Professional Documents
Culture Documents
يالحظ أن النظرية النقدية فيما خيص أغراض الشعر عند العرب -يف كثري من أجزائها -نظرية أخالقية؛ ذلك ألهنا تشرتط لكل غرض شعري
النهشلي شيخ ابن رشيق القريواين" ،العادة عند العرب أن الشاعر هو املتغزل
ّ شروطا أخالقية ،حىت ما يسمى بالغزل عندهم .قال عنه عبدالكرمي
املتماوت ،وعادة العجم أن جيعلوا املرأة هي الطالبة والراغبة املخاطبة ،وهذا دليل كرم النحيزة يف العرب وغريهتا على احلرم"( .)1ولذلك عيب
على عمر بن أيب ربيعة تصويره املرأة حمبة له ،تسعى وراءه ،ألن املرأة يف شعر الغزل عند العرب "إمنا توصف بأهنا مطلوبة ممتنعة"( ،)2كذلك مل
يقبل اإلسالم التغزل مبعنّي فإنه ال حيل( .)3وكان أفضل الغزل عند النقاد -مثل قدامة بن جعفر -ما يصور املوقف النفسي للشاعر ،ال ما يق ّدم
الصفات املاديّة للمحبوبة.
وال جنانب احلقيقة إذا قلنا إن شعر املدح عند العرب -يف كثري منه -حيقق أهدافا أخالقية ،ذلك ألنه يصور املثل العليا اليت جيب أن يتحلى هبا
الفرد يف سعيه جتاه الكمال يف إطار اجملتمع العريب .أي أن شعر املدح يصور اجلوانب اإلجيابية من شخصية البطل يف اجملتمع العريب ،ولذلك كان
أفضله عند النقاد ما يكون بوصف املمدوح بالفضائل األخالقية يف اجملتمع اإلسالمي؛ كالعقل والعفة والعدل والشجاعة والكرم( .)4أما الصفات
اجلسدية فتأتى أمهيتها من داللتها على صفات نفسية وأخالقية لدى من يتصف هبا .ويكون املدح هبذه الفضائل األخالقية إعالء هلا ،وتأكيداً على
أمهية التمسك هبا ،عن طريق عرضها وتقدمي مناذج بشرية متخلقة† هبا .قال أبو متام الطائي:
املكارم()5
ُ أين تُؤتَى
درى … ..بغاةُ العُال من َ
الشعر ما َ
ِخالل سنَّها ُ
ولوال ُ
وال أمهية ملا يقال من احتواء شعر املدح على امللق والنفاق ،فمثل هذه الدوافع مما يصعب اإلمساك به علمياً ،وإمنا كان يؤخذ أصحاهبا بالوحي يف
زمن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ولنا ظواهر الناس وأما سرائرهم فموكولة إىل اهلل سبحانه وتعاىل ،كما ذكر عمر بن اخلطاب رضى اهلل عنه(
.)6
وإذا كان قد ورد من حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الذي رواه املقداد "إذا رأيتم املداحني فاحثوا يف وجوههم الرتاب" )7(،فإن احلافظ
ابن حجر العسقالين (ت852هـ) قد ذكر يف شرح صحيح البخاري أن العلماء قد ذكروا أن املراد به "من ميدح الناس يف وجوههم بالباطل"،
حيث
وقال عمر :املدح هو الذبح ،قال وأما من مدح مبا فيه فال يدخل يف النهى فقد مدح صلى اهلل عليه وسلم يف الشعر واخلطب واملخاطبة ومل ُ
يف وجه مادحه ترابا(.)8
وقال اإلمام حمىي الدين النووي (ت676هـ) يف شرحه لصحيح مسلم† تعليقاً على احلديث السابق الذي أورده يف (باب النهى عن املدح إذا كان
فيه إفراط ،وخيف منه فتنة على املمدوح) قال النووي" :ذكر مسلم يف هذا الباب األحاديث الواردة يف النهى عن املدح ،وقد جاءت أحاديث
كثرية يف الصحيحني باملدح يف الوجه .قال العلماء :وطريقة اجلمع بينها أن النهى حممول على اجملازفة يف املدح والزيادة يف األوصاف ،أو على من
خياف عليه فتنة من إعجاب وحنوه إذا مسع املدح ،أما من ال خياف عليه ذلك لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته ،فال هنى يف مدحه يف وجهه إذا
مل يكن فيه جمازفة ،بل إن كان حيصل بذلك مصلحة† كنشطة للخري واالزدياد منه أو الدوام عليه ،أو االقتداء به كان مستحباً .واهلل أعلم"(.)9
وجعل احلافظ ابن حجر العسقالين أيضاً من الشعر اجلائز "ما خال عن هجو ،وعن اإلغراق يف املدح والكذب احملض ( ،")10وذكر أن ما كان
كذباً وفحشاً فهو مذموم(†.)11
وكذلك جعل النقاد العرب "خري اهلجاء ما تنشده العذراء يف خدرها فال يقبح مبثلها ( ،")12وقال خلف األمحر" ،أشد اهلجاء أعفه وأصدقه (
.")13
وإذا كان شعر املدح يصور املالمح اإلجيابية لشخصية† البطل يف اجملتمع العريب ،فإن اهلجاء يصور املالمح السلبية هلا ،ويكشف عن الرذائل اليت
جيب أن حيذرها العريب.
وليس هناك ما هو أدل على أخالقية الشعر العريب من قول الرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم" :إن من الشعر حكمة ( .")14الذي شرحه
احلافظ املباركفوري (ت1353هـ) يف كتابه "حتفة األحوذي بشرح جامع الرتمذي" بقوله" :قوله (إن من الشعر حكمة) أي قوالً صادقاً مطابقاً
للحق ،وقيل أصل احلكمة املنع ،فاملعىن أن من الشعر كالماً نافعاً مينع من السفه (.")15
وذلك فضالً على ما استقر يف التفكري النقدي عند العرب ،من أن كثرياً مما ال يسوغ يف الكالم يسوغ يف الشعر ،ويكتسب قبوالً ،ومن ذلك
قوهلم" :ليس ألحد من الناس أن يطري نفسه وميدحها ..إال أن يكون شاعراً ،فإن ذلك جائز له يف الشعر ،غري معيب عليه ( ")16أي أن احملاكاة
حتسن القبيح ،فما كان قبيحاً قبل الشعر يصبح فيه -بفضل احملاكاة -سائغاً مقبوالً(.)17وهكذا نرى أن يف الشعر -كما ذكر أرسطو من قبلّ -
النظرية النقدية -فيما خيص األغراض الشعرية عند العرب -يف جمملها -نظرية أخالقية .األمر الذي ميكن معه ارتياد آفاق جديدة من البحث
والدراسة هلا-.يكتسب شعر املدح يف العصر العباسي أبعاداً ثانية عندما ميعن يف وصف الوقائع التارخيية اليت تتصل باملمدوح ،وينقل لنا صوراً
واضحة املالمح ملعارك العصر ،اليت كانت يف الغالب جهاداً من املسلمني ألعدائهم كالروم على وجه اخلصوص ،لذلك ال نغلو إذا وصفنا عدداً
من قصائد الشعراء العباسيني بأهنا من شعر اجلهاد اإلسالمي.
وشعر اجلهاد من أهم أغراض الشعر اإلسالمي -يف رأينا -ذلك ملا للجهاد من أمهية متميزة يف الشريعة اإلسالمية ،وأمهية مماثلة يف حياة املسلمني،
ال ندلل عليهما لوضوحهما يف أذهان أكثر الناس.
وال نعين بتسجيل الشعر يف العصر العباسي للوقائع التارخيية أن الشعر فيه قد حتول تأرخياً ،فذلك جماله (النظم) التعليمي .وإمنا نعين أن الشعر فضالً
على قيمته األدبية يُضيف إليها قيمة أخرى تارخيية ،فليس الشعر رصداً حرفياً للواقع ،وإمنا رؤية فنية له وإعادة إنتاج ألحداثه ،وقدمياً قال أرسطو
(ليست احملاكاة رواية األمور كما وقعت فعالً ،بل رواية ما ميكن أن يقع ..فلو كتب تاريخ هريودتوس شعراً لظل تارخياً ،ألنه يروي ما وقع
ألشخاص معينني ،فهو جزئي يروي ما هو خاص بأفراد ،على حني مواضيع الشعر كلية عامة .وليست أمساء األشخاص يف الشعر إال رموزاً كلية
لنماذج بشرية ،حىت لو كانت هذه األمساء تارخيية ألن وقائع التاريخ ذريعة الفنان) ( .)18أي أن هدف الشاعر إمنا يكون فنياً يف املرتبة األوىل،
وتكون حماكاته للطبيعة ووسائلها مضيفة إليها ومكملة† هلا ،تكشف عن (املعاين اإلنسانية وقضاياها الكلية اليت تبني عنها احلوادث املسوقة يف
حكاية الشعر ،فالشعر هبذا -كما قال أرسطو -أوفر حظاً -يف الفلسفة †-من التاريخ) (.)19
وتتحول قصائد أيب متام الطائي يف مدح القائد العريب أيب سعيد الثغري الطائي ،ويف مدح اخلليفة العباسي املعتصم ،كما تتحول مدائح أيب الطيب
املتنيب لسيف الدولة احلمداين إىل مالحم أو فصول من مالحم ،تصور جهاد املسلمني للروم †،خيتار فيها الشاعر من عناصر احلادثة التارخيية ما
حيتاج إليه فنياً لتشكيل جتربته الشعرية .وال بأس -هنا -يف أن تكون لنا حنن العرب مالحم نابعة من ظروفنا ،وال بأس يف أن تكون لنا
اصطالحاتنا النقدية اليت تستمد حمتواها من تارخينا الثقايف والفكري.خنتار للكشف† عن مبىن التفكري الفين عند أيب متام ،ورؤيته يف تفسري التاريخ
عمورية من أرض الروم يف رمضان† عام 223هـ كما قصيدته البائية املشهورة† اليت مدح هبا اخلليفة العباسي املعتصم (179هـ 227هـ) عندما فتح ّ
قيل -تلبية لنداء املرأة العربية املسلمة اليت استغاثت به :وامعتصماه.
يالحظ أن التفكري الفين أليب متام يف هذه القصيدة -ورمبا يف كثري من شعره يعتمد -أساساً -على بنية التضاد ،حىت لتنبين قصيدته على عدد من
الثنائيات املتضادة ،تؤدي هذه الثنائيات -مبا تكتنزه من توتر وتناقض ،ومبا تشري إليه من نشاط عقلي وإتكاء ذهين -دورها يف تصوير أبعاد
الصراع الذي حتمله القصيدة على حنو يركز عليه قبل أي شيء غريه.
يفتتح أبو متام قصيدته قائالً:
ِ†
واللعب اجلد الكتب …… ..يف حدِّه ُّ
احلد بني ِّ ِ أصدق أنباءً من
ُ السيف
ُ
ِ
والريب الشك
الصحائف يف …… ..متوهنن جالءُ ِّ ِ سود
الصفائح ال ُ
ِ بيض
ُ
ِ
الشهب ِ
السبعة األرماح المعةً …… ..بني اخلميسني ال يف ِ والعلم يف ُش ِ
هب ُ
األيام جمفلةً …… ..عنهن يف صف ِر األصفا ِر أو ِ
رجب عجائباً زعموا َ
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة …… ..إذا بدا الكوكب الغريب ذو ِ
الذنب ُ َ َ
منقلبِ
† غري
األبرج العليا مرتبةً …… ..ما كان منقلباً أو َ َ وصريوا
فلك منها ويف ِ
قطب يقضو َن باألم ِر عنها وهي غافلةُ …… ..ما دار يف ٍ
َ
فيتمثل مدخل أيب متام إىل القصيدة يف حتديد موقفه من ثنائية متضادة مطروحة حلل املشكلة التارخيية الراهنة وقتذاك .تلك الثنائية طرفاها
املتضادان :السيف × الكتب ،وتتوزع الثنائيات املطروحة يف األبيات التالية عليهما من أجل جالء حقيقة كل منهما وما صدقاهتا ،على النحو
التايل:
السيف × الكتب والنجوم اجلد × اللعب
الصدق × اللعب اجلالء × الزخرف
بيض الصفائح × سود الصحائف
شهب األرماح × السبعة الشهب
فإذا بنا أمام ثنائية طرفاها:
إسالمي مفرداته (القوة من الرمي بالرماح غريها -الصدق -اجلد). ّ حل
أّ -
الثرة إذا تذكرنا سياقاهتا يف القرآن الكرمي -هي
حل غري إسالمي مستمد من الالمعقول† الذي حياربه اإلسالم؛ مفرداته تتكشف دالالهتا ّ بّ -
احلل األول منذ
السود -النجوم ،وهي تسبح يف أفالكها بريئة مما خيرصون).وقد اختار أبو متام ّ (الزخرف -الكذب -اللعب (اللهو) -الصحف ُّ
مفتتح قصيدته.ويرتتب على هذا التقابل الرئيس بني هذه األضداد ،أن ميتد به الشاعر ليستعمله حني يستطرد للحديث† عن الطرف املنفي املرفوض
منه يف هذه الثنائية وهو الطرف الثاين :فأحاديث املنجمني :ليست بنبع وال غرب ،واألبرج العليا منها :ما كان منقلباً أو غري منقلب .حىت ليمكن
فهم قوله( :ما دار يف فلك منها ويف قطب) على ضوء مقولة† التضاد .وقد بدأ الشاعر بالطرف الثاين املنفي من هذه الثنائية ،ليعمل على نفيه
واستبعاده من أجل أن يتفرغ للطرف األول الذي هو موضوع القصيدة يف احلقيقة .يقول الشاعر:
بفتح الفتوح تعاىل أن حيي َط به …… نظم من الشع ِر أو نثر من اخلُطَ ِ
ٌ ٌ ُ
األرض يف أثواهبا ال ُق ُشبِ ……وتربز ِ
أبواب السماء له
ُ ُ فتح تُفتح ُ ٌ
ب انصرفت ……منك املىن ُح َّفالً معسولةَ† احلَلَ ِ ْ عمورية
يوم وقعة ّ
يا َ
بصبَ ِ ِ
ودار الشرك يف َ ……واملشركني َ
َ ص َع ٍد ِ
أبقيت جد بين اإلسالم يف َ
كل ٍأم منهم ِ
وأب ُّأم هلم لورجوا أن تُفتَدى جعلوا ……ِفداءها َّ
بوصدت صدوداً عن أيب َك ِر ِ ْ وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ……كسرى
كف حادثه ……وال ترقت إليها مهةُ الن ِ
ُّوب بكر فما افرتعتها ّ
……شابت نواصي الليايل وهي مل ِ
تشب ْ من عهد إسكندر أو قبل تلك قد
ِ
احلقب ِ
البخيلة كانت زبدةَ ……خمض حىت إذا خمض اهلل السنني هلا
َ
بأتتهم الكربة السوداء سادرة ……منها وكان امسُها فراجة ال ُكر ِ
َ ّ
والر َح ِ
ب ِ
غودرت وحشةَ الساحات ُّ جرى هلا الفأل برحاً يوم أنقره ……إذ
ْ
ِ
اجلرب اخلراب هلا أعدى من ملا رأت أختها باألمس قد خربت ……كان
ُ
كم بني حيطاهنا من فارس بطل ……قاين الذوائب من آين ٍدم س ِ
رب َ
ِ
خمتضب ِ
واإلسالم بسنة السيف واخلطى من دمه ……ال ِ
سنة الدي ِن
ويالحظ أن الشاعر كلما توغل يف موضوع قصيدته ،وازدادت محاسته ملا يعاين أو يصف منه ،عليه ازداد توغله يف طريق الصناعة الفنية ،لكن من
خالل ما اعتمده منذ بداية القصيدة من مبىن التضاد ،ويصل يف هذا اجلزء من القصيدة من خالل التضاد إىل ما ميكن عده ضرباً من التناقض أو
التعارض الظاهري ( )20()paradoxفهذا الفتح الذي يبدو أعلى من أن حييط به طرفا األدب -الشعر والنثر ،وبينهما تضاد -رمبا كان أوىل
بالفهم† االجتاه إىل القول باستحقاقه أن خيلد يف الشعر والنثر .ذلك الفتح الذي حتتفل به كل من السماء واألرض -ومها طرفا ثنائية أيضاً-
بطريقتها اخلاصة ،فتتفتح السماء بالعطاء ،وتتشقق األرض بالعطاء الناتج عن عطاء السماء ،وتأخذ زينتها ،ومن هذا التعانق الذي حيدثه الشاعر
بني السماء واألرض تنثال املعاين الروحية املصاحبة هلذا الفتح اليت تشعها كلمة الفتح ابتداء.
عمورية بأن يصور املىن فيه (حفالً معسولة احللب) مث يسلب ذلك كله بقوله :انصرفت .وعندما جيعل ويتبدى التناقض من خالل وصفه يوم وقعة ّ
عمورية وهي عمورية أماً هلم يف ّدوهنا بكل أم وأب (ومها طرفا ثنائية أيضاً) مث ينفي كل ذلك عنهم بقوله :لو رجوا أن تفتدي.وعندما جيعل ّ ّ
فراجة الكرب عندهم مدخالً للكربة السوداء إليهم ،وعندما يأتيها -من الفأل البارح -الذي يتمسكون به لولعهم بالتكهن والتنجيم جلاهليتهم-
عمورية بأهنم كلهم (فارس بطل) مث يسلب هذا الوصف كل جدوى أو فاعلية، اخلراب والوحشة .وأوضح من ذلك أن يصف جنود الروم يف ّ
عندما خيرب عنهم بأهنم كلهم -يف هذه املعركة( -قاين الذوائب من آين دم سرب) ،خمتضب بدمه من سنة السيف ،ال من سنة اإلسالم يف خضاب
الشيب باحلنّاء .أي أن الشاعر مازال متمسكاً ببنية التضاد لكنه يعقدها شيئاً فشيئاً مع تصاعد املوقف وتعقد جو املعركة يف هذه القصيدة .فكان
اكتشافه التناقض الظاهري ( )paradoxوسيلة فنية اعتمد عليها يف تشكيل جتربته أو صناعة قصيدته يف هذا املقطع من قصيدته على وجه
اخلصوص ،وإن سقطت منه أشياء يف سائر القصيدة مثال قوله:بصرت بالراحة الكربى فلم ترها …… تنال إال على جسر من التعب
وغريه من أبيات القصيدة ،األمر الذي يرجع إىل ولع أيب متام ببنية التضاد.
عمورية أماً بكراً! متنعت على الفرس كما صدت عن العرب -وهذه ثنائيات متضادة أيضاً -برزة (أي حيية تطل صورة ّومن أثناء هذا املقطع ُ
ومتربجة) شابت هلا الليايل ،وهي مل تشب .ياهلا من أنثى عجيبة! تدخر عفافها للمعتصم!† يستعني الشاعر على تصويرها فضالً على الكلمات
عمورية املتضادة ،بالكلمات األضداد مثل :الفأل -برحا -برزة ،..حيث ُّ
تدل كل كلمة بنفسها على معنيني متضادين يف وقت واحد .لعل تصوير ّ
يف صورة األنثى اخلالدة اليت جتمع طريف احلياة أو النقيضني ،ضرباً من التناسب يف الصنعة الفنية -يتفق مع ما يذكره الشاعر يف املقطع التايل من
تضحية املعتصم بنسائه وعاجل لذته مبثل قوله:
برد العر ِِ
ورضاب اخلُ ُُ َ كأس الكرىهرقت له …َ .. َ لبيت صوتاً زبطرياً
َ
ِ
احلصب هِل ِ ِ
عداك َحُّر الثغو ِر املستضامة عن … .برد الثغو ِر وعن سلسا ا
ُ
فقد اختار املعتصم الثغور /احلرب ،على الثغور /النساء ،فاختار احلرب واملشقة على الربد واللذة .وكانت تضحيته هذه من أجل األنثى اخلالدة
عمورية.
ّ
وإذا كان هذا التشخيص للمدينة يف صورة األنثى له ما يربره من توظيف فين فإن له أيضاً ما يدعمه يف الذهنية العربية ،فاملدن -لدينا حنن العرب-
نساء ،بل ونساء أبكار أيضاً -عرائس (فحائل عروس الشمال ،وجدة عروس البحر األمحر -واإلسكندرية عروس البحر األبيض -واملنيا عروس
الصعيد -وهكذا تتعدد العرائس؛ فالعقلية العربية تستسيغ فكرة تعدد الزوجات!) ولعل ذلك الربط بني املدينة واألنوثة -خاصة يف هذا النص الذي
عمورية املدينة املفتوحة للمعتصم -يرجع إىل ارتباط البطولة لدينا حنن العرب -كوراثة ثقافية تارخيية إن جاز التعبري عن العصور يدور حول ّ
العربية األوىل -بالرحلة والسفر ،متاما كما ترتبط لدينا أيضاً -كوراثة عن تلك العصور †-بالفحولة †،ومن تلك االستعماالت الواضحة الداللة ،ما
كانت تطلقه العرب على الشاعر املتميز -أي البطل يف جمال الشعر -من وصف (الشاعر الفحل) .كذلك كانت تضحية املعتصم† السابقة من أجل
إحراز نساء الروم .فقد حاول أبو متام تصوير عظمة انتصار املسلمني بكثرة ما حازوه من سىب رومي .يقول الشاعر:واحلرب قائمةٌ يف ٍ
مأزق جلج ُ
ِ
الركب القيام به صغراً على
… ..جتثو ُ
عارض ِ
شنب ٍ يل حتت سناها من سنا قم ِر … ..وحتت عارضها من ِ
كم ن َ
العذراء من ِ
سبب ِ الرقاب هبا … ..إىل املخ ّدرةِ ِ
أسباب كم كان يف قطع
هتتز يف ِ
كثب ضب ُ هتتز من قُ ٍ قضب اهلندي ُمصلتة† …ُ .. أحرزت ُ ْ كم
ببالبيض أتراباً من احلُ ُج ِ ِ أحق
رجعت …َّ .. ْ بيض إذا انتضيت من حجبِها ٌ
واإلسالم واحلسبِِ ِ
خليفةَ اهلل جازي اهللُ سعيَك عن … ..جرثومة الدي ِن ِ
وعلى الرغم من أن الشاعر ابتدأ هذه الصورة† اليت استطرد إليها عن السيب الذي حازه املسلمون معتمداً على التضاد يف البيت األول منها بقوله
(جتثو القيام به )...إال أنه أضاف إليه ضروباً من التكرار اللفظي عن طريق اجلناس (قضب وقضب -بيض وبيض) ورد اإلعجاز على الصدور†
(أسباب وسبب -بيض وبيض -من حجبها واحلجب).
ومن خالل هذا اجلو الديين الذي تتنفس فيه القصيدة ،والذي سنوضحه مفصالً فيما بعد إن شاء اهلل ،والذي يشري إليه البيت األخري من هذا
املقطع ،ميكن عد صورة النساء السبايا تلميحاً مل جيرؤ الشاعر على التصريح به عما كان ينتظر املعتصم وجنوده من أجر ملن يستشهد منهم يف
هذه املوقعة ،أو هي إشارة إىل أجر اجملاهدين عجلت هلم منه يف الدنيا البشرى مبا ينتظرهم من جزيل األجر يف اآلخرة ،ويف هذا السياق تشع
كلمة أتراباً -إذا قُرئت على أهنا متييز -لكلمة† البيض يف البيت قبل األخري -دالالت دينية لورودها يف سياق احلديث عن احلور العني ،وذلك يف
قوله تعاىل (إنا أنشأناهن إنشاء* فجعلناهن أبكاراً* عرباً أترابا* ألصحاب اليمني) سورة الواقعة :اآليات .38 -35
مما يرشح هلذا االحتمال الذي قدمناه لتفسري هذه الصورة† يف القصيدة ،خاصة وأن الشاعر قد قدم املصاحب اللفظي املعهود هلذه الكلمة (أتراباً)
يف البيت السابق:
ب رد العر ِِ
ورضاب اخلُ ُُ َ كأس الكرىهرقت لهُ …َ .. َ لبيت صوتأ زبطرياً
مث تكون نقلة فنية من الشاعر حنو تعقيد الصورة† من خالل بنية التضاد تتساوق مع توغله يف القصيدة ،يف املقطع التايل :يقول الشاعر:
ِ
واخلشب ذليل الصخ ِر ِ
املؤمنني هبا … ..للنار يوماً َ
َ تركت أمريُ َ لقد
صبح من ِ
اللهب ضحى … ..يشلهُ وسطَها ٌ هبيم ِ
الليل وهو
ً غادرت فيها َ َ
رغبت … ..عن لوهنا وكأ ّن الشمس مل ِ
تغب ْ جالبيب الدجى حىت َّ
كأن
َ َ
ِ
شحب ض َح ًى ضوء من النا ِر والظلماء عاكفةٌ … ..وظلمةٌ† من دخ ٍ
ان يف ُ َُ ُ ٌ
أفلت … ..والشمس واجبة من ذا ومل جتبِ فالشمس طالعة من ذا وقد ْ
ُ ُ
الغمام هلا … ..عن يوم هيجاء منها طاه ٍر ِ
جنب تصرح الدهر تصريح ِ
َ َ ُ ّ
تغرب على ِ
عزب ومل ٍ
بأهل مل تطل ِع الشمس فيه يوم ذاك على …ٍ ..
بان
ْ َ ُ
يطيف به … ..غيال ُن أهبى ريب من ربعها اخلربِ ربع ميةَ معموراً ُ
ً ما ُ
خجل … ..أشهى إىل ناظري من ِّخدها ِ
الرتب أدمني من ٍ اخلدود وقد َ ُ وال
كل حس ٍن بدا أو منظ ٍر ِ
عجب مساجةٌ غنيت منا العيو ُن هبا … ..عن ِ
ِ†
منقلب منقلب تبقى عواقبه … ..جاءت بشاشته من س ِ
وء ٍ† وحسن
ُ ُ ْ ُ
ويالحظ أن التقنية اجلديدة اليت يستعملها أبو متام من التضاد يف هذا املقطع هي ما أمساه الشاعر (بنوافر األضداد) الذي يشتمل فيه البيت على
وصفني متضادين ،األمر الذي الحظه وأشار إليه -من قبل -أستاذنا الدكتور شوقي ضيف ،وذكر له عدداً من األمثلة منها قول أيب متام:
فيظلم ِ
وتسرب يف الضياء ُ ُ بيضاء تسري يف الظالم فيكتسي … ..نوراً
الذي يعلق عليه بقوله" :أرأيت إىل هذا التضاد وهذا الضياء املظلم؟ إن حقائق األشياء تتغري يف شعر أيب متام على هذه الصورة† اليت نرى فيها
الضياء املظلم"...
ومنها قول أيب متام يف وصف الشراب:
ِ
األشياء جوهر ِ
جهميةُ األوصاف إال أهنم … ..قد لَقبوها َ
الذي يعلق عليه الدكتور شوقي ضيف بقوله( :فهي جهمية أي ليس هلا اسم ،ألن األمساء يف رأي جهم بن صفوان تطلق على اجلواهر
واألعراض" ..فقد رقت -كما ذكر التربيزي -حىت كادت خترج من أن تكون عرضاً أو جوهراً أو أن تسمى شيئاً إال أهنا لفخامة شأهنا لقبت
جوهر األشياء" فهي مسماة وغري مسماة يف الوقت نفسه) (.)21
وعندما ننظر يف أبيات هذا املقطع من القصيدة ،فإننا نالحظ يف البيت الثاين أن هبيم الليل قد حتول إىل ضحى ،وأن ذلك الظالم يطرده من قلب
عمورية صبح لكنه من اللهب( ،فجمع بني الرتك والطرد وبني ظلمة الليل والصبح فطابق بني موضعني ( .))22فهناك ظالم لكنه ليس بظالم فقد ّ
حتول إىل ضحى ،وهناك صبح لكنه ليس بصباح حقيقي فإنه من هلب .والصورة† يف البيت التايل استطراد لتفسري السابقة؛ فالدجى وهو قائم
موجود كأنه رغب عن جالبيبه فهو حياول تبديلها ،وكأن الشمس -وهي غري موجودة -قائمة مل تذهب .ويف البيت الرابع يقدم صورتني ملشهد
واحد تبدوان متناقضتني ألول وهلة :ضوء من النار حياول تبديد الظالم العاكف على املدينة ،وظلمة† من الدخان تذهب لون الضحى وتشحب
ضياءه ،فيغالبه الظالم ,والبيت اخلامس تفسري هلذه الصورة† واستطراد هلا ،فبعد ما ذكره ترى مشساً طالعة يف الليل مع أن الشمس احلقيقية قد
عمورية ،فيصيبها بيوم طاهر جنب، ذهبت .وترى ظلمة يف النهار مع أن الوقت ضحى .ويف البيت السادس يتكشف الدهر ويتجسد موقفه إزاء ّ
عمورية ،الذي مل تطلع مشسه على بان بأهله من الروم إذ قتل ،ويف يفسر الشاعر حقيقة اليوم يف البيت التايل له؛ مبا يذكره من مفارقة حيدثها يوم ّ
املقابل مل تغرب على عزب من املسلمني إذ أنكحتهم رماحهم سبايا الروم.مث يعمق أبو متام املفارقة -من خالل توظيف الرتاث -عندما جيعل
فعمورية† حمبوبة ،تزداد مععمورية -غاية يف البهاء! فيقرنه بربع مية معموراً يطيف به ذو الرمة تقديساً وشوقاً ،ويفضله عليهّ . ربعها اخلرب -أي ّ
عمورية امرأة كانت عصية مشوساً قبل املعتصم ،يراها أبو متام -يف البيت التاسع -من خالل اخلراب حسناً! ويف سياق احلب ،وتناسباً مع تصويره ّ
مشهد اخلراب الذي تلذذ به سادياً -امرأة لصق خدها -وكانت تصعره يف ذي قبل -بالرتاب ،ومشهدها -ذليلة لصقت† بالدقعاء -أشهى لديه
من مشهد خدود احلسان وقد أدمني من خجل .وشتان ما بني املشهدين ،ولكن الشاعر يصنع شعره من خالل الصور املتقابلة؛ املتناقضة
واملتفارقة! وإن كان يعرتف يف بيت تقريري بأن منظرها مسج يف احلقيقة ،لكنه يستقبله استقباالً مفارقاً ملا يناسبه إذ يستلذه! فيجمع بني نوافر
األضداد أيضاً .وخيتم هذا املقطع بالتضاد أو التقابل الواضح بني حسن املنقلب† لدى املسلمني †،الذي جاء من سوء املنقلب لدى الروم.
وهكذا نرى أبا متام قد أوغل يف كتابة قصيدته من خالل ما أمسته البالغة العربية الطباق ،وبلغ يف تعقيده ،فتدرج إىل استخدام التناقض الظاهري
paradoxمث إىل استخدام نوافر األضداد.واعتماد أيب متام على فن املطابقة من البالغة العربية أمر قد الحظه القدماء ،وعلله بعض احملدثني؛ فقد
ذكر أستاذنا الدكتور شوقي ضيف:
(وإن من يدرس أبا متام يرى هذه األضداد متصلة† بأخالقه ،فهو تارة كرمي جداً ،وتارة خبيل جداً ،وهو تارة متدين وتارة ملحد مسرف يف إحلاده)
( .)24فيعلل ولع أيب متام بفن املطابقة يف شعره بطبيعة أخالقه القائمة على التضاد .أي أن بنية التضاد تعد أساساً ألخالق أيب متام وفنه على
السواء.
ونضيف إىل ما قاله القدماء والدكتور شوقي ضيف التأكيد على أن هناك مصدراً مهماً نقرتح إفادة أيب متام منه -يف هذا الصدد -حبكم ثقافته
الواسعة ( )25وبفعل اجلو الديين الذي يتنفس فيه شعره يف اجلهاد اإلسالمي ،ذلك املصدر† هو القرآن الكرمي.
فقد استعمل القرآن الكرمي -كما الحظ البالغيون القدماء ابتداء بابن املعتز ت 296هـ يف كتاب البديع ..بصفة عامة الطباق .ونالحظ أن هناك
من السور املكية القصرية اليت تبدأ بالقسم سوراً اعتمدت بنية التضاد أساساً ملبناها يتغلغل خطاهبا على سبيل املثال :سورة الليل يقول اهلل سبحانه
وتعاىل:
والليل إذا يغشى /والنهار إذا جتلى /وما خلق الذكر واألنثى /إن سعيكم لشىت /فأما من أعطى واتقى /وصدق باحلسىن /فسنيسره لليسرى /وأما
من خبل واستغىن /وكذب باحلسىن /فسنيسره للعسرى /وما يغين عنه ماله إذا تردى /إن علينا للهدى /وإن لنا لآلخرة واألوىل /فأنذرتكم ناراً
تلظى /ال يصالها إال األشقى /الذي كذب وتوىل /وسيجنبها األتقى/الذي يؤيت ماله يتزكى /وما ألحد عنده من نعمة جتزى /إال ابتغاء وجه ربه
األعلى /ولسوف† يرضى)
ويف هذه السورة الكرمية جند أنفسنا إزاء ثنائيات متضادة متتابعة تشمل شىت اجملاالت:
-1من ظواهر الطبيعة :الليل × والنهار -يغشى × جتلى -2.من البشر واخللق :الذكر × واألنثى.
-3من أعمال البشر :أعطى × خبل -اتقى × استغىن -صدق × كذب -4.من حساب اهلل وجمازاته :احلسىن × العسرى -اآلخرة × األوىل-
سيجنبها األتقى × يصالها األشقى.
وهكذا تتابع الثنائيات واحملصلة :أن تثبت اآليات الكرمية هلل سبحانه وتعاىل اخللق واألمر.
وتعمق التقابل بني الكفر واإلميان الذي هو قسمة طبيعية شأن الليل والنهار ،وترتب على هذه القسمة يف السلوك :األشقى × واألتقى قسمة يف
اجلزاء اجلنة × والنار.
وهذه الثنائيات هي ما نلتقي به يف سورة مكية قصرية أخرى مبدوءة بالقسم أيضاً هي سورة الشمس :يقول اهلل تعاىل:
(والشمس وضحاها .والقمر إذا تالها .والنهار إذا جالها .والليل إذا يغشاها .والسماء وما بناها .واألرض وما طحاها .ونفس وما سواها.
فأهلمها فجورها وتقواها .قد أفلح من زكاها .وقد خاب من دساها .كذبت مثود بطغواها .إذ انبعث أشقاها .فقال هلم رسول اهلل ناقة اهلل
وسقياها .فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم رهبم بذنبهم فسواها .وال خياف عقباها ).صدق اهلل العظيم .فتطالعنا الثنائيات اآلتية اليت تتغلغل يف أثناء
الكون ،وجماالت اخللق ،واجلزاء:
-1من ظواهر الطبيعة اليت تشهد بوجود اخلالق سبحانه ووحدانيته:
الشمس × القمر
النهار × الليل
السماء × األرض
جالها × يغشاها
وهذه القسمة تعادل القسمة إىل إميان × وكفر ،فمن السماء النور واهلداية وعلى األرض البشر والظالم ،والبد أن تتعانق السماء واألرض ليعم
اخلري ويتحقق جمتمع اللّه.
-2النفس البشرية اليت سواها اخلالق سبحانه:
فجورها × تقواها دساها × زكاها
-3اجلزاء واحملاسبة :خاب × أفلح
-4مثال رجل السماء واهلداية ،ومثال رجل األرض والضالل:
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم × أشقاها
وهكذا تتتابع الثنائيات لتكون هلا احملصلة السابقة نفسها من إثبات اخللق واألمر هلل سبحانه وتعاىل ،وتعميق التقابل بني الكفر واإلميان على
مستوى السلوك وعلى مستوى اجلزاء على السواء.
وتتأكد من خالل تلك الثنائيات -القسمة اجلديدة أو الثنائية اجلديدة اليت أتى هبا اإلسالم وهي احلياة الدنيا واآلخرة اليت ينقسم موقف اإلنسان
فيها ثنائياً أيضاً إىل مؤمن وكافر ،فينقسم جزاؤه تبعاً لذلك إىل اجلنة والنار .هذه الثنائيات اإلسالمية :الدنيا × اآلخرة ،الكافر × املؤمن ،اجلنة ×
النار ،قسمة جديدة على عقل العريب اجلاهلي الذي مل يكن يعرف سوى قسمة ثنائية واحدة هي احلياة × املوت فقط.
وحري بنا -وحنن ندرس شعر اجلهاد اإلسالمي الذي يتضمن هذه القسمة اإلسالمية اجلديدة أن نعقد الصلة بينه وبني القرآن الكرمي الذي أتى
هبذه القسمة اليت متثلها الشاعر اإلسالمي احلقيقي وأقام تفكريه الفين وفق معطياهتا.
يرشح هلذه النتيجة ما سنذكره اآلن من متثل أيب متام -يف هذه القصيدة للتفسري اإلسالمي للتاريخ الذي أتى به القرآن الكرمي.بدر من أيب متام يف
قصيدته البائية اليت ندرسها هنا ،ما ميكن أن نعده تفسرياً للواقعة التارخيية أو احلدث التارخيي وبياناً ملكوناهتما أو عناصرمها.من ذلك قوله:
ض ِ†
ب السمر وال ُق ُ العواقب بني ُُّ أعص ٍر كمنت … ..له الكفر كم من ُ يعلم ُ لو ُ
ِ
مرتغب باهلل منتقم … ..هلل مرتقب يف اهلل تدبري معتص ٍم ِ
ُ
روح حُم تجبِ ومطعم النصر مل تكهم أسنتهُ … ..يوماً وال ُحجبت عن ِ ُ
ِ
الرعب جيش من يغز قوماً ومل ينهد إىل بلد … ..إال تقدمه ٌ مل ُ
جحفل ِ
جلب ٍ لو مل يقد َجحفالً يوم الوغى لغدا … ..من نفسه وحدها يف
اهلل مل ِ
يصب رمى بك اهلل برجيها فه ّدمها … ..ولو رمى بك غري ِ
ُ َ ُ
املعقل األشبِفتاح باب ِ ِ ِ
واثقني هبا … ..واهللُ م ُ َ من بعد ما أشبوها
ماء ومن شج ِر بيض ومن ِر … ..دلوا احلياتني من ٍ إن احلمامني من ٍ
مُسُ
ِ
احلصب برد الثغو ِر وعن سلساهلا املستضامة عن …ِ ..ِ عداك َحُّر الثغو ِر
أجبت بغ ِري السيف مل ِ
جتب أجبته معلناً بالسيف منصلتاً … ..ولو َ
ِ
والطنب ِ
األوتاد عرج على ِ
عمود الشرك ُمنعفراً … ..ومل تُ ْ تركت َ َ حىت
ِ
احلرب واحلرب مشتقة املعىن من ني توفلس ….. احلرب رأي الع ِ ملا رأى
ُ َ
ِ
واحلدب البحر ذو التيار ِ
يصرف باألموال جريتها … ..فعزه ُ ُ غداً
ِ
مكتسب حمتسب الغزو ٍ الوقور به … ..عن غزو األرض
ُ هيهات ُزع ِزعت
ُ
ِ
صخب اخلطى منط َقهُ … ..بسكتة حتتها األحشاءُ يف أجلم
ُّ وىّل وقد َ
حيتث أجنى مطاياه من ِ
اهلرب رف الردى ومضى …ُ .. أحذى قرابينه ِص َ
ِ
الطرب اخلوف ال من ِخ ِ
فة ِ األرض يشرفه … ..من ِخ ِ
فة ِ بيفاع
موكالً ِ
ِ
واحلسب ِ
واإلسالم ِ
جرثومة الدي ِن سعيك عن ….. ِ
َ خليفةَ اهلل جازي اهللُ
ال إال على جسر من ِ
التعب رت بالراحة الكربى فلم ترها …ُ ..تنَ ٌ ص َ بَ ُ
ِ† ٍ ٍ ٍ ِ
منقضب إن كان بني صروف الده ِر من رحم … ..موصولة أو ذمام غريُ
ِ ِ فبني ِ
النسب صرت هبا … ..وبني أيام بد ٍر ُ
أقرب أيامك الاليت نُ َ
ونقف أوالً عند تفسريه للحادثة التارخيبة فنراه تفسرياً إسالمياً للتاريخ تبدو مالحمه منذ البيت األول الذي حتدث فيه عن عاقبة الكفر اليت كانت
حتمية وإن تأجلت .والبيت الثاين الذي جيعل املعتصم† باهلل يدبر من أجل أن ينتقم من الروم باهلل وهلل ،يراقب اهلل ويرجو ما عند اهلل.ويف البيت
(مطْ َعم النصر) بصيغة اسم املفعول أي مرزوقه من اهلل سبحانه
الثالث حتدث عن انتصار املعتصم الذي يتم يف إطار من رزق اهلل ومشيئته فهو ُ
وتعاىل الذي جاهد املعتصم يف سبيله كما بدا من البيت السابق .وقوله (مطعم النصر) يف سياق اجلهاد يف سبيل اهلل ميكن أن ميثل تناصاً مع
سياقات قرآنية متعددة ،منها قول اهلل تعاىل " :قل أغري اهلل أختذ ولياً فاطر السموات واألرض وهو يطعم وال يطعم " األنعام .14وقوله تعاىل-
على لسان إبراهيم عليه السالم" -الذي خلقين فهو يهدين والذي هو يطعمين ويسقني" الشعراء .79حيث يرد يف اآلية األوىل اإلطعام مسنداً إىل
تناصاً مع قول الرسول صلى اهلل عليه وسلم (نصرت اهلل اخلالق مرتبطاً بالنصر ويف الثانية يرد مرتبطاً باهلداية.ويف البيت الرابع حيدث الشاعر ّ
بالرعب -ويف رواية :مسرية شهر) ( .)26وال يفعل الشاعر ذلك من قبيل املبالغات يف املدح اليت يتومهها بعض قراء الشعر ويهربون إىل القول هبا
عندما يعجزون عن استكناه أسرار الشعر ،وإمنا هي تعبري فين نراه متساوقاً مع ما سيعقده الشاعر من صلة بني هذه الغزوة وبني غزوة بدر الكربى
عمورية من خالل هذا االقرتان.ويف البيت السادس اليت كانت لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،مبا تشعه من دالالت روحية ثرة تكتسبها موقعة ّ
تناص آخر مع آية قرآنية كرمية هي قول اهلل تعاىل " :وما رميت إذ رميت ولكن اهلل رمى " األنفال .17ويقصد الشاعر من وراء هذه العالقة مع
نص اآلية الكرمية أن يظهر عمل املعتصم† هذا من خالل مشيئة اهلل سبحانه وتعاىل ،األمر الذي يزيد معىن توفيق اهلل له ويقرتب يف هذا البيت من
معىن التسليط الذي تذكره اآلية الكرمية (ولكن اهلل يسلط رسله على من يشاء واهلل على كل شىء قدير) احلشر .6وورد أيضاً يف قوله تعاىل
(ولو شاء اهلل لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) النساء .90
ويكرر الشاعر يف البيت السابع إسناد الفتح إىل اهلل سبحانه ،ومل يبق أبو متام للمعتصم من دور ميدح به أو من معىن مدحي خيص ذاته سوى قوله:
جحفل ِ
جلب ٍ نفسه وحدها يف
يوم الوغى لغدا ......من َ لو مل ي ْقد جحفالً َ
وعندما أراد أن يثبت له أنه من نفسه ورباطة جأشه يف جحفل ،جاء نفيه -يف مطلع البيت -بعد الشرط مثبتاً أنه كان يقود يف هذه املعركة
جحفالً حقيقياً .كما أن الشاعر ملا أراد أن يظهر املعتصم ممدوحاً بشخصه دون جيشه فذكر أن غزوه غزو حمتسب ال غزو مكتسب جاء قوله
(غزو حمتسب) يظهر املعتصم† من خالل معان روحية ،تنكر فيها الذات احتساباً وتتالشى وسط التماس األجر من اهلل .خبالف غزو املكتسب
الذي تظهر فيه ذاته األنانية ذات البطولة املستعلنة اليت حتاول الكسب املادي .وملا حاول الشاعر أن يؤكد املعىن املدحي السابق وأن يظهره يف
سياق حكمة عامة جاء قوله يدمج شخصية املعتصم يف شخصية جنوده ويذيبها فيها بدالًمن أن يكرس متييزه وذلك يف قوله التايل:
ِ
السلب ِ
املسلوب ال ِ
الكريهة يف أسود ِ
الغيل مهتُها َيوم األسود َ
َ إن
مما يرجح لدينا انشغال الشاعر مبعاين اجلهاد والفتح قبل انشغاله مبعاين املدح وشخصية املمدوح.
هذا مع مالحظة أن استطراده لذكر شخصية ملك الروم الذي يستكمل به عناصر الواقعة التارخيية أو مالمح املعركة ،والذي استخدم فيه مقدرته
التصويرية لرسم صورة كاريكاتريية مضحكة وساخرة مللك الروم ،هذا التصوير -أظنه -خيدم شخصية املعتصم† ويرسم أشياء من مالحمها عن
طريق تقدمي النموذج السليب أو النموذج الضد ،ولكن هذه املالمح املستخلصة† ختدم اجلانب اإلنساين من شخصية املعتصم† قبل أن ختدم اجلانب
البطويل منها ،وتعلي من قيم اجلهاد اإلسالمي فاملعتصم حيتسب جهاده ال يكتسب به يف مقابل ملك الروم الذي يفرق األموال ليحفظ نفسه
وينجو هبا .وإذا كان ملك الروم يضحي جبنده بل بأخلص املقربني إليه ،فإن املعتصم† مع جنوده حيافظ عليهم ويقاتل هبم ،ومههم العدو ال الغنائم.
مث يعود ليؤكد إسالمية هذه الغزوة ،فاملعتصم (خليفة اهلل) ينفذ مشيئته وجهاده سعي مشكور† يدافع به عن الدين واإلسالم ،وكذلك عندما جيعل
لعمورية ،وغزوة بدر صلة رحم ونسب ،واإلسالم يؤكد على أمهية صلة الرحم ويدعمها .ويالحظ أن الشاعر يف كل القصيدة بني هذه الغزوة ّ
ويف البيت األخري:
ِ َ ِ
النسب ......وبني أيام بد ٍر ُ
أقرب صرت هبا
أيامك الاليت نُ َ
فبني َ
على وجه اخلصوص يبدو أبو متام مقتصد† اً يف أوصاف املدح مغايراً ملألوف الشعراء يف املبالغة ،فال ينسب إىل املعتصم† النصر أو جيعله من عند
نفسه ،بل جيعله من عند اهلل سبحانه وتعاىل .مما يؤكد ما قررناه من قبل من التزامه التفسري اإلسالمي للتاريخ الذي اليغفل اجلانب الغييب بل يقدره
حق قدره ،ويربز عمل اإلنسان وجهده واضحاً من خالل مشيئة إهلية كلية سابقة وشاملة ونافذة وعلم رباين ال خيفى عليه شيء يف األرض وال يف
السماء .يتجلى هذا املعىن للتفسري اإلسالمي للتاريخ ( )27من خالل آيات قرآنية كرمية متعددة منها قوله تعاىل " :لقد صدقكم اهلل وعده إذ
حتسوهنم بإذنه " آل عمران 152
وقوله تعاىل " فأتاهم اهلل من حيث مل حيتسبوا وقذف يف قلوهبم الرعب خيربون بيوهتم بأيديهم وأيدي املؤمنني" احلشر.2
وقوله تعاىل " :قاتلوهم يعذهبم اهلل بأيديكم وخيزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنني " التوبة .11إىل آخر هذه اآليات الكرمية اليت
تبدو فيها إرادة البشر متضمنة يف إرادة إهلية أمشل يف تناسق تام .ومما سبق يبدو لنا أبو متام من خالل هذه القصيدة شاعراً إسالمياً حقيقياً يستقي
من القرآن الكرمي أدواته الفنية اليت يشكل هبا جتربته الشعرية متمثلة يف بنية التضاد ،كما يستمد من القرآن الكرمي رؤيته يف تفسري التاريخ.ونلجأ
إىل املوازنة بني قصيدة أيب متام السابقة وقصيدة للمتنيب لنحقق هدفني
-1تأكيد ما سبق أن قررناه بصدد أيب متام ،فالتباين يكشف عن املالمح املميزة لكل منهما.
-2الكشف -الذي وعدنا بتحقيقه عن مبىن التفكري الفين ووجهة نظر املتنيب يف تفسري التاريخ من خالل هذه العينة من شعره .لتكون† اخلطوة
املقبلة حبثاً شامالً هلذه القضية يف كل النتاج الشعري هلذين الشاعرين الكبريين.
ويالحظ -فيما حنن بصدده -أن هناك تأثرياً متبادالً وتراسالً أو بعبارة أمشل وأدق عالقة جدلية بني تفسري الشاعر للتاريخ وبني مبىن التفكري الفين
يف شعره ،ونبدأ أوالً بالبحث عن بنية يقوم عليها التفكري الفين للمتنيب يف هذه القصيدة:تشكل الذات حموراً فنياً لبنية التفكري الفين يف شعر املتنيب
فتبدأ قصيدة احلرب املختارة له وهي مما قاله يف مدح سيف الدولة احلمداين بغناء حزين لذاته يقول فيه:
طويل
وليل العاشقني ُ طوال ُ
شكول …ٌ .. ٌ ليايل بعد الظاعنني
سبيل
ينب يل البدر الذي الأريده … ..وخيفني بدراً ما إليه ُ
محول
وما عشت من بعد األحبة سلوةً … ..ولكنين للنائبات ُ
رحيل
ُ وإن رحيالً واحداً حال بيننا … ..ويف املوت من بعد الرحيل
وقبول
شم الروح أدىن إليكم … ..فال برحتين روضةٌ ُ إذا كان ُ
نزول
احلبيب ُِ باملاء إال تذكراً …ٍ ..
ملاء به أهل وما شرقي ِ
وصول
ُ حيرمه ملع األسنة فوقه … ..فليس لظمآن إليه
دليل
أما يف النجوم السائرات وغريها … ..لعيين على ضوء الصباح ُ
وحنول
ُ أمل ير هذا الليل عينيك رؤييت … ..فتظهر فيه رقةٌ
قتيل لقيت بدرب ِ
والليل فيه ُ
ُ القلة الفجر لقية … ..شفت كبدي
رسول
ُ والشمس منك
ُ ويوماً كأن احلسن فيه عالمةٌ … ..بعثت هبا
ذحول
ُ سيف الدولة أثار عاشق … ..وال طلبت عند الظالم وماقبل ِ
وهتول
غريبة … ..تروق على استغراهبا ُ بكل ٍ ولكنه يأيت ِ
ويالحظ ابتداء أن الشاعر مشغول هبموم شخصية هلا وجود على مستوى الواقع يشري إليها اجلزء األخري من قصيدته الذي نذكره اآلن قبل أن
نتحدث عنها على مستوى الفن يف مقدمته †.يقول املتنيب قبيل هناية قصيدته:
مقول
السابق اهلادي إىل ما أقوله … ..إذا القول قبل القائلني ُُ أنا
أصول
أصول وال لقائليه ُ الناس فيما يريبين …ٌ .. وما ِ
لكالم ِ
احلب للفىت … ..وأهدأُ واألفكار يف ُ
جتول يوجب َ
ُ أُعادي على ما
حيول
احلساد داو فإنه … ..إذا حل يف قلب فليس ُ ِ سوى وجع
وتفيل ٍ ٍ
وال تطمعن من حاسد يف مودة … ..وإن كنت تبديها مل ُ
قليل ٍ ِ
وإنا لنلقي† احلادثات بأنفس … ..كثريُ الرزايا عندهن ُ
وعقول
ُ أعراض لنا
ٌ جسومنا … ..وتسلم تصاب ُ
َ يهون علينا أن
فهذا اخلتام يكشف لنا أن املتنىب على مستوى الواقع كان يعاين مشكلة† يف جملس الدولة لعلها تتعلق بأصالة شعره -وهو سر وجوده وكل كيانه
الذي ميثل به يف جملس الدولة وميارس دوره فيه -ولذلك يؤكد يف البيت األول سبقه وابتكاره لشعره دون غريه من الشعراء ممن يكرر شعر غريه.
ذات أصول ،وينفي عن نفسه يف البيت الثالث أن يكون فيه ما يعاب، ويدفع يف البيت الثاين اهتامات وجهت إليه ويصفها بأهنا -كقائليها -غري ِ
ُ
وحياول أن يظهر -كعادته -عدم اكرتاثه خبصومه ،الذين يطعن يف موقفهم ويشكك يف أمهية أقواهلم أهنا صادرة عن احلُساد .وعلى الرغم من
تظاهره بعدم االكرتاث بأعدائه ،وأنه ال يطلب عون سيف الدولة عليهم ،إال أن هذا التظاهر يتضمن رغبة واستمداداً لعون† سيف الدولة على
كبتهم ،ويربر تظاهره بعدم االستمداد لعون† سيف الدولة ،بأن احلسد من أعدائه دائم ال حمالة ألنه ثابت على شخصيته ال يغادرها ،كما يربره
بقوة نفسه اليت يصغر عندها كبري الرزايا ،فإنه حيرص على عرضه وكرامته وال يبايل مبا يصيبه من مشقة وجهد أو خسارة مادية ،ولكن إحلاحه
على ذكر احلساد -مرتني يف بيتني متتاليني -يكشف عن شقائه هبم.
وإذا كان املتنيب قد عرب تعبرياً صرحياً عن مشكلته يف جملس سيف الدولة يف ختام قصيدته ،فقد قدم هذه املشكلة من خالل معادالت فنية يف
مقدمة القصيدة.
وتتمحور الصور الشعرية يف املقدمة -وهي متنامية -حول ذات الشاعر -ويتشكل بناؤها من خالل طرح املوضوعي واختيار ما خيص الذات منه.
ففي البيت األول :جند ليل اآلخرين -وإن كانوا هنا للمماثلة عاشقني -ليالً طويالً ،ويف املقابل جند ليله اخلاص يتحول إىل ليال شكول ،والليل-
كما يف لسان العرب( -واحد مبعىن مجع ،ولكنه مجع على ليال) ،والشكول املتماثلة ،املتشاهبة اليت ال ترمي ،مث يؤكد ذلك بوصفها بقوله :طوال.
أي أن ما خيصه من حال العشاق ال مياثلهم فيه ،بل يزيد عليهم فيه.
ويبدو األمر أكثر وضوحاً يف البيت الثاين ،الذي يظهر فيه بدر اآلخرين الذي ال يريده ،ولكن الشاعر إمنا يريد بدر ذاته ،وإذا كان بدر اآلخرين
واضحاً ظاهراً ،فإن البدر اخلاص بالشاعر خمفي ،ال يستطيع الشاعر إليه سبيالً .وحيمل التعبري بالنفي :ما إليه سبيالً .إحساس الشاعر باليأس احلاد
منه.
ومع البيت الثالث البد من النظر إىل املسكوت عنه يف اخلطاب مقارناً باملعلن فيه لتبني قسمة األشياء بني الذايت واملوضوعي .فاملعلن يف اخلطاب
هو القسم الذايت :وما عشت من بعد األحبة سلوة واملسكوت عنه هو املوضوعي :أي عاش غريي بعد األحبة سلوة وعلى ذلك فالعيش يف هذا
البيت -عيشان :-عيش اآلخرين وهو سلوة؛ وعيش الشاعر ،أو عيشه الذايت :وهو حَت ّم ٌل للنائبات وتصرب عليها.ونتبع نفس املنهج مع البيت الرابع
فإذا املعلن عنه يف خطابه :هو القسم الذايت :وإن رحيالً واحداً حال بيننا واملسكوت عنه هو املوضوعي :فغريه يعاين رحيالً واحد اً وعلى ذلك
فالشاعر يعاين رحيالً بعده رحيل واحملصلة حرمان دائم من احملبوبة .فنرى غزل املتنيب يطارده املوت ويقبع يف خلفية صورته ،ويبقى -وفق آليات
الشفاهية وإنشاد الشعر -سائداً باقياً يف األذهان بعد إنتهاء حلظة الغزل .فاحملبوبة كأهنا حياة تسلمه إىل املوت عندما تفتقد .وجو احلرمان الذي
كان يتنفس فيه غزله جعله يرتبط باملوت .وغريب أن يؤدي الغزل لدى املتنيب وكأنه رثاء -إىل التأمل يف مشكلة املوت .من ذلك قوله من
قصيدته( :ما لنا كلنا جو يا رسول!)...
ِ
حتول
حال ُ سن الوجوه ٌ زودينا من ُحس ِن وجهك مادا …َ ..م ُ
فح ُ ّ
قليل
املقام فيها ُ
صلك يف هذه الدن … ..يا فإ ّن َ وصلينا نَ َ
احلمول
ُ تشوق
ُ من رآها بعينها شاقه القط … ..ا ُن فيها كما
ويشرح اليازجي البيت األخري بقوله( :يريد أن املقيم يف الدنيا على وشك ختليتها والرحيل عنها ،فمن رآها بعينها أي من صور نفسه يف مكاهنا
ورأى أهلها على أهبة فراقها شاقه النظر إليهم ،كما يشوقه النظر إىل محول الراحلني) العرف الطيب ص .457وهكذا يقود الغزل -احملروم-
عند املتنيب إىل املوت!
واملاء -وله وجوده املوضوعي عند اآلخرين حيث تنبين عليه حياهتم -يتحول عند املتنيب إىل ماء يغص به وال يسيغه كغريه فيحرم منه أوتتسع
صورته فيصبح املاء الذي تنزل به احملبوبة اليت حرم منها .وورود احملبوبة يف هذا السياق يساوي بينها وبني املاء وهي صورة عربية جاهلية جندها يف
رحلة الظعائن عند زهري يف معلقته† على سبيل املثال حيث ارتباط وجود احملبوبة باملاء وهي صورة من واقع احلياة العربية ،لكنها دخلت الفن
وسكنت الشعر .واملاء /احملبوبة يف البيت السابع الذي استطرد فيه الشاعر إىل التغزل باألسنة واملنعة يتفرد موقف الشاعر منه فهو الظمآن الذي
حيرم منه ولتقدمي اخلرب واجلار واجملرور املتعلقني به دوره يف تأبيد نفيه عنه واستبعاد األمل فيه متاماً وتأكيد حرمانه.
والنجوم السائرات لديه -خبالف اآلخرين -ال تشكل هادياً يهدي عينيه إىل ضوء الصباح ،ويؤدي قوله (وغريها) دوره يف تأكيد معىن النفي
الذي يلصقه بالنجوم السائرات .ويكون حديثه عن الليل والنجوم والصباح مث عن الفجر معرباً عن تناسب أجزاء الصناعة فضالً على ما حتمله من
دالالت نفسية .وكذلك رؤية احملبوب :ال تصيب اآلخر وهو -هنا -الليل بشيء لكنها تصيب املتنيب بالرقة والنحول .وهذه الصور وإن كان فيها
قدر باهظ من الوعي ،فإن دالالهتا النفسية ما زالت قادرة على اإلشعاع.
تلك كانت حاله قبل سيف الدولة أو قبل حرب سيف الدولة أما بعدمها أي بعد سيف الدولة /احلرب ،فاملتنيب :يلتقي الفجر ،ويتحول الليل -مبا
له من دالالت مشعة يف نفس املتنيب -إىل قتيل ،واحملصلة شفاء نفس الشاعر مما كانت جتد وحل مشكالته .وعندما يستطرد املتنيب إىل إكمال
الصورة السابقة فيتحدث عن يوم املعركة فإن الالفت للنظر إليه أن يبدأ وصل الشاعر حملبوبته هبذا اليوم فرتسل إليه عالمة منها هي احلسن كما
ترسل الشمس رسوالً منها ،وكأن مشكالت الشاعر من الظالم ومن احلرمان من حمبوبته ذات البدر مرة وذات الشمس مرة أخرى قد حلت مع
يوم حرب سيف الدولة .ولذلك شعر املتنيب أنه نسب إىل سيف الدولة أشياء مل تكن تنسب إىل أحد من قبله؛ فقد نسب إليه أنه ثأر للشاعر
العاشق! وأنه ثأر له من الظالم أيضاً!.
وعندما يفيق املتنيب من هذه األجواء النفسية ليدخل يف أجواء الوعي واملدح يربر ذلك -على عادة الشعراء يف املدح -مبا يسمى حسن التخلص أو
اخلروج الذي يثبت فيه لسيف الدولة القدرة† على فعل اخلوارق والغرائب بقوله:
ولكنه يأيت بكل غريبة … ..تروق على استغراهبا وهتول
ويتخذ من هذا البيت سبباً يلج منه إىل عامل املديح .أي أن فن املتنيب يف هذه القصيدة -ورمبا يف كل شعره -يتخذ من الذات حموراً يدور عليه،
حيور ظواهر الطبيعة واألشياء ليعرب عن قسمه منها أو نصيبه أو اختياره الذايت ولذلك ال نعجب إذا وجدنا القصيدة -على الرغم من كوهنا نصاً ّ
شعرياً يف احلرب -تدور حول ذاتني :ذات املتنيب أوالً مث ذات سيف الدولة .هذا مع استخدامه يف هذا السياق الذايت أدوات فنية جزئية من البالغة
التقليدية ،تأيت يف مقدمتها† ألوان التكرار اللفظي وقليل من املطابقة والتشبيه ،ولكنها ال متثل اختياره إمنا كان اختياره -الذي أوضحناه -أن يدير
األشياء حول ذاته.
ميتد املتنيب بطريقته يف التفكري الفين إىل تفسري الواقعة التارخيية بل إن قلب هذه القضية يكون أكثر إصابة للحقيقية †،إذ أن تفسريه البطويل للواقعة
التارخيية ،وله دوافعه املتعددة لديه ومنها اعتداده بذاته قد الزمه يف كل ما صدر عنه من شعر ،وترك أثره يف طريقته الفنية وبنائه للصورة الشعرية.
ويالحظ هبذا الصدد -أي تفسري الواقعة التارخيية -اعتناق املتنيب للتفسري البطويل أو الفردي للتاريخ ،الذي جيعل الفرد -بعيداً عن سياقات بيئته،
االجتماعية ،واالقتصادية والثقافية -قادراً على صنع احلادثة التارخيية وتوجيه عجلة التاريخ يف فردية واستبداد تأمني.
ولعل اعتناق املتنيب هلذا الضرب من التفسري للتاريخ -الذي سنعرض األدلة عليه من شعره -يرجع إىل ما يأيت:
-1اعتداده الشديد بذاته وثقته بقدرهتا على الفعل وإحساسه بالتفرد مما يؤدي إىل إغرتابه يف كثري من شعره ،ونظراً لشهرة هذا األمر سنورد عليه
أمثلة قليلة منها قوله يف قصيدته :واحر قلباه
قدم
اجلمع ممن ضم جملسنا … ..بأنين خري من تسعى به ُ سيعلم ُُ
صمم
أنا الذي نظر األعمى إىل أديب … ..وأمسعت كلمايت من به ُ
وقوله:
ِ
احلسود ظ
ومسام العدا وغي ُ ِ
ورب القوايف …ُ .. رب الندى ُّ أنا ت ُ
أمة تداركها اهلل … ..غريب كصا ٍحل يف ِ
مثود أنا يف ٍ
ٌ ُ
وقوله:
باآلمال من أريب … ..وال القناعةُ باإلقالل من شيميِ التعلل
ليس ُ
بنات الده ِر ترتكين … ..حىت َّ
تسد عليها طرقَها مهمي أظن ِوال ُّ
صمة الصم ِم
النصل مين مثل مضربه … ..وينجلي خربي عن ّ ُ سيصحب
ُ
ساق على ِ
قدم اخليل سامهةً … ..احلرب أقوم من ٍ ألتركن وجوه ِ
َ
ومن حديث املتنيب عن ذاته وقدراته قوله:
طوال الردينيات يقصفها دمى … ..وبيض السرجييات يقطعها حلمي
األرض من خربيت هبا … ..كأين بىن اإلسكندر َّ
السد من عزمي َ دحوت
ُ كأين
وقوله:
اخليل مشرفة اهلوادي أفكر يف معاقرة املنايا …ِ ..
وقود ِ
زعيم للقنا اخلطى عزمي … ..بسفك دم احلواضر والبوادي
إىل غري ذلك من الكثرة الكاثرة من أبيات شعره.
-2عالقة املتنيب بالتشيع :وأمر نشأته يف بيئة شيعية بالكوفة ،واهتامه باعتناق مذاهبهم كالقرمطية مشهور †،حتدث عنه طه حسني يف كتابه (مع
املتنيب) ،وحتدث عنه حممود شاكر يف كتابه (املتنيب).
والشيعية مسئولة -إىل حد كبري -عن إشاعة هذا التفسري البطويل للتاريخ ،مبا قالت به من فكرة اإلمامة (ودورها يف إقامة العدل وتصحيح التاريخ
بوصفها لطفاً من اهلل تعاىل) ( )28فاإلمامة -عندهم( -لطف من اهلل ومن مث جيب على اهلل تعاىل نصب اإلمام أي تعيينه ،ألنه املعصوم† الذي
حيفظ الشرائع وحيرسها ويردع عن الفساد وحيث على الصالح) ( .)29وقد ردد املتنيب عقائد الشيعة يف اإلمامة يف شعر صباه ،من ذلك ما قاله
(وهو يف املكتب ميدح رجالً وأراد أن يستكشفه عن مذهبه))30(.يا أيها امللك املص ّفى جوهراً …..من ذات ذي امللكوت أمسى من مسا
علم ما لن يُ َعلَما
تعلم َ…..فتكاد ُ
ُ نور تظاهر فيك ال هوتيه ٌ
ويهم فيك إذا نطقت فصاحةً …..من كل عض ٍو منك أن يتكلَّما ُّ
(العرف الطيب ص )11
وقال املتنيب يف مدح حممد بن زريق الطرسوسي:
آية …..تنفي الظنون وتفسد التقييسا تصور غاية يف ٍ
بشر َّ ٌ
ِ
لو كان ذو القرنني أعمل رأيه …..ملا أتى الظلمات صرن مشوساَ
أو كان صادف رأس عازر سيفه …..يف يوم معركة ألعيا عيسى
جاز فيه موسى انشق حىت َ مثل ميينه …..ما ّ ِ
أو كان جلُّ البحر َ
بدت فصار العاملون جموسا ِ
للنريان ضوءُ جبينه …..عُ ْ أو كان
ملا مسعت به مسعت بواحد …..ورأيته فرأيت منه مخيسا
(العرف الطيب ص )53
ونقف عند البيت األول من هذا املثال الثاين ففيه جند عقيدة الشيعة يف اإلمام املعصوم .قال الشارح( :يقول إن اهلل صوره بشراً وجعله غاية للناس
تنتهي إليها كماالهتم بأسرها .وكان ذلك اخللق يف آية من خوارق العادات تنتفي هبا ظنون الناس فيه ،فال تقع على حقيقة كنهه ويفسد قياسهم
له بغريه ألن الشيء إمنا يقاس مبثله وال مثل له) (.)31
ونقف عند البيت األخري الذي يشري يف رأينا إىل تطور هذه العقيدة الدينية الشيعية الغالية إىل ضرب من التفكري الفين لدى املتنيب ،عندما تتحول
من موقف واختيار ومعىن عقدي إىل معىن مدحي مفرط ،وقد وقف الشراح عند انتهائه يف جمال املدح ومل يربطوه ببدايته العقيدية املسرفة؛ قال
الشارح يف تفسريه( :إنه يقوم بنفسه مقام اجليش ويغين غناءه) (.)32
ونرى خالفاً البن الرشيق يف العمدة أن العقيدة الشيعية الغالية اليت عرفها املتنيب كثقافة ورمبا اعتنقها يف صباه كعقيدة كانت الباب الذي وجل منه
املتنيب إىل الغلو يف معاين املدح ال ما ذهب إليه ابن الرشيق من العكس :أي أن الغلو واإلفراط يف رأيه قد ّأديا باملتنيب إىل هذا الصدام مع العقيدة
اإلسالمية)33( .
الغلو يف معاين املدح قوله:
ومما أفرط فيه من املدح على النحو الذي يؤكد ما ذكرناه من تدرجه من الغلو يف العقيدة إىل ّ
لو كان علمك باإلله مقسماً …..يف الناس ما بعث اإلله رسوال
لو كان لفظك فيهم ما أنزل الـ …..فرقان والتوراة واإلجنيال
لو كان ما تعطيهم من قبل أن …..تعطيهم مل يعرفوا التأميال
فلقد ُع ِرفت وما عُ ِرفت حقيقةً …..ولقد ُج ِهلت وما ُج ِهلت مُخُوال
اجلياد صهيالاحلمام تغنياً …..ومبا جتشمها ُ نطقت بسؤددك َ
ومن مبالغاته اليت تدرج إليها من العقيدة الغالية إىل املدح بقوله:
ِ
القمران مذموم† بكل لسان … ..ولو كان من أعدائك عدوك
ٌ
ِ
اهلذيان ضرب من ِ
…..كالم العدا ٌ ُ سر يف عُالَك وإمنا وهلل ٌ
أبغضت سعيه …..لعوقه شيءٌ عن الدوران َ الدوار
الفلك ُ لو ُ
وقد امتد اعتناق املتنيب لفكرة البطل /الفرد الناجتة لديه عن املصدرين السابقني إىل آرائه السياسية الواضحة يف مثل قوله:
عجم
عرب ملوكها ُ …..تفلح ٌ
ُ الناس بامللوك وما وإمنا ُ
ذمم
عهود هلم وال ُ حسب …..وال ٌ ُ أدب عندهم وال ال ٌ
غنم ٍ بكل ٍ
أمم …..ترعى بعبد كأهنا ُ أرض وطئتُها ٌ
وال يهمنا من هذه األبيات أن نشري إىل عروبيته وإمنا يهمنا أن نشري إىل إعالئه لدور† الفرد يف صناعة التاريخ وتشكيل مصري اجلماعة ،فالناس
بامللوك ،وامللك األعجمي عبد يرعى غنماً.
نقف عند القصيدة موضوع دراستنا لنكشف عن رأيه يف تفسري التاريخ الذي عددناه -فيما سبق -امتداداً لتفكريه الفين أو ذا عالقة جدلية به
يقول املتنيب:
خيول
السهام َُ اجلياد إىل العِدا …..وما علموا أن الدرب باجلُرد َ َ رمى
ونصول
ُ ..حبران لبتها قناًعرضت له َّ ْ وما هي إال خطرةٌ
ثقيل ِ
..بأرعن وطءُ املوت فيه ُ َ مهومه
هم أمضى َ مهام إذا ما ٌَّ
تقيل ٍ ٍ
الركض يف كل بلدة …..إذا عرست فيها فليس ُ ُ وخيل براها
ورعيل كل ٍ
طود رايةٌ …..علت َّ ٍ
وصنجة فلما جتلى من َدلُوك
ُ ْ
غسيل مكان بالسيوف احلديد عليهم …..فكل ِ َ سحائب ميطُرن
ُ ُ ُ
كفيل ِ ِ
…..بكل جني ٍع مل ختضهُ ُ جنيع القوم خوضاً كأنّه فخاضت َ
ذليل ٍ ِ
…..وكل عزيز لألمري ُ ُ وبنت حبصن الران رزحى من الوجى
فلول
سيف ما خاله ُ نفس ما خاله ماللة …..ويف كل ٍ كل ٍ ويف ِ
جليل ِ
خطب يف البالد ُ ٌ لبسن الدجى فيها إىل أرض مرعش …..وللروم
فضول كل العاملني جيشه …..دروا أن َّ وحده قبل ِ
ُ فلما رأوه َ ُ
اخلط عنه قصريةٌ …..وأن َ ِ وأن رماح ِ
كليل
حديد اهلند عنه ُ َّ َ
جزيل ِ ِ
مثل العطاء ُ صدر احلصان وسي َفه …..فىت بأسهُ ُ فأوردهم َ
خبيل ِ
جواد على العالت باملال كله …..ولكنه بالدارعني ُ
ٌ
سهول
ُ البيض فيه ٍ
…..بضرب حزو ُن ِ فودع قتالهم وشيّع فلَّهم
َّ
كبول
تعجب …..وإن كان يف ساقيه منه ُ
ٌ قسطنطني منه
َ على ِ
قلب
تسيل
جنوت بإحدى مهجتيك جرحيةً …..وخلّفت إحدى مهجتيك ُ َ
أكول
شروب للجيوش ُ ٌ …..على
ٌّ أغركم طول اجليوش وعرضها
فيل
تكن لليث إال فريسة …..غذاه ومل ينفعك أنك ُ إذا مل ْ
تصول
كيف ُ األيام َ
األيام أبصرن صولةُ …..فقد علّم َوإن تكن ُ
صقيل
ُ سم مواضياً … ..فإنك ماضي الشفرتني ملوك مل تُ ُ
فدتك ٌ
وطبول بوقات هلا لدولة …..ففي ِ
الناس الناس سيفاً ٍ
بعض ِ
ُ ٌ إذا كان ُ
فنلتقي يف هذه األبيات بثالثة عناصر متجاورة ومتفاعلة هي :سيف الدولة وهو القائد واملمدوح ،والعنصر الثاين :جيش سيف الدولة ،والعنصر
الثالث هو عدو سيف الدولة :قسطنطني ابن الدمستق .ويالحظ ابتداء أن هذه العناصر الثالثة تصب كلها يف تيار إعالء العنصر األول (سيف
الدولة) ومتجيده على النحو الذي يؤكد انتحاء املتنيب -يف هذه القصيدة -حنو ما يسمى التفسري البطويل أو الفردي للتاريخ وذلك على النحو
التايل؛ مع مالحظة صعوبة الفصل التام بني ما خيص كل عنصر من العناصر الثالثة.
أوالً :سيف الدولةنراه يف البيت األول فاعالً (رمى الدرب باجلرد اجلياد إىل العدا) وينسب إليه الفضل يف حدوث حركة االجتياح اليت حصلت
يكيل له صفات املدح
من املسلمني لبالد الروم( :فما هي إال خطرة عرضت له )..فالفعل التارخيي رهن خبطرات سيف الدولة! ويف البيت الثالث ُ
اليت جتعل منه قادراً على الفعل( :مهام إذا ما هم )..فإنه ميضي مهه بواسطة جيشه القوي ذي الوطأة الثقيلة وكذلك بواسطة خيله .وعندما
يتحدث عن حركة اجليش وانتقاله من مكان استوىل عليه إىل آخر ،يسند الفاعلية إىل سيف الدولة فلما جتلى عن دلوك وصنجة )...حىت عندما
ختوض خيول املسلمني يف املعركة يف دم األعداء قد يسند إىل سيف الدولة أنه بكل جنيع مل ختضه كفيل.
ويف البيت احلادي عشر يقرر على لسان الروم أن سيف الدولة جيش مبفرده قبل جيشه وأن الناس بعده فضول .وجيعله يف البيت الثاين عشر أقدر
على الفعل من الرماح والسيوف فالرماح عنه قصرية والسيوف عنه كليلة ،وهذه الصورة† سبق أن وصف املتنيب مبثلها نفسه:
طوال الردينيات يقصفها دمى … ..وبيض السرجييات يقطعها حلمى
وورد مثلها يف مدح أحد العلويني من شعر صباه:
ياليت يل ضربة أتيح هلا …..كما أتيحت له حممدها
أثر فيها ويف احلديد وما …..أثر يف وجهه ُمه ّذدها
ويف البيت الثالث عشر يشري إىل أنه لقى أعداءه بنفسه وقتلهم حبد سيفه وجعل صدر فرسه مورداً ألسلحتهم ( )34كما ساوى الشاعر بني
(ودع قتالهم وشيّع شجاعة سيف الدولة وعطائه؛ فهو (فىت بأسه مثل العطاء جزيل).مث ينسب إليه يف البيت اخلامس عشر كل بطولة يف املعركة ّ
فلهم) .وينسب إليه يف البيت العشرين أن له صوالً علّم األيام كيف تصول .مث يوظف اسم سيف الدولة يف مدحه عندما جيعله امساً على مسمى
تسم بامسه ألهنا ليست هلا صفات السيف ومضاؤه .ويكمل الصورة يف البيت التايل -وهو البيت الثاين والعشرون من أبياته اليت
وأن امللوك مل ّ
أوردناها -عندما يقارن بني ممدوحه وغريه من امللوك فممدوحه سيف للدولة فاعل مؤثر قاطع وأعداؤه طبول وأبواق ال يغنون غناءه وال يؤثرون
تأثريه.
والعنصر الثاين :جيش سيف الدولةواحلديث عنه يكشف عن قوته (سحائب ميطرن احلديد عليهم )...لكنه يسلبه الفاعلية -يف الغالب -ويسندها
إىل سيف الدولة كما سبق أن أشرنا يف مثل قوله (رمى الدرب باجلرد اجلياد )...وعندما أسند الفاعلية يف حتركات اجليش إىل سيف الدولة (فلما
كرت -رعن بنا -طلعن† عليهم) جنده يعتمد جتلى من دلوك وصنجة )...حىت عندما يتحدث عن اخليل باألفعال املاضية املناسبة للسرد (خاضتّ -
يف هذه األفعال على معىن السرد ال معىن الفاعلية .فجيش سيف الدولة وكذلك خيله كلها وسيلة إلنفاذ مهته فهو وحده دون جيشه اهلمام.
ويالحظ إصرار املتنيب على نسبة الفضل إىل سيف الدولة على الرغم من جيشه حىت لتبدو بينه وبني جيشه عالقة عدائية جتعله يصر على إتعاب
عرست فيها فليس تقيلوأوضح منه جيشه لينفذ سيف الدولة مهته على الرغم من جيشه مثال ذلك قوله:وخيل براها الركض يف كل بلدة …..إذا ّ
قوله:
وبنت حبصن الران رزحى من الوحى …..وكل عزيز لألمري ذليل فخيله متعبة إلنفاذ مهته ليس ذلك فقط فإمنا هي قد ذلت له ضمن من أو ما ذل
له ،فكأهنا تساوت مع أعدائه فإهنا قد تعرضت إلذالله هلا .وهذه الصورة† مما تكرر شعره يف سيف الدولة مثال قوله يف قصيدة (على قدر أهل
العزم تأيت العزائم:)..
اخلضارم اجليوش اجليش مهَّهُ …..وقد عجزت عنه ِ
الدولة سيف
ُ ُ َ يكلف ُ ُ
الضراغم
ُ عند نفسه …..وذلك ما ال تدعيه عند ِ
الناس ما َ ويطلب َ
ُ
فسيف الدولة يتعب جيشه أوالً ألنه يكلفه حتقيق مهومه وطموحاته تلك اليت ال تقدر على حتقيقها اجليوش الكثيفة الكثرية فكيف جبيشه الواحد،
مرة ثانية عندما يطالبهم بأن يرتفعوا إىل مستوى شجاعته تلك اليت ال ترتفع إىل درجة إدعائها األسود الضراغم فضالً كما يتعب جنوده ورعيته ّ
على فعل مثلها فكيف بالبشر من جيشه وجنوده ورعيته.
كل ما سبق فضالً على ما وصف به سيف الدولة يف هذه القصيدة من أنه عند أعدائه أو يف رأيهم جيش يف نفسه قبل جيشه وال حيتاج مع ذلك ُّ
إىل أحد بقوله:
فضول
ُ فلما رأوه وحده قبل جيشه … ..دروا أن كل العاملني
أال ميثل هذا اعتداء على قدر جيشه وفاعليته من إجالء إعالء ذات سيف الدولة ونسبة القدرة† على الفعل التارخيي إىل شخصيته البطولية املتفردة.
والعنصر الثالث:أعداء املسلمني أو اجليش الذي كان حيارب املسلمني ويالحظ ابتداء غياب اجليش عن الساحة إال يف سياق متجيد سيف الدولة:
(فلما رأوه وحده قبل جيشه( )...فأوردهم صدر احلصان وسيفه) (أغركم )..ويستعمل بدالً منهم مللء الفراغ أو الفضاء اخلاص هبم يف لوحة
املعركة شخصية قسطنطني مما يشري إىل عناية املتنيب بالذوات املفردة ابتداء بذات الشاعر ومروراً بذات سيف الدولة وانتهاء بذات قسطنطني.
األمر الناتج يف رأينا عن اعتناقه للتفسري البطويل للتاريخ الذي يسند الفعل إىل األفراد منفردين عن بيئاهتم وجمتمعاهتم.
ويكون استدعاؤه لشخصية† ابن الدمستق وسيلة لتأكيد ما نسبه إىل سيف الدولة ،فابن الدمستق النموذج الضد -أو الوجه السليب ،الذي يرتتب
على استحضاره استحضار شخصية سيف الدولة منوذج البطل يف القصيدة يقول:
على قلب قسطنطني منه تعجب …..وإن كان يف ساقيه منه كبول
فيل ِ
إذا مل تكن لليث إال فريسة …..غذاه ومل ينفعك أنك ُ
فابن الدمستق نصيبه يف البيت األول -التعجب والكبول ونصيب سيف الدولة أن يكون موضع التعجب وباعثه كما أنه واضع الكبول يف ساقي
امللك عدوه واالنتصار على العظيم عظيم أيضاً .ويف البيت الثاين يصبح نصيب ابن الدمستق -وهو يف األساس حمور األبيات -أن يكون فريسة
سهلة ال تدافع عن نفسها على حني يكون سيف الدولة الذي ذكره عن طريق التداعي له صورة الليث القادر على الفعل فابن الدمستق هو
النموذج احلاضر /الغائب وسيف لدولة هو البطل احلاضر دائماً .وإن كان استطراد املتنيب إىل استيفاء مالمح الصورة الفنية يف البيت يؤكد على
حرفيتها وجيعل ابن الدمستق -إذ كان سيف الدولة أسداً -جيعله فيالً فتبدو املقابلة مضحكة مثرية للسخرية من املتنيب ،وهذا نفسه ما تعانيه
الصورة الفنية اليت يتضمنها قوله:
علي شروب للجيوش أكول أغركم طول اجليوش وعرضها …ّ ..
فيؤدي به حرصه على نسبة الفعل التارخيي إىل سيف الدولة إىل هذا االستطراد واحلرص على حرفية الصورة وحتقيق التناسب بني طرفيها مما يفضي
علي شروب ،للجيوش ،أكول هلا ،مث ماذا بعد! يف النهاية إىل هذه الصورة† املضحكة املثرية للسخرية من املتنيبّ :
وهكذا تصلح مقولة† الذاتية أو ثيمة الذات لتفسري فن املتنيب وتأرخيه ففي الفن تشغله ذاته ويف التأريخ تشغله ذات سيف الدولة .وتكون سائر
عناصر الفن بل الواقعة التارخيية من :اجليش املسلم -جيش الروم -قائد الروم -وصف املعركة مسخرة من أجل تأكيد بطولة الذات املفردة اليت
شغل هبا الشاعر.اهلوامش .1،2ابن رشيق القريواين ت 463هـ :العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده حتقيق :حممد حميي الدين عبد احلميد -دار
اجليل بريوت -الطبعة اخلامسة .1981 -1401ج 2ص .124
.3صفاء الضوي .إحالة القارئ باختصار فتح الباري .للحافظ بن حجر العسقالين ت .852دار ابن اجلوزي -الرياض -الطبعة األوىل
-1993 -1414اجلزء الرابع :ص .493
.4ابن رشيق القريواين :العمدة ج 2ص .131
.5اخلطيب التربيزي ت :502شرح ديوان أيب متام -نشر؛ راجي األمسر -دار الكتاب العريب -بريوت الطبعة الثانية 1994 -1414ج2ص
.89
.6اإلمام أبو زكريا حميي الدين النووي ت :676رياض الصاحلني -حتقيق :مجاعة من العلماء بإشراف زهري الشاويش -ختريج حممد ناصر الدين
األلباين -نشر املكتب اإلسالمي -بريوت .الطبعة األوىل .1992 -1412باب إجراء أحكام الناس على الظاهر وسرائرهم إىل اهلل تعاىل ص
.198 ،196
.7اإلمام أبو زكريا حميي الدين النووي ت :676شرح صحيح مسلم† ط .دار اخلري بريوت .الطبعة األوىل -1494 -1414اجلزء السادس
عشر ص .418
.8إحتاف القارئ :ج 4ص .460وقد استجاد عمر بن اخلطاب (رضي اهلل عنه) شعر زهري وفضله على الشعراء ألنه كان ميدح الرجل مبا فيه.
العمدة ج 1ص.98
.9شرح صحيح مسلم :ج 16ص.417
.10احتاف القارئ :ج 4ص.493
.11املصدر السابق :ج 4ص .493
.12العمدة ج 2ص .170
.13العمدة ج 2ص.171
.14احتاف القارئ .ج 2ص .491
.15احلافظ أبو العال حممد املباركفوري ت :1353حتفة األحوذي بشرح جامع الرتمذي -دار الكتب العلمية -بريوت -الطبعة األوىل-1410
1990اجلزء الثامن ص .110
.16العمدة ج 1ص.25
.17د .حممد الغنيمي هالل :النقد األديب احلديث -دار العودة -بريوت .1987 -ص.57
.18املرجع السابق ص.56
.19نفسه ص.62
.20د .نصرت عبد الرمحن :النقد األديب احلديث ص 62مكتبة األقصى -عمان -1979الطبعة األوىل.
.21د .شوقي ضيف :الفن ومذاهبه يف الشعر العريب -دار املعارف مبصر -الطبعة التاسعة .ص 2 ،1وما بعدها.
.22شرح ديوان أيب متام ج 1ص.39
.23اآلمدي أبو القاسم احلسن بن بشر ت 370هـ -املوازنة بني شعر أيب متام والبحرتي .حتقيق حممد حمي الدين عبد احلميد-دار املسرية-
بريوت الطبعة اخلامسة .1987ص.257
.24د .شوقي ضيف :الفن ومذاهبه يف الشعر العريب ،ص 252
.25د .شوقي ضيف :العصر العباسي األول -دار املعارف مبصر .الطبعة السادسة ص .276
.26اإلمام احلافظ أبو احلسني مسلم† بن احلجاج ت .261صحيح مسلم -ترتيب حممد فؤاد عبد الباقي -دار اخلري بريوت -الطبعة األوىل
.1994 -1414احلديث رقم 523 ،521واإلمام احلافظ أبو عبد اهلل حممد بن إمساعيل البخاري ت 256هـ -صحيح البخاري الطبعة
الثالثة -الدار السلفية القاهرة احلديث رقم .2997 ،335
.27د .عماد الدين خليل :التفسري اإلسالمي للتاريخ -بريوت -دار العلم للماليني ط1983 -4م .ص.138
.28د .عفت الشرقاوي :يف فلسفة† احلضارة اإلسالمية .دار النهضة العربية بريوت ص .382
.29املرجع السابق ص -385والرأي للحلّى املصطفوي الشيعي يف كتابه كشف املراد يف شرح جتريد االعتقاد ط .قم .ص.288
.30الشيخ ناصيف اليازجي :العرف الطيب يف شرح ديوان أيب الطيب .الطبعة الثانية -دار القلم-بريوت -ص.10
.31املصدر السابق ص53
.32نفسه ص.53
.33العمدة ج 2ص .63
.34العرف الطيب ص .373