You are on page 1of 29

‫جامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية‬

‫معهد العلوم اإلسالمية و العربية في إندونيسيا‬


‫قسم اللغة العربية‬

‫مراثي شعراء الصحابة للنبي ‪i‬‬

‫‪ :‬اسم الطالب‬
‫عبد الغني فكري بن إقبال تسليم‬
‫طالب المستوى السادس من قسم اللغة العربية‬

‫تحت إشراف‬
‫الدكتور صالح عبد هللا التويجري‬

‫‪ 2020/‬م‪1442‬‬ ‫ﮪ‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫المقدمة‬

‫الحمد هلل والصالة والسالم على رسول هللا وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم‬
‫‪.‬الدين‬
‫‪،‬وبعد‬
‫هذا البحث تتعلق برثاء النبي صلى هللا عليه وسلم الذي قالها الصحابة من شعرهم بعد وفاة‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬بما أن من أعظم المصيبة أصابت المسلمين هي فقد الرسول‬
‫‪.‬صلى هللا عليه وسلم‬
‫‪.‬وفي هذا البحث نتحدث كذلك بمعرفة الرثاء وخصائصه ودوره عند العرب وما يتعلق به‬
‫‪.‬هذا البحث مقدم لمادة البحث التطبيقي في قسم اللغة العربية المستوى السادس‬

‫‪X‬‬
‫التمهيد‬
‫الرثاء غرض من أغراض الشعر التي اختصت بمدح الميت منذ العصر الجاهلي حتى‬
‫‪.‬العصر الحالي‪ ،‬إذ أنه تختلف وتتطور في عصر من العصور حتى اآلن‬
‫‪:‬أغراض الشعر‬
‫شعر الغزال‬ ‫‪‬‬
‫شعر الوصف‬ ‫‪‬‬
‫شعر المدح‬ ‫‪‬‬
‫شعر الرثاء‬ ‫‪‬‬
‫شعر الهجاء‬ ‫‪‬‬
‫شعر الحكمة‬ ‫‪‬‬
‫شعر االعتذار‬ ‫‪‬‬
‫شعر الفخر‬ ‫‪‬‬

‫‪X‬‬
‫المبحث األول‪ :‬مفهوم شعر الرثاء‬

‫رثاء [مفرد]‪ .1 :‬مصدر رثى ‪ /‬رثى ل‪ .2 .‬فن من فنون الشعر العربي " قصيدة رثاء "‪.‬‬
‫رثائية [مفرد]‪ .1 :‬اسم مؤنث منسوب إلى رثاء " قصيدة رثائية "‪ .2 .‬مصدر صناعي من‬
‫رثاء‪( .3 .‬دب) قصيدة تقال في ذكر محاسن شخص ميت " تعد رثائيات الخنساء من عيون‬
‫‪ "1.‬الشعر العربي – قال رثائية مؤثرة في ذكرى تأبين صديقه‬
‫یقول قدامة بن جعفر‪" :‬لیس بین ال َمراثية والمدحة فصل إاّل أن یذکرفي اللفظ ما یَد ّل علی‬
‫ضى نحبه وما أشبه ذلك‪ ،‬وهذا لیس یَزی ُد في المعنی والینقص‬ ‫أنّه لِهالك مث ُل َکانَ وتولّی وقَ َ‬
‫‪"2.‬منه‪ .‬ألن تأبين الميت إنما هو بمثل ما كان يمدح في حياته‬

‫‪3‬اتجاهات الرثاء‬
‫‪:‬هناك مجموعة اتجاهات للرثاء منها‬
‫الجمع بين التعزية والتهنئة ‪1-‬‬
‫الرثاء السياسي ‪2-‬‬
‫رثاء الرجل على زوجته ‪3-‬‬
‫الرثاء من أجل الفكاهة ‪4-‬‬
‫خروج الرثاء من دائرة األشخاص ‪5-‬‬

‫‪4‬ألوان الرثاء‬
‫‪:‬هناك ثالثة ألوان لشعر الرثاء وهي‬
‫الندب‪ :‬هو البكاء على الشخص أثناء احتضاره‪ ،‬أو بعد وفاته بالكلمات الحزينة التي تذيب ‪1-‬‬
‫‪.‬القلوب والعيون‬
‫‪5:‬أنواع الندب *‬
‫أ‪ -‬ندب األهل واالقارب‬
‫‪1‬‬
‫معجم اللغة العربية المعاصرة‪857-856 :‬‬
‫‪2‬‬
‫كتاب نقد الشعر ‪59 :‬‬
‫‪3‬‬
‫الموقع اإللكتروني‬
‫‪4‬‬
‫الموقع اإللكتروني‬
‫‪5‬‬
‫الرثاء‪47-13 :‬‬

‫‪X‬‬
‫لعلى أقدم صور الندب والنواح في شعرنا العربي هي صورة ندب األهل واألقارب‬
‫والنواح عليهم‪ .‬وللمرأة الجاهلية في هذا المجال القسط األكبر والنصيب األوفر‪ ،‬إذ كانت‬
‫تندب أباها وإخوتها‪ ،‬فما تزال تنوح على من يتوفى منهم حتف أنفه‪ ،‬وعلى من يموت قعصا‬
‫‪.‬بالرماح والسيوف‪ ،‬وما أكثر من كان يموت منهم في حروبهم الدائرة على المراعي‬
‫ب‪ -‬ندب الشعراء أنفسهم‬
‫إذا كان الشعراء قد ندبوا أهليهم وذويهم فأولى لهم أن يندبوا أنفسهم حين تحين ساعة‬
‫‪.‬الموت‪ ،‬وال يجدون لهم ملجأ وال عاصما‪ ،‬وكثير ندبوا أنفسهم وبكوها عند العصر الجاهلي‬
‫وطبيعي أن يندب الشعراء أنفسهم وهم يفارقون دنياهم من وراثهم إلى حفرة مظلمة‪ .‬إنها‬
‫ساعات ثم يخرج المشيعون من حولهم ووراثهم‪ ،‬يحملون نعوشهم إلى قبورهم‪ ،‬ويدفنونهم‬
‫‪.‬في لحودهم ويوارونهم التراب ويعودون‪ ،‬ليتم كل منهم دورته في حياته‬
‫ج‪ -‬ندب الرسول صلى هللا عليه وسلم وآل البيت الكريم‬
‫حينما أفل كوكب الرسالة اإلسالمية الذي أضاء ما بين المشرق والمغرب هلع الصحابة‬
‫رضوان هللا عليهم‪ ،‬وفزعوا لهذا النبأ المفجع‪ ،‬وكان عمر بن الخطاب أن ال يصدق‪ ،‬لوال أن‬
‫‪.‬رده أبو بكر إلى صوابه‬
‫واستحالت المدينة المنورة إلى بركان يقذف بحمم الندب والبكاء‪ ،‬واشتعلت نيران الحزن‬
‫في كل صدر وفي كل قلب‪ ،‬لوال أن أخذ الصحابة يتلون في القرآن الكريم مثل قوله تعالى‪:‬‬
‫{إنك ميت وإنهم ميتون}{أفئن مت فهم الخالدون‪ ،‬كل نفس ذائقة الموت}‪ .‬فبدأت السكينة‬
‫‪.‬تنزل على نفوسهم‪ ،‬وثابوا إلى رشدهم ليبلغوا رسالته المضيئة أطراف األرض‬
‫د‪ -‬ندب الدول‬
‫الدول العربية التي سقطت في خالل التاريخ الوسيط كثيرة‪ ،‬وقد كانت الدولة العربية‬
‫زمن بني أمية تشمل العالم اإلسالمي كله‪ ،‬وما غربت هذه الدولة في أفق التاريخ وبزغت‬
‫الدولة العباسية‪ ،‬حتى تراءى للعين أن الخيط الذي يضم هذا العالمويربط بينه خيط‬
‫واهن‪.‬وسرعان ما طمع الوالة في األطراف‪ ،‬وطمحوا إلى االستقالل ونشأ القوميات في‬
‫‪.‬الغرب والشرق‪ ،‬فإذا العالم اإلسالمي دول ال تكاد تحصى‬
‫ﮪ ‪ -‬ندب البلدان‬
‫وإذا كان الشعراء بكوا بعض الدول الزائلة فإنهم بكوا أيضا البلدان حين نزلت بها‬
‫الحوادث القاصمة‪ ،‬أو ألت بها بعض الدول الغاصبة‪ .‬وفي كل مكان من العالم اإلسالمي نجد‬
‫هذا البكاء‪ ،‬في الشرق والمغرب‪ .‬أما في الشرق فلعل أول بلدة حاقت بها كارثة ساحقة هي‬
‫بغداد‪ ،‬إذ حرقها ابن طاهر قائد المأمون أثناء حصاره ألخيه األمين‪ ،‬فقد سلط عليها مجانيقه‪،‬‬
‫فتحولت نارا أتت على كل شيء فيها‪ ،‬وكأن قصورها التي طالما أشاد بها الشعراء لم تكن‬
‫‪.‬شيئا مذكورا‬

‫‪X‬‬
‫‪.‬التأبين‪ :‬هو البكاء على الميت مع ذكر محاسنه‪ ،‬والثناء عليه لكن دون نواح أو نشيج ‪2-‬‬
‫‪6:‬أنواع التأبين *‬
‫أ‪ -‬تأبين الخلفاء والوزراء‬
‫هذه الصورة التي ذكرناها للتأبين في الجاهلية‪ ،‬والتي كانت تعتمد على الخالل والمناقب‬
‫التي يحترمها العربي القديم ويجلها في الرجل‪ ،‬والتي تجمعها كلمة المروءة‪ ،‬لم تلبث أن‬
‫دخلت عليها التعديالت مع ظهور اإلسالم ورسالته السمحة فإنه عدل في المثل األعلى عند‬
‫‪.‬العرب‪ ،‬ورفع كثيرا من الخالل ووضع مكانها خالال جديدة‬
‫لقد كان العربي في الجاهلية يعد سفك الدماء حسنة كبرى من الحسنات‪ ،‬فجاء اإلسالم‬
‫محرما للدماء رافعا لما كان منها في القديم‪ ،‬كما رفع كثيرا من المآثر الجاهلية‪ ،‬وأقام مكانها‬
‫مآثر جديدة من العدل والتقوى والزهد في الحياة‪ ،‬وإخالص الوجوه هلل‪ .‬وهذه المثالية الجديدة‬
‫كان لها شأنها في الرثاء‪ ،‬فقد أخذت تحل فيه صفات لم يكن العربي الجاهلي يعني بها وال‬
‫‪.‬كان يفكر فيها‬
‫ب‪ -‬تأبين األشراف واألجواد والقواد‬
‫لم يترك شعراؤنا شريفا على مر العصور دون أن يقفوا بقبره وينثروا مدامعهم عليه‪.‬‬
‫‪.‬وكان مقياس الشرف في الجاهلية التمييز في القبيلة بالكرم والشجاعة والسيادة‬
‫ج‪ -‬تأبين العلماء واألدباء‬
‫طبيعي أن يكون للعلماء مكانهم في التأبين والرثاء‪ ،‬إذ كانوا يتصلون بحياة الشعراء اتصاال‬
‫مباشرا إما من الوجهة الثقافية العامة‪ ،‬وإما من الوجهة الدينية‪ ،‬وقلما مات صاحب مذهب في‬
‫الدينية‪ ،‬وقلما مات صاحب مذهب في الدين أو صاحب أثر بارز في تأليف الشريعة إال نعاه‬
‫‪.‬الشعراء وتحدثوا عن فضله وواسع علمه وقيمة ما ترك من ورائه‬
‫د‪ -‬حفالت التأبين الحديثة‬
‫مر بنا في تضاعيف حديثنا ما يدل على أن أسالفناعرفوا تأبين الجماعات من الشعراء‬
‫لفقيد راحل‪ ،‬إذ كانت تقف بقبر بعض الراحلين طوائف من الشعراء‪ ،‬فترثيه‪ ،‬وتؤبنه‪،‬‬
‫وتعرض لسجاياه ومناقبه‪ ،‬وتتحدث عن علمه الغزير إن كان عالما‪ ،‬وأدبه الخصب إن كان‬
‫‪.‬أدبيا‪ ،‬كاتبا أو شاعرا‪ .‬ومعنى ذلك عرفوا التأبين الجماعي‬
‫العزاء‪ :‬هو في منزلة عقلية أعلى من منزلة التأبين‪ ،‬وفيه تأمل فكري إلى ما وراء ظاهرة ‪3-‬‬
‫‪.‬الموت‪ ،‬والتفكير في حقيقة الموت والحياة‬

‫‪6‬‬
‫الرثاء‪81-55 :‬‬

‫‪X‬‬
‫‪7:‬أنواع العزاء *‬
‫أ‪ -‬العزاء في األهل‬
‫كانت العادة في الجاهلية أن يعزي الشاعر نفسه إزاء من يفقد من أهله وأشراف قبيلته‪،‬‬
‫فعزاؤه يوجه قبل كل شيء إلى نفسه‪ ،‬ثم إلى من حوله‪ .‬ولما جاء اإلسالم ونشأت طبقات‬
‫الخلفاء والوالة‪ ،‬وأخذت تتألف حول كل خليفة وأمير أو حاكم كبير طبقة من الشعراء تقف‬
‫نفسها على مديحه وتسليته إن أراد التسلية رأينا هذه الطبقة تعمد حين تلم به مصيبة إلى‬
‫تعزيته فيها‪ .‬ودار ذلك أكثر ما دار خول فقد األبناء وأفالذ األكباد‪ ،‬فكان الشاعر إذا مات ابن‬
‫الخليفة يبادر إألى تخفيف بلواه فيه بأبيات تحد من لوعته‪ ،‬وتكسر من فجيعته‪ ،‬بما يذكر من‬
‫‪.‬أن الموت حتم واجب على الناس‪ ،‬فكل نفس ذائقة الموت‪ ،‬وكل إنسان راحل إلى القبر‬
‫ب‪ -‬العزاء والتهنئة‬
‫لم نتحدث عن العزاء في اآلباء وهو كثير‪ ،‬غير أننا نقف منه عند موضوع طريف‪ ،‬وذلك‬
‫أن الخلفاء والسالطين كانوا يتوارثون دولهم وإماراتهم‪ ،‬فكان الشاعر يقوم بين يدي الخليفة‬
‫‪.‬أو السلطان الجديد يعزيه في أبيه ويهنئه بحكومته ودولته وما انتهى إليه من خالفة أو إمارة‬
‫ج‪ -‬الحياة والموت والخلود‬
‫دارت هذه المعاني الثالث في كثير من قصائد العزاء‪ ،‬إذ كان من يبكي ميتا أو يعزي فيه‬
‫يعرض للحياة وأنها زائلة‪ ،‬وأن الموت نهاية كل شخص‪ ،‬وأن على الناس أن يفكروا دائما‬
‫في هذا المصير الذي ينتظرهم‪ ،‬وأن يتجهزوا له ويعدوا زادهم قبل أن تأزف اآلزفة وتحل‬
‫‪.‬الكارثة‪ ،‬وهي كارثة مقررة ال مفر منها وال محيص‬

‫‪8‬المبحث الثاني‪ :‬دور شعر الرثاء عند العرب‬


‫‪7‬‬
‫الرثاء‪100-88 :‬‬
‫‪8‬‬
‫الرثاء‪9-7 :‬‬

‫‪X‬‬
‫عرف العرب الرثاء منذ العصر الجاهلي‪ ،‬إذ كان النساء والرجال جميعا يندبون‬
‫الموتى‪ ،‬كما كانوا يقفون على قبورهم مؤبنين لهم مثنين على خصالهم‪ ،‬وقد يخلطون ذلك‬
‫بالتفكير في مأساة الحيان والبيان عجز اإلنسان وضعفه أمام الموت‪ ،‬وأن ذلك مصير‬
‫‪.‬مخطوم‬
‫وال نرتاب في أن الرثاء بدأ عند العرب كما بدأ عند كثير من األمم األخرى بصورة‬
‫تشبه أن تكون سخرا حتى يطمئن الميت في مرقده‪ ،‬وال تصيب روحه األحياء من وراه‬
‫بشر‪ ،‬ثم أخذ يفقد هذه الغاية مع الزمن‪ ،‬وما زال حتى انتهى إلى الصور الجاهلية من‬
‫اإلفصاح عن إحساس الناس العميق بالحزن قبل الموتى‪ ،‬ومحاولة ذكراهم بتمجيدهم‬
‫وبيان فضائلهم التي ماتت بموتهم‪ ،‬مع التفكير في القدر وقصور الناس أمامه‪ ،‬وعبثه بهم‬
‫‪.‬ولعبه بحياتهم وموتهم‬
‫وطبيعي أن يتفوق النساء على الرجال في ندب الموتى والنواح عليهم‪ ،‬ألن المرأة أدق‬
‫حسا وأرق شعورا‪ ،‬وأيضا لفإن حياة الرجال في العصر الجاهلي كانت تقوم على القتل‬
‫وسفك الدماء والتفاخر بالشجاعة والبطولة‪ ،‬فكانوا يأنفون أن يقعدوا للبكاء وذرف الدموع‬
‫كالنساء‪ ،‬بل لقد ذهبوا يظهرون التجلد والصبر على من يموت منهم‪ ،‬يقول عمرو بن معد‬
‫‪:‬يكرب‬
‫بوأته بيدي لحدا‬ ‫كم من أخ لي حازم‬
‫وخلقت يوم خلقت جلدا‬ ‫أعرضت عن تذكاره‬
‫على أن الرجال لم يكونوا جميعا مثل ابن معد يكرب فوراءه كثيرون كانوا يندبون‬
‫‪.‬وينوحون‪ ،‬وخاصة على أبنائهم وأفالذهم أكبادهم‬
‫وندب الموتى والنواح عليهم هو الصورة األولى في رثاء الجاهلي‪ .‬ونجد بجانب هذه‬
‫الصورة صورة ثانية من تأبين الميت وعد فضائله والثناء على خصاله واإلشارة‬
‫بصفاته‪ .‬وتكثر هذه الصورة في تأبين األصدقاء واألشراف‪ ،‬بل قد نجدها في رثاء‬
‫اإلخوة‪ .‬وربما كان السبب في ظهورها ثم شيوعها أن كثيرا ممن كانوا يرثونهم كانوا‬
‫يقتلون في حروبهم الدائرة‪ ،‬فأرادوا أن يبينوا عظم المصيبة والخسارة بفقدهم‪ .‬وترافق‬
‫هاتين الصورتين صورة ثالثة من العزاء والصبرعلى توائب الدهر وحدثائه‪ ،‬فالدنيا دار‬
‫فراق ال دار خلود وبقاء‪ ،‬وكل نفس فيها ذائقة الموت‪ ،‬فالموت حوض يرده الجميع‪ ،‬وليس‬
‫‪.‬أمام الناس إال االستسالم لألقدار وما يأتي به القضاء‬
‫ولما انتهت دولة المناذرة في الحيرة رثوها‪ ،‬واستخرجوا منها العبر والعظات على أن‬
‫كل ما في الدنيا زائل وأن البكاء ال يرد هالكا هلك وال ميتا مات‪ .‬فاألقدار بيدها كنانتها‬
‫‪.‬وقوسها‪ ،‬وال تزال ترمى بالسهام األفراد والجماعات والقبائل والدوالت‬

‫‪X‬‬
‫وهذه الصور الجاهلية للرثاء استمرت في أدبنا العربي مع عصوره المختلفة‪ ،‬تارة تنمو‬
‫وتارة تتطور‪ ،‬تحت تأثير نمو العقل العربي من جهة‪ ،‬وتطور حياة العرب واخطالف‬
‫األحداث عليها من جهة ثانية‪ ،‬ولكنها في جملتها ترتد إلى هذه الصورة الجاهلية‪ ،‬وتشتق‬
‫‪.‬منها كما يشتق الفرع من أصوله‬

‫‪X‬‬
‫‪9‬المبحث الثالث‪ :‬شعر الرثاء في اإلسالم‬

‫الرثاء من الموضوعات البارزة في الشعر العربي وال سيما اإلسالمي‪ ،‬فقد بكى الشعراء‬
‫من رحلوا عن دنياهم‪ ،‬والرثاء بكاء متعمق في القدم‪ ،‬منذ وجد اإلسالم نفسه على هذه‬
‫المعمورة ووجد أمامه هذا المصير المحزن الذي ال مفر منه‪ ،‬وال بد أن يصير إليه فيصبح‬
‫‪.‬غبارا وكأنه لم يكن شيئا‬
‫كانت العرب في جاهليتها على إرث من آبائهم‪ ،‬في لغاتهم وآدابهم ونسائكهم وأفكارهم‪،‬‬
‫فلما جاء هللا عز وجل باإلسالم‪ ،‬حالت األحوال‪ ،‬وتغيرت الموازين‪ .‬ففي الجاهلية وقف‬
‫اإلنسان عند الموت وفكر فيه‪ .‬وانتها إلى أنه حقيقة محتومة‪ ،‬ومشروع ال بد من وروده‪،‬‬
‫فالموت قدر ال مفر منه وهو النهاية لكل ذي حياة‪ ،‬الفناء لكل شيء‪ .‬ومن نتائج هذه الحتمية‬
‫أنه شاع نوع من الجبرية العميقة في نفوس الشعراء الجاهليين‪ ،‬وفشى اليأس من غاية‬
‫الحياة في مراثهم‪ .‬وكان من ثمار الشعور بحتمية الموت والفناء التهافت على لذاة الحيات‬
‫ومتعها‪ ،‬فما دام الموت يترصده في كل خطوة‪ ،‬وما دام الحياة ستنتهي إلى رمس مظلم في‬
‫صحراء مقفرة‪ ،‬وما دام هؤالء ال يؤمنون بالبعث والحساب فقد ارتبطت قضية الخلود‬
‫عندهم بطريق جهاد النفس في الحرب وإتالفها في المروءة والكرم باعتبار أن الذكرى‬
‫‪.‬لإلنسان عمر ثان‬
‫تلك كانت نظرة الجاهليين للموت والبعث والحشر‪ ،‬وعندما جاء اإلسالم اتضحت أمام‬
‫الشاعر الجاهلي الذي دخل اإلسالم معالم الدين الجديدية وتعاليمه‪ ،‬مما كان له أثر مباشر‬
‫في تعميق الشاعر عن حقيقة حياة الدنيا ومتاعها الزائل‪ ،‬وما وراء هذه الحياة من موت‬
‫‪.‬وفناء ونشور وحساب وجزاء‬
‫رسم القرآن الكريم والحديث الشريف صورة واضحة لهذه الحقيقة‪ ،‬ففي اإلسالم فناء‬
‫الدنيا أمر ال محالة واقع‪ .‬ومن ثم وجب على اإلنسان أن ال يغتر بزخرفها وأن يعمل حساب‬
‫يوم تعرض فيه أعمال الخلق على الخالق‪ ،‬ومن عمل صالحا فنعم أجر الصالحين‪ ،‬ومن‬
‫عمل سوءا فجزاؤه من جنس عمله وجاء القرآن باألمثال الفريدة والحكم المفيدة في الحياة‬
‫وزود األدب العربي والمراثي بمعان جليلة رفيعة والمراد من األمثال القرآنية هو‪ " :‬عدة‬
‫من اآليات في الذكر الحكيم التي أصبحت متداولة على ألسنة الناس لبالغتها السامية‬
‫‪".‬وانسجامها الكامل وبيانها العذب السلسل ومعناها العميق‬
‫واألملة القرآنية في طوايا المراثي عديدة وهنا األمثال التي تتطرق إلى المةت الفناء‬
‫والبعث والجزاء‪ ،‬وقد نرى في المراثي التأثير الملحوظ من األسلوب القرآني الناصع في‬

‫‪9‬‬
‫التراث األدبي‪8 22-20 :‬‬

‫‪X‬‬
‫جوهرة المعاني وشاكلة األلفاظ‪ ،‬وشعراء الرثاء يتحدثون عن حكمة الوجود وحلم الخلود‬
‫ويتذكرون أن كل شيء إال وجهه عز وجل ال يدوم‪ ،‬الموت مدرك اإلنسان في أي حال‬
‫يكون واألستاذ الباحث على رضا ميرزا محمد جاء ببعض من هذه األمثال القرآنية في‬
‫‪:‬مقاله‪ ،‬منها‬
‫ت َو َل ْو ُكن ُت ْم فِي { ‪)،‬البقرة‪ } (115 :‬فَأ ْي َن َما ُت َولُّوا َف َث َّم َوجْ ُه هَّللا ِ {‬ ‫َأ ْي َن َما َت ُكو ُنوا ي ُْد ِرك ُّك ُم ْال َم ْو ُ‬
‫ُوج ُّم َش َّي َد ٍة‬
‫اقۢ { ‪)،‬النساء‪ُ } (78 :‬بر ٍ‬ ‫َأ َف َحسِ بۡ ُتمۡ { ‪)،‬النحل‪َ } (96 :‬ما‪ ‬عِ ندَ ُك ْم َين َف ُد‪َ  ۖ ‬و َما‪ ‬عِ ندَ ٱهَّلل ِ َب ٍ‬
‫الظمْ آنُ َما ًء { ‪)،‬المؤمنون‪َ } (115 :‬أ َّن َما‪َ  ‬خ َلقۡ َٰن ُكمۡ‪َ  ‬ع َبثٗا‬ ‫ِيع ٍة‪َ  ‬يحْ َس ُب ُه َّ‬ ‫‪)،‬النور‪َ } (39 :‬ك َس َرا ٍ‬
‫ب ِبق َ‬
‫ك ِإاَّل َوجْ َه ُه {‬ ‫ق‪َ   } (:‬و َنحْ نُ َأ ْق َربُ ِإ َل ْي ِه‪ِ  ‬منْ ‪َ  ‬حب ِْل ْال َو ِري ِد { ‪)،‬القصص‪ُ } (88 :‬ك ُّل َشيْ ٍء َهالِ ٌ‬
‫الل َواِإل ْك َر ِام(‪16)، { )27‬‬ ‫ِّك ُذو ْال َج ِ‬ ‫ان‪َ )26( ‬و َي ْب َقى َوجْ ُه َرب َ‬ ‫الرحمن‪ُ } (:‬كل ُّ‪َ  ‬منْ ‪َ  ‬ع َل ْي َها َف ٍ‬
‫طوا‪ِ  ‬منْ ‪َ  ‬رحْ َم ِة هَّللا ِ { ‪)،‬الحديد‪َ } (4:‬وه َُو َم َع ُك ْم‪َ ‬أي َْن َما ُك ْن ُت ْم { ‪27-27)،‬‬ ‫الزمر‪ } (:‬ال َت ْق َن ُ‬
‫ون { ‪53)،‬‬ ‫مْوا ًتاۚ‪َ   ‬ب ْل َأحْ َيا ٌء‪ ‬عِ ن َد‪َ  ‬رب ِِّه ْم يُرْ َزقُ َ‬
‫يل هَّللا ِ َأ َ‬‫ِين قُ ِتلُوا‪ ‬فِي‪َ  ‬س ِب ِ‬‫آل( } َواَل َتحْ َس َبنَّ الَّذ َ‬
‫وهكذا أثرت المبادئ اإلسالمية السامية في نفوس الناس بما فيهم الشعراء‪)، .‬عمران‪169:‬‬
‫ونرى صدى هذا التأثير بوضوح في المراثي اإلسالمية على العموم ومرثية حسان شاعر‬
‫‪.‬الرسول على الخصوص‬

‫‪X‬‬
‫‪10‬المبحث الرابع‪ :‬مكانة النبي صلى هللا عليه وسلم في نفوس الصحابة‬

‫كان الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وآله وسلم‪ -‬باب معرفة هللا تعالى ومعرف‪tt‬ة ش‪tt‬رعه وتفص‪tt‬يل‬
‫تكاليف أوامره ونواهيه لعباده على النحو ال‪tt‬ذي تترجم‪tt‬ه كلم‪tt‬ة التوحي‪tt‬د الواجب‪tt‬ة «ال إل‪tt‬ه إال‬
‫هللا‪ ،‬محمد رسول هللا»‪ .‬وكان اتباعه هو باب الفوز بمحبة هللا تعالى ورض‪tt‬اه‪ { :‬قُ ‪ْ t‬ل ِإن ُك ْن ُت ْم‬
‫هللا َف‪ttt‬ا َّت ِبعُونِي يُحْ ِب ْب ُك ُم هللاُ َو َي ْغفِ‪ttt‬رْ َل ُك ْم ُذ ُن‪ttt‬و َب ُك ْم َوهللاُ َغفُ‪ttt‬و ٌر رَّ حِي ٌم * ُق‪ْ ttt‬ل َأطِ يعُ‪ttt‬وا َ‬
‫هللا‬ ‫ُّون َ‬ ‫ُت ِحب َ‬
‫ين } (آل عمران‪.)32 -31 :‬‬ ‫هللا الَ ُيحِبُّ ْال َكاف ِِر َ‬‫َوالرَّ سُو َل فِإنْ َت َولَّ ْوا َفِإنَّ َ‬
‫ك الَ‬ ‫لكن العمل ال يكون طاعة بمجرد االتباع ح‪tt‬تى ينض‪tt‬م إلي‪tt‬ه الرض‪tt‬ا والتس‪tt‬ليم‪َ { :‬فالَ َو َر ِّب َ‬
‫ْت َوي َُس‪t‬لِّمُوا‬ ‫ض‪t‬ي َ‬ ‫ُوك فِي َما َش َج َر َب ْي َن ُه ْم ُث َّم الَ َي ِج ُدوا فِي َأ ْنفُ ِس‪ِ t‬ه ْم َح َرجً‪ t‬ا ِّممَّا َق َ‬‫ون َح َّتى ي َُح ِّكم َ‬ ‫يُْؤ ِم ُن َ‬
‫َتسْ لِيمًا }(النساء‪ .)65 :‬وقال الرسول الكريم ص‪tt‬لى هللا علي‪tt‬ه وآل‪t‬ه وس‪t‬لم‪« :‬ال ي‪tt‬ؤمن أح‪tt‬دكم‬
‫حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به»‪.‬‬
‫وكما جمع هللا تعالى بين طاعته وطاعة رسوله‪ ،‬جمع بين محبته تعالى ومحبة الرس‪tt‬ول ‪-‬‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم‪ -‬وقرع من يقدم على محب‪tt‬ة هللا والرس‪tt‬ول محب‪tt‬ة ش‪tt‬ي ٍء من الخل‪tt‬ق‬
‫‪t‬ان آ َب‪tt‬اُؤ ُك ْم َوَأ ْب َن‪tt‬اُؤ ُك ْم َوِإ ْخ‪َ t‬وا ُن ُك ْم َوَأ ْز َوا ُج ُك ْم‬
‫مهم‪tt‬ا ك‪tt‬انت مكانت‪tt‬ه في نفس العب‪tt‬د‪ { :‬قُ ‪ْ t‬ل ِإن َك‪َ t‬‬
‫ض‪ْ t‬و َن َها َأ َحبَّ ِإ َل ْي ُكم م َِّن‬ ‫ارةٌ َت ْخ َش‪ْ t‬و َن َك َس‪t‬ادَ َها َو َم َس‪t‬اكِنُ َترْ َ‬ ‫ير ُت ُك ْم َوَأم َْوا ٌل ا ْق َت َر ْف ُتمُو َها َوت َِج‪َ t‬‬
‫َو َعشِ َ‬
‫ِين }‬ ‫اس‪t‬ق َ‬ ‫ْأ‬
‫هللا َو َرسُولِ ِه َو ِج َها ٍد فِي َس ِبيلِ ِه َف َت َر َّبصُوا َح َّتى َي ت َِي هللاُ ِب‪َt‬أم ِْر ِه َوهللاُ الَ َي ْه‪ t‬دِي ْال َق‪tْ t‬و َم ْال َف ِ‬ ‫ِ‬
‫(التوبة‪.)24 :‬‬
‫وق‪t‬ال الرس‪t‬ول الك‪t‬ريم ص‪t‬لى هللا علي‪t‬ه وآل‪t‬ه وس‪t‬لم‪« :‬ثالث من كن في‪t‬ه وج‪t‬د بهن حالوة‬
‫اإليمان‪ :‬من كان هللا ورسوله أحب إليه مما س‪tt‬واهما‪ ،‬وأن يحب الم‪tt‬رء ال يحب‪tt‬ه إال هلل‪ ،‬وأن‬
‫يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه هللا منه كما يكره أن يقذف في النار»‪.‬‬
‫لهذا رقد علي بن أبي طالب في فراش الرسول ليلة الهجرة‪ ،‬وكان أب‪tt‬و بك‪tt‬ر الص‪tt‬ديق رفي‪tt‬ق‬
‫هجرته يغاير في جهات مسيره معه خوف مفاجأة العدو‪ ،‬وكانت نسيبة بنت كعب أم عم‪tt‬ارة‬
‫المازنية تترس عنه بجسدها في غزوة أحد‪ .‬وحينما هجا بعض مشركي قريش رس‪tt‬ول هللا ‪-‬‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم‪ -‬أجابه حسان بن ثابت رضي هللا عنه قائال‪:‬‬
‫هجوت محم ًدا فأجبت عنه وعند هللا في ذاك الجزاء‬
‫هجوت مطهرً ا برا حني ًفا أمين هللا شيمته الوفــاء‬
‫أتهجوه ولست له بكف ٍء فشركما لخيركمـا الفداء‬
‫فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محم ٍد منكم وقاء‪.‬‬
‫هذه أمثلة تبين مكانة الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وآله وسلم‪ -‬في قلوب أصحابه‪ ،‬وقد ع‪tt‬برت‬
‫عنها أفعالهم وأقوالهم التي تتعاظم على الحصر‪ ،‬ورسخ القرآن الكريم ه‪tt‬ذه المكان‪tt‬ة بتش‪tt‬ريع‬
‫نسق خاص في التعامل مع الرسول الكريم‪ ،‬على نحو ما نجده في ص‪tt‬در س‪tt‬ورة الحج‪tt‬رات‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫َأ‬
‫هللا َس ‪t‬مِي ٌع َعلِي ٌم * َي‪tt‬ا ُّي َه‪tt‬ا‬ ‫هللا َو َر ُس ‪t‬ولِ ِه َوا َّتقُ‪tt‬وا َ‬
‫هللا ِإنَّ َ‬ ‫ِين آ َم ُنوا الَ ُت َق ِّدمُوا َبي َْن َي‪tt‬دَيِ ِ‬ ‫َأ‬
‫{ َيا ُّي َها الَّذ َ‬
‫ض‪ُ t‬ك ْم‬ ‫‪t‬ر َبعْ ِ‬ ‫ت ال َّن ِبيِّ َوالَ َتجْ َه‪ t‬رُوا َل‪ُ t‬ه ِب‪ْ t‬‬
‫‪t‬ال َق ْو ِل َك َج ْه‪ِ t‬‬ ‫ص‪ْ t‬و ِ‬ ‫ص‪َ t‬وا َت ُك ْم َف‪tْ t‬و َق َ‬‫ِين آ َم ُنوا الَ َترْ َفعُوا َأ ْ‬ ‫الَّذ َ‬
‫‪10‬‬
‫الموقع اإللكتروني‬

‫‪X‬‬
‫هللا‬
‫ول ِ‬ ‫ص‪َ t‬وا َت ُه ْم عِ ْن‪َ t‬د َر ُس‪ِ t‬‬ ‫ون َأ ْ‬
‫ض‪َ t‬‬‫ِين َي ُغ ُّ‬ ‫‪t‬ط َأعْ َم‪tt‬الُ ُك ْم َوَأ ْن ُت ْم الَ َت ْش‪ُ t‬عر َ‬
‫ُون * ِإنَّ الَّذ َ‬ ‫ض َأن َتحْ َب‪َ t‬‬ ‫لِ َبعْ ٍ‬
‫ِين امْ َت َح َن هللاُ قُلُو َب ُه ْم لِل َّت ْق َوى َلهُم م َّْغف َِرةٌ َوَأجْ ٌر َعظِ ي ٌم } (الحجرات‪.)3 -1 :‬‬ ‫ُأو َل َ‬
‫ِئك الَّذ َ‬
‫ومما يظهر انفعال الصحابة ‪-‬رضي هللا عنهم‪ -‬به‪t‬ذه اآلي‪t‬ات م‪t‬ا أخرج‪t‬ه اإلم‪t‬ام مس‪t‬لم في‬
‫ِين آ َم ُن‪t‬وا الَ‬ ‫صحيحه بإسناده عن أنس بن مالك أن‪t‬ه ق‪t‬ال‪ :‬لم‪t‬ا ن‪t‬زلت ه‪t‬ذه اآلي‪t‬ة { َي‪t‬ا َأ ُّي َه‪t‬ا الَّذ َ‬
‫ت ال َّن ِبيِّ } جلس ثابت بن قيس في بيته‪ ،‬وقال‪ :‬أنا من أهل النار‪.‬‬ ‫ص ْو ِ‬‫َترْ َفعُوا َأصْ َوا َت ُك ْم َف ْو َق َ‬
‫واحتبس عن النبي صلى هللا عليه وسلم؛ فسأل النبي ‪-‬صلى هللا عليه وس‪tt‬لم‪ -‬س‪tt‬عد بن مع‪tt‬اذ‪،‬‬
‫عمرو‪ ،‬ما شأن ثابتٍ؟ أشتكى؟» قال سعد‪ :‬إنه لجاري وما علمت ل‪tt‬ه بش‪tt‬كوى‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫فقال‪« :‬يا أبا‬
‫قال‪ :‬فأتاه سعد فذكر له قول رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬فقال ثابت‪ :‬أن‪tt‬زلت ه‪tt‬ذه اآلي‪tt‬ة‬
‫ولق‪tt‬د علمتم أني من أرفعكم ص‪tt‬وتا على رس‪tt‬ول هللا ‪-‬ص‪tt‬لى هللا علي‪tt‬ه وس‪tt‬لم‪ ،-‬فأن‪tt‬ا من أه‪tt‬ل‬
‫النار‪ .‬فذكر ذلك سعد للنبي ‪-‬صلى هللا علي‪t‬ه وس‪t‬لم‪ -‬فق‪t‬ال رس‪t‬ول هللا ص‪t‬لى هللا علي‪t‬ه وس‪t‬لم‪:‬‬
‫«بل هو من أهل الجنة»‪.‬‬
‫ونقل القرطبي عن القاض‪tt‬ي أبي بك‪tt‬ر بن الع‪tt‬ربي قول‪tt‬ه‪« :‬حرم‪tt‬ة الن‪tt‬بي ‪-‬ص‪tt‬لى هللا علي‪tt‬ه‬
‫وسلم‪ -‬ميتا كحرمته حيا‪ ،‬وكالمه الم‪tt‬أثور بع‪tt‬د موت‪tt‬ه في الرفع‪tt‬ة مث‪tt‬ال كالم‪tt‬ه المس‪tt‬موع من‬
‫لفظه‪ ،‬فإذا قرئ كالمه وجب على كل حاضر أال يرفع صوته عليه‪ ،‬وال يع‪tt‬رض عن‪tt‬ه‪ ،‬كم‪tt‬ا‬
‫كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به»‪.‬‬
‫والرسول ‪-‬صلى هللا عليه وآله وسلم‪ -‬صاحب الش‪tt‬فاعة‪ ،‬والمجيء إلي‪tt‬ه من أس‪tt‬باب قب‪tt‬ول‬
‫استغفار المذنب الظالم لنفسه بإذن هللا تعالى الذي قال في محكم كتابه‪َ { :‬و َل‪tْ t‬و َأ َّن ُه ْم ِإذ َّظ َل ُم‪tt‬وا‬
‫هللا َت َّوابًا رَّ حِيمًا } (النساء‪.)64 :‬‬ ‫هللا َواسْ َت ْغ َف َر َل ُه ُم الرَّ سُو ُل َل َو َج ُدوا َ‬
‫ك َفاسْ َت ْغ َفرُوا َ‬ ‫َأ ْنفُ َس ُه ْم َجاءُو َ‬
‫جار حياة الرس‪tt‬ول وبع‪tt‬د انتقال‪tt‬ه إلى الرفي‪tt‬ق األعلى بال فص‪tt‬ل‪ .‬وق‪tt‬د ق‪tt‬ال ‪-‬‬ ‫وكل ذلك حكمه ٍ‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم‪ -‬حينما أمر باإلكثار من الص‪tt‬الة علي‪tt‬ه في ي‪tt‬وم الجمع‪tt‬ة المش‪tt‬هود‪:‬‬
‫«أكثروا عليَّ من الصالة فيه؛ فإن صالتكم معروضة علي»‪ .‬ق‪tt‬الوا‪ :‬ي‪tt‬ا رس‪tt‬ول هللا‪ ،‬وكي‪tt‬ف‬
‫تع‪t‬رض ص‪t‬التنا علي‪t‬ك وق‪t‬د َأ ِرمْ ت؟ يقول‪tt‬ون‪ :‬بليت‪ ،‬فق‪t‬ال‪« :‬إن هللا ‪-‬ع‪t‬ز وج‪t‬ل‪ -‬ح‪t‬رم على‬
‫األرض أجساد األنبياء»‪.‬‬
‫وأخرج أبو داود في سننه ح‪tt‬ديثين عن أبي هري‪tt‬رة ‪-‬رض‪tt‬ي هللا عن‪tt‬ه‪ -‬رفعهم‪tt‬ا‪ ،‬وأولهم‪tt‬ا‪:‬‬
‫«ما من أح ٍد يسلم عليَّ إال رد هللا عليَّ روحي حتى أرد عليه السالم»‪ .‬والثاني‪« :‬ال تجعل‪t‬وا‬
‫بيوتكم قبورً ا‪ ،‬وال تجعلوا قبري عي ًدا‪ ،‬وصلوا عليَّ فإن صالتكم تبلغني حيث كنتم»‪.‬‬
‫ولهذا ال يشعر المسلم المؤمن أن صلته برسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وآله وس‪tt‬لم‪ -‬منقطع‪tt‬ة؛‬
‫بل هي موصولة بالصالة عليه‪ ،‬واتباع سنته وتحري االقتداء ب‪tt‬ه في ك‪tt‬ل م‪tt‬ا ش‪tt‬رعه هللا من‬
‫األعمال‪.‬‬
‫وهكذا يكون النبي محمد ‪-‬ص‪tt‬لى هللا علي‪t‬ه وآل‪t‬ه وس‪t‬لم‪ -‬حي‪t‬ا على ال‪t‬دوام في قل‪t‬وب أمت‪t‬ه‪،‬‬
‫هللا َو َمالَِئ َك َت‪ُ t‬ه‬
‫والصالة علي‪tt‬ه جاري‪tt‬ة على ال‪tt‬دوام من هللا تع‪tt‬الى والمالئك‪tt‬ة والمؤم‪tt‬نين‪ِ { :‬إنَّ َ‬
‫صلُّوا َع َل ْي ِه َو َسلِّمُوا َتسْ لِيمًا } (األحزاب‪.)56 :‬‬ ‫ِين آ َم ُنوا َ‬ ‫ون َع َلى ال َّن ِبيِّ َيا َأ ُّي َها الَّذ َ‬
‫ُصلُّ َ‬‫ي َ‬
‫ولقد عظمت هذه األمة مكانة نبيها‪ ،‬ورعت حرمتها في حياته وبعد مماته صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم‪ .‬واجتمعت كلمتها على أن النيل من جنابها كفر بواح يعاقب هللا عليه‪ ،‬وتع ٍّد سافر‬
‫يجب على األمة دفعه بكل إمكاناتها المتاحة في إطار ما شرع هللا؛ مصداق قوله تعالى‪ِ{ :‬إنَّ‬

‫‪X‬‬
‫‪t‬ر ِة َوَأ َع‪َّ t‬د َل ُه ْم َع‪َ t‬ذابًا م ُِّهي ًنا }(األح‪tt‬زاب‪:‬‬ ‫هللا َو َر ُس‪t‬و َل ُه َل َع َن ُه ُم هللاُ فِي ال‪ُّ t‬د ْن َيا َواَآل ِخ‪َ t‬‬‫ون َ‬ ‫ِين ُي‪ْtt‬ؤ ُذ َ‬
‫الَّذ َ‬
‫‪.)57‬‬
‫وقوله ‪-‬تبارك اسمه‪ -‬في المنافقين المستهزئين باهلل ورسوله‪َ { :‬و َلِئنْ َسَأ ْل َت ُه ْم َل َيقُولُنَّ ِإ َّن َما ُك َّنا‬
‫هلل َوآ َيا ِت ِه َو َرسُولِ ِه ُك ْن ُت ْم َتسْ َته ِْزُئ َ‬
‫ون * الَ َتعْ َت ِذرُوا َق ْد َك َف‪tt‬رْ ُت ْم َبعْ ‪َ t‬د ِإي َم‪tt‬ا ِن ُك ْم‬ ‫َن ُخوضُ َو َن ْل َعبُ قُ ْل َأ ِبا ِ‬
‫ِين }(التوب‪tt‬ة‪ .)66 t ،65 :‬وقول‪tt‬ه في‬ ‫ِإن َّنعْ فُ َعن َطاِئ َف ٍة ِّم ْن ُك ْم ُن َع ِّذبْ َطاِئ َف ًة ِبَأ َّن ُه ْم َكا ُنوا مُجْ ِرم َ‬
‫ص َرهُ هللاُ }(التوبة‪.)40 :‬‬ ‫صرُوهُ َف َق ْد َن َ‬ ‫حق نبيه‪ِ { :‬إالَّ َتن ُ‬

‫‪X‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬الشعراء الذين رثوا النبي صلى هللا عليه وسلم‬

‫‪11‬حسان بن ثابت ‪1-‬‬


‫هوأبو الوليد حسان بن ثابت بن المنذر من زيد مناة بن عد ّ‬
‫ي من بني مالك بن النجار‪،‬‬
‫‪.‬والنجار هو تيم هللا بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج‬
‫ولد حسان في مدينة يثرب نحو سنة (‪ 60‬ق ه) ونشأ في بيت شرف وجاه‪ ،‬فابوه ثابت‪،‬‬
‫وجده المنذر من أشراف قومهم والحكام بين األوس والخزرج‪ ،‬وكان جده عظيم الكرم محبا‬
‫للسلم‪ ،‬حتى أنه أهدر ديات قومه بعد يوم سميحة‪ ،‬واحتمل ديات القتلى من األوس من ماله‪،‬‬
‫‪.‬وأم حسان هي الفريعة بنت خالد بن حبيش الخزرجية‬
‫دخل حسان اإلسالم عندما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة‪ ،‬وناصر الرسول‬
‫والمسلمين بلسانه‪ ،‬ورد على خصومهم‪ ،‬فكان شاعر األنصار في الجاهلية وشاعر الرسول‬
‫‪.‬في النبوة‬
‫‪.‬عاش حسان طويال وعمي في أواخر أيامه وتوفي سنة ‪54‬ه‬
‫وقد وقف مدحه في اإلسالم على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وقصر هجاءه على‬
‫المشركين‪ ،‬وقد اكتسب شعره في اإلسالم كثيرا من العذوبة والتعابير اإلسالمية‬
‫‪.‬والقتباس من القرآن الكريم‬
‫‪:‬شعر حسان بن ثابت في رثاء الرسول‬
‫منيــــر وقــد تعفــــو الرســـو ُم وتهمـد‬ ‫بطيب َة رس ٌم للرسول ومعهــــــــــ ٌد‬
‫بــــها منـبـــ ُر الهــــادي الـذي كــان‬ ‫وال تمتــحى اآليــــات مــن دار حُرْ مـــ ٍة‬
‫يصـعـــ ُد‬
‫وربْـــــ ٌع لــــه فيــــه مصلـــى ومسـجـــــــ ُد‬ ‫معــــــــالــم‬
‫ٍ‬ ‫آثــــار وباقـــي‬
‫ٍ‬ ‫وواضـــــ ُح‬
‫مــــــن هللا نـــــو ٌر يُسْ تــــضا ُء ويـــوقــــــــ ُد‬ ‫بها حجُرات كــان ينــــز ُل وسطـــــها‬
‫أتـــــاها البـلــــــــى فـــاآلي منــــها تجـــــ َّد ُد‬ ‫معـارف لم ُتطمــــس على العهــــ ِد آيُــها‬
‫وقبـــــراً بــها واراه فـــــي التــــُرْ ِ‬
‫ب مُلحِـــ ُد‬ ‫ُ‬
‫عرفـــت بهـــا رسْ ـــ َم الرَّ سُــول وعهــده‬
‫عيــــــونٌ ومثـــــالها مــــن الجفـــــن ُتسعـ ُد‬ ‫ُ‬
‫ظللـت بها أبكـــي الرَّ سُـــول فأسعـــــدت‬

‫كتاب شعراء العرب عصر صدر اإلسالم‪162 -159 :‬‬


‫‪11‬‬

‫‪X‬‬
‫لها مُحْ صيـــا ً نفســــي فنفســـــي َت َبلّــــَـــ ُد‬ ‫ي َُذ ِّكـرْ َن آال َء الرَّ سُـــــول ومـــــا أرى‬
‫فظلــــــَّت آلال ِء الـرَّ سُــــــــــول ُتعـــــــــــ ِّد ُد‬ ‫ُم َفجَّ َع ًة قــد ش َّفـــــها فقــــــ ُد أحمـــــد‬
‫ولكــن لنفســــي َبعْ ـــ ُد ما قـــد توجَّ ـــــ ُد‬ ‫يــــرهُ‬
‫َ‬ ‫وما بلغــــت من ك ِّل أمــــر َعشِ‬
‫طـــــلل القبر الذي فيه أحمـــــ ُد‬
‫ِ‬ ‫علـــــى‬ ‫أطالت وقوفا تذرفُ العين جهــدها‬
‫بـــال ٌد ثـــوى فيـــــها الـرشيـــــــ ُد المســــ َّد ُد‬ ‫ْ‬
‫وبوركــت‬ ‫قبــــر الرَّ سُـــول‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫فبوركــت يا‬
‫صفيـــح ُم َنضَّـ ُد‬
‫ٍ‬ ‫عليـــــه بنــا ٌء مــن‬ ‫ضمّـــَ َن طيِّـــــبــا ً‬
‫وبـــورك لحــ ٌد منـــك َ‬
‫عليـــــــه وقــــد غـــــارت بــــذلك أسعــــــ ُد‬ ‫الترب أيـــ ٍد وأعيــــــنٌ‬
‫َ‬ ‫تهي ُل عليه‬
‫عشيـــــ َة َعلّــــــــوهُ الثـــــــرى ال يوسّـــــــَ ُد‬ ‫لقد غيَّبـــوا حِلمْـــا ً وعلمــــا ً ورحمــــــة‬
‫وقــــــد وهنـــــت منهــــــم ظهـــو ٌر وأعض ُد‬ ‫بحــــزن ليــــس فيهــــم نبيُّهــــم‬
‫ٍ‬ ‫وراحوا‬
‫ومن قد بكتــْه األرضُ فالنـــاس أ ْكمـــــَ ُد‬ ‫يُب َّكون من تبـــكي السمــــــاوات يومــــه‬
‫يــــــــوم مــــات فيـــــــه محـمـــــ ُد‬
‫ٍ‬ ‫رزيــــة‬ ‫وهل عدلـــــــت يومـــــا ً رزيـــ ُة هـــالكٍ‬
‫نـور يغـــو ُر و ُي ْنجــــــ ُد‬
‫ٍ‬ ‫وقد كان ذا‬ ‫تقطــع فيــــه منــــز ُل الوحــــي عنهــــم‬‫َّ‬
‫هـــــول الخــــزايا ويُرشــــــ ُد‬
‫ِ‬ ‫وينقـــــــذ من‬ ‫يد ّل على الرحمـــن من يقتــــــدي بــــــه‬
‫صــــدق إن يُطيعـــوه َيسعــــــَدوا‬
‫ٍ‬ ‫معـلّــــــــِ ُم‬ ‫الحــق جـــــــاهـداً‬
‫َّ‬ ‫إمـــا ٌم لهــــم يهديهــم‬
‫وإن يحسنـــــــوا فـــاهلل بالخيـــــر أجـــــــو ُد‬ ‫عفـــوٌ عــن الـزالت يقبـــــَ ُل عـــــ ُ ْذ َرهـم‬
‫فمــــن عنـــــــده تيسيــــــــــ ُر مــا يتشــــــ َّد ُد‬ ‫وإن ناب أمـــــ ٌر لـم يقـومـــــوا بحمــــلِه‬
‫ُقصـــــــ ُد‬
‫دليــ ٌل بــه نهــــ ُج الطريقــــة ي َ‬ ‫فبينا هُـــــ ُم فــــــي نعمـــــــ ِة هللا بينهــــم‬
‫حـــريـــــصٌ علــــى أن يستقيمــوا ويهتــدوا‬ ‫عزي ٌز عليه أن يجـــوروا عن الهـــــــدى‬
‫إلــــى كنـــ ٍ‬
‫ف يحنـــــو عليهــم ويمهــــد‬ ‫عطوف عليهــــــــم ال ُي َث ّنــــِي جنـــــاحه‬
‫إلــى نــــورهـــم سه ٌم من الموت مقصد‬ ‫النـــــــــور إذ غـــدا‬
‫ِ‬ ‫فبينا ُه ُم فـــــي ذلك‬
‫ُي َب ِّكيــه َح َّتـــى المـــرســالت ويحمــــــ ُد‬ ‫فأصب َح محمــــوداً إلــــى هللا راجـعــــــا ً‬
‫لغيبــــة مـا كانــــت مـن الوحــــي تعهـــــــ ُد‬ ‫وأمست بالد الحُرْ ِم وحشــا ً بقاعُــها‬
‫ٌ‬
‫بــــــــالط وغــرقـــــــ ُد‬ ‫فقيــــ ٌد ُي َب ِّكينـــه‬ ‫قفاراً سوى معمور ِة اللح ِد ضـافـــها‬
‫خـــــــــال ٌء لـــــه فيـــــه مقــــــا ٌم ومقعــــــ ُد‬ ‫ُ‬
‫فـالمـوحشـــــات لفـقــــــده‬ ‫ومسجــــــ ُده‬
‫ٌ‬
‫صــــات وربــــع ومـــولــ ُد‬ ‫ديــــــــــا ٌر و َعـرْ‬ ‫وبالجمــــر ِة الكبــــرى لــه ث َّم أوحشـــت‬

‫‪X‬‬
‫الـدهـــــــر دمعــــُك يجمـــــ ُد‬
‫َ‬ ‫وال أعرف ْنــــكِ‬ ‫َف َب ِّكــــى رســـــول ِ‬
‫هللا يا عيــــنُ عــــبر ًة‬
‫على النـــاس منها سابــــ ٌغ ُي َت َغمّــــَ ُد‬ ‫وما لك ال تبكيـــــن ذا النعــــمة التــــــي‬
‫يـوجــــ ُد‬
‫َ‬ ‫الـدهــــــر‬
‫َ‬ ‫لفقـــــ ِد الــذي ال مثــــله‬ ‫بالدمــــوع وأعْ ِولـي‬
‫ِ‬ ‫فجــــــودي علــــيه‬
‫وال مثـــــله َحتـــــَّى القيـــــــامة يُفقـــــــــــ ُد‬ ‫وما فتتقد المــاضـــــون مـــــثل محمــــد‬
‫وأقـــــــرب منــــــــه نائــــــالً ال ُي َنـ َّكــــــــ ُد‬
‫َ‬ ‫أعـــــفَّ وأوفـــى ذمـــة بعـــــــد ذمــــ ٍة‬
‫إذ ضنَّ معطـــا ٌء بمــــا كـان ُي ْتــلــَ ُد‬ ‫وأبذ َل منه للطريفِ وتـــالــــــ ٍد‬
‫ـــــــــود‬
‫َّ‬ ‫وأكـــــرم َجــــــ ّداً أبطحيّـــا ً َ‬
‫يس‬ ‫وأكرم صيتا ً في البيوت إذا انتـمـــى‬
‫ــــز شــاهقــات ُتشيّــــــــــَ ُد‬
‫دعائــــــم عِ ٍّ‬ ‫وأمنــــع ذِروات وأثبـت في العـــال‬
‫َ‬
‫وعوداً َ‬
‫غذاه المزن فالعو ُد أغ َيـــــــ ُد‬ ‫وأثبت فـــرعا ً في الفـــــروع ومنبتـــــــا ً‬
‫علـــــى أكـــــرم الخيــــرات ربٌّ ممجّ ـــــــَ ُد‬ ‫ربـــــــاه وليـــــــــداً فاستتــــ َّم تمـامـــــُه‬
‫فــال العلـــم محبــوس وال الرأي ُي ْفنــــ ُد‬ ‫تناهـــــت وصــــاةُ المسـلمــــين بـــكفــِّه‬
‫النـاس إال عــازبُ العقــل ُم ْب َعـــــــ ُد‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫أقـــول وال يُلقـــَى لقـولــــي عائــــــــبٌ‬
‫لعلــــِّي بـــه فــي جنـــ ِة الخــــلـ ِد أخـلـــــــ ُد‬ ‫هــــواي نـــازعا ً عن ثنـــــائه‬
‫َ‬ ‫ولـيــــــس‬
‫نيـل ذاك اليـوم أسعى وأجهــــــد‬
‫وفـــي ِ‬ ‫مع المصطفــى أرجـــو بـــذاك جـــواره‬

‫‪12‬فاطمة الزهراء ‪2-‬‬


‫فاطمة بنت محمد صلى هللا عليه وسلم بن عبد هللا بن عبد المطلب الهاشمية القرشية‬
‫وأمها خديجة بنت خويلد من نابهات قريش وإحدى الفصيحات العاقالت‪ .‬ولدت سنة (‪18‬ق‬
‫‪.‬ﮪ‪605/‬م)‬
‫تزوجها علي بن أبي طالب وكانت في الثامنة عشرة من عمرها‪ ،‬فولدت له الحسن‬
‫والحسين وأم كلثوم وزينب‪ .‬وعائشة بعد النبي صلى هللا عليه وسلم ستة أشهر وتوفيت سنة‬
‫‪11(.‬ﮪ ‪632 /‬م)‬
‫فاطمة هي من أول من جعل له النعش في اإلسالم‪ ،‬وقيل أن التي عملته لها أسماء بنت‬
‫‪.‬عميس وكانت قد رأته يصنع في بالد الحبشة وقد روت ‪ 18‬حديثا‬
‫‪:‬رثاء فاطمة الزهراء ألبيها صلى هللا عليه وسلم‬

‫كتاب شعراء العرب عصر صدر اإلسالم‪390-389 :‬‬


‫‪12‬‬

‫‪X‬‬
‫العصران‬
‫ِ‬ ‫النهار‪ ‬وأظلم‪ ‬‬
‫ِ‬ ‫‪  ‬شـمسُ ‪ ‬‬ ‫ُ‬
‫آفــاق‪ ‬الـسما ِء‪ ‬وكـوّ رت‪  ‬‬ ‫اِغـبـرّ ‪ ‬‬
‫الـرجـفان‬
‫ِ‬ ‫‪َ ‬أسـفـا ً‪ ‬عـلـيه‪ ‬كـثـيرةُ‪ ‬‬ ‫َفـاألرضُ ‪ ‬مِـن‪ ‬بـع ِد‪ ‬النبيّ ‪ٌ  ‬‬
‫كئيبة‪  ‬‬
‫‪َ  ‬ولـ َيـبـك ِه‪ ‬مـضـ ٌر‪ ‬وكــ ّل‪َ  ‬يـمـاني‬ ‫ُ‬
‫شـرق‪ ‬الـبال ِد وغـربُها‬ ‫َفـ َلـيبك ِه‪ ‬‬
‫األسـتار‬ ‫ُ‬
‫الـبيت‪ ‬ذو‪ ‬‬ ‫ّ‬
‫الـمعظ ُم‪ ‬جـوّ هُ‪َ     ‬و‬ ‫واألركان‪َ  ‬و َلـيـبك ِه‪ ‬الـطـور‪ ‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫الـفرقان‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫ك مـنزل‪ ‬‬ ‫ّ‬
‫صـلـى‪ ‬عـلـي َ‬ ‫سل‪ ‬المبارك‪ ‬ضوؤه‪ ‬‬ ‫يا‪ ‬خاتم‪ ‬الرّ ِ‬
‫الـوسنان‬
‫ِ‬ ‫لرأسك مائال‪     ‬مــا‪ ‬وسّــدوك‪ ‬وسـادة‪ ‬‬ ‫َ‬ ‫فـداؤك‪ ‬ما‪ ‬‬
‫َ‬ ‫َنـفسي‪ ‬‬

‫‪13‬كعب بن مالك ‪2-‬‬


‫هو كعب بن مالك عمرو بن القين األنصاري الخزرجي‪ .‬ولد كعب في يثرب نحو سنة (‬
‫‪ 25.‬ق ﮪ)‬
‫شهد بيعة العقبة وكان عمره نحو خمسة وعشرين عاما‪ ،‬أسلم مع قومه وشهد مع رسول‬
‫‪.‬هللا صلى هللا عليه وسلم جميع الغزوات ما عدا تبوك‬
‫وكان في اإلسالم من شعراء النبي صلى هللا عليه وسلم‪ .‬ثم كان من أصحاب عثمان بن‬
‫عفان رضي هللا عنه‪ ،‬وعمي في آخر عمره وتوفي سنة (‪ 50‬ﮪ) عن عمر يناهز سبعا‬
‫‪.‬وسبعين عاما‬
‫وقد أنشد كعب في رثاء النبي صللى هللا عليه وسلم مقصورة رواها ابن سعيد‪ ،‬فقال‪( :‬وقال‬
‫‪14:‬أبو عمرو‪ :‬قال كعب بن مالك يرثي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫لخير البرية والمصط ـ ـ ـ ــفى‬ ‫يا عين فابكي بدمـ ـ ـ ــع ذري‬
‫عليه لدى الحرب عند اللقا‬ ‫وبكى الرسول وحق الب ــكاء‬
‫وأتقى البرية عند التـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــقى‬ ‫على خير من حملت ناقته‬
‫وخير األنام وخير الله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫على سيد ماجد جحف ـ ـ ـ ــل‬

‫كتاب شعراء العرب عصر صدر اإلسالم‪252-251 :‬‬


‫‪13‬‬

‫كتاب مراثي النبوية في أشعار الصحابة‪130-129 :‬‬


‫‪14‬‬

‫‪X‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬المعاني الشعرية التي ركز عليها الشعراء في رثاء‬
‫بالنبي صلى هللا عليه وسلم‬

‫‪15‬‬
‫المعاني في الشعر حسان بن ثابت‬ ‫‪‬‬
‫بأرض طيبة أثر ومنزل للرسول (صلوات هللا عليه) وهذا المنزل ينير في حالة أن الرسوم‬
‫واآلثار تندرس وتصبح أرضا هامدة كأنها لم يكن بها حياة‪ .‬ال تعفو العالمات من دار الحرمة‬
‫والقداسة‪ ،‬وبهذه الدار المنبر الذي كان يصعده الهادي (صلوات هللا عليه)‪ .‬وبها عالمات‬
‫واضخة ومعالم باقية وربع للرسول ومسجد‪ .‬وبها منازل كان ينزلها الرسول الذي هو نور‬
‫من هللا‪ ،‬ويطلب من هذا النور ضوء ويوقد‪ .‬وفيها معاهد لم تغير عالماتها وإن أتى عليها‬
‫البلى‪ ،‬فاآليات من الذكر الحكيم تتجدد في هذه المنازل بتالوتها‪.‬‬
‫عرف الشاعر بهذه المعاهد رسم الرسول وعهده وقبرا وارى لحده النبي في التراب‪ .‬ما‬
‫رال يبكي في هذه المنازل على وفاة الرسول‪ ،‬فأعانته عيونه بسيالن الدموع‪ ،‬وجدير بعينه‬
‫أن تساعده بتزارف الدموع‪ .‬يتذكر نعم الرسول فيحاول إحصاءها فيراها ال تحصى كثرة‬
‫ويرى نفسه في حيرة‪ .‬نفسه موجعة مؤلمة لهفان على فاجعة وفاة الرسول ويضمرها فقد‬
‫أحمد وهزلها‪ ،‬فظللت تحصى نعم الرسول وبركاته‪ .‬وما بلغت في كل أمر عشره ولكن تحمد‬
‫بعض ما في كل أمر‪ .‬وأطال الشاعر وقوفا على طلل القبر الذي فيه الرسول والعين تجرى‬
‫الدموع بكل جهدها وتعطى كل ما لديها من العبرات‪.‬‬
‫يخاطب الشاعر القبر ويقول‪ :‬يا قبر الرسول جعلك هللا مباركاوأدامك التمجيد والكرامة‪،‬‬
‫وبوركت بالد أقام فيها الرسول الهادي الرشيد الذي أعطاه هللا السداد والرشاد‪ .‬وبورك لحد‬
‫ضمن نبيا ذا الفضل والخير‪.‬‬
‫ويشير إلى تدفين الرسول قائال‪ :‬وفي الوقت الذي تهيل األيدي التراب على جسمه المبارك‬
‫تجرى األعين الدموع عليه وتذرفها مدرارا‪ .‬ولقد دفنوا حلما وعلما ورحمة عشاء علوا‬
‫جسمه الطاهر التراب إذ ال متكأ وال مخدة‪ .‬دفنوا نبيهم وجاءوا بحزن ومأتم ليس نبيهم بينهم‬
‫ليشاطرهم في األحزان واألشجان وقد ضعفت ظهورهم ووهنت أعضدهم لشدة هذه المصيبة‬
‫الفادحة‪ .‬يبكون بكاء شديدا لفقد النبي الذي تبكي عليه السماوات واألرض يوم استأثر هللا به‪،‬‬
‫ومن قد بكته السماةات واألرض حزنا على فقده‪ ،‬فالناس أشد حزنا وغما على وفاته‪ .‬وما‬
‫ساوت يوما مصيبة ميت مصيبة يوم توفي فيه رسول هللا‪.‬‬
‫في هذا اليوم تقطع النبي الذي هو منزل الوحي عنهم وقد كان النبي ذا نور ثاقب يبلغ‬
‫جميع األمكنة بما فيها من أرض منخفضة وجبال مرتفعة‪ .‬والنبي يرشد من يتبعه ويجعله‬
‫قدوة إلى الرحمن سبحانه وينقذه من عاقبة الكفر والضالل والشقاء في الدنيا والعذاب في‬
‫اآلخرة‪ .‬وهو إمام لهم ويهديهم إلى سبيل الرشاد والحق باذال مجهوده‪ ،‬وهو معلم صادق‬
‫القول والفعل لهم‪ ،‬وإن يطيعوه يسعدوا‪ .‬وهو كثير التجاوز من الخطيئات وهو يقبل عذرهم‬
‫‪15‬‬
‫التراث األدبي‪30-27 :‬‬

‫‪X‬‬
‫ويترك العقاب عليهم شفقة‪ ،‬وإن يفعلوا األعمال الحسنة ويترك األعمال السيئة فاهلل يجزيهم‬
‫بحسناتهم وهو أجود بالخير‪ .‬وإن نابتهم نائبة‪ ،‬فإن رسول هللا كان يسهلها ويكشف غمتها‬
‫وعنده تيسير ما يتصلب‪.‬‬
‫بينما هم في نعمة هللا مغروقون وهذه النعمة وجود دليل به يقصد وضح الطريق‪ ...‬إذ‬
‫استأثر هللا بالرسول‪.‬‬
‫وعزيز على النبي أن تحيد أمته عن الهدى والصواب‪ ،‬وهو حريص على استقامتهم على‬
‫سبيل الحق واهتدائهم على مهجة الطريق‪ .‬النبي مشفق عليهم‪ ،‬بار بهم‪ ،‬وهو يحنو عليهم‬
‫ويرحمهم‪ .‬فبينما هم يتمتعون بنعمة وجوده ويعيشون في ضوء ذلك النور البهي بينهم‪ ،‬إذ‬
‫ذهب إلى نورهم بالغداة سهم مصيب من الموت فأخمد نورهم وكدر عيشهم‪ .‬فأصبح الرسول‬
‫راجعا إلى هللا محمودا في حالةتبكي عليه أعين المالئكة بكاء وتحمده حمدا‪ .‬وأمست بالد‬
‫مكة وما اتصل بها من الحرم بقاؤها موحشة النقطاع الوحي الذي كانت تعهده عنها لغيبة‬
‫الرسول‪ .‬مقفرة موحشة ما عدا قبرا نزل به الفقيد‪ .‬ويبكي عليه البالط والفرقد ومسجده لفقدها‬
‫إياه‪ ،‬وله قيام وقعود في هذه األمكنة قبل وفاته‪ .‬وكذلك أقفرت منه وأوحشت ديار وعرصات‬
‫بالجمرة الكبرى وربع ومولد‪.‬‬
‫فحسان يخاطب عينه‪ ،‬ويقول‪ :‬فاسفحي يا عيني على رسول هللا عبرة بعد عبرة ولست‬
‫أظن دمعكيجمد طول الدهر‪ ،‬بل ينصب على فراق الرسول‪ .‬ويا عين مالك ال تبكين على‬
‫الرسول المنعم الذي نعمه على الناس كاملة تاما يغمر كل أحد ويستر كل فقير معوز‪ .‬يا عين‬
‫فجرى الدموع الهاطالت على فراقه‪ ،‬وجودا عليه بالبكاء والعويل لفقد الحبيب الذي ال يأتي‬
‫الدهر بمثله‪.‬‬
‫وما فقدت األمم الغابرة أحدا مثل محمد وال يفقد مثله حتى يوم القيامة‪ .‬وما فقد الدهر أعف‬
‫خلقا وأوفى عهدا وأقرب عطاء غير منكد ونائال غير قليل منه‪ .‬وما فقد الدهر أبذل منه للمال‬
‫المكتسبة والموروث إذا بخل الكريم المعطاء بماله‪ .‬وأكرم حياء في األحياء إذا انتسب وأكرم‬
‫جدا أبطحيا يعطى سيادة‪ .‬وأمنع شموخا‪ ،‬وأثبت دعائم عز ومجد‪ .‬وأثبت فرعا من الفروع‬
‫وأحكم منبتا وعودا من الرسول غداة يأتي السماء بالمطر‪ ،‬وعود الرسول أكثر نعومة‪.‬‬
‫ويشير حسان إلى حديث النبي صلوات هللا عليه‪{ :‬عليه أدبني فأحسن تأديبي} ويقول‪:‬‬
‫رباه هللا المعظم صغيرا فطيما فأتم تأديبه وأكمل كماله على أكرم الخيرات‪ .‬إذ إن رسول هللا‬
‫أدبه ربه فال بد أن كان المسلمون يتلقون من الرسول علما ال علم بعده ألن العلوم كانت في‬
‫قبضة يده‪ ،‬ويتعلمون من آراء ال يأتيها الباطل وال يعرضها الخطأ‪ ،‬وفي نهاية مرثيته يذكر‬
‫مكارم أخالقه فيها وال يوجد عائب من الناس يلومه عليها إال ذو هواء وحلوم وعقول ناقصة‪.‬‬
‫ويسأل برثائه جواره‪ ،‬ويسعى لنيل ذلك اليوم‪ .‬وليس بنازع حبه عن ثنائه‪ ،‬لعلى بثنائه أصبح‬
‫مخلدا في جنة الخلد‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫المعاني في الشعر فاطمة الزهراء رضي هللا عنها‬ ‫‪‬‬

‫‪16‬‬
‫الموقع اإللكتروني‬

‫‪X‬‬
‫وهذه األبيات تصور مدى اللوعة ومدى الحزن الذي يرتسم على شخصيّة الزهراء‬
‫ً‬
‫حالة من‬ ‫( رضي هللا عنها ) فهي ترى أنّ ال ُدنيا كئيبة فاقدة لل ُّنور مظلمة جوانبها تعيش‬
‫اإلضطراب والرّ جفان‪.‬‬
‫وحين تتصوّ ر فاطمة ( رضي هللا عنها ) الحياة هذا ال ّتصور بعد أبيها ‪ ،‬إ ّنما تتصور‬
‫حقيقة ال خياالً أو مبالغة ‪ ،‬ألنّ أباها كان لهذا الكوكب األرضيّ ومن فيه وما فيه سراجا ً‬
‫وهّاجا ً أضاء لها السبيل وخلّصها من التيه والشرور ‪ ،‬وعلّمها دروب السعادة والسالم‪.‬‬

‫المعاني في الشعر كعب بن مالك‬


‫‪17‬‬
‫‪‬‬
‫إن المسلك الذي اتبعه كعب في رثائه هو نقل ما كان يقوله في المديح من عالم األحياء‬
‫إلى عالم األموات‪ ،‬فهو يعدد خصال المرثي ويسجل مناقبه‪ ،‬لكنه أخضع رثاءه كما أخضع‬
‫فنونه األخرى إلى المقاييس اإلسالمية ‪ ،‬فقد تحدث بسيرة لم تكن تعرفها الجاهلية ‪ ،‬فيها‬
‫المجد و التقوى و اإلسالم ‪ ،‬فيها الخير و البر و الوفاء ‪ ،‬و بهذه المآثر و المناقب‬
‫الجديدة مثال ‪ ،‬كانت فاجعة اإلسالم والمسلمين عند فقد رسول هللا عليه الصالة والسالم ‪ ،‬و‬
‫لفقد هذه المآثر و المناقب كان يلح كعب على عينيه أن تبكيا رسول هللا عليه سالم بدمع‬
‫منهمر‪.‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬أنموذج تطبيقي‪68 :‬‬


‫‪17‬‬

‫‪X‬‬
‫‪18‬المبحث السابع‪ :‬لغة الشعر في رثاء النبي صلى هللا عليه وسلم‬

‫وسائر ألفاظ المراثي النبوية إنما مثلها كمثل هذه األلفاظ التي مرت ألفاظ قريبة سهلة‪،‬‬
‫‪.‬قصيرة المبنى‪ ،‬مألوفة‪ ،‬واضحة بنفسها أو بجملتها‬
‫إن غرابة األلفاظ في عصر من العصور ينبغي أن توكل إلى أبناء ذلك العصر من العلماء‬
‫والنقاد‪ ،‬ليقولواهم فيها‪ .‬وليس بمدخل أن يقال‪ :‬إن القدماء كانو يعرفون اللغة كلها؛ فهذا غبر‬
‫صحيح؛ فإن العلماء من القدماء كانوا يستغربون بعض األلفاظ‪ ،‬كبعض األلفاظ للهذليين‪،‬‬
‫‪.‬وألفاظ لبيد بن ربيعة مثال‪ ،‬ويختلفون في معانيها‬
‫وقد أثر اإلسالم في المراثي‪ ،‬فقد اكتسبت المرثية لغات كثيرة‪ ،‬فعقيدة اإلسالم بيوم‬
‫الحساب والحياة الباقية فتحت أفقا آخر للشاعر يشرب من منهلها فشرع يتحدث عن الجنة‬
‫ونعيمها ودرجاتها‪ ،‬والنار وسعيرها ودركاتها‪ ،‬فالصالة‪ ،‬والثواب والرحمة والشفاعة‪،‬‬
‫والمالئكة والعرش والحشر‪ ،‬وغير ذلك مما ال يخفى أثره‪ ،‬وإن الجهاد اإلسالمي ساهم في‬
‫شيوع األلفاظ اإلسالمية الكثيرة تتعلق بالموت‪ ،‬وإن التوجه اإلسالمي أثر كبير في شيوع‬
‫األلفاظ المدينة والحضارية‪ .‬وفي المقابل نرى تراجعاواضحا وانحسارا بينا في مفردات‬
‫المرثية الجاهلية‪ ،‬وباإلسالم هدمت أسطورة الدهر‪ ،‬وشكوى من منونها وريبها‪ ،‬كما أن‬
‫العرب تخلصوا من الهام والصدى والبلية‪ ،‬وحلت محلها مفردات الصبر والقضاء والقدر‬
‫واإليمان‪ .‬وإن عموم الشعر في صدر اإلسالم قد اتجه نحو الليونة والسهولة والوضوح‬
‫‪19.‬متأثرا بأسلوب القرآن الكريم الساطع منعكسا الحياة المدنية الجديدة‬
‫ففي هذه المرثية نرى تحوال بينا في لغة الشعر من حيث اإلغراب والقوة إذ أن المرثية قد‬
‫‪20.‬اتجهت نحو الليونة والوضوح بعيدا عن اإلغراب والتعقيد‬

‫‪18‬‬
‫كتاب مراثي النبوية في أشعار الصحابة‪391-390 :‬‬
‫‪19‬‬
‫التراث األدبي‪34-33 :‬‬
‫‪20‬‬
‫التراث األدبي‪34 :‬‬

‫‪X‬‬
‫المبحث الثامن‪ :‬خصائص النبي صلى هللا عليه وسلم التي ركز عليها‬
‫‪21‬الشعراء‬
‫دارت في المراثي مجاميع من األلفاظ‪ ،‬أبرزها‪ :‬ألفاظ الدموع والبكاء التي الءمت موقف‬ ‫‪‬‬
‫الفقد‪.‬‬
‫ألفاظ المراثي جزلة واضحة ال يكاد الغريب يوجد فيها‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫أما األساليب اللغوية والتراكيب‪ ،‬فكان أبرز االنماط السائدة منها في المراثي النبوية‪ :‬الشرط‬ ‫‪‬‬
‫والتكرار وااللتفات واالعتراض والتجريد والقسم والتعجب والمطابقة والحذف‪ ،‬وكان فيها‬
‫أشياء من آثار النثر كانطالق األسلوب والمحاورة‪ .‬وقد جاء كل من ذلك مفيدا ضروبا‬
‫مختلفة من المعاني والدالالت‪.‬‬
‫اختلفت المراثي النبوية عن المراثي الجاهلية‪ ،‬فظهرت فيها آثار واضحة من ألفاظ القرآن‬ ‫‪‬‬
‫ومعانيه وتراكيبه‪ ،‬ومن ألفاظ السنة ومعانيها‪ ،‬وظهرت فيها مصطلحات مما أثمره الدين‬
‫اإلسالمي الجديد‪.‬‬
‫كما ذهبوا بالمقاطع مذاهب متنوعة أيضا‪ ،‬وكان أكثر ما يختمون به الدعاء للنبي صلى هللا‬ ‫‪‬‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫ولقد نفت المراثي النبوية عن نفسها – عالوة على ذلك – عوائد الجاهلية ومذاهبها الوثنية‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫ثم أفاضت على أبياتها في العموم من روح اإلسالم ومقاصده‪.‬‬
‫وأثر اإلسالم يبدوا جليا في ثالث من الظواهر الشائعة في المراثي‪ ،‬وهي‪ :‬عزاء الصحابة‬ ‫‪‬‬
‫في وفاة النبي صلى هللا عليه وسلم باهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬وببقاء دينه‪.‬‬
‫أكبر الصور التي نحتها الصحابة ي المراثي ثالث صور‪ :‬صورة وقع المصيبة عليهم‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫وصورة موت الرسول صلى هللا عليه وسلم وكيف فاضت روحه الطاهرة إلى باريها‪،‬‬
‫وصورة النبي محمد صلى هللا عليه وسلم في الحياة‪.‬‬
‫وقد استعملوا في اخراج صورهم وسائل التصوير البيانية‪ :‬التشبيه بأنواعه‪ ،‬واالستعارة‬ ‫‪‬‬
‫بنوعيها‪ ،‬وضيئا من المجاز المرسل‪ ،‬والكناية؛ واستعملوا من وسائله األخرى األلفاظ‬
‫المشعة والصور الحقيقية‪.‬‬
‫كانت صور الصحابة في غالبها جزئية‪ ،‬قصيرة‪ ،‬متوازنة غير معقدة وال متشابكة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫وكان األصل في صورهم أنها حسية‪ ،‬بصرية غالبا‪ ،‬وقد تجيء سمعية‪ ،‬وقلما أتت عقلية‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫وفي بعض صورهم قصد إلثارة التناقض بالتضاد والمقابلة‪.‬‬
‫األصل في المراثي ترك التصريع بسبب من النازلة الشديدة التي ألمت بالصحابة‪ ،‬أو بسبب‬ ‫‪‬‬
‫إنشادها في سياق الخطابة‪ ،‬أو بسبب تأخر زمن إنشائها‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫كتاب مراثي النبوية في أشعار الصحابة‪491-488 :‬‬

‫‪X‬‬
‫وقد سمع في المراثي النبوية جرس في داخل األبيات‪ ،‬كتكرار األصوات والكلمات‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫والجناس‪ ،‬والرصف‪ ،‬واإلرصاد‪ .‬وقد أحدث هذا الجرس توافقا بين اإليقاع والمعاني التي‬
‫أراد الشاعر إرسالها‪.‬‬
‫تمكن الصحابة من استغالل بعض ما عد عيبا عروضيا كالتضمين واإلقواء؛ استغالال فنيا‬ ‫‪‬‬
‫بليغا شد من لحمة القصيدة‪ ،‬أو وشى بفرط العاطفة وتمكن الحزن‪.‬‬

‫‪X‬‬
‫‪22‬المبحث التاسع‪ :‬القيمة الفنية لمراثي النبي صلى هللا عليه وسلم‬

‫البناء ‪1-‬‬
‫لعلى النقاد العرب حفلوا بالبيت األول من بناء القصيدة ما لم يخفلوا بغيره من أجزاء‬
‫بنائها؛ فهو أول ما يطرق األسماع منها‪ ،‬وهو زمامها الذي يسوقها إلى وجهتها‪ ،‬وهو الباب‬
‫‪.‬الذي يدل على أرجائها‬
‫ولم يكن األولون يثبتون العناوين في رؤوس أشعارهم‪ ،‬وعسى المطلع في قصائدهم أن‬
‫يقوم بمقام العنوان في القصبدة الحديثة‪ ،‬وال سيما إذا خلت من المقدمات كما يه الحال في‬
‫‪.‬المراثي النبوية‬

‫اللغة ‪2-‬‬
‫وسائر ألفاظ المراثي النبوية إنما مثلها كمثل هذه األلفاظ التي مرت ألفاظ قريبة سهلة‪،‬‬
‫‪.‬قصيرة المبنى‪ ،‬مالوفة‪ ،‬واضحة بنفسها أو بجملتها‬

‫معان إسالمية ‪3-‬‬


‫لم تتبع المراثي النبوية سنن المراثي الجاهلية حذو القذة بالقذة‪ ،‬بل إنا لنجد فيها آثارا‬
‫‪.‬ظاهرة من آثار اإلسالم في مصدريه الكبيرين‪ :‬الكتاب والسنة‬
‫من ذلك اقتباس الصحابة من كلمات هللا سبحانه وتعالى في القرآن العظيم‪ ،‬كقول أبي الهيثم‬
‫‪:‬بن التيهان‬
‫يروح علينا بالشنان ويغتدي‬ ‫ثالثة أصناف من الناس كلهم‬

‫الصورة ‪4-‬‬
‫دأب الصحابة في المراثي النبوية على رسم سور كبيرة بعينها‪ ،‬ذات خطوط بارزة‬
‫ظاهرة‪ ،‬ظللت لوحة المراثي من ورائها بظالل من عواطف شتى كانت تعتلج في صدور‬
‫‪.‬أولئك المأل من الناس بعد وفاة النبي صلى هللا عليه وسلم‬

‫‪22‬‬
‫كتاب مراثي النبوية في أشعار الصحابة‪465 -373:‬‬

‫‪X‬‬
‫أكبر هذه الصورة (صورة وقع المصيبة) التي نزلت عليهم كما تنزل الصاعقة بالناس ال‬
‫‪.‬يحسب الناس لها حسابا‬
‫فمنهم من شغل ببلوى نفسه فصور ما اعتراه من الهم والبأس بصور مختلفة‪ .‬من هؤالء‬
‫صفية عمة النبي صلى هللا عليه وسلم التي أحست كأن المكاوي أوقدت في فؤادها يوم مات‬
‫‪:‬محمد‪ ،‬فأحرقته‬
‫وما خفت من بعد النبي المكاويا‬ ‫كأن على قلبي لذكر محمد‬

‫الموسيقي ‪5-‬‬
‫ليست الموسيقي أقل شأنا من غيرها من عناصر الشعر‪ ،‬فهي كالصورة ( ظاهرة طبيعية‬
‫لتصوير العاطفة )‪ ،‬والوزن في زعم ابن رشيق (أعظم أركان حد الشعر وأالها به‬
‫خصوصية )‪ .‬وإن أثر القافية مثال وهي جزء صغير من أجزاء الموسيقي ( ال يقف عند حد‬
‫النظام الموسيقي الصوتي‪ ،‬وإنما نجده وثيق الصلة بالنظم الصرفية والنحوية واألسلوبية‪،‬‬
‫‪.‬حتى بمعجم الشعر وكلماته )‬
‫وليست الموسقي وزنا وقافية فقط‪ ،‬ولكنها إيقاع وجرس ألفاظا أيضا‪ ،‬والشعر في استعانته‬
‫بهذه الموسيقي الكالمية إنما يستعين بأقوى الطرف اإليحائية؛ ألن الموسيقي طريق السمو‬
‫‪.‬باألرواح‪ ،‬والتعبير عما يعجز التعبير عنه‬

‫‪X‬‬
‫الخاتمة‬

‫حمدا هلل والشكر على توفيقه وامتنانه عز وجل‪ ،‬لقد تم هذا البحث بمشيئة هللا تعالى للعمل‬
‫الواجب في مادة البحث التطبيقي بعنوان مراثي شعراء الصحابة للنبي صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫‪.‬الذين كانوا يرثون الشعر بفقدان النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫لعلى هذا البحث مفيدا لدى القارئ من حيث اللغة وتدبر المعاني الشعرية وازداد حبه للنبي‬
‫‪.‬صلى هللا عليه وسلم وصحابته‬
‫وهللا ولي التوفيق‬

‫‪X‬‬
‫المراجع‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫األدب العربي وتاريخه (العصر الجاهلي وعصر صدور اإلسالم والعصر األموي للسنة‬ ‫‪‬‬
‫األولى الثانوية)‪ ،‬مقرر جامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية‪ ،‬الطبعة ‪ 1437‬هـ‪.‬‬
‫التراث األدبي ‪ -‬السنة الثانية ‪ -‬العدد السابع (تأثير اإلسالم على أدب الرثاء)‪ ،‬عضو هيئة‬ ‫‪‬‬
‫التدريس بجامعة آزاد اإلسالمية فرع علوم وتحقيقات بطهران‪.‬‬
‫الرثاء‪ ،‬للدكتور شوقي ضيفي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪1119‬م‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫شعراء العرب عصر صدر اإلسالم‪ ،‬يوسف عطا الطريفي‪ ،‬مكتبة األهلية للنشر والتوزيع‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫الطبعة الثانية ‪2009‬م‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬أنموذج تطبيقي‬ ‫‪‬‬
‫مراثي النبوية في أشعار الصحابة توثيق ودراسة‪ ،‬لمحمد شمس عقاب‪ ،‬مكتبة اإلمام‬ ‫‪‬‬
‫البخاري للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى ‪ 1435‬هـ ‪ 2013 /‬م‪.‬‬
‫معجم اللغة العربية المعاصرة‪ ،‬لألستاذ الدكتور أحمد مختار عمر‪ ،‬مكتبة عالم الكتب‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫المجلد األول‪ ،‬الطبعة ‪ 1429‬هـ ‪ 2008 /‬م‪.‬‬
‫نقد الشعر‪ ،‬ألبي الفرج قدامة بن جعفر ضبطه وشرحه وصدره بترجمة للمؤلف وبحث في‬ ‫‪‬‬
‫النقد األدبي لمحمد عيسى منونا‪ ،‬الطبعة األولى ‪ 1352‬هـ ‪ 1934 /‬م‪.‬‬
‫‪https://www.diwanalarab.com‬‬ ‫‪‬‬
‫‪https://www.aljazeera.net‬‬ ‫‪‬‬
‫‪https://mawdoo3.com‬‬ ‫‪‬‬
‫‪https://www.aqaed.com/ahlulbait/books/azzahraa/zah7.htm ‬‬

‫‪X‬‬
‫الفهرس‬

‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫المقدمة‪- 2 ..........................................................................‬‬
‫ـ التمهيد ‪3...........................................................................‬‬
‫المبحث األول‪ :‬مفهوم شعر الرثاء‪-4...............................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬دور شعر الرثاء عند العرب‪- 8...................................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬شعر الرثاء في اإلسالم‪- 10........................................‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬مكانة النبي صلى هللا عليه وسلم في نفوس الصحابة‪- 12........‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬الشعراء الذين رثوا النبي صلى هللا عليه وسلم‪- 15............‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬المعاني الشعرية التي ركز عليها الشعراء في رثاء بالنبي صلى ‪-‬‬
‫هللا عليه وسلم ‪19......................................................................‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬لغة الشعر في رثاء النبي صلى هللا عليه وسلم‪- 22..............‬‬
‫المبحث الثامن‪ :‬خصائص النبي صلى هللا عليه وسلم التي ركز عليها ‪-‬‬
‫الشعراء ‪23............................................................................‬‬
‫المبحث التاسع‪ :‬القيمة الفنية لمراثي النبي صلى هللا عليه وسلم‪- 25..............‬‬
‫الخاتمة‪27.............................................................................‬‬
‫المراجع‪-28...........................................................................‬‬

‫‪X‬‬

You might also like