Professional Documents
Culture Documents
الفرقة الرابعة
2019/2018
[موضوع هذه احملاضرات] تقديم..
احملتويات
القسم األول()1
1.3.3شمولية املكون التركيبي واملكون التفسيري في نظرية تشومسكي النحوية 39 ............
1.3.4أسئلة وتدريبات على محاضرتي "تشومسكي" األولى والثانية 46 ..................................
( )2التفكري اللغوي عند رواد مدرسة "الفريثيني اجلدد" 56 ...The neo-Firthian school
.1.2تعريف بمدرسة "الفيرثيين الجدد" The neo-Firthian schoolومبادئها اللغوية 57 ...
.2.2مالمح التفكير اللغوي عند جون سينكلير 61 ........................................ John Sinclair
.3.2ثق بالنص اللغوي 61 .......................................... ................................ Trust the text
.4.2البحث عن وحدات املعنى اللغوي 62 ............... The search for units of meaning
.5.2التصاحب اللفظي collocationوالتصاحب التركيبي 66 ....................... colligation
.6.2مستوى امليول الداللي preferenceوالتطريز الداللي 68 .............................. prosody
القسم الثاني
تقديم
اللغوية التي أعقبت فريث أو ما يشري إليها اللغويون بمدرسة "الفريثيون الجدد"
.Neo-Firthian schoolوهي أحدث املدارس اللغوية املعارصة يف بريطانيا وأكثرها
سيطرة عىل البحث اللغوي )1بما قدمته من رؤى جديدة ومناهج لغوية تطبيقية
تقوم عىل استيعاب الفكر اللغوي القديم؛ )2والعتماد أتباع هذه املدرسة -يف
تحليالتهم اللغوية -عىل نصوص حية تعكس واقع االستخدام اللغوي يف املجتمع ؛
)3والستخدامهم تقنيات بحث حاسوبية وإحصائية يف تحليل املادة اللغوية بما
يكسب تحليالتهم ونتائجهم بالدقة والواقعية واملوضوعية؛ )4ولتنوع مناهج رواد
هذه املدرسة ودراساتهم بما يغطي جوانب مختلفة من اللغة كما ي ُالحظ من :منهج
"الوحدة اللغوية املمتدة ")Extended Lexical Unit (ELUلجون سينكلري John
،Sinclairومنهج "االستدعاء العقيل للوحدات املعجمية والتصاحبات اللفظية Lexical
"Primingملايكل هووي ،Michael Hoeyومنهج "األنماط الرتكيبية Patterning
"Grammarلسوزن هانستن ،Susan Hunstonومفهوم "التطريز الداليل/الخطابي
"Semantic/Discourse Prosodyلبيل لوو ،Bill Lowوالرشوح النظرية ملايكل ستابس
Michael Stubbsوتطبيقاته عىل الدالالت/املعاني النصية للكلمات والعبارات " Words
"and phrasesيف املدونات اللغوية ،إلخ.
وبصفة عامة ،فإن االعتماد عىل املدونات اللغوية يساعد يف تحديد كل ما يمكن
كمي موضوعي لإلجابة عن السؤال :كيف استُخدمت مالحظته يف النص عىل أساس ّ
خطاب ما؟ ،أما توظيف آليات تحليل الخطاب فيفيد يف اإلجابة عن:ٍ نص أواللغة يف ٍ
ملاذا استُخدمت اللغة بهذا الشكل يف هذا الخطاب؟ وذلك من خالل استنباط الرسائل
الخطابية املشفرة يف االختيارات التعبريية ،وكذلك من خالل التفسري السياقي لهذه
الرسائل بربط الخطاب بالسياق االجتماعي-السيايس الذي أُنتج فيه .ويف اآلونة
األخرية ،صار من الشائع بني الباحثني االعتما ُد عىل املزج املنهجي بني تقنيات
نظرا للتكامل املنهجي الذيً املدونات اللغوية ومناهج التحليل النقدي للخطاب؛
يقدمه هذا املزج ،وضمان موضوعية البحث ودقته وتقديم األمثلة الكافية للتدليل عىل
الظواهر اللغوية -كما سيأتي بيانه.
أعود فأقول :إن الذي أقصد إليه من رضب هذين املثالني هو أن أدلل عىل
ً
مقارنة بنظريه يف افتقار الدارس العربي إىل تقديم هذه املناهج نظريًّا وتطبيقيًّا،
اإلنجليزية مثال .واستدرا ًكا لهذا ،فقد رأيت أن أخصص الجزء الثاني ( )2من القسم
األول من هذه املحارضات لعرض أبرز سمات التفكري اللغوي ملدرسة "الفريثيون
الجدد" ومناهجهم يف التحليل اللغوي؛ وكذلك املدونات اللغوية وتقنياتها ووظائفها،
ومميزات التحليل القائم عىل منهج املدونات اللغوية ،وتحليل الخطاب ،وأشهر
مناهجه ،واملبادئ املشرتكة بينها.
تتبقى نقطة أخرية أود اإلشارة إليها تتعلق باملعيار الذي اعتمدت عليه يف
اختيار املناهج والقضايا واملفاهيم اللغوية التي سأتناولها بالعرض والرشح يف
القسم األول من هذه املحارضات .فقد راعيت أن أركز عىل أهم القضايا واملفاهيم
التي تم تخصيبها وتطويرها -أو حتى مخالفتها واالستدراك عليها -يف املناهج
واألفقية اللغوية التي تلتها .فمفهوم العالقات الرأسية Syntagmatic
Paradigmaticالتي اقرتحها سوسري يف بدايات القرن العرشين مثال -قد تبناها فيما
بعد عدد من اللغويني -حتى أحسن توظيفها جون سينكلري يف القرن الواحد
والعرشين يف تحديد األنماط الرتكيبية Colligational patternsللوحدة اللغوية (عىل
املستوى األفقي) ،وميولها الداليل Semantic preferencesيف التصاحب مع كلمات من
حقول داللية معينة (عىل املستوى الرأيس)؛ مما يشكل املعاني النصية Textual
meaningsللوحدة اللغوية -كما سيأتي تفصيله.
القسم األول
( )1أبرز مسات التفكري اللغوي يف القرن العشرين
ً
مقتصرا على العناصر أتناول في هذا القسم أبرز سمات التفكير اللغوي في القرن العشرين،
التالية:
فرديناند دو سوسري
Ferdinand De Saussure
()1912-1872
لغوي سويسري ،ولد في جنيف عام 1875وتوفي عام .1913
يعتبره البعض األب واملؤسس ملدرسة البنيوية ورائد علم اللغة
الحديث في القرن العشرين .اشتهر بين علماء اللغة بثنائياته
ُّ
اللغوية وبنظرته للغة على أنها نظام ،وكذلك باتجاهه لدراسة
ً
اللغات دراسة وصفية باعتبار اللغة ظاهرة اجتماعية .أكثر
أعماله ً
تأثيرا كانت محاضراته في علم اللغة العام Course in
General Linguisticsالتي ألقاها في جامعة جينيف وفي معهد
الدراسات العليا بباريس ،والتي نشرها من بعده تلميذاه Charles Ballyو Albert Sechehayeعام
.1916وتعد هذه املحاضرات هي الباعث امللهم للبحث اللغوي في القرن العشرين؛ ليس فقط لتأثر
الكثير من اللغويين باألفكار اللغوية التي تضمنتها هذه املحاضرات ،وإنما للمنهج الجديد (املبتكر)
الذي قدمه فيها دي سوسير ملناقشة الظواهر اللغوية ،وملا تحتوي عليه من نظرات وأفكار ومبادئ
ُ
تعرف ألول مرة في الدرس اللغوي .وسأحاول التعريف بأبرز مالمح هذا املنهج وباإلطار العام للتفكير
اللغوي عند سوسير من خالل العناصر التالية:
.1.1.1مبادئ املدرسة السوسريية
.1.1.2ثنائية "اللغة" :اللغة املعينة / La langueالكالم La Parole
.1.1.2ثنائية العالمة اللغوية :الدال / signifierاملدلول signify
.1.1.2ثنائية العالقات :الرأسية / paradigmaticاألفقيةsyntagmatic
.1.1.2ثنائية املنهج :الوصفي / synchronicالتارخيي diachronic
.1.1.2مآخذ واستدراكات على منهج سوسري
مما يميز التفكري اللغوي عند سوسري أنه كان يهدف إىل تخصيص علم مستقل
لدراسة اللغة هو "علم اللغة" .Linguisticsودراسة اللغة دراسة علمية باستخدام
وسائل ومناهج العلوم األخرى كانت إحدى سمات التفكري اللغوي يف القرن التاسع
عرش .فقد تأثر شاليرش مثال يف نظرته للتطور اللغوي بأفكار دراون يف أصل األنواع.
وامتدادًا لهذا االتجاه ،تأثر سوسري نفسه بأفكار م ِ ِ
ُعارصه إميل دوركايم يف علم
ً
دراسة االجتماع والتي تتمحور حول إمكانية وصف الظواهر االجتماعية ودراستها
علمية كالظواهر الطبيعية.
وتقوم نظرة دي سوسري (العلمية) للغة عىل مبدأ مهم ،وهو أن اللغة نظام
systemله مكوناته املتكاملة وعالقاته املرتابطة ،يعكس قدرة اإلنسان عىل استخدام
اللغة يف املجتمع .والنظام اللغوي ،كما يراه سوسري ،نظام ّ
كيل كبري يتكون من أنظمة
صغرى تربطها عالقات تأثري وتأثر متبادلة ،وهذه األنظمة هي :النظام الفونولوجي
،Phonologyواملورفولوجي ،Morphologyوالنحوي ،Syntaxوالداليل .Semantics
وتكتسب العنارص اللغوية قيمتها وفق عالقاتها بعضها ببعض يف هذا النظام
املرتابط وليس بشكل منعزل أو مطلق .وقد لخص سوسري هذا املبدأ بوصفه "اللغة"
بأنها "صيغة" أو شكل وليست "مادة" "."a language is form, non-substance
ولتقريب هذه الفكرة ،قارن سوسري بني النظام اللغوي بالنظام يف لعبة الشطرنج،
وبالنظام يف شبكة السكة الحديد .فالنظام يف لعبة الشطرنج يعتمد عىل املوقع الذي
تحتله قطع الشطرنج وتتحدد قيمته يف ضوء املواقع املحيطة به ،وبالتايل تكتسب كل
قطعة قيمتها من املوقع الذي تشغله .وكذلك النظام يف شبكة السكة الحديد ،حيث
يتم تحديد القطار بموعده واتجاهه يف ضوء خط السري والحركة الذي يحدده نظام
الشبكة ككل .وهكذا ،تُعرف القطارات بمواعيدها وقطع الشطرنج بمواقعها التي
فقد قطعةصنعت منه .فقد ت ُ َ تشغلها يف النظام ككل ،وليس بالتكوين املادي الذي ُ
ً
معروفا بقيمة "الفيل" "حجرا" عىل سبيل املثال ،فيصري
ً "الفيل" ونستبدل بها
حجرا .وقد
ً ووظيفته التي يحددها النظام يف رقعة الشطرنج وليس بوصفه (املادي)
يتأخر قطار "السابعة والنصف صباحً ا -املتجه من مانشسرت إىل لندن" ،ورغم هذا
ً
معروفا بموعده واتجاهه املحدد يف نظام السكة الحديد. يظل
وعىل هذا النحو يعمل النظام اللغوي من وجهة نظر سوسري؛ حيث تكتسب
كل عالمة لغوية قيمتها ووظيفتها يف ضوء عالقاتها بالعالمات األخرى يف النظام،
وليس بمعزل عنه .إذن ،يمكن تعريف النظام اللغوي عند دي سوسري -عند هذا
الحد -بأنه ك ٌّل كبري يتكون من عنارص لغوية وأنظمة صغرى ،مرتابط بعالقات
تأثري وتأثر متبادلة ،تتحدد قيمة كل عنرص فيه ووظيفته يف ضوء عالقته بالعنارص
األخرى .وسنضيف أبعادًا أخرى لهذا املفهوم ،كالعرفية والوصفية وخالفية العالمة،
بعد أن نتناولها بالرشح يف معرض الحديث عن ثنائيات سوسري التي تبلور نظراته
اللغوية ،فيما ييل.
سبقت اإلشارة إىل أن دي سوسري اعترب اللغة -ال الكالم -هي موضوع البحث يف علم
اللغة .ولتحديد املقصود بـ "اللغة" التي يجب أن تخضع للدراسة العلمية ،يف ِّرق
سوسري بني ثالثة مفاهيم فرنسية :اللسان La langageو"اللغة "،La langue
و"الكالم" .La Parole
واملقصود باللسان هو اللغة باملعنى العام الذي يتمثل يف امل َلكة اللغوية
لإلنسان ومقدرته عىل النطق والتعبري بما يميزه عن الحيوان .وهذا املفهوم العام
للغة ينطوي عىل جانبني متصلني )1 :نظام الوحدات الصوتية ،والوحدات املعجمية،
والقواعد النحوية ،والرصفية ،والداللية التي أنتجها املجتمع وتعارف عليها واستقرت
يف أذهان أفراده يف صورة قواعد وقوانني ثابتة ومشرتكة؛ و )2التطبيقات الفردية
لهذا النظام ،وهي عديدة متنوعة.
فإذا طرحنا الجانب الثاني واقترصنا عىل الجانب األول فقط ،فإننا بهذا نقف
عىل ما يقصده دي سوسري بـ"اللغة" ،La langueالتي تتمثل يف النظام اللغوي
املختزن يف أذهان أفراد املجتمع بقواعده وقوانينه وعالقاته التي تنطبق عىل اللغة
املعينة كالعربية ،أو اإلنجليزية ،أوالفرنسية .واللغة بهذا التحديد توصف بأنها
اجتماعية socialأي هي ملك للمجتمع كله ال لكل فرد فيه عىل حدة؛ وهي عرفية
conventionalأي تضعها وتتعارف عليها الجماعة اللغوية التي تتكلم بها؛ ثم هي
متجانسة ،homogenousتصلح أن تُدرس وتُبحث علميًّا "ىف ذاتها ومن أجل ذاتها"-
عىل حد تعبري دي سوسري نفسه.
أما إذا اقترصنا عىل الجانب الثاني من اللغة بمعناها العام (وهو التطبيقات
الفردية للنظام اللغوي بوحداته وقواعده) ،فإننا نفهم املقصود بـ "الكالم" La
الشائع أن الدال هو اللفظ أو املشري أو الرمز اللغوي ،واملدلول هو اليشء أو املشار إليه
أو املعنى .واللغة عند دي سوسري عبارة عن "نظام من العالمات التي تعرب عن أفكار
."Language is a system of signs that express ideasوالعالمة اللغوية حسب دي
سوسري ذات طبيعة مزدوجة diadicأو double entity؛ فهي تتكون من وجهني
مرتبطني - inseparableعىل نحو ال يمكن فيه أن نفصل أحدهما عن اآلخر ،تمامًا
كوجهي الورقة ،أو وجهي العملة النقدية ،وهذان الوجهان هما الدال signifier
واملدلول .signifiedوالدال واملدلول عنده ليسا بذلك املفهوم املادي الشائع املشار إليه،
وإنما يشري الرجل إىل عالقة ذهنية بينهما تتمثل يف "املفهوم" conceptو"الصورة
الصوتية" .sound-imageوهذا هو األساس لفهم العالمة اللغوية عند دي سوسري،
فهو يستبعد الجانب املادي للدال واملدلول ويشري إىل الجانب املجرد لهما كما هو
مستقر يف الذهن .ولنرضب املثال التايل لتوضيح هذه النقطة .تتكون "الشجرة" من
العنارص التالية:
ومن هنا ،فإن العالمة اللغوية ال تربط شيئًا ماديًّا باسمه ،وإنما تربط
متصوَّ ًرا ذهنيًّا هو املدلول signifiedبصورة رمزه اللغوي material linguistic symbol
املختزن يف املخ وهو الدال .signifierولذلك فاللغة -وهي نظام من العالمات -ال
عىل حد تعبري (a simple naming- process تُخت َزل يف تسمية العالم الخارجي
سوسري) ،وإنما هي عملية تنظيمية ترميزية له.
ومثال آخر ،كلمة " "openيف اإلنجليزية مثال ،لها رمز لغوي مرسوم مختزن
يف الذهن هو الدال ،ثم املفهوم الذي تثريه يف الذهن حينما يرى الزبون عالمة open
عىل واجهة أحد املحالت ،فعىل الفور يدرك الزبون أن "هذا املكان مفتوح للتسوق أو
للعمل" وهو املدلول.
نُطقت ،وعن اليشء املادي لها يف الواقع كاملحل املغلق (أو كل ما يمكن أن تُعلق عليه
عالمة "مغلق") ،أو ماكينة سحب النقود التي هي خارج الخدمة أو ال تعمل (أو كل
ما يمكن أن تُعلق عليه هذه العالمة كالحافالت وكابينة الهاتف).
ً
عالقة وهي عرفية :conventionalفما دامت العالقة بني الدال واملدلول
اعتباطية ،فهذا يعني أنها اجتماعية عرفية ،استقرت يف املجتمع املعني واتفقت عليها
جماعته اللغوية وتعارف عليها أفراده ،يكتسبونها ويستخدمونها ويلتزمون بها،
وليس للفرد أن يغري أو يبدل يف العالمة من تلقاء نفسه.
وهي عالئقية املوقع :relationalال تكتسب قيمتها أو معناها إال بعالقتها
بالعالمات األخرى يف النظام نفسه.
وهي ذات طبيعة تباينية خالفية :differentialحيث ال تُميَّز إيجابيًّا بداللتها
عىل محتواها ،وإنما سلبيًّا بعدم داللتها عىل غري محتواها .فاللون األحمر ال يُميَّز
إيجابيًّا عىل أنه أحمر ،وإنما سلبيًّا بعدم داللته عىل األصفر ،أو األخرض ،أو األزرق،
إلخ .وهذا يفرس ما يقصده دي سوسري من أنه "ال يوجد ىف اللغة إال خالفيات".
سبق أن بينا مبدأ سوسري "أن اللغة نظام من العالمات" .وما دامت كذلك ،فإن قيمة
كل عالمة تتحدد يف هذا النظام يف ضوء عالقتها بغريها من العالمات األخرى .ويميز
دي سوسري بني نوعني من العالقات التي تربط بني الوحدات اللغوية :العالقة األفقية
،syntagmaticوالعالقة الرأسية .paradigmaticوهذا املبدأ السوسريي من املبادئ
اللغوية التي استمرت بعد دي سوسري حتى اآلن باملفهوم نفسه لفهم املعنى ،مع
يشء من التعديل الوظيفي ،كما سنوضح ً
الحقا.
فالعالقة بني الوحدات the :و colourو ofو thisو shirtو isو veryو ،brightمثال،
عىل املحور األفقي -عالقة موقعية تركيبية .أما العالقة بني colour :و volumeوtaste
و bladeيف العمود األول مثال -فهي عالقة استبدالية داللية ،يمكن أن تُستبدل إحداها
باألخرى دون أن يتغري الرتتيب الرتكيبي للجملة أو العبارة .والذي يحكم عملية
االستبدال هو التوافق الداليل .semantic preferencesفكلمة shirtيف القائمة الثانية
تقبل أن تتصاحب دالليًّا مع الكلمة colourيف القائمة األوىل ،وال تقبل أن تتصاحب
مع أيٍّ من الكلمات األخرى يف القائمة نفسها؛ وكلمة colourبدورها تتناسب دالليًّا
مع الكلمة brightيف القائمة الثالثة ،وال تقبل أن تتصاحب مع أيٍّ من الكلمات األخرى
يف نفس القائمة .أما تركيبيًّا (أي من حيث الصحة الرتكيبية عىل املحور األفقي)،
فيمكن ألي كلمة يف القوائم األفقية أن تحل محل غريها وال يتغري ترتيب الرتكيب؛
حيث حل اس ٌم محل اسم ،واستُبدلت صفة بصفة ،إلخ.
والعالقات الرأسية تشكل أنظمة صغرى تنتظم قوائم الوحدات اللغوية التي
يمكن استبدالها بعضها ببعض أو يحل بعضها محل بعض دون تغري يف ترتيب
الرتكيب اللغوي ،فلدينا نظام الضمائر ،والصيغ الرصفية ،واألسماء ،واألفعال،
وحروف الجر ،واألدوات ،إلخ .كما أن العالقة األفقية ال تنشأ بني الوحدات اللغوية
عىل املستوى الرتكيبي فقط ،بل تنشأ بني كل الوحدات اللغوية عىل كل املستويات
اللغوية :الصوتية ،والرصفية ،والنحوية ،والداللية يف ترتيب تقبله اللغة.
وكل وحدة لغوية (فونيم ،مورفيم ،كلمة ،تركيب ،إلخ) يمكن تحديدها
وتمييزها يف النظام اللغوي ككل يف ضوء هاتني العالقتني بـــ )1 :مقدرتها
التوزيعية التي تتمثل يف إمكانية وقوعها يف سالسل تركيبية عىل نحو متعاقب مع
وحدات لغوية أخرى؛ )2داللتها عىل أو انتمائها إىل قائمة من الوحدات املماثلة لها
والتي يمكن أن تُستبدل بها أو تحل محلها يف الرتكيب دون أن يختل ترتيبه.
وكما سبقت اإلشارة ،فإن القيمة اللغوية valueعند دي سوسري ال تكمن يف
الوحدة اللغوية ذاتها ،وإنما ت ُ َّ
عني وي َّ
ُتوصل إليها من خالل عالقة كل وحدة بغريها يف
النظام اللغوي .فقيمة قطعة "الحصان" يف لعبة الشطرنج مثال تتحدد بعالقتها
بالقطع األخرى يف النظام نفسه ،وتفقدها إذا ما نُظر إليها بمعزل عن هذا النظام.
وكما أن العالمات اللغوية تُحدَّد قيمتها سلبيًّا أو تعارضيًّا (بأنها ليست سواها من
ً
داللة محددة significationإذا ما استُخدمت العالمات املماثلة األخرى) ،فإنها تكتسب
يف نظام أو سياق معني .فاللون "األحمر" تُحدد قيمته يف حقل األلوان بأنه ليس
داللة محددة (وهي "قف!") يف النظام ً "أصفر" ،وال "أخرض" مثال؛ لكنه يكتسب
املعني "إشارة املرور".
من األفكار التقليدية التي كانت شائعة قبل سوسري أن الدراسة العلمية ل ُّلغة تتمثل
يف التحليل التاريخي؛ حيث التتبع التارخي للظواهر اللغوية يف فرتات زمنية متعاقبة
َ
األهمية التي تجعلها أساس وقد أوىل دي سوسري الوصف التزامني ل ُّلغة
الدراسة العلمية للغة ،حيث يرتكز التحليل عىل الوحدات والرتاكيب اللغوية
والعالقات الناشئة بينها يف فرتة زمنية واحدة ،ومن ثم فالدراسة التاريخية التي تهتم
برصد التغري الذي طرأ عىل اللغة عرب فرتات زمنية متعاقبة -ال تقوم إال عىل تحليل
وصفي سابق .والنقطة هنا أن دي سوسري لم يتجاهل الدراسة التاريخية للغة أو
يستبعدها ،وإنما كان اهتمامه البالغ بالدراسة الوصفية ناتجً ا عن تصوره للعالمات
اللغوية التي تنشأ بينها العالقات وتتحدد يف النظام البنيوي للغة يف زمن محدد ،وقد
تتطور من زمن إىل آخر.
يتضح لنا مما سبق أن منهج سوسري يف فهم طبيعة اللغة أنه منهج ثنائي يعمل من
خالل مجموعة من املفاهيم الثنائية أبرزها :الللغة والكالم ،والدال واملدلول،
والعالقات األفقية والرأسية ،والوصف التزامني والوصف التعاقبي .وهذه املفاهيم
الثنائية تشكل اإلطار النظري للمعالجة السيميائية semioticsوهو ليس موضوعنا يف
هذا الكتاب .إال أن ما أردت أن أسجله يف هذا املقام يتلخص يف أن السيميائية
السوسريية (وهي السيميائية البنيوية) تهتم يف املقام األول برصد البنَى الشكلية
العميقة ،ووصف العالقات الداخلية بني العنارص اللغوية التي يحتويها النظام يف
ضوء ما طرحه دي سوسري من مفاهيم وفرضيات .ولقد تبنى هذه املفاهيم من بعد
دي سوسري كثري من منظري البنيوية يف أوربا ،ووظفوها يف كثري من املجاالت
20 علم اللغة]2018 .. [االجتاهات احلديثة يف
[أبرز مسات التفكري اللغوي يف القرن العشرين] القسم األول)1( ..
الفكرية -حينما كانت البنيوية مذهبًا فكريًّا ومنهجً ا بعد الحرب العاملية الثانية.
ولعل أبرز هؤالء املنظرين ليفي اشرتاوس (يف األنثربولوجيا الثقافية) ،وجاك الكان
(يف التحليل النفيس) ،وروالن بارت (يف األدب والثقافة الشعبية) .إال أنه يف أواخر
ً
استجابة لتصاعد الستينات من القرن العرشين ،برزت السيميائية االجتماعية
االهتمام بالطابع االجتماعي للغة باعتبارها ممارسة رمزية اجتماعية ،يجب أن
تُدرس ضمن سياقات استعمال اجتماعية .فإذا كانت السيميائية البنيوية تركز عىل
دراسة النظام اللغوي املجرد ،فإن السيميائية االجتماعية تميل إىل دراسة االستخدام
الفعيل لهذا النظام كما تتحقق يف الكالم وطرائقه االجتماعية .ومن هنا يتبني ما
استُدرك عىل دي سوسري من )1 :إخضاع الكالم (ال اللغة املعينة فقط) للتحليل
اللغوي؛ )2عدم اقتصار دراسة املعنى عىل وصف العالقات الداخلية الشكلية بني
العنارص اللغوية يف النظام اللغوي ،وإنما توسيعها لتشمل العوامل غري اللغوية
ودورها يف تكوين املعنى أو تشكيله أو إنتاجه .وهذه نقطة يطول تفصيلها يف عمل
مستقل.
ً
خالفا لسوسري .وعليه ،فاالتجاه السائد بني فيه اهتماما كبريًا بالعالمات غري اللغوية
السيميائيني هو عدم الحديث عن اعتباطية العالمة عىل نحو عام ومطلق ،وإنما
يُفضل الحديث عنها عىل أنها وحدات ترتواح وتتباين ،كثريًا أو
قليال ،يف درجة تكوينها االعتباطي أو العريف.
.1.1ليونارد بلومفيلد
Leonard Bloomfield
()1887-1949
أحد علماء اللغة األمريكيين .ويعتبره الكثيرون أحد أهم رواد
اللغويات البنيوية structural linguisticsفي الواليات املتحدة
األمريكية في الثالثينات واألربعينات من القرن العشرين .ولد
بلومفيلد في والية شيكاجو بأمريكا عام ، 1887وكان والده
سيجموند بلومفيلد قد هاجر إلى أمريكا عام ، 1868وكان
لقب عائلته بلومينفيلد لكنه تغير إلى ما هو عليه اآلن بعد
الهجرة إلى الواليات املتحدة .وقد كان عمه موريس
بلومفيلد أحد اللغويين املعروفين في جامعة جونز هوبكينز.
وقد توجه اهتمام بلومفيلد إلى دراسة اللغويات بجامعة ويسكونسن-ماديسون ،ثم حصل على
الدكتوراه من جامعة شيكاجو عام ،1909وكان بحثه حول اللغويات التاريخية للغات األملانية.
ومن أهم أعمال بلومفيلد كتابه "اللغة" ،languageالذي يقدم فيه ً
وصفا شامال للغويات البنيوية
structural linguisticsفي أمريكا .وكان منهجه اللغوي يتميز بالتركيز على األسس العلمية،
واالنطالق من املذهب السلوكي behaviourismفي دراسة اللغة ،باإلضافة إلى االهتمام باإلجراءات
البنيوية في تحليل الوحدات اللغوية املعروف بمنهج التحليل إلى املكونات املباشرة immediate
.constituent analysisوسنحاول أن نتعرف على التفكير اللغوي عند بلومفيلد من خالل العناصر
التالية:
.1.2.1حتليل املكونات الرتكيبية املباشرة والنهائية Immediate & ultimate constituents
.1.2.2البعد السلوكي يف نظرة بلومفيلد لعملية إنتاج الكالم
.1.2.2أثر بلومفيلد يف املنهج التامجيمي Tagmemicsعند كينيث بايك Pike
.1.2.2بني بنيوية دي سوسري وبنيوية بلومفيلد
اللغة من وجهة نظر بلومفيلد هي نظام يتألف من وحدات لغوية مركبة يف سالسل
أفقية ،وكل وحدة لها خانتها slotالتي تشغلها يف الرتكيب .وهنا يبدو تأثره بدي
سوسري واضحً ا يف فكرة العالقات األفقية الرتكيبية .syntagmatic relationويعني
بلومفيلد باملكونات املبارشة عملية تحليل السلسلة الكالمية ( speech chainأو
الرتكيب) إىل الوحدات الرئيسية الكربى؛ ثم تقسيم هذه الوحدات الرئيسية بدورها
إىل الوحدات التي تتكون منها ،وهكذا حتى نصل بالتحليل إىل املورفيمات الصغرى
أو املكونات النهائية ultimate constituentsكما يسميها بلومفيلد ،والتى يتعذر
تقسيمها .كما يتضح من التحليل الشجري التايل للمثال الشهري الذي ساقه بلومفيلد:
poor John ran awayجون املسكني ف َّر بعيدًا.
S
جملة
ألمستوى ألعلى
immediate constituent NP VP
املكونات املباشرة مبتدأ خبر
األكثر تعقيدًاThis tree illustrates IC-analysis according to the constituency relation .
هذا التقسيم يوضح تحليل املكونات املبارشة ً
وفقا للعالقة التكوينية.
ويف هذا املثال ،تم تحليل الجملة أوال إىل أكرب جزأين أو عنرصين مبارشين
immediate constituentsفيها ،وهما االسم (املبتدأ) ،this treeو(الخرب الجملة الفعلية)
.illustrates IC-analysis according to the constituency relationثم تم تحليل الجزء
األول إىل مكوناته املتناهية :اسم اإلشارة ،thisاالسم ،treeوهكذا.
وهنا يبدو الفرق واضحً ا بني بلومفيلد ودي سوسري ،حيث اقترص اهتمام
بلومفيلد عىل البنية السطحية للرتكيب اللغوي (أو الصورة املادية للغة التي تتمثل يف
املكونات املبارشة يف الرتاكيب) مع إغفال البنية العميقة التي تتمثل يف املعنى العام
للرتكيب .فهو يركز يف تحليله عىل الوصف الشكيل القائم عىل املالحظة املبارشة
للوحدات اللغوية وفق مواقعها التي تحتلها يف الرتكيب ،عىل عكس اهتمام دي
سوسري بالعالقات األفقية العميقة التي تربط بني عنارص الرتكيب .ويُعترب هذا أحد
املآخذ التي أُخذت عىل منهج بلومفيلد يف التحليل اللغوي؛ )1لالهتمام الكبري بوصف
الرتكيب اللغوي من حيث الشكل عىل حساب الوظيفة أو العالقات بني الرتاكيب
كالنفي ،والبناء للمجهول؛ )2لعدم إمكانية تحليل كل األنماط الرتكيبية يف اللغة،
ً
خاصة أطولها وأعقدها .ولهذاُ ،سمي منهج بلومفيلد باملنهج الشكيل ،formalistic
وباملنهج البنيوي .structural approach
فجوع جيل ورؤيتها التفاحة يشكالن املثري ،وتسلق جاك الشجرة وإعطاؤها
التفاحة ،يشكالن االستجابة .فعملية النطق التي صحبت ًّ
كال من املثري واالستجابة
هي ذاتها الصيغة اللغوية التي تتم عن طريق أحداث عملية أي فيسيولوجية أو
فيزيائية أو هما معً ا .واالستجابة الكالمية عند املتكلم تحصل الرتباطها املبارش
باملثري بعيد ًة عن أي شكل من أشكال التفكري .وهكذا يتمثل البعد
السلوكي behavioral dimensionعند بلومفيلد يف تفسري اللغة عىل أنها سلسلة من
االستجابات املتتالية ملثريات سابقة ،تُرتجم يف صورة كالم ،تستدعي استجابات
.answersولهذا عُ رف منهجه باملنهج السلوكي behavioristic approachأو اآليل
.mechanistic approach
اإلنسانية التي قد تمثل مثريات أو دوافع تُرتجم يف صور كالمية تستدعي استجابات
منطقية من سامعيها أو متلقيها .ولذلك أعلن بلومفيلد يأسه من إمكانية دراسة
دراسة مقنعة؛ ألنها -عىل حد تعبريه -عملية تتطلب معرفة عِ لمية دقيقة ً املعنى
بكل يشء يف عالم املتكلم a scientifically" accurate knowledge of everything in the
."speaker's worldوهذا ما دفع بلومفيلد إىل االعرتاف بأن دراسة املعنى هي النقطة
األضعف يف دراسة اللغة ،وستظل كذلك ما لم يطور العلم وسيلة أخرى غري لغوية
تساعد يف تحديد املعنى ومن ثَم تحليله.
تنتظم الوحدات اللغوية وفق التحليل التاجميمي Tagmemic analysisيف سلسلة من
الخانات أو املواقع slotأو الوظيفة النحوية ،grammatical functionتشغلها أو تقع
فيها شواغل لغوية .fillersوالشاغل اللغوي هنا هو الصيغة أو الفئة النحوية word
classكاالسم ،والفعل ،والضمري ،والصفة ،إلخ -التي يصلح أن تُستبدَل يف الخانة
املعينة.
يف Kenneth Lee Pike وترجع فكرة التحليل التاجميمي إىل اللغوي األمريكي
أوائل الخمسينات يف كتابه" Language in Relation to a unified theory of the structure
." of Human Behaviorوقد أسس بايك منهجه هذا عىل منهج بلومفيلد يف تحليل
املكونات املبارشة ،لكنه استدرك عىل منهج بلومفيلد )1 :اقتصاره عىل الوصف
الشكيل للوحدات اللغوية يف الرتكيب دون اهتمام بالوظيفة؛ )2ثنائية التفريع binary
،cutsحيث إن جميع الرتاكيب تنقسم أو تتفرع إىل قسمني رئيسيني يتفرعان بدورهما
إىل أقسام فرعية أخرى -كما تقدم تفصيله .أما منهج بايك يف التحليل التاجميمي
فمتعدد التفريعات بحيث يتسع لكل الرتاكيب اللغوية مهما طالت أو تعقدت
عالقاتها .كما أنه يتأسس عىل الوظيفة النحوية للوحدات اللغوية يف الرتكيب.
والتاجميم (أو القالب النحوي) هو العالقة املتداخلة بني املوقع (أو الحيز أو
الخانة أو الوظيفة النحوية) ( slotكموقع الفاعليَّة مثال) ،والشاغل (أو الصيغة
اللغوية) fillerالتي يصلح أن تشغل هذا املوقع بشكل استبدايل مع مثيالتها
(كـ"االسم" مثال الذي يصلح أن يشغل موقع الفاعلية) .أو بعبارة أخرى ،التاجميم
هو العالقة بني املوقع والصيغة اللغوية التي يمكن أن تشغله يف الرتكيب ،فموقع
"املبتدأ" ي ُشغل بالصيغة النحوية "االسم املعرفة" .وبعبارة بايكthe correlation " :
of the grammatical function or slot with a class of mutually substitutable items
."occurring in that slotكما يف املثال التايل ،She saw John :حيث يشتمل الرتكيب
عىل ثالثة تاجميمات هي:
ومن هنا تتضح شمولية التاجميم الوصف الشكيل والوظيفي معً ا للوحدات
اللغوية يف الرتكيب .فوصفها من حيث هي ( )pronoun + t.verb +nounهو وصف
شكيل ألنواع الصيغ اللغوية التي انتظمت يف هذا الرتكيب ،أما وصفها من حيث هي
( )subject +verb + objectفهو وصف وظيفي للمواقع التي شغلتها الوحدات اللغوية
يف الرتكيب .أما الوصف التاجميمي فيتضمن الشكل والوظيفة معً ا ( Subject:
.)pronoun + verb: transitive verb + Object: noun
وكل كلمة يف صورتها الخام (أي قبل أن تشغل خانتها يف الرتكيب) فهي
شاغل ،وبمجرد أن تنتظم يف خانتها املناسبة يف الرتكيب ،تصبح تاجميمً ا (يتكون من
الخانة والشاغل معً ا ،ويحمل معنيني :أحدهما معجمي سياقي ،واآلخر تركيبي).
ومعلوم أن كل تاجميم يتكون من دال signifierومدلول .signifiedوالشكل التايل
يبني عالقة انتظام الشواغل بشكل قابل لالستبدال يف الخانات أو املواقع الرتكيبية
لتصبح تاجميمات.
فروقا بني نظرة دي سوسري (البنيوية) للغة ونظرة ً يتضح مما سبق أن هناك
بلومفيلد .فبينما يتخذ دي سوسري من "اللغة املعينة" موضوعً ا للدراسة العلمية يف
علم اللغة ،يركز بلومفيلد عىل دراسة "الكالم" .وهذا يتسق مع نظرة الرجلني للغة.
فهي عند دي سوسري نظام تجريدي من العالمات لرتميز العالم الخارجي وتشفريه
يف شكل تصورات وأفكار مختزنة يف الذهن وفق ما تعارفت عليه الجماعة اللغوية
وليس للفرد سلطة تغيريها -فاللغة شكل وليست مادة .أما بلومفيلد فريى أن اللغة
مادة تتجسد يف األحداث الكالمية التي تستثريها مثريات لدى املتكلم وتستدعي
استجابات من السامع .فنظرة بلومفيلد مادية سلوكية كما بينا.
أما من حيث منهج التحليل ،فإن دي سوسري يركز يف تحليله عىل العالقات
األفقية syntagmaticالتي تنتظم الوحدات اللغوية يف الرتكيب ،والعالقات الرأسية
paradigmaticالتي تغذي الرتكيب بالوحدات اللغوية القابلة لالستبدال يف كل موقع،
وبهذا يتضح تركيز الرجل عىل الخصائص الشكلية والعميقة للبناء اللغوي بكل
مستوياته الصوتية والرصفية والرتكيبية والداللية .أما بلومفيلد فقد اقترص يف تحليله
عىل الوصف الشكيل formal descriptionفقط للرتكيب اللغوي من خالل تحليله
شجريًّا إىل مكوناته املبارشة وما تتفرع عنه من مكونات جزئية حتى ينتهي التحليل
إىل املكونات املورفيمية النهائية التي يتعذر تقسيمها .وبهذا يغفل التحليل
الخصائص العميقة أو الوظائف الرتكيبية للوحدات اللغوية التي ينتظمها الرتكيب -
وهذا ما أدركه واستدركه بايك يف منهجه التاجميمي.
أما من حيث املعنى ،فقد فرق دي سوسري بني معنى العالمة وداللتها .العالمة
اللغوية عنده تتميز -كما بينا -بمفارقتها أو مخالفتها لغريها يف النظام اللغوي ،أما
إذا انتظمت يف الرتكيب اللغوي ،فإنها تكتسب داللة جديد ًة ،كما يتضح من املثال
الذي رضبناه بمعنى اللون األحمر يف نظام األلوان (فهو ليس أصفر وال أخرض)،
وبداللته الوظيفية يف نظام إشارات املرور (حيث يعني قف! ال تَعْ ُرب اإلشارة) .أما
يول املعنى اهتمامً ا كافيًا .فنظرته السلوكية للمعنى تقوم عىل ربط
بلومفيلد فلم ِ
املعنى باملوقف الكالمي :أي باملثريات النفسية أو الخارجية التي تقف وراء إنتاج
الكالم ،وما يستدعيه من استجابات لدى السامع .وهذا ما يقتيض املعرفة الشاملة
لكل املعارف والخربات والتجارب اإلنسانية التي تشكل املواقف الكالمية وتمثل
مثريات تُرتجم يف صور كالمية .وهذا ما بلغ ببلومفيلد درجة اليأس من دراسة
معرتفا بأن دراسة املعنى تمثل نقطة ضعف بارزة يف الدرس اللغوي ،عىل ً املعنى،
أمل أن يطور العلم وسيلة غري لغوية تسهم يف تحديد املعنى ومن ثم دراسته.
س :1يــرى بلوفيلــد أن اللغــة نظــام .اشــرح فيمــا ال يزيــد عــن ســطرين ،موهـ ًـحا تــأثره بــدي سوســير.
س :2ماذا يقصد بلومفيلد بتحليل املكونات املباشرة والنهائية؟
س :3كي ـ ــف تحل ـ ــل الجمل ـ ــة التالي ـ ــة وف ـ ــق م ـ ــنهج بلومفيل ـ ــد ال ـ ــجري ف ـ ــي تحلي ـ ــل املكون ـ ــات املباش ـ ــرة
والنهائية؟ "الطالب املجتهدون يحظون باحترام أساتذتهم"؟
س :4ما هو موقف بلومفيلد من دراسة املعنى؟
س :5ملاذا يسمى منهج بلومفيلد باملنهج السلوكي في دراسة اللغة؟
س :6كيف استدرك بايك في منهجه التاجميمي على أستاذه بلومفيلد؟
س :7ما املقصود بال ـ "الخانة"" /الشاغل"" /التاجميم"؟
س :8ما املقصود بشمولية التحليل التاجميمي للشكل والوظيفة؟
س :9هات من عندك مثاال ثم حلله وفق املنهج التاجميمي .
س :10قــارن بــين نظــرة كــل مــن بلومفيلــد ودي سوســير للغــة مــن حيــث :موضــوع علــم اللغــة ،واملعنــى
اللغوي ،ومنهج الدراسة.
.1.2نعوم تشومسكي
Noan Chomsky
()born in 1928
لغ ــوي أمريك ــيُ ،ول ــد ف ــي 7ديس ــمبر 1928ف ــي بنس ــلفانيا ،م ــن
عائلـ ــة يهوديـ ــة روسـ ــية .كـ ــان والـ ــده مـ ــن كبـ ــار علمـ ــاء اللغـ ــة
العبريــة؛ ممــا ســاهم فــي تشــكيل ميــول تشومســكي للدراســات
اللغوي ـ ــة .وإل ـ ــى جان ـ ــب عمل ـ ــه ف ـ ــي مج ـ ــال عل ـ ــم اللغ ـ ــة ،كت ـ ــب
وعـرف بفكـره تشومسكي عن الحـرب ،والسياسـة ،واإلعـالمُ ،
الفلسفي ونشاطه السياسـ ي .ألـف تشومسـكي أكثـر مـن 100
وفق ـا لقائمــة اإلحــاالت فــي األدب والعلــوم اإلنســانية كتــاب؛ و ً
عـ ــام ،1992فإنـ ــه قـ ــد ت ــم االستشـ ــهاد بتشومسـ ــكي كمرجـ ــع
ُ
أكثــر مــن أي عــالم ــي خــالل الفتــرة مــن 1980حتــى ،1992كمــا صــنف باملرتبــة الثامنــة ألكثــر املراجــع
التــي يــتم االستشــهاد بهــا علــى اإلطــالق .وقــد ُوصــف تشومســكي بال خصــية الثقافيــة البــارزة ،حيــث
صوت له كـ "أبرز مثقفي العالم" في استطالع للرأي عام .2005أثر فكره اللغوي على مجاالت علميـة ُ
عديدة كعلوم الحاسب ،واملنطق ،والرياضيات ،وعلـم الـنفس .كمـا يعـود إليـه تأسـيس نظريـة النحـو
التوليدي التحويلي ،Transformational generative grammarوالتي تعتبر مـن أهـم اإلسـهامات فـي
مج ـ ـ ــال عل ـ ـ ــم اللغ ـ ـ ــة النظ ـ ـ ـ ــري ف ـ ـ ـ ــي القـ ـ ـ ــرن العش ـ ـ ـ ــرين .كم ـ ـ ــا أس ـ ـ ــس م ـ ـ ــا ب ـ ـ ــات ُيعـ ـ ـ ــرف بـ ـ ـ ـ ـ "ترات ـ ـ ــب
تشومسـ ــكي" .Chomsky’s hierarchyوس ـ ــنحاول أن نتع ـ ــرف علـ ــى مالم ـ ــح التفكي ـ ــر اللغ ـ ــوي عن ـ ــد
تشومسكي من خالل العناصر التالية:
.1.2.1مبادئ النظرية النموذجية Standard theory
.1.2.2البنية السطحية والبنية العميقة Deep and surface structure
.1.2.2قواعد النحو التوليدي التحويلي Transformational generative grammar
.1.2.2مشولية املكون الرتكييب واملكون التفسريي يف نظرية تشومسكي النحوية
أما األساس الثاني الذي انطلق منه تشومسكي وهو األساس الريايضّ فيقتيض
أنه بإمكان عالم الرياضيات دراسة عدد المتنا ٍه من املجموعات التي تقع خارج
الدائرة ،وتتطابق مع املجموعة املحدودة التي تقع داخل الدائرة ،وقد سبقت
دراستها .فإذا كانت لدينا معادلة حسابية مثل ( 3س 5 +ص) ،فإننا نستطيع أن
نو ِّلد عددًا النهائيًّا من النتائج تختلف باختالف قيمة س وقيمة ص .وبتطبيقه هذا
املبدأ عىل النحو ،ميَّز تشومسكي بني الكفاية ( competenceمشريًا إىل املجموعة
املحدودة التي تقع داخل الدائرة :أي النظام اللغوي الكامن يف الذهن) ،واألداء
(performanceمشريًا إىل املجموعات التي تقع خارج الدائرة :النشاط الفعيل للنظام
اللغوي) .ولعل هذا التفريق يذكرنا بتفريق دي سوسري بني اللغة والكالم .غري أنه ال
اللغة املعينة كما حددها دي سوسري ،وإنما يقصد بها القدرة َ يعني بالكفاية
اإلنسانية عىل إنتاج اللغة -أية لغة.
بالبنية العميقة للغة (التي تحمل املعنى األسايس للرتكيب اللغوي ،ومن ثم يمكن أن
نولد منها عددًا من الجمل املماثلة يف الرتكيب ،وأن نحوِّل الرتكيب الواحد إىل تراكيب
أخرى تحمل املعنى األسايس ذاته).
اللغوية التي نسمعها أو نقرؤها بالفعل ،والتي تعكس جوانب املعنى األسايس
للرتكيب -كما قلنا.
والبنيتان -رغم هذا -متالزمتان ،تربطهما عالقة وثيقة؛ حيث تُح َّلل الرتاكيب
والجمل إىل مكوناتها اللغوية باعتبار البنيتني معً ا .فإذا أردنا -عىل سبيل املثال -أن
شخص ما بغلق الباب ،فإن البنية العميقة -وفقا لهذه ٍ نعرب عن الحدث اللغوي لقيام
الثنائية -ستشمل الصورة الذهنية للعنارص املكوِّ نة للحدث :كالفعل ،والفاعل،
واملفعول به ،وزمن الحدث .وهذه البنية العميقة بعنارصها يمكن تحويلها إىل البنية
السطحية يف إحدى الصور التالية:
املكونات الصغرى التي تمثل سلسلة من الخانات أو املواقع التي تملؤها الوحدات
املعجمية يف البنية السطحية ،كما يتضح من التحليل الشجري التايل:
فالبنية العميقة تمثِّل األساس الداليل يف الجملة ،والذي ينعكس بدوره يف
الصور الرتكيبية املتنوعة التي يتم تحويلها يف البنية السطحية .ومن هنا ،ذهب
تشومسكي وأتباعه إىل أن قواعد النحو التحوييل تقوم عىل ربط النحو باملعنى ،أو -
بعبارة أخرى -البنية العميقة بالبنية السطحية.
يرى تشومسكي أن النحو نظام متكامل من القواعد التي تعكس القدرة اللغوية عند
املتكلم .وهذا النظام يتكون من مكونني أساسيني هما املكون الرتكيبي structural
componentواملكون التفسريي ،imperative componentوكالهما يتكون من مكونات
فرعية كما يتضح من الشكل التايل:
Semantic comptent
القاعدة األولى :النظر للجملة sentenceعلى أنها وحدة لغوية واحدة ،تتكون من سلسلة )1
stringمن املركبات املتعاقبة :املركب االسمي (الذي ُيرمز له بـ The [ :)Noun Phrase :NP
،]dogواملركب الفعلي (الذي ُيرمز له بـ ]saw a man in the park[ )Verbal Phrase :VP؛
َّ
القاعدة الثانيةُ :يحلل املركب االسمي NPإلى مكوناته املباشرة :أداة التعريف +]The[ Det. )2
اسم ]dog[ N؛
ُ َّ
القاعدة الثالثة :يحلل املركب الفعلي VPإلى مكوناته املباشرة :فعل +]saw[ Vمركب اسمي NP )2
[]a man in the park؛
َّ
القاعدة الرابعةُ :يحلل املركب االسمي NPإلى مكوناته املباشرة :أداة التنكير +]a[ Detاسم N )2
[ + ]manشبه الجملة ]in the park[PP؛
َّ
القاعدة الخامسةُ :يحلل مركب الجار واملجرور ( )Prepositional Phrase :ppإلى مكوناته )2
املباشرة :حرف الجر +]in[ Pمركب اسمي ]the park[ NP؛
َّ
القاعدة السادسةُ :يحلل املركب االسمي NPإلى مكوناته املباشرة :أداة التعريف +]the[ Det )2
اسم .]park[ N
ويمكن تمثيل هذا النمط التركيبي phrasal patternبشكل شجري على النحو التالي:
أيضا من هذا املثال أن هذا النمط يحتوي عىل أكثر من مركب اسمي يُالحظ ً
:NPيحتل أحدهما موقع الفاعل ،subjectويحتل الثاني موقع املفعول .objectومعيار
التمييز بينهما عند تشومسكي يكمن يف النظر إىل املرتبة األعىل التي تف َّرع عنها كال
املركبني يف التحليل الشجري :فاملركب االسمي الذي احتل موقع الفاعل subject
يتف َّرع مبارش ًة عن الجملة S؛ أما املركب االسمي الذي يحتل موقع املفعول object
فيتفرع عن املركب الفعيل .VP
وتقف قواعد البنية الرتكيبية عند حد التمثيل التجريدي للنمط الرتكيبي عىل
هذا النحو الذي بيناه؛ بحيث يبدو النمط الرتكيبي عىل شكل خانات أو مواقع فارغة
قابلة ألن تُمأل بالوحدات املعجمية التي تعكس البنية السطحية للرتكيب .ومن هنا
يأتي دور العنرص الثاني من مكون األساس -وهو املعجم ،الذي يتمثل يف إدخال
الوحدات املعجمية lexical unitsالتي تمأل الخانات الرتكيبية يف أي نمط -كما
اقرتحها بايك يف تاجميماته .ولكي تنتظم الوحدات املعجمية يف الرتكيب املعني ،ال بد
لها من التوافق من حيث )1نوع أو فصيلة الكالم( word-formاسم ،فعل ،حرف،
إلخ) )2 ،ومن حيث القابلية اللغوية linguistic acceptabilityبحيث تنسجم سياقيًّا
نحو يقبله ويفرسه أبناء الجماعة اللغوية.
ودالليًّا عىل ٍ
أما املكون التحوييل فيتألف من سلسلة من القواعد التحويلية التي تجري عىل
البنية العميقة لتنقلها إىل البنية السطحية الظاهرية .وتتضمن هذه التحويالت
إجراءات نحوية عىل البنية العميقة :كالبناء للمجهول ،والنفي ،واالستفهام ،إلخ؛
بحيث نحصل يف النهاية عىل عدد من الجمل التي تتفق يف بنيتها العميقة من جانب،
وتختلف يف البنى السطحية من جانب آخر ،كما الحظنا يف هذا املثال:
The man closed the door.
The man didn't close the door.
?Did the man close the door
?Didn't the man close the door
The door was opened by the man.
The door was not closed by the man.
?Was the door closed by the man
?Wasn't the door closed by the man
فالبنية العميقة -التي تمثل املعنى األسايس يف هذا املثال -وهـو قياام رجال
بغلق الباب -تم تحويلها إىل البنية السطحية يف هذه الجمل التي يحمـل كـل منهـا
جانبًا من املعنى األسايس.
ومن خصائص هذا اإلجراء التحوييل أنه يميز بني الرتكيب النحوي والرتكيـب
غري النحوي .فالرتكيب النحوي يتبع قواعد اللغـة التـي اعرتفـت عليهـا الجماعـة
اللغوية فيما يُعرف بالقبول النحوي .grammatical acceptabilityفوفق هذا القبـول
النحوي أو الصحة النحوية ،تُقبل تراكيب نحوية كالتي سقناها يف املثـال السـابق،
وتُرفض جمل غري نحوية كالجمل التالية.
The closed man door the.
The close didn't the man door.
?Did the door man close the
?Didn't door the close the man
فعىل الرغم من أنها تتضمن نفس الكلمات التي انتظمت يف الجمل الصحيحة
وفق ترتيب املواقع النحوية ،word orderإال أن هذا الرتتيب اختل فنتجت هذه الجمل
غري الصحيحة.
ونظرا ألهمية هذه اإلجراءات التحويلية يف فهم وتحليل حاالت الغموض أو ً
اللبس الرتكيبي ،لم يكتف تشومسكي بتحليل الرتاكيب اللغوية إىل عنارصها
ومكوناتها املبارشة ،فاقرتح ثالث ِبنًى لتكوين الرتكيب اللغوي :البنية العميقة،
والبنية السطحية ،والبنية التحويلية التي تفرس حاالت الغموض واللبس الرتكيبي،
كما يف املثالني التاليني:
ففي هذين املثالني غموض أو لبس يؤدي إىل فهم كليهما عىل معنيني أو
احتمالني ،فاملثال األول يمكن فهمه عىل أن (أبي يحب أختي وأمي لكن حبه ألختي
يفوق حبه ألمي) ،أو أن (أبي وأمي كالهما يحبان أختي لكن حب أبي أكثر)؛ وقد
وصفا للطريق (وهذا احتمال)،ً يُفهم املثال الثاني عىل أن (الجديد) يمكن أن تكون
أو أنها وصف للمطار (وهو احتمال آخر) .وهنا تكمن أهمية البنية التحويلية التي
اقرتحها تشومسكي يف إزالة مثل هذا اللبس؛ حيث يمكن تحويل املثال األول إىل صور
تركيبية أخرى يتضح فيها املعنى املقصود تركيبيًّا ،كأن نقول( :أبي يحب أختي أكثر
من حبه ألمي) فريجح أحد االحتمالني ،أو (حب أبي ألختي أكثر من حب أمي لها)
فريجح االحتمال الثاني .وكذلك يمكن تحويل املثال الثاني كالتايل :افتتح الوزير
(الطريق الجديد) للمطار ،عىل أن الطريق هو الجديد أو :افتتح الوزير طريق (املطار
الجديد) ،عىل أن املطار هو الجديد.
وإذا كان املكون الرتكيبي يبدأ من أعىل التحليـل الشـجري (حيـث املكونـات
املبارشة للجملة) ،وينتهي باملكونات النهائية التي تمثل الخانات واملواقع التي تُمـأل
بالوحدات املعجمية ،فإن املكون التفسريي بشقيه الفونولاوجي والاداليل يعمـل مـن
أسفل إىل أعىل التحليل الشجري ،حيـث ينطلـق مـن الوحـدات اللغويـة الصـغرى
(الفونولوجية واملعجمية) التي تظهر يف آخر التحليـل الشـجري للـنمط الرتكيبـي.
وتتمثل الوظيفة التفسريية للمكون الفونولوجي يف رصـد التغـريات الصـوتية التـى
تطرأ عىل الرتكيب عند تطبيـق القواعـد التحويليـة عـىل بنيتـه العميقـة إىل بنيتـه
السطحية ،كالتفخيم والرتقيق واإلخفاء واإلظهار واإلدغام ،إلخ.
ٍ
بوظيفة تفسـريية عـىل وإذا كان املكون الفونولوجي يختص عند تشومسكي
مستوى البنية السطحية ،فإن املكون الداليل يختص بوظيفته التفسريية عىل مستوى
البنية العميقة التي تعطي التمثيل الداليل للجملة .ولهذا ينطلق املكـون الـداليل مـن
الوحدات املعجمية يف النمط الرتكيبي -ألنها تتضـمن املعلومـات الالزمـة للتفسـري
الدالىل،ثم يعلو يف التحليل الشجري حتى يصل إىل الوظائف النحوية لهذه الوحـدات
املعجمية يف النمط الرتكيبي.
س :1انطلق تشومسكي في تكوين نظريته للغة من أساسـين أحـدهما عقلـي و خـر ريا ـ ي .اشـرح هـذه
مبينا أثرهما في مفهمومي "الكفاية" و"األداء" اللغويين عند تشومسكي.الفكرةً ،
س :2من مبادئ نظريـة تشومسـكي النموذجيـة ً
أيضـا االهتمـام بااملنى واعتبـاره األسـاس فـي التحليـل
اللغوي .في ضوء هذا ،اشرح العالقة بين البنية العميقة واملعنى كما يراها تشومسكي؟
س :3اشرح مع التمثيل العالقة بين البنيتين " العميقة" و" السطحية" كما اقترحهما تشومسكي.
س :4اشرح املقصود باملكون التركيبي التوليدي عند تشوسكي.
مطبقا عليه قواعد البنية التركيبية عند تشومسكي؟ ً َّ
شجريا، س :5هات مثاال ثم حلله تحليال
س :6كيف استدرك بايك في منهجه التاجميمي على أستاذه بلومفيلد؟
س :7ما املقصود بال ـ "الخانة"" /الشاغل"" /التاجميم"؟
س :8ما املقصود باملكون التحويلي في نظرية تشومسكي النحوية مع التمثيل؟
س :9ما املقصود بالبنية التحويلية كما اقترجها تشومسكي ،وما وظيفتها ،مع التمثيل؟
س :10كيف يعمل املكون التفسيري بشقيه (الداللي والفونولوجي) في نظرية تشومسكي النحوية؟
فيم يتشابه تحليل تشومسكي وبلومفيلد للجملة؟ سَ :11
واملعنى عند فريث هو مركز التحليل اللغوي ومحصلته النهائية .ورأيه أن
وظيفة ىف سياق يعني أن الكالم ال يَكتسب وظائفه ومعانيه من ٌ املعنى اللغوي
الوحدات والعالقات اللغوية فقط ،وإنما من سياقات املواقف االجتماعية situational
contextالتي يرد فيها ،وبتنوع هذه السياقات ،تتنوع معاني الكالم ووظائفه .وربما
يكون من الشائع اشتهار فريث بني اللغويني بنظريته يف دور السياق يف تفسري
املعنى اللغوي ،وبرأيه يف اجتماعية اللغة .إال أن الكثريين قد ال يعرفون أن الفضل يف
هذين املبدأين يعود إىل زميل فريث وأستاذه البولندي برونسالف مالينوفسكي
)Bronislaw Malinowski (1884- 1942أستاذ األنثروبولوجي ىف لندن .فقد اعترب
مالينوفيكيس السياق نوعني :السياق اللغوي ،linguistic contextوالسياق غري
اللغوي non-linguistic contextالذي يتضمن بدوره السياق الثقايف،cultural context
وسياق الحال .situational contextوهو ما تبناه فريث يف فكرة اعتماد املعنى عىل
السياق .فالوحدة اللغوية ال معنى لها -عند فريث -بمعزل عن السياق ،بل إن كل
وحدة لغوية تعترب ً
كلمة جديدة يف كل سياق ترد فيه .ولهذا ال يفرق فريث بني املعنى
وكما سبقت اإلشارة ،فإن اهتمام مدرسة لندن كان منصبًّا عىل "الكالم"
والبنى السطحية ،وليس "اللغة" باملفهوم الذي عناه دي سوسري .ولعل مر َّد هذا هو
اهتمام فريث بالعنارص السياقية والعوامل الخارجية التي تؤثر يف عملية فهم الكالم
وتفسري معانيه إىل جانب العالقات اللغوية الداخلية .فكما أن للمعنى جانبًا لغويًّا
أيضا جانب اجتماعي يتمثل يف السياق الخارجي يتمثل يف السياق الداخيل ،له ً
للموقف الذي يُساق فيه الكالم.
ومن هنا ،يرفض فريث ثنائية اللغة عند دي سوسري "اللغة" (التي تعني أن
اللغة هي مجموعة القواعد التي أقرتها وتعارفت عليها الجماعة اللغوية واملختزنة يف
ذهن الفرد) و"الكالم" (الذي يعني التطبيق الفعيل الفردي لهذه القواعد) ،وإنما
يرى أن الجانبني متداخالن غري منفصلني وال يمكن فصلهما أو التفريق بينهما إال من
حيث الكم بني لغة الجماعة بقواعدها الثابتة ولغة الفرد بتطبيقاتها املتنوعة .ومن
ثم ،فكالهما جدير بالدراسة والتحليل .ولعل اهتمام فريث البالغ بالتطريز الصوتي
والداللة أو املعنى الوظيفي يف السياق كان عىل حساب إسهامه يف الجوانب اللغوية
األخرى كالنحو مثال .فلم يقدم فريث نظرية متكاملة واضحة املعالم عن النحو،
إطارا عامً ا للنظرية النحوية تبناه وقام بتطويره وتوسيعه من
ً تصورا أو
ً وإنما وضع
بعده تلميذه مايكل هاليدي يف نظريته املعروفة بالنحو الوظيفي والتماسك اللغوي.
ً
دراسة وصفية ،تقوم عىل دراسة التنوع اللغوي مدرسة لندن -وهي دراسة اللغة
االجتماعي كما يتحقق يف اللغات الحية واللهجات واللغات الخاصة.
سبق أن وضحنا مدى اهتمام فريث بدور السياق يف تحديد املعنى اللغوي وفهمه
وتفسريه .وفريث -مقتديًا بزميله مالينوفسكي -يفرق بني نوعني من السياقات)1 :
السياق اللغوي ( Linguistic contextيتمثل ىف العالقات اللغوية الداخلية بني الوحدات
الصوتية والفونولوجية واملورفيمية والنحوية والداللية)؛ )2سياق الحال أو املوقف
( situational contextيتمثل يف العوامل واملؤثرات الخارجية كالعوامل االجتماعية
والنفسية والثقافية والفكرية للمتكلم والسامع عىل السواء ،وزمان الكالم ومكانه.
ولتحليل املعنى تحليال ً
دقيقا وتفسريه -كما يؤكد فريث ،ال بد من أخذ هذين الجانبني
يف االعتبار :السياق اللغوي للكالم ،وسياق املوقف الذي سيق فيه الكالم؛ ملا بني
تواز وتكامل.
السياقني من ٍ
وعليه فإن منهج الكشف عن املعنى اللغوي وتحليله وتفسريه -كما يقرتحه
ً
تحليلية تشمل كال من )1 :السياق الداخيل co-textالذي ٍ
إجراءات فريث -يستوجب
يتمثل يف البيئة اللغوية ( linguistic environmentصوتية ،ورصفية ،ونحوية)؛ و)2
السياق الخارجي االجتماعي social contextالذي يتعلق بـ(املتكلـم ،والسامـع،
والخلفيات الثقافية لهما وعالقتهما االجتماعية ،واملكـان ،والزمـان ،وموضوع الكالم
نفسه).
ومثاال عىل املنهج الفريثي يف التحليل ،يمكننا تحليل كلمة "حَ ْرب" ،التي يمكن
تحديد معناها اللغوي واالجتماعي باعتبار السياقني معً ا عىل النحو التايل:
تحمل املعنى األسايس ذاته .أما فريث فكان اهتمامه منصبًّا عىل دراسة الكالم وليس
اللغة باملفهوم الذي عناه كل من دي سوسري وتشومسكي .إذ اعترب فريث أن اللغة
والكالم ال ينفصالن ،وأن الكالم ال يُحلل أو يُفهم معناه بتحليل العالقات الداخلية
فقط ،وإنما بالعنارص السياقية للموقف الذي يُساق فيه الكالم .وبهذا يرفض فريث
املعنى اإلشاري عند دي سوسري والسياق السلوكي عند بلومفيلد .فقد سبقت اإلشارة
إىل أن بلومفيلد كان قد تجاهل املعنى يف التحليل اللغوي واهتم فقط بالبنية
السطحية الشكلية للكالم؛ ألنه يرى أن املعنى اللغوي غالبًا ما يكون نحويًّا ،وأنه ال
يكمن أحيانًا يف الصيغة اللغوية ،وأن دراسة املعنى تستوجب استقصاء كل التجارب
اإلنسانية التي تمثل مثريات للحدث الكالمي الذي يستدعي بدوره استجابات معينة.
وإذا كان بلومفيلد قد ذهب هذا املذهب يف دراسة املعنى ،فإن كال من سوسري
ظا ،وإن اختلفوا يف طبيعته .فقدوتشومسكي وفريث قد أولوا املعنى اهتمامً ا ملحو ً
فرق دي سوسري بني قيمة العالمة وداللتها؛ إذ إن العالمة عنده تكتسب قيمتها من
عالقاتها بالعالمات األخرى يف النظام الكيل الجامع لها ،كقيمة قطعة الشطرنج يف
النظام الكيل للعبة .وأن العالمة يتحدد معناها بطريقة تخالفية تباينية ،فمعنى
األحمر هو مخالفته لغريه يف نظام األلوان ،فهو ليس أصفر وال أخرض مثال .أما إذا
سياق ما ،فإنها حينئذ تكتسب داللة جديدة ،كداللة اللون األحمرٍ انتظمت العالمة يف
يف نظام إشارة املرور ،أو داللة القطعة الحجرية التي استُبدلت بها قطعة الفيل مثال
يف لعبة الشطرنج .ومن مبادئ نظرية تشومسكي النموذجية االهتمام باملعنى
واعتباره األساس يف التحليل اللغوي؛ إذ إنه يفرتض أن املعنى األسايس ألية جملة
يكمن يف بنيتها العميقة املجردة (كقيام شخص مثال بغلق الباب) ،وأن البنية
السطحية هي تجسيد لهذا املعنى العام املجرد يف صورة تعبري لغوي ،يمكن تحويله
إىل عدد من التعبريات اللغوية األخرى بتطبيق القواعد التحويلية دون أن يتغري هذا
املعنى األسايس .أما فريث ،فقد بينا أن املعنى عنده ليس معنى إشاريًّا كما ذهب دي
وربما تتعلق قضية دراسة املعنى وقضية التفريق بني اللغة والكالم بقضية
النظر للغة عىل أنها ظاهرة اجتماعية .إذ يرى دي سوسري أن اللغة ظاهرة اجتماعية
بمعنى أنها من إنتاج املجتمع ،يضع قواعدها ويتعارف عىل معانيها ،وليس للفرد أن
يغري أو يبدل فيها ،وأن كالم األفراد يمثل تطبيقات متنوعة يصعب حرصها
وتحليلها .أما فريث فريى أن اللغة اجتماعية ،أي ال يمكن دراستها وتحليل معانيها
التي تؤديها إال يف ضوء السياق االجتماعي الذي تُستخدم فيه والذي يشمل املتكلم
والسامع معً ا .ومن هنا ال فرق عنده بني اللغة والكالم ،بل إن الجانبني عنده
متداخالن ال ينفصالن ،ومن ثم فكالهما جدير بالدراسة والتحليل .وعىل الرغم من
ً
دراسة علمية ،إال أنهم اتفقوا عىل اختالف املدارس الثالث يف موضوع دراسة اللغة
دراسة وصفية .ولعل االهتمام باملعنى اللغوي (كما يتمثل يف قيم ً دراسة اللغة
َّ
ويتجىل يف العالمات عند دي سوسري ،ويف املعنى األسايس الكامن يف البنية العميقة
البنى السطحية للكالم عند تشومسكي ،ويف املالمح اللغوية للكالم كما يحددها
السياق االجتماعي عند فريث) يفرس تبني املدارس الثالث للمنهج الوصفي (ال
التاريخي) يف دراسة اللغة.
يف هذا القسم ،سنستعرض باختصار شديد أبرز سمات التفكري اللغوي عند
مجموعة من اللغويني والباحثني ي ُشار إليهم بـ "الفريثيني الجُ دد" the neo-
،Firthian schoolالذين يمثلون املدرسة اللغوية التي أعقبت أستاذهم اللغوي
الكبري جون روبارت فريث .وسأقترص -بعد التعريف بهذه املدرسة ومبادئها
اللغوية وروادها -عىل مالمح التفكري اللغوي عند جون مكريثي سينكلري،
بصفته أبرز تالميذ جون روبرت فريث يف تبني أفكاره من بعده وتعميقها
واإلضافة إليها والربهنة عليها من خالل التحليل التطبيقي للمدونات اللغوية.
وسيتضمن عرضنا العنارص التالية:
.1.2تعريف بمدرسة "الفيرثيين الجدد" The neo-Firthian schoolومبادئها
.2.2مالمح التفكير اللغوي عند جون سينكلير John Sinclair
.3.2ثق بالنص اللغوي Trust the text
.4.2البحث عن وحدات املعنى اللغوي The search for units of meaning
.5.2التصاحب اللفظي collocationوالتصاحب التركيبي colligation
.6.2مستوى امليول الداللي preferenceوالتطريز الداللي prosody
.7.2املدونات اللغوية Corpus Linguistics approach
1.7.2تاريخ املصطلح
2.7.2أنواع املدونات اللغوية
3.7.2منهج املدونات اللغوية في مقابل املنهج القائم على الحدس
4.7.2اإلمكانات البحثية التي تتيحها املدونات اللغوية
5.7.2ما ال تستطيع املدونات اإلجابة عنه؟
حتليل اخلطاب والتحليل النقدي للخطاب 7.3
1.7.3إشكالية املفهوم
2.3.7مناهج تحليل الخطاب
ال ينفصالن .وعىل هذا تنوعت اهتماماتهم يف دراسة األنماط النحوية ،والقدرة العقلية
لدى اإلنسان عىل االستدعاء الذهني للمتصاحبات اللفظية املختزنة يف الذهن للتعبري
عن املعاني املعينة ،والصناعة املعجمية ،والتطريز الداليل ،إلخ .وعىل الرغم من
القصور الواضح يف اهتمام هذه املدرسة بالتحليل الصوتي ،إال أن تعدد مستويات
البحث والتحليل اللغوي ي ُعترب إحدى سمات التفكري اللغوي عند الفريثيني الجدد.
ولعل هذا يرجع إىل اهتمامهم البالغ باملعاني النصية الخطابية للوحدات اللغوية،
ورصد األنماط األكثر شيوعً ا يف اللغة كما تُحدد باستخدام املدونات اللغوية بما
تحتوي عليه من تجمعات نصوصية هائلة .فعىل املستوى املعجمي أو املفرداتي
بالغا لدى جون سينكلري ومن بعده مايكل استابس ،lexical levelنجد اهتمامًا ً
ومايكل هووي بتحليل السلوك اللغوي للوحدات اللغوية،linguistic behavior
وتصاحباتها اللفظية ،collocationsومعانيها النصية .textual meaningsأما عىل
املستوى النحوي ،Grammatical levelفقد تفردت سوزن هانستن وزميلها فرانسيس
يف تحديد األنماط الرتكيبية يف اللغة ،patterning Grammarخاصة األنماط الفعلية
،Verb-based patternsواألنماط االسمية .Noun-based patternsكما اهتم سينكلري
أيضا بتحليل األنماط الرتكيبية للمتصاحبات اللفظية colligation ومايكل هووي ً
ودورها يف تحديد املعنى النحوي للوحدات اللغوية .وعىل املستوى الداليل ،يأتي
االهتمام بدراسة ما أسموه semantic preferencesأي ميول الوحدة اللغوية للتصاحب
مع كلمات من حقول داللية معينة تساعد يف تحديد املعاني النصية لتلك الوحدة
اللغوية .أما عىل املستوى التداويل أو الخطابي ،فقد اهتم الفريثيون الجدد بتحديد ما
اصطلحوا عليه بالتطريز الداليل أو الخطابي semantic/discourse prosodyالذي
يعكس املعنى التداويل (اإليجابي أو السلبي) للوحدات اللغوية ،والذي يفرس مقصود
املتكلم أو الكاتب (منتج النص) من اختياره لتعبريات لغوية معينة للتعبري عن
مراده.
ومن أهم األسس املنهجية لدى الفريثيني الجدد اعتمادهم الكيل يف مالحظاتهم
وتحليالتهم اللغوية عىل النصوص الحية التي تعكس االستخدام الواقعي
للغة .empirical dataوالذي ساعدهم يف هذا هو استخدامهم لتكنولوجيا املدونات
اللغوية corpus linguisticsبما تتضمنه من مئات املاليني من الكلمات التي تمكن
الباحث من مالحظة الظواهر واألنماط اللغوية املطردة .وعىل حد تعبري سينكلري
ً
دفعة ً
مختلفة إىل حد بعيد إذا ما نظرنا إليها يف عينات كبرية نفسه ،فإن اللغة تبدو
واحدة .فهناك الكثري من املعاني واملالمح اللغوية التي تخفى عىل الباحث إذا ما
اعتمد يف تحليل اللغة عىل حدسه أو عىل نصوص لغوية غري كافية .كما أن
املفهرسات السياقية concordancesاملزودة بها املدونات اللغوية تم ِّكن -بشكل عميل
-من مالحظة العالقات األفقية syntagmaticوالرأسية paradigmaticالتي تنتظم فيها
الوحدات اللغوية .فإذا كان النص -أي نص لغوي -مُصمَّ مً ا ليُقرأ كوحدة واحدة،
ذات طبيعة سطرية ،linearويف اتجاه واحد (من اليمني اليسار يف العربية) ،فإن
املفهرسات السياقية concordancesمُصمَّ مَ ة لتُقرأ كسالسل من الوحدات اللغوية،
املنتظمة رأسيًّا من أعىل إىل أسفل؛ مما يجعل من استكشاف األنماط اللغوية
أمرا سهال مهما تعددت النصوص واختلف ُكتابها (بعالقاتها األفقية والرأسية) ً
واألوقات التي ُكتبت فيها .وهذا يؤدي بدوره إىل نتيجة علمية تمثل إحدى سمات
التحليل اللغوي يف هذه املدرسة وهي دراسة اللغة دراسة موضوعية تقوم عىل
استقصاء واستقراء وإحصاء العينات املمثِّلة للواقع اللغوي؛ مما يمكن اللغوي من
إصدار أحكام لغوية موضوعية ودقيقة يمكن تعميمها.
ومن أهم املبادئ النظرية لدى الفريثيني الجدد اعتبار الكلمة the wordيف
سياقها الخطابي discourse contextهي جوهر التحليل اللغوي ومنطلقه .ومن هنا
فإن الكلمة بمعانيها النصية /السياقية /الخطابية ،وكذلك الرتاكيب العبارية
،phraseologyوالتصاحبات اللفظية collocationهي أبرز مواطن التفكري اللغوي لدى
رواد هذه املدرسة؛ حتى إن بعضهم قد اعترب الكلمة وتراكيبها العبارية ،وتصاحباتها
اللفظية هي لب الوصف أو التحليل اللغوي وغايته .وربما يرجع هذا إىل اهتمام هذه
املدرسة البالغ بالصناعة املعجمية واملعاني اللغوية التي تكتسبها الكلمة يف السياقات
املختلفة ،وهو مبدأ فريثي أصيل يرضب بجذوره العميقة إىل األستاذ فريث ،تبناه من
بعده وعمقه وبرهن عليه تلميذه جون سينكلري.
ً
منعزلة طا بالكلمة املفردة (واملعنى عند الفريثيني الجدد ليس مقيدًا أو مرتب ً
عن السياق) ،وإنما بالوحدة اللغوية lexical unitالتي تتكون من الكلمة يف سياقها
اللغوي املمت ّد ،wider extentأي البيئة اللغوية التي وردت فيها الكلمة فاكتمل بها
ً
وتأسيسا عىل هذا ،فإن كل كلمة يف سياقها اللغوي أو بيئتها السياق وتم بها املعنى.
اللغوية ت ُسمى "وحدة لغوية ممتدة "Extended Lexical unit؛ واملتكلم أو الكاتب ال
يقوم باختيار أو استدعاء كلمات مفردة للتعبري عن معنًى معني ،وإنما يختار
وحدات لغوية ،units of meaningوكل وحدة لغوية ترتكب من عدد من الكلمات
عبارية تحمل املعنى اللغوي .وهذا ما يسميه سينكلري "مبدأ ً تشكل معً ا وحد ًة
التعبري االصطالحي "Idiom Principleالذي يشري إىل أن هناك عددًا كبريًا من الرتاكيب
ً
متاحة ٍ
اختيارات سلفا " "semi-preconstructed phrasesتمثلالعبارية شبه املركبة ً
لدى املتكلم أو الكاتب ،يختار منها ما يشاء للتعبري عن املعنى املقصود .وعىل الرغم
من أن كل وحدة عبارية تتكون من أكثر من كلمة ،إال أنها تُعامل -من وجهة نظر
سينكلري -عىل أنها وحدة لغوية مفردة ،وهي التي تحمل املعنى اللغوي وليس
الكلمة املفردة بمعزل عن سياقها -كما سبقت اإلشارة .وباختصار ،يربهن سينكلري
من خالل تحليالته للنصوص اللغوية باستخدام املدونات عىل أن املعنى اللغوي
يكمن يف الرتكيب العباري - phraseأو كما يسميه أحيانًا كثرية الوحدة اللغوية
املمتدة ،extended lexical unitوليس يف الكلمة املفردة املنزوعة من سياقها .ويذهب
سينكلري إىل ما هو أبعد من ذلك؛ إذ يُرجع عدم وجود نظرية لغوية مقنعة يف
Trust the text: language,لعل أهم األفكار اللغوية لدى سينكلري قد تضمنها كتابه
( corpus and discourse, 2004ثق بالنص :اللغة واملدونات والخطاب) ،فقد تناول
الكتاب قضايا لغوية متنوعة كان سينكلري قد عرضها يف محارضات ومؤتمرات
وأعمال تطبيقية وأوراق بحثية مختلفة .من هذه القضايا مثال :دعوة سينكلري إىل
رضورة أن "نثق بالنص اللغوي " ،"trust the textالبحث عن وحدة املعنى اللغوي
" ،"The search for units of meaningاملفردات اللغوية والنحو ،"Lexis and grammar
منهج "الوحدة اللغوية املمتدة ."The Extended Lexical Unitوفيما ييل عرض
مخترص لكل قضية من هذه القضايا.
النص هو الذي يُم ِّكن اللغوي -بما يَمدُّه به من دليل حي يعكس واقع االستخدام
اللغوي -من إصدار أحكام دقيقة ،موضوعية ،يمكن تعميمها .والحجة التي
يطرحها سينكلري تتلخص يف أنه يرى أن كثريًا من نظريات علم اللغة قد وُضعت أو
صيغت عىل أساس من األدلة غري الدقيقة املست َّلة من مادة غري كافية .فال يزال هنا
قصور حاد يف املعلومات واألدلة املتاحة أمام اللغويني ،مما أدى إىل نوع من التوازن
بني التخمني (أو الحدس) من جانب والواقع اللغوي من جانب آخر .هذا التوازن
يظهر يف الطريقة التي تُصاغ بها القضايا واملالحظات اللغوية .وإىل اآلن ،يعتمد
اللغويون -وبشكل كبري -يف صياغة األحكام اللغوية عىل الحدس والتخمني؛ يف حني
قد تحولت دراسة اللغة إىل مرحلة جديدة يُعتمد فيها عىل الحاسبات واألدوات
الحديثة يف التحليل واإلحصاء واملعالجة واختبار الفرضيات .وبهذا ،فمن املحتمل أن
تتكشف لنا حقائق لغوية لم نكن عىل علم بها ولم يكن لنا أن نستكشفها أو نثبتها
ما لم نعتمد -يف مقابل الحدس والتخمني -عىل وسائل تحليل دقيقة ،وعينات لغوية
أيضا أن نستكشف من واقعية ،ومناهج علمية موضوعية .كما أنه من املحتمل ً
حقائق اللغة ما يحملنا عىل مراجعة كثري من األحكام اللغوية التي لم يقم عليها
الدليل العلمي من واقع النصوص اللغوية التي تعكس االستخدام الفعيل للغة.
ومن هنا تأتي دعوة سينكلري إىل رضورة أن نثق بالنص ،Trust the textوأن
نكون منفتحني ومتقبلني ملا يقوله لنا عن طبيعة اللغة وسلوكها ،وال ينبغي لنا أن
نفرض أفكارنا املسبقة عىل النص اللغوي إال إذا كانت أفكارنا هذه مجرد نقطة
انطالق للتحليل أو فرضيات لالختبار .كما ينبغي أن نتوقع العثور عىل ظواهر غري
سلفا؛ ألن ما نعرفه عن سلوك اللغة وظواهرها ال يزال ضئيال. مألوفة أو معروفة ً
ومن هنا ،قد يسرتعي انتباهنا كثري من املالحظات الجديدة الجديرة بالبحث والتقييم
ً
خاصة أثناء تحليالتنا اللغوية ،وبحثنا عن األنماط اللغوية املطردة ونماذج التحليل
تلك التي تصلح لدراسة النص والخطاب.
وباإلضافة إىل دعوة اللغويني أن يثقوا بالنص وبما يتفتق عن تحليله من ظواهر
وأنماط ،تأتي قضية "البحث عن وحدات املعنى اللغوي The search for units of
"meaningإحدى أهم القضايا اللغوية التي قدمها سينكلري يف كتابه املشار إليه -
،trust the textإن لم تكن أهم قضية عىل اإلطالق؛ إذ تتمحور حولها وتتأسس عليها
معظم آراء سينكلري وتحليالته اللغوية.
يبدأ سينكلري بتقرير حقيقة لغوية كانت -وربما ال تزال يف بعض املناهج -
مس َّلمً ا بها ،وهي أن نقطة االنطالق يف تحليل املعنى اللغوي أو وصفه هي "الكلمة"،
كما أن "الجملة" هي الوحدة األساسية يف وصف النحو والخطاب .ثم يلفت االنتباه
إىل ملمح أكثر وضوحً ا يتعلق باالستقاللية الفيزيائية للكلمة؛ حيث تُكتب الكلمة
مستقلة تفصلها عن الكلمات املحيطة بها مسافة ،وعىل هذا فالنص عبارة عن ً
سالسل من العنارص (الكلمات) املنفصلة غري املتصلة .وعىل الرغم من هذا ،ال تُع ُّد
"الكلمة" هي الوحدة األساسية يف اللغة .the basic unit of languageففي النصف
األول من القرن العرشين ،ذهب اللغويون األمريكان إىل أن املورفيم هو الوحدة
نظرا لالهتمام البالغ آنذاك باللغات غري املكتوبة unwrittenً اللغوية األساس؛
languagesوغري األوربية .languages non-Europeanوعىل هذا األساس ،تبنى بعض
اللغويني منهج )the Item and Arrangement model (IAحيث يأتي تحديد املورفيمات
وترتيبها يف شكل صيغ -يأتي كخطوة مبدئية وأساسية يف عملية وصف الرتكيب أو
البناء اللغوي .فالكلمات ترتكب من مورفيمات مفردة أو مرتابطة ،وكذلك الجملة
والنص .وذهب فريق آخر من اللغويني إىل تبني منهج (،IP) Item and Process model
أيضا أهمية بالغة ،لكن ليس بغرض وصف ترتيبها والذي يويل املورفيمات ً
وانتظامها يف وحدات لغوية أكرب كالكلمات والنصوص؛ وإنما بغرض وصف
الوظيفة االشتقاقية للمورفيمات ،ومن ثم دورها يف عملية إنتاج أو اشتقاق عدد من
الصيغ اللغوية املتنوعة خاصة يف اللغات ذات الطبيعة االشتقاقية .فكلمة bakedعىل
ْ
منتظمَني سبيل املثال تتكون -وفق املنهج األول ( -)IAمن مورفيمني ،bak + ed
أحدهما تلو اآلخر يف هذا الرتتيب الذي عليه الكلمة .أما وفق املنهج الثاني ( ،)IPفإن
الفعل bakeقد مر بعملية إضافة مورفيم زمني edللداللة عىل املايض ،فتغريت
صيغته وداللته.
63 علم اللغة]2018 .. [االجتاهات احلديثة يف
[أبرز مسات التفكري اللغوي يف القرن العشرين] القسم األول)2( ..
أما سينكلري فريى أن هذه املناهج الثالثة تركز يف اهتمامها عىل أصغر وحدة
يول أيٌ
لغوية تمثل األساس يف معالجة الوحدات النحوية أو الرصفية الكربى ،ولم ِ
اعتبارا لأللفاظ أو الوحدات املعجمية .lexisفقد أدى االهتمام البالغ بالنحو
ً منها
وإعطاؤه األولوية القصوى يف الوصف اللغوي إىل تهميش الوحدات املعجمية
وتجاهل دورها يف تحديد املعنى؛ حيث تتداخل الكلمات يف عالقات داللية مع كلمات
أخرى محيطة بها تشكل املعنى اللغوي .ويكفي مجرد النظر يف أي قاموس عام
لنثبت أن الكلمة هي الوحدة األساسية يف املعنى املعجمي؛ حيث تنتظم الكلمات يف
القاموس يف شكل قوائم تصاحبها معانيها القاموسية التي قد تتعدد وتتنوع.
فالقاموس يثبت املعادلة التالية:
" "word = unit of meaningأي أن "الكلمة = الوحدة األساسية للمعنى"
وعىل الرغم من اعتبار الكلمات هي الوحدات األساسية يف املعنى القامويس ،إال
خاصة إذا ما وردت يف املركب اللفظي compoundsً أنها عرضة للغموض واللبس
الذي يتكون من أكثر من كلمة ،كل منها له وجوده املستقل ،لكن مجموعهما قد
ً
مختلفا عن معنى كل كلمة عىل حدة .ومن املركبات اللفظية مثال: يؤدي معنًى جديدًا
الفعل العباري phrasal verbsالذي يتكون من فعل وحرف جر يحدد معناه،
والتعبريات االصطالحية ،idiomsوالتعبريات املسكوكة ،fixed phrasesوالكالشيه
،clichésواألمثال ،proverbsوكثري من املصطلحات الفنية ،technical termsوكثري من
الرطانات ،jargonوغريها من األنماط اللغوية التي تدل عىل أن استقاللية الكلمة
املفردة بمعناها أمر نسبي .فالكلمات املفردة إذا ما انخرطت يف املركب اللفظي ال
تخرج عن احتماالت ثالثة:
)1قد ال تدل إحداها بشكل مبارش عىل املعنى العام للمركب ككل ،كما يف الرتكيب
bear onالذي يعني be relevant toأي "مناسب أو وثيق الصلة" ،وهو معنى
جديد ومختلف تمامً ا عن معنى on bear +التي تعني "دُبّ " َ +
"عىل".
)2قد يدل معنى بعضها عىل املعنى العام للرتكيب ،كما يف ""to beat someone up
شخصا أو يسحقه" وهي داللة ي َّ
ُتوصل إليها من داللة الفعل beat ً بمعنى "يهزم
بمعنى "يرضب".
ظة بقدر كبري من معناها )3قد تظل كل كلمة مفردة يف الرتكيب اللفظي محتف ً
القامويس ،كما يف " "the rain beats downبمعنى "املطر يهطل بقوة" ،فالفعل
beatيعني "يرضب" ،أما يف هذا الرتكيب فيعني "يرضب بغزارة وبشكل
متواصل لفرتة معينة" .وهذا النوع من الرتاكيب اللفظية يُسمّ ى بالتصاحب
اللفظي collocationوالذي ال يختلف فيه كثريًا املعنى العام للرتكيب ككل عن
املعنى املفرد لكل عنرص من عنارصه.
وخالصة وجهة نظر سينكلري هي أنه كما أن هناك مقيدات
نحوية grammatical constraintsتحكم الرتاكيب اللغوية ،فإن هناك مقيدات لفظية
lexical constraintsتحكم معناها .واهتمام اللغويني باألوىل رصفهم عن االهتمام
بالثانية .ولهذا اعترب بعضهم املورفيم هو الوحدة األساسية للغة ،يف حني اعترب
البعض اآلخر "الكلمة باشتقاقاتها" هي الوحدة األساسية للغة .أما سينكلري فريى
أن الوحدة األساسية للغة والتي تحمل معناها هي "الوحدة اللغوية املمتدة"
- extended lexical unitأو ما يُطلق عليه ً
أيضا "الرتكيب العباري" - phraseوليس
املورفيمات ،أو الكلمات املفردة .individual wordsوقد برهن سينكلري من خالل
تحليالته للنصوص اللغوية باستخدام املدونات عىل هذا املبدأ النظري :وهو أن
املعنى اللغوي يكمن يف الرتكيب العباري أو الوحدة اللغوية املمتدة ،وليس يف الكلمة
املفردة املنزوعة من سياقها .ومن ثم يذهب سينكلري إىل ما هو أبعد من ذلك؛ إذ
يُرجع عدم وجود نظرية لغوية مقنعة يف الرتاكيب العبارية phraseologyإىل أمرين:
)1االعتقاد الخاطئ أن "الكلمة" هي الوحدة األساسية للمعنى اللغوي؛ )2والفصل
املض ِّلل بني املفردات اللغوية (األلفاظ) والنحو (الرتكيب) .ومن هنا اعترب الفريثيون
الجدد -وعىل رأسهم سينكلري -أن تحديد املعاني السياقية والخطابية ملفردات اللغة
يف تراكيبها اللفظية والعبارية هو لب التحليل اللغوي وغايته.
يعود هذان املصطلحان يف األصل إىل فريث .وكالهما يتصل بعالقة التصاحب بني
العنارص اللغوية .فكما سبقت اإلشارة ،فإن التصاحب اللفظي collocationينشأ بني
كلمتني أو أكثر ،متجاورتني vicinalيف السياق النيص ،co-textذواتَ ْي درجة تكرار
عالية frequentيف املادة املحللة .أما التصاحب الرتكيبي colligationفينشأ بني كلمة
وفئة لغوية (كاالسم ،الفعل ،الصفة ،حرف الجر ،الظرف ،الحال ،إلخ ) .فيشكالن ما
يُسمَّ ى بالنمط اللفظي-الرتكيبي ( lexico-grammatical patternأو النمط العباري
.)phreasulogical patternتحليليًّا ،يتم تحديد املتصاحبات اللفظية collocationsآليًّا
من خالل إحدى الوظائف املزوَّدة يف برامج تحليل املدونات اللغوية ،والتي تسمح
بتحديد املقياس اإلحصائي ،والصيغة اللغوية املراد إنشاء قاعدة البيانات عىل
أساسها ،واملسافة التي يتجاور فيها املتصاحبان ،ونسبة التكرار التي يجب أن تكون
عليها كل كلمة ليتم إدراجها يف قائمة املتصاحبات .وتمثل هذه املصطلحات أو
الوظائف املعايري املنهجية التي يجب أن تُحدَّد (وتُربَّر وفق طبيعة البحث) قبل
اسخراج قائمة املتصاحبات كما تتضح من الشكل التايل.
N+4 N+3 N+2 N+1 الكلمة الرئيسة N-1 N-2 N-3 N-4
وغاية التحليل اللغوي عند سينكلري -كما سبقت اإلشارة -هي اكتشاف
العالقة التفصيلية بني األنماط النصية واملعاني التي تؤديها .واملعاني النصية يتم
استنباطها من امليول الداليل للكلمة الرئيسة املراد البحث عن سلوكها اللغوي .وفيما
ييل توضيح للمقصود بامليول والتطريز الدالليني.
لكلمة ما هو ارتباطها بكلمات تنتميٍ سبقت اإلشارة إىل أن املقصود بامليول الداليل
إىل حقول داللية معينة .أما التطريز الداليل فيتعلق باملعاني أو اإليحاءات السلبية أو
اإليجابية التي يثريها اختيار التعبري الذي وردت فيه الوحدة اللغوية املراد تحليلها.
فعند تحليل سينكلري للوحدة اللغوية "العني املجردة ،" the naked eyeالحظ أنها
تميل للتصاحب مع كلمات تنتمي إىل الحقل الداليل " visibilityالرؤية" مثلvisible :
يمكن رؤيته seen ،مرئي perceived ،مالحَ ظ .ومن خالل تحليل البيئة اللغوية
املحيطة بالوحدة اللغوية "العني املجردة ،" the naked eyeاستنبط سينكلري
ُستشف من تطريزها الداليل الذي يتمثل يف " difficultyصعوبة الرؤية" ،كما ي َ
السياقات التالية يف املادة التي حللها سينكلري.
إطارا
ً وخالصة القول ،أن نموذج سنكلري "الوحدة اللغوية املمتدة" يقدم
شامال ملعالجة وتحليل ظاهرة التصاحب اللفظي تحليال لغويًّا يتضمن أربعة
مستويات لغوية )1 :فعىل املستوى املعجمي ،lexical levelيركز التحليل عىل
استقصاء املتصاحبات اللفظية collocationsالتي يتكرر ورودها مع الكلمة املراد
تحليلها؛ )2أما عىل املستوى النحوي ،grammaticl levelفريكز التحليل عىل األنماط
الرتكيبية colligationsالتي تقع فيها الكلمة املحللة بشكل متكرر يف املادة املدروسة؛
)3وعىل املستوى الداليل semantic level؛ يركز التحليل عىل العالقة بني الكلمة املحللة
والحقول الداللية التي تميل للتصاحب معها semantic prefference؛ )4أما عىل
املستوى التداويل ،pragmatic levelفريكز التحليل عىل التطريز الداليل semantic
prosodyالذي يفرس مقصو َد منتج النص من اختيار متصاحبات لفظية معينة
ً
تطريزا دالليًّا كلمة أو عبار ٍة ما أن لهاٍ للتعبري عن مراده .ويمكننا أن نحكم عىل
إيجابيًّا أو سلبيًّا - positive or negative semantic prosodyإذا )1 :ما لوحظ تصاحبها
معان إيجابية أو سلبية؛ )2ما أحاطت ٍ بشكل متكرر يف املادة املحللة مع كلمات ذات
بها تعبريات أو تراكيب عبارية surrounding phraseological sequencesتحمل وظائف
أو رسائل خطابية ينصبغ بها التطريز الداليل للكلمة أو العبارة املح َّللة.
اللغوي )McEnery & Wilson 2001: 1(.ولعل امللمح الظاهر مما تقدَّم هو أن
لغويات املدونة هي مزج بني التكنولوجيا وعلم اللغة؛ أي توظيف التقنيات
ً
دراسة علمية موضوعية الحاسوبية يف دراسة الكيفيات التي تعمل بها اللغة
تقوم عىل التحليل الكمي والكيفي معً ا.
تتعدد أنواع املدونات وفق الغرض البحثي الذي تُصمَّ م من أجله ،وأشهر أنواع
املدونات كما تستعرضها سوزن هانستن ( )Hunston, 2002: 14-16ما ييل:
ً
جنسا لغويًّا ً
نصوصا تمثل المدونة الخاصة ،special corpusوتتضمن
معينًا كالصحافة ،أو الشعر ،أو الرواية ،أو القانون ،أو الكتابات األكاديمية،
أو مواد من مواقع التواصل االجتماعي ،أو تفريغات ملواد منطوقة .. ،إلخ؛
ويلجأ الباحث إىل بناء مدونته الخاصة بغرض اإلجابة عن أسئلة بحثية
محدَّدة من خالل تحليل املادة التي تم جمعها واختيارها بناء عىل معايري
ممثلة ومتوازنة ،بحيث يمكن تعميم نتائجها وأحكامها ،وقد ً علمية كأن تكون
تكون املدونة الخاصة محدودة بإطار زمني معني.
المدونة العامة ،general corpusوتحتوي عىل نصوص من أجناس لغوية
نصوصا مكتوبة وأخرى منطوقة ،لتمثل الواقع اللغوي ً مختلفة ،وقد تتضمن
ً
مقارنة باملدونات دول متعددة ،وهي مدونة كبرية الحجم يف دولة بعينها أو ٍ
ً
مكنزا مرجعيًّا لبحوث الخاصة ،ولذلك يعتمد عليها الباحثون باعتبارها
الرتجمة ،وتعليم اللغات ،وللمقارنة بني املدونات الفرعية التي تتضمنها
كاملقارنة بني املدونة الصحفية واألدبية مثال؛ ولذلك تُسمى أحيانًا باملدونة
املرجعية .ومن أشهر املدونات العامة مدونة BNC: British National Corpusالتي
تحتوي عىل 100مليون كلمة بجامعة النكسرت ،وكذلك مدونة Bank of English
التي بلغ محتواها حتى يناير 2001ـ 400مليون كلمة بجامعة برمنجهام،
ومدونة COCA: Corpus of Contemporary American Englishالتي تحتوي عىل 250
مليون كلمة من 1990ـ ،2015وهي أكثر املدونات العامة استخدامً ا.
المدونة المقارنة ،comparable corpusوتتضمن مدونتني فرعيتني تمثالن
لغتني مختلفتني كالعربية واإلنجليزية ،أو تنوعني لغويني كالعربية املرصية
والعربية املغربية ،ويجب أن تتضمن املدونتان نفس الجنس اللغوي وبنفس
الحجم .وتُستخدم املدونات املقارنة يف دراسة خصائص التنوعات اللغوية،
وإجراء بحوث تتعلق بالرتجمة ،أو يف تعليم اللغات .ومن أشهر أمثلتها مدونة
،ICE: International Corpus of Englishالتي تتضمن مليون كلمة لكل تنوع من
تنوعات اللغة اإلنجليزية.
المدونة المتوازية ،parallel corpusوتتكون من مدونتني فرعيتني أو أكثر،
نصوصا بعينها مرتجمة من لغة ما إىل لغات أخرى ،كرتجمات القرآن ً تتضمن
الكريم بالعربية واإلنجليزية مثال ،أو ترجمة األعمال األدبية ككتاب ألف ليلة
وليلة من العربية إىل اإلنجليزية ،وهكذا .وتُستخدم املدونات املتوازية يف تعليم
اللغات ،ودراسات الرتجمة التي تبحث يف املكافئات اللغوية لبعض التعبريات
والرتاكيب العبارية يف اللغات املختلفة ،وكذلك الفوارق والخصائص اللغوية
بني اللغات.
المدونة التعليمية ،learner corpusوتتكون من كتابات متعلمي اللغة
األجنبية ،بغرض إجراء مقارنات بينها وبني النظام اللغوي املعياري يف اللغة
املتعلمة ،لإلفادة منها يف رصد الخصائص اللغوية لدى متعلمي اللغة من
تقارن معظم األعمال التي تقدم للمدونات اللغوية بني املنهج التقليدي القائم عىل
الحدس والتخمني واملالحظة الفردية يف دراسة اللغة intuition-based approach
واملنهج القائم عىل املدونات اللغوية .corpus-based approachويمكن تلخيص املقارنة
بني املنهجني يف التقاط اآلتية :يقوم املنهج الحديس عىل )1 :األمثلة والشواهد
االنتقائية أو املخت َل َقة أحيانًا )2 ،املالحظة الفردية التي قد تختلف من باحث إىل آخر،
)3التحليل اليدوي لعينات لغوية قليلة نسبيًّا؛ ومن ثم تعوزه الدقة خاصة يف
التحليل الكمي الذي يوفر الدليل اإلحصائي )4 ،االستنتاجات واالستنباطات التي قد
تكون متأثرة بالسياق الخاص بالباحث كامليول والتوجهات الفكرية واللغوية
واأليديولوجية ونحوها؛ وعليه ،فاألحكام املستخلصة من التحليل قد تكون ذاتية
خاضعة لتحيز الباحث وليست موضوعية بالقدر املطلوب .أما التحليل القائم عىل
املدونات اللغوية ،فيقوم عىل )1 :الشواهد االستقصائية التي تقف دليال كافيًا عىل
صحة الظواهر واملالحظات واألحكام اللغوية املستخلصة من التحليل )2 ،التحليل
اآليل لكميات هائلة من النصوص اللغوية التي تعكس واقع االستعمال اللغوي)3 ،
الحد من تحيز الباحث وميوله وتوقعاته وتوجهاته الذاتية يف التحليل )4 ،تحديد
الفروق التي قد يعجز عنها التحليل الفردي لعينات لغوية صغرية )4 ،الدقة
والرسعة يف االستعالم أو الفهرسة السياقية أو التحليالت اإلحصائية التي تتم
حاسوبيًّا أو تحديد املتصاحبات اللفظية أو الكلمات املفتاحية أو األكثر شيوعا يف
املادة املحللة .ومن هنا تأتي أهمية املدونات اللغوية يف أنها تزود الباحث باإلحصاءات
املوثوق بها ،وباألمثلة الحية التي تقف دليال كافيًا عىل مالحظاته وأحكامه عىل كيفية
عمل اللغة يف االستخدام الواقعي لها؛ مما يم ّكن اللغوي من وضع تصورات ونتائج
علمية موضوعية ،وليس مجرد انطباعات سطحية ال تستند إىل شواهد كافية.
ومع هذا ،وكما يؤكد توني مكنري ،فليس كل الدراسات أو األحكام القائمة عىل
التحليل الحديس غري موضوعية أو غي صحيحة ،وعىل الجانب اآلخر ال يجب
تبني منهج املدونات اللغوية يف اإلجابة عىل جميع األسئلة البحثية يف الدراسات
اللغوية؛ بل إن كثريًا من البحوث اللغوية قد تكون علمية و موضوعية دون
االعتماد عىل املدونات اللغوية( . )McEnery, et al., 2006: 7ويف االتجاه نفسه،
توضح سوزن هانتسن أن املدونات اللغوية (يف ذاتها) ال تضيف معلومات
جديدة إىل اللغة ،وال تعدو أن تكون مجرد مخزن للمادة اللغوية (النصوص) يف
صورتها الخام ،كما أن برامج تحليل املدونات وأدواته تقترص عىل وظائف
الرتتيب والفهرسة واإلحصاء واالستدعاء من ذلك املخزن الكبري القابل لكثري من
املالحظات الفردية التي يقوم بها الباحث اللغوي نفسه .)(Hunston, 2002: 3
ويُفهم من استدراك مكنري وهنستن أن االتجاه األمثل يف البحث اللغوي يميل
إىل التكامل بني املنهجني؛ لإلفادة من شمولية املدونات وواقعية التحليل ودقة
اإلحصاءات الكمية وتنوع اإلمكانيات البحثية ورسعتها وموضوعية األحكام
وعدم تلفيقها ،إىل جانب القدرات الفردية للباحث يف االستخالص واالستنباط
واملالحظة وتفسري النتائج والظواهر وتعليلها؛ وهذا التكامل املنهجي يف التحليل
الكمي الكيفي يتبناه جون سينكلري ـ رائد الدراسات القائمة عىل املدونات
اللغوية (.)Sinclair, 2001: 19
تتيح املدونات اللغوية عددًا من التقنيات التي تم ِّكن الباحث من إجراء وظائف
استقصائية وإحصائية ال يمكن إجراؤها يدويًّا أو حدسيًّا ،كقائمة الكلمات
األكثر شيوعً ا ، frequency listوالكلمات املفتاحية ،keywordsوالفهارس
إليها هذه الكلمات ،وكيف تفيد يف صناعة معجم موضوعي؟ وغريها من األسئلة
البحثية التي تمثل نقطة انطالق لتحليل أعمق وبإجراءات مختلفة.
الكلمات المفتاحية :key wordsتتيح معظم برامج املدونات إمكانية املقارنة
بني املدونتني (عامتني ،أو خاصتني ،أو عامة وخاصة) الستخالص قائمة من
الكلمات املفتاحية التي تميز مدونة عن أخرى (يف اختالفها ونسبة تكرارها).
فمقارنة مدونة خاصة ملجموعة من املقاالت الصحفية مثال بمدونة صحفية عامة،
أو مقارنة مدونة عمل روائي أو ديوان شعري بمدونة روائية أو شعرية عامة ـ
تمكن الباحث من الوقوف عىل مالمح االستعمال اللغوي الذي يمز ً
جنسا كتابيًّا عن
آخر .وكما يوضح مايكل سكوت ،فإن الكلمات املفتاحية تعكس املوضوع العام أو
القضايا الكربى التي تغلب يف مدونة عن أخرى؛ مما يمثل نقطة انطالق بحثية عن
املالمح الوظيفية والداللية والخطابية يف مدونة ما.
السياقية توفر جهد الباحث يف استقصاء جميع السياقات التي ترد فيها الكلمات أو
املفاهيم أو العبارات التي يرغب الباحث يف تحليل معانيها السياقية ،وسلوكها
الرتكيبي ،ودالالتها التداولية والخطابية ،ومن ثم االستدالل بأمثلة واقعية تؤيد
استنتاجاته وأحكامه اللغوية .وإذا كانت املفهرسات السياقية تعرض املعلومات
اللغوية بهذه الصورة اآللية؛ إال أنها تخفي وراءها ما يقتيض تدخل الباحث
الستنباطه ورصده وتفسريه يف ضوء السياق الخارجي للمدونة املدروسة.
هذه بعض اإلمكانات البحثية التي تتيحها برامج املدونات اللغوية للباحثني،
وسأبني يف العنرص ( )5كيف يمكن توظيف هذه التقنيات املنهجية يف تحليل
الخطاب.
ما مدى أهمية املدونات يف البحوث التطبيقية للغة؟ وماذا ال تفي املدونات
بتحقيقه للباحث؟ سأبني إجابتي عىل مبدأ استقر بعد أن استوىف حظه من
املناقشة يف الدراسات السابقة ،وهو :هل املدونات اللغوية نظرية أم منهج؟ إذ
يرى بعض اللغويني (خاصة أتباع مدرسة الفريثيني الجدد) أن املدونات اللغوية
ليست مجرد أداة بحثية؛ وإنما مستوىً من مستويات اللغة النظرية قسيمً ا
لألصوات والنحو والداللة .ومن اللغويني من يرى أنها مجرد أداة منهجية
بحثية ،توفر إمكانيات بحثية متنوعة يف تحليل الظواهر واملعاني واألنماط
اللغوية واستكشاف كيفيات عمل اللغة بشكل واقعي وموضوعي .ويتبنى هذا
االتجاه معظم اللغويني والباحثني الذين اعتمدوا عىل منهجية املدونات يف
الدراسات اللغوية التطبيقية كالدراسات املعجمية والرتكيبية والداللية
والتداولية والرتجمة وتحليل الخطاب .وقد استعرض توني مكنري وأندرو
هاردي هذا النقاش وحجة كل فريق(،)McEnery and Hardie, 2012: 147-152
واألرجح ـ كما ذهب عد كبري من اللغويني ،وهو ما أميل إليه ـ أن املدونة
اللغوية هي أداة بحثية وليست فرعً ا من فروع الدرس اللغوي.
ً
وتأسيسا عىل هذا ،فإن املدونات اللغوية وسيلة بحثية دقيقة ترشدنا إىل ماهية
النظام اللغوي وحقائقه وأرساره وكيفية عمله وطرائق استعماله يف األجناس
اللغوية املختلفة ،يف مقابل الحدس اللغوي للباحث ومالحظاته الفردية وخرباته
أو معرفته املسبقة بالنظام اللغوي التي قد تفوق ما تحتوي عليه املدونة
اللغوية .ولعل ما يؤكد هذا الحكم أن الخربة أو املعرفة اللغوية البن اللغة تظل
كامنة يف ذهنه تحتاج إىل ما يدلل عىل صحتها من األدلة والشواهد واإلحصاءات
(وسأركز بالتفصيل عىل استخدام املدونات اللغوية يف بحوث تحليل الخطاب يف
العنرص .)5
ويجب أال يدفعنا هذا اإلقبال املتزايد عىل توظيف املدونات يف دراسة اللغة،
وتنوع اإلمكانان البحثية التي تقدمها ،وواقعية التحليل القائم عىل املدونات
اللغوية ودقة نتائجه ـ إىل الثقة املبالغ فيها يف املدونات اللغوية واالنتقاص مما
سواها من املنهجيات البحثية بما فيها املنهج الحديس .فاملدونات (باعتبارها
أداة منهجية بحثية) ليس باستطاعتها اإلجابة عىل جميع األسئلة البحثية(كما
سبقت اإلشارة يف ،)3.3بل وقد تقف قارصة عن تلبية عدد من التساؤالت
واالحتماالت التي لخصتها سوزن هانستن ( )Hunsten, 2002: 22-23فيما ييل:
)2أن املدونات اللغوية (مهما بلغ حجمها) ال تعرض إال ما تحتوي عليه فقط،
وليس بإمكانها التنبؤ بما ليس فيها .فالشاهد اللغوي املست ّل من املدونة
اللغوية هو دليل عىل املدونة يف ذاتها ،وليس عىل اللغة أو التنوع اللغوي
ً
عينة له .وعليه ،فالنتائج املبنية عىل تحليل أية مدونة الذي تمثل املدونة
ينبغي أن يُنظر إليها عىل أنها مجرد استنتاجات مقترصة عىل حدود املادة
التي تحتوي عليها املدونة؛ ال عىل أنها حقائق مطلقة قطعية الثبوت أو يمكن
تعميمها .وعىل الرغم من إمكانية تعميم (بعض) نتائج املدونات التي يُراعى
القائم عىل املدونات اللغوية ملجرد قصوره عن الوفاء بما ليس من شأنه الوفاء
به (.Stubbs, 1996: 231
األساليب الذي يعتمد عىل أكثر من صيغة تواصلية ،كالخطاب الصحفي الذي
يعتمد عىل الكلمة املكتوبة إىل جانب الصور والرسومات ،وكالخطاب السنيمائي
الذي يعتمد عىل الكلمة والصورة واملوسيقى مثال ،ومعظم الخطابات تُعد
متعددة األساليب والصيغ .)(Bloor & Bloor, 2007: 6-7
مناهج تحليل الخطاب وتعدد أغراضها البحثية؛ إال أن هناك إجماعً ا بني
املشتغلني يف هذا الحقل عىل أمرين )1 :ما أشار إليه مايكل ستابس من أن
الوحدة اللغوية يف تحليل الخطاب ليست "الجملة" بمفهومها التقليدي؛ وإنما
وحدات لغوية أكرب كاملحادثات أو النصوص املكتوبة )2 ،النظر إىل اللغة عند
تحليل الخطاب عىل أنها ممارسة اجتماعية وليس مجرد نظام من القواعد.
وتأسيسا عىل هذا ،فإن عملية تحليل الخطاب تدور حول :التوظيف اللغوي ً
واالسرتاتيجيات الخطابية ،وفك شفرات الرسائل واملعاني التي يتضمنها
الخطاب ،والسياق االجتماعي الذي يفرس هذه الرسائل واملعاني الخطابية،
واملمارسة التفاعلية بني منتج الخطاب ومتلقيه.
وتُصنَّف الخطابات ـ كما عرضها أحمد املتوكل ( )37-36 :2013ـ إىل ثالثة
أنماط وفق املوضوع ،واآللية ،والبنية .فمن حيث املوضوع ،تُصنَّف الخطابات
إىل خطاب ديني ،وعلمي ،وسيايس ،وأيديولوجي .. ،إلخ؛ أما من حيث البنية،
فتُصنَّف الخطابات داخل الخطاب الفني أو اإلبداعي أو األدبي إىل خطاب
روائي ،وخطاب شعري ،ونحوه؛ ومن حيث اآللية ،يُميَّز بني الخطاب الرسدي،
والخطاب الوصفي ،والخطاب الحجاجي .وعىل الباحث يف تحليل الخطاب أن
يحدد أسئلته البحثية واملادة املناسبة للتحليل واملنهج الذي سيعتمد عليه يف
تحليل مادته وتفسري نتائجه.
يستلزم تحليل الخطاب )1تحليال لغويا للسمات النصية والخطابية التي تميز
الخطاب املحلل؛ بغرض استكشاف طرائق التعبري اللغوي عن رسائل خطابية
معينة سواء بشكل مبارش أو غري مبارش )2،من خالل توظيف اسرتاتيجيات
خطابية متعددة بغرض التأثري يف املتلقي و إقناعه )3 ،وفق منهجية (أو
منهجيات) مناسبة.
وفيما ييل عرض موجز ألهم مبادئ هذه املناهج ،وأهدافها البحثية؛ ألحيل إليها
عند عرض التكامل املنهجي بينها وبني تقنيات املدونات اللغوية يف التحليل
االستقصائي للخطاب (يف العنرص .)5
ثالثًا .المنهج االجتماعي اإلدراكي لثيو فان دايك ( :)van Dijk, 2008يستدرك هذا
املنهج النقد الذي وُجِّ ه إىل املنهج الجديل العالئقي لفريكلوف يف إغفال البعد اإلدراكي
يف العالقة بني الخطاب واملجتمع .فالعالقة بني الخطاب واملجتمع ـ كما يرى فان
دايك ـ ليست عالقة مبارشة؛ وإنما هي عالقات وتمثيالت أيديولوجية غري مبارشة.
ومن ثم يجب أن تشتمل نظرية الخطاب عىل بعد إدراكي يفرس هذه الروابط
األيديولوجيَّة ،بما تتضمنه من تصورات وانطباعات ذهنية ملنتج الخطاب أو متلقيه.
ولذلك يقرتح فان دايك (من خالل دراسته لقضايا العرقية ،واأليديولوجيا ،والسياق)
نموذجً ا سياقيًّا context modelال يشري إىل املوقف الخطابي يف ذاته ،وإنما إىل
التصورات الذهنية (أي امليول األيديولوجية) للمشاركني فيه ،إىل جانب السياق
الخاص كالسياق املكاني والسياق العام كالسياق السيايس مثال .ومن هنا ،يلعب
دورا محوريًّا يف املنهج االجتماعي اإلدراكي؛ ألنه أساس اإلدراك
املكون األيديولوجي ً
من جانب ،ومن جانب آخر ـ يسهم يف تفسري البنى الداخلية (بما فيها االستعمال
اللغوي) والبنى الكلية للخطاب (بما فيها عمليات إنتاج الخطاب واستقباله) .كما
يرشح هذا املنهج كيف (وملاذا) يكون االستعمال اللغوي متغريًا اجتماعيًّا وشخصيًّا
وموقفيًّا .ولذلك يكون أهم أهداف هذا املنهج بأبعاده الثالث (الخطاب ـ اإلدراك ـ
األيديولوجيا) هو تفسري املواقف األيديولوجية (وتأثريها يف الخطاب) بإدراكها يف
سياقها االجتماعي الذي أُنتجت فيه .)(Salama, 2011: 48ويؤكد فان دايك أن جوهر
ظم للبنى واالسرتاتيجيات عىل التحليل النقدي للخطاب هو التحليل الواضح واملن َّ
املستويات املختلفة للنص أو الحديث؛ لذلك يجب أن يعتمد التحليل ـ خاصة عند
تحليل الظواهر االجتماعية املعقدة ـ عىل مناهج ومفاهيم محددة مستقاة من
األنثروبولوجيا ،والتاريخ ،والبالغة ،واألسلوبية ،وتحليل املحادثات ،والدراسات
األدبية ،والدراسات الثقافية ،والداللة ،والفلسفة ،والتداولية ،وعلم اللغة االجتماعي
.)(Baker et al., 2008: 280
رابعًا .المنهج التاريخي في تحليل الخطاب لوداك وريزيجل (Reisigl & Wodak,
) :2001, 2009يعتمد هذا املنهج عىل تحليل عالقات التناص والتضافر بني
الخطابات من ناحية ،واملتغريات االجتماعية والتاريخية التي تحيط بعمليات إنتاج
النص ،وتلقيه ،واستهالكه من ناحية أخرى .وبعبارة أخرى ،يركز هذا املنهج عىل
املالمح اللغوية (لبنية النص) ،واالسرتاتيجيات الخطابية ،والسياق التاريخي
واالجتماعي للخطاب الذي يؤثر يف البنية النصية ورسائلها الخطابية .واملنهج
التاريخي يف تحليل الخطاب يتكون من أربعة مستويات تحليلية ،هي)1 :
الخصائص اللغوية داخل النص )2 ،وعالقات التناص والتضافر بني الخطابات)3 ،
والسياق االجتماعي للخطاب (الزمان ،واملكان ،واملشاركني يف الخطاب) )4 ،السياق
التاريخي للحدث الخطابي .وتقرتح وداك وريزجل عددًا من االسرتاتيجيات اللغوية
ظف بغرض التمثيل الخطابي اإليجابي للذات والتمثيل السلبي لآلخر( Baker التي تو َّ
) ، et al., 2008: 282منها )1 :اسرتاتيجية تعيني الفاعلني االجتماعيني والعزو إليهم
يف أحداث ومواقف معينة ،referential strategyبغرض تصنيفهم إىل مؤيد ومخالف،
)2اسرتاتيجية الوصف الرصيح أو الضمني predicational strategyمن خالل وصف
الفاعلني االجتماعيني بدرجة من التقدير للذات أو إنكار اآلخر )3 ،اسرتاتيجية
املنظور الذاتي (أو املنظورية) perspectivation strategyأي الطريقة التي يقدم بها
الكاتب أو املتحدث نفسه يف الخطاب ،ويصف بها األحداث واملواقف من وجهة نظره
خامسًا .منهج تمثيل الفاعلين االجتماعيين لفان لوفين (:)van Leeuwen, 1996
يقدم هذا املنهج عددًا من االسرتاتيجيات الخطابية التي يوظفها منتج الخطاب
يف تمثيل الفاعل االجتماعي ،ومنهما )1 :اسرتاتيجية الرشعنة legitimationأي
إضفاء الرشعية عىل ممارسات األشخاص أو املؤسسات بربطها باألعراف أو
القوانني أو السلطة أو الدين ،إلخ )2 .اسرتاتيجية إخفاء الفاعل االجتماعي
suppressionأو وضعه يف الخلفية ،backgroundingالتي تعني التجهيل بالفاعل
وعدم ذكره يف النص أو الخطاب يف سياق الحديث عن نشاط أو حدث معني ،أو
إزاحته إىل خلفية املشهد باالكتفاء بالتقليل من دوره أو إسهامه يف الحدث ،أو
ببناء الفعل للمجهول؛ بغرض تهميشه وتجاهله وإنكاره ،وقد يُكتفى باإلشارة
إليه تلميحً ا )3 .اإلشارة إىل الفاعل االجتماعي بوظيفته functionalisation
كاألطباء ،القضاة ،الجنود ،العمال ،إلخ )4 .تمثيل الفاعل االجتماعي بهويته
identificationبتصنيفه ضمن مجموعة معروفة بانتمائها الديني أو السيايس أو
الجنيس ،كالشيعة ،أو اليساريني ،أو املثليني ،أو املعروفة بمظهرها الخارجي
كاملحجبات أو السافرات أو امللتحني أو املعاقني ،إلخ )5 .التمثيل العالئقي
spatializationالذي يعني اإلشارة إىل الفاعل االجتماعي باملكان أو اليشء الذي
تربطه به عالقة غالبة ،كاإلشارة للمواطنني بأسماء الدول (كما يف :تتميز
اليابان بإتقان الصناعة،؛ واملقصود اليابانيون) ،أو اإلشارة باملكان (كشعراء
املهجر ،أو مسلمي أوربا).
واملتأمل يف مناهج تحليل الخطاب ـ عىل تنوعها ـ يمكنه استخالص عددًا من
املبادئ املنهجية أو األهداف البحثية التي تلتقي فيها .وقد أجمل هذه املبادئ
جورجنسون وفيليبس يف خمس نقاط ،هي )1 :أن املمارسات الثقافية
واملؤسساتية ـ إىل حد كبري ـ هي ممارسات لغوية خطابية؛ فالخطابات التي
يتم إنتاجها يوميًّا وتلقيها ثم تفسريها تسهم يف تشكيل العالم (أو تغيريه) بما
فيه من هويات وعالقات ،ومهمة تحليل الخطاب تكمن يف إلقاء الضوء عىل
ظفت فيها اللغة لتحقيق هذا الغرض؛ )2كما أن الخطاب يلعب الكيفية التي وُ ِّ
دورا تأسيسيًّا (يف تشكيل العالم الثقايف وتأسيس مفاهيمه وقيمه) ،يخضع ً
الخطاب نفسه للتشكيل باملمارسات الثقافية واملؤسسات التي تنتجه
(كاملؤسسات السياسية واإلعالمية واالجتماعية مثال)؛ )3والخطاب يف أصله
استعمال لغوي ،واالستعمال اللغوي يجب أن يُحلل تحليال واقعيًّا يف سياقه
الثقايف الذي أُنتج فيه؛ )4باإلضافة إىل أن الخطاب يعمل أيديولوجيًّا؛
فاملمارسات الخطابية تعمل عىل خلق أو إعادة إنتاج عالقات غري متساوية يف
النفوذ والسلطة بني القوى املجتمعية ،ومن هنا فهي ذات تأثري أيديولوجي يف
تمثيل اآلخر .وأحد أهداف تحليل الخطاب هو كشف دور املمارسات الخطابية
يف صياغة صورة املجتمع وعالقاته بما فيها هذه العالقات غري املتساوية كما
تشكلها (أو تغريها) الخطابات؛ )5وأخريًا ،البد أن يكون تحليل الخطاب
تحليال نقديًّا؛ فكما يسعى إىل كشف العالقات غري املتكافئة يف املجتمع (كما
أيضا إىل مقاومة (أو تصحيح) التغرياتتشكلها املمارسات الخطابية) ،يسعى ً
ً
مقارنة املجتمعية التي تختلقها املمارسات الخطابية؛ بكشفها وتوضيح زيفها
(Jørgensen & Phillips, 2002: 60- باملمارسات الواقعية والحقائق املتعارف عليها
.)64
ويمكن توزيع هذه املبادئ عىل مستويني :مستوى نيص لغوي (البنى الداخلية)،
ومستوى سياقي خطابي (البنى الكلية للخطاب) .إال أن اإلشكالية املنهجية
القائمة تكمن يف إجراء تحليل تكاميل متوازن للمستويني معً ا .وللتغلب عىل هذه
اإلشكالية ،اقرتح املهتمون بتحليل الخطاب منهجً ا يعتمد عىل املدونات اللغوية
الستيفاء التحليل (عىل األقل) عىل املستوى األول ،وتفصيل هذا املنهج يف العنرص
التايل.
وكما توضح سوزن هانستن ،فإن استخدام املدونات اللغوية يسهم إىل حد كبري يف
تحقيق الهدفني الثاني والثالث من األهداف البحثية للسانيات النقدية كما حددها
Fawler؛ فأنماط التصاحب اللفظي ـ عىل سبيل املثال ـ تُستخرج (حاسوبيًّا) من
مدونة تحتوي عىل كم كبري من النصوص ،وهو ما يعجز عنه التحليل اليدوي وحدس
الباحث .أما فيما يتعلق بالهدف األول ،فاملدونة تخفي معالم النصية عن املادة
املحللة .أو بعبارة أدق ،تختفي عوامل السياق الخارجي للنص من املخرجات املُست َّلة
يبقى إذن ما تنبه إليه اللغويون يف الغرب من إشكالية منهجية عند تحليل
الخطاب تتمثل يف صعوبة (وعدم الدقة يف) تحديد املفاهيم األساسية
خاصة عند تحليل كم كبري منً والتصاحبات اللفظية يف املادة الخطابية املحللة،
النصوص .)(Beaugrande, 1999b: 287باإلضافة إىل تحيز الباحث الذي (قد)
ينتقي األمثلة التي ترجح ملمحً ا خطابيًّا مقصودًا (وإن لم يكن مطردًا)،
ويتغافل أخرى (قد) ترجح مظاهر خطابية مغايرة أو أكثر اطرادًا .وعىل الرغم
من االنتقادات التي وُجِّ هت للمدونات (ومنها أنها تعزل النص عن
سياقه ، decontextualizationوأنها تقدم النصوص اللغوية يف صورتها الخام؛ ال
يف صورة معان معجمية أو سياقية أو خطابية أو تداولية مُستخ َلصة)؛ إال أن
املهتمني بتحليل الخطاب قد وجدوا ضالتهم يف املنهج القائم عىل املدونات
اللغوية (وتحديدًا املدونات الخاصة) .فاستخدام املدونات اللغوية ـ كما يوضح
بول بيكر ـ يفيد يف تحليل الخطاب من عدة جوانب )1 :فهو من ناحية يح ُّد من
تحيز الباحث وميوله وتوجهاته التي قد تؤثر عىل التحليل؛ )2ومن ناحية
أخرى يم ِّكن الباحث من فك شفرات الخطاب ،وكشف طرائق التوظيف اللغوي
واالسرتاتيجيات الخطابية التي استُخدمت لتشكيل تصورات ذهنية مقصودة
لدى املتلقي؛ )3ومن ناحية ثالثة ،يُظهر األمثلة والشواهد التي تدلل عىل الصور
ً
خاصة عند الخطابية املغايرة أو املعاكسة التي قد يغفلها محلل الخطاب،
تحليل مادة صغرية الحجم؛ )4وبصفة عامة ،يسمح بالدراسة البينية وتعدد
مناهج البحث وتنويع املادة املحللة؛ بما يم ِّكن الباحث من التحليل
99 علم اللغة]2018 .. [االجتاهات احلديثة يف
[أبرز مسات التفكري اللغوي يف القرن العشرين] القسم األول)2( ..
( Baker 2006:
االستقصائي ،وتقديم تفسريات سياقية لنتائجه بشكل أكثر دقة
.)10ومن هنا بدأ اللغويون يف الغرب منذ التسعينيات يتجهون ـ وبشكل
متزايد ـ إىل إجراء دراسات يف تحليل الخطاب تقوم عىل املدونات اللغوية.
مبكرا
ً وإذا كان املهتمون بتحليل الخطاب قد تنبهوا لهذه اإلشكالية املنهجية
وتغلبوا عليها باالستعانة بتقنيات املدونات اللغوية ،واقرتحوا منهجً ا جديدًا
ً
مألوفا لتحليل الخطاب يقوم عىل املدونات اللغوية ،ثم طوروه ليستقر منهجً ا
معموال به يف هذا املجال ـ فإن الدرس اللغوي يف العالم العربي ال يزال يعاني
من هذه املنهجية (كما سبقت اإلشارة) .ومن هنا ،فإن تقديم هذا املنهج
وخصائصه البحثية وإجراءاته التطبيقية أمر يقتضيه قانون التطور املنهجي
يف البحث اللغوي ،وهذا ما سأطرحه تفصيال يف العنرص التايل.
س :1كيف نشأت مدرسة الفيرثيين الجدد ،وملاذا ُسميت بهذا االسم؟
سّ :2بين موقف الفيرثيين الجدد من دراسة اللغة والكالم.
فيم تأثر فيرث بأساتاذه مالينوفسكي؟ سَ :3
ً
س :4اشرح ما يقصده سينكلير من أن "اللغـة تبـدو مختلفـة إلـى حـد بعيـد إذا مـا نظرنـا إليهـا فـي
ً
عينات كبيرة دفعة واحدة".
س :5م ــن أه ــم مب ــادئ مدرس ــة الفي ــرثيين الج ــدد ه ــو اعتب ــار الكلم ــة ف ــي س ــياقها الخط ــابي ه ــي
جوهر التحليل اللغوي ومنطلقه .كيف تشرح هذا املبدأ؟
ً
س :6بـ ـ َـم يب ـ ــرر س ـ ــينكلير ع ـ ــدم وجـ ــود نظري ـ ــة لغوي ـ ــة مقنع ـ ــة فـ ــي التراكي ـ ــب العباري ـ ــة ،مقارن ـ ــة
بالنظريات النحوية؟
س :7كيف تفسر دعوة سينكلير :ثق بالنص اللغوي؟
س :8ما هي االحتماالت التي ال تخرج عنها الكلمة إذا ما انتظمت في تركيب عباري؟
س :9كيف ميز سينكلير بين املعنى القاموس ي واملعنى النص ي؟
س :10ما هي املنطلقات اللغوية التي مثلت األسـاس الـذي بنـى عليـه سـينكلير منهجـه فـي تحليـل
املعنى؟
مم يتألف منهج سينكلير "الوحدة اللغوية املمتدة"؟ سَ :11
ممن استو ى هذه الفكرة؟ مبينا َّتكون املعنى النص ي عند سينكليرً ، س :12اشرح كيفية ُّ
س :13كيف حلل سينكلير عبارة "العين املجردة " the naked eye؟
سِّّ :14بين كيف يمكن تطوير منهج سينكلير ليفي بتحليل مستويات لغوية أعلى؟
س :15عرف املدونة اللغوية ،وما الفرق بينها وبين لغويات املدونة؟ ممثال لبعض أنواعها.
س :16هل تستطيع املدونات اللغوية أن تجيب على كل األسئلة البحثية؟
س :17اذكر خصائص التحليل القائم على املدونات اللغوية.
س :18قارن بين مناهج تحليل الخطاب.
س :19ما املبادئ املشتركة بين مناهج تحليل الخطاب؟
س :20ما خصائص منهج تحليل الخطاب القائم على املدونات اللغوية؟
تقديم
هذه مجموعة محاضرات لطالب الفرقة الرابعة فى مقرر علم اللغة بعنوان « مشكالت
اللغة العربية املعاصرة » .وقد جمعتها من أبحاث علمية قام بها أساتذة مخلصون
قاموا بدراسة كل موضوع من املوضوعات املكونة لها ،وقد حرصت على كتابة اسم
صاحب البحث حتى يتمكن الطالب من قراءة البحث كامال -إن رأوا االستزادة -
وإلعطاء الحق ألصحابه.
واللغة العربية شأنها شأن كل اللغات الحية ،تعانى من بعض املشكالت التى ينبغى أن
يطلع الطالب املتخصص فى العربية عليها قبل أن يخرج إلى حياته العملية ،فربما يكون
فى قراءة هذه املوضوعات زيادة وعى وإدراك ملجال عمله وتعرف مشكالته ،فإن لم
ً ً
يحاول عالج بعض هذه املشكالت فى عمله -بأن يبدأ بنفسه -فال يكون دليال جديدا
على أزمة أو مشكلة تعانيها العربية.
وباهلل التوفيق
من أبرز املشكالت التي تواجهها لغتنا العربية منذ غزتنا الحضارة الغربية بما فيها من
مستحدثات -مادية وفكرية مشكلة املصطلح العلمي ،حيث كان عليها أن تفي بمطالب
العلوم والفنون فتقدم لها األلفاظ واملصطلحات الدالة على هذه املسميات ،وإال
أصبحت لغتنا مهددة بغزو من األلفاظ الدخيلة لهذه الوسائل واألدوات ،وال يمكن أن
يقوم بهذا العمل فرد ،وإزاء هذا الشعور بخطورة الغزو اللغوي بدأت فكرة إنشاء
املجامع اللغوية تتردد في كتابات الكتاب وأحاديث العلماء(.)1
يمكن القول أن مشكلة التعبير باللغة العربية عن مصطلحات العلوم الحديثة بدأت
ببداية إنشاء املدارس فى عهد محمد على وبخاصة مدرسة الطب (1827م) « فقد كان
من املقرر جعل التعليم باللغة العربية ،ولكن األساتذة كانوا يجهلون تلك اللغة،
فاختير لهم مترجمون يجيدون اللغتين الفرنسية والعربية ،فكان املدرس يأتي ومعه
املترجم فيلقى الدرس بالفرنسية وينقله املترجم إلى العربية(.» )2
وكان املترجم ملزما بأن ينقل املصطلحات بدقة ،وملا كانت املصطلحات العربية لم
توضع بعد ،فقد كان على املترجمين عبء وضع مقابالت عربية للمصطلحات األجنبية
وملا كان هؤالء املترجمون يجهلون علوم الطب فقد جاءت مصطلحاتهم « جافة مفككة
خالية من الروع(» )3
وهذا ما جعل « كلوت بك » يتخذ إجراءات يضمن بها دقة الدروس ّ
املعربة وصحتها من
الوجهتين العلمية واللغوية .أهم هذه اإلجراءات(:)4
-1كان الدرس ينقل فى بادئ األمر فى حضرة األستاذ ،وعلى األستاذ أن يمد املترجمين
بما يلزم من تفسيرات حتى يتسنى لهم فهم الدرس ،وعلى املترجمين أن يعيدوه أمامه
َ
بلغته األصلية ،حتى يثق األستاذ فى دقة الترجمة ثم ُيملى الدرس على الطلبة.
-2جعل من املترجمين باملدرسة أول تالميذها ،فأصبحوا يتلقون علوم الطب حتى
يتمكنوا من تعريبها( .املقصود بالتعريب هنا الترجمة عموما).
-3من الوجهة اللغوية عين بعض علماء األزهر ليقوموا على إصالح الترجمات وبالطبع
إصالح املصطلحات.
وكانت البالد فى حاجة إلى نقل العلوم الغربية إلى اللغة العربية ،فأرسلت البعثات،
واعتمدوا على أعضائها ومن املبعوثين.
وبجانب هؤالء املبعوثين أنشئت مدرسة األلسن أوائل سنة 1835وكان الغرض من
إنشائها تخريج مترجمين ملصالح الحكومة ومدارسها( » )5ومض ى هؤالء بدورهم يترجمون
كتبا كثيرة فى الصناعة والزراعة وفنون الحرب والطب والعلوم واآلداب(.» )6
« إال أن هؤالء املترجمين مهما تكن قدرتهم على ترجمة كتب التاريخ والقانون
والجغرافيا والعلوم األخرى التى ال تحوى مصطلحات فنية كثيرة كانوا بال شك عاجزين
عن ترجمة الكتب املتعلقة بالعلوم والرياضيات(.» )7
وكانت النية متجهة منذ إنشاء مدرسة األلسن إلى تكوين قلم للترجمة من خريجيها لكن
إنشاء هذا القلم تأخر إلى سنة .)8(1841وكان هذا القلم مكونا من أربعة أقالم:
وكانت الكتب املترجمة أغلبها مترجم من الفرنسية إلى العربية وبعضها من الفرنسية إلى
التركية(.)10
.3.1رفاعة الطهطاوى:
ً
كانت الترجمة فى هذا العصر إذا قائمة على أكتاف املبعوثين وخريجى مدرسة األلسن.
وكان من مترجمى هذا العصر :رفاعة الطهطاوى.
واملالحظ أن حركة الترجمة هذه التى ازدهرت فى بداية عصر محمد على لم تكن تتجه
إلى التخصص فى الترجمة ،فالحاجة امللحة والسريعة لنقل علوم الغرب اضطرت من
عنده املعرفة اللغوية إلى أن يترجم فى أى علم(.)11
ولعل أصدق مثال لهذا هو رفاعة رافع الطهطاوى ( )1813 - 1801فقد ترجم فى
املعادن واالجتماع والجغرافيا وعلم الهيئة وامليتولوجيا والطب والهندسة والعسكرية
وذلك عدا شذارت فى أكثر من علم فى كتابه تخليص اإلبريز( .)12وطبيعى أن الترجمة
التى يقوم بها غير متخصص ليس من املتوقع أن تتوافر ملصطلحاته الدقة الواجب
توافرها فى مصطلحات العلوم.
وقد شعر هؤالء املترجمون بأن إيجاد مقابالت عربية للمصطلحات الفرنسية ليس
باألمر السهل وإنما هو مشكلة يقف عندها املترجم ،يعبر عن هذا املوقف رفاعة
الطهطاوى إذ يقول فى مقدمة كتاب « املعادن النافعة » « :وقد فسرت مفرداته على
( )11انظر تاريخ الترجمة /د .جمال الدين الشيال ص.210 - 209
( )12انظر ما ترجمه رفاعة فى تخليص اإلبريز ص ،248ورفاعة الطهطاوى ص.95 - 94 ،26
107 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
حسب ما ظهر لى بالفحص التام .وما تعاص ى منها حفظت لفظه ورسمته كما يمكن
كتابته به(.» )13
« وقد أمرنى سعادة ولى النعم أفندينا إبراهيم باشا بترجمة قاموس ...ولكن عاقنى عنه
عوائق ...منها أنه يحتاج إلى وضع املترجم فى كتب خانة ويحتاج أيضا إلى أن يكون معى
مساعد فرنساوى ،بل هذا الشغل هو شغل نحو عشرة أنفار حتى يكون مستوفيا
ومستوعبا لأللفاظ االصطالحية( .)14و « فترت حركة الترجمة بعد وفاة محمد على باشا
ولم تنبعث إال فى عصر إسماعيل غير أن الخديوي لم يشملها بمثل العناية التى شملها
محمد على باشا بها(.» )15
وارتفعت أصوات املحدثين تنادى بضرورة العمل على إيجاد مقابالت عربية
للمصطلحات األجنبية وضرورة مسايرة العربية للعلوم الحديثة وكان الداعى إلى ظهور
مشكلة التعبير عن املصطلحات األجنبية باللغة العربية كقضية لغوية علمية فى هذا
العصر عدة أمور أهمها:
-3أن معظم هذه املصطلحات ال عهد للغة العربية بها ،وليس من طبيعة األمور أن
تكون املقابالت العربية املوضوعة ألول مرة مستكملة الصفات الواجب توافرها فى
املصطلح العلمى.
-4كما أثارت كثرة التعريب فى عصر محمد على حفيظة رجال اللغة فارتفع صوتهم
مناديا بمحاربة األلفاظ املعربة فإن « عددا كبيرا من مصطلحات القرن التاسع عشر
فى مختلف العلوم يحتاج اليوم إلى تعديل أو تبديل ،ومن املستطاع إيجاد ألفاظ عربية
سائغة تقوم مقام الكثير من األلفاظ التى عربت فى ذلك الزمان(.» )16
اعترف الشدياق بأن « مفردات العربية غير تامة بالنظر إلى ما استحدث بعد العرب
من الفنون والصنائع مما لم يكن يخطر ببال األولين »( )17وليس هذا عيبا فى اللغة إنما
العيب “ فى أن نستعير هذه األسماء من اللغات األجنبية مع قدرتنا على صوغها من
لغتنا ...هذا الدخيل إنما يفض ى عنه إذا لم يوجد فى أصل اللغة ما يرادفه أو لم يمكن
صوغ مثله ّ
فأما وجود هذا اإلمكان فاإلغضاء عنه بخس لحق اللغة ال محالة(.» )18
وقد لفت األنظار إلى « وجه خر فى العربية لصوغ ألفاظ تسد مسد األلفاظ األعجمية
التى اضطررنا إليها وهو باب النحت( » )19وقد رجا « من األساتذة الكرام الذين يحررون
» روضة املدارس( « )20أن يتواطأوا من هذا الباب -أى باب النحت -على ألفاظ تغنينا
عن األلفاظ األعجمية التى أحوجتنا إلى استعمالها ...فإن مصر مورد العلوم العربية
ومصدرها وكالم مشايخها متبع فى جميع األمصار فإذا قرروا طريقة لصوغ األلفاظ
املنحوتة اقتدى بهم جميع الكتاب واملؤلفين(.» )21
وحمل عبد هللا فكرى -بعد الشدياق -الدعوى إلى إيجاد مقابالت عربية لأللفاظ
األجنبية ،فاقترح إنشاء جمعية يكون من بين مهامها وضع ألفاظ عربية ملستحدثات
العلوم « وإنا ملحتاجون لها أيضا لالتفاق على ألفاظ حسنة من اللغة العربية،
نستعملها بدل األلفاظ األجنبية التى أحوجت الضرورة إلى استعمالها فى هذا اللسان
الشريف مع استغنائه عنها ،لعدم االتفاق على ش ئ يسد مسدها ...فإن ما تبدل به هذه
األلفاظ -وإن كان حسنا فى ذاته -ال يعم استعماله واعتماده ومعرفته إال إذا صدر عن
جمعية مثل هذه(.» )22
كتب سنة 1881م فى « التنكيت والتبكيت » تحت عنوان « إضاعة اللغة تسليم للذات
» يحث العربى على التمسك بلغته قائال له « بم تستبدل لغتك ومالها من مثيل وإلى من
( « )20روضة املدارس » مجلة أنشأها على مبارك سنة 1870وكان رئيس تحريرها فى تلك الفترة رفاعة
الطهطاوى.
( )21كنز الرغائب ص.205
( )22السابق ص.238
110 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
تتركها وأنت لها وكيل ،وما الذى استحسنته فى غيرها واستقبحت مقابله فيها ،وأى ش يء
طلبته فيها ولم تجد له اسما(.» )23
وفى سنة 1892اقترح فى « األستاذ » على القائمين بأمر األمم الشرقية أن يحولوا بين
اللغة وموتها بإحداث جمعية من علماء األزهر وأفاضل املدارس ...ليضعوا
لالصطالحات الطبية والكيماوية والهندسية ومفردات الكالم أسماء عربية بها تدرس
هذه العلوم »( « )24فلو فرض وكانت هذه األسماء ال مقابل لها فالجمعية العلمية تضع
لها أسماء وجموعا وما يلزم لتعريف الكلمة ومشتقاتها(.)25
يبدو أن النديم لم يكن يعلم أن ما نادى به قد وجد فعال فقبل دعوته تلك بأربعة
أشهر تقريبا أنش ئ مجمع البكرى.
ففى 17مايو سنة 1892اجتمع نخبة من العلماء املصريين « ونظروا فى املسألة التى
شعر أـبــناءـ اـلـلغة اـلـعربــية بـالــحاجـة إـلـيها مــنذ بـضع سنين وـهـى إااا اجا لاوم لا و ا لا
األااااماةامية االاةراا و اة ينظر فـى اـلـلغة اـلـعربـية وـمـا تـحتاج إـلـيه فـى هـذاـ اـلـعصر ؛ـ عـصر
التقدم فى العلوم والفنون وأجمع رأيهم على إنشاء هذا املجمع وانتخبوا حضرة السيد /
محمد البكرى نقيب السادة األشراف رئيسا له ».
فبعد اـالحـتاللـ الـبريـطانى لـم تـقتصر املـشكلة على اـلـفو ى اـلـلغوية اـلـقائمة مـن قـبل ؛
وـإـنـما أــضيف إـلـيها هــجومـ شرسـ عــلى اـلــلغة اـلـعربــية،ـ وـإــصراـرـ مــن اـملــحتل عــلى أـنـ تــكون
لغة العلم فى املدارس هى اللغة اإلنجليزية ،وارتفاع أصوات مشبوهة تدعو إلى الكتابة
بــالــلغة ا ـلــعامــية،ـ حــمل لــواـءـهــا « وـلــيم وـيــلكوكــس » ؛ـ مــهندس ـ إـنــجليزىـ كــان ـ يــعيش فــى
مصر ،وقد دعا إلى الكتابة والتأليف باللغة العامية بدعوى أنها أقدرعلى إفهام الناس
من العربية الفصحى ،ثم اقترن القول لديه بالعمل ؛ فترجم اإلنجيل فى هذه الفترة إلى
اـلــعامــية،ـ فــاجــتمع عــلى اـلــعربــية خــطراـنـ:ـ اـلــدخــيل مــن اـألـلــفاظـ اـ ـألـجــنبية،ـ وـاـلــدعــوةـ إـلــى
العامية.
وأثــار هــذا الخطــر الــداهم علــى العربيــة حميــة الغيــورين علــى اللغــة ؛ فارتفعــت أصــواتهم
م ــع بداي ــة عه ــد الخ ــديوى « عب ــاس حلم ــى » س ــنة (1309ه ـ ـ 1892م) تن ــادى بضـ ــرورة
إنشــاء مجم ــع لغ ــوى ،يص ــون اللغ ــة ،ويعم ــل علــى إثرائه ــا بم ــا يض ــعه م ــن ألف ــاظ جدي ــدة،
ُ
ويطلب من الجالس على العرش الوقوف بجانبها قائال « :إن اللغة العربية لم يعد يمكنهـا
أن تجــارى اللغــات األوربيــة مــا لــم يقــم فــى الــبالد جماعــة كأعضــاء األكاديميــة الفرنســوية،
يتولـ ــون أمـ ــر التعريـ ــب ،ووضـ ــع املصـ ــطلحات العلميـ ــة ،وتنقيـ ــة اللغـ ــة مـ ــن كـ ــل وحش ـ ـ ى
ومهج ــور .وق ــد رأين ــا م ــن قب ــل أن األكاديمي ــة الفرنس ــوية قام ــت ون ح ــت بتعض ــيد مل ــوك
ً
فرنســا لهــا ،ورجونــا أن يكــون ســمو عبــاس باشــا عضــوا لهــذا املجمــع اللغــوى ،ونعيــد اآلن
التماسنا ؛ راجين من سموه أن يحله محل النظر ويشد أزر من يسعى إليه ».
ً
واملعــروف أن األكاديميــة الفرنســية هــى أقــدم املجــامع اللغويــة املعاصــرة وأر ــخها قــدما،
صدر أمر ملكى بقيامهـا سـنة ( 1045ه ـ 1635م) ،وإن كانـت قـد تكونـت قبـل هـذا التـاريخ،
خاصــا فــى قصــر « اللــوفر » ؛ والقــت دعمـ ًـا كبيـ ًـرا مــن « لــويس الرابــع عشــر »؛ فمنحهــا جناحـ ًـا ى
ً ى
ليك ـ ــون مق ـ ـرا دائم ـ ــا له ـ ــا ،وع ـ ــدد أعض ـ ــائها أربع ـ ــون ،وال تقتص ـ ــر عض ـ ــويتها عل ـ ــى األدب ـ ــاء
واللغويين ،بل انضم إليها العسكريون والسياسيون والعلماء ورجال الدين.
وفى نوفمبر سنة 1907أنشأ بعض خريجى دار العلوم ناديا لهم سموه « نادى دار
العلوم » وكان من بين أغراضه وضع أسماء عربية للمسميات الحديثة التى ليس لها
أسماء عربية معروفة ،وكانوا بين اإلبقاء على األسماء األعجمية واستعمالها فى فصيح
الكالم ...وبين جعل حق التعريب قاصرا على العرب املوثوق بعربيتهم.
وفى منتصف عام 1916أقيم حفل بمناسبة بلوغ املقتطف سن األربعين .وتحدث
املجتمعون فى هذا الحفل فى « مسائل علمية ولغوية أفضت إلى الكالم فى شدة الحاجة إلى
إنشاء مجمع لغوى فقال أحمد لطفى بك السيد مدير دار الكتب السلطانية إن أحمد زكى
على أن أخصص مكانا من دار الكتب لذلك وأنا أجبته إلى ذلك ...فسرباشا كان قد اقترح ّ
جميع الحاضرين بهذا وقابلوه بالثناء ورأوا أن قد زالت به عقبة من عقبات الشروع فى
تأسيس املجمع اللغوى »(.)26
وفى خالل السنتين -وهما عمر املجمع -لم يضع املجمع شيئا ويعبر عن حال هذا املجمع
أحد أعضائه وهو أحمد تيمور بقوله لقد انضم « من هب ودب إليه واألمل فيه قليل والسير
بطيء وقد مض ى علينا سنتان لم نضع فيهما شيئا ونفس ى تحدثنى باالستقالة منه(.» )27
ولبيان أهمية إنشاء املجامع اللغوية ،واملهام التي حددتها املجامع اللغوية لها والتي من أهمها
مواجهة مشكلة املصطلح ،والتي رأت فيه أولوية عملها نتحدث عن مجمع اللغة العربية
بالقاهرة.
وملا تولى أحمد لطفى السيد وزارة املعارف اشتد اهتمامه بمشروع إنشاء املجمع اللغوى،
( )26املقتطف 72جـ 1يناير سنة 1928ص 62مجلة مجمع اللغة العربية جـ 1ص 175ومجمع اللغة
العربية فى ثالثين عاما ص.17
( )27مجلة املجمع العلمى العربى بدمشق م 11جـ 3مارس 1931ص.139
114 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
وجعله تحت إشراف وزارة املعارف ،حتى ال يكون نصيبه بعد ذلك نصيب سابقيه ،ون ح فى
إقناع الحكومة بإنشائه.
وفى سنة 1932م صدر مرسوم بإنشاء « مجمع اللغة العربية امللكى( » )28وحدد هذا املرسوم
أو أغراض املجمع بـ « أن يحافظ على سالمة اللغة العربية ،وأن يجعلها وافية بمطالب
العلوم والفنون فى تقدمها ،مالئمة على العموم لحاجات الحياة فى العصر الحاضر ،وذلك
بأن يحدد فى معاجم أو تفاسير خاصة ،أو بغير ذلك من الطرق ما ينبغى استعماله أو تجنبه
من األلفاظ والتراكيب(.» )29
ونص املجمع فى الئحته على أن من أغراضه:
عرب غيرها من األلفاظ« -1للمجمع أن يستبدل بالكلمات العامية واألعجمية -التى لم َت َّ
العربية وذلك بأن يبحث أوال عن ألفاظ عربية لها فى مظانها فإذا لم يجد بعد البحث أسماء
عربية لها ،وضع أسماء جديدة بطرق الوضع املعروفة من اشتقاق ،أو مجاز ،أو غير ذلك.
فإذا لم يوفق فى هذا التجأ إلى التعريب(.)30
« -2يقوم املجمع بوضع معجمات صغيرة ملصطلحات العلوم والفنون وغيرها تنشر تدريجيا
».
وفى سبيل هذا ألف املجمع عدة لجان فى الطب والهندسة والطبيعة والزراعة وعلم النفس
وغيرها وتقوم هذه اللجان بوضع املصطلحات ،ثم تعرض هذه املصطلحات على مجلس
املجمع الذى ينعقد أسبوعيا ،وما يقره املجلس يعرض على مؤتمر املجمع الذى ينعقد
( )28انظر هذا املرسوم فى مقدمة الجزء األول من مجلة مجمع سنة 1934م ص.6
( )29السابق ص.6
( )30مجلة املجمع جـ 1سنة 1934ص 22ويالحظ أن هذا الغرض يكاد يكون منقوال نقال من أغراض مجمع
دار الكتب.
115 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
أسبوعيا ،وما يقره املجلس يعرض على مؤتمر املجمع الذى يعقد مرة كل عام ملدة أسبوعين
أو ثالث ،وما يقره املؤتمر ينشر فى « مجموعة املصطلحات العلمية والفنية ».
ً
ونص املرسوم على أن يتألف املجمع من عشرين عضوا ُيختارون من غير تقيد بالجنسية ّ
من بين العلماء املعروفين بتبحرهم فى اللغة العربية ،وأن يكون تعيين هؤالء األعضاء فى املرة
األولى بمرسوم بناء على عرض من وزير املعارف ،ثم يوكل األمر بعد ذلك للمجمع نفسه،
فيختار من يرتضيه ،بشرط أن يحرز أصوات أغلبية ثلثى األعضاء(.)31
ً
ويجمع أعضاء املجمع بين تخصصات مختلفة ،ويربطهم جميعا املعرفة الواسعة باللغة
والتمكن من دابها ،والرغبة في خدمتها والعمل على نهضتها ؛ فكان من بين أعضاء املجمع
األدباء الكبار أمثال :العقاد ،وطه حسين ،ومحمد حسين هيكل ،وأحمد حسن الزيات،
وتوفيق الحكيم.
يقوم املجمع بنشاط كبير فى خدمة اللغة العربية ،وتيسير التعامل بها ،واالرتقاء بها ،ويدور
نشاط املجمع حول محاور متعددة شملت وضع املعاجم ،ووضع املصطلحات العلمية،
وت جيع اإلنتاج األدبى ،وإحياء التراث العربى.
أما وضع املعاجم العربية ،فكان أحد األهداف األساسية للمجمع منذ تأسيسه ،وأمض ى
املجمع سنوات طويلة فى وضع منهجه املعجمى ،وأثمر هذا الجهد ظهور « املعجم الوسيط »
ً ً
الذى ُيعد أفضل املعاجم العربية التى ظهرت فى القرن العشرين وأحسنها ترتيبا وتنسيقا ،وقد
ً
اشتمل على ثالثين ألف كلمة ،وقد لقي هذا املعجم قبوال حسنا ،وذاع بين الناس ،كما أخرج
مجمع اللغة « املعجم الوجيز » لطلبة املدارس ،واعتمد فى مادته اللغوية والحضارية على «
( )31انظر بحث بعنوان « مجمع اللغة العربية ..ومسيرة سبعين عاما » أ .أحمد تمام.
116 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
املعجم الوسيط » مع مراعاة اليسر والتبسيط ،وأخرج مجمع اللغة « معجم ألفاظ القر ن
الكريم ».
أما املعجم الكبير وهو املشروع الضخم الذى يتبناه املجمع فخرج منه حتى اآلن حرف الراء.
واملعجم هخم أريد به أن يضم جميع الكلمات العربية الواردة فى أمهات املعاجم ،دون
الوقوف على عصر االستشهاد الذى يعد القرن الثانى الهجرى نهايته بل يضاف إليه العصور
التالية.
وعنى مجمع اللغة العربية عناية واهحة بوضع مصطلحات عربية للعلوم والفنون واآلداب،
كون منذ نشأته لجانا علمية متخصصة ولم ُتباره فى هذا العمل هيئة عملية أخرى ؛ فقد ّ
ِّ ِّ
ُ
للكيمياء والفيزياء والصيدلية والطب والجيولوجيا والفلسفة ،وغيرها تعنى بلغة العلم،
وتقول كلمتها فيها ،وقد أصدر املجمع عدة معاجم علمية متخصصة ،مثل :املعجم
الفلسفى ،واملعجم الجغرافى ،ومعجم الفيزياء النووية ،ومعجم الفيزياء الحديثة ،واملعجم
الجيولوجى ،واملعجم البيولوجى.
وعنى املجمع بقضايا تيسير اللغة العربية فى قواعدها النحوية والصرفية ،وتيسير كتابتها، ُ
وإجازة كثير من األلفاظ واألساليب املستحدثة مادامت تسمح بها القواعد والضوابط
اللغوية ،وقد تضمنت هذه التيسيرات كتبا خاصة أصدرها املجمع بخصوص هذا الشأن،
وهى:
مجموعة القرارات العلمية.
فى أصول اللغة ،ثالثة أجزاء.
األلفاظ واألساليب.
ً
مجموعة القرارات العلمية التى أصدرها املجمع فى خمسين عاما.
( )32انظر قرارات املجمع فى « مجموعة القرارات العلمية والفنية التى أصدرها املجمع و « فى أصول اللغة».
( )33انظر قاموس النهضة جـ 1صفحة والعنوان الداخلى.
( )34انظر « املرجع فى تعريب املصطلحات الهندسية » ص.42
118 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
1.10.1يف التعريب:
ً
قرارا في التنر ب نصه: أصدر املوم
«يجيز املجمع أن يستعمل بعض األلفاظ األعجمية –عند الضرورة -على طريقة العرب في
تعريبهم ( .»)39غير أن ً
كثيرا من املعاصرين نظروا إلى تقييد اإلجازة بكلمة ضرورة ليس
واهحا ،ورأوا أنها ما زالت كلمة مطاطة.
وفي هذا رأى علي الجارم أن« :الضرورة تختلف باختالف األشخاص واملقادير واألزمنة ،وهي
مقولة بالتشكيك غير محدودة فقد أجدني غير مستطيع عمال في زمن فأستطيعه في زمن
خر (» )40
ورأى الدكتور إبراهيم لدكور أن« :هذه املشكلة (التعريب) هالت املجمعين في البداية ،فلم
يجيزوا «استعمال بعض األلفاظ األجنبية إال عند الضرورة » ولكنهم ما لبثوا أن أقروا
معربات كثيرة في العلوم والفنون وقبلوا ما اشتق منها من أفعال وأسماء وأخذوا يضعون
للتعريب بعض القيود والضوابط ...وأصبح التعريب ال ينظر إليه في توجس وخيفة كما كان
الشأن من قبل وإن كان ال يلجأ إليه إال عند الحاجة (.)41
إن املجمع في تعامله مع املصطلحات كثيرا ما يذكر للمصطلح األجنبي مقابلين أحدهما عربي
واآلخر معرب ،ومعنى هذا أن الضرورة أصبحت تعني ً
شيئا خر غير «العجز عن إيجاد مقابل
عربي».
إن املجمع خالف قراره أيضا ،فهو َن َّ
ص في القرار على أن يكون استعمال اللفظ األجنبي «على
( )39محاضر جلسات دور االنعقاد األول سنة 1934ص ،422ومجلة املجمع جـ 1سنة 1974ص .202
( )40مجلة املجمع جـ ،5سنة 1948ص .98
( )41مجلة املجمع جـ 22سنة 19مقال الدكتور إبراهيم مدكور ص ،17وانظر مصطلحات نفطية /اتحاد
املجامع اللغوية مقدمة د .إبراهيم مدكور ص .5
121 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
طريقة العرب في تعريبهم » لكنه خالف طريقة العرب في التعريب فالعرب لم يسمحوا بدخول
حروف (ب ،كـ ،ف) إلى ألفبائيتهم في املعربات ( )42لكن املجمع سمح بها ( )43والعرب لم
تستخدم الكلمة املخلطة (عربي معرب) واستخدمها املجمع (.)44
ومما عرب وسمحوا بدخوله بحروفه (ب ،كـ ،ف)
Anthroplogy أنثروبولوجيا Epistemology أبي تمولوجيا
Avometer أفولتر Lavender الالفندر
Oxgen األك وجين األك وجين فولت
كذلك مما سمحوا به انتهاج االسم بضمة طو لة ،مع أن العربية التسمح بذلك.قال ابن
جني« :ليس في كالم العرب اسم في خره واو قبلها ضمة –إنما ذلك في الفعل نحو يدعو
ويغزو -فمتى وقع في االسم من ذلك ش يء أبدلت الضمة كسرة والواو ياء -وذلك قولهم في
أدل وفي جمع حقو أحق واألصل أدلو وأحقو ففعل فيهما ما تقدم ذكره(.»)45
جمع دلو ٍ
هذا هو منهج العربية ،إال أن املحدثين لم يلتزموا به حين عربوا ،فكثير من املصطلحات التي
عربوها ينتهي بضمة طويلة .ومن أمثلة هذه املصطلحات :البيانو -كمبيو -بروتيو -لبيدو-
تابو -اإلسكيمو -اإلسبرانتو.
كذلك سمح املجمع باملصطلح املخلط،واملقصود به أن يكون املصطلح مكونا من جزأين
أحدهما معرب واآلخر عربي ؛ مثل:
ليمونيك -حديدوز -نحاسوز -هيدراني - -الديمغرافي -الدينامية -ماركسية -الكترون ضوئي.
وعلى الرغم من أن املجمع انتهج هذا األسلوب في تعريبه كما هو واهح من األمثلة السابقة
نرى أن الدكتور إبراهيم مدكور قال غير هذا إذ قرر أن «املجمع بوجه عام يؤثر إما التعريب
الكامل أو الترجمة الكاملة ،أما أن تكون الكلمة ال هي بالعربية وال هي باألجنبية فهذا وضع ال
يقبله املجمع عادة (»)46
االشتقاق من املعرب:
اشتق املحدثون من املعرب متبعين العرب القدامى في ذلك ،وقد وجد من املحدثين من رفض
االشتقاق من املعرب وعده سماعيا.إال أن هذا الرأي لم يكن له تأثير من الناحية التطبيقية.
وقد اشتق املحدثون من املعرب على عدة أوزان هي:
تةن َل َ
َ )1ف ْنل ْ -
«أك يد» اشتقوا منه :أكسد ،يؤكسد ،أكسدة ،مؤكسد ،تأكسد ،يتأكسد،
ُ
تأكسد.
«كربون» اشتقوا منهَ :
كربن ،يكربن ،كربنة ،مكربن ،تكربن.
2.10.1االشتقاق:
على ّأن ما اشتقه العرب من أسماء األعيان كثير كثرة ظاهرة ،وأن ما ورد من أمثلته فى
البحث الذى احتج به املجمع إلجازة االشتقاق يربى على املائتين -نرى التوسع فى هذه اإلجازة
يجعل االشتقاق من أسماء األعيان جائزا من غير تقيد بالضرورة.
يراعى عند االشتقاق من أسماء األعيان القواعد التى سار عليها العرب .قال السيوطي:
"اشتقاق العرب من الجواهر قليل ً
جدا واألكثر من املصادر ،ومن االشتقاق من الجواهر
قولهم :استحجر الطين ،واستنوق الجمل"(.)47
وقد جاءت املصطلحات التي اشتقها املحدثون من أسماء األعيان على أوزان كثيرة أهمها
وأشهرها:
-1إفنال:
إحماض (حمض) :إضافة حمض -إلعاب (سيالن اللعاب في الفم).
إزهار (زهر) :تكون األزهار –إيراق (ورق) :تكون النبات لألوراق.
َّ -2
تةن
تحلق (حلقة) –تصمغ (صمغ) تصبع (إصبع) -تكيس (كيس) ––تجلد (جليد)
متموج (املوج) متكورة (الكرة) تميؤ (تفاعل باملاء) متكيس (كيس) تعرق (عرق) تزهر (زهر) –
التصبن (الصابون) تشعع (أشعة).
االشتقاق من االسم اجلامد العربى:
(أ) إذا أريد فعل ثالثى الزم من االسم العربى الجامد الثالثى مجرده ومزيده ،الباب فيه «
نصر » ويعدى إذا أريدت تعديته بإحدى وسائل التعدية كالهمزة والتضعيف.
(ب) أما إذا أريد اشتقاق فعل ثالثى متعد فالباب فيه « ضرب ».
(ج) وفى كلتا الحالين يستأنس بما ورد فى املعجمات من مشتقات لألسماء العربية الجامدة
لتحديد صيغة الفعل ،تبعا ملا ورد من هذه املشتقات.
َ َ
(د) ويشتق الفعل من االسم العربى الجامد غير الثالثى على وزن ف ْعل َل متعديا ،وعلى وزن
َ ْ
ت ْف َعل َل الزما.
(هـ) وتؤخذ املشتقات األخرى من هذه األفعال على حسب القياس الصرفى.
االشتقاق من االسم اجلامد املعرب:
َ
(أ) ويشتق الفعل من االسم الجامد املعرب الثالثى على وزن « ف ْع َل » بالتشديد متعديا،
ََ
والزمه « تف َّع َل ».
(ب) ويشتق الفعل من االسم الجامد املعرب غير الثالثى على وزن
ََ َ َ َ
« ف ْعل َل » والزمه « تف ْعل َل ».
(هـ) وفى جميع هذه املشتقات يقتصر على الحاجة العلمية ،ويعرض ما يوضع منه على
املجمع للنظر فيه.
استخدام املصدر الصناعي:
أكثر املحدثون من صوغ املصدر الصناعي للداللة على املذاهب والنظريات العلمية ،فأخذوا
يضيفون الالحقة َّ(ية) لالسم الذي يريدون صوغ املصطلح منه ،وقد أخذ مجمع اللغة
العربية قرارا يجعل قيد املصدر الصناعي قياسيا ،وهو" :إذا أريد صنع مصدر من كلمة ،يزاد
عليها ياء النسب والتاء"(.)48
دور الالحقة َّ(ية) في صوغ املصطلحات:
)1هذه الالحقة (ية) قد يضيفها املحدثون إلى املصدر األصلي أو إلى اسم الفاعل أو اسم
3.10.1النحت:
ظاهرة لغوية احتاجت إليها اللغة قديما وحديثا .لم يلتزم فيه األخذ من كل الكلمات وال
موافقة الحركات والسكنات ،وقد ورد من هذا النوع كثرة تجيز قياسيته .ومن ثم يجوز أن
ينحت من كلمتين أو أكثر اسم أو فعل عند الحاجة ،على أن يراعى ما أمكن استخدام األصلى
من الحروف دون الزوائد ،فإن كان املنحوت اسما اشترط أن يكون على وزن عربى ،والوصف
منه بإضافة ياء النسب ،وإن كان فعال كان على وزن فعلل أو تفعلل إال إذا اقتضت غير ذلك
الضرورة ،وذلك جريا على ما ورد من الكلمات املنحوتة.
-يجوز النحت عندما تلجئ إليه الضرورة العلمية.
شبقلي :شبه قلوي ،شبغري :شبه الغراء،حمقلي (حمض قلوي )الكهراطيس (املغناطيس
الكهربي) الكربومائية (كربون +ماء) خلفمامي :خلفي +أمامي.
َ
-صيغة « ف َّعال » فى العربية من صيغ املبالغة ،واستعملت أيضا بمعنى النسب أو صاحب
الحدث ،وعلى األخص الحرف ،فقالوا :نجار وخباز .ومن أسلوب العرب إسناد الفعل إلى ما
يالبس الفاعل :زمانه أو مكانه أو لته ،فقالوا :نهر جار ؛ ويوم صائم ؛ وليل ساهر ؛ وعيشة
َ َ
راضية .وعلى ذلك يكون استعمال صيغة « ف َّعالة » اسما لآللة استعماال عربيا صحيحا.
-ال يقتصر على الصيغ الثالث املشهورة فى اسم اآللة ،وما أقره املجمع قبال من إضافة
َ
صيغة « ف َّعالة »
ويقتض ى النظر فى قياسية صيغ أخرى السم اآللة تقدير اعتبارين :أن يكون ما ورد من أمثلة
الصيغة املراد قياسها عددا غير قليل ،وأن تكون الصيغة مأنوسة فى العصر الحديث بين
املتكلمين فى الداللة على اسم اآللة.
وتطبيقا لهذا يضاف إلى الصيغ املقيسة السم اآللة ما يأتى:
ِّ -1ف َعال مثل ِّإ َرث ،وهى التى قال بعض القدماء بقياسها،
َ َ
اعلة ،مثل ساقية. -2ف ِّ
اعول ،مثل ساطور. َ -3ف ُ
وبهذا تصبح الصيغ القياسية السم اآللة سبع صيغ.
()49
(أو الفصحى والعامية) ( )2االزدواجية اللغوية
ّ
املوحدة التى بها تظل أمتنا
العربية الفصحى هى لغة القر ن ،وهى اللغة القومية ،فهى ِّ
محافظة على تماسكها ووحدتها.
أما العامية فاختلفت اآلراء فيها .فاألستاذ على النجدى ناصف( )50يقول:
أما العامية فهى الفصحى التى يصيبها الدخل واالختالل فى أساليبها ،ويعبث املسخ والتحريف
فى مفرداتها ،يظاهرها فى التعبير أخالط من الدخيل ،فإذا هى بها كما يقول حافظ إبراهيم
رحمه هللا:
ُ
لعاب األفاعى فى مسيل فرات سرت لوثة اإلفرنج فيها كما سرى
َّ
مشكلةاأللـوان مختلف ــات فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة
فالعامية شعبة شائهة من الفصحى ،ال نعلم على التحقيق متى انشعبت منها وال كيف
سايرتها على تعاقب العصور .ومحاولة القول فى هذا ضرب من التظنن والرجم بالغيب.
ومسيرة الفصحى والعامية ،وتقلب األحوال بهما منذ عهد االحتالل البريطانى وما تاله إلى
اليوم ،فهو منا غير بعيد ،وما تزال أنباؤه بيننا موصولة األسباب ،وهو أحق أن يكون لنا منه
عبرة.
لقد كان احتالل بريطانيا ملصر محنة شديدةُ ،بدلت فيها الحال غير الحال ،فتجهمت
الحياة ،لكن هللا تعالى لم يتخل عن كنانته ،وال أسلمها للمرزئة طويال ،فأطلع من أبنائها
هداة مصلحين .يبصرونها الطريق ،ويدعونها إلى التى هى خير ،فحي َي األمل ،وانتعشت الحياة.
ً ً ً
ولئن كان االحتالل -كما قلت -شرا وبالء ،لقد كسبت الفصحى منه خيرا .وقديما قالت
العرب :رب ضارة نافعة .فقد ضاعف حب الناس لها ،واستمساكهم بها .فلم يكن يغيب عنهم
أن االحتالل لن يسكت عنها ،ويدعها تناهض سياسته ،وتفسد عليه أمره .فهو يعلم أن
الفصحى هى لغة العرب األصيلة ،وداعيتهم املطاعة إلى التفاهم واأللفة واآلخذة بهم إلى وحدة
تضم شتاتهم ،وتشد أقطارهم بعضها إلى بعض ،مهما بعدت الدار وشط املزار .فأجمعوا من
ً
حيث ال يعلمون على مناصرة الفصحى والحرص عليها ،كما تجمع الجماعات عفوا عندما
ينوب من الشر ،ويتهدد من الخطب ،فكان مثل الفصحى فيما أفادت من االحتالل ،كمثل
عدوه، ّ من أفاد فيما الشاعر
ِّ
إذ يقول:
فال أبعد الرحمن عنى األعاديا عداى لهم فضل على َّ
ومنة
َّ
وهم نافسونى فارتقيت املعاليا هم عرفونى زلتى فاجتنبتها
ً ً
ثم برح الخفاء ،وأصبح واقعا ما كان متوقعا ،فتقررت اإلنجليزية لغة للتعليم سنة .1889
واجترأ ويلكوكس ،مهندس الرى فى مصر ،فأخذ يدعو إلى العامية ،ويصد عن الفصحى ،مرة
ً
فى محاضرة عامة ،وتباعا فى مجلة له ،إذ كان يزين للعلماء املصريين أن يكتبوا بالعامية ما
يشاءون من بحوث ،ثم يرسلوها إليه لينشرها فى املجلة ،ويزعم لهم أن العامية ال الفصحى
هى سبيلهم إلى التقدم فى العلوم.
ً
وقد استجاب له بعضهم ،وجعلوا يكتبون بحوثا ،ولكن بالفصحى ،ثم يرسلونها إليه ،وأنشأ
ً
بعضهم مجلة ،وجعلوا ينشرون فيها بحوثهم بالفصحى أيضا ،فحبطت دعوة ويلكوكس،
وكسدت مجلته ،وأدركها البوار ولم يبق منها إال ذكرى بغيضة.
ويتحدث الدكتور عبد النز ز لطر قائال:
منذ أكثر من نصف قرن قام البروفيسور وملور فى مصر يدعو إلى اتخاذ العامية لغة كتابة
وخطابة بدال من العربية الفصحى .وقام األستاذ سالمة موس ى و خرون بحملة ضد اللغة
الفصحى داعين إلى أن تكون العامية « الحية » هى أداة التعبير فى شتى فنون األدب.
ويقول :ولست أريد أن أسوى بين هؤالء وبين البروفيسور وملور فى الدوافع الحافزة إلى الحملة
ً
على لغة القر ن ،وإن كنت أسوى بينهم فى الغاية من هذه الحملة ...وهى غاية مؤملة حقا ،رغم
أنى أشك فى جدوى هذا الهجوم املكشوف ،ألن الذين قاموا به أنفسهم يسوقون راءهم تلك
فى أسلوب عربى فصيح ،مما يصور لنا قصور اللغة العامية عن الوصول إلى مستوى التعبير
عن األفكار الدقيقة ،وعجزها عن مجاراة الفصحى إذا ما ابتعدت عن حاجات الحياة
اليومية.
وهذه هى الحقيقة األولى التى أهديها إلى دعاة اللغة العامية ..أنها غير صالحة للتعبير األدبى،
ً ً
الذى يكون جمال اللفظ ،ورقة األسلوب عنصرا هاما من عناصره ،وأن التفرقة بين لغة
الشارع ولغة األديب واملفكر ظاهرة بارزة فى جميع اللغات..
يقول األستاذ « جبر ضومط » فى مجلة « السيدات والرجال » خذ اإلنجليزية مثال ترفيها
لغتين ،مكتتبة وهى الفصحى ،وعامية وهى الدارجة والفصاحة فى املكتتبة بالغة أعلى درجاتها
ً ً
فى لندن ،والدارجة بالغة أحط درجاتها أيضا فى بعض أقسام أيضا من تلك املدينة ومثل
اإلنجليزية :الفرنسية ،ومثل لندن :باريس.
ويتحدث عن سب حقائق ،كانت السابقة أوالها.
ً
أما الحقيقة ال انية :فهى أن الفصحى لغة الكتاب والقراء من العرب جميعا ،أما العامية
فستقتصر على إقليم من األقاليم ،وما أكثر اللهجات التى سيكتب بها نتاج العرب حينئذ ،إذ
ً ً
تزيد فى البالد العربية عن عشرين لهجة ،مقسمة إلى خمس مجموعات كبرى تزداد قربا وبعدا
عن الفصحى ،فالعامية لغة انفصالية -إن صح هذا التعبير -أما الفصحى فإنها رابطة قوية
بين العرب ،فى منا ى الثقافة واألدب وشتى شئون الفكر ،فى املا ى والحاضر واملستقبل.
130 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
قوية .ملا فيها من عناصر الحياة والقوة يقول املطران « يوسف داود املوصلى »:
« من خواص اللغة العربية وفضائلها أنها أقرب سائر لغات الدنيا إلى قواعد املنطق بحيث
إن عبارتها سلسة طبيعية ،يهون على الناطق صافى الفكر أن يعبر بها من دون تصنع وال
تكلف ،باتباع ما يدل عليه القانون الطبيعى ».
والحقيقة ال ابنة -التى أضعها أمام الثائرين على اإلعراب خاصة – هى :أن اللغة العربية
ليست وحدها هى اللغة العربية ،بل تشاركها فى ذلك األملانية والروسية والحبشية.
بل إن قواعد اإلعراب فى األملانية معقدة ومتشعبة جدا ،فأداة التعريف لها أربع وعشرون
حالة ،والصفة واملوصوف لهما حاالت معقدة ،مع األداة وبدون األداة ،وفى حالة اإلفراد
وحالة الجمع.
هذه سبع حقائق ثابتة واهحة ،أضعها أمام الذين يهاجمون الفصحى فى هذه األيام،
متخذين أساليب جدلية ال تمت إلى روح البحث العلمى بسبب ،وال تتفق وما ندعو إليه من
وحدة عربية ،تعد اللغة أول دعامة من دعائمها(.)51
وفى بحث أستاذنا الدكتور السعيد بدوى عن املستويات اللغوية املعاصرة فى مصر يعرض
اآلراء أو االتجاهات العامة حول الفصحى والعامية ،ويوهح رأيه بالتعليق عليها.
وأول ما يقابلنا فى هذا امليدان هو الرأى الشائع لدى الغالبية العظمى من املثقفين -والذى
يقول بأن املستوى اللغوى الوحيد املوجود فى مصر والذى له مقومات اللغة هو الفصحى
وحدها .أما العامية فليست عندهم لغة قائمة بذاتها بل هى مجرد تشويه للفصحى .وعلى
الرغم من أنهم يرون العامية من حولهم ويستعملونها طيلة الوقت فإنهم ال يعترفون لها
باستقالل .فهى عندهم ليست ذات نظام خاص بها وليس لها قواعد أو قوانين .هى فقط
مجرد الخطأ أو النقص الذى ظهر فى الفصحى .وأصحاب هذا الرأى بالطبع يخلطون بين
ً
عدم وجود تدوين لقواعد العامية وبين حقيقة وجودها على اإلطالق .فما ليس مكتوبا -على
حسب قولهم -ليس موجودا فى الواقع.
وال حاجة بنا إلى كثير من املناقشة لبيان الخطأ الواهح فى مثل هذا االعتقاد .فلو لم يكن
ً
للعامية قواعد ملا أمكن التفاهم بها .فبمجرد سماعنا شخصا يقول « محمد ضرب على »
ً
محمدا هو الذى قام بالفعل وأن َّ
عليا قد وقع عليه الضرب .وال يمكن نفهم من قوله هذا أن
أن يتم ذلك إال إذا كان هناك قاعدة على أساسها يستخدم السامع واملتكلم اللغة بطريقة
موحدة .ولو قال شخص مثال « محمد على ضرب » بتغيير الترتيب « املتعارف عليه » -أى
القاعدة ملا فهم قصده.
وقد أورد نصا البن خلدون يؤيد هذا الرأى -فى فصل بعنوان « فصل فى أن لغة العرب لهذا
العهد لغة مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير » ،تحدث فيه عن لسان مضر وعن تدوين
ً
العلماء أحكام هذا اللسان ،ووضع مقاييسه واستنباط أحكامه حتى صار علما ذا فصول
وأبواب ومقدمات ومسائل سماه أهله « علم النحو » ،ثم ينتقل إلى اللغة املعاصرة له فيقول
عنها -ابن خلدون :-
« ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربى لهذا العهد (أى عصره هو) واستقرينا أحكامه نعتاض
عن الحركات اإلعرابية فى داللتها بأمور أخرى موجودة فيه فتكون لها قوانين تخصها ،ولعلها
تكون فى أواخرها على غير املنهاج األول فى لغة مضر .فليست اللغات وملكاتها مجانا »(.)52
فكلمة لوانا فى النص ،كما يوهح األستاذ الدكتور السعيد بدوى ،تعنى (أى بال قاعدة).
ً ً
ومن املدهش حقا أن يتردد مثل هذا القول فى كتاب متخصص صدر مؤخرا عن العامية
( )52مقدمة ابن خلدون ص ( 637 - 635نقال عن مستويات العربية املعاصرة فى مصر).
133 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
املصرية ،وهو دراسة الدكتورة نفوسة زكريا « تاريخ الدعوة إلى العامية و ثارها فى مصر» فقد
جاء فيه « :لغة األدب أو الفصحى هى اللغة التى تستخدم فى تدوين الشعر والنثر واإلنتاج
الفكرى عامة ،أما لغة الحديث أو العامية فهى اللغة التى تستخدم فى الشئون العادية
ويجرى بها الحديث اليومى .واألولى تخضع لقوانين تضبطها وتحكم عباراتها والثانية ال تخضع
ً
ملثل هذه القوانين ألنها تلقائية متغيرة تتغير تبعا لتغير األجيال وتغير الظروف املحيطة بهم ».
وقد أصبح إنكار وجود قواعد للعامية تحت تأثير عدم وجود تدوين لها -أصبح فى الواقع
ً
إنكارا غير ذى موضوع .فقد دونت هذه القواعد وكتبت فيها الكتب العديدة وأصبحت
ً
موضوعا للد اسة املنتظمة منذ عشرات السنين .والش ىء الذى ال يستطيع املرء فهمه ى
حقا ر
ً
هو كيف يتحدث هذا الفريق عن العامية فيعتبرها خطرا على الفصحى ،ويحرم الكتابة بها
وينعى على الذين ألفوا بها أو فيها ثم بعد كل ذلك ينكر وجودها املستقل عن الفصحى وينكر
أن يكون لها قواعد وطرق للتعبير خاصة بها !
وعلى كل حال فال ينبغى للباحث اللغوى أن يأخذ هذا الرأى مأخذ الجد من وجهة نظر
علمية .ولوال كثرة من يردده من املثقفين ملا كان هناك مبرر كاف لتخصيص الحيز الذى
أفردناه له فى هذا البحث (.)53
أما الرأى الثانى فيعترف بوجود العامية كبناء لغوى مستقل وقائم بذاته إلى جانب بناء
الفصحى .وقد تنبه ابن خلدون إلى هذه الحقيقة التى كانت فيما يبدو تعتبر غريبة جدا على
أبناء عصره .وقد لخصها فى عبارة وضع فيها أصبعه على الفرق األساس ى بين التركيب البنائي
للغتين فقال إننا لو اعتنينا ببحث اللغة املعاصرة فقد نهتدى إلى أن تلك اللغة تستخدم
ً
أمورا لبيان الداللة فيها سوى عالمات اإلعراب الذى تتخذه لغة مضر (أى الفصحى)(.)54
هذه األمور التى شعر ابن خلدون بوجودها والتى اهتدى إليها العلماء اآلن هى ترتيب الجملة.
فلما كانت الفصحى تستخدم عالمات اإلعراب فى الداللة على العالقات التركيبية داخل
الجملة مثل الفاعل واملفعول ...إلخ -لم يكن هناك ضرورة ألن تتبع مكونات الجملة نظاما
ً
قاسيا ال تحيد عنه لكى يفهم املقصود بها .فمن املمكن أن نفهم أن املقصود األساس ى فى
الجمل اآلتية على الرغم من اختالف نظامها:
ضرب محمد عليا
ضرب عليا محمد
عليا ضرب محمد
ووسيلتنا إلى فهم الجمل هى بال شك عالمات اإلعراب املوجودة فى كل منها .فإذا ما أردنا أن
نعبر عن ذلك املعنى بالعامية مع استخدام هذه الكلمات الثالث فليس لنا أن نتبع فى ترتيبها
نظاما سوى:
محمد ضرب على
فوجوب تقدم « محمد » على الفعل وتأخر « على » عنه فى العامية يقوم مقام وجوب رفع «
محمد » ونصب « على » فى الفصحى.
.3.2النظرة املوضوعية:
و لكي تتسم معالجة املشكلة باملوضوعية ينبغى فى نظرنا أن نفرق بين جانبين.
الجانب األول :يتناول علمية الفرق بين العامية والفصحى ومدى استقالل كل منهما عن
األخرى.
( )54السابق.
135 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
والجانب الثانى :يتناول الدور الذى تصلح له كل من اللغتين فى نظر الفرق املتنازعة.
فلو أخذنا الجانب األول فإننا نجد أنه باستثناء ابن خلدون الذى شعر باستقالل كل من
لغة مضر واللغة املعاصرة له إحداهما عن األخرى ،بل وخمن الفارق األساس ى بينهما كما
قلنا فى الصفحات السابقة -فإن علماء العربية منذ عصر الفتوحات وحتى مطلع القرن
العشرين -على قدر ما نعلم -لم يروا فى العامية سوى مجموعة من اللحن واألخطاء الشائعة
التى ابتليت بها الفصحى ،وأنها أى العامية ليست لغة ذات كيان مستقل عنها .وعلى هذا
األساس ألفوا كتب اللحن واألخطاء التى يعتبرها العلماء العرب مؤلفات فى العامية .وفى رأيى
أن اعتبارها كذلك فيه قدر كبير من التجاوز .فكتب اللحن هى الواقع مؤلفات فى أخطاء
طبقة معينة من الناس (يختارهم مؤلف الكتاب) فى النطق بالفصحى .أما داللة هذه األخطاء
على صفات العامية السائدة فى عصر تأليف الكتاب فهى مسألة غير مباشرة وفيها قدر من
الظن والتخمين .فقد يكون أحد األخطاء فى نطق الفصحى ناشئا مثال عن مجرد الجهل
ً
بالفصحى وليس عن تأثير العامية .فمثال كثيرا ما نسمع بعض املثقفين اليوم ينطقون جمع
كلمة «كفء» بنفس الطريقة التى ينبغى أن ينطق بها جمع كلمة « كفيف » .وهذا خطأ ال
ً
نعتقد أن لتأثير العامية املصرية املعاصرة أى دخل فيه .وعلى هذا فكتب اللحن جميعا فى
رأيى كتب فى العربية الفصحى بصفة أساسية وإن كانت ذات داللة ضمنية على بعض صفات
العامية .بل إن هذا الحكم ينطبق أيضا على كثير من الكتب التى تو ى عنواناتها بتخصيصها
للعامية .وخير مثال على ذلك معجم العالمة أحمد تيمور والذى أطلق عليه اسم « معجم
تيمور الكبير فى األلفاظ العامية » .فمؤلفه يقول « :غرضنا من وضع هذا الكتاب إحياء اللغة
العربية الصحيحة بذكر العامي وتفسيره ،ورده إلى نصابه من الصحة إن كان عربى األصل،
أو بيان مرادفه -إن لم يكن كذلك -ليحل محله ،ويرجع إليه فى االستعمال .ليس قصدنا
إثبات كل ما نطقت به العامة سواء صح أو لم يصح ،بل القصد االقتصار على ما تتطلبه
الحاجة وتدعو إليه الضرورة ،وإهمال ما عداه مما اشتهرت صحته ،أو تغير تغيرا
ً
عن يصرفه أو مقاله طفيفااليطمس
ً
منحاه ،وكان أمر تصحيحه ميسورا بالرجوع إلى معاجم اللغة وقواعد العربية »(.)55
أما املستشرقون وبخاصة علماء اللغة منهم فقد رأوا فى العامية ما يؤهلها ألن تكون لغة
مستقلة عن الفصحى فتناولوها بالبحث والتأليف على هذا األساس .وال يتصل بهدفنا فى
يسمى ما نناقش أن النقطة هذه
« باألهداف الحقيقية » وراء هذا االتجاه ،فكل ما نريد أن نقرره هنا هو أن هذه النظرة إلى
العامية باعتبارها ذات كيان مستقل ن حت فى تشكيل دراسات العامية وإخراجها من دائرة
مباحث « اللحن واألخطاء » إلى مستوى البحث العلمى الجاد للعامية فى حد ذاتها أوال بحيث
إذا أريد مقارنتها بالفصحى أوردها إليها ..إلخ كان لدى الباحث أساس متين يرتكز عليه.
وتأثرا بهذه الروح العلمية التى تفرق بين ما هو كائن فعال وبين ما يريد العربى الغيور على
ً
لغته أن يكون ،كتب األستاذ محمد فريد أبو حديد بحثا قيما بعنوان « موقف اللغة العربية
العامية من اللغة العربية الفصحى » وقد قسمه إلى قسميه الطبيعيين:
-1ما هو كائن :وقد قال عنه فى وصفه للقواعد « إن العامية ليست مجرد مسخ أو تشويه
للعربية بل قد أصبحت لغة قائمة بذاتها ،ولها قواعدها وأصولها ،وإذا شذ عنها شاذ عد ذلك
ً
خروجا عن طريقة مقررة »( )56كما قال فى وصفه لألساليب « يمكننى شخصيا أن أقول إن
ً
كثيرا من األساليب العامية أصدق أداء للمشاعر من بعض األساليب القديمة .فوضوح
الصور وتتابع األحاسيس ال تحتمل التقييد بأسلوب تقليدى »(.)57
-2وما ينبغى أن يكون :وقد قال عنه « ليس معنى هذا أن األمر قد استعص ى على العالج فإننا
إذا درسنا كل قواعد العامية وحصرنا كل خصائصها كان من املمكن القصد إلى كل واحدة
( )55معجم تيمور الكبير فى األلفاظ العامية ،تحقيق الدكتور حسين نصار ،الهيئة العامة للتأليف والنشر
.1971جـ 1ص( 19 - 18نقال عن مستويات العربية املعاصرة).
( )56مجلة املجمع اللغوى جـ 7ص( 217نقال عن املرجع السابق).
( )57املرجع السابق :ص.218
137 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
فإنهم يترجمون ما يريدون قوله إلى الفصحى .فالفصحى فى رأى ويلكوكس ال تصلح لغة تعبر
عن العلوم أو تؤدى مطالب املجتمع الحديث.
كذلك يالحظ عبد هللا النديم أنه من الضرورى استخدام اللغة الدارجة -على الرغم من
كراهيته الشديدة لذلك -إذا ما أريد لكلمة اإلصالح أن تبلغ العامة .فهؤالء ال يستطيعون أن
يتفاعلوا حتى مع الفصحى البسيطة السهلة التى اصطنعها النديم فى كتاباته الصحفية
وأتقنها.
ويضيف الدكتور السعيد بدوى أننا ال يمكن إال أن نالحظ أن التهمة األولى وهى القصور فى
التعبير فى ميدان العلم والتى أطلقها ويلكوكس -هذه التهمة ال تتفق فى الوقت الحاضر مع
وجود هذا الطوفان من الكتب العلمية املترجمة واملؤلفة التى تغرق املكتبة العربية .ليس هذا
فقط ،فهناك مجالت ذات طبيعة علمية مثل « الدكتور » و « طبيبك الخاص » ن حت فى
الدخول ،إلى كل بيت وخاصة أوساط الثقافة والتعليم .وهذه املجالت تتخذ من الفصحى
أداة للتعبير عن موضوعاتها العلمية املبسطة دون أن تقف اللغة حائال بين الكتاب وبين
القدرة على الشرح أو بين القارئ وبين القدرة على الفهم على الرغم من اتساع الفجوة
الثقافية بين الكاتب وبين القارئ فى كثير من األحيان.
يبقى بعد ذلك جانب خر للمشكلة وهو ما يمكن أن نصفه بأنه يتعلق بما ينبغى أن يكون.
وهذا الجانب هو األساس الحقيقى الذى يقوم عليه الخالف بين اآلراء:
ً
ففى أقص ى اليسار يوجد الرأى القائل بوجوب االقتصار على أمور الدين موضوعا للفصحى
واتخاذ العامية لغة لكل ما عدا ذلك من شئون الحضارة والعلم الحديث.
ً
وفى أقص ى اليمين يوجد الرأى القائل بوجوب إلزام الناس جميعا بالكالم بالفصحى واإلنتاج
بها حتى تستقيم األلسنة وتجرى األقالم وترجع للعرب سليقتهم النقية التى خسروها .وبين
ثم ننتقل إلى وجهة نظر ثالثة فى وصف ما هو كائن فعال فى واقعنا اللغوى ،ذلك الرأى الذى
يقول بأنه ال توجد عامية وفصحى فقط بل توجد إلى جانبهما -أو بعبارة أدق بينهما -لغة
وسطى .هذه اللغة هى ما أطلق عليه فرح أنطون فى روايته « مصر الجديدة » اصطالح «
الفصحى املخففة » أو « العامية املشرقة » أو « اللغة املتوسطة » .وهى تشبه إلى حد ما أطلق
عليه توفيق الحكيم اسم « اللغة الثالثة ».
هذا املستوى الثالث من العربية وهو الفصحى املخففة ،أو اللغة املتوسطة ،رأى الدكتور
محمد كامل حسين أنه يمكن أن ييسر العربية الفصحى ،فهو يقول إن العربية الفصحى فى
أزمة ،وبعض العيب فى ذلك يقع على أسلوب التعليم ،ولكن أكثره يرجع إلى طبيعة القواعد
ً
التى لم يعد يستسيغها املحدثون .وجمهور املتعلمين ال يرون أن يقض ى اإلنسان حياته عاكفا
على ش يء ال يرى فيه فائدة له فى ميادين الفكر والتعبير ويوهح الدكتور محمد كامل حسين
ما يتغياه بهذا القول ،فيؤكد أنه ال يدعو إلى تغيير فى مقاييس الصحة فى العربية الفصحى،
وإنما يستطيع وضع قواعد بسيطة يمكن أن يلم بها املتعلمون فى وقت قصير ،فيتجنبوا
اللحن فى أكثر كالمهم ،وليس من املستحيل وضع قواعد جديدة تكفل صحة الكالم من غير
طريق النحو القديم ،فتكون بديال منه.
وللكاتب توفيق الحكيم رأى طرحه فى مسرحيته الصفقة ليكون بمثابة حقل تجارى لحل
كثير من املشكالت التى تعترض العمل املسر ى ومنها مشكلة اللغة .ففى رأيه أن استخدام
الفصحى وحدها أو العامية وحدها غير مقبول .ولذلك رأى من الضرورى أن يجرب « تجربة
ثالثة إليجاد لغة صحيحة ال تجافى قواعد الفصحى وهى فى نفس الوقت مما يمكن أن ينطقه
األشخاص ،وال ينافى طبائعهم وال جو حياتهم .لغة سليمة يفهمها كل جيل ،وكل قطر ،وكل
إقليم ،ويمكن أن تجرى به األلسن فى محيطها ،تلك هى لغة هذه املسرحية.
ً
قد تبدو ألول وهلة لقارئها أنها مكتوبة بالعامية ،ولكنه إذا أعاد قراءتها ،طبقا لقواعد
الفصحى فإنه يجدها منطقية على قدر اإلمكان .بل إن القارئ يستطيع أن يقرأها قراءتين:
فتقلب الريفى نطق بحسب قراءة
ً ً
« القاف » إلى « جيم » أو إلى « همزة » تبعا للهجة إقليمه فيجد الكالم طبيعيا مما يمكن أن
يصدر عن ريفى « .ثم قراءة أخرى بحسب النطق العربى الصحيح ،فيجد العبارات مستقيمة
مع األوضاع اللغوية السليمة ...إذا ن حت فى هذه التجربة فقد يؤدى ذلك إلى نتيجتين:
أوالهما السير نحو لغة مسرحية موحدة فى أدبنا تقترب بنا من اللغة املسرحية املوحدة فى
اآلداب األوربية وثانيتهما -وهى األهم -التقريب بين طبقات الشعب الواحد ،وبين شعوب
اللغة العربية ،بتوحيد أداة التفاهم على قدر اإلمكان دون املساس بضرورات الفن»(.)60
فكأن هذه محاوالت لالرتفاع بلغة العامة لتقترب من الفصحى ،ولكنها محاوالت إن كانت ترمى
إلى توحيد اللغة فى مصر وإنهاء االزدواجية القائمة بين الفصحى والعامية إال أنها أضافت
مستوى خر هو اللغة الثالثة ،أو اعترفت بوجود مستوى ثالث قائم حتى قبل أن يكتب عنه
الحكيم(.)61
فكأن هذه الفصحى املتوسطة هى حل لهذه االزدواجية فى رأى البعض ؛ ولكن املدافعين عن
الفصحى الغيورين عليها قاموا يدافعون عنها.
ففى دراسة ألستاذنا الدكتور أحمد مختار عمر يقول :هل نستسلم لدعاة العامية ؟
يقول فى بحثه الذى نشره سنة 1974فى البيان الكويتية ،وأورده كامال( :)62ال أدرى إلى متى
سيستمر أبناء العروبة ومثقفوها يهاجمون اللغة الفصحى ،وينتقصون من قدرها،
ويحملونها مسئولية قصورهم عن التعبير ،وعجزهم عن االستيعاب ؟ وال أدرى إلى متى
سيظلون واقعين تحت تاثير التيار االستعمارى للثقافى فيرددون -بوعى أو بدون وعى -ما
سبقهم االستعمار إلى ترديده منذ عشرات السنين ،إن لم يكن منذ مئات السنين ؟ وال أدرى
متى سيسفر الصبح لكل ذى عينين وتختفى هذه النغمة الكريهة ،نغمة الضرب على وتر
العاميات واللهجات املحلية ؟
ً
ومن العجيب حقا أن يرتفع صوت العامية هذه املرة من الكويت ،بلد العروبة املخلص،
وقلبها النابض ،بعد أن خفتت األصوات -أو كادت -فى بلد مثل لبنان ظل دعاة العامية فيه
نحو نصف قرن يكتبون ويؤلفون ويروجون دون ما فائدة ،أو بلد مثل مصر نامت فيه هذه
ً
الدعوة مؤخرا أمام ضغط تيار القومية الجارف ،وتمسك الجماهير بعروبتها .وقد أحسست
ً
بالخطورة حين وجدت « البيان » تفسح -فى عددها األخير -صدرا لهذا الصوت الذى وإن
ً
بدا خافتا هذه املرة ،لن يلبث إذا رأى النور أن يزيل القناع عن وجهه ،ويعلن عن نفسه،
وربما يتلقفه ذوو الضمائر السليمة والنيات الحسنة ،الذين يصدقون كل ما يقرءون ،أو
الكسالى منا الذين عجزوا عن تعلم لغتهم الوطنية وإجادتهاّ ،
فسرهم أن يجدوا غيرهم يسدد
لها سهامه ويصب عليها لعناته.
وإذا كان األستاذ سليمان الشيخ -صاحب مقال :حول العامية والفصحى من جديد -قد
ناقش القضية فى إيجاز شديد ،فقد أثار عدة نقاط البد من الوقوف أمامها لتمحيصها،
وعرض وجهة النظر األخرى فيها.
وإذا كان صاحب املقال قد عرض راءه فى تحفظ شديد واستحياء ظاهر ،فقد سبقه دعاة
ً
عرب خرون كانوا فى دعوتهم أجهر صوتا وأخطر أثرا ،وال سيما أن منهم من كان -وال يزال -
يحتل مراكز للتوجيه والتثقيف فى عاملنا العربى .وأذكر من بينهم على سبيل املثال األستاذ
يوسف السباعى -كان وزير الثقافة فى مصر والحائز على جائزة الدولة التقديرية فى اآلدب -
والدكتور صالح مخيمر أستاذ الجامعة املثقف الذى يقوم على تخريج األجيال وتربية
الشباب.
ً
أما أولهما فقد كتب حين كان رئيسا لتحرير مجلة « الرسالة الجديدة » املصرية ،والحمد هلل
أن املجلة لم تعمر طويال فلم تأخذ دعوته فرصة للذيوع واالنتشار ،كتب يقول -معرضا
باللغة الفصحى وقواعدها ما نصه بالحرف الواحد « :يجب أن نتحلل من هذه القيود
السخيفة .ملاذا كل هذا التعب ؟ أألن العرب منذ ألف سنة رفعوا هذه ونصبوا تلك ..ليكن..
لنحافظ على تراثهم (تراثهم هم وليس تراثنا نحن !!) كما هو ..على أن نحلل لغتنا من أثقاله
وقيوده ،ونقولها بأبسط الطرق .لنسكن خر كل كلمة ..ولنبطل التنوين .ولنقل الجمع بالياء
فقط ..ولنحرم أدوات الجزم والنصب من سلطاتها ..لنتحلل من كل هذا ،ولنصرف املمنوع
من الصرف ..ولنتحدث بلغتنا دون خوف من لحن أو خطأ ..يجب أن يزول احتكار اللغة
بقيودها وقواعدها ونحوها وصرفها ..وعلى أية حال إن لم نحطمها اآلن فستحطمها األجيال
القادمة فلنكن شجعان ونريحهم نحن منها ».
ً
وأما اآلخر فقد كتب منذ بعض الوقت فى مجلة (الكاتب) -املصرية أيضا -كتب يقول( :أترانا
فى حاجة إلى موطن يجيد الكالم بأكثر مما يجيد العمل ؟ وهل هناك من جدوى ملعرفة يتم
اكتسابها فى وقت ما ليمسحها الواقع بعد ذلك ؟) .وبعد أن هاجم تدريس اللغة الفصحى فى
دور العلم ،واستنكر على الدولة أن تنفق على تعليم اللغة العربية ما تنفقه ،واعتبر هذا
ً
ضائعا ال طائل من ورائهّ ،
وعد اللغة الفصحى شيئا كغثاء السيل ،وعلما ال يخدم جهدا
املجتمع أصدر حكمه عليها بأنها يجب أن تسقط فى الطريق وتلفظها الذاكرة).
ولست ( )63هنا فى مجال بسط القول لتفنيد هذه الدعوة الخطيرة ،ورصد تحركاتها املشبوهة
عبر التاريخ ،وإنما اكتفى بأن أ جل -فقط -بعض املالحظات التى يغفلها دعاة العاميات
دائما ألنها تلقى ظال من الشك على دعواتهم ،بل تهزها من أساسها هزا عنيفا.
وألخص هذه املالحظات فيما يأتى:
-1أن الهجوم على الفصحى ،والدعوة إلى تبنى اللهجات العامية قد ارتبط فى القديم بدعاوى
الشعوبية وأعداء العروبة ،وفى الحديث باالستعمار وأعوانه .أما فى القديم فقد روى لنا
صاحب (صبح األعش ى) قصة رجل شعوبى كان يدعى (ابن مخيمرة) .دأب منذ أكثر من ألف
عام على مهاجمة اللغة الفصحى والحط من شأنها وكان يردد دائما قوله (النحو أوله شغل
و خره بغى) حتى انبرى له أبو جعفر النحاس -العالم اللغوى املصرى املتوفى عام 338هـ -ورد
على دعواه قائال:
وقد صار أكثر الناس يطعن على متعلمى العربية -جهال وتعديا -حتى أنهم يحتجون بما
يزعمون أن القاسم بن مخيمرة قال( :النحو أوله شغل و خره بغى) .وهذا كالم ال معنى له،
ألن أول الفقه شغل وأول الحساب شغل ..وكذلك أوائل العلوم ،أ فترى الناس تاركين العلوم
من أجل أن أولها شغل ؟
وأما فى الحديث فقد راجت هذه الدعوة حين بدأ االحتكاك بين العالم العربى وذوى األطماع
واملستعمرين وأخذت هذه الدعوة -إلى جانب مهاجمتها لإلسالم واملسلمين -تهاجم العربية
الفصحى والتراث العربى وتروج للعاميات واللهجات املحلية .ويتربع على عرش املهاجمين
) (W. Spittaوكان رجال أملانيا تولى إدارة دار الكتب املصرية خالل عهد االحتالل البريطانى
ملصر.
وقد ألف كتابا فى قواعد اللغة نشر عام 1880ونادى فيه باتخاذ العامية لغة أدبية ،تارة
بالنيل من اللغة الفصحى ،وتارة باإلشادة بالعامية وميزانها .وتتابع الكتاب بعده يضربون على
نفس الوتر ،ويلحون على نفس الفكرة وكان أشهرهم وليم ولكوكس مهندس الري اإلنجليزي
الذى وفد إلى مصر عام ،1883وتفرغ للهجوم على اللغة الفصحى وتقويض دعائمها .وكان أن
لم توجد قوة االختراع لدى املصريين اآلن ؟) زعم فيها أن ذلك ألقى محاضرة بعنوان (لم ْ
يرجع إلى أنهم يؤلفون ويكتبون باللغة الفصحى ،ولو أنهم كتبوا وألفوا بالعامية ألعان ذلك
على إيجاد ملكة االبتكار وتنميتها !! وحدد ولكوكس مدة عشر سنوات يتم فيها التعلم بها حتى
يتخلص املصريون من السخرة الثقيلة التى يعانونها من جراء الكتابة بلغة عربية فصحى.
ومن خرية األقدار أن يتمكن ولكوكس من الوصول إلى رئاسة تحرير (مجلة األزهر) وأن
يجند املجلة للدعاية لفكرته .ويفشل ولكوكس كما فشل إخوة له من قبل ومن بعد ،وتغلق
مجلة األزهر أبوابها على يديه بعد إصداره العدد العاشر منها.
أال تكفى هذه املحاوالت -وغيرها كثير ال يتسع له املقام -ألن نتشكك فى كل دعوة لتبنى
العاميات ،وأن نطالب -بإلحاح -بإسكات أى صوت من هذا القبيل مهما كان مخلصا،
وإغالق الباب عليه بالضبة واملفتاح كما يقولون ؟
-2أن تبنى العاميات واستخدام اللهجات املحلية فى ميدان الكتابة والتأليف سيكون أكبر
عامل فى تقطيع أوصال األمة العربية وعزل أبنائها بعضهم عن بعض ،وال أدل على ذلك أننا
نحن املصريين كنا حين نلتقى -أثناء الدراسة ببريطانيا -بعرب من جنسيات أخرى -نجد
صعوبة فى التفاهم بلهجاتنا العامية ،فكنا نختار إما اللغة الفصحى ،أو اللغة اإلنجليزية
وسيلة للتفاهم .فإذا ماتت اللغة الفصحى -كما يرجو لها البعض -أو انزوت -كما يرجو لها
بعض خر ،فإن وسيلتنا للتفاهم مع إخواننا العرب ستكون إحدى اللغات األجنبية وياله من
عار -حينئذ -أى عار.
-3ثم أى لهجة عامية تلك التى قد يحب دعاة العامية أن يروجوا لها على فرض بحثهم عن
وسيلة مشتركة للتفاهم ؟ ودعنا أوال نقتصر على جمهورية مصر العربية وحدها ،وال نتجاوز
حدودها لنرى مدى إمكانية هذا الوهم .ال شك أن مصر بطولها وعرضها تشتمل على لهجات
كثيرة ،والتفاوت بينها قد يزيد على التفاوت بين أى منها واللغة الفصحى ،وال شك أن ابن
القاهرة لو جرب الحديث إلى رجل من أعماق الصعيد تعذر عليه أن يفهمه .فالبدإذن لكى
تن ح التجربة أن تختار إحدى اللهجات العامية ،ويروج لها ،وتتخذ لغة كتابة وحديث وبهذا
نقع فيما فررنا منه .سنفرض لهجة منطقة معينة على سائر املناطق ،وسنعلمها لغير أهلها،
وإذا كان ال مفر من ذلك فمن األولى أو األسهل أن نوجه جهدنا الذى سننفقه فى تعليم لهجة
ً
عامية إلى تعليم اللغة العربية الفصحى .واألمر أكثر تعقيدا واستحاله إذا وسعنا دائرة
النظرة ،وأردنا تطبيق املحاولة على الصعيد العربى كله .وحينئذ ستبرز إلى جانب املشكلة
السابقة مشكلة العصبية ،وتمسك كل قطر بلهجته ال يريد أن يحيد عنها ،واألمر على غير
ذلك بالنسبة للغة العربية الفصحى ،حيث تختفى فيها الخصائص املحلية -إال نادرا -وحيث
ال يدعى قطر عربى نسبتها إليه دون غيره ،وحيث يعتبرها الجميع لغة عامة ،وملكا مشاعا.
-4من أكبر األوهام ما يدعيه بعضهم -ومنهم كاتب املقال األخير -أن العامية لغة متحركة
متجددة ،وهى قادرة على مواكبة الحياة ،فى حين أن الفصحى لغة جامدة متحجرة تعكس
اهتمامات وخبرات عفا عليها الزمن ،ولم تعد تدخل فى تجاربنا ونشاطاتنا املستحدثة .فاللغة
الفصحى لم تقف عاجزة فى أى يوم من األيام عن مواكبة الحياة ،ولم تتخلف عن التعبير عن
مختلف الثقافات التى تمثلها أبناء األمة العربية .وواهم كل الوهم من يظن أن فصحانا
اليوم ،سواء فى مفرادتها أو تراكيبها أو نظام جملها صورة طبق األصل من فصحى الجاهليين
أو غيرهم ،فالفصحى تتطور كما تتطور العامية -وإن كان ذلك بمعدل أقل -ال ألن هذه
فصحى وتلك عامية ،ولكن ألن هذه صيغة مكتوبة ،وتلك صيغة مسموعة .والكتابة تقيد
حركة اللغة ،وتحد من تطورها ،وهو ما سيصيب العامية حتما لو قدر لها أن تصير لغة
مكتوبة فى يوم ما.
ومن يرجع إلى املعجم الوسيط (من إعداد مجمع اللغة العربية بالقاهرة) أو إلى قوائم ألفاظ
الحضارة واملصطلحات العلمية التى وضعتها املجامع والهيئات العلمية فى العالم العربى
يعرف إلى أى مدى يمكن للغة أن تتطور ،ويدرك أن أبناء اللغة يسلكون فى تطوير لغتهم سبال
مختلفة كاالشتقاق والتعريب والنحت وإحياء األلفاظ القديمة ونقل املعنى ،وغير ذلك مما ال
مجال لتفصيله .وأطلب من الكاتب أن يقارن بين الكلمات اآلتية فى معانيها الحديثة وفى
معانيها التى ذكرتها املعاجم القديمة ليرى بنفسه مدى ما لحقها من تطور :احتجاج -سيارة -
طيارة -قطار -قنبلة -إعدام -مخابرة ...فإذا أضفنا إلى هذا ما لحق اللغة الفصحى من
تعديل أو تغيير فى نظام الجملة يتبين مدى الوهم الذى يهمه الكثيرون حين يظنون أن
الدعوة إلى الفصحى عودة إلى أساليب الجاهليين والقدماء .فال سبيل إلى ذلك اآلن بعد
الشوط الطويل الذى قطعته اللغة الحديثة فى تطورها وبعد أن تغيرت البيئة والظروف
االجتماعية واالقتصادية.
األظفار ،وتصك األسماع فى كل لحظة وأوان ،وتغزونا فى عقر دارنا ،وفى خارج ديارنا حتى فى
قاعات الدرس املحاضرة .أما الفصحى فقد كتب لها االنزواء واالنطوار ،وحكم عليها أبناؤها
بالعزلة ،وحولوها إلى لغة شبه أجنبية على ألسنتهم ،لغة غريبة عليهم يسمعونها -ولكن ال
يمارسونها -فى ساعات الدرس وأوقات املحاضرات فقط ،وينسلخون عنها بقية ليلهم
ونهارهم ،ومن الغريب أن نجد من دعاة العامية من يقول « إن الفصحى ليست لغة متكلمة
فى الحياة العادية وأنها عرضة للنسيان بالترك » ويرتب على ذلك مطالبته بإلغاء دروس اللغة
العربية فى املدارس .أليس من األجدر أن يعكس أمثال هؤالء الدعاة القضية ويطالبوا بدل
ذلك أن تدعم الدراسة فى املدارس ،وتستخدم شتى الطرق والوسائل لتدخل الفصحى لغة
الحياة العامة ،وبذلك تؤتى املرحلة الدراسية ثمرتها ،ويجد التلميذ فى حياته العامة ما يربطه
دائما بما درسه داخل الفصل ؟
-7ويأتى معظم الهجوم على الفصحى من جانب نحوها وعالمات إعرابها .وهى مقولة -إن
صحت جزئيا -فال تسلم إلى النتيجة التىترادلها .وأقص ى ما تسلم إليه هذه املقولة املطالبة
بتيسير قواعد النحو وتبسيط مسائله ،وحذف األبواب واملسائل غبر العلمية منه ال املطالبة
بحذف اللغة بأكملها ،وإلقائها فى سلة املهمالت .وإذا كان بعضهم يضيق باإلعراب فى الفصحى
فإننى أراه خيرا ال شرا ونعمة ال نقمة .ذلك أن الضبط اإلعرابى يوهح العالقات بين كلمات
الجملة ،ويحدد للسامع وظيفة كل كلمة وهو فى نفس الوقت يعطى الكاتب حرية تحريك
ً ً
الكلمات من أماكنها تقديما وتأخيرا ألسباب بالغية أو أسلوبية ،دون ما خوف من غموض أو
إبهام وإذا كانت العامية قد سكنت أواخر الكلمات فقد استعاضت عن الحركة بترتيب
الجملة ووضع كل جزء من أجزائها فى مكان معين .فحين نقول :زار محمد عليا ،تكتفى
الفصحى بضبط « محمد » بحركة الرفع و « على » بحركة النصب ،وتترك للمتكلم مخالفة
الترتيب معتمدة على أن الضبط اإلعرابى يعصم السامع من الخطأ فى التحليل ،وإذا أخذنا
مقابل هذا :الجملة العامية « :محمد زار على » نجدها قد استغنت عن الضبط اإلعرابى
بترتيب املفردات فى الجملة .وبهذا لو قلت « على زار محمد » الختلف املعنى فصار الزائر
مزورا ،واملزور زائرا .وأكثر من هذا ،مادامت العامية تشترط وضع كل جزء من أجزاء الجملة
فى مكان معين فمعنى هذا أنها تفترض فى املتكلم أن يعرف أوال العالقات بين كلمات الجملة
الواحدة حتى يستطيع أن يضعها فى ترتيبها الصحيح .وهى فى نفس الوقت تفترض نفس
االفتراض فى السامع لكى يقدر على فهم مراد املتكلم .بمعنى أن املتكلم يجب أن يعرف أين هو
الفاعل فيضعه أوال ،والفعل فيضعه ثانيا ،واملفعول فيضعه مؤخرا .وحين يريد السامع فهم
الجملة البد أن يفهمها على ضوء هذا التحليل فأى فرق أن تدل على الفاعلية بضمة ،أو تدل
عليها باملوقعية ؟ وكذلك أن تدل على املفعولية بفتحة أو تدل عليها باملوقعية ؟ كالهما
يتطلب من املتكلم وعيا وحرصا ،وكالهما يخضع للتحليل اإلعرابى ،ويحتاج إلى عملية ذهنية
من املتكلم قبل النطق بالجملة ،ومن السامع قبل فهمها.
-8ومن األوهام التى يرددها الدعاة كذلك -ومنهم كاتب املقال األخير « -أن املوضوع برمته
ً
يجب أن يترك للحياة ،على أساس أنه مادام التعليم خذا فى االنتشار والتوسع فمن الطبيعى
إذن أن تقل استعماالت « العامية » .وإذا صحت القضية فى جزئها األخير فهى ال تصح فى
جزئها األول .فمن غير املعقول أن يترك الحبل على الغارب ألى قيمة اجتماعية مادامت تضر
باملجتمع دون تدخل من سلطة عليا توجه وترشد ،بل وتقوم وتلزم إذا اقتض ى األمر .وإذا كان
محو األمية مطلبا عزيزا فأعز منه إحياء لغتنا الفصحى وت جيع استعمالها فى مجاالت
الحياة املختلفة .وإذا كان من املمكن فيما مض ى أن يفسر شيوع اللهجات وغلبة عوامل
التفريق على عوامل التجميع على أساس من صعوبة االتصال ووجود العوائق الطبيعية،
فإنه ال يمكن أن يظل األمر كذلك اآلن بعد تطور وسائل اإلعالم وتقدم سبل االتصال .وقد
سبقتنا شعوب كثيرة واعية فى هذا املضمار فتدخلت الدولة على املستوى الرسمى بوسائلها
املختلفة للقضاء على اللهجات العامية ،وتوحيدها فى لغة فصحى مشتركة ولم تعتمد على
محو األمية وحده .ويعلل ذلك الدكتور إبراهيم أنيس فى كتابه « مستقبل اللغة املشتركة »
بقوله « ألن تجربة محو األمية لم تبرهن على النجاح فى معظم الحاالت فالطفل فى املرحلة
األولى يتعلم كتابة بعض الجمل والكلمات ويستطيع قراءة بعض السطور ،ولكن بعد أن
يترك املدرسة ال يلبث أن ينس ى كل ما تعلم ،وال يجد فى حياته العامة حاجة ملحة إلى
االستفادة بهذا الذى تعلمه ،فال ينميه وال يعتز به .» ..ويطالب الدكتور أنيس إلى جانب ذلك
بتشكيل « لجان تضع الكتب العربية التعليمية لكل مراحل التعليم بحيث تناسب كل األمم
العربية ..وع لى تلك اللجان أيضا تخير النصوص اإلذاعية التى تكفل تلك النهضة اللغوية مع
مالحظة عنصر التشويق الضرورى فى كل إذاعة لتحقيق الغرض منها » .ويدعو أخيرا إلى
إنشاء « مجمع لغوى عربى له من قوة التشريع والنفوذ ما يساعده على أن يضع من األلفاظ
واألساليب ما تقبله كل األمم العربية ».
-9وإذا كان الدكتور أنيس فريحة قد تمنى فى أحد مقاالته (عام « )1955أن يرى عامال
عسكريا سياسيا يفرض اللغة العامية على العرب فإنى أتمنى -بعد أن لم يحقق هللا أمنيته
حتى اآلن -أتمنى أن أرى حكام العرب جميعا يتعاونون فى فرض اللغة الفصحى على العرب ،ال
بقوة السالح ،وسلطان القانون ،وإنما بأسلحة اإلعالم املختلفة ،وبتطوير وسائل تعليم
اللغة ،وبإلزام الكتاب بتقديم أناشيدهم وأغانيهم ومسرحياتهم باللغة الفصحى ،وبت جيع
عامة الشعب على التزام اللغة الفصحى فى رسائلهم ومكاتباتهم ،إذ ال ريب أن كثرة تردد
النصوص الصحيحة على السمع ،وحفظ الكثير منها ،يكسب اللسان القدرة على التعبير
ً
الصحيح الفصيح ،ويساعد كثيرا على نشر تلك اللغة التى ننشدها بين جمهور املتعلمين.
وبهذا يرتفع التناقض الذى أحس به املستشرق األملانى « فنت فور » حين الحظ إطالق
الكتاب اسم لغة الشعب على العامية فقال « :كثر الحديث عن لغة الشعب ولغة املثقفين.
وهذا غريب ! ألن الشعب فى كل البالد العربية ال تجمعه عامية واحدة ،وإنما العربية
الفصحى ».
-10وفى ختام مقالنا ال يفوتنا أن نشير إلى مالحظة ذكية للمستشرق األملانى السابق الذكر،
وذلك حين يقول عن لغة األملانية « ليس للمدافعين عن اللهجات وزن فى الحياة الحديثة،
ً
وذلك ألن الناس فى عصرنا الحديث ،عصر الفضاء يعيشون بطريقة تختلف اختالفا كبيرا
عن الحياة التى كانوا يعيشونها من قبل ،فاالتصال اآلن أوسع وأوثق .وحتى محاوالت هتلر
إلحياء اللهجات العامية عن طريق تعليمها فى املدارس باءت بالفشل » ،وحين يقارن هذا
الوضع بوضع العربية فيقول « :أما بالنسبة للبلدان العربية ،أول ما نالحظة هو وجود
لهجات عديدة يستعملها الناس فى التحدث دون اللغة الفصحى .الفصحى العربية لم تتدخل
جميع ميادين الحياة .والذى سهل بقاء العربية الفصحى بعيدة عن التداول تداول األملانية
الفصحى أنه لم يبذل أى مجهود يذكر فى تضييق شقة الخالف بين العامية والفصحى».
كما نشير إلى قرار منصف أصدره املستشرقون فى مؤتمر لهم عقدوه ببالد اليونان ،ولكن لم
يصل مضمونه -مع األسف -إلى أسماع ابنائنا املثقفين من العرب .يقول القرار « :إن اللغة
العربية الفصحى هى اللغة التى تصلح للبالد اإلسالمية والعربية للتخاطب والكتابة والتأليف
وإن من واجب الحكومات فى هذه البالد أن تعنى بنشرها بين الطبقات الشعبية لتقض ي على
اللهجات العامية التى ال تصلح كلغة أساسية ألمم تجمعها جامعة الدين والعادات
واألخالق».
وأعماال روحية ،إنها لهجة قلما تحمل لنا أعماال وراء مطالب الحياة والفكر اليومى ،وفيم
إذن هذه الخصومة التى يثيرها فى الحين بعد الحين ضد الفصحى بعض كتاب العامية ؟
وفيم هذا النضال ؟ .وأنا موقن أن هذه الخصومة لم تحدث فى العصور والحقب السالفة
قبل العصر الحديث فلم يحدث أن أحدا ممن كان يكتب األزجال أو يكتب السير والقصص
الشعبية فى العصور الوسطى لهج ضد الفصحى مطالبا بأن تحل العامية فى أدب أسالفنا
محلها ،وباملثل لم يدع أحد من أصحاب الفصحى ضد العامية وأعمالها ،بل كانت دائما
والكتاب بالعامية يتعايشان فى وئام وسالم .وظل أهل َّ الكتاب بالفصحىالطائفتان من َّ
الكتاب بالعامية ما يكتبونه أزجاال أو أشعارا عامية أوالفصحى إلى عصرنا يرتضون من َّ
قصصا وأقاصيص أو مسرحيات ،فلهم حريتهم كاملة فيما يكتبون وال يتعرضون لهم َّ
أى
تعرض ،وكان ينبغى أن يجاريهم َم ْن يدعون للكتابة بالعامية فال يثيرون ضد الفصحى أى
خصومة ألنها هى األم وهى األقوى بكنوزها األدبية والعلمية ،وهى التى تملك من أفراد الشعب
املصرى -ومن أفراد دعاة العامية أنفسهم فى رأينا -أفئدتهم وعقولهم وقلوبهم ،بدليل نراه
تحت أبصارنا وال يغيب عنا ،وهو أن الصحف التى تخاطب الشعب املصرى -منذ أواسط
القرن املا ى إلى اليوم -تتخذ الفصحى أداة فى مخاطبته ،ويقرؤها يوميا فى مصر صباح
ً
مساء أعدادا وفيرة تعد باملاليين.
ويزعم دعاة العامية أن الفصحى وافدة غريبة على مصر ،وهى لغة املصريين منذ ألف
وأربعمائة عام ،وليس فى العالم كله لغة حية اليوم أطول حقبا تاريخية من تاريخ الفصحى فى
مصر ،وهم فى ذلك الزعم كأنهم ال يعرفون أن العامية التى يطالبون بأن تحل محل الفصحى
هى بنتها نشأت من التقائها بالشعب املصرى الذى لم يكن يعرف اإلعراب فى لغته
الديموتيقية الشعبية القديمة ،ودخلتها تحريفات فى قواعدها ونطق بعض حروفها بسبب
سليقة املصريين املوروثة وبسبب لهجات بعض القبائل النجدية التى استوطنت مصر ،وهى
.8.2االزدواجية واإلعالم:
وفى مؤتمر عقده( )64مجمع اللغة العربية تحت عنوان « الفصحى والعامية فى لغة اإلعالم »
وذلك ملا لوسائل اإلعالم من أثر كبير فى املجتمع وبخاصة فى اإلذاعة والتليفزيون.
وكان رئيس مجمع اللغة العربية املصرى الدكتور شوقى ضيف،وقد ألقى رئيس مجمع اللغة
العربية األردنى الدكتور عبد الكريم خليفة الذى شارك فى املؤتمر بحثا عنوانه « العربية
الفصحى والعامية فى اإلذاعة والتلفاز » .يقول فيه « :أما الخطر الذى يهمنا فى هذا الحديث
فإنه يتمثل بالتوجه نحو العاميات اإلقليمية فى جميع الدول العربية وت جيعها فى برامج
اإلذاعة والتلفاز ،بل وفى بعض دور النشر فإذا كانت الصحافة قد بدأت نسبيا فى وقت مبكر
فى الوطن العربى فإن اإلرسال اإلذاعى قد جاء متأخرا ».
ويقول الدكتور خليفة « وفى كل مرة تتعرض األمة العربية إلى محن سياسية وعسكرية
تنطلق األقالم املوتورة للنيل من اللغة الفصحى » .وبدأت العامية تجد طريقها إلى املحافل
الرسمية وإلى خطب الرؤساء والوزراء واملسئولين الرسميين ،وكان ذلك حتى أوائل
الخمسينات من القرن العشرين عمال مستهجنا .وتولدت الفتن واألحداث والحروب
الداخلية تجتاح األمة العربية فى العديد من أقطارها وبدأ التقوقع اإلقليمى واملحلى والطائفى
يجد طريقه إلى السياسات الرسمية فى معظم الدول العربية ال سيما الفنية منها واملؤثرة.
ومن الطبيعى أن انعكس هذا كله فى أجهزة وسائل اإلعالم ،وكان اإلذاعة والتلفاز أهم هذه
األدوات باعتبارهما جزءا ال ينفصل عن السياسة اإلعالمية فى كل قطر عربى » .ويصل
الدكتور خليفة بالقضية إلى تحديد أكثر حين يقول « :على الصعيد األردنى يقدم الدكتور
عبد الكريم خليفة فى بحثه تحليال لخريطة البث اإلذاعى والتليفزيونى فى اململكة األردنية
مستخلصا بالجداول واألرقام واإلحصاءات عدد الساعات التى يتم تقديمها بالفصحى وعدد
الساعات التى تبث بالعامية ثم يستخلص فى النهاية « إن نظرة شاملة على هذه املوضوعات
التى تبث باللغة العامية الدارجة وقد بلغت نسبتها %81.8تقريبا من مدة اإلرسال
التليفزيونى تقودنا إلى القول بأن هذا الوضع اللغوى املتردي فى وسائل اإلعالم ال سيما املرئية
منها ال يستجيب إلى واقع جمهور الشعب األردنى وال إلى أمانيه القومية وتطلعاته إلى التقدم
والرقى واإلبداع».
ومن األردن إلى ليبيا حيث يقترح الدكتور على رجب املدنى عضو املجمع املراسل فى بحثه
يقول: اإلعالم. أجهزة فى العامية طغيان ملشكلة حلوال
« ولعل من أهم ما ينبغى أن تلتزم به وسائل اإلعالم التركيز على رصد ما يجد لديها من
مفردات وأساليب نطق مبتكرة أو مستمدة من لهجة التخاطب السائدة بين الناس وتقديمها
أوال بأول إلى اتحاد املجامع أو املجمع الذى تقع فى دائرة تواجده ،وتنتظر ما يصدر عنه من
دراسة وقرار بشأن كل من تلك املفردات واألساليب على نحو يحقق التوافق بين وجهة نظر
املجمع فى إجازتها واتجاه الجهة اإلعالمية الستخدامها .وال يخفى ما فى اندساس العامية فى
الفصحى دون رقابة من خطورة التشويه ألساليب النطق العربى املوروثة » وفى ختام بحثه
يهيب الدكتور على رجب املدنى باملجامع العربية أن تسعى من أجل تخصيص أركان ثابتة
ودائمة لها فى كل وسائل اإلعالم املقروءة واملسموعة واملرئية.
ومن ليبيا إلى الجزائر حيث يقدم الدكتور أبو القاسم سعد هللا عضو مجمع اللغة العربية
املصرى املراسل من الجزائر بحثا يطرح فيه قضية الفصحى والعامية على أرضية خطر
مشترك وهو خطر العوملة الذى يهدد لغات قومية عديدة لحساب لغة قومية واحدة يسعى
إلى تسييدها .يقول الدكتور أبو القاسم « إن ما نشهده اليوم ونحن فى مرحلة أصبح اإلعالم
يسميها مرحلة العوملة هو الهجمة التى تقودها شبكة املعلومات على اللغة العربية ،سواء
كانت الفصحى أو العامية ،حتى الفرنسية واإليطالية واليابانية وغيرها ،تعانى من لغة
املعلوماتية وهجمة العوملة ،كما تعانى اللغة العربية ومثيالتها ،وهى تحاول أن تتخذ لنفسها
وسائل للحماية الذاتية ما أمكنها ،فتجند إعالمها املحلى ومجامعها وعلماءها وسياسييها
ليقفوا ضد هذه املوجة العاتية .وأولى هحايا هذه العوملة اللغوية هم الشباب ،ابتداء من
سن املراهقة ،فمن جهة الفاعل هناك خريطة جديدة للتعامل مع اآلخر الكتشاف خباياه
وألوانه من الرغبات الجنسية إلى اآلفاق العلمية إلى الرياضة واملسليات وغير ذلك ،مما يشد
العين والفكر والقلب لتلك الشاشة الصغيرة ،أما من جهة املفعول به فهناك لغة لتلقي
املعلومات غير اللغة التى اعتاد الشاب سماع موسيقاها أو ِّألف رؤية حروفها وهى فى العادة
لغة إنجليزية مقتضبة أو مختصرة فى مصطلحات ورموز سرعان ما يتعرف عليها املتلقي
حسب تعليمات يتقنها باملمارسة » .ويستمر الدكتور أبو القاسم فى تسليط األضواء على
املخاطر املعاصرة التى تهدد اللغة العربية بشقيها الفصيح والعامى فيقول « :وهناك أنواع
أخرى من اإلعالم تواجه الفصحى والعامية معا ونعنى بها اإلشهار أو اإلعالنات التجارية ،فقد
أصبحت شاشة التليفزيون والسينما تعج بالصور املغرية وامللونة واملتحركة فى أشكال
مختلفة للترويج ومعظمها موجهة للشباب والنساء وكلها تستعمل فى أغلب األحيان العامية
املختلطة بأسماء العالمات التجارية والعناوين واألسماء األجنبية املنطوقة بأصوات عربية
فيكون ذلك ترويجا ال للبضاعة فقط ولكن أللفاظ ومعانى اللغة األجنبية إضافة إلى ما
يحدثه ذلك من أثر سلبى على اللغة الوطنية باعتبارها غير قادرة على توصيل نفس األلفاظ
واملعانى إلى املنتمين إليها.
وتتوالى جهود املجمع فى هذه القضية ،ويناشد املجمع فى دورته السابعة والستين -يناشد -
وسائل اإلعالم العربية ورجال الدولة فى العالم العربى استخدام اللغة العربية السليمة ألنها
الوسيلة الوحيدة التى تجعل من الشعب العربى اتحادا عامليا أمام التكتالت األجنبية .ودعا
رجال الدولة فى العالم العربى إلى االلتزام باللغة العربية فى خطبهم وبياناتهم الرسمية املوجهة
إلى مواطنيهم.
وطالب املجمع فى ختام دورته السابعة والستين بوضع خطة لغوية مشتركة تهدف إلى
املحافظة على اللغة العربية واستعمالها فى مختلف مجاالت الحياة ،وشدد املجمع فى
توصياته على أن تقوم وزارات اإلعالم العربية بالعمل على إلغاء الثنائية بين اللغة العربية
واللغات األجنبية .ودعا وسائل اإلعالم العربية إلى زيادة املساحة املخصصة للغناء الفصيح
ملواجهة طوفان الغناء الذى يستخدم مستويات هابطة من العامية واللهجات املحلية.
واعتبر املجمع أن من الضرورى إطالق أسماء عربية على البرامج اإلذاعية والتليفزيونية
واستخدام اللغة العربية فى برامج األطفال حرصا على تنشئتهم لغويا بطريقة صحيحة.
وطالب بتفعيل القوانين الصادرة بشأن كتابة الالفتات على واجهات املحالت والشركات
باللغة العربية وبخط كبير ،معتبرا أنه ليس هناك ما يمنع من أن يلحق بالالفتة مضمونها
بلغة أجنبية بخط صغير.
وما كان الهجوم على الفصحى والدعوة إلى العامية ،إال محاولة لهدم تاريخ األمة وفكرها .وكما
قال العقاد عن اللغة العربية « :لقد تعرضت وحدها من بين لغات العالم لكل ما ينصب
عليها من معاول الهدم ،ويحيط بها من دسائس الراصدين لها ،ألنها قوام فكر وثقافة وعالقة
تاريخية ».
وال ُيخش ى على العربية الضياع أو االندثار ،ال فى حاضر وال قابل ،ألنها اللغة التى اصطفاها
هللا لكتابه ورسالة نبيه ،فالقر ن موئلها الذى تلوذ به ،وقطبها الذى تدور حوله ،وتنجذب
إليه .وقد كفل هللا له الحفظ والخلود ،إذ يقول « :إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ».
()65
( )3تيسري النحو
ً
بذل علماء العربية جهودا كثيرة قديما وحديثا فى سبيل تيسير النحو ،ولذا سنشير إلى
بعضها لبيان موضوع حديثنا محاولين استقصاء جوانب املوضوع ما أتاحت لنا مساحته.
يقول ابن مضاء فى كتابه « الرد على النحاة » :إنى رأيت النحويين قد وضعوا النحو لحفظ
كالم العرب من اللحن ،وصيانته عن التغيير ،فبلغوا من ذلك إلى الغاية التى أموا ،وانتهوا إلى
َ
املطلوب الذى ابتغوا ؛ إال أنهم التزموا ما ال يلزمهم ،وتجاوزوا فيها القدر الكافى فيما أرادوه
منها ،فتوعرت مسالكها ،ووهنت مبانيها ،وانحطت عن رتبة اإلقناع حججها ...على أنها إذا
أخذت املأخذ املبرأ من الفضول ،املجرد عن املحاكاة والتخييل ،كانت من أوهح العلوم
ً
برهانا ،وأرجح املعارف عند االمتحان ميزانا ،ولم تشتمل إال على يقين أو ما قاربه من الظنون.
وألن مشكلة النحو قديمة ،فإن األستاذ الدكتور محمد حسن عبد العزيز – يعلق على أحد
النصوص قائال:
لم تكن الشكوى من النحو حديثة العهد ،ولم تكن محاوالت تيسيره كذلك ..فالشكوى من
النحو تعود إلى أيامه األولى ،فقد ضاق الناس قديما به ،وهذا هو الجاحظ يقول فى
(الحيوان) :قلت ألبى الحسن األخفش :أنت أعلم الناس بالنحو فلم ال تجعل كتبك مفهومة
كلها ؟ وما بالنا نفهم بعضا وال نفهم أكثرها ؟ وما بالك تقدم بعض العويص وتؤخر بعض
املفهوم ؟ أنا رجل لم أضع كتبى هذه هلل ،وليست هى من كتب الدين ،ولو وضعتها هذا الوضع
الذى تدعو إليه قلت حاجتهم إلى فيه(.)66
وقد وجد الشعراء فى النحو تعليالت ال يفهمونها ومصطلحات ال يألفونها وطرائق ال تيسر لهم
( )65مراجع املوضوع :إحياء النحو أ .إبراهيم مصطفى ،كتاب الرد على النحاة البن مضاء تحقيق د .شوقى
ضيف ،بحث للدكتور املختون بعنوان النحو العربى بين التيسير والتجديد مجلة ،مجمع اللغة العربية
العدد ،46والعدد ( 47بحث د .شوقى ضيف عن تيسير النحو).
( )66العربية الفصحى الحديثة ستتكيفتش ،ترجمة أستاذنا الدكتور محمد حسن عبد العزبز.
159 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
فالجاحظ فى القرن الثالث الهجرى يقول موصيا معلم العربية للصبى الناش ئ « :فأما النحو
فال تشغل قلب الصبى منه إال بقدر ما يؤديه إلى السالمة من فاحش اللحن ومن مقدار جهل
العوام فى كتاب إن كتبه وشعر إن أنشده وش ىء إن وصفه ،وما زاد على ذلك فهو مشغلة عما
( )67خلف األحمر :مقدمة فى النحو ص 33،34نقال عن العربية الفصحى الحديثة ،تعليق أ.د محمد حسن
عبد العزيز.
160 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
هو أولى به من رواية املثل والشاهد والخبر الصادق والتعبير البارع وإنما يرغب فى بلوغ غاية
النحو ومجاوزة االقتصاد فيه من ال يحتاج إلى تعرف جسيمات األمور وتدبير املصالح للبالد
والعباد ،ومن ليس له حظ غيره وال معاش سواه .وعويص النحو ال يجدى فى املعامالت ،وال
يضطر إليه ش ىء ».
فالناش ئ -فى رأى الجاحظ -يكفيه من النحو معامله األساسية الكبرى التى تعصم لسانه من
اللحن ،وحسبه أن يفقهها فقها حسنا دون أن يتعمق فى أغوار النحو ودقائقه العويصة فإن
ذلك إنما يحتاج إليه املتخصص فيه الذى وقف حياته على دراسته والتعرف على مشاكله،
وكلما قهر مشكلة وتغلب عليها نفذ إلى مشكلة أخرى محاوال بكل جهده أن يذللها وأن يسيغها
وأن يتقنها فهما ودرسا وتحليال.
وهذه التفرقة بين نحو الناشئة ونحو املتخصصين ظلت ماثلة فى أذهان علماء النحو بعد
الجاحظ وزمنه إذ نراهم يكتبون للمتخصصين فى العربية كتبا مطولة مفصلة ويكتبون
للناشئة كتبا مختصرة موجزة مجملة .وكلنا نعرف كيف تلقف علماء النحو عن الزجاجى
املتوفى سنة 339للهجرة كتابه « الجمل فى النحو » وهو مختصر لطيف فيه ،ومضوا
يدرسونه للناشئة فى بلدان العالم العربى.
كذلك عندما ألف ابن هشام -ت - 761كتابه الضخم « مغنى اللبيب عن كتب األعاريب »
للمتخصصين ألفه على غير مثال سابق وألف بجانبه كتبا مختلفة للناشئة منها « قطر
الندى وبل الصدى » يروى به املبتدئين الظامئين ملعرفة العربية دون التعثر فى شباك النحو
وعقابه الصعبة.
.2.3إحياء النحو:
ليفهمه ويسيغه ويتمثله ،ويجرى عليه تفكيره إذا فكر ،ولسانه إذا تكلم ،وقلمه إذا كتب.
واآلخر أن تشيع فيه هذه القوة التى تحبب إلى النفوس درسه ومناقشة مسائله ،والجدال فى
أصوله وفروعه ،وتضطر الناس إلى أن يعنوا به بعد أن أهملوه ،ويخوضوا فيه بعد أن
أعرضوا عنه.
واألستاذ إبراهيم مصطفى فى كتابه « إحياء النحو » يقول :إن النحاة عرفوا النحو بأنه علم
يعرف به أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناء فيقصرون بحثه على الحرف األخير من الكلمة ؛ بل
ً
على خاصة من خواصه ،وهى اإلعراب والبناء .ثم هم ال يعنون كثيرا بالبناء وال يطيلون
البحث فى أحكامه ،وإنما يجعلون همهم منه بيان أسبابه وعلله.
فغاية النحو بيان اإلعراب وتفصيل أحكامه ،حتى سماه بعضهم علم اإلعراب ؛ وفى هذا
التحديد تضييق شديد لدائرة البحث النحو ،وتقصير ملداه ،وحصر له فى جزء يسير مما
ينبغى أن يتناوله ،فإن النحو -كما نرى ،وكما يجب أن يكون -هو قانون تأليف الكالم ،وبيان
لكل ما يجب أن تكون عليه الكلمة فى الجملة ،والجملة مع الجمل ،حتى تتسق العبارة ويمكن
أن تؤدى معناها.
واألستاذ عبد العليم إبراهيم فى كتابه « النحو الوظيةى »( )68أرجع فيه أزمة النحو إلى
جانبين :عناء فى الدراسة وضآلة فى أثر هذه الدراسة وعائدها ،ولذا رأى أن النحو نوعان:
نحو وظيفى ونحو تخصص ى ،واملقصود بالوظيفى مجموعة القواعد التى تؤدى الوظيفة
األساسية للنحو من ضبط الكلمات ونظام تأليف الجمل ليسلم اللسان من الخطأ ،كما
يسلم منه القلم .أما النحو التخصص فهو ما يتجاوز ذلك من املسائل املتشعبة والبحوث
الدقيقة التى حفلت بها كتب األقدمين .ورأى أن العلة فى نقص التدريب ونظام التبويب ،إذ
( )68النحو الوظيفى نقال عن بحث « النحو العربى بين التيسير والتجديد » د .املختون.
162 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
هو سقيم بما فيه من الخلط بين املسائل املتباينة أحيانا ،أو تمزيق املسائل املتحدة فى عدة
مواطن حينا خر .وكان األساس عنده هو الحركات ،فيدرس املفعول به ونائب الفاعل وما
ينصب املفعولين واملصدر املؤول ،واإلغراء وأخواته ..الخ فى مكان واحد ،بعرض أمثلة
لجميعها حتى ال تطغى املصطلحات الجانبية على النوا ى اإلعرابية التى هى أساس النحو
الوظيفى .وقد عالج األساليب فى صورها املشهورة مع العناية بمزيد من التدريبات الشاملة،
فلم يعمد إلى شرح قاعدة إال فى حاالت قليلة وبطريقة موجزة مع استخدام الجداول
والحرص على أن تكون الشواهد من األدب الرفيع ،وتجنب الجمل املشكلة والعبارات
املصنوعة واعتبر كتابه ليس بديال من كتب النحو وإنما هو مكمل لها.
واألستاذ عباس حسن فى كتابه « النحو الوافى » يفصل بين نوعين من النحو فى كتاب واحد،
أحدهما النحو باملعنى العلمى وهو للمتخصصين ،واآلخر النحو باملعنى التعليمى وهو
ً ً
للشادين ،فجعل للشادين من الطالب نوعا من األمثلة الحديثة ويسرا فى القاعدة ،وجعله
غفال من الشواهد الشعرية التى أثقلت كاهل النحو ،وجعل اآلخر للمتخصصين ومن
يرغبون فى االستزادة حشد فيه الحواش ى والتعليقات والتقريرات.
وأستاذنا الدكتور محمد عيد يوافق ابن مضاء ،فيقول إن من األسباب التى دعته إلى تأليف
« النحو املصفى » أن كتب مسائل النحو القديمة صعبة الفهم على الشادين فى النحو ،بل
إن بعضها يتعذر استيعابه على الدارسين املتخصصين أنفسهم ،وذلك المتالئها بالحشو
والفضول ..لذلك أحسست أن هذا الجهد املشكور للنحاة بعضه مفيد للغة ،وبعضه طفيلى
معوق عن الوصول ملا هو مفيد ،بل إن هذا األخير هو الغالب على مطوالت النحو من
مؤلفات املتأخرين ،ورأيت أن الواجب بذل جهد مخلص لتخليص املفيد من الطفيلى املعوق
أما عن طرق التيسير التى حددها علماء العربية ،فابن مضاء يرى أن يتخلص النحو من
نظرية العامل ،يقول:
قصدى فى هذا الكتاب أن أحذف من النحو ما يستغنى النحو ُّى عنه ،وأنبه على ما أجمعوا
ّ
على الخطأ فيه .فمن ذلك ادعاؤهم أن النصب والخفض والجزم ال يكون إال بعامل لفظى،
وأن الرفع منها يكون بعامل لفظى وبعامل معنوى ،وعبروا عن ذلك بعبارات توهم فى قولنا
(ضرب زيد عمرا) أن الرفع الذى فى زيد والنصب الذى فى عمرو إنما أحدثه ضرب .أال ترى أن
مجار ،ألفرق بين ما يدخله ٍ سيبويه -رحمه هللا -قال فى صدر كتابه « :وإنما ذكرت ثمانية
ضرب من هذه األربعة ملا يحدثه فيه العامل ،وليس ش ئ منها إال وهو يزول عنه ،وبين ما ُي ْب َنى
عليه الحرف بناء ال يزول عنه لغير ش ىء أحدث ذلك فيه ؟ » .فظاهر هذا أن العامل أحدث
اإلعراب ،وذلك ّبين الفساد.
وبناء على ذلك فهو ال يوافق على تقدير العوامل املحذوفة يقول :واعلم أن املحذوفات فى
صناعتهم على ثالثة أقسام :محذوف ال يتم الكالم إال بهُ ،ح ِّذف لعلم املخاطب به ،كقولك
تم الكالم به،زيدا ،فتحذفه وهو مراد ،وإن ُأظهر ّ ً ً
ملن رأيته يعطى الناس( :زيدا) أى أعط
ومنه قول هللا تعالى( :وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا).
ُّ ً والثانى محذوف ال حاجة بالقول إليه ،بل هو ٌّ
تام دونه ،وإن ظهر كان عيبا كقولك( :أزيدا
ً
ضربته) قالوا إنه مفعول بفعل مضمر تقديره أضربت زيدا .وهذه دعوى ال دليل عليها إال ما
زعموا من أن (ضربت) من األفعال املتعدية إلى مفعول واحد ،وقد تعدى إلى الضمير ،والبد
ً
لزيد من ناصب إن لم يكن ظاهرا فمقدر ،وال ظاهر ،فلم يبق إال اإلضمار .وهذا بناء على أن
ً
كل منصوب فالبد له من ناصب ! وياليت شعرى ما الذى يضمرونه فى قولهم( :أزيدا مررت
يتحصل له ما يضمر ! والقول تام مفهوم ،وال يدعو إلى هذا ّ بغالمه) وقد يقوله القائل منا وال
التكلف إال وضع :كل منصوب فالبد له من ناصب .فهذا القسم الثانى.
ُ
وأما القسم الثالث فهو مضمر ،إذا أظهر تغير الكالم عما كان عليه قبل إظهاره ،كقولنا( :يا
عبد هللا) ،وحكم سائر املناديات املضافة والنكرات حكم عبد هللا ،وعبد هللا عندهم
ً ُ
ظهر تغير املعنى وصار النداء خبرا.منصوب بفعل مضمر تقديره أدعو أو أنادى .وهذا إذا ِّ
أ
وكذلك النصب بالفاء والواو :ينصبون األفعال الواقعة بعد هذه الحروف َبأ ْن ،ويقدرون َأنْ
مع الفعل باملصدر ،ويصرفون األفعال الواقعة قبل هذه الحروف إلى مصادرها ،ويعطفون
املصادر على املصادر بهذه الحروف.
ومنه اعترض ابن مضاء على تقدير النحاة متعلقات للمجرورات ،مثل (زيد فى الدار) يقول
النحاة :متعلق بمحذوف تقديره (زيد مستقر فى الدار) .واعترض على تقدير الضمائر املستترة
ً
فى املشتقات ،فى مثل (زيد ضارب أبوه عمرا) فإذا رفعت الظاهر ،فاملضمر أولى أن ترفعه،
ً
وقد بطل ببطالن العامل أنها ترفع الظاهر .وإذا كان ضارب موضوعا ملعنيين :ليدل على
ً الضرب ،وعلى فاعل الضرب ،غير ّ
مصرح به( ،فإذا قلنا زيد ضارب عمرا) فضارب يدل على
الفاعل غير مصرح باسمه ،وزيد يدل على اسمه ،فياليت شعرى ما الداعى إلى تقدير زائد ،لو
ظهر لكان فضال ؟ فإن قيل :الدليل عليه ظهوره فى بعض املواضع ،وذلك عند العطف عليه
ً
فى قولنا (زيد ضارب هو وبكر عمرا) قيل :النحويون يقولون :إن هذا الضمير الذى برز ليس
هو فاعال بضارب ،ففاعل ضارب مضمر ،وهذا املنطوق به توكيد له ،وبكر معطوف على
الضمير املقدر ال على البارز.
و تحدث عن التنازع فيقول:
َ ّ
فمن هذه األبواب :باب الفاعل ْين واملفعول ْين اللذين كل واحد منهما يفعل بفاعله مثل ما
يفعل به اآلخر وما كان نحو ذلك .هذه ترجمة سيبويه رحمه هللا .وأنا فى هذا الباب ال أخالف
َّ
النحويين إال فى أن أقول :علقت وال أقول :أعملت ،والتعليق يستعمله النحويون فى
املجرورات ،وأنا أستعمله فى املجرورات والفاعلين واملفعولين ،تقول (قام وقعد زيد) فإن
ً
علقت زيدا بالفعل الثانى ،فبين النحويين فى ذلك اختالف :الفراء ال يجيزه ،والكسائى يجيزه
على حذف الفاعل ،وغيره يجيزه على اإلضمار ،الذى يفسره ما بعده ،ومن الدليل عليه قوله
َ َّ ْ
(عبس وتولى أن جاءه األعمى) .فهذه األفعال ال فاعل لها بالحجاب) وقوله:
تعالى( :حتى توارت ِّ
ُ ً
ظاهرا .وأما أى الرأيين أحق ،فرأى الكسائى ،ألن غيره يقول :حذف الفاعل ال يجوز ،ألن
الفاعل والفعل كالش ىء الواحد ،فعلى هذا ال يجوز حذف الفعل وإبقاء الفاعل ،وهم
يجيزونه !
و قول عن باب االشت ال:
ومن األبواب التى يظن أنها تعسر على من أراد تفهيمها أو تفهمها ،ألنها موضع عامل
ومعمول ،وال داعية لى إلى إنكار العامل واملعمولُ ،
باب اشتغال الفعل عن املفعول بضميره
ً
مثل قولنا (زيدا ضربته).
وكذلك تحدث عن أقوال النحويين فى باب الفاء السببية وواو املعية.
أبواب نصب الفعل، ُ ومما قالوا فيه ما لم يفهم ،وأضمروا فيه ما يخالف مقصد القائل،
تكلمت منها على باب الفاء والواو ؛ ليستدل بهما على غيرهما ،ويعلم أن ما أضمروه ال ُ وقد
يحتاج إليه فى إعطاء القوانين التى يحفظ بها كالم العرب.
ً
الكالم فى الفاء :الفاء ينتصب بعدها الفعل إذا كانت جوابا ألحد ثمانية أشياء :األمر ،والنهى،
والعرض ،والتمنى ،والتحضيض ،والدعاء .يقال فى األمر (أعطنى ْ واالستفهام ،والنفى،
فأشكرك) .قال أبو النجم :الكالم فى الواو :الواو تنصب ما بعدها فى غير الواجب ؛ ومعناها َ
فى النصب معنى مع ،قال األخطل:
ُ َ ٌ خلق َ ُ َْ َ
عظيم فعلت - عار عليك -إذا وتأتى مثلــه التنه عن ٍ
وتشرب اللبن) أى ال تجمع بينهما ،ولو جزم لنهاه عن الجمع َ وتقول( :ال تأكل السمك
والتفرقة ،ولو رفع لنهاه عن أكل السمك وأوجب له شرب اللبن ،أى أنت ممن يشرب اللبن.
كذلك دعا إلى إلغاء العديد من العلل التى أثبتها النحاة ،فكل ما ارتبط بنظرية العوامل فى
النحو من علل وأقيسة وتقديرات وتأويالت الحاجة إليه.
وتحدث األستاذ إبراهيم مصطفى ،وأرجع ما عليه النحو العربى إلى أن أساس كل بحث
النحويين أن « اإلعراب أثر يجلبه العامل » فكل حركة من حركاته ،وكل عالمة من عالماته،
ً
ملفوظا ،فهو ّ ً ً
مقدر ملحوظ -ويطيلون فى إنما تجئ تبعا لعامل فى الجملة -إن لم يكن مذكورا
شرح العامل وشرطه ووجه عمله ،حتى تكاد تكون نظرية العامل عندهم هى النحو كله.
ً
أليس النحو هو اإلعراب ،واإلعراب أثر العامل ؟ ! فلم يبق إذا للنحو إال أن يتتبع هذه
َ العوامل ،يستقرئها ّ
ويبين مواضع عملها ،وشرط هذا العمل ؛ فذلك كل النحو.
ً
وأحكاما هى عندهم فلسفة النحوّ ، ً ّ
وسر العربية ،سنجمع هنا من ودونوا للعامل شروطا
ّ
كالمهم ومن ثنايا أدلتهم وحججهم ما يشرح لك أصول نظرياتهم فى العامل .قالوا:
( )1كل عالمة من عالمات اإلعراب فهى أثر لعامل ،إن لم تجده فى الجملة وجب تقديره ،وقد
يكون هذا العامل واجب الحذف ال يصح أن ُينطق به فى كالم ،ولكنه من املحتوم أن يقدر،
َ ّ ً وقد يقدر فى الجملة عامالن مختلفان كما فى ّإي َ
وس ْقيا لك(.)69 اك واألسد
( )2ال يجتمع عامالن على معمول واحد .فإذا ُوجد ما ظاهره أنه سلط عامالن على معمول،
جعلوا ألحد العاملين التأثير فى اللفظ ولآلخر التأثير فى املوضع .كما فى « بحسبك هذا » و «
رب والباء العمل فى اللفظ ،والكلمتان بعدهما مرفوعتانرب رجل ال يحمل قلب رجل » ؛ ِّفل ّ ّ
ى
محال لالبتداء.
ولرفضهم أن يعمل عامالن فى معمول واحد خلقوا باب التنازع فى العمل وما فيه من قواعد
وأحكام ليس يخفى ما بها من اعتساف وتعقيد.
( )3األصل فى العمل لألفعال ،وهى تعمل فى األسماء فقط ،فترفعها وتنصبها ،ولكنها ال تجر،
ً ً ً ً
وال ترفع إال اسما واحدا ،وتنصب اسما أو أكثر ؛ وتعمل الرفع والنصب معا.
ى
( )4كلما كان الفعل أمكن فى باب الفعلية كان أوفر من العمل حظا .فالفعل الجامد عامل
َ
ضعيف ،ال يعمل فيما يتقدمه ،وقد ال يعمل إال بشروط ت ُح ُّد عمله ،كفعل التعجب ،ونعم
ً ً
وبئس ؛ ال يرفع األول إال ضميرا مستترا واجب االستتار ؛ وملرفوع نعم وبئس من الشروط ما
هو مبين فى بابه ،كذلك الفعل الناقص محدود العمل ال يعمل إال فى املبتدأ والخبر.
َ ً
( )5يكون االسم عامال -ويحمل فى ذلك على الفعل ،فيجب أن يتحقق له ش َب ٌه بالفعل يقربه
منه ويؤهله لحكمه ،كما ترى فى اسم الفاعل واسم املفعول واملصدر .ويناط نصيبه من
عمال إذا اتصل به ما ّ ن ى ً
يقربه من الفعل ويتمم العمل بحظه من شبه الفعل ،فيكو أقو
ً
شبهه به ،كاعتماد اسم الفاعل على نفى أو استفهام ،أو وقوعه صلة ألل ،ويكون أضعف إذا
ُ
فضعفُ طرأ له ما يبعده عن الفعل ،كاسم التفضيل فإنه ملا قرن ِّبم ْن كان بمنزلة املضاف
َ
شبهه بالفعل وق َّل عمله ،واقتصر على رفع الضمير وامتنع أن يرفع الظاهر ؛ وكاملصدر إذا
( )69كتاب الرد على النحاة البن مضاء تحقيق د .شوقى ضيف.
168 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
( )11العوامل فى األفعال أضعف من العوامل فى األسماء ،فعوامل األسماء متى توفرت
وكل شروطها مستوفاة ،كأدوات شروطها وجب إعمالها ؛ أما عوامل األفعال فقد تلغى ٌ
الشرط ،وواو املعية ،وفاء السببية.
ً
( )12يمكن أن تكون الكلمة عاملة ومعمولة معا ،ولكن الكلمتين ال تتبادالن العمل فتكون
كل منهما عاملة فى األخرى معمولة لها.
ّ
يعلقه عن العمل ( )13قد يعترض العامل ما يلغى عمله أو يكفه عنه ،وقد يعترضه ما ِّ
ً
فيكون عامال فى املحل وليس له من أثر فى اللفظ .فللعامل ثالث حاالت:
اإلعمال ،والتعليق ،واإللغاء ،ولكل موضع.
تكون أسرة واحدة ،كباب ّإن ،وباب كان، ( )14كل جماعة من العوامل تشابهت فى العمل ّ
ُ ً
وتكون أداة من هذه األدوات أوسع عمال فتسمى « أ َّم الباب » ،ولها من الحقوق فى العمل
ُ ُ
والتصرف فى الباب ما ليس لغيرها من أدواته .ف (كان ) أ ُّم األفعال الناقصة ،و ( ِّإ ّن ) أ ُّم
األدوات التى تنصب األول وترفع الثانى ،وإن تباعد ما بينها فى املعنى ،ألن اتفاق العمل وحده
هو األصل فى تقسيم هذه األسر ،وتحديد أبوابها.
حكموها فى اللغة ،وجعلوها ميزان ما بينهم من َ ّ وملا ّ
جدل فى تكونت للنحاة هذه الفلسفة
املذاهب ،ومناقشة فى اآلراء والبصريون أحرص على هذه الفلسفة وأمهر فيها ؛ على أن
ً
الكوفيين ال يغفلونها وال يأبون االحتجاج بها ،فهى دستور النحاة جميعا.
ويقول األستاذ إبراهيم مصطفى إن منشأ هذه الفلسفة أن النحاة فى سبيلهم هذا متأثرون
كل التأثر بالفلسفة الكالمية التى كانت شائعة بينهم ،غالبة على تفكيرهم ،خذة حكم
الحقائق املقررة لديها.
وليس من عيب فى أن ينتفع النحاة بما بين أيديهم من الفلسفة ومن العلوم التى يدرسونها،
وال فى أن يصطنعوا فى تفكيرهم النمط املألوف فى زمنهم ،والسبيل املرسومة للجدل فى أيامهم
ّ ّ
؛ فإن للتفكير فى كل زمان مناهج متبعة ومبادئ مسلمة قد ال يخلص منها إال َم ْن تعلق بو ى.
وإذا نحن جهلناها لم نستطع أن نقدر منشأ كل رأى وغايته ،ومتسرب الخطأ إليه ،أو إحاطة
الصواب به.
ً
من أجل ذلك نرى طريق النحاة فى استخدام فلسفة أيامهم -أو استخدامها إياهم -أمرا
ً
طبيعيا ،وال مأخذ فيه ؛ بل ال مندوحة عنه ملن أراد أن يفكر .ولكن علينا أن ننظر مبلغ
توفيقهم فى نظرهم ،وإصابتهم للغاية التى سعوا إليها ،وهى الكشف عن أحكام اإلعراب
وأسراره.
ويرى األستاذ الدكتور املختون فى بحثه « النحو العربى بين التيسير والتجديد » أن
الصعوبات النحوية وتذليلها يتحدد فى رأيه فى اآلتى:
-1شحن النحو باملنطق والفلسفة وأمور بالغية.
-2سوء التأليف من النظم ثم الشرح مع النقل عن السابقين لكل ما جاء عنهم دون
تمحيص زد إلى ذلك الحواش ى والتقريرات ،ومثل ذلك املتون وشرحها.
ّ
-3دمج اآلراء الفردية املختلفة واعتبارها دون تمحيص أو موازنة بينها إال فى القليل.
-4كثرة الشواهد وتعدد الروايات فيها والضبط وتخريج ذلك كله.
-5شحن النحو باللهجات املتباينة واعتبارها مع اختالف املستوى ،ومحاولة التقعيد لخليط
غير متجانس.
-6تداخل األبواب وتشابكها ،مما نشأ عنه التكرار أو توزيع املادة وتمزيقها على أبواب.
-7رغبة العلماء فى التزيد باإلضافات واملناسبات واالستطرادات والتشعب.
-8كثرة املصطلحات النحوية وعدم استقرارها أو توافر شروط املصطلح السليم فيها ،مع
الخالف فيها بين املدارس.
-9اختالف النحاة فى الحدود ،الحد التام والناقص والحد بالرسم إلى غير ذلك.
-10توج ذلك كله فى الشرق العربى ربطه باملقدسات مما تطلب منحى خاصا تكثر به
النحويون.
-11تجمد األمثلة النحوية فى قوالب أشبه بقوالب الصناعة ،وذلك بنقل الالحق عن السابق
دون تجديد يالئم العصر الحاضر ومعجم الدارس.
-12تطوع النحاة بوضع أمثلة لقواعد لم ينسج العرب عليها كما فعل ابن عقيل.
-13صيرورة النحو مثار تالعب ذهنى وميدانا لأللغاز.
-14تتبع األقسام العقلية دون سبر لها.
دون املعنى على قرينة اإلعرابية العالمة النحاة -15اعتبار
اعتبار لسواها.
-16إغفال أن النحو هو دراسة األسلوب ،كما صور عبد القاهر
فى الدالئل.
-17طريقة التدريس السائدة .وقد نقدها ابن خلدون واملرحوم
عبد العليم إبراهيم .أما الشواهد النحوية فقد جمدوها عند حد زمنى معين هو إبراهيم بن
َه ْرمة الشاعر فهو خر من يحتج بشعره ،وتشددوا فى ذلك « ناسين قول ابن قتيبة أن كل
قديم هو حديث بالنسبة إلى ما قبله ،والحديث اليوم سيصير قديما مستقبال بالنسبة ملا
بعده .وأرى أن يجوز االحتجاج على القواعد بمن بعد ذلك من أمثال أبي تمام صاحب
الحماسة بجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه ،ومثل املتنبى وأبى العالء وأضرابهم.
وقد استشهد سيبويه ببيت لبشار بن برد -وقيل فى ذلك ما قيل -والزمخشري استشهد بأبى
تمام ،وابن هشام ومن قبله ابن مالك استشهدوا بأبيات استقاها من قراءاته اللغوية لم ترد
فى كتب النحاة السابقين ،ويعتذر عنهم بأن ذلك ذكر على سبيل التمثيل ال على سبيل
االستشهاد.
ولعل من أهم الصعوبات وأسبابها ربط النحو العربى باملقدسات ،وإال فالنحو تابع للغة وهى
متطورة يسيطر عليها العقل الجمعى وتنمو باطراد ولكن فى جهات مختلفة وكل كسب يقابله
خسارة .وقد لوحظ على بعض هذه الشواهد أنها مصنوعة موضوعة لتالئم رأيا معينا.
ألا عن تذليلها فيقول:
-1يتوخى فى التأليف النحوى حسن العرض ،وقرب املأخذ والبعد عن الخالف والجدل وعن
اإليجاز املعمى والتطويل اململ ،والبعد عن التعليل الفلسفى ،مع ّ
تخير االمثلة من واقع
الحياة والتجديد فيها .وقد سيقت نماذج من كتب نحوية سلكت هذا السبيل.
-2فصل الشعر عن النثر فى التقعيد ،فلكل لغته الخاصة به فليس أحدهما بديال عن اآلخر.
-3يستغنى عن بعض األبواب التى ال تستعمل كثيرا كاالشتغال والتنازع والحكاية ،وكذلك
أصول الكلمة ،والتركيب فى األدوات .ويدرس اإلدغام واإلبدال واألصوات والوقف فى امليدان
اللغوى.
-4مسائل البالغة من الذكر والحذف ،والتقديم والتأخير جوازا أو وجوبا ،ينقل كل ذلك إلى
ميدان علوم البالغة.
-5يدرس الخالف فى كتب خاصة كما جرى فى اإلنصاف البن األنبارى وغيره.
-6يستغنى عن بعض العبارات كنداء ثالثة وثالثين ،مما وضعه النحاة .وسمع أذني فاك
ّ
يقول ذاك ،وما زاد هذا املال اال ما نقص ،وأضراب ذلك.
-7تصنف الشواهد ويبقى ما يدعم القاعدة فقط ،ويطرح ما يدعم الشذوذ ويحسن
تخصيص كتب لها على نحو ما فعل األقدمون بشواهد البالغة فى معاهد التنصيص.
وتصنف علميا.
-8إخراج اللهجات املختلفة من التقعيد ،وجعلها فى علم مستقل تدرس فيه دراسة علمية
مفصلة.
-9اختصار املصطلحات ،والتخفف منها بالتخير مما عند الكوفيين والبصريين وغيرهم.
قد ألنه كذا، يجوز يقال وإنما كذا، يجوز ال يقال -10ال
ورد وسمع.
-11دمج بعض األبواب النحوية حتى ال يحدث تكرار ،فالقسم يدرس مع الجزاء ،وعطف
البيان مع البدل ،وللبدل أسلوب خر يستغنى به عنه ،والنداء واالستغاثة والندبة
واالختصاص والتحذير واإلغراء مع املفعول به .وحروف الجر مع اإلضافة إذ هى على معنى
الحرف.
-12يؤخذ بالرأى الراجح فقط ،أو باألضعف من اآلراء عند إرادة التيسير وقد فعل ذلك فى
الفقه حديثا وهو دينى ،وبرأى الكوفيين فهو أقرب إلى طبيعة اللغة من غيره.
-13ال حاجة إلى إعراب الجمل واملبنيات ،مع اإلبقاء على األساسيات والجوهر فقط.
-14ال حاجة إلى إعراب العامل وما نشأ عن القول به من حذف أو تقدير أو تعليل.
-15ال تؤخذ العالمة اإلعرابية على أنها القرينة الوحيدة املميزة ،فالنحو هو دراسة األسلوب
فى مجمله ،ونظرية النظم عند عبد القاهر فى الدالئل فهناك قرائن أخرى غير اإلعراب
كالرتبة وكالقرائن اللفظية واملعنوية ومنها اإلسناد ،واالعتماد عليها فى بيان املعنى.
-16دراسة النحو فى ظل النصوص ،وليس فى فراغ كما هو اآلن.
-17تعديل طريقة تدريس النحو على نحو ما فعل املرحوم عبد العليم إبراهيم وغيره.
-18اعتبار الرفع علما لإلسناد والنصب علما للمفعولية والجر علما لإلضافة ،وقد نص
األقدمون على ذلك ،وأن االسم إذا خرج عن دائرة اإلسناد ينصب ،ألن النصب علم الخفة،
ولذا التزمها العرب إذا طال الكالم.
-19من املمكن دراسة النحو على مستويين ،ثانيهما للمتخصصين مع إملامهم بالقراءات
والتفسير.
-20مع مالحظة كل ما سبق ينشأ مؤلف نحوى يحمل اسم « النحو األساس ى » كما فعل فى
اللغات األخرى ،وتقوم فيه دراسة النحو على األساس التالى-:
الجملة االسمية -الجملة الفعلية -شبه الجملة -الربط ووسائله -الكف عن الحركات ،أو
اإلحالل -املتعلقات بعامة -حروف املعانى.
أما عما يقدم للناشئة فى تيسير النحو ،فقد اقترح د .شوقى ضيف فى مقدمة تحقيقه
لكتاب ابن مضاء -وفى ضوء تحليالته و رائه -تصنيفا جديدا للنحو وضعه على أربعة
أسس:
األساس األول إعامة تن يق أبواب النحو بحيث تدمج األبواب الفرعية فى األبواب
الرئيسية كلما أمكن ذلك ،وهو إدماج ال يؤدى إلى حذف صيغ األبواب الفرعية من
النحو.
واألساس الثانى هو إل اج اإلعراب التقدةر واملحلى متابعا فى ذلك مقترحات لجنة
وزارة املعارف وقرارات مؤتمر املجمع سنة .1945
ُ
الناشئة بإعراب المة ال ةةيدهم إعرابها واألساس الثالث لهذا التصنيف هو أن ال ت
فى صحة النطق بها أى فائدة ،إذ اإلعراب ليس غاية فى ذاته إنما هو وسيلة لنطق الناشئة
السليم للكلم فى العربية.
واألساس الرابع هو اقتراح ضوابط مقيقة لبنض أبواب النحو تجمع صور التعبير
ً
فيها جمعا محكما أو توهحها توضيحا وافيا تاما.
وقدم هذا املشروع لتيسير النحو على الناشئة إلى مؤتمر املجمع سنة 1977وأحال
املؤتمر املشروع إلى لجنة األصول فى املجمع ،ودرسته دراسة علمية خصبة .وأقرت
شطرا كبيرا من مقترحاته ،معدلة فى جوانب منها تعديالت سديدة ،واعتمد مؤتمر
املجمع فى سنة 1979ما انتهت إليه اللجنة من قرارات ،ونعرض ذلك فى إجمال:
أما فيما يختص بإعادة تنسيق أبواب النحو ،بحيث تدمج بعض أبوابه الفرعية فى
أبوابه الرئيسية فقد وافق املؤتمر على ما اقترحته لجنة األصول من وضع بابى « ظن »
و « أعلم » فى باب الفعل املتعدى على أن يكون ذلك خاصا بكتب الناشئة .وأن يكتفى
فى باب التنازع بالصور التى توارد بها االستعمال فى الفصحى فى مثل « :دخل وجلس
محمد » و « محمد يحسن ويتقن عمله » و “ ناقشنى وناقشت محمدا ».
ورأت اللجنة أن الصيغ النحوية التى تعرب تمييزا وتتفرق فى أبواب كثيرة يمكن جمعها
فى ب اب واحد تيسيرا على الناشئة ،وهذا فى الصيغ التالية بعد أسماء املقادير وبعد
الصفة املشبهة وبعد الفعل الالزم وبعد فعل التعجب وبعد نعم وأخواتها وبعد اسم
التفضيل وبعد العدد وبعد كم االستفهامية.
وفيما يختص بإلغاء اإلعرابين التقديري واملحلي كانت لجنة وزارة املعارف قد اقترحت
إلغاءهما فال داعى ألن يقال فى مثل « :جاء الفتى » :الفتى فاعل مرفوع بضمة مقدرة منع
من ظهورها التعذر ،بل يكفى أن يقال « الفتى » فاعل فحسب ،وباملثل ال داعى ألن
يقال فى مثل « :هذا زيد » :هذا مبتدأ مبنى على السكون فى محل رفع بل يكفى أن يقال:
« هذا » مبتدأ فحسب..
ورأت لجنة األصول -ووافقها مؤتمر املجمع لسنة « - 1979توحيد أسماء عالمات
اإلعراب األصلية والفرعية بتسميتها عالمات إعراب » .وهو إلغاء العالمات الفرعية فى
اإلعراب ،فال الفتحة نائبة عن الكسرة فى املمنوع من الصرف وال الكسرة نائبة عن
الفتحة فى جمع املؤنث السالم وال الواو فى األسماء الخمسة وجمع املذكر السالم وال
األلف فى املثنى نائبة عن الضمة.
واعتمدت لجنة األصول األساس القائل بأن يحذف -من كتب النحو التعليمى -إعراب
أي كلمة ال يفيد إعرابها أى فائدة فى صحة نطقها وسالمته على نحو ما يتضح فى بعض
أدوات االستثناء وأدوات الشرط االسمية وكم االستفهامية والخبرية وال سيما.
وفيما يتعلق ببعض األبواب وما ينبغى أن يوضع لها من ضوابط أكثر سدادا
وافقت اللجنة على وضع ضوابط جديدة أكثر دقة ألبواب املفعول املطلق واملفعول
معه والحال ،أما املفعول املطلق فعرفه النحاة بأنه اسم يؤكد عامله أو يبين نوعه أو
صفته وهو ضابط يقصر عن اإلحاطة بجميع صيغ املفعول املطلق فقد يكون صفة
ً
ملصدر مثل « :قرأ كثيرا » أو اسم إشارة سابقا ملصدر مثل « :علمه ذلك العلم » أو
ً
ضميرا عائدا على مصدر مثل « :أتقن عمله إتقانا لم يتقنه أحد من زمالئه ».
لذلك ومثله رأت اللجنة وضع ضابط جديد للمفعول املطلق ،هو أنه:
« اسم منصوب يؤكد عامله أو يصفه أو يدل عليه نوعا من الداللة ».
َ وقد أبقى املجمع بعض األمور كما هي فمثال « يرى املجمع اإل َ
بقاء على باب كان وأخواتها ِّ
ويرى ستتكيفتش أن املشروعات النظرية الخالصة ملشكلة إصالح النحو العربى نادرا
ما أسهمت بأى حل أو حتى باقتراحات إيجابية مفيدة .وكقاعدة وبعد عدة فقرات
استهاللية عن الحاجة إلى اإلصالح ،وعن عقم وركود املناهج التقليدية املستخدمة فى
النحو العربى فإن مدعى اإلصالح يميل إلى نفس املوقف الكالمى الذى كان يريد أن
يضع حدا له اآلن وإلى األبد.
واملوقف الذى وقفه الكاتب العربى :مصطفى جواد مثل لذلك .لقد كتب عدة مقاالت
متوالية بعنوان (وسائل النهوض باللغة العربية وتيسير قواعدها وكتابتها) ظهرت فى
مجلة (األستاذ) واملقالة تبدأ بأسلوب فخم واعد بإصالح تام .ولكن عندما يصل املؤلف
إلى مرحلة ينبغى عندها أن يحدد موقفه نرى أن برنامجه لإلصالح ليس إال عمال أشبه
ما يكون بأعمال السحرة.
فى اعتقادى أن النهج العام الذى يقودنا إلى إصالح النحو يعتمد على اختزال القواعد
األساسية واختيار أمثلة من القر ن قبل أى ش يء .ثم من الحديث النبوى الشريف ثم
من األمثال العربية ثم من أيام العرب واملقامات ثم من الشعر العربى الجاهلى الصحيح
النسبة الخالى من أى لحن -واملقياس األوهح لذلك أنه ال يختلف عن النثر -مهما كان
نوعه -وفى النهاية من مختار الشعر بعد العصر الجاهلى.
واملناهج التى تبدأ من بدهيات أكثر واقعية هى املناهج املثيرة لالهتمام إلى حد بعيد.
ومن هذه البدهيات :ما يعترف باللهجات العامية التى تسيطر -حتى عهد قريب جدا -
على لغة الكالم وثمة بدهية أخرى :اختفاء معظم األهداف العملية لإلعراب أو عالمات
الضبط ،حتى أنها ال تؤخذ فى االعتبار فى القراءة العادية .وبطريقة خاصة فإن مشكلة
اإلعراب ينبغى أن تؤثر بقوة على أية دراسة لإلصالح النحوى ،ألن الجزء األساس ى
للنحو العربى يهتم بعالمات اإلعراب ذاتها.
ونحن نعرف أنه فى القرن األول لإلسالم قد وقعت انحرافات عن اإلعراب ،وفى أثناء
ً
القرون التالية ،قرون الفتح والتحضر ظل اإلعراب عنصرا مميزا للكالم البدوي
فحسب ،بينما سكان املدن غير املتجانسين يميلون إلى التخلص منه .وفى مستهل
عصور االنحطاط الثقافى يكتب ابن خلدون املتوفى (1406 - 1322م) إن لغة العرب
لعهده لغة مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير ،وقد نتج عن هذا الفرق -إهمال كامل
لإلعراب( :وذلك أنا نجدها فى بيان املقاصد والوفاء بالداللة على سنن اللسان املضري،
ولم يفقد منها إال داللة الحركات على تعيين الفاعل من املفعول فاعتاضوا عنها
بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات املقاصد).
ً
ويواصل حديثه عن مشكلة اإلعراب معتبرا اللهجات العامية التى استغنت عن
الحركات دليال على إمكان استغناء العربية عنها ومستعينا بكالم ابن خلدون عن
العامية فى عصره ،يقول:
(ولم يفقد من أحوال اللسان املدون إال حركات اإلعراب فى أواخر الكلم فقط .الذى
لزم فى لسان مضر طريقة واحدة ،ومهيعا معروفا وهو اإلعراب ،وهو بعض من أحكام
اللسان).
ولكن ،ما كان صحيحا فى عهد ابن خلدون لم يكن صحيحا عند كثير من املحدثين فى
النهضة الحاضرة.
وقد التقط األستاذ أحمد أمين أفكار ابن خلدون عن اإلعراب ،والحاجة امللحة إلى
اللغة املعاصرة املتميزة ،واقترح دراسة هذه اللغة ووضع قواعدها .وعند أحمد أمين :أن
الفرق األساس ى بين اللهجات العامية والفصحى -وكذا الصعوبة األساسية فى انتشار
اللغة األدبية -هو اإلعراب:
(وأهم فرق بين اللغة العامية والفصحى وأهم صعوبة فى انتشار اللغة الفصحى -فى
نظرى -اإلعراب .لقد فشلنا فى تعليمه حتى للخاصة واملثقفين ،فهذا متخرج الجامعة
قد صرف تسع سنوات على األقل فى املدارس االبتدائية والثانوية يتعلم النحو ،ثم
عددا من السنين فى الجامعة ومع ذلك قل جدا من يستطيع أن يكتب صفحة خالية
من الخطأ النحوى -ومثلهم املثقفون ثقافة عامة ومن قرأوا ألنفسهم كثيرا وكتبوا
كثيرا ،فكيف نطمع إلى أن نصل إلى نتيجة باهرة إذا أردنا نشر تعليم اللغة فى أوساط
العامة)(.)70
ولعالج هذه الحالة يقترح أحمد أمين اصطناع لغة عربية خالية من اإلعراب وخالية
من األلفاظ الضخمة ،ومستعملة للكلمات العامية التى هى أيضا عربية .وهذه اللغة
الجديدة ستكون بحق وسطا بين العامية والفصحى ،وبذلك نستطيع أن نقارب بين
العامية والفصحى ونسهل تعليم العربية ،وبذلك نستطيع أن نوصل األدب العربى إلى
سواد الناس ،ولتبق اللغة العربية الفصحى لغة الخاصة يكتبون بها للمتخصصين،
ويقرءون بها التراث القديم وينتفعون به ،وينقلون منه ما شاءوا إلى اللغة الجديدة لنفع
الجمهور .وستكون هذه اللغة الجديدة صالحة ألن يصاغ بها الفن األدبى على أشكاله
وأنواعه.
والتخلص من اإلعراب يتطلب -مع ذلك -تغييرا لقواعد محددة للتركيب األساس ى،
ولهذا فإن عالمات اإلعراب -مثال -تحدد الفرق بين الفاعل واملفعول فى جملة كهذه:
(أقرض محمد عليا) ولو تغير ترتيب الكلمات (أقرض عليا محمد) لظل الفرق موجودا،
ودون اإلعراب سوف يكون من املستبعد أن تعين الفاعل واملفعول بدقة تامة .وبناء
على هذا يقترح أحمد أمين تغيير القاعدة النحوية التى تتطلب ذلك فى جملة فعلية يأتى
فيها الفعل قبل االسم .فالفاعل ينبغى أن يسمح له بأن يأتى أوال ،ثم يتبع بالفعل
(الخبر) ثم باملفعول به دون إعراب ،والفاعل واملفعول كالهما سوف يكونان دون
عالمة إعرابية تميز بينهما ما عدا موضعهما فى الجملة كما فى (محمد أقرض على) ،عمل
كهذا إذا ما أقر كقاعدة أساسية تختص بترتيب الكلمات فى الجملة الفعلية الخبرية
سوف يوقع االضطراب فى بناء الجملة الفعلية فى العربية القديمة ،ومن ثم يؤثر على
املفاهيم األساسية للنحو العربى (.)71
ومدرسة أخرى لدعاة اإلصالح ترى أن املنهج الوحيد القابل لالستخدام لتحسين اللغة
هو العودة إلى اإلعراب وإلى نظامه املحكم فى الكالم وفى الكتابة .وهم يزعمون أن
( )71انظر العربية الفصحى الحديثة ستتكيفتش ،ترجمة األستاذ الدكتور محمد حسن عبد العزيز.
181 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
املناهج الجديدة للتعليم والوسائل الحديثة يمكنها أن تيسر العودة إلى ملكة اإلعراب
اللغوية .والعبء األكبر فى هذا العمل يقع على التعليم العام وعلى الكلمة املطبوعة
وإمكانات التعليم العام فى هذا املجال معروفة (.)72
وهناك وجهة أخرى عرضتها « األلسنية » لتيسير قواعد اللغة ،يقول الدكتور أنيس
فريحة:
إن الغرض من تدوين أحكام أية لغة هو الحفاظ عليها من الفساد وتسليمها نقية
صافية إلى الجيل التالى ،وقد أدرك قدامى الصرفيين والنحويين الغاية القصوى من
ضبط اللغة فى أحكام وقواعد .وقد أبدوا من الدقة العلمية ،ومن العمق فى التقص ى،
ومن الجلد فى البحث ،ما جعل غير املستعرب يشيد بفضل العرب على العلوم
ُ
اللسانية .ولكنهم أخطأوا فى الوسيلة .ونحن ال ننحي بالالئمة على املؤلفين اللغويين
القدامى ألنهم خدموا أغراض عصرهم .إنما نلوم املحدثين واملعاصرين اللتزامهم
الفلسفة اللغوية التى أخذ بها املتقدمون ،والتباعهم األسلوب ذاته فى التأليف.
يبدو لنا أن املآخذ التربوية الرئيسية (بالنسبة لألطفال واألحداث) التى نأخذها على
أساليب تدريس العربية تنحصر فى النقاط التالية:
(أ) فلسفة القواعد( .ب) قصر التأليف على جماعة املتفقهين.
(ج) تعقيد فى التبويب( .د) إسراف فى املصطلحات الغامضة.
(هـ) قصر القواعد على الشكل دون املعنى( .و) كتب التدريس.
1.11.3فلسفة القواعد:
نضج علم اللغة العربية مع نضج علم الكالم .وإذا نظرت فى فلسفة القواعد يتضح لك
أثر علم الفلسفة .فقد حاول األقدمون أن يخضعوا الظواهر اللغوية إلى نظام العلة
واملعلول ،والعامل واملعمول ،والفاعل واملنفعل ،أى أنهم حاولوا إخضاع اللغة للمنطق
وللفلسفة .واللغة ال تخضع ملنطق ،ألنها أقدم من املنطق وال حاجة بها للفلسفة .أو
على األقل ال حاجة لنا بالفلسفة فى تعليم اللغة لألوالد.
وقد الحظ القدماء بعض التعسف فى قوانين النحو .فقد ّنبه ابن جنى فى خصائصه إلى
ً ّ
أن العامل فى اللغة هو اإلنسان ال أثر كلمة فى كلمة .وألف ابن مضاء القرطبى كتابا
سماه « الرد على النحاة » حاول فيه دحض مبدأ العامل والعلة .العامل والعلة
والفاعل والسبب وما إليها من األمور التى « نتخبأ » ور َاءها فى تعليلنا الظواهر اللغوية
مردها جميعا إلى اإلنسان .واإلنسان هو العامل ّ
األول واألخير فى اللغة. ّ
كانت العلوم اللسانية رياضية عقلية فى املنطق والتخريج لطالب الفلسفة وعلم الكالم
ً
وعلوم الدين ونقد األدب .والتأليف لألطفال واألوالد أعسر مطلبا من التأليف للكبار.
وقد جاء التأليف على غاية من التقص ى فى الوصف ،وعلى غاية من التعقيد فى اللغة
واملصطلح .وأدهى من هذا وذاك أن تظل هذه الكتب البعيدة عن روح العصر املثال
الذى يحتذى فى التبويب واملصطلح واالستشهاد ،مع املالحظة أن القدامى أنفسهم
شعروا بهذه األخطاء فى التأليف فنشطوا فيما بعد « للشرح » و « التقريب » و «
التبسيط » و « التعليق » و « التشذيب » فى كتب تدل عناوينها على أن مؤلفيها أدركوا
ً
أن علم الصرف والنحو لم يعد فى متناول الرجل العادى .ويكفيهم فضال أنهم حاولوا،
183 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
تبسيط هذا العلم وتقريبه من األفهام .ولكننا نشعر أنهم لم يحلوا املشكلة .وقد حاول
ً
بعض املحدثين تأليف كتب فى القواعد تكون أقرب مناال من كتب القدامى .ولكنها
جاءت تختلف فى روحها وتنسيقها ومصطلحاتها وفلسفتها اللغوية عن أمهات كتب
اللغة القديمة.
3.11.3التبويب:
تبويب القواعد كما وضعها أئمة هذا العلم مدعاة للتشويش .نعم للقدماء فضل فى
ً
التفريق بين بابى الصرف ولكننا نشعر أن هنالك مجاال للتبسيط والتحديد يتالءم
وعقلية األوالد.
َ
أفضل تحليل للغة هو الذى يقرة على اللغة الحديث ) (Linguisticsاللغة أشبه بهرم
معكوس أى قائم على رأسه.
يقوم هذا الهرم على بضعة أصوات لغوية تسمى الواحدة منها « فونيما » وهى التى يرمز
ً
إليها بأحرف الهجاء .ثم من الفونيمات تتألف املقاطع التى يمكن أن تتألف تبعا لذوق
الشعب الذى يتكلم هذه اللغة أو تلك .ومن املقاطع تتألف الكلمات ذات املعانى املقررة
فى حنايا االختبار .ومن الكلمات تتألف الجمل .وعلى القمة األساليب التعبيرية الجميلة.
وأفضل درس للغة هو الدرس القائم على هذه املراتب:
(أ) مرتبة الصوت( .ب) مرتبة املقاطع.
(ج) مرتبة املفردات(.د) مرتبة التركيب(.هـ) مرتبة األسلوب.
ولك أن تضيف مراتب أخرى كمرتبة املعجمية ،ومرتبة التطور النحوى .ولكن يجب أن
نبقى فى بالنا أن دراسة بعض هذه املراتب ال تقع فى نطاق الدراسة االبتدائية والثانوية
ً
بل تترك للدراسة الجامعية .مثال دراسة اللغة على مرتبة الصوت علم قائم بذته يعرف
بعلم الفونتيك ) (Phoneticsوهو درس يتناول األصوات من ناحيتها الفيزيولوجية
والفيزيائية ،ويدرس مخارجها وصفاتها .وهو درس جليل الفائدة بواسطته نستطيع
تعليل اإلعالل واإلدغام والحذف والزيادة وربما بعض الحركات اإلعرابية .ولكنه ليس
ً ً
درسا فى متناول األطفال واألحداث .ونحن لم نذكر هذه املراتب اقتراحا لتدريسها فى
ً
املدارس االبتدائية والثانوية .كال ،وإنما نستطيع اتخاذ هذا التحليل العلمى أساسا
لوضع القواعد فى ترتيب متناسق متصل يتمش ى وروح اللغة.
ً ً ً
خذ كتب القواعد القديمة منها والحديثة ثم حاول أن تجد فيها فصال واحدا ،أو بابا
ً ً
واحدا ،يبحث الصفة ،كل ما يجب أن يعرفه الولد عن الصفة .ولكنك عبثا تحاول
ّ
ألنك تجد الصفة موزعة بين بابي الصرف والنحو وتحت املوضوعات اآلتية:
-1الصفة -2 .الصفة املشبهة -3 .اسم الفاعل.
-4اسم املفعول -5 .صيغ املبالغة -6 .أفعل التفضيل.
-7النسبة -8 .النعت.
وقد يكون هناك أبواب أخرى فى الصرف والنحو يؤتى فيها على ذكر الصفة فى سياق
ً
البحث .فيخرج الطالب وهم ال يعرفون شيئا عن الصفة .فلماذا ال نعلم الطلبة الصفة
وكل ما يتعلق بالصفة :وزنها ،اشتقاقها ،تثنيتها ،جمعها ،تذكيرها ،تأنيثها ،التفضيل،
املطابقة ،الحاالت اإلعرابية ...إلخ .كوحدة أى كموضوع واحد مترابط األجزاء،
وبمصطلح واحد هو الصفة وفى باب واحد هو باب الصفة ؟
أعتقد أن جمهرة املعلمين يعترفون أن أكثر مصطلحات هذا العلم غامضة .فإن الشقة
بين مدلوالتها األولى وبين ما ترمز إليه فى هذا العلم واسعة وتشكل عثرة ألكثر الطالب:
مسند ومسند إليه ،املضارع ،املبتدأ ،وصيغ املبالغة ،الصفة املشبهة ،ممنوع من
الصرف ،ال محل له من اإلعراب ،صلة العائد ،وغيرها كثير من مصطلحات يفهمها
ً ً
علماء اللغة واملتفقهون .ولكنها ال تعنى شيئا عند أكثر الطالب .وقد قال لنا الطلبة مرارا
ً
وتكرارا :يا أستاذ مصطلحات الصرف والنحو تبخرت !
()73
نحن ال نقترح أن نرمى باملصطلحات كلها إلى البحر .فإننا سنحتفظ فى كتبنا العتيدة
بجملة صالحة من مصطلحات القدامى :إعراب ،صرف ،رفع ،نصب ،جزم .ولكننا
ً
استغنينا عن كثير منها ،واستعضنا عن بعضها بأسماء أسهل فهما ،مثل « موضوع
الكالم » بدل مبتدأ « والفعل الحاضر » بدل الفعل املضارع.وطريقة درسنا للغة بما
فيها من حذف صناعة اإلعراب واالستعاضة عنها بتحليل الجملة إلى عناصرها قد قللت
من عدد املصطلحات.
ليس الغرض النهائى من ضبط اللغة فى أحكام شكل الكلمة وقواعدها وما يطرأ عليها
من تغييرات .يهدف درس اللغة إلى الفهم واإلفهام وحسن التعبير .ولكن اعتبر هذا
التعريف الشائع للنحو ،التعريف الذى ندرسه لطالبنا:
ً ً
( )73لقد وضعنا كتابا فى القواعد ضمناه راءنا فى تعليم العربية .والكتاب ال يزال مخطوطا النتظار فرصة
مواتية لنشره( .هذا كالم د .أنيس فريحة فى هامش الكتاب).
186 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
ً
« النحو علم بأصول تعرف به أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناء .والغرض منه معرفة
اإلعراب الذى هو رفع الفاعل ونصب املفعول ّ
وجر املضاف » ما شاء هللا ! علم نرهق به
أطفالنا لنقول لهم على أي شكل تكون أواخر الكلمات ! وهل الغرض من هذا العلم
اإلعراب ؟ هذا جزء من اللغة ولكنه ليس اللغة.إن كتب الصرف والنحو ،القديمة منها
ً
والحديثة ،تترك فى نفس الولد انطباعا أن مادة الدرس كلمة وكلمات وحركات :ضمة
ً
وفتحة وكسرة ورفع ونصب وجر .أما أن تكون اللغة طريقا للفكر ووسيلة للتعبير،
ً
وتكون اللغة جماال وبهجة ومتعة ،فأمر غير وارد فى البحث .التوكيد فى هذه الكتب على
ً
« أعرب » وعلى « ملاذا ؟ » بدال من أن يكون « أنش ئ »
« وهكذا يقول الناس » .ليس للغة كيان بدون اإلنسان .اللغة من الناس وللناس،
وليست ضمة أو فتحة .اللغة معنى ،ويجب أن تد ّرس على أنها معنى ال شكل.
6.11.3كتب التدريس:
()76
( )4الكتابة العربية
للغة صورتان ؛ منطوقة ومكتوبة واللغة املنطوقة أسبق من الكتابة بقرون طويلة،
فلقد عاش اإلنسان يتكلم مئات السنين قبل أن يصل إلى وسيلة تسجيلية لنقل كالمه
إلى غيره.
أما الكتابة فاختراع حديث نسبيا فى تاريخ اإلنسان ،فقد لجأ إليها عندما تقدمت
املجتمعات وتشابكت مصالح الناس بحيث أصبح من الضرورى ابتكار وسيلة تنقل
أفكارهم ،وبخاصة أن الكالم املنطوق سريع الزوال ال يلبث أن يتالش ى بمجرد نطقه.
أضف إلى ذلك أن إمكانه توصيل صوت اإلنسان إلى غيره إمكانه ضعيفة ال تقوى على
القيام بوظيفة االتصال اإلنسانى فى املسافات البعيدة .واملعروف أن االبتكارات
الحديثة كالتليفون والتليفزيون والحاسوب وغيرها قد استطاعت أن تقوم بهذا الدور
إلى درجة ملحوظة.
ولكن هذا ال يغنى بحال عن الكتابة ،ومن ثم لم يكن بد من اختراع الكتابة لتسهل
مهمة االتصال بين الناس ونقل أفكارهم بعضهم إلى بعض ويروى التاريخ أن الكتابة فى
أطوارها األولى نشأت فى ثالثة مراكز كبرى من مراكز الحضارة ،وهى الصين والعراق
القديم ومصر ،والرأى أن الهيروغليفية املصرية التى كانت فى أساسها كتابة تصويرية
هى أصل الكتابات فى كثير من لغات العالم ،غربه وشرقه على سواء.
والكتابة العربية أصيلة أصالة اللغة العربية ،موغلة فى القدم خمسة عشر قرنا على
أقل حساب ،ومهما يكن القول فى أصولها ومناشئها فإنها استقرت فى ظالل الحضارة
اإلسالمية ،وسارت سيرها نامية متطورة على مر العصور ،حتى أصبحت جال إنسانيا
حافال بثقافات ومدنيات متنوعة متجددة.
ً
وأصول الكتابة العربية أخذت من الخط النبطى الذى كان منتشرا فى شمالى الجزيرة
العربية ،فى الحيرة واألنبار وغيرهما قبل مجئ اإلسالم .والنبط قوم من الساميين كانوا
يتكلمون لهجة رامية ،من تلك اللهجات اآلرامية التى كانت شائعة فى سوريا والعراق فى
ذلك الوقت ،وقد اشتقوا خطوط أبجديتهم من الخط الفينيقى ؛ فقد وضع
الفينيقيون -وهم من األقوام السامية القديمة -نظاما من الرموز ألبجديتهم ،ورثها
عنهم بعض شعوب العالم القديم ،بعد أن أحدثوا فيها بعض التغييرات على مر الزمان.
ولم تقتصر الكتابة العربية فى مجال األداء على ما يكتب باللغة العربية وحدها ،بل لقد
كتبت بها لغات شتى فى سيا وأوربا وإفريقيا إذ استعملها الفرس والترك والهنود واملاليو
واإلسبان وغير هؤالء.
ولقد كان من أسرار انتشارها فى العالم العربى واإلسالمى على تباين لغاته أنها اعتبرت
ً
شعارا للترابط القومى ،والوالء الرو ى بين شعوب متمايزة ،وإن تباعدت بينها الديار
واختلفت السالالت.
والحديث عن نشأة الخط العربى متشعب يشمل نقاطا كثيرة ،كيف نشأ ؟ ومن أنشأه
؟ وكيف تطور ؟ وكيف وصل إلى العرب؟ وكيف اختلفت كتابة كل قوم عن كتابة
غيرهم ؟ إلى غير ذلك من األمور املبسوطة فى املراجع.
ما يهمنا هنا هو الصورة التى وصلت إليها الكتابة العربية ،وما نستعمله اآلن فى كتاباتنا
ومؤلفاتنا.
وقبل أن نتحدث عن صورة الكتابة العربية اآلن ما لها وما عليها ،سنتناول -باختصار -
كانت العناية بالقر ن الكريم ،وصيانته من اللحن ،هى التى دعت العلماء فى الصدر
األول لإلسالم إلى البحث عن طريقة تمنع من يتلو النص القر نى من الوقوع فى اللحن،
وذلك بمحاولة أن تكون صورة الكتابة مطابقة إلى أقص ى حد صورة النطق.
فقد كانت الكتابة العربية خالية من العالمات الدالة على الحركات (الفتحة والضمة
والكسرة) ،لذلك فقد كان كثير من الناس يقعون فى اللحن فى القر ن الكريم بسبب
خلوه من رموز الحركات وتنسب الروايات إلى أبي األسود الدؤلي أنه كان أول من وضع
رموز الحركات ،يضبط بها الرسم القر نى.
ً َ َ ّ ً
مترددا فى بداية األمر ،فأ ْجلسوا رجال فى طريقه يقرأ القر ن بش ىء
وقد كان أبو األسود ِّ
من اللحن ،فقرأ قوله تعالى « :أن هللا برئ من املشركين ورسوله » قرأها بكسر الالم فى
« رسوله » ففزع أبو األسود وطلب كاتبا ،وأخذ يرشد الكاتب ويأمره بالنقط قائال :خذ
املصحف وصبغا يخالف لون املداد الذى كتب به املصحف ،فإذا رأيتنى فتحت شفتى
(ب ب )0وإذا كسرت شفتى فانقط نقطة واحدة بالحرف فانقط نقطة واحدة فوقه َ
(ب ب) وإذا ضممت شفتى فاجعل النقطة بين يدى الحرف (فوقه مع تأخرها أسفله ِّ
ً ُ ً
عنه قليال ُب ب )0فإن أتبعت شيئا من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين (يقصد
عالمة التنوين ٌب بَ ،00ب تِّ ،ب يـ) .ولم يضع أبو األسود عالمة للسكون ،فربما
اعتبر إهماله لها يقوم مقام العالمة.
هكذا كان صنيع أبي األسود الدؤلى فقد وضع رموزا للحركات عبارة عن نقط تكتب
بلون يخالف لون املداد الذى يكتب به املصحف ،وقد كان ذلك يشق على الكاتب ،إذ
ْ
كان يتحتم عليه أن َيك ُت َب بقلمين ومدادين مختلفين.
أما االصالح الثانى فقد كان إعجام الحروف املتشابهة فى صورها كالباء والتاء والثاء،
وكالعين والغين ،ولفظة « إعجام » تعنى إزالة اللبس واإلبهام ،وتذكر كثير من الروايات
بإيعاز من « الحجاج
ٍ أن الذى أعجم الحروف العربية كان رجال اسمه نصر بن عاصم
بن يوسف » ألن َم ْو َج ًه من اللحن كانت فشت فى العراق ،وكان جيل من القراء قد مات،
ُ
وع َّم التصحيف ،والتصحيف هو وقوع القارئ فى التباس عند قراءة فك ُث َر الخطأ َ
َ
حرفين متشابهين فى الصورة إذا لم يكن هناك من إشارة تفرق بينهما ،فقد كان بعض
الرموز ُي ْس َتعمل ألكثر من صوت ،فرمز (بـ) كان يستعمل للباء والتاء والثاء والنون
والياء (فى وسط الكلمة) ورمز (ح) كان يستعمل للجيم والحاء والخاء ،لذا فإن كلمة
مثل كلمة « نتلو » كان يمكن أن تقرأ « تتلو » أو « نتلو » أو « يتلو » ،وكذلك كلمة «
ُ
بيت » التى يمكن أن تقرأ بنت ،نبت ،ت ْبت ،ثبت.
فلما أراد نصر بن عاصم ويحيى بن َي ْع ُمر إصالح ذلك قررا بعد تفكير ومراجعة إدخال
هذا اإلصالح ،وهو:
« أن توضع النقط أفرادا وأزواجا لتمييز األحرف املتشابهة فلتمييز الدال من الذال
ُ
ُت ْه َمل األولى وت ْع َجم الثانية بنقطة واحدة علوية ،وكذلك الراء والزاى ،والصاد والضاد،
والطاء والظاء.
فى هذه املرحلة إذن نوعان من النقط ،نقط الشكل الذى وضعه أبو األسود الدؤلى،
ونقط اإلعجام الذى وضعه نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر ،لذا فقد وضع هذان
العاملان نقطهما بنفس املداد الذى كان يكتب به املصحف ،حتى ال يختلط نقطهما
.3.4اإلصالح الثالث:
جاء هذا اإلصال ح لى د اعبقرى اعبىق اعلىد ق حمد قر ابق اعاا ق لع قا حدد اإلصالح
األول الذى أدخله أبو األسود الدؤلى ،واإلصالح الثانى الذى أدخله نصر بن عاصم ،أما
فى زمن دولة بنى العباس فقد مال الناس إلى أن يجعلوا نقط الشكل بنفس مداد
الكتابة تسهيال لألمر ،ألنه ال يتيسر للكاتب أن يجد -فى كل وقت -لونين من املداد،
فكان من نتيجة ذلك أن اختلط الشكل باإلعجام ألن كل منهما يعبر عنه بالنقط ،ورأى
الناس حينئذ أنه البد من إصالح ثالثَّ ،إما بتغيير طريقة الشكلَّ ،
وإما بتغيير طريقة
اإلعجام.
وعنى الخليل بن أحمد الفراهيدى بهذا األمر ،وكان أوسع الناس علما بالعربية فوضع
طريقة أخرى للشكل.
تذوق الخليل الحركات قصيرها وطويلها ،أى جربها نطقا ،فوجد أن هناك عالقة بين
هذه الحركات ،وجد أن الفتحة القصيرة فى « كتب » نصف الفتحة الطويلة نطقا فى «
كاتب » وعالمتها األلف ،وأن الكسرة القصيرة فى « ِّبع » نصف الكسرة الطويلة فى « يبيع
ُ
» ورسمها الياء ،وأن الضمة القصيرة فى « ق ِّت َل » نصف الضمة الطويلة فى « قوتل »
ورمزها الواو .وبذلك وصل إلى تلك النتيجة البارعة ،بما أن الحركات القصار أنصاف
الحركات الطوال نطقا فينبغى أن تكون العالمات أيضا على هذا النسق .ومن ثم جعل
َ
عالمة الفتحة ألفا صغيرة مستعرضة ( ـ) توضع فوق الحرف ،ورمز الكسرة ياء صغيرة
راجعة ( ِّـ) تكتب تحت الحرف ،وعالمة الضمة واوا (و) صغيرة فوق الحرف .ومعنى ذلك
َ
كله أنه َّملا كانت الحركات القصيرة أنصاف الحركات الطويلة نطقا فكذلك تكون
عالماتها وإذا كان الحرف منونا كرر الحرف الصغير ،فكتب مرتين فوق الحرف أو
تحته.
ولم يكتف الخليل بن أحمد بوضع هذه الرموز للحركات القصيرة فحسب بل إن كثيرا
من الرموز األخرى التى نستخدمها فى الكتابة إلى يومنا هذا ،من صنع الخليل كذلك
مثل:
أ -رمز السكون :وهو عبارة عن رأس خاء صغيرة (حـ) -دون نقطة -توضع فوق الحرف
اختصارا من كلمة خفيف بمعنى غير محرك ،وهذه العالمة مازالت مستعملة حتى اآلن
فى الرسم القر نى ،أما فى الكتابة العادية فقد تحولت إلى دائرة صغيرة.
ب -رمز الشدة :وهو عبارة عن رأس شين صغيرة (سـ) -دون نقط -توضع فوق الحرف،
وهو مختصر من كلمة « شديد ».
جـ -عالمة همزة الوصل :وهى رأس صاد صغيرة (صـ) توضع فوق ألف الوصل دائما،
ومازالت هذه العالمة مستخدمة فى رسم املصحف.
د -رمز الهمزة :ولم يكن رمز الهمزة الذى نستخدمه اليوم معروفا فى الكتابة قبل
الخليل بن أحمد ،وهو عبارة عن رأس عين صغيرة (عـ) فقد اقتطع هذا الرمز من
العين ،ولذلك يسمى فى بعض األحيانُ :
(القطعة) ،ولعله اقتطعه من العين لقرب
الهمزة من العين فى املخرج.
والسبب الذى دعا الخليل بن أحمد إلى وضع رمز للهمزة أن الرمز القديم لها وهو
األلف (أ) اكتسب عند الحجازيين صفة الداللة على الفتحة الطويلة مع أنه الرمز
األصلى للهمزة ،ولو أن الخط شاع وانتشر أول األمر ،فى بيئة تستخدم الهمز فى كالمها
كبيئة تميم مثال ،لوجدنا الهمزة تصور بصورة األلف دائما وفى أى موقع للكلمة.
وعندما ابتكر الخليل رمزا للهمزة -لتستكمل به الكتابة العربية عدتها فى مطابقتها
للنطق العربى الفصيح الذى استعار التزام الهمز فى الكالم من لجهة تميم -لم ُي ِّرد
الخليل أن يغير الرسم االمالئى الذى كان قد استقر وشاع ،فاخترع هذا الرمز الجديد
واقتطعه من رأس العين ووضعه فى الكلمة حيث وجد له حامال ،فالحامل له فى « رأس
» األلف ،وفى « :بئر » الياء ،وفى « يؤمن » الواو ،وفى :سماء ال يوجد حامل فوضع الهمزة
لذلك على السطر بال حامل.
وهذا النظام من الكتابة يعنى بتصوير الكالم املنطوق كتابة ،وهو ما نستعمله اآلن فى
حياتنا العامة ؛ فى املؤلفات والخطابات واملحاضرات ..إلخ ،وهذه األبجدية هى األصل،
وقد نشأت نشأة تصويرية ،أى كانت تعبر عن الكالم بطريق التصوير .وبمرور الزمن
وبإدخال كثير من التعديالت عليها صارت كتابة تعتمد على الحروف والرموز املعهودة
فى اللغات املختلفة واملفروض فى األبجدية اإلمالئية أن تكون قادرة على تمثيل النطق
تمثيال صادقا ،ويبدو أن هذا هو ما حدث بالفعل فى بداية األمر ،حيث خصص حرف
مستقل لكل صوت ،كأن يخصص للباء حرف وللتاء حرف خر وهكذا مثال.
ولكن املالحظ أن األبجديات اإلمالئية املتبعة فى كثير من األمم ال تفى اآلن بهذا الشرط
األساس ى .ففى اإلنجليزية مثال يمثل الصوت الواحد اآلن بعدد من الرموز املختلفة ،كما
أن ما ينطق ال يطابق ما يكتب فى كثير من األحيان .والسر فى أن األبجديات اإلمالئية ال
تقوى على مطابقة النطق أحيانا أسباب كثيرة أهمها (:)77
-1اختالف النطق فى البيئات املتعددة التى تنتمى إلى لغة واحدة ،فاألبجدية ذات
النظام الثابت ال تقوى على مقابلة هذه االختالفات الصوتية فى هذه البيئات.
-2اللغة تتطور تطورا سريعا من وقت إلى خر ،على حين تبقى األبجدية ثابتة كما هى
بدون تعديل أو تغيير .ومن ثم تصبح هذه األبجدية عاجزة عن مقابلة التطورات التى
حدثت فى اللغة.
وكان املفروض أن تخضع األبجدية هى األخرى لنوع من التعديل أو التطور حتى تالحق
اللغة فى هذا الشأن .ولكن الناس منذ القديم يحجمون عادة عن تغيير األبجديات أو
حتى تعديلها ،ألسباب كثيرة:
تعديل األبجدية مهما كان نوعه ال يمكن أن يفى بحاجة النطق الفعلى للغة .فبعض
اللغات ذات انتشار واسع وهى بهذا تحتوى على لهجات عديدة .فإذا أخذنا بمبدأ
التعديل وجب أن نخصص أبجدية لكل لهجة ،وفى هذا خطورة على الوحدة القومية.
فكان األولى إذن االحتفاظ بأبجدية واحدة تجمع الناس على طريقة واحدة .مهما
تعددت لهجاتهم.
تعديل األبجدية يفصل الحاضر عن املا ى .فاللغة فى القديم مكتوبة بطريقة معينة
وأى تعديل فى هذه الطريقة يجعل من الصعب قراءة القديم وفهمه .وفى هذا خسارة
قومية وال شك.
التعديل يعنى ضمنا أن اإلنسان فى الفترة الواحدة عليه أن يتعلم أبجديتين أو أكثر:
واحدة لقراءة القديم وأخرى معدلة قراءة الحديث.
التعديل ينتظم مشكلة اقتصادية ،فالتعديل يحتاج إلى أموال كثيرة ،إما بسبب
التعديل نفسه أو إلعادة كتابة التراث القديم.
لهذه األسباب وغيرها قنع العلماء باألبجدية اإلمالئية على ما فيها من نقص وعيب.
ورأوا أنه بش يء من التعليم والخبرة يمكن لل خص العادى أن يستوعب نظام الكتابة
فى لغته وأ ن يستعملها بسهولة ملحوظة .أما ما قد يظهر فى هذه األبجديات املعيبة من
صعوبات فمن املستطاع أن يتغلب عليها اإلنسان بطريقة أو بأخرى.
أما األبجدية العربية أو الكتابة العربية فقد ووجهت فى هذا القرن -األستاذ الدكتور
طالب عبد الرحمن( - )78بانتقادات ومطاعن أشارت إلى مثالب ومعايب فيها .وقد كثر
الحديث عن هذه النواقص فى الكتابة العربية ،وكانت البداية عندما أصدر وزير
ً
املعارف املصرى الدكتور محمد حسين هيكل قرارا عهد بموجبه إلى املجمع بدرس ما
من شأنه تيسير الكتابة العربية ،وذلك بناء على اقتراح من عبد العزيز فهمى فى جلسة
سابقة للمجمع « بوضع طريقة لرسم الكتابة العربية تقى القارئ اللحن والخطأ -مما
حدا بمجمع فؤاد األول للغة العربية إلى أن يؤلف سنة 1938م لجنة من العرب
واملستشرقين كى يدرس هذه املشكلة ،ويعمل على حلها وتقديم بديل للكتابة العربية
يخلصها مما علق بها من شوائب ،ويزيح عنها مواطن الخلل فيها .وبعد ست سنوات من
عمل اللجنة ،أعلنت سنة 1944عن منح جائزة قدرها ألف جنيه مصرى لصاحب
أفضل اقتراح فى هذا الخصوص .وكانت حصيلة ذلك أن انهالت االقتراحات ووصل
عددها إلى أكثر من مائتى اقتراح ،بحث املجمع اثنين منها ،أولهما لألستاذ على الجارم،
وثانيهما لعبد العزيز فهمى.
أما املآخذ التى وجهت للكتابة العربية ،فأولها ما يكثر من تدوين األحرف وهى خالية من
الحركات (الفتحة والضمة والكسرة) ،وإذا ما استخدمت تلك الحركات فإنما يقتصر
ُّ
ذلك على الكتابات املوجهة إلى الشداة واملبتدئين.
وفى هذا يقول األستاذ محمود تيمور إن األقدمين ابتكروا عالمات للضبط توضع على
الحرف ،نفيا للخطأ ،ورفعا للبس ،واألمة فى جملتها يؤمئذ مستقيمة األلسن ،صافية
السالئق ،فصيحة اللهجات.
ولقد بلغ من شعور األقدمين بضرورة الضبط ،أنهم لم يكونوا يقتصرون على وضع
املهمة للكلمات التىاملقررة ،بل لقد كانوا َي ْل َج ُئو َن إلى التعبير فى املواضع َّ
ّ العالمات
األول وسكون الثانى خشو ْن عليها االلتباس .فيكتبون مثال أن الكلمة بفتح الحرف ّ َ َ
ي
خوف َّ ُ
التصحيف والتحريف ،بل وضم الثالث وكسر الرابع .وما بعثهم على ذلك إال
ُّ َّ ُ َ َ َ
تذهب عالمات الضبط ،أو أن يستثقل النساخ نقلها بالتعبير .وليس لعلهم خشوا أن
أبلغ من هذا دليال على فاهة شعورهم بنقص الحروف العربية َ َ
وحدها فى األداء، ر
س فيه.ضبطا ال َل ْب َ
ً
وبقيام الحاجة إلى ضبط الكلمات
فأما نحن فإننا فى ُم ْس َت َه ِّ ّل نهضتنا الحديثة ،حين بدأنا نتخذ الطباعة وسيلة للتدوين،
ً
العربية عارية عن عالمات الضبط للكالم. ٍ اكتفينا بالحروف
َّ ً َ
سالئق من العرب الخلص فى العصر َ فهل مبعث ذلك أننا َع َد ْدنا أنفسنا عربا أقوى
غير مضبوطة ؟ وأقدر منهم على ما ْيك َتب بالحروف العربية َ َ األم ِّو ّى،َ
أمر يتعذر على َّ اءة صحيحةٌ ، ً
املثقفين غير املضبوط قر ال خالف على أن قراءة الكالم ِّ
املختصين فى اللغة ،الواقفين حياتهم على دراستها ،ال يستطيعون ذلك إال ّ عامة .بل إن
ً ّ
َّ
يتسنى باطر ِّاد اليقظة ،ومتابعة املالحظة ،وإن أحدا منهم إذا َح َرص على أال يخطئ ،ال ِّ
له ذلك إال بمزيد من التأني ،وإرهاف الذاكرة ،وإجهاد األعصاب.
َ ُ
لم يكن مبعث اقتصارنا فى الطباعة على الحروف العربية دون ضبط أننا وجدنا فيها
ُ
إدخال عالمات ص ُع ُب معها ُغ ْن َي ًة وكفاية ،وإنما كان مبعثه أن أوضاع الكتابة العربية َي ْ
َ
فى املطابع ،فلم ُي َت ْح لهذه العالمات أن تأخذ مكانها على الحروف املطبعية إال فى أحوال
قليلة ،وضرورات خاصة فى مقدمتها بعض الكتب املدرسية الخاصة باللغة العربية،
ً ً
مثل كتب النحو والقراءة ،وكان لهذا أثر سيئ فقد أشاع بين املثقفين شعورا نفسيا
نحو هذا الشكل ،شعور استعالء عليه ،وأنفة منه ،إذ توهموا أن الضبط ال يكون إال
للصغار ،وعار أن تضبط الكتب التى توضع بين أيدي املثقفين .وهذا الشعور وهمي ال
أساس له ،وال حق فيه ،فهو لون من ألوان الغرور يتواضع عليه الناس ،وأول ما يجب
أن نؤمن به هو أن كتابتنا العربية غير املضبوطة ،كتابة ناقصة(.)79
فاملأخذ األول الذى انتقدوا به نظام الكتابة العربية هو عدم تدوين الحركات مع
الحروف مما يقود إلى عدم الدقة فى قراءة النص العربى إال إذا كان القارئ ملما أصال
بقواعد العربية نحوا وصرفا ؛ وكان على علم مسبق بما يقرؤه .وهذا على رأى قاسم
أمين خالف القاعدة ،ففى معظم اللغات األوربية » -كما يرى -يقرأ الناس قراءة
صحيحة ما تقع عليه أبصارهم ،أما نحن فال نستطيع أن نقرأ قراءة صحيحة إال إذا
فهمنا أوال ما نقرؤه.
و كذلك -فى رأيهم -ربما يقود ذلك إلى قراءات مختلفة للنص العربى تبعا لذلك ،وفقا
للهجة القارئ األصلية ،فاللهجات العامية بعيدة عن الفصحى ،مما يجعل البون واسعا
بين ما يجب أن يقرأ وما ُيقرأ فعال .واملأخذ الثانى على الكتابة العربية هو تعدد صور
الحرف الواحد ،فحرف الباء -مثال -يكتب بأربعة أشكال ،فيتغير شكله وفقا للجهة
التى يتصل بها (من اليسار ،أو من اليمين ،أو من الجهتين ،أو غير متصل) .وقد سبب
هذا العيب فى رأيهم جملة من املشكالت منها إحداث االرتباك والبلبلة عند الشداة
واملبتدئين من املتعلمين ،وإطالة الوقت الالزم لتعلمهم الكتابة ،وتكليف املطابع نفقات
كثيرة بغية الحصول على عدة نماذج لكل حرف من حروف الهجاء.
واملأخذ الثالث هو قيام التفرقة بين مجموعات الحروف على أساس عدد النقاط
ومواضعها ،مع تساوى شكل الحروف .مما قد ينتج عنه اضطرار الكاتب إلى مراجعة ما
يكتب ليضع النقاط فى أماكنها املناسبة ،وفى هذا إسراف فى الجهد والوقت ،وكذلك
إجهاد القارئ لكثرة الحروف املنقوطة وتعرضه لالرتباك والخطأ فى القراءة .وهذا ما
دعا بعض الكتب واملعاجم إلى النص على عدد النقاط ومواضعها ،كقولهم فى كلمة
حبل :بالحاء املهملة والباء املعجمة َّ
املوحدة من تحت ..إلخ(.)80
وقد نوقشت هذه االنتقادات ،و ُر ّدت على أساس أنها غير صحيحة ،وأن الدعوة إلى
تغيير الكتابة العربية مؤامرة على ركن علمى وفكرى من أركان األمة ،وهى مثل الدعوة
إلى العامية ،وإلغاء اإلعراب وأن تبديل الكتابة العربية يعنى احتياج القارئ للتراث
العربى إلى التدرب على قراءة الخط العربى ،وهذا يعنى فصم العالقة بين العربى وتراثه،
وأن الخط العربى يتسم بجمال وإمكانات فنية كبيرة وقد الحظ األستاذ الدكتور طالب
عبد الرحمن أن دعوات الرافضين للكتابة العربية فيها إيحاء بأن العيوب املنسوبة إلى
الكتابة العربية خاصة بها وتنعدم أو تكاد فى الكتابات األخرى ،صحيح أن قسما منها
أشار إلى بعض تلك العيوب فى لغات أخرى ،كاللغات السامية ،ولكن إشارتهم تلك كانت
عجلة عابرة ،فى حين ُبولغ فى إبرازها وتضخيمها فى العربية.
ً ُ
فهموا العربى أن تلك العيوب قاتلة ،وأن فيها دمارا للتعلم، أنهم سعوا ِّإلى أن ي ِّ
واالستيعاب ،وأنها جعلت الكتابة العربية واحدة من أسوأ الكتابات فى العالمِّ ،إن لم
تكن أسوأها .وأضاف أنهم أغفلوا ميزات الكتابة العربية ،فقدموا بذلك صورة غير
( )80نحو تقويم جديد للكتابة العربية ،وكذلك « الكتابة والقراءة وقضايا الخط العربى » ص.34
200 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
َ
الحل فى بيان ال أ ُع ُّد ُه إال وثيقة تاريخية من أنفس وثائقنا التى تعالج مشكالتنا ّ
ِّ
ّ ُ
بتجلية ما ِّيرد على هذا الحل من َ َ
الثقافية .وقد تكفل فيما أفاض فيه من بيان،
ِّ
بالرد والتفنيد .فلم َي َد ْع فى هذا يعقب ّ ّ َ َّ
مختلف االعتراضات ،وعقب عليها ما شاء أن ِّ
ومجمل ما رأى معاليه أنه لجأ إلى املناداة باتخاذ الحروف الالتينية املنحى زيادة ملستزيدْ . َ
بعد أن بحث عن طريقة لتيسير الكتابة العربية مع استبقاء حروفها الحالية ،فلم
املحببة لنفسه ُ يظ َف ْر بتحقيق هذه األمنية َّ َ
وألنفس أهل العربية .ولذلك لم يجد ىبدا من
ُ ْ
تقريب بين ٍ شاعت فى أكثر لغات العالم .فهى وسيلة اختيار هذه الحروف الالتينية التى
ً األمم ،وهى مع ذلك قد ُمور ْ
ست فى الطباعة ،واكتسبت َم َرانة فى االستخدام ،وأثبتت ِّ
ويسرها فى ضبط كتابة اللغات األجنبية .ولكنه أدخل عليها من ضروب التعديل قدرتها ْ
ُ ّ ً ُ
تجعل كل حرف فى الكلمة يدل بذاته على العربى ،بحيث ِّ يناسب ضبط الكالم ما
ً
صورته الصوتية داللة صادقة ال لبس فيها وال إبهام.
ذات عالمات حل محل حروفنا العربيةِّ ، واملنحى الثانى :هو اختراع حروف جديدة َت ُّ َ
احبت مراميه املنحى من الحلول ،وتر ْ للضبط مالئمة لها .وقد تكاثر الواردون على هذا َ
ويق ُربون أو َي ْب ُعدون عن َ
صور التصور والتفكيرْ ، ّ للفنانين ،يبتكرون ما ُيو ى إليهم
ُ َ
يتوافر له الحروف العربية القائمة ،وربما كان فى ألوان هذه الحروف املخترعة ما
والي ْسر ،وسائر املزايا التى ال تتوافر للحروف العربية أو واالختصار ،والسهولة ُ ُ ُ
الجمال
املجال أمامهم لطليقُ ، َ ً
يتيح لهم الالتينية جميعا .فما على املخترعين من سبيل ،وإن
َ ً َ َّ
حرية اإلنشاء ،وال يقيم حيالهم عقبة مما هو قائم عتيد .ولكن األخذ بحروف مخترعة
عهد بها ألحد يتطلب شجاعة النفس،واالستعداد لقبول الجديد الغريب أكثر مما ال َ
بت لها بنى للحروف املخترعة التى لم َت ُث ْ الت َ يتطلب األخذ بطريقة الحروف الالتينية .ألن َّ
ثبتت كفايتها فى شق ُك ْل َف ًة من اقتباس حروف متعا َ فةْ ،
ر كفاية ،ولم ُت ْع َر ْف لها َم َرانةَ ،أ ُّ
األداءُ ،وكف ْ
لت َم َرانتها فى العمل. ِّ
َ ُ ُ
يالحظ اإلبقاء على الحروف العربية القائمة ،مع اختراع عالمات للضبط وثالث املنا ى
َ ً
فى اختراعها أن تكون ميسورة على املطابع ،واهحة للقارئ ،فت َ
لحق هذه العالمات بتلك
الحروف.
َ
صورتها املألوفة، يب أن حروفنا العربية إذا لح َق ْت بها تلك العالماتَ ،
أفقدتها وال ر َ
ِّ
وأفاضت عليها َم ْس َحة من التفكير والغموض.ْ
ً
بادئ َبد ِّء على أن
معا فى ضرورة االتفاق َ َ
واملنحى األول والثانى َ
املنحى يلتقى هو فهذا
ْ
ننز َل عن حروفنا العربية فيما ِّألفنا من صورها. ِّ
ص َّباملنحى الرابع فهو اإلبقاء على الحروف العربية وعالمات ضبطها ،على أن ُت َ وأما ْ
تحيد عنه ،وال ُت ْف َ َ ْ
لت منه .فتبدو عالمة الضبط مع الحرف فى ِّبن َية واحدة ،حتى ال
َ ُ
الحروف املطبعية معها ضبطها متصال بها ،ليس بينهما من تف ُاوت.
ُ ْ
كأداء ،أوالهما فنية، وهذا املنحى -فى رأى تيمور -تقوم فى وجهه عقبتان ،كلتاهما
ُ َ
صندوق الحروف العربية فى أوضاعها القائمة كثير الصور، واألخرى اقتصادية .فإن
َ ُ َّ َّ
ائة َعين ،ولو أضيف إلى الصندوق صور يعيا به الصفافون ،إذ يبلغ أكثر من ِّ
ثالثم ِّ
َْ
ّ ُ
عالمات الضبط على اختالفها ،الزداد جهد القائمين بصف جديدة من الحروف عليها
َ َ
الكلمات أضعافا مضاعفة ،والستنفد من أوقاتهم بضعة أمثال ما يستنفدون اآلن.
للعنت .ولذلك ال يقبل مجلبة َ َ املنحى َم ْدعاة لكثرة التكاليفْ ،
مض َيعة للوقت، فهذا َ
تنفيذه الطابعون ،وال ير ى به الناشرون .وال سيما فى عصر َ َ
طاب ُعه السرعة والتيسير.
ً
وثمة منحى خامس ،وهو وضع عالمات الضبط بجانب الحروف ،منفصلة عنها،
كالشأن فى الحروف الالتينية ،ال كما توضع العالمات اآلن فوق الحروف أو تحتها.
تتغير أوضاع الكتابة العربية فى تركيب الكلمات ،لكى يكون بعد وهذا الحل يقتض ى أن َّ
عالمة الضبط ،وأن ُي َ ُ فسح ُّكل حرف ُم ْن َ
فصل بين حروف الكلمات بهذه تحل به
ُ
العالمات .وإذن تبدو صور الكلمات فيها ن ُب ّو عن املألوف .يضاف إلى ذلك تفوت مزية
الفصل بين حروفها بعالمات ضبطها يضاعف َح ْج َمها. َ االقتصاد فى حجم الكلمة ،فإن
ُ ً
االقتصار على الحروف املنفصلة ،تسهيال لوضع عالمات وخاتمة املنا ى الستة هو
ً
الضبط عليها ،وتخفيفا على صندوق الحروف فى املطبعة العربية.
يزيد فى َّ
الحي ِّز املقسوم للكلمات، املنحى َم َغامز من جهات مختلفة .فهو أوالُ : وفى هذا َ
وثانيا :ال يحمى من َخفاء الكلمة أو َل ْ ً
وهلة ،الفتراق ِّ وهذا تفويت ملزية االقتصاد.
وثالثا :يقتض ى يقظة ورعاية للفصل بين كل كلمة وكلمة ،ولو وقع ُ ً
التهاون فى حروفها.
ُ َ
هذا الفصل -وهو واقع ال أمان منه -الختلطت حروف الكلمات بعضها ببعض،
يمي َز كل كلمة فى جملتهاْ ، َّ
ولتعذ َر على القارئ أن َّ
ويف ُرق بينها وبين الكلمة التى تتلوها.
أما املنادون باستعمال الحروف الالتينية فقد وجهت إليهم االنتقادات واالعتراضات،
ذلك ألن األمر ليس سهال من ناحية نفسية حظرية ،ذلك أن اللغة األم هى بمعطياتها
األساسية فيض من ذات األمة وجزء من شخصيتها ،وليست كاللغة األجنبية بالنسبة
لها :مجرد أداة تخاطب ونقل لألفكار والثقافة( ،)82ثم ما مصير تراث هخم يمتد على ما
يزيد عن ألف عام مكتوب بالحرف العربى ،ففى هذا قطع للصلة بين القديم والجديد.
فإن كانت املقارنة بين الحروف الالتينية والعربية أظهرت بعض أدوار الكتابة العربية
التى من أهمها عدم إثبات الحركات فى الكلمة ،إال أننا لو تصورنا الكلمات العربية
بالحروف الالتينية كما فى كلمة (يتناولونها) فستكون هكذا ،Yatanaawaloonahaa
فتكتب بسبعة عشر حرفا ،فى حين أنها تكتب فى العربية بعشرة حروف ،تسعة منها
متصلة فهل يريد دعاة نبذ الكتابة العربية واطراحها هذه النتيجة ؟ وأيهما أدعى إلى
الخطأ فى الكتابة واإلمالء :الكلمات الصغيرة أم الكلمات الكبيرة ؟ وأيهما يستغرق وقتا
أكثر فى الكتابة ؟ وأيهما يستنزف الجهد()83؟
كذلك فإن العربية ال تنفرد بجعلها الحركات منفصلة عن االمتداد األقص ى للكلمة،
وعدم الدخول إلى صلبها ،فنجد األمر نفسه فى العبرية والسريانية والفرنسية ،ففى
العبرية عشر حركات تكتب فوق الحرف أو تحته .ونجد الفرنسية تعمد إلى أساليب
قريبة من ذلك فى صوائتها ،كوضع خطيط مائل إلى اليمين ،و خر مائل إلى اليسار على
حرف ) .(eويالحظ إهمال كثير من الكتاب فى العبرية والسريانية والفرنسية لتلك
الحركات ومن هنا جاء التعبير الفرنس ى :وضع النقاط على الحروف.
واملنافحون عن نظام الكتابة العربية كثيرون ،فقال البعض إن استعمال األحرف
املنفصلة كليا ،التينية كانت أم عربية ال يتماش ى مع وجه الكتابة العربية وروحها ،ولو
افترضنا أن األخذ به ممكن العترضتنا صعوبات كثيرة أبرزها البطء فى الكتابة ،وإمكان
اختالط حروف الكلمات وصعوبة التشكيل.
وحاول البعض التماس العذر للكاتب العربى وليس للكتابة العربية ،فيقول د .طالب
عبد الرحمن إنه البد من الفصل بين أمرين :النظام الكتابىَ ،وم ْن يستخدم هذا
ّ
النظام ،فالنظام الكتابى العربى وفر ملستخدميه الوسائل الكاملة للتعبير عن كل
ً
صوت تعبيرا دقيقا أى حروف األبجدية والحركات والرسم .وال تثريب على الكتابة
ً ً
العربية نفسها إذا ما أهمل الكاتب (ال الكتابة) كسال ،أو إهماال ،أو تعجال ،أو إحساسا
ً
واجبها كامال وال تتحمل وزر وجود عاميات بعيدة أو قريبة منها.
ً
-3لم تقف الكتابة حائال بين النطق الفصيح من جهة ،والنطق اللهجى من جهة .وخير
دليل على ذلك هو أن أى صوت عربى إذا ما جاءت بعده ألف فالبد أن يكون ذلك
ً
الصوت مفتوحا (مثل :قال ،حال ،)....ومن ثم ال نحتاج إلى تحريك الحرف السابق
لأللف ..وبالرغم من هذه الحقيقة اللغوية املعروفة ،نجد أبا عمرو ،والكسائى،
ً
والدورى ،واليزيدى ،والحلوانى جميعا يقرأون كلمة (الناس) فى القر ن الكريم باإلمالة.
أما النص على الحركات ،كقولهم( :القدس ،بالقاف املضمومة املثناة من فوق ،والدال
املهملة) ،فغريب أن يؤخذ هذا مأخذ الدليل على الكتابة العربية ،من غير فهم مرامي
املؤلفين ،والظروف التى ساعدت على نشوء هذا التقليد.
فمن املعروف أن النا خ القديم للمخطوطة (وهو نظير الطباع فى أيامنا) ،قد ال يكون
ً
ملما باملادة املكتوبة ومن ثم يكون عرضة للزلل .وإذا كان املؤلف الحالى يكتفى بمراجعة
نسخة واحدة من املطبوع قبل إخراجه النهائى ،فإن املؤلف القديم لم يكن فى وسعه إال
ً ُ
مراجعة نسخ قليلة جدا تقرأ عليه ،ثم يقوم نساخ خرون (وقد يكون ذلك بعد مئات
السنين من وفاة املؤلف األصلى) باستنساخ املخطوطة نفسها .فكيف يضمن املؤلف
ً
وقاية كتابة من التصحيف والتحريف ؟ ال عجب إذا أن يحتاط املؤلف فيلجأ إلى هذا
األسلوب .وال أدرى كيف كان هؤالء املنتقدون سيحلون هذه املشكلة لو كانوا قد
ً
عاشوا فى زمن خال فيه من الطباعة ؟ ويعزز قولنا هذا اختفاء هذه الظاهرة عموما من
املطبوعات الحديثة ملؤلفى زماننا ،النتفاء الحاجة إليها.
أما الزعم بأن هذا الخلل يشيع اللحن ،ويعمل على انحالل الفصحى ،فزعم ال يخلو من
الخطل .فالعربية الفصحى لم تنحل فى قرون من الزمن لم يتجاوز عدد الذين يعرفون
ً
القراءة والكتابة أفرادا قالئل فى املدينة الواحدة ،فهل تنحل فى القرن العشرين ،وقت
الدعوة إلى تبديل الكتابة العربية ،فى وقت تؤول فيه األمية إلى االنقراض ،وتمض ى
ً
العامية صعدا مقتربة من الفصحى ؟
أما إشاعة اللحن ،فقد سبق ْأن قلنا :إن نظام الكتابة العربية نفسه ال يعانى من
نقص ،وإنما النقص فى مستخدميه الذين ال يفيدون فائدة كاملة مما يقدمه لهم.
ً
وغريب حقا أن يدعو أولئك الداعون إلى إلغاء نظام بكامله وإحالل نظام جديد محله،
ً ()84 ً
بدال من استخدام الحركات املوجودة أصال !
أما عن القول بتعدد أشكال كتابة الحرف الواحد كمطعن فى نظام الكتابة العربية -
فيقول:
ً
ال يقتصر هذا األمر على العربية ،فاإلنجليزية مثال تكتب حروفها بأربعة أشكال :كبير
ً
وصغير وكل منهما يكتب بشكلين :كتابة منفصلة وأخرى يدوية .ونجد فى العبرية حروفا
ً ً
طباعية كما نجد أشكاال يدوية كما أن السريانية تكتب الحرف بأربعة أشكال أيضا.
يستشف الناظر إلى األشكال املتعددة للحرف العربى الواحد عالقة وثيقة قد ال يجدها
ً ً
فى غيرها من الحروف األجنبية ،فحرف الفاء مثال يكتب منفصال على هذا النحو :ف،
ّ ُ َ ً ً
مد خطيط أفقى من الجهة التى يتصل بيد أن هناك مبدأ عاما فى الكتابة العربية وهو
ً
بها بحرف خر ،ومن ثم يقتصر الشكل الجديد املتصل للحرف ،قياسا بشكله
املنفصل ،على مراعاة هذا االتصال بإجراء تحوير طفيف عليه لتسهيل عملية
االتصال.
ً ً
فإذا وصلنا الفاء السابقة من اليسار ،فى كلمة (فلس) ،فإننا لم نكتب حرفا جديدا كل
الجدة غير ذى عالقة بالشكل املنفصل للحرف ،وإنما اقتصر عملنا على إزالة االرتفاع
الرأس ى فى نهاية الجهة اليسرى بغية إتمام عملية الوصل .أما الجانب األيمن فبقى على
حاله ،واألمر نفسه يحدث فيما إذا اتصلت الفاء بالجهة اليمنى ،مثل :أنف .وال أعتقد
أننا نحتاج إلى دليل إلثبات أن الفاء فى (أنف) هى نفسها فى كلمة (جاف) ،حيث الفاء
منفصلة ..وما قلناه عن الفاء ينطبق على معظم الحروف العربية التى يمكن وصلها.
ً
فالعالقة إذا ،بين األشكال املختلفة للحرف الواحد عالقة وثيقة ال يخطئها العقل
اإلنسانى ..بعبارة أخرى ،ال يحتاج الذهن اإلنسانى إلى الجهد ليستنتج التشابه املوجود
بين (ت) و(تـ) .أو بين الباء فى (برتقال) والباء فى (قريب) ،وإن كانت اآللة (ال العقل) تنظر
إلى كل منهما على أنه شكل منفصل كل االنفصال عن األشكال األخرى.
وقمين بنا أن نشير إلى العالقة بين مجموعة من األحرف الالتينية قد تكون معدومة،
مثل (g) :و ) ،(Gو ) (Aو ) ،(aو ) (Hو ).(h
ويسأل :هل هذه البلبلة والتأخر فى تعلم األبجدية مستنبطان بالعقل أم أنهما ثابتان
ً
تجريبيا ؟ هل كان تعدد أشكال الحرف الواحد خلال فى الكتابة العربية ،أم أنهم أقاموا
كالمهم على دراسات علمية ،خاصة باملوازنة بطالب أجانب يدرسون لغات أخرى ؟ وإذا
كان التلميذ العربى يتباطأ فى تعلم األبجدية موازنة بنظيره األجنبى ،فهل يعود السبب
ً
إلى كون الحرف العربى الواحد يتخذ أشكاال عدة ( مع مالحظة تساوى املتغيرات
األخرى ،مثل عمر الطالب ،ونوع املعلم ...إلخ) ؟ وما املدة التى يتخلف فيها العربى ِّ -إن
ً
تخلف فعال ؟ ونحن ِّإنما نتساءل ألننى لم أعرف -على قدر ما أعلم -بوجود مشكلة من
ً ً
هذا النوع (وقد كنت يوما ما تلميذا) ِّإال من الداعين ِّإلى تغيير الكتابة العربية.
نقر بأن الكتابة العربية كانت تقاس ى من املطبعة العربية ،وأن الصناديق التى تحتاجها
العربية أكثر من الصناديق التى تحتاجها الكتابة الالتينية بما يقارب ثالث مرات .بيد أن
هذه املشكلة باتت قديمة ،وانقرضت بدخول الحاسوب (الكمبيوتر) ،بدليل أن الجهاز
ً
الذى يطبع الحرف الالتينى هو نفسه بحجمه الصغير ،يطبع الحرف العربى أيضا.
ُ ّ
وتولى الجهاز نفسه عملية الوصل بين الحروف .فإذا ط ِّبع على الحاسوب لفظ مثل
(أب) ،بالباء املنفصلة ،ثم أراد الطابع زيادة ياء الضمير ،أى (أبى) ،فلن يعمد الطابع إلى
ِّإلغاء الباء املنفصلة ليحل محلها الباء املتصلة ،وإنما سيطبع الياء وستتحول الباء -
ً
ليا ِّ -إلى باء متصلة .وكأن الحاسوب ببرمجته أدرك العالقات الوثيقة بين األشكال
املختلفة للحرف الواحد ،مما أشرنا ِّإليه ،وهو ما فشلت املطابع القديمة فى ِّإدراكه.
ومما يجدر ذكره هو أن الحركات فى الحاسوب تختص بمفاتيح منفصلة .وعلى هذا
يستطيع الطابع أن يضع الفتحة أو الضمة أو الكسرة أو الشدةِّ ..إلخ ،على الحرف
الذى يريده(.)85
كذلك فإن مناقشة املأخذ الثالث -وهو أن التفرقة بين مجموعات الحروف عن طريق
النقاط يؤدى إلى االلتباس أو غيره ،ال تحتاج إلى وقفة ،فالقارئ للعربية ال يقع فى هذا
االلتباس ألنه ِّألف هذه الحروف املنقوطة ،وال يجهده هذا ،ربما يصيب هذا الذى
يتعلمون العربية من غير أهلها ،فربما يوقعهم هذا فى الخلط واللبس.
ومهما يكن من أمر فأبجدية اللغة العربية أبجدية جيدة إذا قورنت بغيرها من
األبجديات ،فى عمومها تأخذ بمبدأ تخصيص رمز مستقل للصوت الواحد .فهى
أبجدية صوتية ،أى أنها تحاول تمثيل النطق تمثيال صادقا ،فللباء رمز ،وللتاء خر
وهكذا فهى كتابة فونيمية (الفونيم هو أصغر وحدة صوتية تفرق بين معانى الكلمات).
كذلك تخلو الكتابة العربية من ظاهرة الحروف التى تكتب وال تقرأ أو ما يسمى
ً
بالحروف الصامتة « ِّ » Silent lettersإال بضوابط وقواعد معروفة ومقررة سلفا،
ً ً
عالوة على ِّإفادتها شيئا ذا قيمة .فاأللف الثانية فى كلمة « قاتلوا » غير مقروءة ،ولكنها
لحقت هذه الكلمة ألنها فعل ،فى مقابل االسم « قاتلو » الذى هو جمع مذكر سالم لـ «
قا ِّت ُل ».
ً
اإلنجليزية والفرنسية تسيبا فى معرفة ما يقرأ وما ال يقرأ .فمن يواجه كلمة فى ونجد فى ِّ
ً ً ً
تينك اللغتين ال يستطيع أن ينطقها نطقا صحيحا مستندا ِّإلى رسمها ،ولذا يتوجب
عليه ِّإما أن يسمعها منطوقة ِّوإما أن يجد مالذه فى املعجمات التى تشير ِّإلى الكتابة
الصوتية املرشدة ِّإلى كيفية النطق الصحيح.
ً
ال تؤلف كتابة العربية الحالية عقبة ملن أراد قراءة املخطوطات العربية القديمة..
بعبارة أخرى ،يستطيع العربى ،حتى لو كان ذا حظ يسير من العلم ،أن يقرأ الف
اإلملام بمسائل املخطوطات التى كتبت قبل مئات السنين ،وال يستدعى منه ذلك ِّإال ِّ
ً ً
قليلة جدا (مثل تسهيل الهمزة فى املخطوطات القديمة ،فكلمة « قائل » -مثال -تكتب:
« « قايل ») ،وتلك املسائل كانت من مواصفات النساخ.
ً
فالعربى ليس مطالبا بدراسة نظام كتابى جديد ِّوإتقانه كى يتمكن من قراءة املخطوط
القديم ،لعدم وجود فجوة كتابية بين كتابتنا الحالية والكتابة العربية قبل أكثر من
ً
ألف سنة .وهذا يعنى أن الكتابة العربية ليست جسرا يوصل القارئ ِّإلى مرحلة زمنية
قصيرة ثم يتوقف ،بل يمتد ِّإلى عمق الثقافة العربية والتراث العربى ،وهذا ما يعطيها
ُ
قيمة وميزة على الكتابات امل ْن َب َّتة عن ماضيها.
ً وهذه امليزة التى ذكرناها ،صرح بها املدافعون عنهاّ ،
وأقربها ضمنا منتقدوها الداعون ِّإلى
تغييرها حينما ذكروا أن من مشكالت تغيير الكتابة العربية ما يستدعيه ذلك التغيير
ً ُ
من ِّإعادة كتابة املخطوطات القديمة .فلو لم ت ِّفد الكتابة الحالية فى كونها مفتاحا
ً
للمخطوطات القديمة ملا اضطر أحد ِّإلى ذكر مسألة املخطوطات أصال.
ً
واألستاذ الدكتور /رمضان عبد التواب يقول معقبا على بحثه
ً
« مشكلة الخط العربى وأوهام اللغويين » مبينا أهمية مراعاة التراث عند الكالم عن
إصالح الكتابة :ال يعنينا هنا البحث عن وسائل إصالح الخط العربى ،والقضاء على
عيوبه ،فقد ذاع وا نتشر ،وكتب به تراث هخم ،وأى تفكير فى إصالح عيوبه ،ال يصح
أن يغفل هذا التراث (.)86
ولقد استطاعت العربية بفضل حفظ هللا تعالى لها بالقر ن أن تحافظ على أرفع درجة
ً
ثبات فى القيمة الصوتية ألصواتها مما جعل الكتابة العربية تحافظ ،تبعا لذلك ،على
املقدار نفسه من ثبات القيمة الصوتية لحروفها.
ً ً
إن نطقنا الحالى لألصوات العربية متطابق تطابقا كبيرا مع النطق العربى] لألصوات
نفسها قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة ،بدليل أن قراءة القر ن الكريم ،وهى أفضل
ً
مصادرنا لتمثيل النطق العربى القديم ،ال تحوى أصواتا غريبة علينا ،وال تسقط
ً
أصواتا نستخدمها اآلن مما لم يكن له وجود فى املا ى.
ً
فالكتابة العربية إذا ليست فونيمية فى عالقتها بالنطق الحالي فحسبِّ ،وإنما تستبقي
ُ
سمتها الفونيمية حتى فى النطق القديم لألصوات العربية .وقد تمنعنا ألفتنا بالعربية
من التفكير فى هذه امليزة ،ولكننا لو تأملنا فى احتمال افتقار العربية ِّإلى هذه امليزة،
التضحت املشكلة .فمن املحتمل أن يحافظ الحرف على شكله ،ولكن قيمته الصوتية
(أى :طريقة نطقه) لم تكن مساوية لقيمته الصوتية الحالية .ولعل من األمثلة البارزة
ً
على ذلك حرف الراء الفرنس ى ِّفإنه ما زال يكتب راء ،ولكنه بات ينطق غينا.
ً
اإلنجليزية تتضمن الحرفين « » ghغير ومن أمثلة ذلك أيضا وجود كلمات فى اللغة ِّ
يوما ما ينطقانمنطوقين ،مثل ( ...night, right, lightإلخ) إال أن هذين الحرفين كانا ً
ِّ ِّ
خاء -كما هو الحال فى األملانية الحديثة -فبقي الحرفان فى الكتابة ،ولكن قيمتها
الصوتية اختلفت.
وفى دراسة أخرى للكتابة العربية قام بها األستاذ مصطفى حركات ( )87نجد للكتابة
العربية دالالت نحوية وصرفية وغيرها.
ّ
والذى يكتب سواء كان يخط بيده أو يستعمل اآللة ،ال يضع هذه الرموز إال من أجل
ً
توفير الجهد ،ظانا أنها غير الزمة لعملية التبليغ .ولذا فإن مصطلح الكتابة املختصرة
يالئم كتابتنا املجردة من الضوابط.
ماذا يمكننا أن نقول عن الكتابة التامة من الناحية الصوتية سوى أنها كتابة
فونولوجية وافية ؟ وإن كان قد خرج عن هذا الوفاء ،وهذا الكمال ،بعض الحاالت
القليلة التى أشار إليها علم العروض كغياب املد فى هذا ،ذلك ،هللا ..ولكن هذا املد إن
ً
كان الزما فى العروض ،فهو ليس بالالزم فى اللغة ،ونستدل على ذلك بقضية إشباع
حركة الهاء.
فالهاء إذا كانت فى نهاية الكلمة وكانت متحركة تنطق بإحدى الطريقتين:
-بدون مد فى حركتها إن كان ما قبلها ساكن :منه ،عنه ،رفيقاه.
ً
-بمد حركتها إذا كان ما قبلها متحركا مثل :به ،له ،رفيقه.
تدون هذا املد كما يلى :بهى ،لهو ،رفيقهو .هل يعقل أن تأخذ ّ َّ
والكتابة العروضية ِّ
الكتابة اللغوية هذا الطريق وتعطى شكلين مختلفين للضمير الواحد ؟ بطبيعة الحال
ال .ألن الكتابة اللغوية ليس من مهمتها أن تدون كل التأديات للمصوت.
هناك الكلمة الخطية التى هى معرفة بمجموعة الرموز الواردة بين بياضين ،والكلمة
اللغوية التى تعرف بواسطة مقاييس داللية تركيبية .والكلمة الخطية ال تتطابق مع
ً
الكلمة اللغوية دوما .ففى ما يلى :بالدار ،للدار ،بداركم ،لخرجت.
كل وحدة كلمة خطية ولكن التحليل النحوى يظهر لنا أننا أمام أكثر من كلمة لغوية فى
كل حالة.
الكتابة العربية ضمت الوحدات النحوية بعضها لبعض حسب أساسين :أساس
شكلى ،وأساس لغوى.
-1األساس الشكلى يرفض الوحدات املكونة من حرف ،فنكتب :وخرج ،فخرج ،ثم
خرج .بالدار ،للدار ،فى الدار.
حرف العطف (و ،فـ ،ثم) ال فرق بينها على املستوى النحوى ،واملنطق كان أن توحد
الكتابة وتكتب (و ،فـ) منعزلة عن الكلمة ،مثل (ثم) .ولكنهم كرهوا ترك كلمة مكونة من
فضموها ملا بعدها .ونفس املالحظة صالحة لحروف الجر. حرف وحدها ُّ
ولم يستثنوا من هذه القاعدة إال فعل األمر من اللفيف املفروق مثلِّ :ف (من وفى،
يفى)ِّ ،ش (من وش ى ،يش ى)ِّ ،ع (من وعى ،يعى).
ً
-2األساس اللغو ِّى جعلهم يفصلون بين الوحدات التى يجوز أن تفصل لغويا ،فعلى
سبيل املثال ،الضمير املنفصل هو املنفصل فى الكتابة والقابل لالنفصال لغة .فتقول:
أنا مجتهد ،أنا طالب مجتهد ،مجتهد أنا أم أنت ؟
ً
فاصال بين (أنا) و(مجتهد) بكلمة فى الجملة الثانية ،أو مغيرا رتبة (أنا) فى الجملة
ً ً
الثالثة ،فالضمير هنا منفصل لغة وخطا ،أما الضمائر فى :اجتهدت ،اجتهدنا،
اجتهادكم ،اجتهادهما.
فإنه ال يمكن فصلها عن الفعل ،بأى وحدة ،كما أنه ال يمكن تقديمها على الفعل ،فهى
ً ً ً
متصلة لغة وخطا ،ويظهر هذا جليا عند اتحاد اللفظ بين الضمير املتصل والضمير
املفصل :هم خرجوا ،خروجهم ،هما خرجا ،خروجهما ،هن خرجن ،خروجهن.
وكانت حجة أصحاب توحيد الشكل فى ذلك الوقت هى قضايا الطباعة والرقن ،ولكن
اإلعالميات اليوم بسطت األمور بحيث إن الحاسوب هو الذى يختار شكل الحرف دون
ً
أن يجهد الراقن نفسه .وباإلمكان غدا أن تستفيد العربية من األبحاث اإلعالمية وأن
تحل قضايا لم يكن أحد يظن أنها ستحل فى يوم من األيام.
ً
-9هذا الفصل بين الحروف والحركات يمكن أيضا من إبراز وزن الكلمة ،فعندما
نكتب:
استحسن فاخر انسكب افتكر
استنكر عاتب انسحب اقتسم
استثقل قاسم انشغل افتخر
فإن األوزان( :استفعل ،فاعل ،انفعل ،افتعل) ،تظهر جلية فى الرسم.
.9.4نظام الكتابة:
إن املهم فى الكتابة ليس شكل الحرف ذاته ،وإنما النظام الذى بنيت عليه ،وهذا
النظام يتمثل فى األشياء اآلتية:
َ
أ -تحقيقات الحرف الخطى ووظائف كل ت ّنوع من تنوعاته.
ب -عالقة الحروف الخطية بامليادين الصوتية والصرفية والنحوية والداللية.
جـ -طرائق تجميع هذه الحروف ،وعالقة هذا التجميع بالبنية اللغوية.
واختالف الكتابة العربية عن باقى الكتابات ال يتمثل فى اختالف الشكل أو فى كون
الحروف متصلة ،وإنما هو اختالف فى النظام نفسه:
-1العربية لغة قديمة ،عريقة ،تكتفى بذاتها ،وال تنحدر من لغة ثقافية قوية
كالالتينية التى انحدرت منها اللغات الرومانية ،فهى ليست فى حاجة إلى إثبات أصول
ً
الكلمات على مستوى الخط .ولذا فإن أساسها جاء صوتيا أكثر من غيرها ،وإمالءها
اتسم بالبساطة واملنطقية.
َّ
أحاديا بين الخط والصوت، -2العربية هى من اللغات القليلة التى يكون فيها التطابق
219 [مشكالت العربية املعاصرة ]2018 ..
[مشكالت العربية املعاصرة] القسم الثاني..
ً
فالحرف الخطى (س) ينطق سينا ال غير ،والصوت شين يرمز له بحرف واحد هو (ش)،
ً ً ً
وليس األمر كذلك فى الفرنسية مثال حيث الحرف ) (sينطق به تارة سينا وتارة زايا،
وحيث الصوت شين يكتب بواسطة حرفين ) (chأو ).(Sh
-3العربية هى اللغة الوحيدة التى بنيت كتابتها على الفصل بين الحرف والحركة ،وجاء
ً
هذا مسايرا لصرفها ومعجمها.
ً
-4الكتابة العربية تملك تنوعات للحرف الواحد لها وظيفة تحديدية للكلمة وأحيانا
وظائف نحوية.
-5بنيةالكلمات الخطية خاصة بنظام الكتابة العربية ،فعندما نكتب( :سمعتك) فإننا
كونا جملة كاملة تحتوى على فعل وفاعل ومفعول به ،وذلك فى كلمة واحدة. نكون قد ّ
وهذا خاص بالعربية.
ً
-6الكتابة العربية فضلت أحيانا تدوين العنصر الصرفى أو النحوى على العنصر
الصوتى .وهذا االختيار خاص بها.
كل هذه النقاط ترينا أن كتابة اللغة بعيدة كل البعد عن التدوين الصوتى البسيط
املبنى على:
-إرفاق كل مصوت برمز خطى.
-إرفاق كل كلمة لغوية بكلمة خطية.
ً
فالكتابة تتعدى هذه املهمة التى هى مهمة ترجمة بحتة للغة املنطوقة لتصبح نظاما
ً
موازيا لنظام اللغة (.)88
هذه مجموعة من األبحاث التى تناولت مشكلة الخط العربى ،وإصالح ما به من عيوب،
ً
وبيان مافيه من مزايا ،ولنا أن نفاضل بين األفكار التى طرحتها ،ونصنع تصورا يفيد
ً
منها جميعا ،فمعظمها جهود تهدف إلى الوصول بالكتابة العربية إلى صورة مثلى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ