Professional Documents
Culture Documents
الحمد هلل رب العالمين ٌّ ،قيوِم الَّسماوات واألرضين ،مدِّبر الخالئق أجمعين ،باعث الرسل صلوات
اهلل وسالُم ُه عليهم أجمعين ،إلى المكلفين لهدايتهم ،وبيان شرائِع الدين ،بالدالئل القطعية
وواضحات البراهين ،أحمُدُه على جميع نعمه ،وأسأله المزيَد من فضله وكرمه.
وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له الواحد القهار ،الكريم الغفار .
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبُد ه ورسوُله وحبُيبه وخليُله أفضُل المخلوقين ،المكَّر م بالقرآِن العزيز
المعجزة المستمرة على تعاقب السنين ،وبالُّسنِن المستنيرِة للمسترشدين سيدنا محمد ،المخصوص
بجوامع الكلم وسماحة الدين ،صلوات اهلل وسالمه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين وآِل كِّل
وسائر الصالحين .
:فقد روينا عن علي ابن أبي طالب ،وعبد اهلل بن مسعود ،ومعاذ بن جبل ،وأبي
الدرداء ،وابن عمر ،وابن عباس ،وأنس بن مالك ،وأبي هريرة ،وأبي سعيد الخدري رضي اهلل
عنهم من طرق كثيرات ،ومن روايات متنوعات ،أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال :
(( َم ْن َح ِف َظ على أمتي أربعين حديثًا من أْم ِر دينها بعثه اهلل يوم القيامة في ُز ْمَر ِة الفقهاء والعلماء ))
وفي رواية أبي الدرداء ((:وكنُت له يوم القيامة شافعًا وشهيدًا )).
وفي رواية ابن عمر ((:كتَب في ُز ْم رِة العلماء ،وحشر في زمرة الشهداء )).
واتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإ ن كثرت طرقه ،وقد صنف العلماء رضي اهلل عنهم في هذا
الباب ما ال يحصى من المصنفات .فأول من علمته صنف فيه عبد اهلل بن المبارك ،ثم محمد بن أسلم
الكندي العالم الرباني ،ثم الحسن بن سفيان النسائي ،وأبو بكر اآلِج ِر ُّي ،وأبو بكر محمد بن ابراهيم
األصفهاني ،والدار قطني ،والحاكم ،وأبو نعيم ،وأبو عبد الرحمن الّس لمّي ،وأبو سعيد الماليني ،
وأبو عثمان الصابوني ،وعبد اهلل بن محمد األنصاري ،وأبو بكر البهقي ،وخالئق ال يحصون من
المتقدمين والمتأخرين .
وقد استخرت اهلل تعالى في جمع أربعين حديثًا اقتداًء بهؤالء األئمة األعالم ،وحفاظ اإلسالم ،وقد
اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل األعمال ،ومع هذا فليس اعتمادي على
هذا الحديث بل على قوله صلى اهلل عليه وسلم في األحاديث الصحيحة :
وقوله صلى اهلل عليه وسلم ((:نضر اهلل امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها )).
ثم من العلماء من جمع األربعين في أصول الدين ،وبعضهم في الجهاد ،وبعضهم في الزهد ،
وبعضهم في اآلداب ،وبعضهم في الخطب .وكلها مقاصد صالحة رضي اهلل عن قاصديها .
وقد رأيت جمع أربعين أهم من هذا كله ،وهي أربعون حديثًا مشتملة على جميع ذلك ،وكل حديث
منها قاعدة من قواعد الدين ،قد وصفه العلماء بأن مدار اإلسالم عليه ،أو هو نصف اإلسالم ،أو
ثلثه ،أو نحو ذلك ،ثم ألتزم في هذه األربعين أن تكون صحيحة ،ومعظمها في صحيحي البخاري
ومسلم ،وأذكرها محذوفة األسانيد ،ليسهل حفظها ،ويعم االنتفاع بها ،إن شاء اهلل تعالى ،ثم أتبعها
بباب في ظبط خفي ألفاظها .
وينبغي لكل راغب في اآلخرة أن يعرف هذه األحاديث ،لما اشتملت عليه من المهمات ،و احتوت
عليه من التنبيه على جميع الطاعات ،وذلك ظاهر لمن تدبره .
وعلى اهلل اعتمادي وإ ليه تفويضي واستنادي ،وله الحمد والنعمة ،وبه التوفيق والعصمة .
دل الحديث على أن النية معيار لتصحيح األعمال ،فحيث صلحت النية صلح العمل ،وحيث فسدت
فسد العمل ،وإ ذا وجد العمل وقارنته النية فله ثالثة أحوال :
(األول) :أن يفعل ذلك خوفًا من اهلل تعالى وهذه عبادة العبيد .
(الثاني) :أن يفعل ذلك لطلب الجنة والثواب وهذه عبادة التجار.
(الثالث) :أن يفعل ذلك حياء من اهلل تعالى وتأدية لحق العبودية وتأدية للشكر ،ويرى نفسه مع ذلك
مقصرًا ،ويكون مع ذلك قلبه خائفًا ألنه ال يدري هل قبل عمله مع ذلك أم ال ،وهذه عبادة األحرار ،
وإ ليها أشار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لما قالت له عائشة رضي اهلل عنها حين قام من الليل حتى
تورمت قدماه :يا رسول اهلل !
أتتكلف هذا وقد غفر اهلل لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟قال :
فإن قيل :هل األفضل العبادة مع الخوف أو مع الرجاء ؟ .قيل :قال الغزالي رحمه اهلل تعالى :
العبادة مع الرجاء أفضل ،ألن الرجاء يورث المحبة ،والخوف يورث القنوط .
وهذه األقسام الثالثة في حق المخلصين ،واعلم أن اإلخالص قد يعرض له آفة العجب ،فمن أعجب
بعمله حبط عمله ،وكذلك
الحال الثاني :أن يفعل ذلك لطلب الدنيا واآلخرة جميعها ،فذهب بعض أهل العلم إلى أن عمله
مردود واستدل بقوله صلى اهلل عليه وسلم في الخبر الرباني :
((يقول اهلل تعالى :أنا أغنى الشركاء فمن عمل عمًال أشرك فيه غيري فأنا بريء منه )).
وإ لى هذا ذهب الحارث المحاسبي في كتاب (( الرعاية )) فقال :اإلخالص أن تريده بطاعته وال
تريد سواه .والرياء نوعان :أحدهما :ال يريد بطاعته إال الناس ،والثاني :أن يريد الناس ورب
الناس ،وكالهما محبط للعمل ،ونقل هذا القول الحافظ أبو ُنعيم في ((الحلية ))عن بعض السلف ،
واستدل بعضهم على ذلك أيضًا بقوله تعالى (:الَّجبار اُلمَتِّك بُر ُْس بَح ان اهلل َع ّم ا ُيْش ركْو َن ) (الحشر :
، )23فكما أنه تكبر عن الزوجة والولد والشريك ،تكبر أن يقبل عمًال أشرك فيه غيره ،فهو تعالى
أكبر ،وكبير ،ومتكبر .
وقال السمر قندي رحمه اهلل تعالى :ما فعل هلل ُِق بَل وما فعل من أجل الناس ُر َّد .ومثال ذلك من صلى
الظهر مثًال وقصد أداء ما فرض اهلل تعالى عليه ولكنه طول أركانه وقراءتها وحَّسن هيئتها من أجل
الناس ،فأصل الصالة مقبول ،وأما طوله وحسنه من أجل الناس فغير مقبول ألنه قصد به الناس .
وسئل الشيخ عز الدين ابن عبد السالم :عمن صلى فطول صالته من أجل الناس ؟ فقال :أرجو أن
ال يحبط عمله هذا كله إذا حصل التشريك في صفة العمل ،فإن حصل في أصل العمل بأن صلى
الفريضة من أجل اهلل تعالى والناس ،فال تقبل صالته ألجل التشريك في أصل العمل ،وكما أن
الرياء في العمل يكون في ترك العمل .قال الفضيل بن عياض :ترك العمل من أجل الناس رياء
والعمل من أجل الناس شرك ،واإلخالص آن يعافيك اهلل منهما .
ومعنى كالمه رحمه اهلل تعالى أن من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراها الناس ،فهو ُم راٍء ألنه
ترك العمل ألجل الناس ،أما لو تركها ليصليها في الخلوة فهذا مستحب إال أن تكون فريضة ،أو
زكاة واجبة ،أو يكون عالمًا يقتدى به ،فالجهر بالعبادة في ذلك أفضل ،وكما أن الرياء محبط للعمل
كذلك التسميع ،وهو أن يعمل هلل في الخلوة ثم يحدث الناس بما عمل ،قال صلى اهلل عليه وسلم :
قال العلماء :فإن كان عالمًا يقتدى به وذكر ذلك تنشيطًا للسامعين ليعملوا به فال بأس .قال
المرزباني ،رحمه اهلل تعالى عليه :يحتاج المصلى إلى أربع خصال حتى ترفع صالته :حضور
القلب ،وشهود العقل ،وخضوع األركان ،وخشوع الجوارح ،فمن صَّلى بال حضور قلب فهو
مصٍل الٍه ،ومن صلى بال شهود عقل فهو مصل ساٍه ،ومن صلى بال خضوع الجوارح فهو مصل
خاطئ ،ومن صلى بهذه األركان فهو مصٍل واٍف .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :إنما األعمال بالنيات )) أراد بها أعمال الطاعات دون أعمال
المباحات ،قال الحارث المحاسبي :اإلخالص ال يدخل في مباح ،ألنه ال يشتمل على قربة وال
يؤدي إلى قربة ،كرفع البنيان ال لغرض الرعونة ،أما إذا كان لغرض كالمساجد والقناطر واألربطة
فيكون مستحبًا .قال :وال إخالص في محرم وال مكروه ،كمن ينظر إلى ما ال يحل له النظر إليه ،
ويزعم أنه ينظر إليه ليتفكر في صنع اهلل تعالى ،كالنظر إلى األمرد ،وهذا ال إخالص فيه بل ال
قربة البتة ،قال :فالصدق في وصف العبد في استواء السر والعالنية والظاهر والباطن ،والصدق
يتحقق بتحقق جميع المقامات واألحوال حتى إن اإلخالص يفتقر إلى الصدق ،والصدق ال يفتقر إلى
شيء .ألن حقيقة اإلخالص هو إرادة اهلل تعالى بالطاعة ،فقد يريد اهلل بالصالة ولكنه غافل عن
حضور القلب فيها ،والصدق هو إرادة اهلل تعالى بالعبادة مع حضور القلب إليه ،فكل صادق
مخلص ،وليس كل مخلص صادقًا ،وهو معنى االتصال واالنفصال ،ألنه انفصل عن غير اهلل
واتصل بالحضور باهلل ،وهو معنى التخلي عما سوى اهلل والتحلي بالحضور بين يدي اهلل سبحانه
وتعالى .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :إنما األعمال )) يحتمل :إنما صحة األعمال أو تصحيح األعمال ،أو
قبول األعمال ،أو كمال األعمال ،وبهذا أخذ اإلمام أبو حنيفة رحمه اهلل تعالى ،ويستثنى من
األعمال ما كان قبيل التروك كإزالة النجاسة ،ورد الغصوب والعواري ،وإ يصال الهدية وغير ذلك
،فال تتوقف صحتها على النية المصححة ،ولكن يتوقف الثواب فيها على نية التقرب ،ومن ذلك ما
إذا أطعم دابته ،إن قصد بإطعامها امتثال أمر اهلل تعالى فإنه يثاب ،وإ ن قصد بإطعامها حفظ المالية
فال ثواب ،ذكره القرافي ،ويستثنى من ذلك فرس المجاهد ،إذا ربطها في سبيل اهلل فإنها إذا شربت
وهو ال يريد سقيها أثيب على ذلك كما في صحيح البخاري ،وكذلك الزوجة وكذلك إغالق الباب
وإ طفاء المصباح عند النوم إذا قصد به امتثال أمر اهلل أثيب وإ ن قصد أمرًا آخر فال .
واعلم أن النية لغة :القصد ،يقال نواك اهلل بخير :أي قصدك به .والنية شرعًا :قصد الشيء
مقترنًا بفعله ،فإن قصد وتراخى عنه فهو عزم ،وشرعت النية لتمييز العادة من العبادة أو لتمييز
رتب العبادة بعضها عن بعض ،مثال األول :الجلوس في المسجد قد يقصد لالستراحة في العادة ،
وقد يقصد للعبادة بنية االعتكاف ،فالمميز بين العبادة والعادة هو النية ،وكذلك الغسل :يقصد به
تنظيف البدن في العادة ،وقد يقصد به العبادة فالمميز هو النية وإ لى هذا المعنى أشار النبي صلى اهلل
عليه وسلم حين سئل عن الرجل يقاتل رياء ويقاتل حمية ويقاتل شجاعة ،أي ذلك في سبيل اهلل تعالى
؟ فقال :
(( من قاتل لتكون كلمة اهلل هي العليا فهو في سبيل اهلل تعالى )) ومثال الثاني وهو المميز رتب
العبادة ،كمن صلى أربع ركعات قد يقصد إيقاعها عن صالة الظهر ،وقد يقصد إيقاعها عن السنن
فالمميز هو النية ،وكذلك العتق قد يقصد به الكفارة وقد يقصد به غيرها كالنذر ونحوه ،فالمميز هو
النية .
وفي قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :وإ نما لكل امرئ ما نوى )) دليل على أنه ال تجوز النيابة في
العبادات ،وال التوكيل من نفس النية ،وقد استثني من ذلك تفرقة الزكاة وذبح األضحية ،فيجوز
التوكيل فيهما في النية والذبح ،والتفرقة مع القدرة على النية .وفي الحج :ال يجوز ذلك مع القدرة
ودفع الدين ،أما إذا كان على جهة واحدة لم يحتج إلى نية ،وإ ن كان على جهتين كمن عليه ألفان
بأحدهما رهن فأدى ألفًا قال جعلته عن ألف الرهن ،صدق ،فإن لم ينو شئيًا حالة الدفع ،ثم نوى بعد
ذلك ،وجعله عما شاء وليس لنا نية تتأخر عن العمل وتصح إال هنا .
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:فمن كانت هجرته إلى اهلل ورسوله فهجرته إلى اهلل ورسوله ،ومن
كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )).
أصل المهاجرة المجافاة والترك ،فاسم الهجرة يقع على رموز :
األولى :هجرة الصحابة رضي اهلل عنهم من مكة إلى الحبشة حين آذى المشركون رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم ،ففروا منه إلى النجاشي ،وكانت هذه بعد البعثة بخمس سنين ،قاله البيهقي .
الهجرة الثانية :من مكة إلى المدينة وكانت هذه بعد البعثة بثالث عشرة سنة ،وكان يجب على كل
مسلم بمكة أن يهاجر إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى المدينة ،وأطلق جماعة أن الهجرة
كانت واجبة من مكة إلى المدينة ،وهذا ليس على إطالقه فإنه ال خصوصية للمدينة ،وإ نما الواجب
الهجرة إلى رسول اهلل صلى عليه وسلم قال ابن العربي :قسم العلماء رضي اهلل عنهم الذهاب في
األرض هربًا وطلبًا ،فاألول ينقسم إلى ستة أقسام :
(األول) :الخروج من دار الحرب إلى دار اإلسالم وهي باقية إلى يوم القيامة ،و التي انقطعت بالفتح
في قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :ال هجرة بعد الفتح )) .هي القصد إلى رسول اهلل صلى عليه
وسلم حيث كان .
(الثاني) :الخروج من أرض البدعة ،قال ابن القاسم :سمعت مالكًا يقول :ال يحل ألحد أن يقيم
بأرض ُيَس ُب فيها السلف.
(الثالث) :الخروج من أرض يغلب عليها الحرام ،فإن طلب الحالل فريضة على كل مسلم .
(الرابع) :الفرار من األذية في البدن ،وذلك فضل من اهلل تعالى أرخص فيه ،فإذا خشي على نفسه
في مكان فقد أذن اهلل تعالى له في الخروج عنه ،والفرار بنفسه يخلصها من ذلك المحذور ،وأول
من فعل ذلك إبراهيم عليه السالم حيث خاف من قومه فقال ٍ{:إًّني ُمَهاِج رُ ِإلى َر ًّبي } [العنكبوت :
. ]26وقال تعالى مخبرًا عن موسى عليه السالم َ{ :فَخ َر َج ِم ْن َها َخ اِئَفَا َيَتَر َّقبُ} [القصص.]21:
(الخامس) :الخروج خوف المرض في البالد الوخمة ،إلى األرض النزهة ،وقد أذن صلى اهلل عليه
وسلم للعرنيين في ذلك حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المرج .
(السادس) الخروج خوفًا من األذية في المال ،فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه .
وأما قسم الطلب ،فإنه ينقسم إلى عشرة :طلب دين وطلب دنيا ،وطلب الدين ينقسم إلى تسعة أنواع
:
(الخامس) :سفر التجارة والكسب الزائد على القوت ،وهو جائز لقوله تعالى َ{ :لْي َس َع ْليُك ْم ُجَناُح َأْن
َتْب تُغوا َفْض ًال ِم ْن َر َّبكم } [البقرة .]198 :
(السابع) :قصد البقاع الشريفة ،قال صلى اهلل عليه وسلم (( :ال تشد الرحال إال إلى ثالثة مساجد )).
(التاسع) :زيارة اإلخوان في اهلل تعالى ،قال صلى اهلل عليه وسلم (( :زار رجل أخًا له في قرية ،
فأرسل اهلل ملكًا على مدرجته .فقال :أين تريد ؟ قال :أريد أخًا لي في هذه القرية ،فقال :هل له
عليك من نعمة تؤديها قال :ال ،إال أنني أحبه في اهلل تعالى قال :فإني رسول اهلل إليك بأن اهلل أحبك
كما أحببته )) .رواه مسلم .وغيره .
الثالثة :هجرة القبائل إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ليتعلموا الشرائع ويرجعوا إلى قومهم
فيعلموهم .
الرابعة :هجرة من أسلم من أهل مكة ليأتي النبي صلى اهلل عليه وسلم ثم يرجع إلى قومه .
الخامسة :الهجرة من بالد الكفر إلى بالد اإلسالم ،فال يحل للمسلم اإلقامة بدار الكفر ،قال
الماوردي :فإن صار له بها أهل وعشيرة ،وأمكنة إظهار دينه ،لم يجز له أن يهاجر ،ألن المكان
الذي هو فيه قدر دار إسالم .
السادسة :هجرة المسلم أخاه فوق ثالثة ،بغير سبب شرعي ،وهي مكروهة في الثالثة ،وفيما زاد
حرام إال لضرورة ،وحي أن رجًال هجر أخاه فوق ثالثة أيام فكتب إليه هذه األبيات :
فاسـتـفـت فـيـهـا ابـن أبــي خيثمه يا س ـيـدي عـنـدك لي مـظ ـلـمـة
ما قــد روى الـضـحـاك عـن عـكرمـه فــإنــه يــرويـه عــن جـ ــده
السابعة :هجرة الزوج الزوجة إذا تحقق نشوزها قال تعالى {واْهُج ُر وُهَّن ِفي َالَم َض اِج عِ} [ النساء :
.]34ومن ذلك هجرة أهل المعاصي في المكان ،و الكالم ،و جواب السالم وابتداؤه .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :فمن كانت هجرته إلى اهلل ورسوله )) :أي نية وقصدًا فهجرته إلى
اهلل ورسوله حكمًا وشرعًا.
(( ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ..الخ )) نقلوا أن رجًال هاجر من مكة إلى المدينة ال يريد
بذلك فضيلة الهجرة وإ نما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس ،فسمي مهاجر أم قيس .فإن قيل
النكاح من مطلوبات الشرع ْف لَم كان من مطلوبات الدنيا؟ قيل في الجواب :إنه لم يخرج في الظاهر
لها ،وإ نما خرج في الظاهر للهجرة ،فلما أبطن خالف ما أظهر استحق العتاب واللوم ،وقيس بذلك
من خرج في الصورة الظاهرة لطلب الحج وقصد التجارة وكذلك الخروج لطلب العلم إذا قصد به
حصول رياسة أو والية .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :فهجرته إلى ما هاجر إليه )) يقتضي أنه ال ثواب لمن قصد بالحج
التجارة والزيارة ،وينبغي حمل الحديث على ما إذا كان المحرك الباعث له على الحج إنما هو
التجارة ،فإن كان الباعث له الحج فله الثواب ،والتجارة تبع له إال أنه ناقص األجر عمن أخرج
نفسه للحج ،وإ ن كان الباعث له كليهما فيحتمل حصول الثواب ألن هجرته لم تتمخص للدنيا ،
ويحتمل خالفه ألنه قد خلط عمل اآلخرة بعمل الدنيا ،لكن الحديث رتب فيه الحكم على القصد
المجرد ،فأما من قصدهما لم يصدق عليه أنه قصد الدنيا فقط ،واهلل سبحانه وتعالى أعلم .
قوله صلى اهلل عليه وسلم :أخبرني عن اإليمان :اإليمان في اللغة :هو مطلق التصديق ،وفي
الشرع :عبارة عن تصديق خاص ،وهو التصديق باهلل ،ومالئكته ،وكتبه ،ورسله ،وباليوم
اآلخر ،وبالقدر خيره وشره .وأما اإلسالم فهو عبارة عن فعل الواجبات ،وهو االنقياد إلى عمل
ِت
الظاهر .قد غاير اهلل تعالى بين اإليمان واإلسالم كما في الحديث ،قال اهلل تعالى َ{:قاَل اَألْع َر اُب
آَم َّنا ُقْل َلْم ُتِْؤ ُم نوا َو َلِك ْن ُقوُلوا َأْس َلْم َنا } [الحجرات .]14:وذلك أَّن المنافقين كانوا يصلون ويصومون
ويتصدقون ،وبقلوبهم ينكرون ،فلما اَّد عوا اإليمان كَّذ َبهم اهلل تعالى في دعواهم اإليمان إلنكارهم
بالقلوب،وصدقهم في دعوى اإلسالم لتعاطيهم إياه .وقال اهلل تعالىِ{ :إذا جاءك المنافقون قالوا نشهُد
إنَك َلَر ُس وُل اِهلل واُهلل يعلُم إَّنك لرسوُلُه واُهلل َيْش َهُد إَّن المنافقيَن لَك اذبونَ} [المنافقون .]1:أي في
دعواهم الشهادة بالرسالة مع مخالفة قلوبهم ،ألن ألسنتهم لم تواطىء قلوبهم ،وشرط الشهادة بالرسالة
:أن يواطىء اللسان القلب فلما كذبوا في دعواهم َّبين اهلل تعالى كذبهم ،ولما كان اإليمان شرطًا في
ِم
صحة اإلسالم استثنى اهلل تعالى من المؤمنين المسلمين قال اهلل تعالى { :فأخرْج نا َم ْن َك اَن فيها َن
المؤمنيَن فما َو َج ْد َنا فيها غير َبْي ٍت ِم َن المِْس لِم يَن } [الذاريات ]36 -35 :فهذا استثناء متصل لما بين
الشروط من االتصال ولهذا سمى اهلل تعالى الصالة :إيمانًا :قال اهلل تعالى ََ { :و َم ا َك اَن اُهلل ليضيع
إيمانكم } [البقرة .]143 :وقال تعالى { :ما كنت تدري ما الكتاب وال اإليمان } [الشورى ]52:أي
الصالة .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :وتؤمن بالقدر خيره وشره )) بفتح الدال وسكونها لغتان ،ومذهب
أهل الحق :إثبات القدر ،ومعناه أن اهلل سبحانه وتعالى قدر األشياء في القدم ،وعلم سبحانه وتعالى
أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى ،وفي أمكنة معلومة وهي تقع على حسب ما قدره
اهلل سبحانه وتعالى .واعلم أن التقادير أربعة :
(األول) التقدير في العلم ولهذا قيل :العناية قبل الوالية ،والسعادة قبل الوالدة ،واللواحق مبنية على
السوابق ،قال اهلل تعالى {يؤفك عنه من ُأِفكَ} [الذاريات ]9:أي يصرف عن سماع القرآن وعن
اإليمان به في الدنيا من صرف عنه في القدم ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم (( :ال يهلك اهلل
إال هالكًا )) أي من كتب في علم اهلل تعالى أنه هالك .
(الثاني) التقدير في اللوح المحفوظ ،وهذا التقدير يمكن أن يتغير قال اهلل تعالى { :يمحو اهلل ما يشاُء
ويثبت وعنده أم الكتاب } [الرعد ]39:وعن ابن عمر رضي اهلل تعالى عنهما أنه كان يقول في
دعائه (( :اللهم إن كنت كتبتني شقيًا فامحني واكتبني سعيدًا )).
(الثالث) التقدير في الرحم ،وذلك أن الملك يؤمر بكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد .
(الرابع ) التقدير وهو سوق المقادير إلى المواقيت ،واهلل تعالى خلق الخير والشر وقدر مجئيه إلى
العبد في أوقات معلومة .و الدليل على أن اهلل تعالى خلق الخير والشر قوله تعالى {:إن المجرمين في
ضالل َو ُسُعُر * يوم ُيسَح بون في النار على وجوِه هْم ذوقوا َم َّس َس َقر * إَّنا كَّل شي خلقناُه بَقَد رِ}
[القمر ]49-47نزلت هذه اآلية في القدرية ،يقال لهم ذلك في جهنم ،وقال تعالى { قل أعوذ برب
الفلق * من شر ما خلق } [الفلق .]2-1وهذا القسم إذا حصل اللطف بالعبد صرف عنه قبل أن
يصل إليه .
وفي الحديث (( :إن الصدقة وصلة الرحم تدفع ميتة السوء وتقلبه سعادة )).
وفي الحديث ((:إن الدعاء والبالء بين السماء واألرض يقتتالن ،ويدفع الدعاء البالء قبل أن ينزل
)).
وزعمت القدرية :أن اهلل تعالى لم يقدر األشياء في القدم ،وال سبق علمه بها ،وأنها مستأنفة ،وأنه
تعالى يعلمها بعد وقوعها ،وكذبوا على اهلل سبحانه وتعالى جَّل عن أقوالهم الكاذبة وتعالى علوًا كبيرًا
،وهؤالء انقرضوا وصارت القدرية في األزمان المتأخرة يقولون :الخير من اهلل والشر من غيره ،
تعالى اهلل عن قولهم ،وصح عنه صلى اهلل عليه وسلم أنه قال (( :القدرية مجوس هذه األمة )) .
سماهم مجوسًا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس ،وزعمت الثنوية أن الخير من فعل النور والشر
من فعل الظلمة فصاروا ثنوية ،كذلك القدرية يضيفون الخير إلى اهلل والشر إلى غيره وهو تعالى
خالق الخير والشر .
قال إمام الحرمين في كتاب ((اإلرشاد )) إن بعض القدرية تقول :لسنا بقدرية بل أنتم القدرية
العتقادكم أخبار القدر ،و رد على هؤالء الجهلة بأنهم يضيفون القدر إلى أنفسهم ،ومن يدعي الشر
لنفسه ويضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يضيفه لغيره وينفيه عن نفسه .
قوله صلى اهلل عليه وسلم :فأخبرني عن اإلحسان قال (( :األحسان أن تعبد اهلل كأنك تراه )) وهذا
مقام المشاهدة ألن من قدر أن يشاهد الملك استحى أن يلتفت إلى غيره في الصالة وأن يشغل قلبه
بغيره ومقام اإلحسان مقام الصديقين وقد تقدم في الحديث األول اإلشارة إلى ذلك .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :فإنه يراك )) غافًال إن غفلت في الصالة وحدثت النفس فيها .
قوله صلى اهلل عليه وسلم :فأخبرني عن الساعة فقال (( :ما المسؤول عنها بأعلم من السائل )) هذا
الجواب على أنه صلى اهلل عليه وسلم كان ال يعلم متى الساعة؟ بل علم الساعة مما استأثر اهلل تعالى
به ،قال اهلل تعالى { :إن اهلل عنده علم الساعة } [لقمان .]34:وقال تعالى { :ثقلت في السماوات
واألرض ،ال تأتيكم إال بغتة } [األعراف.}187:وقال تعالى {:وما يدريك لعل الساعة تكون قريبًا }
[األحزاب.]63:
ومن ادعى أن عمر الدنيا سبعون ألف سنة وأنه بقي منها ثالثة وستون ألف سنة فهو قول باطل حكاه
الطوخي في ((أسباب التنزيل )) عن بعض المنجمين وأهل الحساب ،ومن ادعى أن عمر الدنيا
سبعة آالف سنة فهذا يسوف على الغيب وال يحل اعتقاده.
قوله صلى اهلل عليه وسلم :فأخبرني عن أماراتها قال (( :أن تلد األمة ربتها )) األمار واألمارة
بإثبات التاء وحذفها لغتان ،وروي ربها وربتها ،قال األكثرون هذا إخبار عن كثرة السراري
وأوالدهن ،فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها ألن مال اإلنسان صائر إلى ولده ،وقيل معناه اإلماء
يلدن الملوك فتكون أمة من جملة رعيته ،ويحتمل أن يكون المعنى :أن الشخص يستولد الجارية
ولدًا ويبيعها فيكبر الولد ويشتري أمه ،وهذا من أشراط الساعة.
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :وأن ترى الحفاة العراة العالة ،رعاء الشاء يتطاولون في البنيان )) إذ
العالة هم الفقراء ،والعائل الفقير ،والعيلة الفقر وعال الرجل يعيل عيلة أي افتقر .والرعاء بكسر
الراء وبالمد ويقال فيه رعاة بضم الراء وزيادة تاء بال مد معناه أن أهل البادية وأشباهم من أهل
الحاجة والفاقة يترقون في البنيان والدنيا تبسط لهم حتى يتباهوا في البنيان .
قوله (( :فلبث مليا )) هو بفتح الثاء على أنه للغائب ،وقيل :فلبثت بزيادة تاء المتكلم وكالهما
صحيح .ومليًا بتشديد الياء معناه وقتًا طويًال.وفي رواية أبي داود والترمذي أنه قال :بعد ثالثة أيام
.وفي (( شرح التنبيه )) للبغوي أنه قال :بعد ثالثة فأكثر ،وظاهر هذا أنه بعد ثالث ليال .وفي
ظاهر هذا مخالفة لقول أبي هريرة في حديثه ،ثم أدبر الرجل فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :
(( ردوا علَّى الرجل )) فأخذوا يردونه فلم يروا شيئًا فقال صلى اهلل عليه وسلم (( :رودا علَّى
الرجل )) فأخذوا يرودنه فلم يروا شيئًا فقال صلى اهلل عليه وسلم ((:هذا جبريل )) فيمكن الجمع
بينهما بأن عمر رضي اهلل عنه لم يحضر قول النبي صلى اهلل عليه وسلم لهم في الحال ،بل كان قد
قام من المجلس فأخبر النبي صلى اهلل عليه وسلم الحاضرين في الحال ،وأخبروا عمر بعد ثالث إذ
لم يكن حاضرًا عن إخبار الباقين .
وفي قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :هذا جبريل آتاكم يعلمكم أمر دينكم )) ،فيه دليل على ان اإليمان
،و اإلسالم ،و اإلحسان ،تسمى كلها دينًا ،وفي الحديث دليل على أن اإليمان بالقدر واجب ،وعلى
ترك الخوض في األمور ،وعلى وجوب الرضا بالقضاء .دخل رجل على ابن حنبل رحمه اهلل .
فقال :عظني .فقال له :إن كان اهلل تعالى قد تكفل بالرزق فاهتمامك لماذا ؟ وإ ن كان الخلف على
اهلل حقًا فالبخل لماذا ؟ وإ ن كانت الجنة حقًا فالراحة لماذا ؟ وإ ن كان سؤال منكر ونكير حقًا فاألنس
لماذا؟وإ ن كانت الدنيا فانية فالطمأنينة لماذا ؟ وإ ن كان الحساب حقًا فالجمع لماذا ؟ وإ ن كان كل شيء
بقضاء وقدر فالخوف لماذا ؟
(فائدة ) ذكر صاحب (( مقامات العلماء )) أن الدنيا كلها مقسومة على خمسة وعشرين قسمًا :
خمسة بالقضاء والقدر ،وخمسة باالجتهاد ،وخمسة منها بالعادة ،وخمسة بالجوهر ،وخمسة
بالوراثة .فأما الخمسة التي بالقضاء والقدر :فالرزق ،والولد ،واألهل ،والسلطان ،والعمر .
والخمسة التي باالجتهاد :فالجنة ،والنار ن والعفة ،و الفروسية ،والكتابة .والخمسة التي بالعادة :
فاألكل ،والنوم ،والمشي ،و النكاح ،و التغوط .و الخمسة التي بالجوهر :فالزهد ،والزكاة ،والبذل
،والجمال ،و الهيبة .والخمسة التي بالوراثة :فالخير ،والتواصل ،والسخاء والصدق ،و األمانة .
وهذا كله ال ينافي قوله صلى اهلل عليه وسلم (( كل شيء بقضاء وقدر )).
وإ نما معناه :أن بعض هذه األشياء يكون مرتبًا على سبب ،وبعضها يكون بغير سبب ،والجميع
بقضاء وقدر .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :بني اإلسالم على خمس )) أي فمن أتى بهذه الخمس فقد تم إسالمه ،
كما أن البيت يتم بأركانه كذلك اإلسالم يتم بأركانه وهي خمس ،وهذا بناء معنوي شبه بالحسي ،
ووجه الشبه أن البناء الحسي إذا انهدم بعض أركانه لم يتم ،فكذلك البناء المعنوي ،ولهذا قال صلى
اهلل عليه وسلم :
(( الصالة عماد الدين فمن تركها فقد هدم الدين )) ،و كذلك يقاس البقية .ومما قيل في البناء
المعنوي :
وإ ن تــولـوا فـبـاألش ــرار ت ـنـقــاد بـنـاء األمــور بأهـل الـديـن مـا صـلحـوا
والس ـ ــراة إذا ج ـهــالهم سـ ــادوا ال يـصـلح النـاس فـوضـى ال ســراة له ــم
وال ع ـم ــاد إذا لم تـ ــرس أوتـ ــاد والـبـيـت ال يـبـتنـى إال ل ــه ع ـمــد
وقد ضرب اهلل مثًال للمؤمنين والمنافقين فقال تعالى { :أفمن أسس ُبنياَنُه على تقوى ِم َن اهلل
ورضوان خُير أم من أسس بنيانه علىشفا ُج ُر ف هاٍر فانهاَر به في نار جهنم واهلل ال يهدي القوم
الظالمين } [التوبة .]109شبه بناء المؤمن بالذي وضع بنيانه على وسط طود أي :جبل راسخ
،وشبه بناء الكافر بمن وضع بنيانه على طرف جرف بحر هار ،ال ثبات له فأكله البحر فانهار
الجرف فانهار بنيانه فوقع به في البحر ،فغرق ،فدخل جهنم .
(( بني اإلسالم على خمس )) أي بخمس على أن تكون على :بمعنى الباء وإ ال فالمبني غير المبنى
عليه فلو أخذنا بظاهره لكانت الخمسة خارجة عن اإلسالم وهو فاسد ،ويحتمل أن تكون بمعنى من
كقوله تعالى { إال على أزواجهم }[ .المومنون6:والمعارج .]30:أي من أزواجهم .الخمسة
المذكورة في الحديث أصول البناء وأما التتمات المكمالت كبقية الواجبات وسائر المستحبات فهي
زينة للبناء .وقد ورد في الحديث أنه صلى اهلل عليه وسلم قال :
(( اإليمان بضع وسبعون شعبة أعالها قول ال إله إال اهلل ،قال وأدناها إماطة األذى عن الطريق )).
هكذا جاء في هذه الرواية بتقديم الحج على الصوم ،وهذا من باب الترتيب في الذكر دون الحكم ،
ألن صوم رمضان وجب قبل الحج وقد جاء في الرواية األخرى تقديم الصوم على الحج .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :بني اإلسالم على خمس )) أي فمن أتى بهذه الخمس فقد تم إسالمه ،
كما أن البيت يتم بأركانه كذلك اإلسالم يتم بأركانه وهي خمس ،وهذا بناء معنوي شبه بالحسي ،
ووجه الشبه أن البناء الحسي إذا انهدم بعض أركانه لم يتم ،فكذلك البناء المعنوي ،ولهذا قال صلى
اهلل عليه وسلم :
(( الصالة عماد الدين فمن تركها فقد هدم الدين )) ،و كذلك يقاس البقية .ومما قيل في البناء
المعنوي :
وإ ن تــولـوا فـبـاألش ــرار ت ـنـقــاد بـنـاء األمــور بأهـل الـديـن مـا صـلحـوا
والس ـ ــراة إذا ج ـهــالهم سـ ــادوا ال يـصـلح النـاس فـوضـى ال ســراة له ــم
وال ع ـم ــاد إذا لم تـ ــرس أوتـ ــاد والـبـيـت ال يـبـتنـى إال ل ــه ع ـمــد
وقد ضرب اهلل مثًال للمؤمنين والمنافقين فقال تعالى { :أفمن أسس ُبنياَنُه على تقوى ِم َن اهلل
ورضوان خُير أم من أسس بنيانه علىشفا ُج ُر ف هاٍر فانهاَر به في نار جهنم واهلل ال يهدي القوم
الظالمين } [التوبة .]109شبه بناء المؤمن بالذي وضع بنيانه على وسط طود أي :جبل راسخ
،وشبه بناء الكافر بمن وضع بنيانه على طرف جرف بحر هار ،ال ثبات له فأكله البحر فانهار
الجرف فانهار بنيانه فوقع به في البحر ،فغرق ،فدخل جهنم .
(( اإليمان بضع وسبعون شعبة أعالها قول ال إله إال اهلل ،قال وأدناها إماطة األذى عن الطريق )).
هكذا جاء في هذه الرواية بتقديم الحج على الصوم ،وهذا من باب الترتيب في الذكر دون الحكم ،
ألن صوم رمضان وجب قبل الحج وقد جاء في الرواية األخرى تقديم الصوم على الحج .
قوله :وهو الصادق المصدوق ،أي شهد اهلل له بأنه الصادق ،والمصدوق بمعنى المصدق فيه.
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( يجمع خلقه في بطن أمه )) يحتمل أن يراد أن يجمع بين ماء الرجل
والمرأة فيخلق منهما الولد كما قال اهلل تعالى { :خلق من ماء دافق * َيْخ ُر ج من بين الصلب
والترائب } [الطارق.]6،7:
ويحتمل أن المراد أنه يجمع من البدن كله ،وذلك أنه قيل :إن النطفة في الطور األول تسري في
جسد المرأة أربعين يومًا ،وهي أيام التوحمة ،ثم بعد ذلك يجمع ويدر عليها من تربة المولود
فتصير علقة ثم يستمر في الطور الثاني فيأخذ في الكبر حتى تصير مضغة ،وسميت مضغة ألنها
بقدر اللقمة التي تمضغ ،ثم في الطور الثالث يصور اهلل تلك المضغ ويشق فيها السمع والبصر
والشم والفم ،ويصور في داخل جوفها الحوايا واألمعاء ،قال اهلل تعالى { :هو الذي يصَّو ُر ُك م في
األرحام كيف يشاء ال إله إال هو العزيُز الحكيُم } [آل عمران ،]6:ثم إذا تم الطور الثالث وهو
أربعون صار للمولود أربعة أشهر نفخت فيه الروح ،قال اهلل تعالى { :يا أيها الناس إن كنتم في
ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب } يعني أباكم آدم { ثم من نطفة } يعني ذريته ،والنطفة المني
وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف { ثم من علقة } وهو الدم الغليظ المتجمد ،وتلك النطفة تصير دمًا
غليظًا {ثم من مضغٍة } وهي لحمة { ُم َخ َّلَقٍة وغير ُم َخ َّلَقةٍ} [الحج .]5:قال ابن عباس مخلقة :أي تامة
،وغير مخلقة أي غير تامة بل ناقصة الخلق ،وقال مجاهد :مصورة وغير مصورة ،يعني السقط
.وعن ابن مسعود رضي اهلل تعالى عنه (( :إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها الملك بكفه فقال
:أي رب مخلقة ،أو غير مخلقة ؟ فإن قال :غير مخلقة ،قذفها في الرحم دمًا ولم تكن نسمة ،وإ ن
قال :مخلقة ،قال الملك :أي رب ذكُر أم أنثى ؟ أشقي أم سعيُد ؟ ،ما الرزق وما األجل وبأي
أرض تموت ؟ فيقال له اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك .فيذهب فيجدها في أم الكتاب
فينسخها فال تزال معه حتى يأتي إلى آخر صفته )).
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :فيسبق عليه الكتاب )) أي الذي سبق في العلم ،أو الذي سبق في
اللوح المحفوظ ،أو الذي سبق في بطن األم .وقد تقدم أن المقادير أربعة .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :حتى ما يكون بينه وبينها إال ذراع )) هو تمثيل وتقريب ،والمراد
قطعة من الزمان من آخر عمره وليس المراد حقيقة الذراع وتحديده من الزمان ،فإن الكافر إذا قال
:ال إله إال اهلل محمد رسول اهلل ثم مات دخل الجنة ،والمسلم إذا تكلم في آخر عمره بكلمة الكفر
دخل النار .
وفي الحديث دليل على عدم القطع بدخول الجنة أو النار ،وإ ن عمل سائر أنواع البر ،أو عمل سائر
أنواع الفسق ،وعلى أن الشخص ال يتكل على عمله وال يعجب به ألنه ال يدري ما الخاتمة .وينبغي
لكل أحد أن يسأل اهلل سبحانه وتعالى حسن الخاتمة ويسعيذ باهلل تعالى من سوء الخاتمة وشر العاقبة .
فإن قيل :قال اهلل تعالى {:إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا ال ُنَض ِّيع أجر َم ن أحسن عمًال }.
[الكهف ]30:ظاهر اآلية أن العمل الصالح من المخلص يقبل ،وإ ذا حصل القبول بوعد الكريم أمن
مع ذلك من سوء الخاتمة .
فالجواب من وجهين :احدهما أن يكون ذلك معلقًا على شرط القبول وحسن الخاتمة ،و يحتمل أن من
آمن وأخلص العمل ال يختم له دائمًا إال بخير ،وأن خاتمة السوء إنما تكون في حق من أساء العمل
أو خلطه بالعمل الصالح المشوب بنوع من الرياء والسمعة ويدل عليه الحديث اآلخر (( إن أحدكم
ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس )) أي :فيما يظهر لهم صالح مع فساد سريرته وخبثها ،و
اهلل أعلم .
وفي الحديث دليل على استحباب الحلق لتأكيد األمر في النفوس وقد أقسم اهلل تعالى { :فورب السماء
واألرض إنه لحق } [.الذاريات ،]23:وقال اهلل تعالى {:قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم }.
[التغابن.]7:
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))أي مردود .فيه دليل على
أن العبادات من الغسل والوضوء والصوم والصالة إذا فعلت على خالف الشرع تكون مردودة على
فاعلها ،وأن المأخوذ بالعقد الفاسد يجب رده على صاحبه وال يملك ،وقال صلى اهلل عليه وسلم للذي
قال له :إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته ،وإ ني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه
بمائة شاه ووليدة ،فقال صلى اهلل عليه وسلم (( :الوليدة والغنم رّد عليك )) .وفيه دليل على أن من
ابتدع في الدين بدعة ال توافق الشرع فإثمها عليه ،و عمله مردود عليه وإ نه يستحق الوعيد ،وقد قال
صلى عليه وسلم :
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:وبينهما أمور مشتبهات )) أي بين الحالل والحرام أمور مشتبهة
بالحالل والحرام ،فحيث انتفت الكراهة وكان السؤال عنه بدعة .وذلك إذا قدم غريب بمتاع يبيعه فال
يجب البحث عن ذلك ،بل وال يستحب ،ويكره السؤال عنه .
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )) أي طلب براءة دينه
وسلم من الشبهة .وأما براءة العرض فإنه إذا لم يتركها تطاول إليه السفهاء بالغيبة ونسبوه إلى أكل
الحرام فيكون مدعاة لوقوعهم في اإلثم وقد ورد عنه صلى اهلل عليه وسلم أنه قال (( :من كان يؤمن
باهلل واليوم اآلخر فال يقف ن مواقف التهم )) ..وعن علي رضي اهلل عنه أنه قال :إياك وما يسبق
إلى القلوب إنكاره ،وإ ن كان عندك اعتذاره ،فرب سامع نكرًا ال تستطيع أن تسمعه عذراً.
((إذا أحدث أحدكم في الصالة فليأخذ بأنفه ثم لينصرف )) وذلك لئال يقال عنه أحدث .
قوله عليه الصالة والسالم ((:فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام )) يحتمل أمرين :احدهما أن
يقع في الحرام وهو يظن أنه ليس بحرام .والثاني :أن يكون المعنى قد قارب أن يقع في الحرام كما
يقال :المعاصي بريد الكفر .ألن النفس إذا وقعت في المخالفة تدرجت من مفسدة إلى أخرى أكبر
منها ،قيل :وإ لى ذلك اإلشارة بقوله تعالى { :ويقتلون األنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون }[ .آل عمران .]112:يريد أنهم تدرجوا بالمعاصي إلى قتل األنبياء .
وفي الحديث ((:لعن اهلل السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده )).
أي يتدرج من البيضة والحبل إلى نصاب السرقة ،والحمى ما يحميه الغير من الحشيش في األرض
المباحة فمن رعى حول الحمى يقرب أن تقع فيه ماشيته فيرعي فيما حماه الغير بخالف ما إذا رعى
إبله بعيدًا من الحمى .واعلم أن كل محرم له حمى يحيط به ،فالفرج محرم وحماه الفخذان ألنهما
جعًال حريمًا للمحرم ،وكذلك الخلوة باإلجنبية حمى للمحرم ،فيجب على الشخص أن يجتنب الحريم
والمحَّر م ،فالمحرم حرام لعينه ،والحريم محرم ألنه يتدرج به إلى المحرم .
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:أال وإ ن في الجسد مضغة )) أي في الجسد مضغة إذا خشعت خشعت
الجوارح ،وإ ذا طمحت طمحت الجوارح وإ ذا فسدت فسدت الجوارح .قال العلماء :البدن مملكة
والنفس مدينتها،و القلب وسط المملكة ،و األعضاء كالخدام والقوى الباطنية كضياع المدينة ،والعقل
كالوزير المشفق الناصح به ،والشهوة طالب أرزاق الخدام،و الغضب صاحب الشرطة ،وهو عبد
مكار خبيث ،يتمثل بصورة الناصح ونصحه سم قاتل ،و دأبه أبدًا منازعة الوزير الناصح ،والقوة
المخيلة في مقدم الدماغ كالخازن ،والقوة المفكرة في وسط الدماغ ،والقوة الحافظة في آخر الدماغ ،
واللسان كالترجمان ،و الحواس الخمس جواسيس ،وقد وكل كل واحد منهم بصنيع من الصناعات ،
فوكل العين بعالم األلوان ،والسمع بعالم األصوات ،وكذلك سائرها فإنها أصحاب األخبار ،ثم قيل :
هي كالحجبة توصل إلى النفس ما تدركه ،وقيل :إن السمع والبصر والشم كالطاقات تنظر منها
النفس ،فالقلب هو الملك فإذا صلح الراعي صلحت الرعية وإ ذا فسد فسدت الرعية ،وإ نما يحصل
صالحه بسالمته من األمراض الباطنة كالغل والحقد والحسد والشح والبخل والكبر والسخرية
والرياء والسمعة والمكر والحرص والطمع وعدم الرضى بالمقدور ،وأمراض القلب كثيرة تبلغ نحو
األربعين ،عافانا اهلل منها وجعلنا ممن يأتيه بقلب سليم .
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:الدين النصيحة هلل ولكتابه ولرسوله وألئمة المسلمين وعامتهم )) قال
الخطابي :النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له .وقيل النصيحة مأخوذة من نصح
الرجل ثوبه إذا خاطه ،فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صالح الرجل ثوبه إذا خاطه ،فشبهوا
فعل الناصح فيما يتحراه من صالح المنصوح له بما يسد من خلل الثوب ،وقيل :إنها مأخوذة من
نصحت العسل ،إذا صفيته من الشمع ،شبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط .
قال العلماء :أما النصيحة هلل تعالى فمعناها ينصرف إلى اإليمان باهلل ،ونفي الشريك عنه ،وترك
اإللحاد في صفاته ووصفه بصفات الكمال والجالل كلها ،وتنزيهه سبحانه وتعالى عن جميع أنواع
النقائص ،و القيام بطاعته ،و اجتناب معصيته ،والحب فيه ،والبغض فيه ،ومودة من أطاعه ،
ومعاداة من عصاه ،وجهاد من كفر به ،واالعتراف بنعمته ،وشكره عليها ،واإلخالص في جميع
األمور ،والدعاء إلى جميع األوصاف المذكورة والحث عليها ،و التطلف بجميع الناس ،أو من أمكن
منهم عليها ،وحقيقة هذه األوصاف راجعة إلى العبد في نصحه نفسه ،و اهلل تعالى غني عن نصح
الناصحين .
وأما النصيحة لكتاب اهلل تعالى :فاإليمان بأنه كالم اهلل تعالى وتنزيله ،ال يشبهه شيء من كالم الناس
،وال يقدر على مثله أحد من الخلق ثم تعظيمه وتالوته حق تالوته ،وتحسينها ،والخشوع عندها ،و
إقامة حروفه في التالوة ،و الذب عنه لتأويل المحرفين ،وتعريض الطاعنين والتصديق بما فيه ،
والوقوف مع أحكامه ،وتفهم علومه وأمثاله ،واالعتبار بمواعظه،و التكفير في عجائبه ،والعمل
بمحكمه ،والتسليم لمتشابهه ،والبحث عن عمومه وخصوصه ،وناسخه ومنسوخه ،ونشر علومه
والدعاء إليه وإ لى ما ذكرناه من نصيحته .
وأما النصيحة لرسوله صلى اهلل عليه وسلم :فتصديقه على الرسالة ،واإليمان بجميع ما جاء به ،
وطاعته في أمره ونهيه ونصرته حيًا وميتًا ،ومعاداة من عاداه ومواالة من واله ،وإ عظام حقه
وتوقيره ،وإ حياء طريقته وسننه ،وبث دعوته ونشر سنته ،ونفس التهم عنها ،و نشر علومها ،
والفقه فيها ،والدعاء لها ،والتلطف في تعلمها وتعليمها ،وإ عظامها وإ جاللها ،والتأدب عند
قراءتها ،واإلمساك عن الكالم فيها بغير علم ،و إجالل أهلها النتسابهم إليها .والتخلق بأخالقه
والتأدب بآدابه ،ومحبة أهل بيته وأصحابه ،ومجانبة من ابتدع سنته أو تعرض ألحد من أصحابه
ونحو ذلك .
وأما النصيحة ألئمة المسلمين :فمعاونتهم على الحق ،وطاعتهم فيه ،وأمرهم به ونهيهم وتذكيرهم
برفق ،وإ عالمهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين ،وترك الخورج عليهم ،وتأليف
قلوب المسلمين لطاعتهم .
قال الخطابي :ومن النصيحة لهم ،الصالة خلفهم ،والجهاد معهم ،وأداء الصدقات إليهم ،وترك
الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة ،وأن ال يغروا بالثناء الكاذب عليهم ،
وأن يدعى لهم بالصالح .
قال ابن بطال رحمه اهلل تعالى :في هذا الحديث دليل أن النصيحة تسمى دينًا وإ سالمًا ،وأن الدين
يقع على العمل كما يقع على القول ،قال :والنصيحة فرض يجزى فيه من قام به ،يسقط عن الباقين
،قال :والنصيحة واجبة على قدر الطاعة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره وأمن على
نفسه المكروه ،فإن خشي أذى فهو في سعة واهلل تعالى أعلم .فإن قيل ففي صحيح البخاري أنه
صلى اهلل عليه وسلم قال (( :إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له )) ،وهويدل على تعليق الوجوب
باالستنصاح ال مطلقًا ،ومفهوم الشرط حجة في تخصيص عموم المنطوق .فجوابه :يمكن حمل
ذلك على األمور الدنيونية كنكاح امرأة ومعاملة رجل ونحو ذلك ،واألول يحتمل بعمومه في األمور
الدينية التي هي واجبة على كل مسلم ،و اهلل تعالى أعلم .
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:أمرت إلخ )) ..فيه دليل على أن مطلق األمر وصيغته تدل على
الوجوب.
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم )) ،فإن قيل :فالصوم
من أركان اإلسالم وكذلك الحج ولم يذكرهما ،فجوابه :أن الصوم ال يقاتل اإلنسان عليه بل يحبس
ويمنع الطعام والشراب ،والحج على التراخي ،فاليقاتل عليه ،وإ نما ذكر رسول اهلل صلى عليه
وسلم هذه الثالثة ألنه يقاتل على تركها ولهذا لم يذكر الصوم والحج لمعاذ حين بعثه إلى اليمن ،بل
ذكر هذه الثالثة ،خاصة ..
وقوله صلى اهلل عليه وسلم (( :إال بحق اإلسالم )) فمن حق اإلسالم فعل الواجبات ،فمن ترك
الواجبات جاز قتاله كالبغاة ،وقطاع الطريق ،والصائل ،ومانع الزكاة ،والممتنع من بذله الماء
للمضطر والبهيمة المحترمة .والجاني والممتنع من قضاء الدين مع الُقدرة ،والزاني المحصن ،و
تارك الجمعة والوضوء.
ففي تلك األحوال يباح قتله وقتاله ،وكذلك لو ترك الجماعة ،وقلنا إنها فرض عين ،أو كفاية .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :و حسابهم على اهلل )) يعني من أتى بالشهادتين واقام الصالة وآتى
الزكاة عصم دمه وماله ،ثم إن كان فعل ذلك بنية خالصة صالحة فهو مؤمن ،وإ ن كان فعله تقية
وخوفًا من السيف كالمنافق فحسابه على اهلل ،وهو متولي السرائر ،وكذلك من صلى بغير وضوء أو
غسل من الجنابة ،أو أكل في بيته وادعى أنه صائم ،يقبل منه وحسابه على اهلل عز وجل واهلل أعلم
.
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه )) أي اجتنبوه جملة واحدة ال تفعلوه وال شيئًا
منه ،وهذا محموله على نهي التحريم ،فأما نهي الكراهة فيجوز فعله ،وأصل النهي في اللغة :
المنع .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )) فيه مسائل :منها إذا وجد ماء
للوضوء ال يكفيه فاألظهر وجوب استعماله ثم يتيمم للباقي .ومنها إذا وجد بعض الصاع في الفطرة
فإنه يجب إخراجه .ومنها إذا وجد بعض ما يكفي لنفقة القريب أو الزوجة أو البهيمة فإنه يجب بذله
.وهذا بخالف ما اذا وجد بعض الرقبة فإنه ال يجب عتقه عن الكفارة ،ألن الكفارة لها بدل وهو
الصوم .
وقوله صلى اهلل عليه وسلم ((:فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختالفهم علىأنبيائهم )).
اعلم ان السؤال على أقسام :
القسم األول :سؤال الجاهل عن فرائض الدين كالوضوء والصالة والصوم ،وعن أحكام المعاملة
ونحو ذلك .
وهذا السؤال واجب وعليه حمل قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:طلب العلم فريضة على كل مسلم ))
ومسلمة ،وال يسع اإلنسان السكوت عن ذلك قال تعالى { :فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ال تعلمون }
[النحل ،]43:وقال ابن عباس رضي اهلل عنهما :إني أعطيت لسانًا سؤوًال وقلبًا عقوًال ،كذلك أخبر
عن نفسه رضي اهلل تعالى عنه .
والقسم الثاني :السؤال عن التفقه في الدين سبحانه وتعالى {:فلوال نفرَ ِم ْن ُك َّل فرقٍة منهم طائفة ،
ليتفقهوا في الدين وِلينِذ روا قوَمُهْم إذا َر َج عوا إليهم لعلهم َيحَذ رون } [التوبة.]122:
وقال صلى اهلل عليه وسلم ((:أال فليعلم الشاهد منكم الغائب )).
القسم الثالث :أن يسأل عن شيء لم يوجبه اهلل عليه ،وال على غيره ،وعلى هذا حمل الحديث ألنه
قد يكون في السؤال ترتب مشقة بسبب تكليف يحصل ولهذا قال صلى اهلل عليه وسلم (( :وسكت
عن أشياء رحمة لكم فال تسألوا عنها )) .وعن علي رضي اهلل عنه لما نزلت {وهلل على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيالً}[ .آل عمران .]97:
قال رجل :أكل عام يا رسول اهلل ؟ فأعرض عنه ،حتى أعاد مرتين أو ثالثًا فقال رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم :
(( وما يوشك أن أقول نعم ،واهلل لو قلت :نعم لو جبت ،ولو وجبت لما استطعتم ،فاتركوني ما
تركتكم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختالفهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما
استطعتم وإ ذا نهيتكم عن أمر فأجتنبوه )).
فإنزل اهلل تعالى { :يا أيها الذين آمنوا ال تسألوا عن أشياء إن ُتْبَد لكم َتُسُؤ ُك م } [المائدة .]101:أي لم
آمركم بالعمل بها ،وهذا النهي خاص بزمانه صلى اهلل عليه وسلم .أما بعد أن استقرت الشريعة ،و
أمن من الزيادة فيها زال النهي بزوال سببه ،وكره جماعة من السلف السؤال عن معاني اآليات
المشتبهة .
سئل مالك رحمه اهلل تعالى عن قوله تعالى {:الرحمن على العرش استوى }[طه ]5:فقال :االستواء
معلوم ،والكيف مجهول ،واإليمان به واجب ،والسؤال عنه بدعة ،وأراك رجل سوء أخرجوه عني
.
وقال بعضهم :مذهب السلف أسلم ،ومذهب الخلف أعلم :وهو السؤال .
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:إن اهلل تعالى طيب )) ،عن عائشة رضي اهلل عنها قالت :سمعت
رسول اهلل صلى عليه وسلم يقول ((:اللهم إني أسألك باسمك المطهر الطاهر ،الطيب المبارك
األحب إليك الذي إذا دعيت به أجبت ،وإ ذا سئلت به أعطيت ،وإ ذا استرحمت به رحمت ،واذا
استفرجت به فرجت )) ،ومعنى الطيب :المنزه عن النقائص والخبائث ،فيكون بمعنى القدوس
وقيل طيب الثناء ومسلتذ األسماء عند العارفين بها :وهو طيب عباده لدخول الجنة باإلعمال
الصالحة وطيبها لهم ،والكلمة الطيبة :ال إله إال اهلل .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :ال يقبل إال طيبًا )) أي فال يتقرب إليه بصدقة حرام ،ويكره التصدق
بالرديء من الطعام كالحب العتيق المسوس ،وكذلك يكره التصدق بما فيه شبهة قال اهلل تعالى :
{ وال تيمموا الخبيث منه تنفقون } [البقرة .]267:فكما أنه تعالى ال يقبل المال إال الطيب كذلك ال
يقبل من العمل إال الطيب الخالص من شائبة الرياء والعجب والسمعة ونحوها .
قوله :فقال تعالى { :يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا } [المؤمنون.]51:وقوله تعالى
{:يا أيها الذين أمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم }[البقرة .]172:المراد بالطيبات الحالل.
في الحديث دليل على أن الشخص يثاب على ما يأكله إذا قصد به التقوي على الطاعة أو إحياء نفسه
،و ذلك من الواجبات ،بخالف ما إذا أكل لمجرد الشهوة والتنعم .
قوله ((:مطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام )) أي شبع ،وهو بضم الغين المعجمة وكسر
الذال المعجمة المخففة من الغذي بالكسر والقصر ،و أما الغداء بالفتح والمد والدال المهملة :فهو
عبارة عن نفس الطعام الذي يؤكل في الغداة ،قال اهلل تعالى {:قال لفتاه آتنا غداءنا } [الكهف .]62:
قوله (( :فأنى يستجاب له )) أي استبعادُا لقبوله إجابة الدعاء ،و لهذا شرط العبادي لقبول الدعاء أكل
الحالل ،والصحيح أن ذلك ليس بشرط فقد استجاب لشر خلقه إبليس فقال {:إنك من المنظرين }
[األعراف.]15:
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((دع ما يريبك إلى ما ال يريبك )) فيه دليل على أن المتقي ينبغي له أن ال
يأكل المال الذي فيه شبهة ،كما يحرم عليه أكل الحرام ،وقد تقدم .
قوله (( :إلى ما ال يريبك )) أي اعدل إلى ما ال ريب فيه من الطعام الذي يطمئن به القلب وتسكن
إليه النفس .والريبة :الشك وتقدم الكالم عن الشبهة .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :من حسن إسالم المرء تركه ما ال يعنيه )) أي ما ال يهمه من أمر
الدين والدنيا من األفعال واألقوال .وقال صلى اهلل عليه وسلم ألبي ذر حين سأله عن صحف إبراهيم
قال ((:كانت أمثاًال كلها ،كان فيها :أيها السلطان المغرور إني لم أبعثك لتجمع األموال بعضها
على بعض ولكن بعثتك لترد عن دعوة المظلوم فإني ال أردها ،ولوكانت من كافر .وكان فيها :
على العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن يكون له أربع ساعات :ساعة يناجي فيها ربه ،وساعة
يتفكر في صنع اهلل تعالى ،وساعة يحدث فيها نفسه ،وساعة يخلو بذي الجالل واإلكرام ،وإ ن تلك
الساعة عون له علىتلك الساعات. ،و كان فيها :على العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله ،أن ال
يكون ساعيًا إال في ثالث :تزود لمعاد ،ومؤنة لمعاش ،ولذة في غير محرم .وكان فيها :على العاقل
ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن يكون بصيرًا لزمانه ،مقبًال على شأنه .حافظًا للسانه ،ومن حسب
الكالم من عمله يوشك أن يقل الكالم إال فيما يعنيه )) .
قلت :بأبي وأمي فما كان في صحف موسى ؟ قال (( :كانت عبرًا كلها ،كان فيها :عجبًا لمن أيقن
بالنار كيف يضحك ،وعجبًا لمن أيقن بالموت كيف يفرح ،وعجبًا لمن رآى الدنيا وتقلبها بأهلها وهو
يطمئن إليها ،و عجبًا لمن أيقن بالقدر ثم هو يغضب ،وعجبًا لمن أيقن بالحساب غدًا وهو ال يعمل
))؟!.
قلت :بأبي وأمي هل بقي مما كان في صحفهما شيء؟ قال (( :نعم يا أباذر { قد أفلح من تزكى *
وذكر اسم ربه فصلى* بل تؤثرون الحياة الدنيا * واآلِخ ة خيَّر وأبقى * إَّن هذا لفي الُّص ِف
ُح ُر
األولى * صحف إبراهيم وموسى } [األعلى .]19-14:إلى آخر السورة .
قلت :بأبي وأمي أوصني ،قال ((:أوصيك بتقوى اهلل فإنها رأس أمرك كله )) ،قال :قلت زدني ،
قال (( :عليك بتالوة القرآن واذكر اهلل كثيرًا فإنه يذكرك في السماء )) ،قلت زدني ،قال ((:عليك
بالجهاد فإنه رهبانية المؤمنين )) ،قلت زدني ،قال (( :عليك بالصمت فإنه مطردة للشياطين عنك
،وعون لك على أمر دينك )) ،قلت زدني ،قال (( :قل الحق ولو كان مرًا )) ،قلت زدني ،قال :
(( ال تأخذك في اهلل لومة الئم )) ،قلت :زدني ،قال((صل رحمك وإ ن قطعوك )) ،قلت :زدني ،قال
(( :بحسب امرئ من الشر ما يجهل من نفسه ،ويتكلف ما ال يعنيه .يا أبا ذر :ال عقل كالتدبير ،
وال ورع كالكف ،وال حسن كحسن الخلق )).
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( ال يؤمن أحدكم حتى يحب ألخيه ما يحب لنفسه )) :األولى أن يحمل
ذلك علىعموم األخوة ،حتي يشمل الكافر والمسلم ،فيحب ألخيه الكافر ما يحب لنفسه من دخوله في
اإلسالم ،كما يحب ألخيه المسلم دوامه على اإلسالم ،ولهذا كان الدعاء بالهداية للكافر مستحبًا،
والحديث محمول على نفي اإليمان الكامل عمن لم يحب ألخيه ما يحب لنفسه .والمراد بالمحبة
إرادة الخير والمنفعة ،ثم المراد :المحبة الدينية ال المحبة البشرية ،فإن الطباع البشرية قد تكره
حصول الخير وتمييز غيرها عليها ،واإلنسان يجب عليه أن يخالف الطباع البشرية ويدعو ألخيه
ويتمنى له ما يحب لنفسه ،والشخص متى لم يحب ألخيه ما يحب لنفسه كان حسودًا .
الثاني :أن يتمنى زوال نعمة الغير وإ ن لم تحصل له كما إذا كان عنده مثلها أو لم يكن يحبها ،وهذا
أشر من األول .
الثالث :أن ال يتمنى زوال النعمة عن الغير ولكن يكره ارتفاعه عليه في الحظ والمنزلة ويرضى
بالمساواةوال يرضى بالزيادة ،وهذا أيضًا محرم ألنه لم يرض بقسمة اهلل تعالى {:أهم يقسمون رحمة
ربك؟! نحن قسمنا معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعَض ُهم فوق بعٍض درجاٍت ليتخَذ بعُض ًهم بعضًا
سخريًا ورحمُة ربَك خيُُر مما يجمعون } [الزخرف .]32:فمن لم يرض بالقسمة فقد عارض اهلل تعالى
في قسمته وحكمته.وعلى اإلنسان أن يعالج نفسه ويحملها علىالرضى بالقضاء ويخالفها بالدعاء لعدوه
بما يخالف النفس .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :الثيب الزاني )) المراد :من تزوج ووطىء في نكاح صحيح ثم زنا
بعد ذلك ،فإنه يرجم ،وإ ن لم يكن متزوجًا في حالة الزنا التصافه باإلحصان .
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:والنفس بالنفس )) أي بشرط المكافأة فال يقتل المسلم بالكافر وال الحر
بالعبد عند الشافعية ،ال الحنفية.
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:والتارك لدينه المفارق للجماعة ))وهو المرتد والعياذ باهلل تعالى ،وقد
يكون موافقًا للجماعة كاليهودي إذا تنصر ،وبالعكس يقتل ألنه تارك لدينه غير مفارق للجماعة ،
وفيه قوالن ،أصحها :ال يقتل بل يلحق بالمأمن .والثاني :يقتل ألنه اعتقد بطالن دينه الذي كان
عليه وانتقل إلى دين كان يرى بطالنه قبل ذلك ،وهو غير الحق فال يترك بل إن لم يسلم يقتل ،وقد
تقدم القتل أيضًا في صورة سبق الكالم عليها .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليقل خيرًا أو ليصمت )) قال
الشافعي رحمه اهلل تعالى :معنى الحديث :إذا أراد أن يتكلم فليفكر ،فإن ظهر أنه ال ضرر عليه
تكلم ،وإ ن ظهر أن فيه ضرر أو شك فيه أمسك .وقال اإلمام الجليل أبو محمد ابن أبي زيد إمام
المالكية بالمغرب في زمنه :جميع آداب الخير تتفرع من أربعة أحاديث :قول النبي صلى اهلل عليه
وسلم (( من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليقل خيرًا أو ليصمت )) .وقوله صلى اهلل عليه وسلم ((:
من حسن إسالم المرء تركه ما ال يعنيه )) .وقوله صلى اهلل عليه وسلم :للذي اختصر له الوصية :
(( ال تغضب )).
وقوله ((:ال يؤمن أحدكم حتى يحب ألخيه ما يحب لنفسه )).
ونقل عن أبي القاسم القشيري رحمه اهلل تعالى أنه قال :السكوت في وقته صفة الرجال ،كما أن
النطق في موضعه من أشرف الخصال .قال :وسمعت أبا علي الدقاق يقول :من سكت عن الحق
فهو شيطان أخرس .وكذا نقله في (( حلية العلماء )) عن غير واحد .وفي (( حلية األولياء )) أن
اإلنسان ينبغي له أن ال يخرج من كالمه إال ما يحتاج إليه ،كما أنه ال ينفق من كسبه إال ما يحتاج
إليه وقال :لو كنتم تشترون الكاغد للحفظة لسكتم عن كثير من الكالم .وروي عنه صلى اهلل عليه
وسلم أنه قال ((:من فقه الرجل قلة كالمه فيما ال يعنيه )) وروي عنه صلى اهلل عليه وسلم أنه قال:
(( العافية في عشرة أجزاء :تسعة منها في الصمت إَّال عن ذكر اهلل تعالى عز وجل )) .ويقال :من
سكت فسلم ،كمن قال فغنم .وقيل لبعضهم :لم لزمت السكوت ؟ قال :ألن لم أندم على السكوت قط
،و قد ندمت على الكالم مرارًا .ومما قيل :جرح اللسان كجرح اليد ،وقيل :اللسان كلب عقور إن
خلي عنه عقر .وروي عن على رضي اهلل عنه .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليكرم جاره ،ومن كان يؤمن باهلل
واليوم اآلخر فليكرم ضيفه )).
قال القاضي عياض :معنى الحديث :أن من التزم شرائع اإلسالم ،لزمه إكرام الضيف والجار .
وقد قال صلى اهلل عليه وسلم ((:ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه )) .وقال
صلى اهلل عليه وسلم (( من آذى جاره ملكه اهلل داره )) .وقوله تعالى {:والجار ذي القربي والجار
الجنب }[النساء.]36:
الجار يقع على أربعة :الساكن معك في البيت .قال الشاعر :
ويقع على من الصق لبيتك ،ويقع على أربعين دارًا من كل جانب ،ويقع على من يسكن معك في البلد
،قال اهلل تعالى {:ثم ال يجاورنك فيها إال قليًال }[األحزاب]6:فالجار القريب المسلم له ثالثة حقوق،
والجار البعيد المسلم له حقان ،وغير القريب المسلم له حق واحد .
والضيافة من آداب اإلسالم ،وخلق النبين والصالحين ،و قد أوجبها الليث ليلة واحدة ،واختلفوا :اهل
الضيافة على الحاضر والبادي ،أم على البادي خاصة ؟ فذهب الشافعي ،ومحمد بن عبد الحكم إلى
أنها على الحاضر والبادي .وذهب مالك وسحنون :إلى أنها على أهل البوادي ،ألن المسافر يجد في
الحضر المنازل في الفنادق ومواضع النزول وما يشتري من األسواق وقد جاء في حديث (( :
الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر )).
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( ال تغضب )) معناه التنفذ غضبك ،وليس النهي راجعًا إلىنفس الغضب
،ألنه من طباع البشر ،وال يمكن اإلنسان دفعه .
وقوله عليه الصالة والسالم (( :إياكم والغضب فإنه جمرة تتوقد في فؤاد ابن آدم ،ألم تر إلى أحدكم
إذا غضب كيف تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه ،فإذا أحس أحدكم بشيء من ذلك فليضجع أو ليلصق
باألرض )).
وجاء رجل إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم فقال :يا رسول اهلل علمني علمًا يقربني من الجنة ويبعدني
من النار قال (( :ال تغضب ولك الجنة )).
وقال صلى اهلل عليه وسلم ((:إن الغضب من الشيطان وإ ن الشيطان خلق من النار وإ نما يطفىء
النار الماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ )).
وقال أبو ذر الغفاري :قال لنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ((:إذا غضب أحدكم وهو قائم
فليجلس ،فإن ذهب عنه الغضب وإ ال فليضجع )).
وقال عيسى عليه الصالة والسالم ليحي بن زكريا عليه الصالة والسالم :إني معلمك علمًا نافعًا :ال
تغضب .فقال :وكيف لي أن ال أغضب ؟قال إذا قيل لك ما فيك فقل :ذنب ذكرته أستغفر اهلل منه ،
وإ ن قيل لك ما ليس فيك فاحمد اهلل إذ لم يجعل فيك ما عيرت به ،وهي حسنة سيقت إليك .
وقال عمرو بن العاص :سألت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عما يبعدني عن غضب اهلل تعالى قال
((:ال تغضب )).
وقال لقمان ألبنه :إذا أردت أن تؤاخي أخًا فأغضبه ،فإن أنصفك وهو مغضب ،وإ ال فاحذره .
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:إن اهلل كتب اإلحسان على كل شيء )) من جملة اإلحسان عند قتل
المسلم في القصاص أن يتفقد آلة القصاص ،وال يقتل بآلة كاّلة،وكذلك يحد الشفرة عند الذبح ،و
يريح البهيمة ،و ال يقطع منها شيء حتى تموت ،و ال يحد السكين قبالتها ،وأن يعرض عليها الماء
قبل الذبح ،وال يذبح اللبون ،وال ذات الولد ،حتى يستغني عن اللبن.وإ ن ال يستقصي في الحلب ،
ويقلم أظفاره عند الحلب ،قالوا :وال يذبح واحدة قّد ام أخرى.
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:اتق اهلل حيثما كنت )) أي اتقه في الخلوة كما تتقيه في الجلوة بحضرة
الناس ،واتقه في سائر األمكنة واألزمنة .مما يعين على التقوى استحضار أن اهلل تعالى مطلع على
العبد في سائر أحواله ،قال اهلل تعالى {:ما يكون من نجوى ثالثة إال هو رابعهم وال خمسة إال هو
سادسهم وال أدنى من ذلك وال أكثر إال هو معهم أين ما كانوا ثم ُيَنِّبُئهم بما عملوا يوم القيامة إّن اهلل
بكل شيء عليم } [المجادلة.]7:
والتقوى كلمة جامعة لفعل الواجبات وترك المنهيات .
وقوله صلى اهلل عليه وسلم ((:وأتبع السيئه الحسنة تمحها )) أي إذا فعلت سيئة فاستغفر اهلل تعالى
منها وافعل بعدها حسنة تمحها .
اعلم :أن ظاهر هذا الحديث يدل على أن الحسنة ال تمحو إال سيئة واحدة ،وإ ن كانت الحسنة بعشر
،وأن التضعيف ال يمحو السيئه ،وليس هذا على ظاهره ،بل الحسنة الواحدة تمحو عشر سئيات .
وقد ورد في الحديث ما يشهد لذلك وهو قوله صلى اهلل عليه وسلم ُ(( :تِّك برون دبر كل الصالة عشرًا
وتحمدون عشرًا وُتسِّبحون عشرًا فذلك َم ائة وخمسون باللسان وألف وخمسائة في الميزان )).
ثم قال صلى اهلل عليه وسلم (( :أيكم يفعل في اليوم الواحد ألفًا وخمسمائة سيئة ))دل على أن
التضعيف يمحو السيئات .وظاهر الحديث :أن الحسنة تمحو السيئة المتعلقة بحق اهلل تعالى ،أما
السيئة المتعلقة بحق العباد من الغضب والغيبة والنميمة ،فال يمحوها إال االستحالل من العباد ،وال
بد أن يعين له جهة الظالمة ،فيقول :قلت عليك كيت وكيت .
وفي الحديث دليل على أن محاسبة النفس واجبة ،قال صلى اهلل عليه وسلم ((:حاسبوا أنفسكم قبل
أن تحاسبوا )) .وقال اهلل تعالى { :يا أيها الذين آمنوا اتقوا اهلل ولَتنُظر نفُس ما قدمت لغدٍ} [الحشر:
.]18
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :وخالق الناس بخلق حسن )) ..اعلم أن الخلق الحسن كلمة جامعة
لإلحسان إلى الناس ،وإ لى كف األذى عنهم ،قال صلى اهلل عليه وسلم (( :إنكم لن تسعوا الناس
بأموالكم فسعوه ا ببسط الوجه وحسن الخلق )).
وعنه صلى اهلل عليه وسلم (( :أن رجًال أتاه فقال :يا رسول اهلل ما أفضل األعمال ؟ قال ((:حسن
الخلق )) ،وهو على ما مر أن أن ال تغضب .
ويقال :اشتكى نبي إلى ربه سوء خلق امرأته ،فأوحى اهلل إليه :قد جعلت ذلك حظك من األذى .
وعن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم (( :أكمل المؤمنين إيمانًا
أحسنهم أخالقًا ،وخيارهم خيارهم لنسائهم )) .
وعنه صلى اهلل عليه وسلم (( :إن اهلل اختار لكم اإلسالم دينًا فأكرموه بحسن الخلق والسخاء ،فإنه
ال يكمل إال بها )).
وقال جبريل عليه السالم للنبي صلى اهلل عليه وسلم حين نزل قوله تعالى { :خذ العفو وأمر بالعرف
وأعرض عن الجاهلين } [األعراف .]199 :
قال في تفسير ذلك :أن تعفو عمن ظلمك ،وتصل من قطعك وتعطي من حرمك.
وقال اهلل تعالى ُ {:اْد َفْع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } [فصلت.]34:
وقيل في تفسير قوله تعالى {:وإ َّنَك لعلى ُخ ُلٍق عظيم } [القلم.]4:
قال :كان خلقه القرآن ،يأتمر بأمره وينزجر بزواجره ،ويرضى لرضاه ،ويسخط لسخطه صلى
اهلل عليه وسلم .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :احفظ اهلل يحفظك )) أي احفظ أوامره وامتثلها ،وانته عن نواهيه ،
يحفظك في تقلباتكم ودنياك وآخرتك قال اهلل تعالى { :من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
فلنحيينه حياة طيبة } [النحل .]97:وما يحصل للعبد من البالء والمصائب بسبب تضييع أوامر اهلل
تعالى ،قال اهلل تعالى {:وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم }[الشورى.]30:
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :تجده تجاهك )) أي أمامك ،قال صلى اهلل عليه وسلم (( :تعرف إلى
اهلل في الرخاء يعرفك في الشدة )) وقد نص اهلل تعالى في كتابه :أن العمل الصالح ينفع في الشدة
وينجي فاعله ،وأن عمل المصائب يؤدي بصاحبه إلى الشدة ،قال اهلل تعالى حكاية عن يونس عليه
الصالة والسالم { :فلو ال أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } [الصافات -143:
.]144ولما قال فرعون {:آمنت أنه ال إله إال الذي آمنت به بنو إسرائيل } قال الملك {:اآلن وقد
عصيت قبل وكنت من المفسدين } [يونس .]91-90:
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :إذا سألت فاسأل اهلل )) إشارة إلى أن العبد ال ينبغي له أن يعلق سره
بغير اهلل ،بل يتوكل عليه في سائر أموره ،ثم إن كانت الحاجة التي يسألها لم تجر العادة بجريانها
على أيدي خلقه :كطلب الهداية ،والعلم ،والفهم في القرآن والسنة ،وشفاء المرض ،وحصول
العافية من بالء الدنيا وعذاب اآلخرة ،سأل ربه ذلك .وإ ن كانت الحاجة التي يسألها جرت العادة أن
اهلل سبحانه وتعالى يجريها على أيدي خلقه ،كالحاجات المتعلقة بأصحاب الحرف والصنائع ،ووالة
األمور ،سأل اهلل تعالى أن يعطف عليه قلوبهم فيقول :اللهم حنن علينا قلوب عبادك وإ مائك ،و ما
أشبه ذلك ،وال يدعو اهلل تعالى باستغنائه عن الخلق ألنه صلى اهلل عليه وسلم سمع عليًا يقول :اللهم
اغننا عن خلقك فقال (( :ال تقل هكذا فإن الخلق يحتاج بعضهم إلى بعض ،ولكن قل :اللهم اغننا
عن شرار خلقك )) وأما سؤال الخلق واالعتماد عليهم فمذموم ،ويروى عن اهلل تعالى في الكتب
المنزلة :أيقرع بالخواطر باب غيري وبابي مفتوح ؟ أم هل يؤمل للشدائد سواي وأنا الملك القادر ؟
ألكسوَّن من أمل غيري ثوب المذلة بين الناس ...الخ .
قوله (( :واعلم أن األمة )) الخ ،لما كان قد يطمع في بر من يحبه ويخاف شر من يحذره ،قطع اهلل
اليأس من نفع الخلق بقوله {:وإ ن يمسسك اهلل ُبضٍر فال كاشف له إال هو وإ ن يردك بخير فال راد
لفضله }[يونس .]107:وال ينافي هذا كله قوله تعالى حكاية عن موسى عليه الصالة والسالم :
{فأخاف أن يقتلون }[الشعراء[ .]14:والقصص .]33:وقوله تعالى {:إّننا نخاُف أن يفرَط علينا أو أْن
َيْطغى }[طه .]45:وكذا قوله {:خذوا حذركم }[النساء]71:إلى غير ذلك.
بل السالمة بقدر اهلل ،والعطب بقدر اهلل ،واإلنسان يفر من أسباب العطب إلى أسباب إلى أسباب
السالمة ،قال اهلل تعالى{ :وال تلقوا بأيديكم إلى التهُلكة }[البقرة.]195:
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:واعلم أن النصر مع الصبر )) قال صلى عليه وسلم ((:ال تتمنوا لقاء
العدو ،واسألوا اهلل العافية ،فإذا لقيتموهم فاصبروا وال تفروا ،فإن اهلل مع الصابرين )) ..وكذلك
الصبر على األذى في موطن يعقبه النصر.
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:وأّن الفرج مع الكرب )) والكرب هو شدة البالء ،فإذا اشتد البالء
أعقبه اهلل تعالى الفرج كما قيل :اشتدي أزمة تنفرجي.
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :وأن مع العسر يسرًا )) قد جاء في حديث آخر أنه صلى اهلل عليه
وسلم قال ((:لن يغلب عسر يسرين )) وذلك أن اهلل تعالى ذكر العسر مرتين وذكر اليسر مرتين ،
لكن عند العرب أن المعرفة إذا أعيدت معرفة توحدت ألن الالم الثانية للعهد ،واذا أعيدت النكرة
تعددت فالعسر ذكر مرتين معرفًا ،واليسر مرتين منكرًا فكان ،اثنين فلهذا قال صلى اهلل عليه وسلم
((:لن يغلب عسر يسرين )).
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:اذا لم تستح فاصنع ما شئت )) معناُه :إذا أردت فعل شيء ،فإن كان
مما ال تستحي من فعله من اهلل ،وال من الناس فافعله ،وإ ال فال .وعلى هذا الحديث يدور مدار
اإلسالم كله ،وعلى هذا يكون قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:فاصنع ما شئت )) أمر إباحة ،ألن الفعل
إذا لم يكن منهيًا عنه شرعًا كان مباحًا.
ومنهم من فسر الحديث بأنك إذا كنت ال تستحي من اهلل وال تراقبه فاعط نفسك مناها وافعل ما تشاء ،
فيكون األمر فيه للتهديد ال لإلباحة ،ويكون كقوله تعالى {:اعملوا ما شئتم }[فصلت.]40:
وكقوله تعالى{:واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك وَر جلَك وشاِر كُهْم في
األموال واألوالد وِع ْد ُهم وما يعدهم الشيطاُن إال غرورًا }[اإلسراء.]64:
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:قل آمنت باهلل ثم استقم ))أي كما أمرت ونهيت ،واالستقامة مالزمة
الطريق بفعل الواجبات وترك المنهيات ،قال اهلل تعالى {:فاستقم كما أمرت ومن تاب معك }[هود:
.]112وقال اهلل تعالى {:إن الذين قالوا ربنا اهلل ثم استقاموا تتنزل عليهم المالئكة }[فصلت .]30:أي
عند الموت تبشرهم بقوله تعالى{ :ال تخافوا وال تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنت توعدون }[فصلت:
.]30
وفي التفسير أنهم إذا بشروا بالجنة قالوا :وأوالدنا ما يأكلون وما حالهم بعدنا؟ فيقال لهم { :نحن
أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي اآلخرة }[.فصلت]31:أي نتولى أمرهم بعدكم ،فتقر بذلك أعينهم .
َو َم ْع نى َح َّر ْم ُت الَح راَم :اْج َتَنْب ُتُه َ .و َم ْع نى َأْح َلْلُت الَح الَل َ:فَع ْلُتُه ُم ْع َِتقدًا ِح َّلُه.
وقوله (( :وأحللت الحالل )) أي اعتقدته حالًال وفعلت منه الواجبات (( ،وحرمت الحرام )) أي
اعتقدته حرامًا ولم أفعله.
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:الطهور شطر اإليمان )) فسر الغزالي الطهور :بطهارة القلب من
الغل والحسد والحقد وسائر أمراض القلب .وذلك أن اإليمان الكامل إنما يتم بذلك ،فمن أتى
بالشهادتين حصل له الشطر ،ومن طهر قلبه من بقية األمراض كمل إيمانه ،ومن لم يطهر قلبه فقد
نقص إيمانه .
قال بعضهم :ومن طهر قلبه وتوضأ واغتسل وصلى ،فقد دخل الصالة بالطهارتين جميعًا ،ومن
دخل في الصالة بطهارة األعضاء خاصة فقد دخل بإحدى الطهارتين ،واهلل سبحانه وتعالى ال ينظر
إال إلى طهارة القلب لقوله صلى اهلل عليه وسلم ((:إن اهلل ال ينظر إلى صوركم وأبشاركم ولكن ينظر
إلى قلوبكم )).
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:والحمد هلل تمأل الميزان ،وسبحان اهلل والحمد هلل تمآلن أو تمأل ما بين
السماء واألرض )) وهذا قد يشكل على الحديث اآلخر وهو أن موسى عليه الصالة والسالم قال (( :
يا رب دلني على عمل يدخلني الجنة ؟ قال :يا موسى قل :ال إله إال اهلل ،فلو وضعت السماوات
السبع واألرضون السبع في كفة ،وال إله إال اهلل في كفة ،لرجحت بهم ال إله إال اهلل )) .ومعلوم أن
السماوات واألرضين أوسع مما بين السماء واألرض ،وإ ذا كانت الحمد هلل تمأل الميزان وزيادة ،لزم
أن تكونا لحمد هلل تمأل ما بين السماء واألرض ألن الميزان أوسع مما بين السماء األرض ،و الحمد
هلل تملؤها .والمراد لو كان جسمًا لمأل الميزان ،أو أن ثواب الحمد هلل يملؤها .
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:والصالة نور )) أي ثوابها نور وفي الحديث َ ((:بِّش ر الماشين في
الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة )).
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:والصدقة برهان )) أي دليل على صحة إيمان صاحبها ،وسميت
صدقة ألنها دليل على صدق إيمانه ،وذلك أن المنافق قد يصلي ،وال تسهل عليه الصدقة غالبًا.
وقوله صلى اهلل عليه وسلم ((:والصبر ضياء )) أي الصبر المحبوب ،وهو الصبر على طاعة اهلل
،و البالء ومكاره الدنيا ،ومعناه :ال يزال صاحبه مستمرًا على الصواب .
قوله صلى اهلل عليه وسلم (( :كل الناس يغدو فبائع نفسه )) معناه كل إنسان يسعى لنفسه ،فمنهم من
يبيعها هلل بطاعته فيعتقها من العذاب ،ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتباعهما ((فيوبقها )) أي
يهلكها ،قال عليه الصالة والسالم ((:من قال حين يصبح أو يمسي :اللهم إني أصبحت أشهدك
وأشهد حملة عرشك ومالئكتك وأنبياءك وجميع خلقك أنك أنت اهلل ال إله إال أنت وحدك ال شريك لك
،وأن محمدًا عبدك ونبيك ،أعتق اهلل ربعه من النار ،فإن قالها مرتين أعتق اهلل نصفه من النار ،فإن
قالها ثالثُا أعتق اهلل ثالثة أرباعه من النار ،فإن قالها أربعًا أعتق اهلل كله من النار )).
فإن قيل :المالك إذا أتق بعض عبده سرى العتق إلى باقيه واهلل تعالى أعتق الربع األول فلم يسر
عليه وكذلك الباقي.
فالجواب :إن السراية قهرية ،واهلل تعالى ال تقع عليه األشياء القهرية بخالف غيره ،وال يقع في
حكمه سبحانه ما ال يريد ،قال اهلل تعالى {:إن اهلل اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأّن لهُم الجنَة
ُيقاتلون في سبيِل اهلل َفَيقتلون وُيقَتلون وعدًا عليه حقًا في التوارة واإلنجيل والقرآن و من أوفى بعهده
من اهلل فاستبشروا ببِيعُك م الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم }[التوبة.]111:
قال بعض العلماء :لم يقع بيع أشرف من هذا ،وذلك أن المشتر ي هو اهلل ،و البائع المؤمنون
،والمبيع األنفس ،والثمن الجنة.
وفي اآلية دليل على أن البائع يجبر أوًال على تسليم السلعة قبل أن يقبض الثمن ،وأن المشتري ال
يجبر أوًال على تسليم الثمن.
وذلك أن اهلل تعالى أوجب على المؤمنين الجهاد حتى يقتلوا في سبيل اهلل فأوجب عليهم أن يسلموا
األنفس المبيعة ويأخذوا الجنة .فإن قيل :كيف يشتري السيد من عبيده أنفسهم ،و األنفس ملك له ؟!
قيل :كاتبهم ثم اشترى منهم ،واهلل تعالى أوجب عليهم الصلوات الخمس والصوم وغير ذلك ،فإذا
أّد وا ذلك فهم أحرار ،و اهلل تعالى أعلم .
قوله عز وجل (( :إني حرمت الظلم على نفسي )) أي تقدست عنه ،والظلم مستحيل في حق اهلل
تعالى ،فإن الظلم مجاوزة الحد والتصرف في ملك الغير وهما جميعًا محال في حق اهلل تعالى .
قوله تعالى ((:إنكم َتخَطأون بالليل والنهار )) بفتح التاء والطاء على أنه من خطىء بفتح الخاء
وكسر الطاء يخطأ في المضارع ،ويجوز فيه ضم التاء على أنه من أخطاء ،والخطأ يستعمل في
العمد والسهو وال يصح إنكار هذه اللغة ويرد عليه قوله تعالى {:إَّن َقْتلهُم كاَن ِخ طًأ كبيرًا }[اإلسراء:
.]31بفتح الخاء والطاء وقرىء((خطئًا كبيرًا )) أيضًا.
قوله تعالى ((:لو أن أولكم وآخركم وإ نسكم وجنكم ))...إلخ دلت األدلة السمعية والعقلية على أن اهلل
مستغن في ذاته عن كل شيء ،وأنه تعالى ال يتكثر بشيء من مخلوقاته ،وقد بين اهلل تعالى أن له
ملك السماوات واألرض وما بينهما ،ثم بين أنهم مستغن عن ذلك قال تعالى {:يخلق اهلل ما يشاء }[آل
عمران .]47:وهو قادر على أن يذهب هذا الوجود ويخلق غيره ،ومن قدر على أن يخلق كل شيء،
فقد استغنى عن كل موجود ،ثم بين سبحانه وتعالى أنه مستغن عن الشريك فقال تعالى {:ولم يكن له
شريك في الملك } .ثم بين سبحانه وتعالى أنه مستغن عن المعين والظهير فقال تعالى {:ولم يكن له
ولي من الذل }[اإلسراء .]111:فوصف العز ثابت أبدًا ،ووصف الذل منتف عنه تعالى ،ومن كان
كذلك فهو مستغن عن طاعة المطيع ،ولو أن الخلق كلهم أطاعوا كطاعة أتقى رجل منهم ،وبادروا
إلى أوامره ونواهيه ولم يخالفوه ،لم يتكثر سبحانه وتعالى بذلك ،وال يكون ذلك زيادة في ملكه ،و
طاعتهم إنما حصلت بتوفيقه وإ عانته ،وطاعتهم نعمة منه عليهم ،ولو إنهم كلهم عصوه كمعصية
أفجر رجل وهو إبليس ،وخالفوه أمره ونهيه لم يضره ذلك ولم ينقص ذلك من كمال ملكه شيئًا ،فإنه
لو شاء أهلكهم وخلق غيرهم فسبحان من ال تنفعه الطاعة ،وال تضره المعصية .
قوله تعالى ((:فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إال كما ينقص المخيط اذا أدخل
البحر )) ومعلوم أن المخيط وهو اإلبرة وذلك في المشاهدة ال تنقص من البحر شيئًا ،والذي يتعلق
بالمخيط ال يظهر له أثر في المشاهدة وال الوزن .
قوله تعالى ((:فمن وجد خيرًا فليحمد اهلل )) أي على توفيقه لطاعته.
قوله تعالى ((:ومن وجد غير ذلك فال يلومن إال نفسه )) حيث اعطاها مناها واتبع هواها.
قوله :قالوا يا رسول اهلل أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال ((:أرأيتم لو وضعها في حرام أكان
عليه وزر )) اعلم أن شهوة الجماع أحبها األنبياء والصالحون ،قالوا :لما فيها من المصالح الدينية
والدنيوية من غِّض البصر وكسر الشهوة عن الزنا وحصول النسل الذي تتم به عمارة الدنيا وتكثر
األمة إلى يوم القيامة ،قالوا :وسائر الشهوات يقسي تعاطيها القلب ،إال هذه فإنها ترقق القلب .
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:كل سالمى من الناس عليه صدقة )) والسالمى أعضاء اإلنسان ،وذكر
أنها ثالث مائة وستون عضوًا منها صدقة كل يوم ،وكل عمل بر من تسبيح أو تهليل أو تكبير أو
خطوة يخطوها إلى الصالة صدقة ،فمن أدى هذه في أول يومه فقد أدى زكاة بدنه فيحفظ بقيته .
وفي الحديث:
(( يقول اهلل تعالى :يا ابن آدم صِّل لي أربع ركعات في أول اليوم أكفك في أول اليوم وأكفك في
آخره )).
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:البر حسن الخلق )) وقد تقدم الكالم في حسن الخلق ،قال ابن عمر :
البر أمر هين ،وجه طلق ولسان لين .وقد ذكر اهلل تعالى آية جمعت أنواع البر فقال تعالى {:ولكن
البَّر َم ْن آَم َن باهلل واليوِم اآلخر }[البقرة.]177
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:واإلثم ما حاك في نفسك )) أي اختلج وتردد ولم تطمئن النفس إلىفعله ،
وفي الحديث دليل على أن اإلنسان يراجع قلبه إذا أراد اإلقدام على فعل شيء فإن اطمأنت عليه
النفس فعله وإ ن لم تطمئن تركه ،وقد تقدم الكالم على الشبهة في حديث (( الحالل بين والحرام بين
)) .ويروى أن آدم عليه الصالة والسالم أوصى بنيه بوصايا ،منها أنه قال :إذا أردتم فعل شيء فإن
اضطربت قلوبكم فال تفعلوه ،فإني لما دنوت من أكل الشجرة اضطرب قلبي عند األكل .ومنها أنه
قال :إذا أردتم فعل شيء فانظروا في عاقبته فإني لو نظرت في عاقبة األكل ما أكلت من الشجرة .
ومنها أنه قال :إذا أردتم فعل شيء فاستشيروا األخيار فإني لو استشرت المالئكة ألشاروا علّي بترك
األكل من الشجرة .
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:وكرهت أن يطلع عليه الناس )) ألن الناس قد يلومون اإلنسان على
أكل الشبهة وعلى أخذها وعلى نكاح امرأة قد قيل إنها أرضعت معه ولهذا قال صلى اهلل عليه وسلم :
(( كيف وقد قيل )) .وكذلك الحرام إذا تعاطاه الشخص يكره أن يطلع عليه الناس ،ومثال الحرام
األكل من مال الغير ،فإن يجوز إن كان يتحقق رضاه ،فإن شك في رضاه حرم األكل ،وكذلك
التصرف في الوديعة بغير إذن صاحبها ،فإن الناس إذا اطلعوا على ذلك أنكروه عليه ،وهو يكره
اطالع الناس على ذلك ألنهم ينكرون عليه .
مثاله الهدية إذا جاءتك من شخص ،غالب ماله حرام ،وترددت النفس في حلها ،وأفتاك المفتي بحل
األكل فإن الفتوى التزيل الشبهة ،وكذلك إذا أخبرته امرأة بأنه ارتضع مع فالنة ،فإن المفتي إذا
أفتاه بجواز نكاحها لعدم استكمال النصاب ال تكون الفتوى مزيلة للشبهة ،بل ينبغي الورع وإ ن أفتاه
الناس ،واهلل أعلم .
((وسنة الخلفاء الراشدين المهديين )) رضي اهلل عنهم ،يريد األربعة وهم :أبوبكر ،وعمر وعثمان
،وعلي .
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:وذرون سنامة )) أي أعاله ،و((ِم الك الشيء )) بكسر الميم :أي
مقصوده.
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:ثكلتك أمك )) أي فقدتك ،ولم يقصد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
حقيقة الدعاء بل جرى ذلك على عادة العرب في المخاطبات ،و(( حصائد ألسنتهم )) جناياتها على
الناس بالوقوع في أعراضهم والمشي بالنميمة ونحو ذلك ،وجنايات اللسان :الغيبة والنميمة والكذب
والبهتان وكلمة الكفر والسخرية وخلف الوعد ،قال اهلل تعالى َ{:ك ُبَر مقتًا ِع ْنَد اهلل أْن تقولوا ما ال
َتْفَع لون }[الصف.]30:
وقوله صلى اهلل عليه وسلم ((:حرم أشياء فال تنتهكوها )) أي فال تدخلوا فيها .
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:وسكت عن أشياء رحمة لكم )) تقدم معناه .
قوله صلى اهلل عليه وسلم(( ازهد في الدنيا يحبك اهلل) ) الزهد :ترك ما ال يحتاج إليه من الدنيا ،و
إن كان حالًال ،و االقتصار على الكفاية ،والورع :ترك الشبهات ،قالوا :وأعقل الناس الزهاد ،
ألنهم أحبوا ما أحب اهلل ،وكرهوا ما كره اهلل من جمع الدنيا ،واستعلموا الراحة ألنفسهم .قال
الشافعي رحمه اهلل تعالى :لو أوصى ألعقل الناس صرف للزهاد .ولبعضهم :
وإ ن تجـتذبــها نــازع ـتـك كــالبــها فــإن تجـتـنـبـها كـنـت سلـمًا ألهـلـها
حــرام على ن ـفــس الــتقـي ارتـكابـها فــدع عــنك فضــالت األمــور فإنــها
قوله (( :حرام على نفس التقي ارتكابها )) يدل على تحريم الفرح بالدنيا ،وقد صرح بذلك البغوي
في تفسير قوله تعالى {:وفرحوا بالحياة الدنيا }[الرعد .]26:ثم المراد بالدنيا بالمذمومة :طلب الزائد
على الكفاية ،أما طلب الكفاية فواجب ،قال بعضهم :وليس ذلك من الدنيا ،وأما الدنيا فالزائدة على
الكفاية ،واستدل بقوله تعالى ُ { :ز ِّين للناِس ُح ُّب الشهواِت من النساِء والَبِنيَن والقناطير المقنطرة
من الذهب والفضة والخيل المسُّو ِم ة واألنعاِم والحرث ذلك متاُع الحياِة الدنيا واهلل عنده حسن المآب }
[آل عمران .]14:فقوله تعالى ذلك إشارة إلى ما تقدم من طلب التوسع والتبسط ،قال الشافعي
رحمه تعالى :طلب الزائد من الحالل عقوبة ابتلى اهلل بها أهل التوحيد .ولبعضهم :
إال التي كــان قـ ـبــل المــوت يبنيها ال دار للمــرء ب ـعــد المـوت يـسـكـنـها
وإ ن ب ـنـاها ب ـشـر خــاب بـانـيها فــإن بـنـاها بـخـير طــاب مـسـكـنـه
ثم بعد ذلك إذا فرح بها ألجل المباهاة والتفاخر والتطاول على الناس فهو مذموم ،ومن فرح بها
لكونها من فضل اهلل عليه فهو محمود.
قال عمر رضي اهلل عنه :اللهم إنا ال نفرح إال بما رزقتنا .
وقد اهلل تعالى المقتصدين في العيش فقال تعالى {:والذين إذا أنفقوا لم ُيسرفوا ولم َيقُتروا وكان بين
ذلك قواماً}[الفرقان.]67:
وقال صلى اهلل عليه وسلم ((:ما خاب من استخار وال ندم من استشار ،وال افتقر من اقتصد )).
وكان يقال :القصد في المعيشة يكفي عنك نصف المؤنة ،واالقتصاد :الرضى بالكفاية ،قال بعض
الصالحين :من اكتسب طيبًا وأنفق قصدًا قدم فضًال.
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:ال ضرار )) أي ال يضر أحدكم أحدًا بغير حق وال جناية سابقة .
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:وال ضرار )) أي التضر من ضرك ،وإ ذا سبك أحد فال تسبه ،وإ ن
ضربك فال تضربه ،بل اطلب حقك منه عند الحاكم من غير مسابة ،وإ ذا تساب رجالن أو تقاذفا لم
يحصل التقاص ،بل كل واحد يأخذ حقه بالحاكم ،وفي الحديث عنه صلى اهلل عليه وسلم قال (( :
للمتسابين ما قاال ،وعلى البادي منهما اإلثم ،ما لم يعتد المظلوم بسبب زائد )).
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر )) إنما كانت البينة على
المدعي ألنه يدعي خالف الظاهر واألصل براءة الذمة ،وإ نما كانت اليمين في جانب المدعى عليه
ألنه يدعي ما وافق األصل وهو براءة الذمة .
ويستثنى مسائل ،فيقبل المدعي بال بينة فيما ال يعلم إال من جهته كدعوى األب حاجة إلى اإلعفاف ،
ودعوى السفيه التوقان إلى النكاح مع القرينة ،ودعوى الخنثى األنوثة والذكورة ،ودعوى الطفل
البلوغ باالحتالم ،ودعوى القريب عدم المال ليأخذ النفقة ،ودعوى المدين اإلعسار في دين لزمه بال
مقابل ،كصداق الزوجة ،و الضمان ،وقيمة المتلف ،و دعوى المرأة انقضاء العدة باإلقراء ،أو
بوضع الحمل ،ودعواها أنها استحلت وطلقت ،ودعوى المودع تلف الوديعة أو ضياعها بسرقة
ونحوها .
ويستثنى أيضًا :القسامة فإن اإليمان يكون في جانب المدعي مع اللوث ،والِلعان فإن الزوج يقذف
ويالعن ويسقط عنه الحدود ،و دعوى الوطء في مدة اللعنة ،فإن المرأة اذا أنكرته يصدق الزوج
بدعواه ،إال أن تكون الزوجة بكرًا ،وكذا لو ادعى أنه وطىء في مدة اإليالء ،وتارك الصالة إذا قال
:صليت في البيت ،ومانع الزكاة إذا قال :أخرجتها إال أن ينكر الفقراء وهم محصورون فعليه البينة
،وكذا لو ادعى الفقر وطلب الزكاة أعطي وال يحلف ،بخالف ما إذا ادعى العيال فإنه يحتاج إلى
البينة ،ولو أكل في يوم الثالثين من رمضان وادعى أنه رأى الهالل لم يقبل منه إن ادعى ذلك بعد
األكل ،فإنه ينفي عن نفسه التعزير ،وإ ذا ادعى ذلك قبل األكل قبل ولم يعزر ،وينبغي أن يأكل سرًا
ألن شهادته وحده ال تقبل.
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:واليمين على من أنكر )) هذه اليمين تسمى يمين الصبر ،وتسمى
الغموس ،وسميت يمين الصبر ألنها تحبس صاحب الحق عن حقه والحبس :الصبر ،ومنه قيل
للقتيل والمحبوس عن الدفن مصبر ،قال صلى اهلل عليه وسلم ((:من حلف على يمين صبر يقتطع
به مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي وهو عليه غضبان )) وهذه اليمين ال تكون إال على الماضي،
ووقعت في القرآن العظيم في مواضع كثيرة :منها قوله تعالى {:يِح ُلفون باهلل ما قالوا } [التوبة،]74:
ومنها قوله تعالى إخبارًا عن الكفرة { :ثم لم تكن فتنتهم إال أن قالوا :واهلل رّبنا ما ُك َّنا ُم شِر كين }
[األنعام .]23:ومنها قوله تعالى{:إَّن الذين يشترون بعهِد اهلل وأيمانهم ثمنًا قليًال أولئك الخالق لهم في
اآلخرة وال ُيكلُمُهم اُهلل وال ينظُر إليهم يوم القيامِة وال ُيزكيهْم وُلهْم عذاِّب أليم }[آل عمران.]77:
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:وذلك أضعف اإليمان )) ليس المراد أن العاجز إذا أنكر بقلبه يكون
إيمانه أضعف من إيمان غيره ،وإ نما المراد أن ذلك أدنى اإليمان ،وذلك أن العمل ثمرة اإليمان
،وأعلى ثمرة اإليمان في باب النهي عن المنكر أن ينهي بيده ،وإ ن قتل كان شهيدًا ،قال اهلل تعالى
حاكيًا عن لقمان {:يا ُبَّني أِقِم الصالَة وأُمْر بالمعروِف واْن ه عن الُم نَك ِر واصِبْر على ما أصاَبك }
[لقمان ]17:ويجب النهي على القادر باللسان وإ ن لم يسمع منه ،كما إذا علم أنه إذا سلم ال ُيرد عليه
السالم فإنه يسلم.
فإن قيل قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:فإن ،لم يستطع فبلسانه ،فإن لم يستطع فبقلبه )) يقتضي أن غير
المستطيع ال يجوز له التغيير بغير القلب واألمر للوجوب .فجوابه من وجهين :احدهما أن المفهوم
مخصص بقوله تعالى {:واصبر على ما أصابك }.
فإن قيل اإلنكار بالقلب ليس تغيير المنكر فما معنى قوله صلى اهلل عليه وسلم ((فبقلبه )).
فجوابه :أن المراد أن ينكر ذلك وال يرضاه ويشتغل بذكر اهلل ،وقد مدح اهلل تعالى العاملين بذلك
فقال {:وإ ذا مُّر وا بالّلغو مُّر وا كرامًا }[الفرقان.]72:
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:ال تحاسدوا )) قد تقدم أن الحسد على ثالثة أنواع .والنجش :أصله
االرتفاع والزيادة ،و هو أن يزيد في ثمن سلعة ليغر غيره ،وهو حرام ،ألنه غش وخديعة .
وقوله صلى اهلل عليه وسلم ((:وال تدابروا )) أي ال يهجر أحدكم أخاه وإ ن رآه أعطاه دبره أو ظهره
قال صلى اهلل عليه وسلم ((:ال يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثالثة أيام يلتقيان فُيعرض هذا
وُيعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسالم )).
والبيع على بيع أخيه ،صورته :أن يبيع أخوه شيئًا فيأمر المشتري بالفسخ ليبيعه مثله أ و أحسن منه
بأقبل من ثمن ذلك ،والشراء علىالشراء حرام :بأن يأمر البائع بالفسخ ليشتريه منه بأغلى ثمن ،
وكذلك يحرم السوم على سوم أخيه ،وكل هذا داخل في الحديث لحصول المعنى ،و هو التباغض
والتدابر ،وتقييد النهي ببيع أخيه يقتضي أنه ال يحرم على بيع الكافر ،وهو وجه البن خالويه ،
والصحيح ال فرق ألنه من باب الوفاء بالذمة والعهد.
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:التقوى ههنا )) وأشار بيده إلى صدره وأراد القلب ،وقدتقدم قوله صلى
اهلل عليه وسلم ((:أال وإ ن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله )) قوله صلى اهلل عليه
وسلك ((:وال يخذله )) أي عند أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر ،أو عند مطالبته بحق من
الحقوق ،بل ينصره ويعينه ويدفع عنه األذى ما استطاع.
وقوله صلى اهلل عليه وسلم ((:وال يحقره )) أي فال يحكم على نفسه بأنه خير من غيره ،بل يحكم
على غيره بأنه خير منه ،أو ال يحكم بشيء فإن العاقبة منطوية وال يدري العبد بما يختم له ،فإذا
رأى صغيرًا مسلمًا حكم بأنه خير منه باعتبار أنه أخف ذنوبًا منه ،وإ ن رأى من هو أكبر سنًا منه
حكم له بالخيرية باعتبار أنه أقدم هجره مه في اإلسالم ،وإ ن رأى كافرًا لم يقطع له بالنار ال حتمال
أنه يسلم فيموت مسلمًا.
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:بحسب امرىء من الشر )) .أي يكفيه من الشر (( أن يحقر أخاه ))
يعني أن هذا شر عظيم يكفي فاعله عقوبة هذا الذنب ..
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:كل المسلم إلخ )) قال في حجة الوداع ((:إن دماءكم وأموالكم
وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا )) .واستدل الكرابيسي بهذا الحديث على أن
الغيبة الوقوع في عرض المسلمين كبيرة إما لداللة االقتران بالدم والمال إما لتشبيه بقوله ((:كحرمة
يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا )) وقد توعد اهلل تعالى بالعذاب األليم عليه فقال تعالى َ{:و َم ْن
ُيِر ْد ِف يِه ِبِإْلَح اٍد ِبْظلٍم ُنِذ ْقُه ِم ْن َع َذ اٍب أليٍم }[الحج.]25:
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس اهلل عنه كربة من كرب
يوم القيامة )) فيه دليل على استحباب خالص األسير من أيدي الكفار بماله يعطيه ،و على تخليص
المسلم من أيدي الظلمة وخالصه من السجن .يقال :إن يوسف عليه السالم لما خرج من السجن
كتب على بابه ((:هذا قبر األحياء ،وشماتة األعداء ،وتجربة األصدقاء )) .ويدخل في هذا الباب
الضمان عن المعسر ،والكفالة ببدنه ،لمن هو قادر عليه ،أما العاجز فال ينبغي له ذلك ،وقال بعض
أصحاب القفال :إن في التوراة مكتوبًا ((:الكفالة مذمومة )) أولها ندامة وأوسطها مالمة ،وآخرها
غرامة )) .فإن قيل :قال اهلل تعالى {:ومن جاء بالحسنة فله َع ْش ُر أمثالها }[األنعام .]160:وهذا
الحديث يدل على أن الحسنة بمثلها ألنها قوبلت بتنفيس كربة واحدة ،و لم تقابل بعشر كرب من يوم
القيامة.
فجوابه من وجهين :أحدهما أن هذا من باب مفهوم العدد ،والحكم المعلق بعدد ال يدل على نفي
الزيادة والنقصان .
والثاني :أن كل كربة من كرب يوم القيامة تشتمل على أهوال كثيرة وأحوال صعبة ومخاوف جمة ،
وتلك األهوال تزيد علىالعشرة وأضعافها .وفي الحديث سر آخر مكتوم يظهر بطريق الالزم للملزوم
،وذلك أن فيه وعدًا بإخبار الصادق :أن من نفس الكربة عن المسلم يختم له بخير ،ويموت على
اإلسالم ،ألن الكفار ال يرحم في دار اآلخرة وال ينفس عنه من كربه شيء ،ففي الحديث إشارة إلى
بشارة تضمنتها العبارة الواردة عن صاحب اإلمارة ،فبهذا الوعد العظيم فليثق الواثقون {لمثل هذا
فليعمل العاملون }[الصافات.]61:فأفضل العمل تنفيس الكرب.
وفي الحديث دليل على استحباب ستر المسلم إذا اطلع عليه أنه عمل فاحشة قال اهلل تعالى {:إَّن الذين
يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ،لهم عذاب أليم في الدنيا واآلخرة }[النور .]19:والمستحب
لإلنسان إذا اقترف ذنبًا أن يستر علىنفسه ،وأما شهود الزنا ،فاختلف فيهم على وجهين ،احدهما :
يستحب لهم الستر ،والثاني :الشهادة.
وفصل بعضهم فقال :إن رأوا مصلحة في الشهادة شهدوا ،أو في الستر ستروا.
وفي الحديث دليل على استحباب المشي في طلب العلم ،ويروى أن اهلل سبحانه وتعالى أوحى إلى
داود عليه الصالة والسالم :أن خذ عصا من حديد ونعلين من حديد وامش في طلب العلم حتى يتخرق
النعالن وتتكسر العصا.
وفيه دليل على خدمةالعلماء ومالزمتهم والسفر معهم واكتساب العلم منهم ،قال اهلل تعالى حاكيًا عن
موسى عليه الصالة والسالم{:هل َأِتبُعَك على أن تعلمني مما علمت ُر شدًا }[الكهف.]66:
وعلم أن هذا الحديث له شرائط ،منها العمل بما يعلمه ،وقال أنس رضي اهلل عنه :العلماء همتهم
الرعاية ،والسفهاء همتهم الرواية ،قال الشاعر :
خـ ــالــف مــا قــد قـالـه في المـال يــاق ــوم مــن أظ ـلــم مـن واعــظ
وخــالــف ال ــرح ـمــن لـمـا خال أظ ـهــر بـيـن ال ــخلــق إحـســانه
ومن شرائطه نشره قال اهلل تعالى {:فلوال نفر من كل فرقة منهم طائفة َليَتَفَّقُهوا في الدين ولينذروا
قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }[التوبة .]122:وروى أنس رضي اهلل تعالى عنه أن النبي
صلى اهلل عليه وسلم قال ألصحابه ((:أال أخبركم عن أجود األجواد )) قالوا بلى يا رسول اهلل ،قال
((:اهلل أجود األجواد ،وأنا أجود ولد آدم ،وأجودهم بعدي رجل علم علمًا فنشره يبعث يوم القيامة
أمةوحده ،ورجل بنفسه في سبيل اهلل حتى قتل )).
ومن شرائطه ترك المباهاة والممارة .وروي عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال ((:من طلب
العلم ألربعة دخل النار :ليباهي به العلماء ،أو يماري به السفهاء ،أو يأخذ به األموال ،أو يصرف
به وجوه الناس إليه )).
ومن شرائطه االحتساب في نشره وترك البخل به ،قال اهلل تعالى {:قل ال أسألكم عليه أجرًا }
[األنعام.]90:
ومن شرائطه ترك األنفة من قول ال أدري ،قال صلى اهلل عليه وسلم في علو مرتبته لما سئل عن
الساعة ((:ما المسؤول عنها بأعلم من السائل )) .وسئل عن الروح فقال ((:ال أدري )).
ومن شرائطه التواضع قال اهلل تعالى {:وعباُد الرحمن الذين يمشون على األرض هوناً}[الفرقان
.]63قال صلى اهلل عليه وسلم ألبي ذر ((:يا أبا ذر احفظ وصية نبيك عسى أن ينفعك اهلل بها ،
تواضع هلل عز وجل عسى أن يرفعك القيامة ،وسلم على من لقيت من أمتي بَّر ها وفاجرها ،والبس
الخشن من الثياب ،والُتِر ْد بذلك إال وجه اهلل تعالى ،لعل الكبر والحمية ال يجدان في قبلك مساغًا )).
ومن شرائطه احتمال األذى في بذل النصيحة واالقتداء بالسلف الصالح في ذلك قال اهلل تعالى {:وأنه
عن المنكر واصبر على ما أصابك}[لقمان . ]17:وقال صلى اهلل عليه وسلم ((:ما أوذي نِّبي مثل ما
أوذيت )).
ومن شرائطه أن يقصد بعلمه من كان أحوج إلى التعليم ،كما يقصد بالصدقة بالمال األحوج فاألحوج
،فمن أحيا جاهُال بتعليم العلم فكأنما أحيا الناس جمعيًا ،ومما قيل في تنبيه الغافل ورده إلى الطاعة .
ع ـفــا ع ــن الذن ــب لــه الـغـافر مــن رد ع ـبــدًا آب ـق ـًا شـ ــاردًا
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:إال نزلت عليه السكينة )) هي فعيلة من السكون ،أي الطمأنينة من اهلل
،قال اهلل تعالى {:أال بذكِر تطَم ِئُّن القلوب }[الرعد .]28:وكفى بذكر اهلل شرفًا ذكر اهلل العبد في المأل
األعلى .ولهذا قيل:
وقيل :
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:كتبها اهلل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ))
روى البزار في مسنده أنه صلى اهلل عليه وسلم قال (:األعمال سبعة :عمالن موجبان ،وعمالن
واحد بواحد ،وعمل الحسنة فيه بعشرة ،وعمل الحسنة فيه بسبعمائة ضعف ،وعمل ال يحصي ثوابه
إال اهلل تعالى .فأما العمالن الموجبان فالكفر واإليمان ،فاإليمان يوجب الجنة والكفر يوجب النار ،
وأما العمالن اللذان هما واحد بواحد ،فمن هم بحسنة ولم يعملها كتبها اهلل له حسنة ،ومن عمل سيئة
كتب اهلل عليه سيئة واحدة ،وأما العمل الذي بسبعمائة ضعف فهو الجهاد في سبيل اهلل تعالى {:كمثل
حبٍة أْن بَتْت سبع سنابل في كل سنبلة مائُة حبة }[البقرة .]26:ثم ذكر اهلل سبحانه وتعالى أنه يضاعف
لمن يشاء زيادة على ذلك ،وقال اهلل تعالى {:وإ ن تُك َح َس نة يضاعفها ويؤِت من لدنه أجرًا عظيماً}
[النساء.]40:فدلت اآلية والحديث وهو قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:إلى أضعاف كثيرة )) إن العشر
والسبعمائة كلمة ليست للتحديد وأنه يضاعف لمن يشاء ويعطي من لدنه ما ال يعد وال يحصى
فسبحان من ال تحصى آالؤه وال تعد نعماؤه فله الشكر والنعمة والفضل .
وأما السابع فهو الصوم ((،يقول اهلل تعالى ُ:ك ُّل َع َم ِل اْب ن آدم له إال الصوُم فإَّنُه لي وأنا أجزي به )).
فال يعلم ثواب الصوم إال اهلل .
قوله صلى اهلل عليه وسلم عن ربه تعالى ((:من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب )) المراد هنا بالولي
:المؤمن قال اهلل تعالى{:اهلل ولي الذين آمنوا }[البقرة.]257:فمن آذى مؤمنًا فقد آذنه اهلل ،أي أعلمه
اهلل أنه محارب له ،واهلل تعالى إذا حارب العبد أهلكه ،فليحذر اإلنسان من التعرض لكل مسلم قوله
تعالى ((:وما تقرب إلَّي عبدي بشيء أحب إلًّي مما افترضته عليه )) فيه دليل على أن فعل الفريضة
من أفضل النوافل ،وجاء في الحديث((:إن ثواب الفريضة يفضل على ثواب النافلة بسبعين مرة )).
قوله تعالى ((:وال يزال عبدي يتقرب إلَّي بالنوافل حتى أحبه )) ضرب العلماء رضي اهلل تعالى
عنهم لذلك مثًال فقالوا :مثل الذي يأتي بالنوافل مع الفرائض ،ومثل غيره كمثل رجل أعطى ألحد
عبديه درهمًا ليشتري به فاكهة ،وأعطى آخر درهمًا ليشتري فاكهة ،فذهب أحد العبدين فاشترى
فاكهة فوضعها في قوصرة ،وطرح عليها ريحانًا ومشمومًا من عنده ،ثم جاء فوضعها بين يدي
السيد ،وذهب اآلخر واشترى الفاكهة في حجره ثم جاء فوضعها بين يدي السيد على األرض ،فكل
واحد من العبدين قد امتثل ،لكن أحدهما زاد من عنده القوصرة والمشموم فيصير أحب إلى السيد.
فمن صلى النوافل مع الفرائض يصير أحب إلى اهلل ،والمحبة من اهلل إرادة الخير ،فإذا أحب عبده
شغله بذكره وطاعته وحفظه من الشيطان ،واستعمل أعضاءه في الطاعة ،وحبب إليه سماع القرآن
والذكر وكَّر ه إليه سماع الغناء وآالت اللهو وصار من الذين قال اهلل تعالى {:وإ ذا خاطبهم الجاهلون
قالوا سالمًا }[الفرقان.]63:فإذا سمعوا منهم كالمًا فاحشًا أضربوا عنه وقالوا قوًال يسلمون فيه ،
وحفظ بصره عن المحارم فال ينظر إلى ما ال يحل له ،وصار نظره فكر واعتبار ،فال يرى شيئًا
من المصنوعات إال استدل به على خالقه .وقال على رضي اهلل عنه :ما رأيت شيئًا إال ورأيت اهلل
تعالى قبله .ومعنى االعتبار العبور الفكر في المخلوقات إلى قدرة الخالق ،فيسبح عند ذلك ويقدس
ويعظم وتصير حركاته باليدين والرجلين كلها هلل تعالى وال يمشي فيما ال يعنيه وال يفعل بيده شيئًا
عبثًا بل تكون حركاته وسكناته هلل تعالى ،فيثاب على ذلك في حركاته وسكناته وفي وفي سائر أفعاله
.
قوله تعالى ((:كنت سمعه ))يحتمل كنت الحافظ لسمعه ولبصره ولبطش يده ورجله من الشيطان
،ويحتمل كنت في قلبه عند سمعه وبصره وبطشه .فإذا ذكرني كَّف عن العمل لغيري.
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:إن اهلل تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه
))أي تجاوز عنهم إثم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ،وأما حكم الخطأ والنسيان والمكره عليه
فغير مرفوع ،فلو أتلف شيئًا خطأ أو ضاعت منه الوديعة نسيانًا ضمن ،ويستثنى من اإلكراه
علىالزنا والقتل فال يباحان باإلكراه ،ويستثنى من النسيان ما تعاطى اإلنسان سببه فإنه يأثم بفعله
لتقصيره.
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل )) أي ال تركن إليها وال
تتخذها وطنًا وال تحدث نفسك بالبقاء فيها وال تتعلق منها إال بما يتعلق الغريب به في غير وطنه الذي
يريد الذهاب منه إل أهله ،وهذا معنى قول سلمان الفارسي رضي اهلل عنه :أمرني خليلي صلى اهلل
عليه وسلم أن ال أتخذ من الدنيا إال كمتاع الراكب .ومما قيل في الزهد في الدنيا .
لـمـن كــان ف ـيـهـا يـعـتريـه رحـيـل ل ـقـد كـان في ظــل األراك كـ ـفــايـة
وهــل س ـمـعـت بـظـل غـيـر مـنـتقل تــرجـو الـبـقـاء بـدار ال ب ـقـاء ل ـهـا
فـكـيـف تـحـب مـا فـيـه سـجـنـتــا س ـجـنـت بـهـا وأنـت ل ـهـا مـحــب
ت ـفــارق مـنــك يـوم ـًا ما ل ـهـوتها فـال تـلـهـو بـدار أنــت فـ ـي ـه ــا
س ـتـطــعم مـنـك مــا م ـنـهـا طعمتا وتطـعمـك الـطـعـام وعــن ق ــري ــب
وفي الحديث دليل على قصر األمل وتقديم التوبة واالستعداد للموت فإن أمل فليقل إن شاء اهلل تعالى
،قال اهلل تعالى {:وال تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إال ان يشاء اهلل } [الكهف.]24-23:
قوله ((:وخذ من صحتك )) أمره صلى اهلل عليه وسلم أن يغتنم أوقات الصحة بالعمل الصالح فيها ،
.فإنه يعجز عن الصيام والقيام ونحوها لعلة تحصل من المرض والكبر
وقوله صلى اهلل عليه وسلم ((:ومن حياتك لموتك )) ،أمره صلى اهلل عليه وسلم بتقديم الزاد .وهذا
كقوله تعالى{ :نظر نفٌس ما َقَّد مْت ِلغدٍ}[الحشر .]18:ال يفرط فيها حتى يدركه الموت فيقول {:رب
ارجعوِن لعلي أعمل صالحًا فيما تركت }[المؤمنون.]99:100:وقال الغزالي رحمه اهلل تعالى :ابن
آدم بدنه معه كالشبكة يكتسب بها األعمال الصالحة ،فإذا اكتسب خيرًا ثم مات كفاه ولم يحتج بعد ذلك
إلى الشبكة ،وهو البدن الذي فارقه بالموت ،وال شك أن اإلنسان إذا مات انقطعت شهوته من الدنيا
واشتهت نفسه العمل الصالح ألنه زاد القبر ،فإن كان معه استغنى به وإ ن لم يكن معه طلب الرجوع
منها إلى الدنيا ليأخذ منها الزاد ،وذلك بعد ما أخذت منه الشبكة فيقال له :هيهات قد فات! فيبقى
.متحيرًا دائمًا نادمًا على تفريطه في أخذ الزاد قبل انتزاع الشبكة
فلهذا قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :وخذ من حياتك لموتك )).ال حول وال قوة إال باهلل العلي
العظيم
قوله صلى اهلل عليه وسلم ((:ال يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به )) يعني أن الشخص
يجب عليه أن يعرض عمله على الكتاب والسنةويخالف هواه ويتبع ما جاء به صلى اهلل عليه وسلم ،
وهذا نظير قوله تعالى {:وما كان لمؤمن وال مؤمنة إذا قضى اهلل ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة
من أمرهم }[األحزاب.]36:فليس ألحد مع اهلل عز وجل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم أمر وال هوى.
وعن إبراهيم بن محمد الكوفي قال :رأيت الشافعي بمكة يفتي الناس ،ورأيت إسحاق بن راهويه
وأحمد بن حنبل حاضرين ،فقال أحمد إلسحاق :تعال حتى أريك رجًال لم تر عيناك مثله .فقال له
إسحاق :لم تر عيناي مثله؟! قل نعم ؛ فجاء به فوقفه على الشافعي فذكر القصة إلى أن قال :ثم تقدم
إسحاق إلى مجلس الشافعي فسأله عن كراء بيوت مكة ،فقال الشافعي :هذا عندنا جائز .قال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم((:فهل ترك لنا عقيل من دار ))؟ فقال إسحاق:أخبرنا يزيد ابن هارون عن
هشام عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك ،وعطاء وطاووس لم يكونا يريان ذلك ،فقال له الشافعي :أنت
الذي تزعم أهل خرسان أنك فقيههم؟ قال إسحاق :كذا يزعمون! قال الشافعي :ما أحوجني أن يكون
غيرك في موضعك فكنت آمرًا بفرك أذنيه ،أنا أقول :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :وأنت
تقول :قال عطاء وطاووس والحسن وإ براهيم ،هؤالء ال يرون ذلك؟ وهل ألحد مع رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم حجة ؟ ثم قال الشافعي :قال اهلل تعالى {:للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم }
[الحشر .]8:أفتنسب الديار إلى مالكين أو غير مالكين؟قال إسحاق :إلى مالكين .قال الشافعي :فقول
اهلل تعالى أصدق األقاويل .وقد قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ((:من دخل دار أبي سفيان فهو
آمن )) .وقد اشترى عمر بن الخطاب رضي اهلل تعالى عنه دار الحجلتين .وذكر الشافعي جماعات
من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقال له إسحاق{:سواء العاكف فيه والباد }[الحج:
.]25فقال له الشافعي :فالمراد به المسجد خاصة ،وهو الذي حول الكعبة ،ولو كان كما تزعم لكان
ال يجوز ألحد أن ينشد في دور مكة ضالة ،وال تحبس فيها البدن ،وال تلقى األرواث ،ولكن هذا في
المسجد خاصة ،فسكت إسحاق ولم يتكلم فسكت الشافعي عنه .
قوله تعالى ((:عنان السماء )) ،هو بفتح العين المهملة قيل هوالسحاب وقيل :ما عن لك منها ،أي
ظهر إذا رفعت رأسك.
قوله تعالى ((:ثم استغفرتني غفرت لك )) ،هو نظير قوله تعالى{:ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم
يستغفر اهلل يجد اهلل غفورًا رحيمًا }[النساء .]110:االستغفار ال بد أن يكون مقرونًا بالتوبة .قال اهلل
تعالى {:وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه }[هود.]3:وقال تعالى{:وتوبوا إلى اهلل جمعيًا أيها المؤمنون
لعلكم تفلحون }[النور.]31:
واعلم أن االستغفار معناه طلب المغفرة وهو استغفار المذنبين ،وقد يكون عن تقصير في أداء
الشكر؛ وهو استغفار األولياء والصالحين ،وقد يكون ال عن واحد منهما بل يكون شكرًا وهو
استغفاره صلى اهلل عليه وسلم واستغفار األنبياء عليهم الصالة والسالم قال صلى اهلل عليه وسلم :
(( سيد االستغفار :اهلل أنت ربي ال إله إال أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما
استعطعت ،أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأوبوء بذنبي فاغفر لي فإنه ال يغفر
الذنوب إال أنت )).
وقال صلى اهلل عليه وسلم ألبي بكر رضي اهلل عنه ((:قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا .وفي
رواية ـ كبيرًا ـ ،وال يغفر الذنوب إال أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور
الرحيم ))