You are on page 1of 4

‫الراحة في التغيير‬

‫لألستاذ احمد أمني‬


‫‪١٩٣٤-٦-١٨‬‬
‫العدد)‪(٥٠‬‬
‫خـلق اإلنـسان مـلوالً‪ ،‬يـمل الـنعيم إذا طـال‪ ،‬ويـمل الـشقاء إذا طـال‪ ،‬يـمل‬
‫الحـر إذا دام‪ ،‬ويـمل الـبرد إذا دام‪ ،‬يـمل األكـل الـشهي الـلذيـذ إذا اسـتمر‬
‫عليه‪ ،‬ويمل األكل الخسيس إذا استمر عليه‪.‬‬
‫وقــديــما ً مـ ّـل بــنو إســرائــيل أكــل املــن والســلوى‪ ،‬وقــالــوا‪) :‬لــن نــصبر عــلى‬
‫ط ــعام واح ــد‪ ،‬ف ــادع ل ــنا رب ــك يخ ــرج ل ــنا م ــما ت ــنبت األرض م ــن ب ــقلها‬
‫وقــثائــها وفــومــها وعــدســها وبــصلها(‪ .‬ولســت أدري لــم المــهم مــوســى‬
‫عليه السالم على ذلك وامللل طبيعي في اإلنسان‪ ،‬إال أن‬
‫ت ــكون ص ــيغة ال ــطلب رذي ــلة م ــذم ــوم ــة‪) :‬ف ــادع ل ــنا رب ــك( ل ــيس ال ــصيغة‬
‫املؤدبة التي تصدر من املؤمنني‪.‬‬
‫مـن أجـل هـذا اسـتعان الـناس عـلى درء بـالـتنويـع والـتنقل ولـو مـن حـسن‬
‫إل ــى رديء‪ ،‬ف ــاش ــتهوا أت ــفه ال ــطعام ب ــجان ــب أج ــوده‪ ،‬واش ــتهوا ع ــشش‬
‫رأس الـبر وأكـواخ أبـي قـير فـرارا ً مـن الـقصور الـشامـخة والـبنيان املـشيد‬
‫‪ -‬وروعـي هـذا فـي بـرامـج الـدراسـة‪ :‬فحـط بـعد لـغة‪ ،‬ورسـم بـعد حـساب‪،‬‬
‫ولــغة إنجــليزيــة بــعد لــغة عــربــية‪ ،‬دفــعا ً لــلملل مــن الــدرس ومــن املــدرس؛‬
‫وروعــي كــذلــك فــي بــرنــامــج الــحياة‪ :‬فــلعب بــعد عــمل‪ ،‬ومــزح بــعد جــد؛‬
‫وراعـت الـطبيعة هـذا فـي بـرنـامـجها‪ :‬فـليل ونـهار‪ ،‬وحـر وبـرد‪ ،‬وسـلطان‬
‫ل ــلقمر ب ــعد س ــلطان ل ــلشمس وه ــكذا ‪ -‬ول ــوال ذل ــك ل ــعرى ال ــناس م ــلل ال‬
‫يــطاق‪ ،‬ولــكانــت الــحياة عــبئا ً ثــقيالً ال يــحتمل‪ ،‬ولــفر الــناس مــنها إلــى‬
‫املوت طلبا ً للتغيير والتنويع‪.‬‬
‫اخ ـ ــطأ ٍ ال ـ ــناس ف ـ ــظنوا أن ال ـ ــراح ـ ــة م ـ ــعناه ـ ــا االن ـ ــغماس ف ـ ــي الكس ـ ــل‪،‬‬
‫واإلض ــراب ع ــن ال ــعمل‪ ،‬وال ــتمدد ع ــلى س ــري ــر م ــري ــح‪ ،‬أو االت ــكاء ع ــلى‬
‫مـجنح أو نـحو ذلـك؛ ولـيس هـذا بـصحيح دائـماً‪ ،‬ولـو كـان كـذلـك‬
‫كـرسـي ُ‬
‫مل ــا م ــل ال ــناس ه ــذه ال ــراح ــة‪ ،‬ومل ــا ف ــروا م ــنها إل ــى ال ــعمل‪ ،‬واس ــتروح ــوا‬
‫بـالجـد والـتعب‪ ،‬إنـما الـراحـة الـتغيير مـن حـال إلـى حـال‪ ،‬مـن عـمل إلـى ال‬
‫ع ــمل‪ ،‬وم ــن ال ع ــمل إل ــى ع ــمل‪ ،‬ول ــو ك ــان ع ــدم ال ــعمل ه ــو ال ــراح ــة ل ــكان‬
‫ال ــسجن أروح م ــكان ‪ -‬أال ت ــرى ال ــراح ــة ت ــكون ف ــي األش ــياء وأض ــداده ــا‬
‫بـاسـتمرار؟ فـلو ركـب سـيارة مـن مـصر إلـى اإلسـكندريـة ألحسسـت الـتعب‬
‫مـن الـركـوب‪ ،‬أحسسـت الـراحـة مـن املـشي‪ ،‬ولـو مـشيت طـويـالً ألحسسـت‬
‫الـتعب مـن املـشي‪ ،‬والـراحـة فـي الـركـوب؛ ومـا أحـلى الـنوم بـعد الـتعب‪،‬‬
‫ومــا أحــلى الــيقظة بــعد الــنوم ‪ -‬وفــي الجــلوس راحــة إذا طــال الــوقــوف‪،‬‬
‫وف ــي ال ــوق ــوف راح ــة إذا ط ــال الج ــلوس‪ ،‬وف ــي ال ــعمل راح ــة ب ــعد ط ــول‬
‫فـراغ‪ ،‬وفـي الـفراغ راحـة بـعد طـول الـعمل‪ ،‬وفـي نـظر الصحـراء لـذة بـعد‬
‫طـول الـنظر إلـى البحـر‪ ،‬وفـي البحـر لـذة بـعد طـول الـنظر إلـى الصحـراء‬
‫‪ -‬ومــنظر البحــر ابــعد عــن الــسأم ألنــه فــي تــغير مســتمر وحــركــة دائــمة‪:‬‬
‫مـوجـة تـعلو ثـم تهـبط‪ ،‬ومـوجـة تتكسـر عـلى الصخـر أو الـرمـل‪ ،‬ثـم تـسير‬
‫إلـ ــى الـ ــشاطئ وتـ ــفنى‪ ،‬وتتجـ ــدد أخـ ــرى وهـ ــكذا‪ .‬ومـ ــنظر األرض لـ ــيس‬
‫نـصيبه كـذلـك مـن الـتغير‪ ،‬فـاإلنـسان بـه أسـرع مـلالً وأقـرب سـأمـا ً ‪ -‬وهـكذا‬
‫كل نظام الحياة‪ :‬امللل من الدوام‪ ،‬والراحة في التغيير‪.‬‬
‫م ــا أص ــعب ال ــحياة ال ــرت ــيبة وأش ــقها ع ــلى ال ــنفس! إن ــها ت ــميت ال ــقلب‬
‫وتـبعث عـلى الخـمود‪ ،‬والبـد لـعالجـها مـن التجـديـد‪ ،‬ولـيس التجـديـد إال‬
‫نـوعـا ً مـن الـتغيير‪ ،‬يـبعث عـليه الـسأم مـن الـقديـم‪ ،‬فـإذا مـل الـناس األدب‬
‫الـ ـ ــقديـ ـ ــم جـ ـ ــدد زعـ ـ ــماء األدب فـ ـ ــي األدب‪ .‬وأتـ ـ ــوا لـ ـ ــلناس بـ ـ ــفن جـ ـ ــديـ ـ ــد‬
‫يس ــتروح ــون ب ــه‪ ،‬وإذا م ــل ال ــناس ن ــوعـ ـا ً م ــن ال ــنظام االج ــتماع ــي أت ــى‬
‫املجــددون بــشيء جــديــد ونــظام جــديــد يــذهــب بــاملــلل ويجــدد الــنشاط‪،‬‬
‫ولــيس تــغيير األزيــاء ‪ -‬وخــاصــة عــند الــنساء ‪ -‬إال ضــرب ـا ً مــن هــذا‪ ،‬هــن‬
‫أسـرع خـلق اهلل إلـى املـلل‪ ،‬وأدعـاهـم إلـى الـتغير والتجـديـد؛ فـهن يـطلعن‬
‫عـلى الـناس كـل عـام بـزي جـديـد فـي الـقبعات واألثـواب وكـل مـا يـتصل‬
‫بـهن‪ ،‬شـعر قـصير بـعد شـعر طـويـل‪ ،‬وفسـتان طـويـل بـعد فسـتان قـصير‪،‬‬
‫وهـكذا كـثير مـا لـهن فـكثر تـغييرهـن فـرارا ً مـن الـسأم وطـلبا ً لـلراحـة لـهن‬
‫ولغيرهن‪.‬‬
‫وأقـدر الـناس فـي هـذه الـحياة مـن اسـتطاع أن يـتغلب عـلى الـسأم واملـلل‬
‫بـالـتغيير املـناسـب فـي نـفسه وفـي غـيره‪ .‬فـاألديـب الـقديـم مـن اسـتطاع أن‬
‫ي ــنوع ن ــفسه وي ــنوع ك ــتاب ــه ح ــتى ال ي ــمل وال يُ ـ ّ‬
‫ـمل‪ ،‬وخ ــير امل ــجالت م ــن‬
‫اســتطاعــت أن تجــدد نــفسها مــن حــني إلــى حــني تجــديــدا ً يتفق ومــنفعة‬
‫الـناس‪ ،‬ويتفق والـرقـي؛ فـتتغير فـي أسـلوبـها وتـتغير فـي مـوضـوعـاتـها‪،‬‬
‫وتــتغير مــن حــني إلــى آلخــر فــي ّـكـتابــها حــتى ال يــسأم قــراؤهــا؛ وخــير‬
‫الـقادة مـن اسـتطاع أن يجـدد فـي دعـوتـه‪ ،‬فـإذا كـان لـه مـبدأ واحـد يـدعـو‬
‫إلـيه اسـتطاع أن يـبرزه كـل يـوم فـي شـكل جـديـد يسـتلفت الـنظر‪ ،‬ويـبعث‬
‫فيه حياة جديدة تدعو إلى النشاط والحركة‪.‬‬
‫وكـثير مـن شـرور هـذا الـعالـم سـببه املـلل‪ ،‬فكسـل الـتلميذ وانـصرافـه عـن‬
‫الــدرس نــوع مــن املــلل‪ ،‬وخــمول املــوظــف وقــعوده عــن الجــد فــي الــعمل‬
‫ن ــوع م ــن امل ــلل‪ ،‬والخ ــمود ال ــسياس ــي وال ــفكري واالج ــتماع ــي ن ــوع م ــن‬
‫املــلل‪ ،‬والــرغــبة فــي االنــتحار نــوع مــن املــلل‪ ،‬وكــثيرا ً مــا يــكون املــيل إلــى‬
‫ال ــكيوف واإلدم ــان ع ــليها ن ــوعـ ـا ً م ــن امل ــلل‪ ،‬وك ــثيرا ً م ــا ي ــكون ال ــشقاق‬
‫الـ ــعائـ ــلي وشـ ــقاء املـ ــنزل واملـ ــشادة بـ ــني الـ ــزوجـ ــني أحـ ــيان ـ ـا ً واألبـ ــويـ ــن‬
‫وأوالده ــما أح ــيانـ ـا ً ن ــوعـ ـا ً م ــن امل ــلل‪ ،‬إل ــى ك ــثير م ــن أم ــثال ذل ــك‪ ،‬وك ــلها‬
‫أمـراض صـعبة الـتشخيص صـعبة الـعالج‪ ،‬تـحتاج إلـى نـوع مـن الـطب‬
‫الـنفسي أدق مـن طـب األجـسام‪ ،‬وتـحتاج إلـى مـهارة فـي عـلم الـنفس ال‬
‫تقل أهمية عن املهارة في علوم الطب‪.‬‬
‫مـن اجـل هـذا أصـبحت الـحياة فـنا ً يـجب أن يـدرس‪ ،‬وأصـبحت طـريـقتنا‬
‫ف ــي ال ــحياة ط ــري ــقة ب ــال ــية‪ ،‬إذا ارت ــقى وت ــعقد اص ــبح ف ــنا ً ي ــحتاج إل ــى‬
‫الــدراســة‪ ،‬وأصــبحت الــطريــقة الــساذجــة فــيه ال تــغني‪ ،‬فــأمــهاتــنا يــربــني‬
‫أوالده ــن حس ــبما اتفق‪ ،‬ث ــم أص ــبحت ال ــترب ــية ف ــناً‪ ،‬وم ــعلمون ــا ك ــان ــوا‬
‫يــعلمون حــيثما اتفق‪ ،‬ثــم اصــبح فــناً؛ ومــغنونــا كــانــوا يــغنون حســبما‬
‫اتفق‪ ،‬ثــم صــار الــغناء فــنا ً ‪ -‬كــذلــك الــحياة نــفسها نــحياهــا اآلن حــيثما‬
‫اتفق‪ ،‬ولـكنها تـعقدت واصـبح حـل عـقدهـا يـحتاج إلـى دراسـة ودراسـات‬
‫‪ -‬وأصـبحت املـرأة فـي حـاجـة الن تتجـدد فـي بـيتها حـتى ال يـمل زوجـها‪،‬‬
‫والـ ــزوج يتجـ ــدد حـ ــتى ال تـ ــمل زوجـ ــته‪ ،‬واملـ ــعلم يتجـ ــدد حـ ــتى ال يـ ــمل‬
‫طـلبته‪ ،‬ورئـيس الحـزب يتجـدد حـتى ال يـمل اتـباعـه‪ ،‬وأصـحاب املـالهـي‬
‫يتجددون حتى ال يملوا‪.‬‬
‫والــتغلب عــلى املــلل لــيس مــن األمــور الــهينة‪ ،‬فــليس كــل تــغيير يــصلح‬
‫إلزال ــة ال ــسام‪ ،‬إن ــما ي ــصلح ال ــتغيير ي ــوم ت ــدرس ال ــنفس وي ــدرس ن ــوع‬
‫الــتغيير‪ ،‬كــما يــدرس املــرض ويــدرس نــوع الــعالج‪ ،‬ويــكون الــدواء طبق‬
‫الداء‪.‬‬

You might also like