Professional Documents
Culture Documents
لكل كلمة في الجملة العربية ترتيٌب خاص بحسب وضعها اللغوي ,فمثًال :الفعل
يتقدُم على الفاعل ,والفاعُل يتقدم على المفعول ,ثم تأتي بعد ذلك المتمماُت للجملة ,
كالظرف ,والجار والمجرور ,والحال ,وغيرها ,كذلك المبتدأ يتقدم على الخبر .
هذا هو األصل في ترتيب الجمل ,وينبغي أال ننقَل كلمًة عن موضعها احترامًا لهذا
األصل .
غير أنه قد يعرُض من المزايا والمقتضيات ما يدعو إلى نقل بعض الكلمات في
الجمل من موضعها ,فنقدم كلمة أو نؤخرها ,وهذا ما ُيْد عى بالتقديم والتأخير ,ويحتُّل
هذا الموضوُع في البالغة العربية مكانا ساميا .
والتقديم والتأخير لغرض بالغي ,وِلسّر من أسرار التعبير ُ ,يْك ِس ُب الكالَم جماًال
وتأثيرًا ,ألنه سبيٌل إلى نقل المعاني في ألفاظها إلى المخاطبين ,كما هي مرتبٌة في
ذهن المتكلم حسب أهميتها عنده ,فيكون االسلوُب صورة صادقة إلحساس المتكلم ,
وصدِق مشاعره .
ولتقديم األلفاظ بعضها على بعض أغراض بالغية كثيرة يمكن ان نذكر بعضها.
أوٍال :التقديم لغرض االختصاص .
فقد تتقدم الكلمُة في الذكر لالختصاص بأمر َّم ا ,كقولنا ( :تاجٌر علّي ) فتقدم
الخبِر (تاجر) على المبتدأ (علّي ) ,يفيد تخصيَص ه بالتجارة بين باقي األعمال ,فهو
ال يعمُل عمًال أخر ِس وى التجارة ـــ أّم ا لو جعلَت المبتدأ ـــ على ترتبه ــ فقلت :علُّي
تاجٌر ,فهذا التعبيُر يفيد اإلخبار بأنه تاجر من غير تعرض لمعنى من المعاني
البليغة ,وهذا ال يمنع أن يكون له عمل أخر كالتدريس ,أو الزراعة ,مثًال .فتقديم
الخبر على المبتدأ ,أفاد قصَر ُه على التجارة فقط ,دون غيرها من األعمال.
()5 ومن األمثلة القرآنية على ذلك ما جاء في قوله تعالىِ(( :إَّياَك َنۡع ُبُد َو ِإَّياَك َنۡس َتِع يُن
ٱۡه ِد َنا ٱلِّص َٰر َط ٱۡل ُم ۡس َتِقيَم ( [ )) )6الفاتحة ] .
فقد قدم المفعول به (إياك) على فعل العبادة وعلى فعل االستعانة دون فعل الهداية فلم
يقل ( :إيانا اهد ) كما قال في األولين وسبب ذلك أن العبادة واالستعانة مختصتان
باهلل تعالى ,فال يعبد أحد غيره وال يستعان به .
1
وهذا نظير قوله تعالى َ(( :بِل ٱَهَّلل َفٱْع ُبْد َو ُك ن ِّم َن ٱلَّٰش اِكِر يَن ( [ )) )66الزمرد ] وقوله
َ(( :و اْشُك ُروا ِهَّلِل ِإن ُك نُتْم ِإَّياُه َتْعُبُد وَن ( [ )) )172البقرة ] .
فقدم المفعول به على فعل العبادة في الموضعين وذلك ألن العبادة مختصة باهلل
تعالى .
ثانيًا :التقديم لغرض الفضل والشرف :
ومن ذلك تقديم السمع على البصر قال تعالى ((ِإَّنا َخ َلْقَنا اِإْل نَس اَن ِم ن ُّنْطَفٍة َأْم َش اٍج
َّنْبَتِليِه َفَجَع ْلَناُه َسِم يًعا َبِص يًرا ( [ )) )2اإلنسان ] فقدم السمع على البصر.
وقال تعالى َ(( :و اَّلِذ يَن ِإَذ ا ُذ ِّك ُروا ِبآَياِت َر ِّبِهْم َلْم َيِخ ُّر وا َع َلْيَها ُص ًّم ا َو ُع ْمَياًنا ()) )73
[ الفرقان ] فقدم الُص ّم وهم فاقدو السمع على العميان وهم فاقدو البصر .قالوا :ألن
السمع أفضل .قالوا :والدليل على ذلك أن هللا لم يبعث نبيًا أصم ,ولكن قد يكون
النبي أعمى كيعقوب (عليه السالم) فإنه عمي لفقد ولده .
والظاهر أن الَس مع بالنسبة إلى تلقي الرسالة أفضل من البصر ,ففاقد البصر
يستطيع أن يفهم ويعي مقاصد الرسالة فإن مهمة الرسل التبليغ عن هللا .واألعمى
يمكن تبليغه بها ويتيسر استيعابه لها كالبصير ,غير أن فاقد السمع ال يمكن تبليغه
بسهولة .فاألصم أنأى عن الفهم من األعمى ,ولذا كان من العميان علماء كبار
بخالف الصم .فلكون متعلق ذلك التبليغ كان تقديم السمع أولى .
ويمكن أن يكون تقديم السمع على البصر لسبب آخر عدا األفضلية ,وهو أن مدى
السمع أقل من مدى الرؤية ,فقدم ذا المدى األقل متدرجًا من القصر الى الطول في
المدى ,لذا حين قال موسى في فرعونِ(( :إَّنَنا َنَخاُف َأن َيْفُر َط َع َلْيَنا َأْو َأن َيْط َغ ٰى (
[)) )45طه ] قال هللا تعالى ((َقاَل اَل َتَخاَفاۖ ِإَّنِني َم َع ُك َم ا َأْس َم ُع َو َأَر ٰى ( [ )) )46طه].
والحق سبحانه لم يقدم (البَص ر) على (السمع) إال في آية واحدة في القرآن الكريم ,
يقول تعالى في وصف مشهد من مشاهد يوم القيامة َ(( :و َلْو َتَر ٰى ِإِذ اْلُم ْج ِر ُم وَن
َناِكُسوا ُر ُء وِس ِهْم ِع نَد َر ِّبِهْم َر َّبَنا َأْبَص ْر َنا َو َسِم ْعَنا َفاْر ِج ْعَنا َنْع َم ْل َص اِلًحا )) )12( ...
[السجدة ] .
فالنظام في جميع اآليات كان تقديم ( :السمع) وتأخيَر ( :البصر) ,فلماذا تغير هذا
النظام ؟ .
2
تغير هذا النظاُم في هذه اآلية ,ألن أول ما يفجُأ اإلنسان يوم القيامة هو مرئّي
مشاهٌد ,ال مسموع ,فجاءت اآلية منطقية مع وقتها ومع واقعها فَح ُسن حينئٍذ تقديم
البصر .
ثالثًا :التقديم بالتدرج من الكثير إلى القليل.
وقد يكون التقديم بحسب الكثرة والقلة فقد يرتب المذكورات متدرجًا من القلة الى
الكثرة حسبما يقتضيه المقام وذلك نحو قوله تعالى ((َأن َطِّهَر ا َبْيِتَي ِللَّطاِئِفيَن
َو اْلَع اِكِفيَن َو الُّر َّك ِع الُّسُجوِد ([ )) )125البقرة ] فكل طائفة هي أقل من التي بعدها
فتدرج من القلة الى الكثرة .فالطائفون أقل من العاكفين ألن الطواف ال يكون إال
حول الكعبة .والعكوف يكون في المساجد عمومًا .والعاكفون أقل من الراكعين ألن
الركوع أي :الصالة تكون في كل أرض طاهرة ,أما العكوف فال يكون إّال في
المساجد .والراكعون أقل من الساجدين وذلك ألن لكل ركعة سجدتين ثم أن كل راكع
ال بد أن يسجد وقد يكون سجود ليس له ركوع كسجود التالوة وسجود الشكر .فهو
هنا تدرج من القلة الى الكثرة .
وقد يكون الكالم بالعكس فيتدرج من الكثرة الى القلة وذلك نحو قوله تعالى َ(( :يا
َم ْر َيُم اْقُنِتي ِلَر ِّبِك َو اْسُج ِد ي َو اْر َك ِع ي َم َع الَّراِكِع يَن ([ )) )43آل عمران ] فبدأ بالقنوت
وهو عموم العبادة ,ثم السجود وهو أقل وأخص ,ثم الركوع وهو أقل وأخص .
رابعًا :التقديم بحسب ما يقتضيه السياق.
( ومن ذلك قوله تعالى َ((:و اَل َتْقُتُلوا َأْو اَل َد ُك ْم ِم ْن ِإْم اَل ٍق َنْح ُن َنْر ُزُقُك ْم َو ِإَّياُهْم
( [ )) )151األنعام ] .وقوله َ(( :و اَل َتْقُتُلوا َأْو اَل َد ُك ْم َخ ْش َيَة ِإْم اَل ٍق َنْح ُن َنْر ُز ُقُهْم َو ِإَّياُك ْم
[ )) )31اإلسراء ].
فقدم رزق اآلباء في اآلية األولى على األبناء ,وفي اآلية الثانية قدم رزق
األبناء على اآلباء ,وذلك أن الكالم في اآلية األولى موجه الى الفقراء دون األغنياء
فهم يقتلون أوالدهم من الفقر الواقع بهم ال أنهم يخشونه ,فأوجبت البالغُة تقديم
عدتهم بالرزق تكميل الِع َد ِة برزق األوالد .
وفي اآلية الثانية الخطاب لغير الفقراء وهم الذين يقتلون أوالدهم خشية الفقر ال أنهم
مفتقرون في الحال ,وذلك أنهم يخافون أن تسلبهم كلف األوالد ما بأيديهم من الغنى
فوجب تقديم العدة برزق األوالد فيأمنوا ما خافوا من الفقر .فقال :ال تقتلوهم فإنا
نرزقهم وإياكم ,أي إن هللا جعل معهم رزقهم فهم ال يشاركونكم في رزقكم فال
تخشوا الفقر .
3
خامسا :التقديم لغرض السبق في األهمية.
حيث يقدم األهم فاألهم كما في قوله تعالى ُ(( :ز ِّيَن ِللَّناِس ُحُّب الَّش َهَو اِت ِم َن الِّنَس اِء
َو اْلَبِنيَن َو اْلَقَناِط يِر اْلُم َقنَطَر ِة ِم َن الَّذ َهِب َو اْلِفَّض ِة َو اْلَخْيِل اْلُمَس َّو َم ِة َو اَأْلْنَع اِم َو اْلَح ْر ِث ))
فلما صدر اآلية بذكر الحب وكان المحبوب مختلف المراتب ,فتفاوتت الدرجات
اقتضت حكمته سبحانه تقديم األهم فاألهم من المحبوبات ,فقدم النساء على البنين لما
يظهر فيهن من قوة الشهوة ونزوع الطبع وإيثارهن على كل محبوب ,وقدم البنين
على األموال لتمكنهم في النفوس واختالط محبتهم باألفئدة ,وهكذا القول في سائر
المحبوبات فالنساء والبنون أحب من األموال ,والذهب أحب من الفضة ,والخيل
أخص محبة من االنعام ,والمواشي أدخل من الحرث .فالتقديم جاء متصًال بالنفس
عاكسَا مراتب محبوباتها .
سادسًا :التقديم بحسب الرتبة .
قد يكون التقديم بحسب الرتبة ومن ذلك قوله تعالى؛ ((وال ُتِط ع ُك َّل َح اَّل ٍف َّم هين ()10
َهَّم اٍز َّم َّش آٍء ِبَنميٍم (َّ ،)11م َّناٍع ِللَخيِر ُم عَتٍد أِثيٍم (( )) )12القلم) فإن الهماز هو العّياب
وذلك ال يفتقر إلى مشي بخالف النميمة فإنها نقل للحديث من مكان إلى مكان عن
شخص إلى شخص.
فبدأ بالهماز وهو هنا المغتاب الذي يعيب الناس وهذا ال يفتقر الى مشي وال حركة ثم
انتقل الى مرتبة ابعد في االيذاء وهو المشي بالنميمة فأنها تحتاج في نقل الحديث من
شخص الى أخر اما بالمشي اليه أو ببذل الجهد لتوصيلها اليه ثم انتقل الى مرتبة ابعد
في االيذاء وهو أنه يمنع الخير عن االخرين ،وهذه المرتبة ابعد في االيذاء مما
تقدمها .ثم انتقل الى مرتبة أخرى ابعد مما قبلها وهو االعتداء ،فإن منع الخير قد ال
يصحبه اعتداء ،أما العدوان فهو مرتبة اشد في االيذاء ثم ختمها بقوله (أثيم) وهو
وصف جامع ألنواع الشرور ،فهي مرتبة أخرى أشد ايذاًء .
4
األول مع َم ن هو أشد إعجابًا بنفسه ،وأعرض دعوى في أنه يحسن.
حتى إنك لو أتيت بـ " أنت " فيما بعد " تحسن " فقلت:
ال تحسن أنت ،لم يكن له تلك القوة ،وكذلك قوله تعالى:
(َو اَّلِذ يَن ُهْم ِبَر ِّبِهْم اَل ُيْش ِر ُك وَن ) .
يفيد من التأكيد في نفى اإلشراك عنهم مما لو قيل :الذين ال يشركون بربهم.
أو :بربهم ال يشركون .ولم يفد ذلك ".
هذا في المعرفة .أما الفكرة فإنها تفيد التخصيص الجنسى أو العددى.
فنحو :رجل جاءنى .يحتمل أن يكون الجائي امرأة فيكون لقصر الجنس،
أو رجلين ،فيكون لقصر العدد قلبًا أو إفرادًا أو تعيينًا. .
هذه خالصة رأى عبد القاهر في إفادة تقديم المسند إليه التخصيص أو التقوي
حرصنا أن نعرضها بعيدًا عن تعليقات أصحاب الشروح والحواشي إال فيما خف ألن
الذوق وحده هــو الــذي يحكم على هــذا المــذهب الجــزل والمــورد العــذب واإلحســاس
الرقيق.
اكتفي بهذا القدر من االمثلة القرآنية ،فإن فيها كفاية فيما أحسب ،فهي تدل داللة
واضحة على ان التعبير القرآني تعبير فني مقصود ،فكل لفظ فيه وضع وضعا
مقصودا ،وأنه لم يقدم لفظة على لفظة إال لغرض يقتضيه السياق وقد روعي في ذلك
التعبير القرآني كله ونظر إليه نظرة واحدة شاملة .
5