You are on page 1of 43

‫حتت إشراف الشيخ‬

‫شرح كتاب التوحيد‬


‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬
‫اإل ْق َسا ُِمُ َع َلىُال َّل ُِه‪ُ،‬و َبابُُ َ ُ‬
‫لُي ْس َت ْش َفعُُ ُِبال َُّل ُِهُ‬ ‫َبابُُ َماُ َجا َُءُفِيُُ ِذ َّم ُِةُال َّل ُِهُ َو ِذ َّم ُِةُ َنبِ َّي ُِه‪ُ،‬و َبابُُ َماُ َجا َُءُفِيُ ِ‬

‫َع َلىُ َخ ْل ِق ُِهُ‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪2‬‬

‫[‪ُ ]63‬‬
‫اب ُ‬ ‫َب ُ‬
‫َماُ َجا َُءُفِيُ ِذ َّم ُِةُال َُّل ُِهُ َو ِذ َّم ُِةُ َنبِ َّي ُِهُ‬
‫اه ْدت ْمُ َو َلُ َت ْنقضواُ ْ َ‬
‫اْل ْي ََمنَ ُ َب ْع َدُ‬ ‫﴿و َأ ْوفواُ بِ َعهْ ِدُُال َُّل ِهُ إِ َذاُ َع َ‬ ‫َو َق ْوله‪َ ُ:‬‬
‫﴾ُاآل َي َة‪.‬‬ ‫َت ْوكِ ِ‬
‫يد َها ُ‬
‫ولُال َُّل ِهُصلىُاهللُعليهُوسلمُ َكانَ ُ‬ ‫‪«ُ:‬أ َّن َُرس َ‬ ‫َع ْنُب َر ْي َد َةُرضيُاهللُعنه َ‬

‫سرِ َّي ٍة؛ُ َأ ْو َصاهُ بِ َت ْق َوىُُال َُّل ِه‪َ ُ،‬و َم ْنُ َم َعهُ ِم َنُ‬ ‫شُ َأ ْوُ َ‬ ‫إِ َذاُ َأ َّم َرُ َأ ِمير ًاُ َع َلىُ َج ْي ٍ‬

‫يل ُال َُّل ِه‪َ ُ،‬قاتِلواُ َم ْنُ َك َف َرُ‬


‫سب ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اغزواُ بِ ْس ِم ُال َُّله‪ُ،‬فيُ َ‬ ‫ُخ ْيرًُا‪ُ ،‬ث َّمُ َق َال‪ْ ُ :‬‬ ‫الم ْسلِ ِم َ‬
‫ين َ‬
‫واُولِيد ًا‪.‬‬
‫وا‪ُ،‬و َلُ َت ْقتل َ‬ ‫وا‪ُ،‬و َلُت َم ِّثل َ‬ ‫وا‪ُ،‬و َلُ َت ْغ ِدر َ‬ ‫واُو َلُ َتغ ُّل َ‬ ‫اغز َ‬ ‫ُبِال َُّل ُِه‪ْ ُ،‬‬
‫ال ُ‪َ ُ -‬أ ْوُ‬‫ُخ َص ٍ‬ ‫ث ِ‬‫ين؛ُ َفا ْدعهمُ إِ َلىُ َث ََل ِ‬ ‫ُم َنُالم ْشرِكِ َ‬ ‫ُعدو َك ِ‬ ‫َوإِ َذاُ َل ِق َ‬
‫ْ‬ ‫يت َ َّ‬
‫ف َُع ْنه ْم‪.‬‬ ‫‪ُ،‬وك َّ‬ ‫وك؛ُ َفا ْق َب ْل ُِم ْنه ْم َ‬ ‫اُأ َجاب َ‬ ‫ِخ ََل ٍلُ‪َ ُ،-‬ف َأي َته َّنُ َم َ‬
‫َّ‬
‫وك؛ُ َفا ْق َب ْل ُِم ْنه ْم‪.‬‬ ‫س ََلمِ‪َ ُ،‬فإِنْ َُأ َجاب َ‬ ‫ث َّمُا ْدعه ْمُإِ َل ِ‬
‫ىُاإل ْ‬
‫ين‪َ ُ،‬و َأ ْخبِ ْره ْمُ‬ ‫ث َّمُ ا ْدعه ْمُ إِ َلىُ ال َّت َح ُّو ِلُ ِم ْنُ َد ِار ِه ْمُ إِ َلىُ َد ِارُ المهَ ِ‬
‫اجرِ َ‬
‫اجرِ َ‬
‫ين‪.‬‬ ‫اُع َلىُالمهَ ِ‬
‫‪ُ،‬و َع َل ْي ِه ْمُ َم َ‬
‫ين َ‬‫اجرِ َ‬‫َأنَّه ْمُإِنْ ُ َف َعلواُ َذلِ َك؛ُ َف َله ْمُ َماُلِ ْلمهَ ِ‬

‫ابُ‬‫َفإِنْ ُ َأ َب ْواُ َأنْ ُ َي َت َح َّولواُ ِم ْنهَ ا؛ُ َف َأ ْخبِ ْره ْمُ َأنَّه ْمُ َيكونونَ ُ َك َأ ْع َر ِ‬

‫يُع َلىُالمؤْ ِمن ِ َ‬


‫ين‪ُ،‬‬ ‫يُع َل ْي ِه ْمُح ْكم ُال َُّل ِهُ َت َعا َلىُا َّل ِذيُ َي ْجرِ َ‬ ‫الم ْسلِ ِم َ‬
‫ين‪َ ُ،‬ي ْجرِ َ‬
‫‪3‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫اهدواُ َم َعُالم ْسلِ ِم َ‬


‫ين‪.‬‬ ‫الفي ِء َُشي ٌء؛ُإِ َّل َُأنْ ُي َج ِ‬
‫ْ‬
‫َو َلُيكونُ َلهمُفِيُال َغن ِ ِ‬
‫يمة َُو َ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وك؛ُ َفا ْق َب ْل ُِم ْنه ْم َ‬
‫‪ُ،‬وك َّ‬
‫فُ‬ ‫س َأ ْلهم ِ‬
‫ُالج ْز َي َة؛ُ َفإِنْ ُه ْم َُأ َجاب َ‬ ‫َفإِنْ ُه ْم َُأ َب ْوا؛ُ َفا ْ‬
‫َع ْنه ْم ُ‪.‬‬
‫س َت ِع ْنُ ُبِال َُّل ِه َُو َقاتِ ْله ْم‪.‬‬ ‫َفإِنْ ُه ْم َُأ َب ْوا؛ُ َفا ْ‬
‫وك َُأنُْ ُ َت ْج َع َلُ َله ْمُ ِذ َّم َة ُال َُّل ِه َُو ِذ َّم َةُ‬
‫ُح ْص ٍن‪َ ُ،‬ف َأ َراد َ‬ ‫اصر َت َُأ ْه َل ِ‬
‫اُح َ ْ‬ ‫َوإِ َذ َ‬
‫ُاج َع ْلُ َله ْمُ ِذ َّم َت َك َُو ِذ َّم َةُ‬ ‫‪ُ،‬و َلكِ ِن ْ‬ ‫َنبِ ِّي ِه؛ُ َف ََلُ َت ْج َع ْلُ َله ْمُ ِذ َّم َة ُال َُّل ِه َُو َلُ ِذ َّم َةُ َنبِ ِّي ِه َ‬
‫َأ ْص َحابِ َك‪ُ.‬‬
‫‪ُ،‬أ ْه َون ُِم ْن َُأنْ ُت ْخ ِفرواُ ِذ َّم َةُ‬
‫َفإِنَّك ْم َُأنْ ُت ْخ ِفرواُ ِذ ََمك ْم َُو ِذ َم َم َُأ ْص َحابِك ْم َ‬
‫َ‬
‫ال َُّل ِه َُو ِذ َّم َةُ َنبِ ِّي ِه‪.‬‬
‫ُع َلىُح ْك ِمُال َُّل ِه؛ُ َف ََلُ‬ ‫وك َُأنْ ُت ْن ِز َله ْم َ‬ ‫اصر َت َُأ ْه َل ِ‬
‫ُح ْص ٍن‪َ ُ،‬ف َأ َراد َ‬ ‫اُح َ ْ‬ ‫َوإِ َذ َ‬
‫ت ْن ِز ْله ْمُ َع َلىُ ح ْكمُُِال َُّل ِه‪َ ُ،‬و َلكِ ْنُ َأ ْن ِز ْله ْمُ َع َلىُ ح ْك ِم َك؛ُ َفإِن َ‬
‫َّكُ َلُ َت ْد ِريُ‬
‫»ُر َواهُم ْسلِ ٌم‪ُ.‬‬ ‫ُل َ‬ ‫يه ْم َ‬
‫‪ُ،‬أ ْم َ ُ‬ ‫َأت ِصيبُح ْك َمُال َُّل ِهُفِ ِ‬

‫َّ‬
‫الش ْرح ُ‪:‬‬
‫َق َال رمحه اهلل‪َ ( :‬بابُ ُ َما ُ َجا َُء ُفِي ُ ِذ َّم ُِة ُال َُّل ُِه ُ َو ِذ َّم ُِة ُ َنبِ َّي ِه) أي‪ :‬من الوعيد‬
‫فيمن َأخفر ونَقض عهده مع الله أو مع نب ِّيه‪ ،‬وكذا مع خ ْلقه‪ ،‬ون ْقض العهد‬
‫مع الله أو مع نب ِّيه قدح يف التوحيد؛ ألنه استخفاف بالله عز وجل وبأوامر‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪4‬‬

‫رسوله ُصىل اهلل عليه وسلم؛ وهذا مناسبة ذكْر المصنِّف رمحه اهلل هذا‬
‫الباب يف كتاب التوحيد‪.‬‬
‫وقوله‪َ ( :‬بابُ ُ َما ُ َجا َُء ُفِي ُ ِذ َّم ُِة ُال َُّل ِه) أي مِن النهي عن ْ‬
‫أن َتجعل ذمة‬
‫الله وذمة نبيه يف العهود والمواثيق‪ ،‬والتحذير من ذلك‪ ،‬وأن َمن َجعل‬
‫ذمة الله وذمة نب ِّيه؛ َوجب عليه الوفاء هبا وجوبا مؤكدا‪.‬‬
‫ومعنى ( ِذ َّم ُِةُال َّل ُِهُ َو ِذ َّم ُِةُ َنبِ َّي ُِه)‪ :‬يعني‪ :‬لو أن أميرا مع أمير عدو ونحو‬
‫ذلك؛ تعاهدا وتعاقدا عىل شيء‪ ،‬فقال أمير المسلمين‪ :‬ما عاهدناه عليكم‬
‫هو ذمة الله وذمة نب ِّينا‪ ،‬لن َنخو َنكم؛ فهنا أتى النهي بأن ال تجعل ذمة الله‬
‫وذمة نب ِّيه يف هذا العقد والعهد والميثاق الذي ب ْين الطرفين؛ وإنما يقال‪:‬‬
‫هذا العهد يف ذمتنا‪ ،‬وال ننقضه‪.‬‬
‫وكذلك إذا قيل‪ :‬حكم الله‪ ،‬مثل‪ :‬القاضي إذا َحكم يف قضية‬
‫حضانة ونحو ذلك‪ ،‬ال يقول‪ :‬حكمت عليك بحكم الله بكذا وكذا؛‬
‫وإنما يقول الحاكم‪ :‬حكمت عليك بكذا وكذا؛ ف َيجعل الحكم هو‬
‫حكمه باجتهاده من استنباط النصوص‪ ،‬وال ي ِنزل حكم الله عز وجل عىل‬
‫هذه المسألة العينية‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫يعني‪ :‬لو أن رجلين تنازعا يف عقار‪ ،‬فال يقول القاضي‪ :‬حكمت‬


‫عليك بحكم الله بأن الذي لك هو هذا‪ ،‬وهو حكم الله؛ وإنما يقول‪:‬‬
‫حكمت عليك بكذا وكذا‪ ،‬وال يقول‪ :‬حكم الله وإن كان مستنبطا مِن‬
‫الكِتاب والسنة؛ فإن اإلنسان ال يدري؛ كما قال عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫ل)؛ فهذا اجتهاد منك فقد‬ ‫ل ُ َت ْد ِري ُ َأت ِصيبُ ُح ْك َُم ُال َّل ُِه ُفِ ِ‬
‫يه ْم‪َ ُ ،‬أ ُْم ُ َ ُ‬ ‫( َفإِن َ ُ‬
‫َّك ُ َ ُ‬
‫حكمت به خالف الصواب‪.‬‬ ‫َ‬ ‫يكون ما‬
‫فقوله‪َ ( :‬بابُُ َماُ َجا َُءُفِيُ ِذ َّم ُِةُال َُّل ِه) من النهي عن أن تجعل يف العهود‬
‫والمواثيق‪ ،‬وإذا جعلت؛ يجب الوفاء هبا‪.‬‬

‫فالله عز وجل له عهد مع خ ْلقه‪ ،‬ولخ ْلقه عهد معه؛ ْ‬


‫فعهد الله مع‬
‫وعهد الخلق مع الله‪ :‬أن َيعبدوه‬ ‫خ ْلقه‪ :‬أن ال ِّ‬
‫يعذب َمن ال يشرك به شيئا‪ْ ،‬‬
‫وال يشركوا به شيئا‪ ،‬والدليل عىل ذلك‪ :‬قوله سبحانه‪َ ﴿ :‬و َل َقدْ َأ َخ َذ الله‬
‫اق َبنِي إِ ْس َرائِ َيل َو َب َع ْثنَا مِنْهم ا ْثن َْي َع َش َر ن َِقيبا َو َق َال الله إِنِّي َم َعك ْم َلئِ ْن‬
‫مِي َث َ‬
‫عهد الخلق مع الله‪ ،‬وقوله –‬ ‫َأ َق ْمتم الص َال َة﴾‪ ،‬فإقامة الصالة وما بعدها ْ‬
‫يف نفس اآلية ‪َ ﴿ :-‬أل َك ِّف َرن َعنْك ْم َس ِّي َئاتِك ْم َو َأل ْد ِخ َلنك ْم َجنات َت ْج ِري مِ ْن‬
‫َت ْحتِ َها ْاألَن َْهار﴾ [المائدة‪]12:‬؛ ُهذا عهد الله مع خ ْلقه‪ ،‬وكذا حديث معاذ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪6‬‬

‫اد َع َلى الل ِه َأ ْن َال ي َع ِّذ َب َم ْن َال ي ْش ِرك بِ ِه‬


‫العب ِ‬
‫ِ‬
‫«و َحق َ‬
‫رضي اهلل عنه‪َ :‬‬
‫شيئا»(‪.)1‬‬
‫قال‪ِ ِ َ :‬‬
‫عهد مع الخلق‪،‬‬ ‫(و ِذ َّمةُ ُ َنبِ َّيه) أيضا ِّ‬
‫للنبي صىل اهلل عليه وسلم ْ‬
‫فعهد الرسول صىل اهلل عليه‬ ‫وللخ ْلق ْ‬
‫عهد مع النبيُصىل اهلل عليه وسلم؛ ْ‬
‫وسلم مع الخلق‪ :‬أن يب ِّين ما يبلغه الله به وال يكتم شيئا؛ قال تعاىل‪َ ﴿ :‬يا‬
‫ِ‬
‫وعهد الخ ْلق مع‬ ‫َأي َها الرسول َب ِّل ْغ َما أن ِْز َل إِ َل ْي َك م ْن َر ِّب َك﴾ [المائدة‪ْ ،]67:‬‬
‫أن يتبعوا سن َته؛ قال سبحانه‪َ ﴿ :‬وإِ ْن تطِيعوه‬ ‫النبي صىل اهلل عليه وسلم ْ‬ ‫ِّ‬
‫ون َع ْن َأ ْم ِر ِه َأ ْن‬
‫َت ْهتَدوا﴾ [النور‪ ،]54:‬وقال سبحانه‪َ ﴿ :‬ف ْل َي ْح َذ ِر ال ِذي َن ي َخالِف َ‬
‫ت ِصي َبه ْم فِ ْتنَة َأ ْو ي ِصي َبه ْم َع َذاب َألِيم﴾ [النور‪.]63:‬‬
‫وساق المصنِّف رمحه اهلل آية وحديثا‪ُ:‬‬

‫عهد الله‪ ،‬وح ْفظ ْ‬


‫عهد نب ِّيه صىل اهلل عليه‬ ‫اآلية؛ لبيان وجوب ح ْفظ ْ‬
‫وسلم‪ُ.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب اللباس‪ ،‬باب إرداف الرجل خ ْلف الرجل‪ ،‬رقم‬
‫(‪ ،)5967‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب من لقي الله باإليمان وهو غير شاك فيه‬
‫دخل الجنة وحرم عىل النار‪ ،‬رقم (‪.)30‬‬
‫‪7‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫وعهد نب ِّيه يف المعاملة‬


‫عهد الله‪ْ ،‬‬
‫والحديث؛ لبيان كيفية التأدب يف ْ‬
‫بين الخ ْلق‪ ،‬كما سيأيت بإذن الله‪.‬‬
‫لُ َت ْنقضواُ ْ َ‬
‫اْل ْي ََمنَُُ َب ْع َدُُ‬ ‫﴿و َأ ْوفواُبِ َعهْ ُِدُال َُّل ُِهُإِ َذاُ َع َ‬
‫اه ْدت ُْمُ َو َ ُ‬ ‫(و َق ْوله‪َ ُ:‬‬
‫قال‪َ :‬‬
‫يد َها﴾ ُ) (﴿ َو َأ ْوفواُُبِ َعهْ ُِدُُال َّل ُِه﴾)ُُكما َسبق با ِّتباع أوامره سبحانه‪،‬‬ ‫َت ْوكِ ِ‬

‫واجتناب نواهيه ‪ -‬وأعظم األوامر التوحيد‪ ،‬وأعظم النواهي الشرك ‪،-‬‬


‫عاهدت بعهد الله؛ أو ِ‬
‫ف به سواء يف‬ ‫َ‬ ‫وال يجوز ن ْقض هذا العهد‪ ،‬فإذا‬
‫ْ‬
‫ن ْفسك أو مع اآلخرين‪.‬‬
‫ْليَمنَُُب ْع َُدُ َت ْوكِ ِ‬
‫يد َها﴾)ُالمراد باألَ ْيمان هنا‪ :‬األَ ْيمان‬ ‫لُ َت ْنقضواُا َ ْ َ َ‬
‫(﴿ َو َ ُ‬
‫المنفصلة؛ أي‪ :‬وال َتنقضوا اإليمان التي يف‬ ‫ِ‬ ‫مع العهد‪ ،‬وليست األيمان‬
‫العهود بعد ْ‬
‫أن َوثقتموها بالعهود‪.‬‬
‫فمثال‪ :‬تعاهد اثنان‪ ،‬فيقول‪ :‬هذا عهد الله‪ ،‬أو‪ :‬هذا عهد ب ْيني وبينك‬
‫فمن َحلف عىل هذا العهد؛ كانت هذه اليمين أشد يف‬
‫ووالله هذا عهد‪َ ،‬‬
‫التغليظ من النكث فيها‪.‬‬
‫﴿ َو َقدْ َج َع ْلتم الل َه َع َل ْيك ْم ك َِفيال﴾ [النحل‪ ]91 :‬هذا إذا عهد مع الله‪،‬‬
‫فيجب الوفاء بعهود الله‪ ،‬ون ْقض شيء من عهود الله؛ ن ْقص يف جناب‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪8‬‬

‫ول ُال َُّل ُِه ُصلىُ‬ ‫ن ُب َر ْي َد َُة ُرضي ُاهلل ُعنه‪َ ُ :‬‬
‫«أ َُّن ُ َرس َ ُ‬ ‫(ع ُْ‬
‫ثم بعد ذلك قال‪َ :‬‬
‫اهللُعليهُوسلمُ َكانَُُإِ َذاُ َأ َّم َُرُ َأ ِمير ًا) هذا يدل عىل مشروعية تأمير األمير يف‬
‫الجيش؛ ل َينقاد الناس بأمره يف غير معصية الله‪ ،‬سواء كان عددا كبيرا من‬
‫المقاتلين ‪ -‬كالجيش ‪ ،-‬أو قطعة من الجيش ‪ -‬كالس ِرية ‪َ ،-‬‬
‫(ع َلىُ َج ْي ٍ‬
‫ش ُ)‬
‫سرِ َّي ٍة) قطعة من الجيش‪.‬‬ ‫(أ ُْوُ َ‬ ‫وهم الجند الكثير‪َ ،‬‬

‫ينُُ َخ ْير ًا) أي‪ :‬أوصى‬ ‫نُُالم ْسلِ ِم َُ‬


‫نُُ َم َعهُُُ ِم َُ‬
‫(أ ْو َصاهُُُبِ َت ْق َوىُُال َُّل ِه‪َ ُُ،‬و َم ُْ‬
‫َ‬

‫األمير بأمرين‪ ،‬بأمرين‪ُ:‬‬


‫اْلول‪( :‬بِ َت ْق َوىُال َُّل ُِه) بأن يكون قريبا من الله‪ ،‬وهذه وصية يف‬
‫اْلمرُ َّ‬
‫تعامل األمير مع حقوق الله‪ ،‬ألن الن ْصر ال يتحقق إال بالتقوى؛ كما قال‬
‫سبحانه‪َ ﴿ :‬يا َأي َها ال ِذي َن آ َمنوا إِ ْن َتنْصروا الل َه َينْص ْرك ْم﴾ [محمد‪ ،]7:‬وقال‬
‫َان َح ّقا َع َل ْينَا ن َْصر ا ْلم ْؤمِنِي َن﴾ [الروم‪ ،]47 :‬فالمؤمن هو‬
‫﴿وك َ‬ ‫عز وجل‪َ :‬‬
‫﴿و َم ْن َيت ِق الل َه َي ْج َع ْل َله َم ْخ َرجا﴾‬
‫الذي ينصر‪ ،‬ويقول سبحانه‪َ :‬‬
‫نصر الله‬
‫[الطالق‪]2:‬؛ فالن ْصر ال يأيت إال بتقوى الله عز وجل‪ ،‬و َمن َ‬
‫نصره الله عز وجل‪.‬‬
‫بالتقوى؛ َ‬
‫‪9‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫نُالم ْسلِ ِم َُ‬


‫ينُ‬ ‫نُ َم َع ُهُ ِم َُ‬
‫(و َم ُْ‬
‫ن‪ُ:‬يف تعامله مع الجيش‪ ،‬قال‪َ :‬‬
‫واْلمرُالثا ُ‬
‫َخ ْير ًا ُ) يعني‪ :‬كل ما فيه خير للجيش يبذله لهم‪ ،‬وكل ما فيه شر يبعدهم‬
‫عنه‪.‬‬
‫ثم أوصى النبي صىل اهلل عليه وسلم الجيش مع األمير بسبع وصايا‬
‫عظيمة هي من آداب الجهاد يف سبيل الله‪ ،‬وهي من محاسن الدين‪ ،‬ومن‬
‫أسباب الن ْصر ومِن أخالق المسلمين‪ُ:‬‬
‫اغزواُبِ ْس ُِمُال َُّل ُِه) أي‪ :‬ل ِ َيكن ف ْعلكم يف‬ ‫الوصيةُاْلولى‪ :‬قال‪( :‬ث َُّمُ َق َ ُ‬
‫ال ْ‬
‫هذا الغزو مستعينين بالله يف قتال العدو؛ ألن القتال يطرأ عليه ما مل يكن‬
‫يف الح ْس َبان‪ ،‬وال يصد ذلك العدو إال العون من الله؛ ولذا فإن الغالب يف‬
‫معارك المسلمين أنهم هم األقل عددا‪ ،‬وأول ذلك أول غزوة يف اإلسالم‬
‫«غزوة بدر»‪.‬‬
‫وأن يع ِّلق قلبه‬
‫أن يذكِّر قائد الجيش بالله سبحانه‪ْ ،‬‬
‫لول األمر ْ‬ ‫فيشرع ِّ‬
‫المسلِمين به جل وعال؛ فإنه هو الناصر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ومن معه من ْ‬
‫اغزوا ُبِ ْس ُِم ُال َُّل ُِه) فال َتعتمدوا عىل األسباب؛ وإنما استعينوا بالله‬
‫( ْ‬
‫عز وجل فهو منزل الن ْصر‪ُ.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪10‬‬

‫يلُال َُّل ِه) ألنه ال ينجي المقاتل من النار‬


‫سبِ ُِ‬ ‫ِ‬
‫والوصيةُالثانية‪ :‬قال‪( :‬فيُ َ‬
‫فمن قاتل يف غير سبيل الله؛ كان عمله‬
‫الجنة إال اإلخالص‪َ ،‬‬
‫وال يدخله َ‬
‫يف الجهاد هباء؛ لذلك لما سئل النبي صىل اهلل عليه وسلم عن الرجل‬
‫يقاتل شجاعة‪ ،‬والرجل يقاتل رياء‪ ،‬والرجل يقاتل جاهلية أي ذلك يف‬
‫ون كَلِ َمة الل ِه ِه َي الع ْل َيا َفه َو فِي َسبِي ِل‬
‫سبيل الله؟ قال‪َ « :‬م ْن َقا َت َل لِتَك َ‬
‫ِ‬
‫وخوفه‪،‬‬‫ْ‬ ‫جهده‪،‬‬‫الله»(‪ ،)1‬فما كان غير ذلك فليس يف سبيل الله؛ بل ْ‬
‫وذ ْعره يف سبيل الشيطان‪.‬‬
‫للجنة إال ما كانت النية فيه خالصة لوجه الله عز‬ ‫فال سبيل موصل َ‬
‫يل ُال َُّل ُِه)‪ ،‬وهذا فيه تصحيح‬
‫سبِ ُِ‬ ‫ِ ِ‬
‫(اغزوا ُبِ ْس ُِم ُال َُّله‪ُ ،‬في ُ َ‬
‫وجل؛ لذلك قال‪ْ :‬‬
‫لنية األمير مع الجيش‪ ،‬فإذا مل تكن النية خالصة لله؛ فالله عز وجل توعد‬
‫المجاهدين بالنار‪ ،‬والقتال الذي يرضاه الله عز وجل؛ هو الذي يراد به‬
‫إعالء كلمة الله‪ُ.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب َمن قاتل لتكون كلمة الله هي‬
‫العليا‪ ،‬رقم (‪ ،)2810‬ومسلم‪ ،‬كتاب اإلمارة‪ ،‬باب َمن قاتل لتكون كلمة الله هي‬
‫العليا فهو يف سبيل الله‪ ،‬رقم (‪ ،)9104‬من حديث أبي موسى رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫نُُ َك َف َُرُُ ُبِال َّلُ ِه) أي‪ :‬اعلموا أنكم‬


‫والوصيةُُالثالثة‪ :‬قال‪َ ( :‬قاتِلواُُ َم ُْ‬
‫مقاتلون كفارا‪ ،‬ولن َتنتصروا عليهم إال بالتعلق بالله عز وجل‪ ،‬وليكن‬
‫قتالكم للكفار وليس للمسلِمين‪ ،‬فإذا َدخلوا يف اإلسالم فال تقاتلوهم‪ُ.‬‬
‫ل ُ َتغ ُّلوا) الغلول‪ :‬هو األخذ من‬ ‫والوصية ُالرابعة‪ :‬قال‪ْ :‬‬
‫(اغزوا ُ َو َ ُ‬
‫قسمها؛ وهو من كبائر الذنوب؛ ألنه ْ‬
‫أخذ حق من حقوق‬ ‫الغنيمة ق ْبل ْ‬
‫المقاتلين؛ يعني‪ :‬ال َيسرق أحد من الجيش من المغنم‪ ،‬فالسرقة من‬
‫المغنم تسمى غلوال؛ والله عز وجل توعد َمن يأخذ من الغنيمة ق ْبل‬
‫الق َيا َم ِة﴾ [آل عمران‪ُ.]161:‬‬
‫ت بِما َغل يوم ِ‬
‫َْ َ‬
‫ِ‬
‫﴿و َم ْن َي ْغل ْل َي ْأ َ‬
‫قسمتها‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫ْ‬
‫لُُ َت ْغ ِدروا) هذا هني لقائد المسلمين‬ ‫(و َ ُ‬
‫والوصيةُُالخامسة‪ :‬قال‪َ :‬‬
‫وألفراد الجيش مِن الغدر بالكفار‪ ،‬أو غدْ ر الجيش بعضهم لبعض؛ وإنما‬
‫يجب الوفاء بالعهود والمواثيق‪ ،‬ويجب أن يكون المرء عىل ظاهره‪ ،‬أما‬
‫الخدعة يف الحرب من المسلمين ضد الكفار؛ فال بأس هبا‪ ،‬أما ق ْبل ذلك‬
‫ضرب المواثيق معهم؛ فقد هنى عنه النبي عليه‬
‫من الغدر بالكفار بعد ْ‬
‫الصالة والسالم‪.‬‬
‫ون ْقض العهد ينقسم إىل ثالثة أقسام‪ُ:‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪12‬‬

‫اْلول‪ :‬أن ال يكون ب ْين المسلمين وبين الكفار عهد؛ فهؤالء‬ ‫ِ‬
‫القسمُ َّ‬
‫يقا َتلون‪ُ.‬‬
‫أن يكون بين المسلمين وبين الكفار عهد؛ فال يجوز‬ ‫ِ‬
‫والقسمُالثان‪ْ ُ:‬‬
‫است َِقيموا َله ْم﴾ [التوبة‪ُ.]7:‬‬
‫اس َت َقاموا َلك ْم َف ْ‬
‫قتالهم‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬ف َما ْ‬
‫والقسمُُالثالث‪ُُ:‬إذا كان بينهما عهد‪ ،‬ولكن يخاف ويظن أن‬ ‫ِ‬

‫فهنا يجوز ن ْقض هذا العهد؛ كما قال‬ ‫المشركين س َينقضون العهد؛‬ ‫ِ‬

‫َق ْوم ِخ َيانَة َفا ْنبِ ْذ إِ َل ْي ِه ْم َع َلى َس َواء﴾ُ‬ ‫سبحانه‪َ ﴿ :‬وإِما َت َخا َفن مِ ْن‬
‫[األنفال‪ُ.]58:‬‬
‫لُت َم ِّثلوا) يعني‪ :‬زيادة يف التمثيل؛ يعني‪:‬‬
‫(و َ ُ‬
‫والوصيةُالسادسة‪ُ:‬قال‪َ :‬‬
‫أن تمثلوا لكن ال تزيدون يف التمثيل‪ ،‬ويف رواية‪َ «ُ :‬و َال َت ْمثلوا ُ»(‪،)1‬‬
‫لكم ْ‬
‫وهو مأخوذ من التمثيل عىل هذا اللفظ‪ ،‬وهو تغيير صورة المقتول بقطع‬

‫(‪ )1‬رواها مسلم‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب تأمير اإلمام األمراء عىل البعوث‪،‬‬
‫ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها‪ ،‬رقم (‪ ،)1731‬من حديث بريدة رضي اهلل‬
‫عنه‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫«و َال‬ ‫أهل ِ‬


‫العلم(‪)1‬‬
‫يصحح رواية‪َ :‬‬
‫ِّ‬ ‫يده أو أنفه ونحو ذلك‪ُ ،‬لذلك بعض ْ‬
‫َت ْمثلوا»‪.‬‬
‫حرمة اإلنسان وإن كان‬
‫وهذا أدب عظيم من آداب اإلسالم يف ْ‬
‫كافرا‪ ،‬فإذا مات ال يجدع أنفه‪ ،‬وال تقطع أذنه مثال أو يده؛ وإنما إذا مات‬
‫الكافر يدفن عىل حاله؛ فاإلسالم عظيم ال َيقصد بذلك التش ِّفي واالنتقام‬
‫من الكافر بعد موته؛ وإنما يريد اإلسالم دعوة الكافر إىل اإلسالم‪ ،‬فإذا مل‬
‫يسلم‪ ،‬يقتل؛ ألن قتْل الكافر يف حقيقته رمحة به؛ ألن كل يوم يطول عمره‬
‫فيه عذاب عليه؛ ألنه يعصي الله يف ِّ‬
‫كل يوم‪ ،‬فقتْله رمحة به؛ أما إذا قتل ثم‬
‫نأيت و َن ْمثل به؛ فليس هذا من أحكام اإلسالم‪.‬‬
‫لُ َت ْقتلواُ َولِيد ًا) والمراد بالوليد‪ :‬الصبي‪،‬‬
‫(و َ ُ‬
‫والوصيةُالسابعة‪ :‬قال‪َ :‬‬
‫و َيدخل فيه أيضا النساء‪ ،‬والشيوخ‪ ،‬والرهبان‪ ،‬والعباد؛ إذا مل يكن لهم يد‬
‫يف القتال؛ أي‪ :‬ال َتقتلوا طفال صغيرا؛ ألنه ال يقاتل‪ ،‬وكذلك الشيخ‬

‫(‪ )1‬مثل‪ :‬أبي الحسن‪ ،‬محمد بن عبد الهادي نور الدين السندي‬
‫(المتوىف‪1138 :‬هـ)‪ .‬حاشية السندي عىل سنن ابن ماجه (‪.)199/2‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪14‬‬

‫الكبير ال يقاتل‪ ،‬وكذلك المرأة وكذلك العبد‪ ،‬وقتْل هؤالء ينقسم إىل‬
‫قسمين‪ُ:‬‬
‫اْلول‪ :‬أن يقصدوا بالقتل؛ وهذا ال يجوز لهذا الحديث‪ُ.‬‬ ‫ِ‬
‫القسمُ َّ‬
‫ن‪ :‬إذا كانوا مع المقاتلين؛ فيجوز قتلهم‪ ،‬كما لو كانوا‬ ‫ِ‬
‫والقسم ُالثا ُ‬
‫ول الل ِه‪ ،‬إِنا‬ ‫م َت َت ِّرسين؛ لذلك لما سئل النبي صىل اهلل عليه وسلم َيا َرس َ‬
‫ات مِ ْن َذ َر ِار ِّي الم ْش ِركِي َن‪َ ،‬ق َال‪« :‬ه ْم مِنْه ْم»(‪.)1‬‬ ‫ن ِصيب فِي البي ِ‬
‫ََ‬
‫ثُُ‬‫ين؛ُ َفا ْدعه ُمُإِ َلىُ َث ََل ِ‬
‫نُالم ْشرِكِ َ‬
‫كُ ِم َُ‬ ‫(وإِ َذاُ َل ِق َ ُ‬
‫يتُ َعد َّو َُ‬ ‫َق َال رمحه اهلل‪َ :‬‬
‫ْ‬
‫الُ‪َ ُ-‬أ ُْوُ ِخ ََل ٍُلُ‪َ )-‬يذكر رمحه اهلل هنا ثالثة أمور عىل جيش المسلمين‬ ‫ِخ َص ٍُ‬
‫ْ‬
‫أن َيفعلها ق ْبل قتالهم‪ ،‬وسيأيت حكم ذلك‪.‬‬
‫فيشرع للقائد إذا نَزل ديار الكفار أن يدْ عهم إىل ثالث خصال؛ هذا‬
‫إذا كانت الدعوة قد َبلغتهم؛ فيستحب له ْ‬
‫أن يدعوهم إىل اإلسالم لعلهم‬
‫يسلِمون‪ ،‬أما إذا مل تكن الدعوة ب َلغتهم؛ فيجب عليه وجوبا أن يبلغهم‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب أهل الدار يبيتون‪ ،‬فيصاب الولدان‬
‫والذراري‪ ،‬رقم (‪ ،)3012‬ومسلم‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب جواز قتْل النساء‬
‫تعمد‪ ،‬رقم (‪ )1745‬من حديث الصعب بن جثامة‬
‫والصبيان يف البيات من غير ّ‬
‫الليثي رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫‪15‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫وك؛ُُ َفا ْق َب ْ ُ‬
‫لُ‬ ‫بدعوة اإلسالم‪ ،‬فإذا أجابوك؛ لذلك قال‪َ ( :‬ف َأ َّي َته َُّ‬
‫نُُ َماُُ َأ َجاب َ‬

‫ِم ْنه ْم‪َ ُ،‬وك َُّ‬


‫فُ َع ْنه ْم) أي‪ :‬اقبل منهم ما دعو َتهم‪.‬‬
‫س ََلمِ) ويف مسند أمحد(‪ )1‬من غير كلمة (ث َّم)؛‬ ‫قال‪( :‬ث َُّمُا ْدعه ُْمُإِ َلىُ ِ‬
‫اإل ْ‬
‫وك إِ َل ْي َها َفا ْق َب ْل مِنْه ْم‪َ ،‬وكف َعنْهم‪ :‬ا ْدعه ْم إِ َلى‬
‫وإنما « َف َأيت َها َأ َجاب َ‬
‫اإل ْس َال ِم»‪ ،‬ففي بعض النسخ ال توجد هبا كلمة (ث َُّم)‪.‬‬ ‫ِ‬

‫أهل حصن فادعهم إىل ثالث خصال‪ ،‬وهي‪:‬‬


‫حاصرت ْ‬
‫َ‬ ‫يعني‪ :‬إذا‬
‫ادعهم إىل اإلسالم‪ ،‬فأول ما تأيت أيها القائد إىل ديار الكافرين ادعهم إىل‬
‫اإلسالم‪ ،‬فيقول‪ :‬ديننا أن تشهدوا أن ال إله إال الله‪ ،‬وأن َتكفروا‬
‫بالطاغوت؛ فإذا أعلنتم اإلسالم ودخلتم فيه؛ نكف عن قتالكم‪.‬‬
‫وهذه الخصال الثالث‪ُ:‬‬
‫َ‬
‫الخصلةُاْلولى‪ :‬الدعوة لإلسالم‪ُ.‬‬
‫َ‬
‫والخصلةُالثانيةُ‪ُ-‬إذا مل يقبلوا اإلسالم ‪ :-‬الجزية‪ُ.‬‬
‫َ‬
‫والخصلةُالثالثة‪ :‬هي القتال‪.‬‬

‫(‪ )1‬رقم (‪.)22978‬‬


‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪16‬‬

‫س ََل ُِم)‪ ،‬يف هذا‬ ‫وقال صىل اهلل عليه وسلم هنا‪( :‬ث َُّم ُا ْدعه ُْم ُإِ َلى ُ ِ‬
‫اإل ْ‬
‫الحديث بين النبي صىل اهلل عليه وسلم أنه قبل القتال يجب أن يد َع ْوا إىل‬
‫اإلسالم‪ُ.‬‬
‫والقولُالثان‪ :‬أنه ال يجب أن يد َع ْوا إىل اإلسالم؛ ألن النبي صىل اهلل‬
‫عليه وسلم َأ َغ َار َع َلى َبنِي الم ْص َطلِ ِق َوه ْم َغار َ‬
‫ون(‪)1‬؛ يعني‪ :‬يف غفلة‪ُ.‬‬
‫والقولُُالثالث‪ :‬التفصيل؛ وهو أهنم إن كانوا َسمعوا اإلسالم؛‬
‫فيجوز لإلمام أن يباغتهم بالقتال‪ ،‬وإذ مل َيسمعوا باإلسالم؛ فيدعون إليه‪.‬‬
‫لُ ِم ْنه ْم) يعني‪ :‬اقبل‬ ‫( َفإِنُُْ َأ َجاب َ‬
‫وك) يعني‪َ :‬دخلوا يف اإلسالم؛ ( َفا ْق َب ْ ُ‬
‫أن َيدخل الناس يف‬ ‫منهم إسالمهم‪ ،‬وهذا المراد من َش ْر ِعية الجهاد؛ وهو ْ‬
‫دين الله‪ ،‬والقتال – أي‪ :‬الجهاد ‪ :-‬يقا َتل َمن َصد عن الدعوة‪ ،‬فإذا مل‬
‫َيصد الكافر عن الدعوة؛ فإنه ال يقا َتل كما سيأيت يف الجزية‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب العتق‪ ،‬باب من َملك من العرب رقيقا‪ ،‬فوهب وباع‬
‫وجامع وفدى وسبى الذرية‪ ،‬رقم (‪ ،)2541‬ومسلم‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب‬
‫جواز اإلغارة عىل الكفار الذين بلغتهم دعوة اإلسالم‪ ،‬من غير تقدِّ م اإلعالم‬
‫باإلغارة‪ ،‬رقم (‪ ،)1730‬من حديث عبد الله بن عمر رضي اهلل عنهما‬
‫‪17‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫فالمعنى‪ :‬فإذا دعو َتهم إىل اإلسالم‪َ ،‬‬


‫فأس َلموا؛ فاقبل منهم‪ ،‬وهذه‬
‫الخصلة ‪ -‬التي إن َأسلموا ‪ -‬تحتها أمران‪ُ:‬‬
‫َ‬
‫اْلول‪ :‬األمر بالهجرة‪ُ.‬‬
‫اْلمرُ َّ‬
‫واْلمرُالثان‪ُ:‬إذا مل ِ‬
‫يهاجروا‪.‬‬
‫اْلول ‪ -‬وهو الهجرة ‪-‬؛ قال عليه الصالة والسالم‪(ُُ:‬ث َُّمُ‬ ‫اْلمرُُ َّ‬
‫ين) يف‬ ‫نُ َد ِار ِه ْم)؛ ألهنا دار شرك‪( ،‬إِ َلىُ َد ُِ‬
‫ارُالمهَ ِ‬
‫اجرِ َ‬ ‫ا ْدعه ُْمُإِ َلىُال َّت َح ُّو ُِلُ ِم ُْ‬
‫كل َمن َأسلم ْ‬
‫أن يهاجر إىل المدينة؛ ألنه إ ْذ‬ ‫صدر اإلسالم كان واجبا عىل ِّ‬
‫ذاك ال يوجد بلد إسالمي سوى المدينة‪ ،‬فكانت الهجرة إىل المدينة‬
‫واجبة‪.‬‬
‫وبعد انتشار اإلسالم فأي بلد فيه إسالم تجب الهجرة إليه؛ فكل‬
‫َمن أسلم يجب ْ‬
‫أن يتحول من داره إىل دار اإلسالم‪.‬‬
‫إن هاجروا إىل بالد المسلمين؛ فأخبِ ْرهم‬ ‫(و َأ ْخبِ ْره ْم) يعني‪ْ :‬‬
‫ُ َ‬
‫رين)‬
‫اج َ‬ ‫(أنَّه ُْم ُإِنُْ ُ َف َعلوا ُ َذلِ َك؛ ُ َف َله ُْم ُ َما ُلِ ْلمهَ ِ‬
‫تشجيعا لهم وم َؤ َاز َرة لهم‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫ى ُالمهَ ِ‬
‫اجرِ َ‬
‫ين)ُ‬ ‫أي‪ :‬مِن الغنيمة ومن ال َف ْيء ونحو ذلك‪َ ،‬‬
‫(و َع َل ْي ِه ُْم ُ َما ُ َع َل ُ‬
‫من الحقوق‪ ،‬فلهم ما لهم من الحقوق‪ ،‬وعليهم ما عليهم من الواجبات‬
‫واألحكام؛ من الجهاد والصالة والزكاة ونحو ذلك‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪18‬‬

‫يهاجروا و َأ َب ْوا عن التحول‪ ،‬فقالوا أسلمنا ونريد‬ ‫اْلمر ُالثان‪ :‬إذا مل ِ‬

‫أن نبقى يف ديارنا؛ قال‪َ ( :‬فإِنُُْ َأ َب ْواُ َأنُُْ َي َت َح َّولواُ ِم ْنهَ ا؛ُ َف َأ ْخبِ ْره ُْمُ َأنَّه ُْمُ َيكونونَُُ‬
‫ىُُا َّل ِذيُُ َي ْجرِيُُ َع َلىُ‬ ‫ين‪َ ُُ،‬ي ْجرِيُُ َع َل ْي ِه ُْمُُح ْكمُُُال َُّل ُِهُُ َت َعا َل ُ‬ ‫ابُُالم ْسلِ ِم َ‬
‫َك َأ ْع َر ِ ُ‬
‫المؤْ ِمن ِ َ‬
‫ين) والذي يجري عىل أعراب المسلِمين‪ :‬أنهم ال َيشملهم ال َق ْسم‬
‫من الفيء‪ ،‬وكذلك من الغنيمة‪ ،‬ومع عدم هجرهتم يجري عليهم ما‬
‫يجري عىل أحكام المؤمنين؛ من الصالة والزكاة والصوم ونحو ذلك‪.‬‬
‫يم ُِةُ َوال َف ْي ُِءُ َش ْي ٌء؛ُإِ َّلُُ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لُ َيكونُُ َله ُْمُفيُال َغن َ‬
‫(و َ ُ‬
‫ثم تأكيدا لذلك؛ قال‪َ :‬‬
‫ين) يعني‪ :‬إذا مل يهاجروا فليس لهم من الفيء‬ ‫اهدوا ُ َم َُع ُالم ْسلِ ِم َ‬
‫َأنُْ ُي َج ِ‬

‫والغنيمة شيء إال أن يقاتلوا مع المسلِمين‪ ،‬وإذا مل يهاجروا وقاتلوا مع‬


‫المسلِمين؛ لهم الفيء والغنيمة‪.‬‬
‫الخصلة ُالثانية‪َ :‬يعرض عليهم اإلمام د ْفع الجزية؛ لذلك قال‪:‬‬
‫ثم ُ َ‬
‫الج ْز َي َة) والجزية‪ :‬هي ما َيدفعه الذ ِّمي للمسلِمين‬
‫س َأ ْله ُْمُ ِ‬
‫( َفإِنُُْه ُْمُ َأ َب ْوا؛ُ َفا ْ‬
‫مقابل محاية المسلمين لهم؛ فال يقتلوا‪ ،‬وال يؤ َذ ْوا‪ ،‬وت َ‬
‫عصم أموالهم‬
‫وذراريهم‪.‬‬
‫فُ‬ ‫ل ُ ِم ْنه ُْم) الجزية‪َ ،‬‬
‫(وك َُّ‬ ‫( َفإِنُْ ُه ُْم ُ َأ َجاب َ‬
‫وك) ودفعوا الجزية؛ ( َفا ْق َب ْ ُ‬
‫َع ْنه ْم) فال تقاتلهم‪.‬‬
‫‪19‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫أن ي ِ‬ ‫ِ‬
‫حمي المسلمون دم الكافر يف داره‬ ‫أجل ْ َ‬
‫فتدفع هذه الجزية من ْ‬
‫بأن ال يعتدي أحد عليه مِن ْ‬
‫أهل اإلسالم؛ فهذا المبلغ – الجزية ‪ -‬الذي‬
‫يؤخذ منه للحفاظ عليه‪.‬‬
‫الخصلةُالثالثة‪ :‬وهي القتال‪ ،‬قال‪َ ( :‬فإِنُُْه ُْمُ َأ َب ْوا) يعني‪ :‬د ْفع الجزية؛‬ ‫َ‬
‫نُ ُبِال َُّل ُِهُ َو َقاتِ ْله ُْم ُ)‪.‬‬
‫س َت ِع ُْ‬
‫(فا ْ‬
‫فدل عىل أن الحكمة مِن مشروعية الجهاد ليس حب القتال؛ وإنما‬
‫نشر اإلسالم‪ْ ،‬‬
‫فإن أسلموا ال نقاتلهم‪ ،‬وإن أبوا نأخذ منهم الجزية؛‬ ‫هو ْ‬
‫لعلهم يسلِمون‪ ،‬فدل عىل أن الجهاد مشروع لنشر دعوة اإلسالم؛ لذلك‬
‫كانت فيه هذه الخصال الثالث‪.‬‬
‫عهد بعد‬
‫ف َيبدأ القتال ب ْين المسلمين وب ْين الكفار‪ ،‬فإذا حصل بينهم ْ‬
‫(وإِ َذاُ‬
‫توقف القتال أو أثناء القتال؛ قال النبي صىل اهلل عليه وسلم‪َ :‬‬
‫وك َُأنْ ُ َت ْج َع َلُ َله ْمُ ِذ َّم َةُال َُّل ِه َُو ِذ َّم َةُ َنبِ ِّي ِه) يف هذا‬ ‫اصر َت َُأ ْه َل ِ‬
‫ُح ْص ٍن‪َ ُ،‬ف َأ َراد َ‬ ‫َح َ ْ‬
‫الحديث أمران‪:‬‬
‫وعهد نب ِّيه‪ ،‬أو أحدمها‪.‬‬
‫عهد الله‪ْ ،‬‬
‫اْلمرُاْلول‪ْ :‬‬
‫َّ‬
‫واْلمرُالثان‪ :‬حكم الله‪.‬‬
‫وكال األمرين منهي عنهما‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪20‬‬

‫اص ْر َت) الحصار‪ :‬هو التضييق‪َ ،‬‬


‫(أ ْه َلُ‬ ‫(وإِ َذ َ‬
‫اُح َ‬ ‫اْلمرُاْلول‪ :‬قال‪َ :‬‬
‫َّ‬
‫ِح ْص ٍن) الحصن‪ :‬ما يتقى به؛ ( َف َأ َراد َُ‬
‫وك) أي‪َ :‬طلبوا منك‪َ ،‬‬
‫(أنْ ُ َت ْج َع َلُ َله ْمُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عهد نب ِّيه؛ يعني‪ :‬لو كان هناك‬ ‫(و ِذ َّم َةُ َنبِ ِّيه) أي‪ْ :‬‬ ‫ِذ َّم َةُال َّله) أي‪ْ :‬‬
‫عهد الله‪َ ،‬‬
‫حصار ف َطلب العدو من أمير المسلمين وعموم المسلمين ْ‬
‫أن َيجعلوا‬
‫لهم عهد الله وعهد نبيه أن ال َيقتلوهم؛ وإنما َيخرجوا بأمان من الحصن‬
‫مثال‪ ،‬فقال النبي صىل اهلل عليه وسلم‪َ ( :‬ف ََلُ َت ْج َع ْلُ َله ْمُ ِذ َّم َة ُال َُّل ِه َُو َلُ ِذ َّم َةُ‬
‫ِ‬
‫وعهد رسوله؛ تعظيما لجانب‬ ‫َنبِ ِّيه) يعني‪ :‬ال تقول أنا أعاهدكم بعهد الله ْ‬
‫النبي صىل اهلل عليه وسلم‪.‬‬ ‫الله وجانب ِّ‬
‫(و ِذ َّم َة َُأ ْص َحابِ َك) أي‪ :‬يقول‬ ‫(و َلكِ ِن ْ‬
‫ُاج َع ْلُ َله ْمُ ِذ َّم َت َك) أي‪ْ :‬‬
‫عهدك‪َ ،‬‬ ‫َ‬
‫األمير‪ :‬أعاهدكم أن ال َأقتل منكم أحدا إذا َخرجتم يف النهار مثال‪ ،‬أو‬
‫أن َتخرجوا بال ِ‬
‫أذية مثال‪ ،‬وهنا‬ ‫يقول‪ :‬أنا وأصحابي نعاهدكم بعهدنا ْ‬
‫جعل العهد لألمير‪ ،‬وألصحابه؛ ألن العهد َيشمل األمير و َيشمل أصحابه‬
‫ْ‬
‫بأن يلتزموا بما عاهدوا به العدو‪.‬‬
‫والعلة يف ذلك‪َ ( :‬فإِنَّك ْم َُأنْ ُت ْخ ِفروا) أي‪َ :‬تنقضوا‪ِ ( ،‬ذ ََمَك ُْم ُ َو ِذ َم َمُ‬
‫عهد مِنا أنا األمير ومن أصحابي‪ ،‬لو‬ ‫بأن قلتم ْ‬ ‫َأ ْص َحابِك ُْم ُ) أي‪ :‬عهدكم‪ْ ،‬‬
‫(أ ْه َون ُِم ْن َُأنْ ُت ْخ ِفروا) أي‪ :‬تنقضوا‪ِ ( ،‬ذ َّم َةُ‬
‫(أ ْه َون) حرمة‪َ ،‬‬ ‫نقضتم ذلك؛ َ‬
‫‪21‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال َُّله َُو ِذ َّم َةُ َنبِ ِّيه)؛ ألن إبرام العقد بذمة الله وذمة ِّ‬
‫النبي صىل اهلل عليه وسلم‬
‫يف حياته أمر عظيم‪ ،‬فب ْعد مماته ال يجوز ْ‬
‫أن يقال‪ :‬ذمة نب ِّيه؛ وإنما يقال‪:‬‬
‫ذمة الله ‪ -‬إن قيل ‪ -‬مع أنه ال يقال ذلك؛ فال يقول قائل‪ :‬ما فع ْلناه وذمة‬
‫الله‪ ،‬أو‪ :‬أعاهدكم بذمة الله؛ لكن يقول‪ :‬أجعل هذا العهد يف ذمتي‪ ،‬وأن‬
‫أصحابي يوفون به‪.‬‬
‫ِ‬
‫فمن تعظيم الله‪ ،‬وتعظيم رسوله صىل اهلل عليه وسلم أن ال يجعل‬
‫العهد باسمهما؛ وهذا الشاهد من الحديث يف الباب‪ُ .‬‬
‫اص ْر َتُ‬ ‫(وإِ َذ َ‬
‫اُح َ‬ ‫ن‪ :‬الحكم؛ فقال عليه الصالة والسالم‪َ :‬‬ ‫واْلمرُالثا ُ‬
‫ُع َلىُح ْك ِم ُال َُّل ِه) بأن قال ْ‬
‫أهل حصن‪:‬‬ ‫وك َُأنْ ُت ْن ِز َله ْم َ‬ ‫َأ ْه َل ِ‬
‫ُح ْص ٍن‪َ ُ،‬ف َأ َراد َ‬
‫بأن نَخرج مثال‪ ،‬أو ْ‬
‫بأن تأخذ منا عشرة آالف ريال‬ ‫احكم فينا بحكم الله‪ْ ،‬‬
‫‪ -‬مثال ‪ -‬ونحو ذلك؛ قال عليه الصالة والسالم‪َ ( :‬ف ََلُت ْن ِز ْله ْم َُع َلىُح ْك ِمُ‬
‫ال َُّل ِه؛ُ َو َلكِ ْنُ َأ ْن ِز ْله ْمُ َع َلىُ ح ْك ِم ْك) أي‪ :‬أنت األمير‪ ،‬ومل يقل هنا‬
‫وأصحابك؛ ألن الحكم عند األمير؛ ْ‬
‫بأن يقول مثال‪ :‬حكمت عليكم‬
‫بحرق نخيلكم مثال‪ ،‬وال يقول حكمت عليكم بحكم الله بحرق‬
‫نخيلكم؛ وهذا من تصحيح األلفاظ‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪22‬‬

‫(أت ِصيبُ‬
‫َّك َُلُ َت ْد ِري) يعني‪ :‬أيها األمير‪َ ،‬‬‫والعلة يف ذلك‪ ،‬قال‪َ ( :‬فإِن َ‬
‫أن تخرجوا‬‫ُل) فلو قلت‪ :‬حكمت عليكم بحكم الله ْ‬ ‫ح ْك َمُال َُّل ِهُفِ ِ‬
‫يه ُْمُ َأ ْم َ ُ‬
‫يُأت ِصيبُ‬
‫َّك َُلُ َت ْد ِر َ‬
‫العصر‪ ،‬فقد ال يكون هذا حكم الله؛ لذلك قال‪َ ( :‬فإِن َ‬
‫ح ْك َمُال َُّل ِهُفِ ِ‬
‫يه ْم َ‬
‫‪ُ،‬أ ْم َُل)‪.‬‬
‫أن َأحكم عليكم بحكم الله أنكم‬
‫فال تقل مثال‪ :‬بيني وبينكم عهد ْ‬
‫َتمكثون يف الجهة الشرقية‪ ،‬وهذا هو حكم الله؛ ال‪ ،‬ال يقول‪ :‬هذا حكم‬
‫أن َتمكثوا يف الجهة الشرقية مثال‬
‫الله؛ وإنما يقول‪ :‬حكمت عليكم ْ‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫فال يقول حكم الله‪ ،‬لماذا؟ كما قال عليه الصالة والسالم‪َ ( :‬فإِن َ‬
‫َّكُ‬
‫َلُ َت ْد ِريُ َأت ِصيبُ ح ْك َمُُال َُّل ِهُ فِ ِ‬
‫يه ْم‪َ ُ،‬أ ْمُ َل)‪ ،‬فقد يكون حكم الله أنهم‬
‫َيمكثون يف الجهة الغربية مثال‪ ،‬أو حكم الله ْ‬
‫أن َيدفعوا المبلغ المعين ال‬
‫َيزيدوا عليه أو ال ينقصوا منه؛ فأنت ال تدري هل أصبت حكم الله فيهم‬
‫أم ال‪.‬‬
‫أن َيدفع للمسلِمين كل شخص‬
‫قلت مثال‪ :‬وحكم الله فيكم ْ‬
‫فلو َ‬
‫منكم عشرة آالف يف السنة‪ ،‬فال تقل‪ :‬هذا حكم الله؛ فقد يكون حكم الله‬
‫‪23‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫أقل مِن هذا المبلغ‪ ،‬أو يكون حكم الله أكثر من هذا المبلغ؛ لذلك قال‬
‫‪ُ،‬أ ْم َُل)‪.‬‬ ‫يُأت ِصيبُح ْك َمُال َُّل ِهُفِ ِ‬
‫يه ْم َ‬ ‫َّك َُلُ َت ْد ِر َ‬
‫عليه الصالة والسالم‪َ ( :‬فإِن َ‬
‫فاإلسالم أعطاك الحكم بالجملة بأخذ الجزية‪ ،‬لكن يف تحديد هذا‬
‫المبلغ وإنزاله عىل ذلك الشخص‪ ،‬ال تقل‪ :‬هذا حكم الله؛ وإنما يكون‬
‫ول األمر‪.‬‬
‫هذا اجتهاد القائد أو ِّ‬
‫وكذلك يف األمور االجتهادية‪ ،‬فالقاضي ال يقل‪ :‬حكمت عليك‬
‫أن َتدفع لزيد ما يطالب به‪ ،‬وهو عشرة آالف ريال‬
‫بحكم الله ورسوله ْ‬
‫مثال؛ ألنه قد تكون الدعوة كاذبة‪ ،‬أو كيدية‪.‬‬
‫فتبين مما َسبق‪ :‬أن ذمة الله وذمة نب ِّيه عليه الصالة والسالم ال تجعل‬
‫فذ ِّمة الله عز وجل شأهنا عظيم‪ ،‬وإنما َيجعل‬ ‫يف العهود وال يف المواثيق؛ ِ‬

‫الشخص ذمته وذمة أصحابه‪.‬‬


‫وكذا الحاكم ونحو ذلك ال يقل‪ :‬ما فعلته هو حكم الله أو ما قضيته‬
‫هو حكم الله؛ وإنما يقول‪ :‬هذا ما حكمت به واجتهدت فيه ونحو ذلك‪.‬‬
‫وكذلك المفتي ال يقل‪ :‬حكمت عليك بحكم الله أن هذا الفعل‬
‫أكثرت مِن الحركة يف‬
‫َ‬ ‫باطل ونحو ذلك؛ وإنما يقول‪ :‬اجتهدت أنك لما‬
‫صالتك قلت أن الصالة باطلة وهكذا‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪24‬‬

‫***‬
‫‪25‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫[‪]64‬‬
‫َبابُ‬
‫اإل ْق َسا ُِمُ َع َلىُال َُّل ِهُ‬
‫َماُ َجا َُءُفِيُ ِ‬

‫بُ ْب ِن َُع ْب ِدُال َُّل ِهُرضيُاهللُعنهُ َق َال‪َ ُ:‬ق َال َُرسولُال َُّل ِهُصلىُاهللُ‬ ‫َع ْنُج ْند ِ‬

‫‪ُ:‬وال َُّل ِه َُلُ َي ْغ ِفرُال َُّلهُلِف ََل ٍُن‪َ ُ،‬ف َق َالُال َُّلهُعزُوج ُ‬
‫ل‪َ ُ:‬م ْنُ‬ ‫عليهُوسلم‪َ «ُ:‬ق َال َُرج ٌل َُ‬
‫َذاُا َّل ِذيُ َي َت َأ َّلىُ َع َل َّي َُأ َّل َُأ ْغ ِف َرُلِف ََل ٍن؟!ُإِ ِّنيُ َق ْد َُغ َف ْرتُ َله َ‬
‫‪ُ،‬و َأ ْح َب ْطت َُع َم َل َ ُ‬
‫ك»ُ‬
‫َر َواهُم ْسلِ ٌم‪.‬‬
‫‪«ُ:‬أ َّنُال َقائِ َل َُرج ٌل َ‬
‫ُعابِ ٌد‪َ ُ.‬ق َالُ‬ ‫يث َُأبِيُه َر ْي َر َةُرضيُاهللُعنه َ‬ ‫يُح ِد ِ‬‫ُ َوفِ َ‬
‫َأبوُهرير َة‪َ ُ:‬ت َك َّلمُبِ َكلِم ٍة َُأ ْوب َق ْتُد ْنياه َُو ِ‬
‫آخ َر َته» ُ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬
‫َّ‬
‫الش ْرح ُ‪ُ:‬‬
‫ُِع َلىُال َُّل ِه)‪ ،‬قال‪ِ :‬‬
‫(اإل ْق َسامِ)‬ ‫اُجا َءُفِ ِ‬
‫يُاإل ْق َسام َ‬ ‫َق َال رمحه اهلل‪َ ( :‬بابُ َم َ‬
‫أن يقول الشخص‪ :‬أقسمت عليك يا‬ ‫أي‪ :‬كلمة أقسم‪َ ( ،‬ع َلىُال َّل ُِه) أي‪ْ :‬‬
‫الجنة‪ ،‬أو أقسمت عليك يا الله أن تجنِّ َبن ِي الفتن‪ ،‬أو ْ‬
‫أن‬ ‫الله ْ‬
‫أن تدخلني َ‬
‫تفعل كذا وكذا ونحو ذلك‪.‬‬
‫والمصنِّف رمحه اهلل مل َيذكر حكم ذلك؛ ألنه ينقسم إىل قِسمين‪:‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪26‬‬

‫سمُاْلول‪ :‬اإلقسام عىل الله؛ حس َن ظن به سبحانه‪ ،‬مِثل‪ :‬شخص‬ ‫ِ‬


‫الق‬
‫َّ‬
‫رب أن تنجيني من هذه الكربة؛ قال عليه‬ ‫يف كربة يقول‪ :‬أقسمت عليك يا ِّ‬
‫اد الل ِه َم ْن َل ْو َأ ْق َس َم َع َلى الل ِه َألَ َبره»(‪ُ.)1‬‬
‫الصالة والسالم‪« :‬إِن مِن ِعب ِ‬
‫ْ َ‬
‫القسم ‪ -‬وهو اإلقسام عىل الله حس َن ظن فيه ‪ -‬ال يستحب؛‬ ‫وهذا ِ‬

‫اد الل ِه َم ْن َل ْو َأ ْق َس َم‬


‫وإنما يباح؛ لقوله عليه الصالة والسالم‪« :‬إِن مِن ِعب ِ‬
‫ْ َ‬
‫َع َلى الل ِه َألَ َبره»(‪ )2‬يعني‪ :‬فيهم َمن لو إذا أقسم‪ ،‬وليس فيه حث عىل‬

‫ال َق َسم؛ لذلك مل يؤ َثر عن ِّ‬


‫النبي صىل اهلل عليه وسلم أنه أقسم عىل الله ‪-‬‬
‫فيما َأعلم ‪.-‬‬
‫رب‪ ،‬أنك َتغفر ل ذنبي‪ ،‬أو‬ ‫ِ‬
‫ومثل‪ :‬شخص يقول‪ :‬أقسمت عليك يا ِّ‬
‫توفقني ونحو ذلك‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب تفسير القرآن‪ ،‬باب ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم‬
‫القصاص يف القتىل الحر بالحر﴾ [البقرة‪ ،]178 :‬رقم (‪ ،)4500‬ومسلم‪ ،‬كتاب‬
‫القسامة والمحاربين والقصاص والديات‪ ،‬باب إثبات القصاص يف األسنان‪ ،‬وما‬
‫يف معناها‪ ،‬رقم (‪ ،)1675‬من حديث أنس رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫‪27‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫وهذه المقولة مشروطة بأن ال يقولها إال رجل تقي‪ ،‬أما غير التقي؛‬
‫فال يقولها‪.‬‬
‫فإذا قيل‪ :‬ما حكم إقسام الرجل التقي عىل الله بحسن الظ ِّن‪ ،‬هل هو‬
‫مشروع أم ال؟‬
‫نقول‪ :‬ال‪ ،‬األصل عدم مشروعيته‪.‬‬
‫اد الل ِه َم ْن َل ْو‬
‫فإذا قيل‪ :‬النبي صىل اهلل عليه وسلم يقول‪« :‬إِن مِن ِعب ِ‬
‫ْ َ‬
‫َأ ْق َس َم َع َلى الل ِه َألَ َبره‪ ،‬مِنهم ال َب َراء»(‪.)1‬‬
‫نقول‪ :‬هنا َأخبر النبي صىل اهلل عليه وسلم أن مِن عباد الله َمن لو‬
‫َأقسم عىل الله ألبره‪ ،‬لكن مل يأمره النبي صىل اهلل عليه وسلم باإلقسام‪ ،‬ومل‬
‫قسم ذلك الصحابي‪.‬‬ ‫ي ِ‬
‫ِ‬
‫فمن عباد الله َمن بلغ منزلة لو أقسم عىل الله ألبره؛ يعني‪ :‬ألبر‬
‫يمينه‪ ،‬لكن ذلك العابد مل ي ِ‬
‫قسم عىل الله عز وجل‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه الترمذي‪ ،‬أبواب المناقب‪ ،‬باب مناقب البراء بن مالك رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫رقم (‪ ،)3854‬من حديث أنس رضي اهلل عنه‪ ،‬ولفظه‪« :‬ك َْم مِ ْن َأ ْش َع َث َأ ْغ َب َر ِذي‬
‫طِ ْم َر ْي ِن َال ي ْؤ َبه َله َل ْو َأ ْق َس َم َع َلى الل ِه َألَ َبره مِنْهم ال َب َراء ْبن َمالِك»‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪28‬‬

‫بأي أمر‪ ،‬ولو عىل سبيل‬ ‫شرع ْ‬


‫بأن يقسم العبد التقي عىل الله ِّ‬ ‫إذا‪ :‬فلم ي َ‬
‫حسن الظن‪ ،‬لكن ْ‬
‫إن ف َعله وهو رجل تقي؛ نقول‪ :‬ال بأس‪ ،‬لكن األصل‬
‫عدم الشروع فيه‪.‬‬
‫ِ‬
‫والقسمُالثان‪ :‬إذا كان اإلقسام عىل سبيل التأ ِّلي والترفع عىل الله عز‬
‫الح ْجر‪ ،‬والحكم الجازم عىل الشخص بحدوث ذلك‬
‫وجل عىل سبيل َ‬
‫الفعل عليه أو له؛ وهذا ال يجوز‪ ،‬ولهذا بوب المصنِّف رمحه اهلل هذا‬
‫القسم‪.‬‬ ‫الباب مِن أجل هذا ِ‬
‫ْ‬
‫مِثل قولك‪ :‬والله ال َيهدي الله هذا الفاسق‪ ،‬أو والله ال َيهدي الله‬
‫هذا الكافر ونحو ذلك؛ وهذا محرم؛ ألنه ال يليق بتعظيم الله عز وجل‬
‫وت ْب ِ‬
‫جي ِل َجنَابِه سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ْ :‬‬
‫أن يقول الشخص‪ :‬والله ال َيغفر الله لزيد‪ ،‬فهو قد‬
‫وح َكم حكما جازما بأن الله لن‬
‫حجر مغفرة الله بأن ال َتدخل عىل زيد‪َ ،‬‬
‫َيغفر لزيد؛ وهذا ال يجوز‪ ،‬ألنه تعد عىل مقتضيات الربوبية‪ ،‬وسوء أ َدب‬
‫مع رب العالمين‪.‬‬

‫فليس للمخلوق أن َيحلِف عىل ِّ‬


‫الرب ْ‬
‫بأن َيفعل كذا وكذا‪ ،‬أو بعدم‬
‫مغفرته لعباده ورمحته لهم ونحو ذلك‪.‬‬
‫‪29‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫وكذا لو قال شخص‪ :‬والله لن يوفق هذا الرجل‪ْ ،‬‬


‫فإن كان عىل سبيل‬
‫الح ْجر‪ ،‬وعىل سبيل الحكم عليه بأنه لن يوفق؛ فهنا أتى النهي كما يف‬
‫َ‬
‫حديث جندب عن مِثل هذه العبارة؛ وهي مِن التأ ِّلي عىل الله‪.‬‬
‫والمصنِّف رمحه اهلل بوب يف هذا الباب عىل ِ‬
‫القسم الثاين‪ ،‬وهو التأ ِّلي‬
‫الح ْجر‪ ،‬والحكم عىل الشخص هبذا األمر؛ وهذا ال‬
‫عىل الله عىل سبيل َ‬
‫يجوز‪.‬‬
‫ومل يذكر نصوص ِ‬
‫القسم األول؛ ألن مقصد المصنِّف رمحه اهلل بيان‬ ‫َ‬
‫ما ي ِنقص كمال التوحيد‪.‬‬
‫والمصنِّف رمحه اهلل َذكر َنص ْين‪:‬‬
‫اْلول؛ لبيان تحريم اإلقسام عىل الله من باب التأ ِّلي عليه‬
‫َّص ُ َّ‬
‫الن ُّ ُ‬
‫سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫َّصُُالثان؛ لبيان تحريم ذلك ولو كان عىل سبيل ال َغ ْي َرة عىل‬
‫والن ُّ ُ‬
‫المحرمات أو الدِّ ين‪.‬‬
‫بُ ْب ِن َُع ْب ِدُال َُّل ِهُُرضيُاهللُعنهُ َق َال‪َ ُ:‬ق َال َُرسولُال َُّل ِهُُ‬
‫(ع ْنُج ْند ِ‬
‫لذا قال‪َ :‬‬
‫‪ُ:‬وال َُّل ِه َُلُ َي ْغ ِفرُال َُّلهُلِف ََل ٍن) هنا عىل سبيل‬
‫صلىُاهللُعليهُوسلم‪َ «ُ:‬ق َال َُرج ٌل َُ‬
‫الحجر بأن مغفرة الله لن تنال ذلك العبد‪ ،‬وعىل سبيل الجزم أيضا َح َك َم‬
‫َ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪30‬‬

‫عليه بأن الله لن َيغفر له‪ ،‬وسوف يدخله النار؛ وهذا فيه تعاظم عىل الله‬
‫كأنه يأمر ربه بأن ال يغفر له‪ ،‬أو لن ي ِ‬
‫غفر له‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وكذلك لو قال شخص‪ :‬والله لن َينجح فالن‪ ،‬أو‪ :‬والله لن يكون‬
‫غنيا‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫لُ َأ ْغ ِف َرُلِف ََل ٍُن) أي‪َ :‬من‬
‫يُ َأ َّ ُ‬ ‫( َف َق َالُال َُّلهُعزُوجل‪َ ُ:‬م ْنُ َذاُا َّل ِذيُ َي َت َأ َّل َ‬
‫ىُع َل َُّ‬
‫ذا الذي يأمرين ويتكبر ويتصرف و َيحلف عل‪ ،‬ويظن أن له تصرفا يف‬
‫تدبير الكون‪.‬‬
‫(إِ ِّنيُ َق ْدُ َغ َف ْرتُ َله) َغفر لذلك الذي حلِ َ‬
‫ف عليه؛ يعني‪ :‬الرجل‬
‫الفاسق‪.‬‬
‫فدل عىل أن األمر المكروه قد يأيت بخير‪ ،‬فصاحب المعصية هذا‬
‫َسمع كالما ال يحمد بأن الله لن َيغفر له؛ فأتاه ما ال َيخطر بباله وهو‬
‫غفران ذنوبه؛ بسبب تأ ِّلي ذلك الرجل عليه‪.‬‬
‫»ُر َواهُم ْسلِ ٌُم)‪ُ.‬‬
‫(و َأ ْح َب ْطت َُع َم َل َك َ‬
‫قال‪َ :‬‬
‫‪«ُ:‬أ َّنُال َقائِ َل َُرج ٌل َُعابِ ٌد) أي‪:‬‬
‫يث َُأبِيُه َر ْي َر َةُرضيُاهللُعنه َ‬ ‫يُح ِد ِ‬ ‫( َوفِ َ‬
‫للنبي‬ ‫ِ‬
‫فكأنه قاله عىل سبيل الغيرة والحمية للدين‪ ،‬والله عز وجل قال ِّ‬
‫صىل اهلل عليه وسلم‪َ ﴿ :‬ل ْي َس َل َك مِ َن ْاألَ ْم ِر َش ْيء﴾ [آل عمران‪ ،]128:‬لما‬
‫‪31‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫ف ي ْفلِح َق ْوم َشجوا َنبِيه ْم»(‪ ،)1‬فإذا كان الله هنى النبي صىل اهلل‬
‫قال‪َ « :‬ك ْي َ‬
‫عليه وسلم عن نفي الفالح عن قومه؛ فكيف باليمين يف ذلك‪.‬‬
‫يعني‪ :‬الذي قال والله ال َيغفر الله لفالن هو رجل عابد‪ ،‬ومع ذلك‬
‫أحبِ َط عمله‪.‬‬
‫وأن َينظر للعاصين بنظر‬ ‫المسلِم ْ‬
‫أن َيحفظ لسانه‪ْ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫فيجب عىل‬
‫الرمحة‪ ،‬والرأفة‪ ،‬والدعاء لهم؛ ال بالتحجير عليهم‪ ،‬وإبعاد مغفرة الله‬
‫لهم‪.‬‬
‫الجنة والنار من الرجل؛ فالرجل األول بكلمة‬
‫ويدل أيضا عىل ق ْرب َ‬
‫سمعها؛ غ ِفر له‪ ،‬وهذه الكلمة قد أساءته‪ ،‬ورجل صالح قال تلك الكلمة؛‬
‫فسبب تلك الكلمة دخل النار‪.‬‬
‫فعىل المرء ْ‬
‫أن َيحفظ لسانه؛ فقد تزل به القدم ببعض الكلمات التي‬
‫ال ي ِ‬
‫لقي لها باال؛ فتهلكه‪ ،‬حتى ولو كانت عىل سبيل الغيرة للدين ونحوه‪.‬‬

‫ِ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬باب ﴿ َل ْي َس َل َك م َن ْاألَ ْم ِر َش ْيء َأ ْو َيت َ‬
‫وب‬
‫ون﴾ [آل عمران‪ ،]128 :‬رقم (‪ ،)4069‬ومسلم‪،‬‬ ‫َع َل ْي ِه ْم َأ ْو ي َع ِّذ َبه ْم َفإِنه ْم َظالِم َ‬
‫كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب غزوة أحد‪ ،‬رقم (‪ ،)1791‬من حديث ابن عمر رضي‬
‫اهلل عنها‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪32‬‬

‫(وال َُّل ِه َُلُ َي ْغ ِفرُال َُّلهُلِف ََل ٍن)‪ُ.‬‬


‫( َق َال َُأبوُه َر ْي َر َة‪َ ُ:‬ت َك َّل َمُبِ َكلِ َم ٍة)‪ ،‬وهي‪َُ :‬‬
‫آخ َر َته) فدل عىل أن ذلك من كبائر‬ ‫هلكت‪(ُُ،‬د ْنياهُ َو ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫(أ ْو َب َق ْت) َأ‬
‫َ‬
‫الذنوب؛ ألنه قال تلك الكلمة التي كانت سببا يف دخوله النار – والعياذ‬
‫بالله ‪ ،-‬وكما قال صىل اهلل عليه وسلم‪« :‬إِن الرج َل َل َي َت َكلم بِال َكلِ َم ِة َال‬
‫ار»(‪ ،)1‬ويف الحديث اآلخر‪:‬‬ ‫َي َرى بِ َها ب ْأسا‪َ ،‬ي ْه ِوي بِ َها َس ْب ِعي َن َخ ِريفا فِي الن ِ‬
‫َ‬
‫الم ْغ ِر ِ‬ ‫ِ‬
‫ب»(‪.)2‬‬ ‫الم ْش ِرق َو َ‬
‫« َأ ْب َعدَ َما َب ْي َن َ‬
‫وإن‬ ‫المسلِم ْ‬
‫أن َيحفظ لسانه‪ ،‬وأن ال يحتقر اآلخرين‪ْ ،‬‬ ‫فيجب عىل ْ‬
‫كانوا عصاة؛ فقد َيغفر الله عز وجل لهم بسبب إحدى المك ِّفرات‪.‬‬
‫مظهرا لفسقه الشديد‪ ،‬أو ِ‬
‫مبتدعا داعيا‬ ‫لذا من رأى كافرا أو فاسقا ِ‬

‫لبدعته؛ ال يجوز أن يتألى الشخص يف هدايته‪ ،‬أو عدم المغفرة له بال َقسم‬

‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)7215‬من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الرقاق‪ ،‬باب ح ْفظ اللسان‪ ،‬رقم (‪ ،)6477‬ومسلم‪،‬‬
‫كتاب الزهد والرقائق‪ ،‬باب التكلم بالكلمة يهوي هبا يف النار‪ ،‬رقم (‪ ،)2988‬من‬
‫حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫‪33‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫ض كله ْم‬‫يف ذلك؛ قال سبحانه‪َ ﴿ :‬و َل ْو َشا َء َرب َك َآل َم َن َم ْن فِي ْاألَ ْر ِ‬

‫َج ِميعا﴾ [يونس‪.]99:‬‬


‫فتبين مما َسبق‪ :‬أن اإلقسام عىل الله ينقسم إىل قِسمين‪:‬‬
‫سمُاْلول‪ :‬قِسم ممنوع مطلقا‪ ،‬مثل‪ :‬ما ساق المصنِّف رمحه اهلل‬ ‫ِ‬
‫الق‬
‫َّ‬
‫أجله‪ ،‬وهو احتقار اآلخرين بعدم ن ْيل مغفرة الله‪ ،‬أو محبته‬ ‫ِ‬
‫هذا الباب من ْ‬
‫الجزم؛ فهذا فيه استخفاف‬
‫الح ْجر‪ ،‬وعىل سبيل َ‬
‫لهم‪ ،‬أو توفيقه عىل سبيل َ‬
‫بجناب ربوبية الله عز وجل‪.‬‬
‫ن‪ :‬إذا كان من باب حسن الظ ِّن؛ إذا كان مِن رجل تقي؛‬ ‫ِ‬
‫والقسمُالثا ُ‬
‫نقول‪ :‬جائز‪ ،‬لكن األصل ال نقول استحباب ذلك ابتداء‪.‬‬
‫عجب به‪،‬‬
‫فيجب عىل الشخص أن ال يزهو بعمله الصالح‪ ،‬وأن ال ي َ‬
‫وأن ال َينظر إىل العصاة والفساق نظرة ازدراء‪ ،‬واحتقار‪ ،‬واستبعاد مغفرة‬
‫الله لهم؛ فقد يكونون َيعملون أعماال صالحة يف الخفاء؛ َتغفر لهم‬
‫زالهتم‪.‬‬
‫المسلِم الطائع تجاه العصاة ْ‬
‫أن َينصحهم‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وإنما الواجب عىل‬
‫ويدعو لهم بالهداية والمغفرة ونحو ذلك‪ ،‬ال ْ‬
‫أن يتألى عىل الله عز وجل‬
‫باستبعاد مغفرة الله‪ ،‬ونوالها لهم‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪34‬‬

‫ُ‬ ‫***‬
‫‪35‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫[‪ُ ]65‬‬
‫ابُ ُ‬ ‫َب ٌ‬
‫لُي ْس َت ْش َفعُُ ُبِال َُّل ُِهُ َع َلىُ َخ ْل ِق ُِهُ‬
‫َُ‬
‫‪«ُ:‬جا َء َُأ ْع َرابِ ٌّيُإِ َلىُالنَّبِ ِّيُصلىُ‬ ‫َع ْنُج َب ْيرُِ ْب ِنُم ْط ِع ٍمُرضيُاهللُعن ُهُ َق َال َ‬
‫اعُ ِ‬
‫الع َيال‪ُ،‬‬ ‫ْل ْنفس‪َ ُ،‬و َج َ‬ ‫تُ ا َ‬ ‫ولُُال َُّل ِه!ُ ن ِه َك ِ‬ ‫اهللُ عليهُ وسلم‪َ ُ،‬ف َق َال‪َ ُ:‬ياُ َرس َ‬

‫اُربَّ َك‪َ ُ،‬فإِنَّاُ َن ْس َت ْش ِفعُ ُبِال َُّل ِه َُع َل ْي َك َ‬


‫‪ُ،‬وبِ َك َُع َلىُ‬ ‫س َت ْس ِقُ َل َن َ‬
‫َو َه َل َك ِ‬
‫تُا َ‬
‫ْل ْم َوال؛ُ َفا ْ‬
‫ال َُّل ُِه‪َ ُ،‬ف َق َالُالنَّبِ ُّيُصلىُاهللُعليهُوسلم‪«ُ:‬س ْب َحانَ ُال َُّل ِه!ُس ْب َحانَ ُال َُّل ِه!ُ َف ََم َُز َالُ‬
‫!ُأ َت ْد ِريُ َماُ‬ ‫وه َُأ ْص َحابِ ُِه‪ُ ،‬ث َّمُ َق َال‪َ ُ :‬و ْي َح َك َ‬ ‫فُ َذلِ َكُفِيُوج ِ‬ ‫ُح َّتىُعرِ َ‬ ‫ي َس ِّبح َ‬
‫ىُأ َح ٍدُ‪َ ...‬‬
‫»ُو َذ َك َرُ‬ ‫ال َُّله؟ُإِ َّن َُش ْأنَ ُال َُّل ِه َُأ ْع َظم ُِم ْنُ َذلِ َك‪ُ،‬إِنَّه َُلُي ْس َت ْش َفعُُبِال َُّل ِه َُع َل َ‬

‫‪ُ.‬ر َواه َُأبوُ َداو َد‪ُ.‬‬


‫يث َ‬‫الح ِد َ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫الش ْرح ُ‪ُ:‬‬
‫ىُخ ْل ِق ُِه) ( َب ٌ ُ‬
‫اب) أي‪ :‬من‬ ‫اب‪َ :‬لُي ْس َت ْش َفعُ ُبِال َُّل ِه َ‬
‫ُع َل َ‬ ‫َق َال رمحه اهلل‪َ ( :‬ب ٌ ُ‬
‫الوعيد يف ذلك والنهي عنه‪ ،‬وأنه مناف لكمال التوحيد؛ لكونه فيه هضم‬
‫لجناب الربوبية وتنقص من األلوهية‪.‬‬
‫ِ‬
‫شفاعة الله‪ ،‬والمراد بالشفاعة‪:‬‬ ‫(لُ ي ْس َت ْش َفعُ بِال َّل ِه) يعني‪ :‬طلب‬
‫َ‬
‫طلب الخير للغير‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪36‬‬

‫ىُخ ْل ِق ِه) أي‪ :‬طلب العبد من الله وهو الكبير ْ‬


‫أن َيشفع عند‬ ‫(ع َل َ‬
‫قال‪َ :‬‬
‫طلب العبد اآلخر؛ وهذا أمر محرم؛ ألن الله عز‬‫َ‬ ‫أحد مِن خ ْلقه؛ لي َل ِّب َي‬
‫وجل شأنه عظيم‪ ،‬وهو كبير‪ ،‬وطلب استشفا ِع الل ِه عىل خلقه‪ :‬إنزال من‬
‫مكانة الله العظيمة إىل الد ِّنو‪ ،‬فالله عز وجل ال يستشفع به عىل أحد من‬
‫خ ْلقه؛ وإنما الله هو الذي َيأمر و َينهى سبحانه‪.‬‬
‫ىُخ ْل ِق ِه) يعني‪ :‬ال تطلب شفاعة الله‬ ‫(لُي ْس َت ْش َفعُ ُبِال َُّل ِه َ‬
‫ُع َل َ‬ ‫ومعنى‪َ :‬‬
‫حق المخلوقين‪ :‬لو َذهب الطالب إىل‬ ‫عىل أحد مِن خ ْلقه‪ ،‬مثال ذلك يف ِّ‬
‫مدير الجامعة‪ ،‬وقالوا له‪ :‬اشفع لنا عند المع ِّلم َيشرح جيدا وال يغيب‪،‬‬
‫سمحت يا مع ِّلم‬
‫َ‬ ‫فهل مدير الجامعة َيأمر المعلم أو َيشفع؟! يقول‪ :‬لو‬
‫اشرح جيدا وال تغيب؟! أو إذا مل يشرح يبعده عن الجامعة؟! فكذلك‬
‫رب نَطلب منك أن تكون واسطة بيننا وبين‬
‫الرب عز وجل‪ :‬ال يقال يا ِّ‬
‫العبد الضعيف‪.‬‬
‫مثال آخر‪ :‬لو أن موظفا نقل من مكان إىل مكان‪ ،‬ف َيذهب زميله‬
‫ويقول‪ :‬أنا أشفع يا وزير أنك ال َتنقل هذا الرجل الفالين؛ أبقه يف هذا‬
‫المكان؛ هذا شيء مقبول لماذا؟ ألن الرجل الذي َشفع أقل من الوزير؛‬
‫لكن لو َذهب الموظف عند الملِك‪ ،‬وقال‪ :‬يا ملك اشفع لنا عند الوزير‬
‫‪37‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫أن ال ينقل فالنا‪ ،‬يقول الملك‪ :‬أنا ما أشفع؛ أنا آمر الوزير أمرا؛ ألين أنا‬
‫أعىل منه‪.‬‬
‫رب اشفع ل عند فالن أ ِّني‬‫فهنا لو قيل ‪ -‬تعاىل الله عن ذلك ‪ :-‬يا ِّ‬
‫َأدخل المستشفى مثال؛ هذا ال؛ الله أعظم مِن هذا ك ِّله؛ لذلك قال النبي‬
‫صىل اهلل عليه وسلم‪« :‬إِن َش ْأ َن الل ِه َأ ْع َظم مِ ْن َذل ِ َك»(‪.)1‬‬
‫وإنما رب العالمين هو الذي َيأمر الخلق وال يشفع عندهم؛ ألنه‬
‫بيده مقاليد السموات واألرض؛ قال سبحانه‪﴿ :‬إِن َما َأ ْمره إِ َذا َأ َرا َد َش ْيئا َأ ْن‬
‫ول َله ك ْن َف َيكون﴾ [يس‪.]82:‬‬
‫َيق َ‬
‫ىُخ ْل ِق ُِه) أي‪ :‬باب ال تطلب شفاعة‬
‫اب‪َ :‬لُي ْس َت ْش َفعُ ُبِال َُّل ِه َُع َل َ‬
‫لهذا ( َب ٌ ُ‬
‫الله عىل أحد مِن خ ْلقه‪.‬‬
‫(ع ْنُج َب ْيرُِ ْب ِنُم ْط ِع ٍمُرضيُاهللُعنهُ َق َال َ‬
‫‪«ُ:‬جا َء َُأ ْع َرابِ ٌّيُإِ َلىُالنَّبِ ِّيُُ‬ ‫قال‪َ :‬‬
‫صلىُاهللُعليهُوسلم) يعني‪ :‬أصاب الناس قحط؛ فجاء ذلك األعرابي‬
‫أن يدعو ربه ْ‬
‫أن يغيث العباد‬ ‫النبي صىل اهلل عليه وسلم طالبا منه ْ‬
‫إىل ِّ‬

‫(‪ )1‬رواه أبو داود‪ ،‬كتاب السنة‪ ،‬باب يف الجهمية‪ ،‬رقم (‪ ،)4726‬من حديث جبير‬
‫بن مطعم رضي الله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪38‬‬

‫والبالد‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول الله ‪ -‬بدأ يب ِّين له ويشكو حاله – يعني‪ :‬يا رسول‬
‫الله أب ِّين لك حالنا؛ لتدعو لنا ربك‪.‬‬
‫ولُُال َُّل ِه!ُ ن ِه َك ِ‬
‫تُ ا َ‬
‫ْل ْنفسُ) يعني‪ :‬ضعفت من شدة‬ ‫( َف َق َال‪َ ُ:‬ياُ َرس َ‬

‫اعُ‬
‫(و َج َ‬
‫الجوع‪ ،‬فما عندنا أكل نأكله؛ فاألرض ما تنبت وقد أجدبت‪َ ،‬‬
‫الع َيال) يعني‪ :‬ال طعام لهم لقلة الماء؛ ألن بالماء حياة الناس؛ كما قال‬‫ِ‬
‫سبحانه‪﴿ :‬وجع ْلنَا مِن الم ِ‬
‫اء كل َش ْيء َحي﴾ [المؤمنون‪ ،]30 :‬فالماء‪ :‬مادة‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ستعذبة ال لون لها وال ريح‪ ،‬يستَمتَع بش ْربِها‪ ،‬وأحيانا يجعلها الله عز‬
‫م َ‬
‫وجل عذابا‪ ،‬كما َأغرق به فرعون وسبأ وقوم نوح‪.‬‬
‫ْل ْم َوال) يعني‪ِّ :‬‬
‫الش َياه ونحو ذلك من هبيمة األنعام؛‬ ‫(و َه َل َك ِ‬
‫تُا َ‬ ‫قال‪َ :‬‬
‫وجه األرض؛ وإنما َهلكت‬
‫ألنه ليس يف األرض نبات فتبقى البهائم عىل ْ‬
‫فماتت‪.‬‬

‫س َت ْس ِقُ َل َن َ‬
‫اُربَّ َك) يعني‪ :‬اطلب من الله أن يسق َينا المطر؛ وهذا‬ ‫( َفا ْ‬
‫يدعو لِعموم الناس؛ كما‬
‫َ‬ ‫مشروع أن َيطلب الشخص من رجل صالح أن‬
‫‪39‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫ِ‬
‫النبي صىل اهلل عليه وسلم‬
‫عم ِّ‬‫َطلب عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه من ِّ‬
‫يدعو َلهم بنزول الغيث(‪.)1‬‬
‫َ‬ ‫العباس رضي اهلل عنه ْ‬
‫أن‬
‫النبي‬
‫فكان الصحابة رضي اهلل عنهم مثل هذا األعرابي يأيت إىل ِّ‬
‫صىل اهلل عليه وسلم َيطلب منه أن يدعو ربه؛ ألن دعوة األنبياء مستجابة‪،‬‬

‫س َت ْس ِقُ َل َن َ‬
‫اُربَّ َك) يف حياته عليه الصالة والسالم؛ جائز‪ ،‬أما بعد‬ ‫فقوله‪َ ( :‬فا ْ‬
‫مماته ال يجوز؛ ألنه قد مات عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫اُربَّ َك) عبارة سليمة‪.‬‬ ‫س َت ْس ِقُ َل َن َ‬ ‫قوله‪َ (ُ:‬فا ْ‬
‫وقوله‪َ ( :‬فإِنَّاُ َن ْس َت ْش ِفعُ ُبِال َُّل ِه َ‬
‫ُع َل ْي َك) نستشفع الله عندك؛ هذه العبارة‬
‫غير سليمة‪ ،‬هذه هي الكلمة المحذورة‪ ،‬وال تجوز؛ أي‪ :‬نَطلب من الله‬
‫رب‬ ‫أن يشفع لنا عندك يا محمد ْ‬
‫أن تدعو ربك لنا؛ يعني‪ :‬كأنا نقول‪ :‬يا ِّ‬ ‫ْ‬
‫اشفع لنا عند محمد أنه يدعوك؛ فهذا ما يجوز؛ ألنه طلب من األعىل‪،‬‬
‫وإذا طلِب من األعىل ال تطلب منه الشفاعة وإنما يطلب منه األمر‪ ،‬والله‬
‫عز وجل سبحانه وتعاىل ال َيشفع عند النبي صىل اهلل عليه وسلم ليفعل‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬أبواب االستسقاء‪ ،‬باب سؤال الناس اإلمام االستسقاء إذا‬
‫قحطوا‪ ،‬رقم (‪ ،)1010‬من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه‪.‬‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪40‬‬

‫كذا وإنما يأمره؛ قال سبحانه‪َ ﴿ :‬يا َأي َها الرسول َب ِّل ْغ َما أن ِْز َل إِ َل ْي َك مِ ْن َر ِّب َك‬
‫َوإِ ْن َل ْم َت ْف َع ْل َف َما َبل ْغ َت ِر َسا َلتَه﴾ [المائدة‪.]67:‬‬
‫ُع َلىُال َّلُ ِه) أي‪ :‬نستشفعك عند الله؛ وهذا ال بأس به‬ ‫(وبِ َك َ‬ ‫وقوله‪َ :‬‬
‫إذا كان النبي صىل اهلل عليه وسلم ح ّيا؛ يعني‪ :‬قالوا له‪ :‬يا رسول الله أنت‬
‫حي‪ ،‬ولك مكانة عند الله‪ ،‬ونَطلب منك أن الله ين ِْزل علينا الغيث؛ وهذا‬
‫ال بأس به‪ ،‬نطلب شفاعتك عند الله أن الله يغيثنا‪.‬‬
‫أيهما أعىل منزلة ودرجة ومقاما؟ رب العالمين سبحانه ال شك‪،‬‬
‫وهذه العبارة سليمة؛ ألن النبي صىل اهلل عليه وسلم َيشفع عند الرب‬
‫العظيم‪ ،‬من األدنى إىل األعىل؛ وهذا شيء مقبول‪.‬‬
‫ِ‬ ‫(وبِ َك َ‬
‫ُع َلىُال َّله) فهذا يف حياته‪ ،‬أما بعد ممات ِّ‬
‫النبي صىل اهلل عليه‬ ‫َ‬
‫وسلم؛ ال يدعى النبي صىل اهلل عليه وسلم؛ وإنما المشروع هو ْ‬
‫أن يصلى‬
‫ويسلم عليه‪ ،‬عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫( َف َق َالُالنَّبِ ُّيُصلىُاهللُعليهُوسلم‪ُ:‬س ْب َحانَ ُال َُّل ِه!ُس ْب َحانَ ُال َُّل ِه!) يعني‪:‬‬
‫جناب الله‪َ ( ،‬ف ََم َُز َالُ‬
‫ِ‬ ‫حق‬ ‫أن َِّزه الله عن ِّ‬
‫كل عيب ونقص‪ ،‬فهذا نقص يف ِّ‬
‫ي َس ِّبح) يعني‪ :‬كرر التسبيح‪ ،‬وهذا يدل عىل أن التسبيح يشرع إذا َس ِمع‬
‫‪41‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫اإلنسان أو رأى أمرا من َكرا‪ ،‬وهذا يدل عىل أنه يف حال التعجب يشرع‬
‫للمرء أن يقول‪ :‬سبحان الله سبحان الله‪.‬‬
‫وورد عن النبي صىل اهلل عليه وسلم أيضا أنه يك ِّبر إذا رأى أمرا‬ ‫َ‬
‫من َكرا أو متعجبا منه؛ فيقول‪« :‬الله أكبر»(‪ ،)1‬فهنا قال‪ُ( :‬س ْب َحانَ ُُال َُّل ِه!ُ‬
‫س ْب َحانَ ُال َُّل ِه!)‪.‬‬
‫وهُ َأ ْص َحابِ ِه) يعني‪ :‬من الكراهة لتلك‬ ‫فُ َذلِ َكُ فِيُ َوج ِ‬
‫(ح َّتىُ عرِ َ‬ ‫َ‬
‫اللفظة والخطأ فيها َع َرفوا أهنا كلمة من َكرة‪.‬‬
‫(ث َّمُ َق َال‪َ ُ:‬و ْي َحك!) كلمة تعجب أو كلمة زجر وتعنيف؛ أي‪ :‬ما‬
‫بالك؟ أو‪ :‬ويلك!‬
‫َ‬
‫(أ َت ْد ِريُ َماُال َُّله؟) يعني‪ :‬هل َتعرف ما هي جاللة وعظمة الله؛ هذا‬
‫استفهام للتعظيم؛ يعني‪ :‬هل َتعرف أن الله كبير؟ وال يشفع عند أحد من‬
‫خ ْلقه؛ وإنما يأمرهم وينهاهم؟‬

‫(‪ )1‬مثل حديث‪« :‬الله َأ ْك َبر! إِن َها السنَن»‪ .‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪،)21897‬‬
‫يثي رضي الله عنه‪.‬‬
‫من حديث أبي واقد الل ّ‬
‫شرح كتاب التوحيد‬ ‫‪42‬‬

‫ىُأ َح ٍد‪)».ُ.ُ.‬‬ ‫(إِ َّن َُش ْأنَ ُال َُّل ِه َُأ ْع َظم ُِم ْنُ َذلِ َك‪ُ،‬إِنَّه َُلُي ْس َت ْش َفعُ ُبِال َُّل ِه َ‬
‫ُع َل َ‬

‫ال من المالئكة وال من األنبياء وال غيرهم‪.‬‬


‫يعني‪ :‬أعظم مِن أنكم َتطلبون منه ْ‬
‫أن َيشفع عندي؛ فشأنه عظيم‪،‬‬
‫فهو األعىل‪ ،‬فال َتطلبون من األعىل إىل األدنى؛ وإنما الشفاعة من األدنى‬
‫إىل األعىل‪ ،‬يعني‪ :‬أنا أشفع لكم عند الله يف حيايت بأن الله يغيثكم‪.‬‬
‫أما الرب عز وجل تقولون‪ :‬يا رب اشفع لنا عند محمد عليه‬
‫الصالة والسالم؛ فهذا ال يجوز؛ ألن الله هو األعظم‪( :‬إِ َّن َُش ْأنَ ُال َُّل ِه َُأ ْع َظمُ‬
‫ىُأ َح ٍدُمنُخلقه) هنا الشاهد؛ يعني‪ :‬إن‬
‫ِم ْنُ َذلِ َك‪ُ،‬إِنَّه َُلُي ْس َت ْش َفعُ ُبِال َُّل ِه َُع َل َ‬

‫الله ال يكون شافعا عند أحد من خ ْلقه؛ بل هو الذي يأمر الخ ْلق‪ ،‬وهو‬
‫الذي ينهاهم‪ ،‬وهو الذي يدبر شؤوهنم وأحوالهم‪.‬‬
‫فلما كان طلب الشفاعة من الله عىل خ ْلقه فيه تنقص من جناب‬
‫الربوبية؛ ألن مقام الله عظيم سبحانه؛ ساق المصنِّف رمحه اهلل هذا الباب‬
‫يف كتاب التوحيد؛ لكونه مناف لكمال التوحيد الواجب ل ِ َما فيه من هضم‬
‫للربوبية‪ ،‬وقِلة تعظيم لله؛ وهذا قدح يف التوحيد؛ فالشفاعة ال تكون إال‬
‫من األدنى إىل األعىل‪.‬‬
‫‪ُ.‬ر َواه َُأبوُ َداو َد)‪ُ.‬‬
‫يث َ‬‫ُالح ِد َ‬
‫(و َذ َك َر َ‬
‫قال‪َ :‬‬
‫‪43‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع والعشرين‬

‫***‬

You might also like