدد‪ -‬وينبغي عدم خلطهم بفالسفتنا‪ -‬باشروا بذلك ثورة‬
‫ثقافية وأخالقية حقيقية"[‪.]41‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬كانت نظرة معظم المفكرين إلى السفسطائيين نظرة سلبية قاتمة في‬
‫عمومها‪ ،‬على أساس أن هؤالء قد وظفوا العلم في غير موضعه الحقيقي‪ ،‬وربطوه‬
‫بمقابل مالي ومادي‪.‬وفي هذا‪ ،‬تقول باربرا كاسان (‪ ":)B.Cassin‬من مجموع‬
‫محاورات أفالطون تنبثق الصورة التي ستصبح منذئذ سائدة عن السفسطائية‪.‬إنها فاقدة‬
‫لالعتبار على جميع األصعدة والمستويات‪.‬فعلى صعيد مبحث الوجودية‪ ،‬اليهتم‬
‫والعرض‪ .‬وفي المنطق اليبحث عن الحقيقة أو‬‫َ‬ ‫السفسطائي بالوجود‪ ،‬بل يلجأ إلى العدم‬
‫الصرامة الجدلية‪ ،‬بل عن الرأي والترابط المنطقي الظاهري واإلقناع والغلبة في‬
‫المقارعات الخطابية فقط‪ .‬وفي علم األخالق والتربية والسياسة اليضع نصب عينيه‬
‫الحكمة والفضيلة‪ ،‬سواء بالنسبة للفرد أو للمدينة‪ ،‬بل يسعى للسلطة الشخصية‬
‫والمال‪.‬وهو فاقد لالعتبار حتى على صعيد األدب‪ ،‬مادامت الوجوه البالغية المستعملة‬
‫في أسلوبه ليست سوى تصنع فارغ معرفيا‪]42[".‬‬
‫ويقول أفالطون عن هؤالء السفسطائيين الذين يعلمون مقابل أجر مرتفع على لسان‬
‫سقراط الساخر‪ ،‬والسيما في محاورته المسماة بـ(دفاع سقراط)‪ ":‬ذلك ليس ألنني ال‬
‫أعتبر القدرة على تعليم الناس أمرا جميال‪ ،‬كما يفعل جورجياس الليونتيني وأفروديقوس‬
‫الخيوسي وهيباس اإللياني‪.‬فهؤالء األشخاص المرموقون كانوا يجتذبون الشباب الذين‬
‫بإمكانهم‪ ،‬بدون أي نفقة‪ ،‬أن يرتبطوا بهذا أو ذاك من مواطنيهم الذين يمكنهم االختيار‬
‫فيما بينهم‪.‬إنهم يعرفون كيف يقنعونهم بترك بني وطنهم والمجيء إليهم‪ :‬فيدفعون لهم‬
‫أجرا عاليا‪ ،‬ويعترفون لهم‪ ،‬فوق ذلك‪ ،‬بالفضل العظيم‪]43[".‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬كانت صورة السفسطائيين دائما سلبية عند أعدائهم‪ ،‬وتتمثل في كونهم‬
‫خاطئين ومغلوبين على أمرهم‪ ،‬وبعيدين عن الحقيقة اليقينية المطلقة‪ .‬ومن ثم‪ ،‬يظهر‬
‫السفسطائيون ‪ -‬حسب جيلبير ديربي (‪« - )G.Dherbey‬في وضع المغلوبين دوما‬
‫ومسبقا‪ ،‬فهم ليسوا موجودين إال ليكونوا على خطأ‪"]44[.‬‬
‫ومن السلبيات األخرى التي ترتبط بالسفوسطائيين أن مجمل أفكارهم قد ضاعت‪ ،‬ولم‬
‫تبق من آثارهم سوى شذرات ونتف وفقرات ومقاطع منثورة هنا وهناك‪ ،‬بمعزل عن‬
‫سياقها الفكري والمجتمعي والتداولي ؛ وهذا ما حدا بجاكلين دي روميلي ( ‪De‬‬
‫‪ )Romilly .J‬إلى القول‪ ":‬فكل مقتطفات سفسطائيينا التتجاوز‪ ،‬إذا جمعنا بعضها إلى‬
‫بعض‪ ،‬عشرين صفحة[‪".]45‬‬
‫وأكثر من هذا التشكل السفسطائية‪ ،‬في الحقيقة‪ " ،‬مذهبا أو مدرسة فكرية قائمة الذات‪،‬‬
‫بل هي اسم يطلق على طائفة من الفكرين عاشوا في النصف الثاني من القرن الخامس‬
‫قبل الميالد‪ ،‬تعددت مشاربهم واهتماماتهم‪ ،‬ولم يكن يجمع بينهم‪ ،‬كما يقول ديربي‬
‫جلبير‪ ،‬سوى لحظة تاريخية ووضع اجتماعي[‪".]46‬‬
‫ومن ثم‪ ،‬فلقد تعرض الحجاج المغالطي عند السوفسطائيين النتقادات عنيفة ووجيهة‬
‫وسديدة من ثالثة فالسفة كبار هم‪ :‬سقراط‪ ،‬وأفالطون‪ ،‬وأرسطو‪.‬‬
‫ويعد سقراط أول فيلسوف يواجه الحجاج السفسطائي‪ ،‬فلقد واجههم بالجدل المفاهيمي‪،‬‬
‫واستخدام الحوار التهكمي‪ ،‬باالعتماد على البيان والنقد التوليدي؛ إذ توصل إلى أن‬
‫السوفسطائيين يتالعبون بمعاني األلفاظ‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فللحقيقة ‪ -‬حسب سقراط‪ -‬قيمة‬
‫فكرية وعلمية ومعرفية‪ .‬لذا‪ ،‬يرد عند أفالطون‪ ،‬في (محاورة جورجياس) على لسان‬
‫سقراط‪ ،‬أن الحقيقة اليقينية هي التي نعتمد فيها على الحوار العقالني البناء والجدل‬
‫المنطقي والمناظرة الحجاجية الهادفة‪ ،‬دون اللجوء إلى استخدام األكاذيب‪ ،‬وبالغة‬
‫المغالطة‪ ،‬وسفسطة الشك والمراوغة [‪ .]47‬ويعني هذا أن الحقيقة يجب أن تكون‬
‫موضوعية‪ ،‬تقال لذاتها‪ ،‬وتتسم بالحرية والنـزاهة والحياد واالستقاللية عند إبداء‬
‫المواقف واآلراء والمعتقدات‪ ،‬دون إكراه‪ ،‬أو ضغط‪ ،‬أو جبر‪.‬‬
‫أما أفالطون‪ ،‬فلقد حاربهم وفق منطق جدلي متميز‪ ،‬باستعمال الجدل الصاعد والجدل‬
‫النازل‪ ،‬والتمييز بين عالم محسوس زائف‪ ،‬وعالم معقول ثابت‪ ،‬وقد اعتبرهم حبيسي‬
‫العالم الحسي المتغير‪ ،‬وهم غير قادرين عن التجرد لالطالع على ثوابت عالم المثل‪.‬‬
‫وفيما يخص أرسطو‪ ،‬فلقد تسلح بالمنطق المعياري بغية إفحام الخصوم من‬
‫السوفسطائيين الذين كانوا يعتمدون على المنهج المغالطي الذي ينطلق من مقدمات‬
‫خاطئة للوصول إلى نتائج خاطئة‪ ،‬وكانوا يشككون الناس في معارفهم بصفة خاصة‪،‬‬
‫والمعرفة اإلنسانية بصفة عامة؛ إذ كانوا ينكرون الحقيقة‪ ،‬ويقولون باستحالة المعرفة‪،‬‬
‫وصعوبة بناء حقائقها‪ .‬لذلك‪ ،‬أسسوا منهجا شكيا في الفلسفة مع جورجياس‬
‫وبروتاغوراس‪...‬‬
‫بيد أن أرسطو هو الوحيد الذي حارب السوفسطائيين بمقاييس المنطق‪ ،‬وقواعد الفكر‪،‬‬
‫ومبادئه السليمة‪ ،‬بالتوقف عند أخطائهم وتناقضاتهم وأغالطهم المنطقية‪.‬وقد اكتشف‬
‫أغالطهم على مستوى األلفاظ والمعاني‪ ،‬مادام السفسطائي يلتجىء إلى اللعب على‬
‫اللفظ المشترك الدال على المعنى ونقيضه‪ ،‬واللعب باإلحالة والتقديم والتأخير‪ ،‬واللعب‬
‫على اإلسناد تفريدا وتركيبا‪ ،‬واللعب على إعجام األلفاظ وشكلها‪ ،‬والتالعب كذلك‬
‫بقسمة األلفاظ‪.‬‬
‫بيد أن هناك دراسات حديثة ومعاصرة قد دافعت عن الحجاج السفسطائي‪ ،‬وحاولت أن‬
‫تستفيد من إيجابياته‪ ،‬والعمل على تجديده وتطويره في إطار حوار تداولي معاصر‪.‬‬
‫وفي هذا‪ ،‬يقول رشيد الراضي‪ ":‬والتزال هذه النصوص التراثية [السفسطائية]تحتفظ‬
‫بقدر كبير من أهميتها حتى في عصرنا هذا‪ ،‬بل إن أهميتها تنكشف يوما عن يوم مع‬
‫االنتشار الهائل لمظاهر الممارسة الحجاجية في ظل عالم أصبحت سمته هي التواصل‪،‬‬
‫وخصوصا في صورته الحجاجية‪.‬وهذا ما يفسر عودة الباحثين المعاصرين في قضايا‬
‫الحجاج والخطابة إلى كتب القدماء في هذا الباب‪ ،‬محاولين استخراج ما تزخر به من‬
‫درر‪ ،‬وإعادة صياغتها بشكل تصير معه قابلية لإلسهام في تطوير الممارسة الحوارية‬
‫المعاصرة‪ ،‬وتجنبها السقوط في مظاهر العبث والمشاغبة السفسطائية التي تضر بالعلم‬
‫وتفسد العمل‪.‬وللوقوف على هذه الحقيقة يمكن على سبيل المثال الرجوع إلى الكتاب‬
‫الشهير لهامبلين (‪ )Hamblin‬المعنون بـ ( السفسطات‪ ،]48[)Fallacies/‬وكذلك‬
‫الوصف الدقيق الذي قام به كل من إيمرن وروب خروتندورست الهولنديين في مقالهما‬
‫الشهير ( السفسطات من منظور تداولي جدلي)[‪ ،]49‬وأبحاث دوغالس والتون في‬
‫نخبة من كتبه ومقاالته[‪ ،]50‬وآخرون قد أعادوا إحياء درس السفسطة القديم في إطار‬
‫المتطلبات النظرية والعملية المعاصرة‪]51[".‬‬
‫ويعني هذا كله أن هناك من قدح في المنهج السفسطائي التغليطي بالتوقف عن السلبيات‬
‫فقط‪ .‬وهناك من دافع عن منهجهم بتنقيحه وتطويره وتصويبه من أجل توظيفه في‬
‫مجاالت المحاورة‪ ،‬والمناظرة‪ ،‬والمساجلة‪ ،‬والجدال‪ ،‬والحوار اإلعالمي والتواصلي‪...‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬حجج المقياس المغالطي‬
‫يستند الحجاج المغالطي إلى مجموعة من التقنيات واآلليات اإلستراتيجية‬
‫كالتناقض‪،‬والمفارقة‪ ،‬وغياب األدلة والشواهد والحجج المقنعة‪ ،‬والمغالطة بالتجهيل‪،‬‬
‫وسفسطة عبء التدليل‪ ،‬والدعوى الخاطئة‪ ،‬والتشكيك‪ ،‬والكذب‪ ،‬والتنصل من قول‬
‫الحقيقة‪ ،‬وسفسطة المصادرة على المطلوب‪ ،‬وسفسطات التجريح (عورات العارض)‪،‬‬
‫ورفض الدعوى المعروضة‪ ،‬وسفسطات السلطة[‪ ]52‬والقوة[‪ ]53‬والجاه‪ ،‬وتحوير‬
‫الدعوى وتحريفها‪ ،‬والسفسطات الجماهرية (االعتقادات العامة)‪ ،‬وسفسطة التعميم‬
‫المتسرع‪ ،‬وسفسطة العاطفة‪ ،‬وسفسطة التأويل‪ ،‬إلخ‪...‬‬
‫ولقد أحصى أرسطو ست مغالطات على مستوى اللفظ هي‪ :‬االشتراك في اللفظ‪،‬‬
‫واالشتراك في التركيب‪ ،‬والتركيب‪ ،‬والتقسيم‪ ،‬واإلعجام‪ ،‬وصيغة اللفظ‪.‬في حين‪ ،‬هناك‬
‫سبعة مغالطات على مستوى المعنى هي‪ :‬المغالطات المتعلقة بالعرض‪ ،‬واستعمال‬
‫العبارة في معناها المطلق أو المقيد‪ ،‬وعدم العلم بشروط التنفيذ‪ ،‬وموضع الالحق‪،‬‬
‫وموضع المصادرة على المطلوب‪ ،‬وموضع جعل ما ليس بعلة علة‪ ،‬وجمع مسألتين‬
‫في مسألة واحدة[‪.]54‬‬
‫وسنستعرض‪ ،‬اآلن‪ ،‬أهم الححج التي اعتمد عليها السوفسطائيون في إفحام خصومهم‪،‬‬
‫واستمالة الغير‪ ،‬وتغليط اآلخر على النحو التالي‪:‬‬
‫الحجة األولى‪ :‬حجة تجريح الشخص‬
‫تهدف هذه الحجة إلى تجريح الشخص المتكلم‪ ،‬على أساس أن له عيبا يخدش شخصيته‬
‫وأفكاره‪ .‬ومن ثم‪ ،‬ترفض الفكرة أو األطروحة المقدمة ال على أساس مضمون هذه‬
‫الفكرة‪ ،‬بل على أساس عيب الشخص‪ ،‬وعلى أساس القدح والتجريح‪.‬ويشبه هذا‪ ،‬بشكل‬
‫من األشكال‪ ،‬ما يسمى عند علماء الحديث بالتجريح والتعديل؛ حيث ينكرون حديث‬
‫الراوي بسبب عيب من العيوب التي يتصف بها‪.‬‬
‫الحجة الثانية‪ :‬حجة أنت أيضا‬
‫ترتبط هذه الحجة أيضا بحجة تجريح الشخص‪.‬ولكن هذا التجريح اليمس المتكلم فقط‪،‬‬
‫بل يمس أيضا المخاطب‪ ،‬على أساس تبادل التهم واألغاليط‪ .‬كأن يفند المحاج فكرة‬
‫محاوره‪ ،‬ثم يواجهه بدوره بأنه هو أيضا قد دافع عن هذه الفكرة سابقا‪.‬‬
‫الحجة الثالثة‪ :‬حجة الخبير‬
‫تحيل هذه الحجة على حجة العلم والسلطة والخبرة‪ ،‬كأن يستهدي المحاج‪ ،‬في دفاعه‬
‫عن قضية ما‪ ،‬أو تغليط السامع‪ ،‬برأي خبير بارز لمراوغة الغير‪.‬‬
‫الحجة الرابعة‪ :‬حجة المآل‬
‫تلتمس صدق الفكرة أو كذبها بالنظر إلى النتائج المترتبة عليها‪ ،‬فإن كانت النتائج‬
‫إيجابية‪ ،‬كانت الفكرة مقبولة‪ ،‬وإن كانت النتائج سلبية‪ ،‬فالفكرة مرفوضة من األصل‪،‬‬
‫وعدت كاذبة وغير صادقة‪.‬‬
‫الحجة الخامسة‪ :‬حجة العاطفة‬
‫يلتجىء المحاج أيضا إلى استخدام العواطف‪ ،‬واالستعانة بالباتوس الهووي الستمالة‬
‫الغير وجذبه إليه‪.‬‬
‫الحجة السادسة‪ :‬حجة االسترحام‪:‬‬
‫تس تدعي هذه الحجة الرحمة والشفقة إلقناع خصمه بصحة فكرته ووجاهتها‪ ،‬وتقبل‬
‫ظروفه الخاصة والعامة‪.‬‬
‫الحجة السابعة‪ :‬حجة السخرية‬
‫يلتجىء المحاج‪ ،‬في تغليط المخاطب‪ ،‬إلى أساليب السخرية واالستهزاء بدل التوسل‬
‫بالحجاج المنطقي السليم والمنسجم‪.‬‬
‫الحجة الثامنة‪ :‬حجة اإلغاظة‬
‫يلت جىء المحاج أيضا‪ ،‬قصد تغليط المخاطب‪ ،‬إلى إثارة غيظ اآلخر وغضبه وحنقه‬
‫قصد التأثير في موقفه من الدعوى‪.‬‬
‫الحجة التاسعة‪ :‬حجة العصا أو التخويف‬
‫يلتجىء المحاج إلى آليات التخويف والترهيب‪ ،‬واستعمال العنف المادي والرمزي من‬
‫أجل التأثير في الغير وإفحامه‪ ،‬ويسمى هذا بالتطرف الفكري‪.‬‬
‫الحجة العاشرة‪ :‬حجة رجل القش‬
‫تهدف هذه الحجة إلى " تهوين الرأي الذي تتم محاورته‪ ،‬بإعادة بنائه على نحو يصير‬
‫من اليسير نقضه وبيان تهافته‪ ،‬بحيث يكون من ينسب إليه هذا الرأي كرجل القش الذي‬
‫يتهاوى بضربة واحدة توحي بأن منتقد الفكرة قد أقام الحجة على فسادها فعال‪ .‬إن األمر‬
‫يتعلق إذا بتحريف وتزييف يطال رأي الطرف الذي تتم محاورته قصد االقتدار على‬
‫كسره بأيسر سبيل‪"]55[.‬‬
‫ويعني هذا أن هذه الحجة تهدف إلى إفحام الخصم بضربة قاضية‪ ،‬باستعمال منهج‬
‫التغليط بشكل مباشر‪ ،‬وتزييف الحقائق بعضها أو كلها‪.‬‬
‫الحجة الحادية عشرة‪ :‬حجة عبء التدليل‬
‫يقصد بها التهرب من عبء التدليل؛ ألن تسفيه رأي المخاطب وتهوينه هو‪ ،‬في الحقيقة‪،‬‬
‫تهرب من مواجهة الرأي اآلخر بالحقيقة اليقينية‪ ،‬واألدلة المقنعة‪ .‬ويمكن تسميتها أيضا‬
‫بحجة التهرب؛ ألن المحاج ليس له أدلة وبراهين لمواجهة الخصم‪.‬‬
‫الحجة الثانية عشرة‪ :‬حجة المصادرة على المطلوب‬
‫ويقصد بها إدراج النتيجة في المقدمات" التي يلزم إقامة الدليل على صدقها‪ ،‬وذلك حتى‬
‫يتوهم المخاطب أن هذه النتيجة من المقدمات المسلمة‪ ،‬وقد يتم هذا اإلدراج إما صراحة‬
‫أو بصورة ضمنية‪...‬‬
‫وواضح وجه السفسطة في هذا األسلوب‪ ،‬فوضع النتيجة ضمن المقدمات اليعني‬
‫بالضرورة أنها صادقة ما لم يقم الدليل على ذلك‪ ،‬وإال سنكون كم يدور في حلقة مفرغة‪،‬‬
‫بحيث إذا سأل المعترض عن األصل في صدق النتيجة‪ ،‬يحال على المقدمات‪ ،‬فيجد‬
‫نفسه مرة أخرى أمام النتيجة نفسها المراد تأصيل صدقها‪ ،‬ومن هنا كانت تسمية هذه‬
‫السفسطة بالدور‪ ،‬أما تسميتها بالمصادرة على المطلوب‪ ،‬فألن المطلوب هنا هو النتيجة‬
‫التي ينبغي إقامة الدليل على صدقها‪ ،‬فبدل ذلك نصار عليها ونجعلها ضمن‬
‫المقدمات[‪".]56‬‬
‫ويعني هذا أن هناك من السفسطائيين من يوهم المخاطب بصحة مقدماته في البداية‬
‫على أنها من المسلمات اليقينية‪ ،‬ولكنها زائفة وواهية اليمكن االعتماد عليها‪.‬‬
‫الحجة الثالثة عشرة‪ :‬حجة الحداثي‬
‫يحاجج المتكلم الغير‪ ،‬ويحاول إقناعه سفسطائيا بصدق قضيته‪ ،‬على أساس أنها ترتبط‬
‫بالحداثة والتجديد من جهة‪ ،‬أو تقترن بفلسفة ما بعد الحداثة من جهة أخرى‪ .‬بيد أن هذه‬
‫الدعوى التي تتأسس على الحداثة حجة واهية ليس لها دليل منطقي أو استدالل معقول‪.‬‬
‫الحجة الرابعة عشرة‪ :‬حجة التراثي‬
‫تعاكس هذه الحجة ما سبق أن قلناه في حق حجة الحداثة‪ .‬وتتأسس هذه الحجة على أن‬
‫الفكرة أو القضية صادقة ويقينية‪ ،‬مادامت هي قضية أصالة‪ ،‬وترتبط بالتراث ارتباطا‬
‫وثيقا‪ .‬كما يبدو ذلك جليا في كتابات التراثيين السلفيين الذين يعدون التراث أساس‬
‫الحداثة والتقدم والتنمية‪.‬‬
‫الحجة الخامسة عشرة‪ :‬حجة التعميم المتسرع‬
‫تعد حجة التعميم من الحجج الواهية التي يلتجىء إليها السفسطائيون للدفاع عن‬
‫قضاياهم وأفكارهم‪ .‬بيد أن هذه الحجة تنقصها العينة التمثيلية لكي تكون صادقة في‬
‫توصيفها للمجتمع األصل‪ ،‬كقولنا ‪ :‬كل المغاربة فقراء‪ ،‬أو كل الوزراء لصوص‪ ،‬أو‬
‫كل التالميذ غشاشون‪...‬فهذا التعميم متسرع‪ ،‬تنقصه األدلة والحجج اإلحصائية‬
‫الصادقة‪.‬‬
‫الحجة السادسة عشرة‪ :‬حجة السببية الزائفة‬
‫يدافع المحاج على قضيته بدعوى أن ثمة سببا ونتيجة يتحكمان في الدعوى‪.‬بيد أن‬
‫السببية قد تكون زائفة‪ ،‬والعالقة لها بالنتيجة‪ .‬ومن ثم‪ ،‬تتخذ السببية الظاهرة حجة‬
‫لتعضيد الدعوى وتقويتها ومساندتها‪.‬بيد أنها حجة خادعة ومضللة وغير مقنعة ‪.‬‬
‫الحجة السابعة عشرة‪ :‬حجة المنحدر المنزلق‬
‫تعني هذه الحجة أن يدعي" الفرد لزوم وقوع حدث ما كنتيجة لحدث آخر دون أن يدلل‬
‫على ذلك بحجج مقبولة‪ ،‬وهي كما يبدو قريبة من السفسطة السابقة‪ ،‬فهما يشتركان معا‬
‫في االستغالل السيء لما يسمى بالحجاج السببي‪.‬وتبلغ هذه السفسطة حدودها القصوى‬
‫حين يوهم المسفسط بأن هناك سلسلة من النتائج المتعاقبة المترتبة على حدث ما‪ ،‬دون‬
‫االستناد في ذلك إلى أي دليل مقبول‪]57["...‬‬
‫ويعني هذا كله أن هناك من السفسطائيين من يستغل الرابط السببي ليوهم المخاطب‬
‫بصدق قضيته ووجاهتها وصحتها‪ ،‬على الرغم من أنها واهية وغير صحيحة أصال‪.‬‬
‫الحجة الثامنة عشرة‪ :‬حجة ما يراه الناس‬
‫قد يعتمد االستدالل والحجاج على رأي أغلبية الناس باعتبار ذلك حجة‪ ،‬مادامت تستند‬
‫إلى رأي األغلبية أو ا ألكثرية‪ ،‬على أساس أن األغلبية التخطىء‪ ،‬وما اجتمع عليه‬
‫الناس فهو بمثابة إجماع وحجة صادقة‪ ،‬اليمكن أن يصلها البطالن أو الكذب أو‬
‫االفتراء‪ .‬بيد أن الحقيقة أن ما يراه الناس ليس دائما صحيحا أو صادقا‪.‬‬
‫الحجة التاسعة عشرة‪ :‬حجة ماجرى به العمل‬
‫تعد حجة ما جرى العمل به من حجج األكثرية‪ ،‬مادامت تستند إلى رأي أكثر الناس‪.‬‬
‫وهي من أقدم الحجج في التراث العربي اإلسالمي‪ ،‬فقد التجأ إليها الفقهاء المالكيون في‬
‫إصدار مجموعة من الفتاوى‪ ،‬كما يتضح ذلك جليا في مذهب مالك بن أنس‪ .‬ويعني هذا‬
‫أن حجة العمل بالسلوك أو التصرف قاعدة مشروعة وصحيحة وصادقة ويقينية اليمكن‬
‫الطعن فيها‪ ،‬مادامت قائمة على العادة والتكرار واالستمرار‪.‬‬
‫وللتمثيل‪ " :‬قال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي هللا عنه‪":‬تحدث للناس أقضية بقدر‬
‫ما أحدثوا من الفجور"كل ذلك يفرض على القاضي أن يبحث في التراث الفقهي على‬
‫ما يستند عليه في حل يستند عليه في محل المعضلة التي بين يديه‪،‬فإذا لم يسعفه الراجح‬
‫أو المشهور بحث حتى في األقوال الضعيفة‪ ،‬والمهم عنده أن تبقى أحكامه داخل إطار‬
‫الشريعة ال تخرج عليها‪ ،‬إذا تبعه القضاة على ذلك‪،‬كنا أمام ما يسمى بالعمل أو‬
‫بالعمليات الفقهية‪ ،‬أو ما يسمى بما جرى به العمل[‪".]58‬‬
‫ويعني هذا أن ما جرى به العمل حجة رئيسة في الفقه المالكي‪ ،‬بيد أن السفسطائي يمكن‬
‫أن يستعين بها لتغليط الخصم‪ ،‬أو تزييف الحقائق والقضايا‪.‬‬
‫الحجة العشرون‪ :‬حجة ما يهوى الجمهور‬
‫غالبا‪ ،‬ما تستعمل هذه الحجة في معرفة مواقف الرأي العام‪ ،‬واالستعانة بأذواقهم‬
‫المختلفة والمتنوعة‪.‬بيد أن هذه الحجة مجرد سفسطة واهية وغير مقنعة‪ ،‬فكيف يمكن‬
‫االحتكام إلى أهواء الجمهور وميولهم ورغباتهم في معرفة فنان حقيقي؟ أو معرفة‬
‫مبدع أو مسرحي أو شاعر ما؟ أو اختيار فيلم سينمائي وترجيحه على باقي األفالم‬
‫السينمائية األخرى؟ أو انتقاء لوحة تشكيلية ما؟ والسيما إذا كان الجمهور اليفقه لغة‬
‫السينما‪ ،‬واليعرف قواعد الموسيقا‪ ،‬واليفهم أصول التشكيل وقواعده الفنية والجمالية؟‬
‫الخاتمة‪:‬‬
‫وخالصة القول‪ ،‬لقد تمثل السفوسطائيون عدة أطاريح فكرية جادة كاألطاريح‬
‫اإلبستمولوجية المعرفية التي تنطلق من التصورات البراجماتية والنفعية والظاهراتية‬
‫؛ واألطاريح السياسية التي ركزت على الرؤية الوضعية على أساس أن اإلنسان هو‬
‫مقياس كل شيء؛ واألطاريح القيمية التي ترى أن الشخص هو الذي يحدد مفهوهه‬
‫الخاص للحقيقة والفضيلة‪ ،‬مادامت الحقيقة نسبية وغير موجودة أصال‪.‬‬
‫ويعني مصطلح السوفسطائي(‪ )Un sophiste‬المدرس‪ ،‬والخطيب‪،‬والحكيم‪،‬‬
‫والمتخصص في المعرفة‪ .‬وقد كان السوفسطائيون بارعين في الخطابة والبالغة‬
‫والجدل في أثينا‪ ،‬وبالضبط في القرن الخامس قبل الميالد‪ ،‬وضمن سياق سياسي‬
‫ديمقراطي‪ .‬ولقد ظهر السوفسطائيون في عهد سقراط‪ .‬وكان هدف هؤالء إقناع‬
‫اآلخرين‪ ،‬والتأثير فيهم بواسطة البالغة والخطابة وعلم الجدل والمناظرة‪ .‬ولقد اتخذ‬
‫مصطلح(السوفسطائي)‪ ،‬عند سقراط وأفالطون‪ ،‬مفهوما قدحيا سلبيا‪ ،‬ينم عن لغة‬
‫التهكم والسخرية والهجاء والتعريض‪ .‬وقد عرف أفالطون السوفسطائي بأنه ذلك‬
‫ا لشخص المستغل الذي يدرس أبناء الطبقات الغنية أو المتميزة مقابل أجر‪ .‬وقد خص‬
‫أفالطون السفسطائيين بمجموعة من المحاورات لمناقشتهم بطريقة حوارية ساخرة‪،‬‬
‫متهكما من مفهومهم النسبي للحقيقة‪ ،‬ومنتقدا مقاييسهم االستداللية الخاطئة‪ .‬وإذا كان‬
‫السوفسطائيون ينكرون الحقيقة‪ ،‬ويشككون فيها‪ ،‬فإن سقراط يرى أن ثمة حقيقة واحدة‬
‫هي حقيقة الخير‪ ،‬والجمال‪ ،‬والحق‪.‬‬
‫ولقد ثار سقراط وأفالطون معا على هذا النوع من التعليم الشعبي السفسطائي‪ ،‬مستخدما‬
‫في ذلك الجدل والتهكم والحوار التوليدي‪ .‬وقد ساهم الفيلسوف كسينوفان أيضا في‬
‫مواجهة السوفسطائيين على غرار سقراط وأفالطون‪.‬كما دحض أرسطو أقيسة‬
‫السوفسطائيين في كتابه (األرغانون)؛ حيث خصص مبحثا للرد على دعاوى‬
‫السوفسطائيين في كتابه ( التفنيدات السفسطائية)‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬لقد استخدم السوفسطائيون مجموعة من الحجج لتغليط المخاطبين‬
‫تتعلق بحجج األلفاظ‪ ،‬وحجج المعاني‪ ،‬وحجج المفاهيم‪ ،‬وحجج الصور‪.‬بيد أن هناك‬
‫من استفاد من أفكارهم في مجال التربية والتعليم والمرافعة‪ ،‬أو في مجال الجدل‬
‫والخطابة والبالغة؛ بل هناك من طور المنهج السفطائي بشكل إيجابي مثمر بغية‬
‫استخدامه في المحاورات والمناظرات والتواصل اإلعالمي والحواري والجدلي‪.‬‬

‫د‪ .‬جميل حمداوي‬

You might also like