Professional Documents
Culture Documents
الصنعة
الصنعة
تعد مشكلة الطبع والصنعة من المشاكل األدبية المهمة التي شغلت بال النقاد القدامى كثي ار ،فقد حاول هؤالء النقاد إيجاد
مقياس لنقد الشعر فأطلقوا صفة المطبوع على من جاء بشعر سهل خال من التثقيف والصنعة وصفة المتكلف على من كان
شعره من غير ذلك ،وما كان اهتمام النقاد بهذا المقياس إال من أجل استخدامه كوسيلة من وسائل المفاضلة بين الشعراء.
الطبع لغةً:
السجية التي ُخلق عليها اإلنسان فهو بعكس التطبع الذي يكتسبه اكتسابا ،جاء في لسان العرب (الطبع والطبيعة :الخليقة
والسجية التي جبل عليها اإلنسان) وقد استعمل العرب هذا المصطلح مجا از فقالو هو مطبوع على الكرم ،وأيضا قالوا :هذا
كالم فيه طبائع الفصاحة.
الطبع اصطالحاً:
أما ما يخص نظرة النقاد القدامى إلى مصطلح (الطبع) فهم يجمعون بداية على أن الشاعر المطبوع هو الذي يستطيع
قول الشعر على السجية دون إعمال الفكر أو تكدير الفؤاد.
ثم إن هؤالء النقاد يتفاوتون في النظر إلى هذا الشعر المطبوع .فبعضهم يراه كيفما جاء واتفق ،فيكون منه الغث والسمين
والرديء والجيد وهو أري األصمعي (217ه) ،فالشاعر المطبوع عند األصمعي هو الذي يقول الشعر دون أي مراجعة أو
تنقيح أو تثقيف .ومقياس الطبع عنده عدم التساوي في الجودة .فالشاعر المطبوع هو الذي يكون في شعره الرديء والجيد
وهذا التفاوت هو عالقة الطبع المائزة عند األصمعي ومن ثم وصف الحطيئة بأنه عبد لشعره ال لشيء إال لكونه وجد شع ار
متحي از منتخبا.
وقربيا من هذا المفهوم جاء مفهوم الطبع عند الجاحظ (255ه) ،فقال( :لوال إن الشعر قد كان استعبدهم واستغرق
مجهودهم حتى أدخلهم في باب التكلف وأصحاب الصنعة ومن يلتمس قهر الكالم واغتصاب األلفاظ ،لذهبوا مذهب
المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سهوا ورهوا وتنثال عليهم األلفاظ انثاال) .فنستشفه من حديثه عن عبيد الشعر الذين يصفهم
بأنهم يغتصبون األلفاظ ويلتمسون قهر الكالم .وهم في رأيه أصحاب صنعة وتكلف وليسوا كالشعراء المطبوعين الذين تتدفق
عليهم األلفاظ والمعاني بيسر وسهولة فيقولون الشعر ارتجاال دونما إجهاد فكر.
وحذا حذو األصمعي والجاحظ أبو هالل العسكري (395هـ) فالطبع عنده قول الشعر على السجية دون إجهاد للفكر أو
إتعاب للنفس وكيفما اتفق فيقول (وأما أقرب المأخذ فهو أن تأخذ عفو الخاطر وتتناول صفو الهاجس وال تكد فكرك وال تتعب
نفسك وهذه صفة المطبوع).
ويقول ضاربا أمثلة على الشعر المطبوع "ومن السهل المختار الجيد المطبوع قول الشاعر
صرفت القلب فانصرفا ...ولم ترع الذى سلفا
وبنت فلم أذب كمدا ...عليك ولم أمت أسفا
كالنا واجد فى النا ...س ممن مله خلفا
فالشاعر المطبوع عند هؤالء هو الذي اليجد كبير عناء في ِ
قرضه للشعر .والشعر المطبوع عندهم هو الذي يقال ألول
وهلة دون معاودة أو ترو كيفما جاء.
ومن النقاد القدامى من اشترط في الشعر المطبوع الذي يأتي عفو الخاطر أن يكون متمتعا بشئ من الحسن وبنفحة من
الجودة و بأن يبتعد صاحبه عن حوشي الكالم وتعقيد المعاني ويأتي على رأس هؤالء ابن قتيبة (276هـ) فهو يصف الشاعر
المطبوع بأنه "من سمح بالشعر واقتدر على القوافي وفي صدر بيته عجزه وفي فاتحه قافيته وتبينت على شعره رونق الطبع
ووشي الغريزه وإذا امتحن لم يتلعثم ولم يترنح" ،فالطبع عند ابن قتيبة يعني الموهبة والغريزة والقدرة على قول الشعر واالقتدار
على القوافي ،وبالنهاية من كان شعره على هذه الشاكلة البد من أن يتصف بالجودة واإلحسان.
ويرى ابن قتيبة أيضا أن الطبع يختلف من شاعر إلى آخر ،فبعضهم لدية طبع وسهولة في غرض المدح واآلخر في
الهجاء وآخر يسهل عليه غرض الرثاء ويصعب عليه غرض الغزل ،فهذا ذو الرمة أحسن الناس تشبيها فإذا صار إلى المديح
والغزل خانه الطبع .وكان الفرزدق زير نساء ومع ذلك ال يجيد التشبيه.
شعر الشاعر المطبوع عند ابن قتيبة متفاوت فيحسن إذا وافقت رغبة الشاعر وإجادته ويقبح ويعتريه التكلف إذا جاء فيما
ال يجيده الشاعر ويرغب فيه ،أو أن تجبره الظروف على قول شعر يفتقد إلى العاطفة الصادقة كمصانعة ممدوح أو مداراة
سفيه ومن ثم فقد يكون للمتلقي جانب فهم في إبراز روعة الشعر المطبوع من عدمها .فهو الذي يقطع بجمال هذا النوع من
الشعر أو قبحه فقد تمكنه ثقافته بالشعر ودرايته به من أن يستملح ما قاله هذا الشاعر في الغزل ويستقبح ما قاله في المدح.
والذي أورده ابن قتيبة حول طبيعة الشعر المطبوع زاد علية اآلمدي (370هـ) صفة أخرى وهي االبتعاد عن وحش الكالم
ومعقد المعاني حين وصف البحتري بأنه من شعراء الطبع فقال في معرض حديثه عن أبي تمام والبحتري و أيهما أشعر "وإن
كثير من الناس قد جعلهما طبقة وذهب إلى المساواة بينهما وإنهما المختلفان ألن البحتري إعرابي الشعر ومطبوع على مذهب
األوائل وما فارق عمود الشعر المعروف ...فهو بأن يقاس بأشجع السلمي ومنصور النمري وأبي يعقوب المكفوف وأمثالهم من
المطبوعين الولى وألن أبي تمام شديد التكلف صاحب صنعة ويبتكر األلفاظ والمعاني وشعره ال يشبه شعر األوائل" .فالبحتري
عند اآلمدي شاعر مطبوع ألنه لم يلجأ إلى وحشي الكالم ولم يعقد معانيه كما كان يفعل أبو تمام الذي أدخل على شعره
الصنعة بسبب مزجه العقل بالشعور والفكر بالعاطفة.
ومما سبق يمكن حصر آراء النقاد المتناولين لقضية الطبع في أمرين:
أولً :إن مصطلح الطبع عند كل من األصمعي والجاحظ والعسكري يقصد به قول الشعر على السجية كيفما كان دون
مراجعة أو تنقيح وال يشترط في الشعر المطبوع أن يكون جيدا في جميع إنتاج الشعراء بل هو متفاوت حسب حاالته.
ثانياً :إن مصطلح الطبع عند كل من ابن قتيبة واآلمدي يدل على الموهبة والملكة والسهولة في قول الشعر واالقتدار
عليه واالبتعاد عن وحشي الكالم وتعقيد المعاني ،فمن سمات المطبوع عندهما اتصافه بالجودة والجمال.
الت ــكلف والص ــنعــة
ورد مصطلح التكلف في كتب النقد ولم يحدد مفهومه تحديدا دقيقا وإنما كانت نظراتهم إلية نظرات متفاوتة فقد خلط ابن
قتيبة بينه وبين التثقيف للشعر وتنقيحه أي صناعته عندما قال ":ومن الشعراء المتكلف والمطبوع فالمتكلف هو الذي قوم
شعره بالتثقيف ونقحه بطول التفتيش وإعادة النظر فية كزهير والحطيئة ،فالتكلف عند ابن قتيبة يعني التقويم والتثقيف فإذا
أعاد النظر في شعره فقد تكلف والشاعر المطبوع هو الشاعر المرتجل.)..
وهو رأي يؤكده شوقي ضيف أيضا حين جعل كل نموذج فني هو عمل متعدد الصفات قد بذل فيه صاحبه كل ما
يستطيع من جهد وهو ما اصطلح تسميته بالصنعة وهذه الصنعة بحسب رأيه هي أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي فهي
توجد في جميع نماذجه القديمة.
ويبدو أن شوقي ضيف كان يوافق ابن قتيبة على هذا الخلط ألنه لم يفرق بين التكلف والصنعة وإنما استخدمهما بداللة
واحدة فيقول " :كان التكلف ظاهرة عامة في الشعر العربي القديم أو بعبارة أخرى كانت الصنعة مذهبا عاما بين الشعراء"
وعند أبو هالل العسكري نجد أن معنى التكلف متبلور فيما جاء بتعريف مفصل "التكلف طلب الشيء بصعوبة للجهل
طلب بتعب وجهد وتوالت ألفاظه من بعد فهو متكلف" فالصعوبة في قول الشعر عند
بطرائق طلبه بالسهولة فالكالم إذا ُجمع و ُ
أبي هالل العسكري وكذلك االلتفاف حول المعنى يؤديان حتما إلى التكلف والشاعر الماهر عنده هو الذي يأتي بالسهل
الممتنع دون مراوغة أو دوران مما يعني أن الصنعة ال تدخل عنده في باب التكلف ألنها تعد من ضمن آليات الشاعر الماهر
الذي يحسن قول الشعر وال يتكلفه ،فالصنعة ُيلهم بها الشاعر إلهاما كما ُيلهم بمادة الشعر نفسها لهذا ال تظهر في الصنعة
الموهوبة آثار التعمل والتكلف.
فيما فصل ابن رشيق (456هـ) البيت المصنوع بمهارة الحاذق على البيت المطبوع فيقول "ولسنا ندفع أن البيت إذا وقع
مطبوعا في غاية الجودة ثم وقع في معناه بيت مصنوع في نهاية الحسن لم تؤثر ِ
فيه الكلفة وال ظهر عليه التعمل كان ُ
نفسه ورأى أن البيت المصنوع بحرفية الماهر المبدع يعد أفضل من
ُ المطبوع أفضلهما" فقد استعمل الكلفة وأراد بها المعنى
البيت المطبوع فإذا ظهر في الصنعة كلفة كان المطبوع أفضل من المصنوع.
أما عبد القاهر الجرجاني (471هـ) فإنه يضمن مصطلح التكلف داللة أخرى غير داللة العجز وادعاء ما ال يستطاع
فالتكلف عنده يعني اإلسراف في البديع دون الحاجة إلى ذلك وقد أشار إلى هذه الداللة أثناء حديثه عن الجناس والسجع
وأورد على ذلك شاهدا قول الشاعر:
الكْف ِر ُم ْختَ ِرَما
أهل ُسيف اإلما ِم الذي سم ْت ُه َهبَّتُ ُه ...لما تَ َخ َّرَم َ
ظَل َما
الموت فيمن َج َار أ َْو َ ِ كنت له َ ...خلِيف َة ال َ ص َ
لما َ
إن الخليف َة َّ
الش ْرِك َفاص ُ ين عيو ِن ِ
طلما تترت ...باألشتَ َر ِ ُ اش َ عين الدين َو ْ
ان ُ َق َّرت بُق َّر َ
فعبد القاهر ال يرى في أشعار أبي تمام المحفوظة في التجنيس إال زخارف لفظية مقصودة لذاتها دون أي معنى شعري
آخر وهذا الشيء يراه تكلفا ومنافيا لصنعة الشعر الحقيقية وربما استقبح عبد القاهر تكلف البديع عند الشعراء ألن ذلك
يصرفهم عن االهتمام بمعانيهم التي هي محور الشعر و ِ
أصله.