You are on page 1of 2

‫محاضرات في أصول النقد العربي القديم‬

‫المحاضرة األولى‬
‫أوليات النقد قبل اإلسالم‬ ‫ّ‬
‫نظر في الدراهم ليميزها ويعرف جيدها من‬ ‫النقد في أصل الوضع اللغوي من الفعل "نق َد" ومعناه‪َ :‬‬
‫رديئها‪ .‬ولهذا المعنى يُطلق النقد اسما على الدراهم المستعملة للتداول بين الناس في الشراء والبيع‪.‬‬
‫وتوسُّعا في االستعمال اللغوي لنتقل الفعل "نقد" للداللة على فعل التمييز بين الجيد والرديء‪ ،‬فيقال‪:‬‬
‫جنس من الكالم فقد‬ ‫ٌ‬ ‫أظهر ما فيه من المحاسن والمعايب‪ .‬وألن األدب شعرا ونثرا‬ ‫َ‬ ‫الكالم بمعنى‪:‬‬
‫َ‬ ‫نق َد‬
‫شمله معنى النقد‪ ،‬وأصبح النقد األدبي مصطلحا قائما بذاته يطلق على فعل النظر في اآلثار األدبية‬
‫لتمييزها جيدها من الرديء‪.‬‬
‫الحس النقدي عند العرب‬
‫كان العرب أه َل فصاحة وبالغة‪ ،‬يُقدِّرون إحسان الكالم وإجادة التعبير عن األغراض‪ .‬وكان الشعر‬
‫مظهر بالغتهم ومعرض تجاربهم وأخبارهم ومآثرهم‪ ،‬حتى قيل‪" :‬الشعر ديوان العرب"‪ ،‬وقال‬ ‫َ‬ ‫خاصةً‬
‫عمر بن الخطاب رضي هللا عنه‪" :‬الشعر علم قوم لم يكن لهم أصح منه"‪.‬‬
‫فكر أو صناعة أو زراعة‪ ،‬كان اهتمام العربي متجها نحو مصادر‬ ‫في بيئة بدوية لم يكن لها حضارة ٍ‬
‫َ‬
‫عيشه التي ال تعدو التجارة ومالحقة ما تجود به الطبيعة من المراعي‪ .‬وقد علمه ذلك الحكمة ومكارم‬
‫األخالق‪ ،‬وأدى به إلى خوض حروب وصراعات‪ .‬وكل هذا كان يوجه اهتمامه إلى سالح فاعل في‬
‫خلوها من‬‫اضطراره فيها إلى الترحل والصراع‪ ،‬والفارغة من حيث ُّ‬ ‫ُ‬ ‫حياته المضطربة من حيث‬
‫المشاغل واالهتمامات الحضارية التي تستغرق الوقت‪ .‬كان ذلك هو سالح اللغة‪ ،‬يهتم بها قائال ومستمعا‪،‬‬
‫ينشأ فطرة ً على إتقانها‪ ،‬ويقولها على البديهة فيحسنها‪ ،‬ويتبارى أحيانا مع بني قومه في مضمار بالغتها؛‬
‫مصاعب كانت أم‬
‫َ‬ ‫فهي وسيلة العربي إلى غرضه‪ ،‬ومؤنسه حين فراغه‪ ،‬وسالحه في مواجهة الخطوب‬
‫حروبا‪ ،‬وديوانه الذي يسجل فيه أمجاده ومفاخره‪.‬‬
‫في بيئة كانت صناعة العربي فيها اللغة‪ ،‬كان طبيعيا أن يتجه االهتمام إلى إتقان هذه الصناعة‪ ،‬وأن‬
‫يكون من مظاهر ذلك أن يمتلك العربي أذنا تطرب للكالم البليغ‪ ،‬وظقا مميِّزا لبالغة األداء مهتديا إلى‬
‫سر استحسانه‬ ‫سط في أكثر األحيان َّ‬‫مواضع اإلصابة والخطأ؛ فيستحسن مرة ويستهجن أخرى‪ ،‬دون أن يب ُ‬
‫أو استهجانه؛ فإذا علل كان تعليله فطريا ساذجا بسيطا ال يلمس إال جزءا صغيرا من أجزاء الكالم‪.‬‬
‫أوليات النقد العربي قبل اإلسالم‬ ‫ّ‬
‫ساعد على ظهور بوادر النقد األدبي لدى العرب إعجابهم بالشعر وطربهم له واجتماعهم على‬
‫سماعه وتداوله في األسواق والمنتديات‪ ،‬ما سمح بإبداء مالحظات وعقد موازنات تتناول عددا من‬
‫األبيات يجري تقييمها تقييما جزئيا انطباعيا ال يستند إلى أسس موضوعية شاملة مستقصية‪ ،‬أو عددا من‬
‫الشعراء يُحكَم على شعرهم حكما مجمال دون تقديم تعليل واف وموضوعي‪.‬‬
‫وإذا شئنا تعداد المسائل التي أثارها النقد األدبي عند الجاهليين فإننا نسجل أن مقاييسهم توشك أن‬
‫تنحصر فيما يأتي‪:‬‬
‫‪.1‬استقصاء المعنى وإصابة الغرض‪:‬‬
‫تكشف مالحظات الجاهليين تقديرهم الستقصاء الشاعر المعنى الذي يتناوله‪ ،‬بحيث يبلغ به درجة‬
‫عالية من إفادة الغرض الذي يرومه‪ ،‬وتقديرهم الكتمال عناصر الجودة لدى الشاعر ‪ ،‬بحيث يحافظ‬
‫شعره على مستوى من اإلتقان ال ينزل عنه‪.‬‬
‫ومما يدل على ذلك عيبهم على األعشى قوله‪:‬‬
‫ونُ ِّبئتُ قيسا ولم آ ِّت ِّه وقد زعموا سا َد أه َل ال َي َمن‬
‫فقوله (وقد زعموا) ينقص من قدر المعنى الذي أراده‪ ،‬ويزرع في الذهن قدرا من الشك يجول دون بلوغ‬
‫المعنى مرتبة الكمال‪.‬‬
‫وكذلك الشأن في بيت حسان بن ثابت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لنا الجفناتُ الغُّ ُّر يلمعنَ بالضحى وأسيافنا يقطرنَ من نجدةٍ دما‬

‫‪1‬‬
‫فقد عاب عليه النابغة الذبياني‪ ،‬وهو أحد كبار شعراء الجاهلية‪ ،‬استعمال صيغة القلة في "الجفنات"‬
‫و"األسياف"‪ ،‬ما يقلل من داللة العبارة على كثرة اإلطعام ومن ثم شدة الكرم؛ كما عاب عليه استعمال‬
‫ُشرقنَ "‪ ،‬ألن األولى في رأيه ال تدل على تمام المعنى المقصود‪،‬‬ ‫"يقطرن" بدل "يجرين" و"يلمعن" بدل ي ِّ‬
‫وهو كثرة إراقة الدماء نجدة ً للمستنجد‪ ،‬دليال على شدة البأس وقوة الشجاعة‪.‬‬
‫أما تقديرهم للشاعر الذي تكتمل عنده عناصر الجودة وتشمل جل شعره فيدل عليه مواقفهم من‬
‫بعض الشعراء الذين أجادوا في عديد األغراض‪ ،‬وتميز شعرهم بإحكام النسج فلم يخلطوا شعرا جيدا‬
‫الزب ِّرقان بن بدر و ُمخبَّل السعدي‪ ،‬وعبدة بن الطبيب‪ ،‬إلى‬ ‫تحاكم أربعة من الشعراء هم ِّ‬ ‫َ‬ ‫بشعر غث‪ .‬فحين‬
‫ُ‬
‫رجل من بني يربوع‪ ،‬قال ألحدهم‪" :‬أما أنت يا زبرقان فكأنك رجل أتى َجزورا قد نحرت‪ ،‬فأخذ من‬
‫أطايبها وخلطه بغير ذلك"‪ .‬وقال لآلخر‪" :‬أما أنت يا مخبل فإن شعرك قصر عن شعرهم وارتفع عن‬
‫شعرهما فوجده دون مرتبة الكمال‪ ،‬إذ اختلط في شعر األول‬ ‫َ‬ ‫فحص‬‫َ‬ ‫شعر غيرهم"‪ ،‬فدل هذا على أنه‬
‫الجيد والرديء‪ ،‬وكان شعر الثاني متوسطا بين الجودة والرداءة‪ .‬وقال آلخر‪ :‬وأما أنت يا عبدة فشعرك‬
‫خرزها فليس يقطر منها شيء" إشارة ً إلى قوة بناء الهيكل والشكل في القصيدة بحيث ال‬ ‫ُ‬ ‫كمزادة أُح ِّكم‬
‫معايب‬
‫َ‬ ‫توجد الكلمة القلقة والقافية المضطربة واللفظة الزائدة‪ ،‬وليس فيه مما يعرض لشعر اآلخرين من‬
‫شعر يوصف بهذا الوصف قد بلغ حدا عاليا من الجودة والمتانة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫شيء‪ .‬وال بد أن يكون‬
‫‪.2‬الخلو من العيوب الفنية‬
‫والمقصود بها األخطاء اللغوية الداللية والنحوية والعروضية‪ .‬وقد تفطن الجاهليون إلى ظاهرة‬
‫اإلقواء في شعر النابغة‪ ،‬كما في قوله‪:‬‬
‫طهُ فتناولتهُ واتَّقتنا بالي ِّد‬ ‫النصيف ولم ت ُ ِّرد إسقا َ‬ ‫ُ‬ ‫سق َ‬
‫ط‬
‫عنَ ٌم يكا ُد من اللطاف ِّة يُعقَ ِّد‬ ‫ص كأن بنانَهُ‬ ‫ب َرخ ٍ‬ ‫ض ٍ‬‫ب ُم َخ َّ‬
‫فقد فرضت عليه القافية أن يأتي بـ(يُعقد) مكسورة ً وحقُّها الرفع‪.‬‬
‫طرفة بن العبد‪ ،‬وهو صبي‪ ،‬حين سمع‬ ‫وشبيه بهذا النقد المتعقب لمدى سالمة استعمال األلفاظ‪ ،‬قو ُل َ‬
‫شاعرا يقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫بناج عليه الصيعرية ِّمك َد ِّم‬ ‫ٍ‬ ‫ِّكار ِّه‬
‫وقد أتناسى اله َّم عند اد ِّ‬
‫ٌ‬
‫"است ََنوقَ الجملُ"‪ ،‬إشارة ً منه إلى استعمال الشاعر لفظ "الصيعرية" في غير محلها؛ إذ الصيعرية سمة في‬
‫عنق الناقة ال البعير‪.‬‬
‫‪.3‬الوقوع من النفس موقعا حسنا‬
‫وهو حك ٌم ذاتي انطباعي مصدره اإلعجاب بما في بيت شاعر من الشعراء من تركيب بديع أو معنى‬
‫ب لمذهبه الفني إذا كان شعرا‪ .‬ففي الشعر والشعراء البن قتيبة‬ ‫قار ٍ‬ ‫ق لهوى صاحب الحكم ُم ِّ‬ ‫لطيف موافِّ ٍ‬
‫أنه دخل الحطيئة على عتيبة بن النحاس العجلي‪ ،‬فسأله من أشعر العرب؟ فقال‪ :‬الذي يقول‪:‬‬
‫ُشتم‬
‫الشتم ي ِّ‬
‫َ‬ ‫ي ِّفرهُ‪ ،‬ومن ال يت َّ ِّ‬
‫ق‬ ‫ومن يجعل المعروف من دون عرض ِّه‬
‫يعني زهيرا‪ .‬قال‪ :‬ثم من؟ قال‪ :‬الذي يقول‪:‬‬
‫يخيب‬
‫ُ‬ ‫وسائ ُل هللاِّ ال‬ ‫الناس يحرموهُ‬ ‫َ‬ ‫من يسأ ِّل‬
‫يعني عبيدا‪ .‬قال‪ :‬ثم من؟ قال‪ :‬أنا"‬
‫وتفضيل شاعر ما استنادا إلى بيت شعر واحد عادة ٌ شائعة في العرف النقدي خالل المراحل األولى‬
‫قبل أن يتطور النقد ويخطو خطواته األولى على طريق التعليل ثم التدوين‪ .‬وال يبدو هذا التفضيل مؤسسا‬
‫تأسيسا موضوعيا مقنعا‪ ،‬بل هو الحكم الذاتي االنطباعي المنبني على وقوع البيت موقعا حسنا من هوى‬
‫صاحب الحكم‪ ،‬ال غير‪.‬‬

‫‪2‬‬

You might also like