Professional Documents
Culture Documents
مقدمة
مازال القرآن كتاب المسلمين المعجزة يتحدى العقول بعد ألف و أربعمائة عام من نزوله و كأنه
نزل اليوم ليتحدث عن علوم اليوم و شواغل اليوم و أسرار اليوم و حروب اليوم ..و بين دفتيه
سوف يفاجأ كل شغوف بعلوم الفلك و الطبيعة و الجيولوجيا و الطب و التشريح و الحياة بلمحات
من ھذه العلوم و بالجديد في علوم الباطن و النفس و الروح و ما وراء الطبيعة و بالجديد في
عوالم الغيب و خفايا الزمن و المكان و المادة ..و بالجديد و المبھر في األخالق و الدستور و
الشرائع و األديان.
و قد ظل علماء الفلك يتحدثون عن سبعة كواكب تدور حول الشمس حتى نزلت آيات القرآن
تتحدث عن أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر في سورة يوسف:
و نعلم اليوم أن التلسكوبات الفلكية رصدت بالفعل أحد عشر كوكبا تدور مع األرض و القمر على
أبعاد شاسعة متفاوتة حول الشمس ..و ھو أمر جديد تماما لم يعرف إال قريبا.
و لم يكن أحد من العرب القدامى أيام الجاھلية يعلم شيئا عن البصمة المرسومة على طرف البنان
و التي ينفرد بھا كل مولود لتدل على شخصيته التي ال يشاركه فيھا مخلوق حتى أخيه التوأم..
فإذا بكل إنسان له بصمته التي ينفرد بھا ..فيقول ربنا في قرآنه المجيد عن يوم البعث الذي كان
يشك فيه الجاھليون إن يوم القيامة سوف تقوم األجساد من قبورھا و سوف يعود الموتى إلى
سالف ھيئتھم ..و يقول لھذا الجاھلي الذي يشك في البعث:
و يخص البنان بالتسوية ألنه الحامل للبصمة المعجزة الدالة على شخصيته المتفردة التي ال
تتكرر و التي سوف تعود إليه يوم البعث.
ھل كان العرب األوائل يعلمون شيئا عن ھذا ؟ ..لم يكونوا يعلمون ..و لم يكن يعلم العرب و ال
الفرنجة في أوروبا و ال في أمريكا شيئا عن ھذه البصمة ..فنزلت كلمات القرآن قبل ألف و
أربعمائة سنة لتعلن عنھا.
ھل كان علماء األرض حينذاك يعلمون أن كل جبل له جذر ممتد تحت األرض أكثر منه غلظة
ال أَوْ تَادًا ) ] (( (7النبأ [ ..و أن ھذه الجبال موزعة على محيط
كالوتد ليزيده ثباتا )) َو ْال ِجبَ َ
األرض بشكل محسوب ،و مقدر كثقاالت ليكون دوران األرض منتظما ..و ھذه قضية معلومة
اآلن في الميكانيكا و الحركة ..إن ھذه الثقاالت الدائرة على األطراف ھي التي تنظم الحركة و
تجعل الحركة منسابة غير قلقة.
ْ
)) َوأَنزَ ْلنَا ْال َح ِدي َد فِي ِه بَأسٌ َش ِدي ٌد َو َمنَافِ ُع لِلنﱠ ِ
اس ] (( (25) ..الحديد [
و تلك مفاجأة قرآنية أخرى ،فقد جاءنا الحديد من السماء ..و كان ذلك بعملية تعدين سماوي خاص
لعنصر الحديد ..ھكذا يقول القرآن ..و نعلم اآلن أن ذلك يحدث بالفعل عن طريق انفجار النجوم
المستعرة شديدة الحرارة ) السوبر نوفا ( و بسبب شدة حرارتھا فإنھا تقذف إلى األرض بدقائق
ذرية مكھربة كالسھام تخترق األرض و تصل إلى معادنھا الباطنة و بفعل طاقتھا االنفجارية
الزائدة تؤدي إلى خلق الحديد بذراته المتدامجة المتماسكة شديدة الصالبة التي نعرفھا ،فيعاد
إنشاء جزيئات الحديد على ھذه الصورة الصلبة المتدامجة.
جاء الحديد الذي نعرفه بصالبته إذن بحقن سماوي للخام األصلي في باطن األرض و بفعل
سماوي فوقي للنجوم المستعرة و بتعدين رباني ..فھو مصنوع بإرادة ربانية و عناية خاصة
ليكتسب ھذه الصالبة الفائقة لتكون فيما بعد ..دبابات و مجنزرات و سيوفا و دروعا و أسلحة
قتالية فتاكة ..و لماذا حدث ھذا الترتيب و التدبير؟ ليعلم ﷲ من ينصره و رسله بالغيب ..إنه
االمتحان إليمان المؤمن و صالبته و ثباته في الحروب و لدحر الكفار و ھزيمتھم.
و قد عشنا و سمعنا الرئيس األمريكي ) كلينتون ( يعلن عن اكتشاف ) الجينيوم البشري ( عبر
اإلذاعات للعالم كله و يعلن عن فض رموز ھذا ) الجينيوم ( الذي يتألف من ثالثة مليارات حرف
كيميائي و ھو ما يمأل خمسة ماليين صفحة مدونة و كل ھذا في حيز صغير متناھي الصغر في
نواة الخلية ) بضعة أجزاء من المللي ( تحتوي على مقدرات ھذا المخلوق اإلنساني و صفاته
البدنية و حظه من الصحة و المرض و القوة و الضعف و مواھبه و ملكاته و ما سيجري عليه
من أحوال ..و كل ھذا مدون بالتفصيل في مخطوطة شاملة ال تكاد ترى إال بميكرسكوب
إلكتروني ..معلومات تمأل خمسة ماليين صفحة في حيز متناه في الدقة ال يُرى..
و من الذي استطاع أن يدون ھذه المخطوطة و بأي قلم و في مثل ھذا الحيز الخرافي ..إال الخالق
جل جالله ..و صدق القرآن العظيم:
و ﷲ يروي في قرآنه عملية اإلشھاد ..كما يحكي عن ھذا ) المانفستو ( اإللھي الذي اسمه )
الجينيوم البشري ( ..و كيف أن كل مولود جاء و معه قصته و حكايته من األزل مكتوبة في
خالياه و مسطورة في جيناته..
ثم ما حدث في ھذا القرن من الزمان من إشھاد العالم كله على أصل الحكاية و بلسان أكبر زعيم
ألكبر دولة ..ھو الرئيس األمريكي ) كلينتون (.
و اإلشھاد بھذا المفھوم الجديد أوسع و أشمل مما جاء في كتب التفسير القديمة ..فقد اشتركت
الدنيا كلھا في ھذه المظاھرة الشھودية و كانت حديث الساعة و موضوع التفاخر و االستعالء
بالنسبة لعلماء الغرب ..و قد اتخذوا منه حجة على موقفھم من الدين ..مع أنه حجة عليھم و ليس
حجة لھم ..فھذا كتاب ال يمكن أن يكتبه مخلوق ..و ال مفر و ال معدى و ال مھرب من القول إن
الذي كتب ھو الذي خلق ألن الكتابة جاءت في صميم الخلقة و في الحشوة المخلوقة ذاتھا و
بالحروف الكيمائية لنفس المخلوق و ھو عمل معجز ال يقدر عليه إال الخالق الذي خلق.
كان ھذا اليوم يوم إشھاد عالمي على عظمة القرآن و شموله و إحاطته و إعجازه و خلود آياته و
قدرته على الحضور في كل عصر )) ..و أشھدھم على أنفسھم (( ..و ھذه ما حدث بالفعل ،فقد
شھد العالم كله من أدناه إلى أقصاه حكاية ھذا ) الجينيوم البشري ( و مازالت األيام تأتي بما يؤكد
روعة ھذا الكتاب و إعجازه و استباقه لما حدث و يحدث بطول أربعة عشر قرنا من الزمان.
و رحلتنا مع القرآن تبدأ و ال تنتھي ..و أفضل أن نأخذھا على مھل ..و نخطوھا خطوة خطوة من
البداية ..من أول لقاء مع الحروف و الكلمات القرآنية و ھي تقرع السمع و تتسلل إلى الوجدان و
تنداح في القلب و تستقر في األرواح لتؤلف في النھاية ھذا اإلحساس الغامر بالجمال و الجالل و
الرھبة و بأن ھذا الكالم يأتينا من فوق سبع سماوات ..و من وراء الغيب.
و موعدنا مع الطبعة الجديدة من كتاب ) ..القرآن محاولة لفھم عصري ( ..و الذي يصدر في
طبعة خاصة من كتاب مايو ..و ال ينتھي في الحب كالم.
المعمار القرآني
و كان أول لقاء لي مع القرآن و أنا في الرابعة من العمر طفال أجلس في صف بين عدة صفوف
في كتاب الشيخ ) محمود ( أحملق في بالھة إلى سبورة و إلى مؤشر يتحرك في يد الشيخ على
كلمات منقوشة بالطباشير و ھو يتلو )) ..و الضحى و الليل إذا سجى (( ..فنردد خلفه في آلية)) ..
و الضحى و الليل إذا سجى (( ..ال نفھم من الكالم حرفا ..و ال نعلم ما الضحى و ال كيف سجى..
و لكننا نردد مجرد مقاطع و مخارج حروف.
و كان عقلي آنذاك صفحة بيضاء نقية لم يكتب عليھا شيء ،و لم تتلق تأثيرا تربوبا خاصا ،فقد
نشأت في أسرة كل فرد فيھا متروك لحاله ..يحب ما يحب ،و يكره ما يكره ،و يلعب حتى يشبع
لعبا ،و أذكر أني رسبت في السنة األولى ثالث سنوات دون أن أتلقى تعنيفا ..و كان الصفر بالقلم
األحمر يزين كل صفحة من كراساتي مرة بعد مرة فال يثير إال الضحك .و كانوا إذا سألوني ماذا
أخذت اليوم ،كنت أقول اختصارا للمھزلة و حتى ال أعود إلى شرح حكاية الصفر اليومي التي
أصبحت بالنسبة لي مملة ..كنت أقول ..زي العادة ..و كانوا يضحكون.
ھكذا كانت تجري األمور في بيتنا ،ال إرغام على مذاكرة و ال قھر على تدين ..و إنما لكل حياته..
و على كل تبعته.
لم نعرف غسيل المخ الذي عرفه كثير من األطفال في أسر متزمتة تحشر العلم و الدين حشرا في
عقول أطفالھا بالكرباج و العصا.
كنت إذن أتلقى أول عبارة من القرآن بذھن أبيض تماما و دون تأثير مسبق مثلما أتلقى دروس
الحساب و الجغرافيا و اإلنشاء.
و كما بھرتني حكاية الكرة األرضية المدورة و القارات كالجزر سابحة فيھا ،و كما بھرتني
حكاية القمر يدور حول األرض ،و األرض حول الشمس ..و الكل معلق في السماء ،كذلك فعل
بي القرآن شيئا.
و ال أجد الكلمات لتشرح ھذا النوع من االستقبال النفسي الغامض ..و كيف كانت الكلمات تعود
من تلقاء نفسھا فتراود سمعي و ذاكرتي و أنا وحدي فأراني أردد بال صوت )) ..و الضحى و
الليل إذا سجى ((.
و تقتحم علي العبارة القرآنية سكون طفولتي فأتذكر في ظالم الليل إلقاء الشيخ و ھو يردد )) :و
جاء من أقصى المدينة رج ٌل يسعى ((.
و قطعا أنا لم أكن أعلم ما الضحى و ال كيف سجى الليل ..و ال من ھو الرجل الذي جاء من
أقصى المدينة يسعى.
و لعل المقاطع كانت تتردد في سمعي أشبه بمقاطع سلم موسيقي ) ..صول ال سي دو ري مي فا
( ..مجرد حروف ال معنى لھا و ال وقع سوى مدلولھا الموسيقي ..مجرد نغم و مازورات
موسيقية و إيقاع يطرب الوجدان.
نعم ..لقد اكتشفت منذ تلك الطفولة البعيدة دون أن أدري حكاية الموسيقى الداخلية الباطنة في
العبارة القرآنية.
و ھذا سر من أعمق األسرار في التركيب القرآني ..إنه ليس بالشعر و ال بالنثر و ال بالكالم
المسجوع ..و إنما ھو معمار خاص من األلفاظ صفت بطريقة تكشف عن الموسيقى الباطنة فيھا.
و كمثل نأخذ بيتا لشاعر مثل ) عمر بن أبي ربيعة ( اشتھر بالموسيقى في شعره ..البيت الذي
ينشد فيه:
أنت تسمع و تطرب و تھتز على الموسيقى ..و لكن الموسيقى ھنا خارجية صنعھا الشاعر
بتشطير الكالم في أشطار متساوية ثم تقفيل كل عبارة تقفيال واحدا على الباء الممدودة.
الموسيقى تصل إلى أذنك من خارج العبارة و ليس من داخلھا .من التقفيالت ) القافية ( ..و من
البحر و الوزن ..أما حينما تتلو:
فأنت أمام شطرة واحدة ..و ھي بالتالي تخلو من التقفية و الوزن و التشطير ،و مع ذلك
فالموسيقى تقطر من كل حرف فيھا ..من أين ؟ و كيف ؟
الموسيقى الباطنة.
ظ ُم ِمنﱢي َوا ْشتَ َع َل الر ْﱠأسُ َش ْيبًا َولَ ْم أَ ُكن بِ ُدعَائِكَ َربﱢ َشقِيًّا ) ] (( (4مريم [
)) قَا َل َربﱢ إِنﱢي َوھَنَ ْال َع ْ
أو كلمة ﷲ لموسى:
)) إِ ﱠن السﱠا َعةَ ءاَتِيَةٌ أَ َكا ُد أُ ْخفِي َھا لِتُجْ زَى ُكلﱡ نَ ْف ٍ
س بِ َما تَ ْس َعى ) ] (( (15طه [
كل عبارة بنيان موسيقي قائم بذاته تنبع فيه الموسيقى من داخل الكلمات و من ورائھا و من بينھا
بطريقة محيرة ال تدري كيف تتم.
ْر بِ ِعبَا ِدي فَاضْ ِربْ لَھُ ْم طَ ِريقًا فِي ْالبَحْ ِر يَبَسًا ﱠال تَخَافُ د ََر ًكا َو َال )) َولَقَ ْد أَوْ َح ْينَا إِلَى ُمو َسى أَ ْن أَس ِ
ت َْخ َشى ) (77فَأَ ْتبَ َعھُ ْم فِرْ عَوْ نُ بِ ُجنُو ِد ِه فَغ َِشيَھُم ﱢمنَ ْاليَ ﱢم َما غ َِشيَھُ ْم )َ (78وأَ َ
ض ﱠل فِرْ عَوْ نُ قَوْ َمه ُ َو َما
ھَدَى ) ] (( (79طه [
كلمات في غاية الرقة مثل )) يبسا ً (( أو ال تخاف )) دركا ً (( بمعنى ال تخاف إدراكا ً.
إن الكلمات تذوب في يد خالقھا و تصطف و تتراص في معمار و رصف موسيقي فريد ھو نسيج
وحده بين كل ما كتب بالعربية سابقا و الحقا.
ال شبه بينه و بين الشعر الجاھلي ،و ال بينه و بين الشعر و النثر المتأخر ،و ال محاولة واحدة
للتقليد حفظھا لنا التاريخ برغم كثرة األعداء الذين أرادوا الكيد للقرآن.
في كل ھذا الزحام تبرز العبارة القرآنية منفردة بخصائصھا تماما ..و كأنھا ظاھرة بال تبرير و ال
تفسير سوى أن لھا مصدرا آخر غير ما نعرف.
)) يَعْ لَ ُم خَ ائِنَةَ ْاألَ ْعي ُِن َو َما تُ ْخفِي الصﱡ دُو ُر ) ] (( (19غافر [
ك األَب َ
ْصا َر ] (( (103) ..األنعام [ ))ال ﱠ تُ ْد ِر ُكهُ األَب َ
ْصا ُر َوھ ُ َو يُ ْد ِر ُ
ب الَ يَ ْع َل ُمھَا إِال ﱠ ھ َُو َويَ ْعلَ ُم َما فِي ْالبَ ﱢر َو ْالبَحْ ِر َو َما تَ ْسقُطُ ِمن َو َرقَ ٍة إِالﱠ يَ ْع َل ُمھَا َوالَ
)) َو ِعن َده ُ َمفَاتِ ُح ْال َغ ْي ِ
ب الَ ب ﱡمبِي ٍن )َ (59و ِعن َده ُ َمفَاتِ ُح ْال َغ ْي ِ س إِال ﱠ فِي ِكتَا ٍب َوالَ يَابِ ٍ ط ٍ ت األَرْ ض َوالَ َر ْ َحبﱠ ٍة فِي ظُلُ َما ِ
ِ
ت األرْ ِ
ض َ ُ ُ ُ ْ ْ
يَ ْعلَ ُمھَا إِالﱠ ھ َُو َويَ ْعلَ ُم َما فِي البَرﱢ َوالبَحْ ِر َو َما تَ ْسقط ِمن َو َرقَ ٍة إِال يَ ْعلَ ُمھَا َوالَ َحب ﱠ ٍة ِفي ظل َما ِ
ﱠ ُ
ب ﱡمبِي ٍن ) ] (( (59األنعام [ س إِال ﱠ فِي ِكتَا ٍ ب َوالَ َيابِ ٍ ط ٍ َوالَ َر ْ
و لكن الموسيقى الباطنية ليست ھي كل ما انفردت به العبارة القرآنية ،و إنما مع الموسيقى صفة
أخرى ھي الجالل.
و في العبارة البسيطة المقتضبة التي روى بھا ﷲ نھاية قصة الطوفان تستطيع أن تلمس ذلك
ك َو َيا َس َماء أَ ْقلِ ِعي
الشيء )) الھائل (( )) الجليل (( في األلفاظَ )) :وقِي َل يَا أَرْ ضُ ا ْبلَ ِعي َماء ِ
ض َي األَ ْم ُر ] (( (44) ..ھود [
يض ْال َماء َوقُ ِ
َو ِغ َ
تلك اللمسات الھائلة ..كل لفظ له ثقل الجبال و وقع الرعود ..تنزل فإذا كل شيء ،صمت ..سكون،
ھدوء ،و قد كفت الطبيعة عن الغضب و وصلت القصة إلى ختامھا:
إنك لتشعر بشيء غير بشري تماما في ھذه األلفاظ الھائلة الجليلة المنحوتة من صخر صوان و
كأن كل حرف فيھا جبل األلب.
ال يمكنك أن تغير حرفا ،أو تستبدل كلمة بأخرى ،أو تؤلف جملة مكان جملة ،تعطي نفس اإليقاع
و النغم و الحركة و الثقل و الداللة ..و حاول و جرب لنفسك في ھذه العبارة البسيطة ذات
الكلمات العشر أن تغير حرفا أو تستبدل كلمة بكلمة.
و لھذا وقعت العبارة القرآنية على آذان عرب الجاھلية الذين عشقوا الفصاحة و البالغة وقع
الصاعقة.
و لم يكن مستغربا من جاھلي مثل الوليد بن المغيرة عاش و مات على كفره أن يذھل ،و أال
يستطيع أن يكتم إعجابه بالقرآن ،برغم كفره فيقول :و قد اعتبره من كالم محمد:
) و ﷲ إن لقوله لحالوة ،و إن عليه لطالوة ،و إن أعاله لمثمر ،و إن أسفله لمغدق و إنه ليعلو و
ال يعلى عليه (.
و لما طلبوا منه أن يسبه قال:
) قولوا ساحر جاء بقول يفرق به بين المرء و أبيه ،و بين المرء و أخيه ،و بين المرء و زوجته،
و بين المرء و عشيرته (.
إنه السحر حتى على لسان العدو الذي يبحث عن كلمة يسبه بھا.
و إذا كانت العبارة القرآنية ال تقع على آذاننا اليوم موقع السحر و العجب و الذھول ،فالسبب ھو
التعود و األلفة و المعايشة منذ الطفولة و البالدة و اإلغراق في عامية مبتذلة أبعدتنا عن أصول
لغتنا ..ثم أسلوب األداء الرتيب الممل الذي نسمعه من مرتلين محترفين يكرون السورة من أولھا
إلى آخرھا بنبرة واحدة ال يختلف فيھا موقف الحزن من موقف الفرح من موقف الوعيد من
موقف البشرى من موقف العبرة .نبرة واحدة رتيبة تموت فيھا المعاني و تتسطح العبارات ..و
بالمثل بعض المشايخ ممن يقرأ القرآن على سبيل ) اللعلعة ( دون أن ينبض شيء في قلبه ..ثم
المناسبات الكثيرة التي يُقرأ القرآن فيھا روتينيا ..ثم الحياة العصرية التي تعددت فيھا المشاغل و
توزع االنتباه و تحجر القلب و تعقدت النفوس و صدأت األرواح.
و برغم ھذا كله فإن لحظة صفاء ينزع الواحد فيھا نفسه من ھذه البيئة اللزجة و يرتد فيھا طفال
بكرا و ترتد له نفسه على شفافيتھا ،كفيلة بأن تعيد إليه ذلك الطعم الفريد و النكھة المذھلة و
اإليقاع المطرب الجميل في القرآن ..و كفيلة بأن توقفه مذھوال من جديد بعد قرابة ألف و
أربعمائة سنة من نزول ھذه اآليات و كأنھا تنزل عليه لساعتھا و توھا.
اسمع القرآن يصف العالقة الجنسية بين رجل و امرأة بأسلوب رفيع و بكلمة رقيقة مھذبة فريدة
ال تجد لھا مثيال و ال بديال في أي لغة:
أن يمتزج الذكر و األنثى كما يمتزج ظالن و كما يغشى الليل النھار و كما تذوب األلوان بعضھا
في بعض ،ھذا اللفظ العجيب الذي يعبر به القرآن عن التداخل الكامل بين اثنين ھو ذروة في
التعبير.
و ألفاظ أخرى تقرؤھا في القرآن فتترك في السمع رنينا ً و أصدا ًء و صوراً حينما يقسم ﷲ بالليل
و النھار فيقول:
)) عسعس (( ..ھذه الحروف األربعة ھي الليل مصورا بكل ما فيه.
)) و الصبح إذا تنفس (( إن ضوء الفجر ھنا مرئي و مسموع ..إنك تكاد تسمع زقزقة العصفور و
صيحة الديك.
فإذا كانت اآليات نذير الغضب و إعالن العقاب ،فإنك تسمع األلفاظ تتفجر ..و ترى المعمار
ُ
ص ٍر عَاتِيَ ٍة صرْ َ يح َ القرآني كله له جلجلة .اسمع ما يقول ﷲ عن قوم عادَ )) :وأَ ﱠما عَا ٌد فَأ ْھلِ ُكوا بِ ِر ٍ
صرْ عَى َكأَنﱠھُ ْم أَ ْع َجا ُز ن َْخ ٍل )َ (6س ﱠخ َرھَا َعلَ ْي ِھ ْم َس ْب َع لَيَا ٍل َو َث َمانِيَةَ أَي ٍﱠام ُحسُو ًما فَت ََرى ْالقَوْ َم فِيھَا َ
خَاويَ ٍة ) ] (( (7الحاقة [ ِ
إن اآليات كلھا تصر فيھا الرياح و تسمع فيھا اصطفاق الخيام و أعجاز النخل الخاوي و صورة
األرض الخراب.
و الصور القرآنية كلھا تجدھا مرسومة بھذه اللمسات السريعة و الظالل المحكمة و األلفاظ التي
لھا جرس و صوت و صورة.
إنه قرآن في لغته .أما في اللغات األخرى فھو شيء آخر غير القرآن )) :إِنﱠا أَنزَ ْلنَاه ُ قُرْ آنًا َع َربِيًّا..
) ] (( (2يوسف [ و في ھذا تحديد فاصل.
إننا لسنا أمام معنى فقط .و إنما نحن بالدرجة األولى أمام معمار ..أمام تكوين و بناء تنبع فيه
الموسيقى من داخل الكلمات ،من قلبھا ال من حواشيھا ،من خصائص اللغة العربية و أسرارھا و
ظاللھا و خوافيھا.
و لھذا انفردت اآلية القرآنية بخاصية عجيبة ..إنھا تحدث الخشوع في النفس بمجرد أن تالمس
األذن و قبل أن يتأمل العقل معانيھا ..ألنھا تركيب موسيقي يؤثر في الوجدان و القلب لتوه و من
قبل أن يبدأ العقل في العمل.
فإذا بدأ العقل يحلل و يتأمل فإنه سوف يكتشف أشياء جديدة ،و سوف يزداد خشوعا ..و لكنھا
مرحلة ثانية ..قد تحدث و قد ال تحدث ..و قد تكشف لك اآلية عن سرھا و قد ال تكشفه ..و قد
تؤتى البصيرة التي تفسر بھا معاني القرآن و قد ال تؤتى ھذه البصيرة ..و لكنك دائما خاشع ألن
القرآن يخاطبك أوال كمعمار فريد من الكالم بنيان ) ..فورم ( ..طراز من الرصف يبھر القلب..
ألقاه عليك الذي خلق اللغة و يعرف سرھا ،و ليس أبدا محمد النبي األمي الذي كان يرتجف كما
ق ) ] (( (1العلق [ فيرتجف و ترتجف أنت و الوحي يلقي عليه باآلية )) :ا ْق َر ْأ بِاس ِْم َربﱢكَ الﱠ ِذي خَ لَ َ
يتصبب عرقا و ال يعرف من أي سماوات يلم به ھذا الصوت اآلمر ..و ھو يلوذ بزوجته خديجة
و ھو ال يزال يرتجف فرقا لما سمع و قد بات يخشى على نفسه الجنون فتطمئنه خديجة بصوتھا
الحاني ھامسة:
)) و ﷲ ما يخزيك ﷲ أبدا ،إنك لتصل الرحم ،و تحمل ال َكل .و تكسب المعدوم ..و تقري الضيف،
و تعين على نوائب الحق ((.
و ينقطع عنه الوحي سنتين بعد ھذه الكلمات القليلة األولى ،و يتركه في حيرة ..يذرع دروب
الصحراء الملتھبة يكاد يجن من أمر ھذا الصوت الذي نزل عليه ثم انقطع عنه.
و لو كان محمد مؤلفا أللف في ھاتين السنتين كتابا كامال.
و لكنه لم يكن أكثر من مستمع أمين سمع كما تسمع أنت تلك الكلمات ذات الموسيقى العلوية في
لحظة صفاء و جالء فذھل كما تذھل و صُعقت حواسه أمام ھذا التركيب الفريد المضيء.
ثم بدأت آيات القرآن تنزل متوالية .و لم يكن محمد من أدعياء المعجزات.
و يوم دفن ولده الوحيد إبراھيم حدث كسوف كلي للشمس فسره الناس على أنه معجزة و مشاركة
من الطبيعة لحزن محمد فقال محمد كلمته المشھورة:
)) إن الشمس و القمر آياتان من آيات ﷲ ال ينكسفان لموت أحد و ال لحياته ((.
و لو كان في طبعه اإلدعاء اللتمس فيما حدث سببا للدعاية لنفسه ،و لكنه كان الصادق األمين من
أول يوم في حياته إلى آخر يوم.
وحي ِه إِلَيكَ َو َما ُكنتَ لَ َد ْي ِھ ْم إِ ْذ ي ُْلقُون أَ ْقالَ َمھُ ْم أَ ﱡيھ ُْم يَ ْكفُ ُل َمرْ يَ َم َو َما ُكنتَ )) َذلِكَ ِم ْن أَنبَاء ْال َغ ْي ِ
ب نُ ِ
َص ُمونَ ) ] (( (44آل عمران [ لَ َد ْي ِھ ْم إِ ْذ يَ ْخت ِ
و ھو يلقي إليه بأسرار في التوراة و اإلنجيل ..و لم تكن ھذه الكتب قد ترجمت إلى العربية في
ذلك العصر البعيد – و أول نص مسيحي ترجم إلى العربية ھو مخطوط بمكتبة ) القديس
بطرسبرج ( كتب حوالي عام 1060ميالدية – كانت ھذه الكتب أسرارا عبرية ال يعرفھا إال
أصحابھا.
ففي رواية التوراة لقصة يوسف يقول النص إن إخوة يوسف استخدموا في سفرھم )) الحمير (( و
القرآن يروي أنھم استخدموا )) العير (( و ھي اإلبل.
و الحمار حيوان حضري عاجز عن أن يجتاز مسافات صحراوية شاسعة لكي يجيء من فلسطين
إلى مصر ..و حكاية العير ھي حكاية أدق و أصدق:
إن الوحي يلقي على محمد ما ال يعلمه محمد ال ھو و ال أصحابه و ال قومه و ال نساخ التوراة و
حفاظھا ..ثم ھو يلقي عليه من فواتح السور ما ھو أشبه بالشفرة و األلغاز مثل ) :كھيعص () ..
طسم ( ) ..حم ( ) ..عسق ( مما لم يقل لنا النبي إنه يعلم له تفسيراً.
و لو أن محمدا ھو الذي وضع القرآن لبث فيه أشجانه و حاالته النفسية و أزماته و أحزانه ..و
القرآن غير ھذا تماما فھو يبدو من البدء إلى النھاية معزوال عن النفس المحمدية بما فيھا من
مشاغل و ھموم ..بل إن اآلية لتنزل مناقضة لإلرادة المحمدية:
كل ھذا يضع أمامنا القرآن كظاھرة متعالية معزولة عن النفس التي أخبرتنا بھا ..فھي ال أكثر من
واسطة سمعت فأخبرت.
أما القرآن ذاته فھو – لفظا و معنى – من ﷲ الذي أحاط بكل شيء علما.
مخير أم مسير
القرآن معمار فريد ..نسيج وحده ..في الطريقة التي تصف بھا األلفاظ في رصف خاص يفجر ما
بداخلھا من نغم ،و ھو نغم ال ينبع من حواشي الكلمات و أوزانھا و قوافيھا و إنما من باطنھا
بطريقة محيرة مجھولة تماما ..و بطريقة تؤدي إلى خشوع المستمع و إدراكه الغامض للمصدر
الجليل الذي جاءت منه.
فنحن نصبح أسرى للقرآن بمجرد االستماع إليه ..و قبل أن نتعقل كلماته ،فإذا بدأنا نتأمل و نتعقل
و نحلل و نعكف على الكلمات فسوف تنفتح لنا كنوز من المعاني و المعارف و األفكار تحتاج إلى
مجلدات لشرحھا ،و لذلك سوف أكتفي بوقفات قليلة أمام بعض المشكالت األزلية ..كيف تناولھا
القرآن؟ و ماذا قال فيھا؟
و الحرية ثغرة كبيرة يدخل منھا الشك و يتسلل منھا ھواة الجدل من الملحدين ..فأول ما يقوله
الواحد منھم ليقيم الحجة على الدين كله أن يھتف محتجا:
)) إذا كان ﷲ قدر علي أفعالي .فلماذا يحاسبني؟ ((
)) و إذا كان كل شيء يجري في الدنيا بمشيئة ﷲ فما ذنبي؟ ((
ألنه علم أن المعضلة من المعضالت الفلسفية العالية التي ال يتيسر الرد عليھا بعلوم عصره ..و
أن الجدل سوف ينزلق بھم إلى متاھة يضيعون فيھا ..و لذا فضل اإليمان بالقلب على الثرثرة
العقلية العقيمة..
و ھي وصية ال تنسحب تماما على عصرنا ،الذي دخلت فيه الفلسفة الجامعات درسا ميسرا يتلقاه
ابن العشرين كل يوم.
و بذلك أصبح السؤال مطروحا بشدة ..و في حاجة إلى جواب و رد شاف من الفلسفة و من الدين
و من صميم القرآن ذاته.
و من النظرة المبدئية للعالم بما فيه من أرض و سماوات و نجوم و كواكب نرى أنه يقوم على
سلسلة محكمة من األسباب و المسببات ،و أن كل شيء فيه يجري بنظام محكم ..و إن كان لديك
ورقة و قلم فإنك تستطيع أن تحسب بالضبط متى تشرق الشمس و متى تغرب ،ألنھا تتحرك
حسب قانون ..و كل شيء في الدنيا يتحرك حسب قانون.
اإلنسان وحده ھو الحر المتمرد الثائر على طبيعته و ظروفه ،و لھذا يصطدم بالعالم و يصارعه..
و يستحيل في أي لحظة أن يتنبأ أحد بمصيره.
و حكاية الحتمية الداخلية التي تصورھا ) فرويد ( فاعتبر اإلرادة بسببھا حرة في الظاھر لكن
مقيدة في الباطن و أسيرة لجبرية الغرائز و آلية الحوافز الباطنة ..عاد ھو ذاته فنقضھا و قال :إن
الغريزة ھي خام غفل تتصرف فيه اإلرادة بالكبت أو باإلطالق أو بالتسامي.
و ھكذا عادت الغريزة لتصبح مجرد ظرف تتحكم فيه اإلرادة كما تتصرف اإلرادة في الظروف
الخارجية و تتحكم فيھا ..و أصبحت اإلرادة بھذا المعنى حقيقة متعالية متجاوزة للغرائز.
و بالمثل حكاية الحتمية الطبقية التي أثارھا ) الماركسيون ( ..فاعتبروا كل إنسان ابن طبقته..
تحدد له طبقته حوافزه النفسية و عواطفه و رغباته و شخصيته السلوكية ..فھو يتصرف كنبيل أو
إقطاعي أو ) كبروليتاري ( ال كفالن الفالني .بل ھو ال يكاد يملك نفسا فما يتخيل أنه نفس مستقلة
بداخله ،ما ھي في الحقيقة إال مجموعة من األنماط السلوكية التي استعارھا من طبقته ..إنھا
الحتمية الطبقية تعمل من خالله ..و ما ھو إال وسيط تظھر من خالله القوى اإلجتماعية
الالمعقولة في تصارعھا.
و ھي نظرة أوقعت الفكر الماركسي و علم النفس الطبقي في أشد التناقض ..فكيف نفسر سلوك
رجل مثل ) تولستوي ( و ھو من النبالء اإلقطاعيين بحكم الوراثة و ھو مع ذلك لم يتصرف أبدا
كنبيل و ال كإقطاعي ،بل تصرف كطليعة الفقراء و الفالحين محطما بذلك تلك الحتمية التي
سماھا )) علم النفس الطبقي (( .و بالمثل ) باكونين( و ) كروبتكين ( طليعة الفوضوية و كانا من
كبار األعيان .و ) ماركس ( ذاته ابن الطبقة البورجوازية الذي انقلب على الطبقة البورجوازية.
و ماذا نقول عن الفالح الذي يھمل تنقية الدودة في مزرعة تعاونية ..و العامل الذي يھمل صيانة
األوتوبيسات في قطاع عام.
إن ھذ الحتمية التي يصورھا علم النفس الطبقي ھي كالم غير دقيق و غير علمي.
و الحقيقة أن النفس اإلنسانية انفردت دون صنوف الوجود المادي ،بأنھا تملك قدرة داخلية على
التملص من الالبد و الالزم ..و الضروري ..و المحتوم ..و أن اإلرادة اإلنسانية لھا حريتھا في أن
تخل بأي تعاقد ..و يستحيل التنبؤ بما يجري في منطقة الضمير ..ألنھا منطقة حرة بالفعل.
ال شيء يحول بين اإلنسان و بين أن يضمر شيئا في نفسه .إنه المخلوق الوحيد الذي يملك ناصية
أحالمه.
و لكن ھذه الحرية البكر الطليقة في الداخل ما تلبث أن تصطدم بالعالم حينما تحتك به ألول مرة
في لحظة الفعل.
إن رغبتنا تظل حرة مادامت كامنة في الضمير و النية ..فإذا بدأنا التنفيذ اصطدمنا بالقيود ..و أول
قيد نصطدم به ھو جسدنا نفسه الذي يحيط بنا مثل ) الجاكتة الجبس( و يحصرنا بالضرورات و
الحاجات و يطالبنا بالطعام و الشراب ليعيش و يستمر و ال نجد مھربا من تلبية ھذه المطالب.
فنجري خلف اللقمة و نلھث خلف الوظيفة و نضيع في صراع التكسب و نفقد بعض حريتنا..
بعضھا و ليس كلھا ..و ھو ثمن ضروري ،فرغباتنا ال تستطيع أن تعلن عن نفسھا بدون جسد ،و
جسدنا ھو أداة حريتنا كما أنه القيد عليھا .و ليس جسدنا وحده بل أجساد اآلخرين أيضا أدواتنا،
فنحن ننتفع بما يصنعه العامل و ما يزرعه الفالح و ما يخترعه المخترع و ما يكتبه الكاتب و كل
ھذه ثمار أجساد اآلخرين و حرياتھم.
إن المجتمع أداة ھائلة موضوعة في خدمتنا بما فيه من بريد و مواصالت و نور و مياه و
صناعات و علوم و معارف.
و حينما يركب أحدنا قطارا فإنه يركب في الوقت نفسه على حرية مجھزة أعدھا له آالف العمال
و المھندسين و المخترعين و ھو يدفع في مقابل ھذا الكسب ضريبة من حريته.
و ليس المجتمع وحده ھو الذي يتقضاه ضرائب و لكن الكون كله ..جاذبية األرض و ضغط
الھواء و مياه المحيطات و السماء بكواكبھا ..كلھا تحاصره و تحاصر حريته و تطالبه بنوع من
الوفاق معھا.
فھو حينما يفطن إلى اتجاه الريح و يضع شراعه في مواجھتھا يمتطي الريح و يسخرھا لخدمته..
و حينما يفطن إلى أن الخشب يمتطي الماء ..و بالمثل حينما يفطن إلى نفع الناس ،و يسير في
اتجاھھم يكسب الناس و يكسب معونتھم.
إن اإلنسان يعيش مضطربا بين عالمين :عالم إرادته الحرة بداخله ..و عالم المادة حوله الراسف
المغلول في القوانين.
و سبيله الوحيد إلى فعل حر ھو معرفة ھذه القوانين و الفطنة إلى استغاللھا بالوفاق معھا ..و ھو
دائما أمر ممكن.
و لھذا فالحرية حقيقة ال تنفيھا المقاومات و الظروف الخارجية ،بل إن ھذه المقاومات تؤكد
الحرية فال يمكن أن تكشف حريتنا عن مدلولھا في الخارج إال بوجود عقبات تزحزحھا و تتغلب
عليھا ..إنھا تكشف عن مدلولھا من خالل صراع و بدون ھذا الصراع ال يقوم لھا معنى.
و الضوابط الخلقية و القوانين االجتماعية ال تنفي الحرية و إنما ھي أشبه بعالمات المرور..
وضعت لتننظم المرور و تفسح أكبر حرية للكل.
و أنت حينما تقيم الضوابط على شھوتك تكسب حريتك ألنك تصبح سيد نفسك ال عبدا لغريزتك.
أما حرية القمار و السكر و العربدة و المخدرات و التبذل الجنسي فھي ليست حريات و إنما
درجات من االنتحار و إھدار الحياة و بالتالي إھدار الحرية.
و كل اختيار ضد القانون الطبيعي ليس اختيارا و إنما إھدار لالختيار ،و كلنا نعلم أننا إذا أردنا أن
نزداد حرية و نحن نسبح اخترنا السباحة مع التيار و ليس ضده.
نخلص من ھذا إلى أن حرية اإلنسان حقيقة برغم ما يقوم حولھا من حدود و مقاومات ..و أن
اإلنسان حر حرية مطلقة في منطقة ضميره ،فھو يستطيع أن يضمر ما يشاء ..و حر حرية نسبية
في التنفيذ ،في منطقة الفعل و العمل ..بحسب ما يقوم حوله من حدود و مقاومات.
و يبقى بعد ذلك اللغز األزلي في عالقة اإلنسان با ..و عالقة حرية اإلنسان باإلرادة اإللھية
المطلقة.
و ألن القرآن كتاب دين و ليس كتاب فلسفة فإنه يكتفي بالومض و الرمز و اإلشارة و اللمحة.
فيقرر أوال أن حرية اإلنسان كانت بمشيئة ﷲ و رغبته و مراده ..و أن ما يجري من حرية
اإلنسان ال يجري إكراھا للخالق و ال إكراھا للمخلوق ،و إنما بھذا قضت المشيئة.
لقد رفض ﷲ أن يكره الناس على اإليمان و كان ھذا في إمكانه ،و لكنه أراد لإلنسان أن يكون
حرا مختارا ،يختار اإليمان أو الكفر كما يشاء:
)) و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر – 29) (( ..الكھف (
إن ﷲ يتركنا و لو اخترنا العمى على الھدى ..و قد سبقت بھذا مشيئته .بل فعل بنا أكثر من ھذا،
فخيرنا حتى في أن نختار ..عرض علينا ھذه األمانة ) و ھي الحرية و المسئولية ( عرضھا
لنقبلھا أو نرفضھا كما نشاء و ھي األمانة التي رفضتھا الجبال فحمل اإلنسان األمانة التي
رفضتھا الجبال .و كان بنفسه جھوال ظلوما:
)) إنا عرضنا األمانة على السماوات و األرض و الجبال فأبين أن يحملنھا و أشفقن منھا و حملھا
اإلنسان إنه كان ظلوما جھوال (( ) – 72األحزاب (
لقد جھل اإلنسان تبعة ھذه األمانة و أھوالھا و مھالك الغرور التي سوف يتعرض لھا بحملھا ..و
كيف أنه سيظلم بھا نفسه و غيره ..و لكن ﷲ كان يعلم بھذه المحنة الھائلة ..و كان يعلم أن ھذه
المحنة سوف تزكي اإلنسان و تطھره و تربيه:
)) و إذ قال ربك للمالئكة إني جاعل في األرض خليفة قالوا أتجعل فيھا من يفسد فيھا و يسفك
الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال إني أعلم ما ال تعلمون (( ) – 30البقرة (
و ال نعرف كيف تم ھذا العرض على اإلنسان بأن يكون حرا أو ال يكون ،و ال متى تم ھذا
العرض ..ھل حدث في مبدأ الخلق مع آدم ..أم مع األرواح قبل نزولھا إلى األرحام ..فھذا غيب
مطلق.
و بھذه الحرية التي قبلھا اإلنسان مختارا حقت عليه المسئولية و المحاسبة ،و أشار القرآن لھذا في
آيات حاسمة قاطعة:
و ال يستطيع أحد أن يفتدي آخر أو يحمل عنه ذنبه و إنما لكل عمله و على كل وزره.
و بمقتضى ھذه الحرية جعل ﷲ من )) ضمير اإلنسان و نيته و سريرته (( منطقة محرمة و قدس
أقداس ..ال يدخلھا قھر أو جبر ..و قطع على نفسه عھدا بأن تكون ھذه المنطقة حراما ال يدخلھا
جنده.
و كل منا له أن يضمر و ينوي و يسر في سريرته ما يشاء ،و إنما يبدأ التدخل اإللھي لحظة
خروج النية إلى حيز الفعل .فيعطي ﷲ لكل إنسان تيسيرات من جنس نيته و من جنس ضميره و
قلبه ..و ھو عين العدل ..ليكون الفعل بعد ھذا معبرا عن دخيلة فاعله:
))فأما من أعطى و أتقى ) (5و صدق بالحسنى ) (6فسنيسره لليسرى ) (7و أما من بخل و
استغنى ) (8وكذب بالحسنى ) (9فسنيسره للعسرى )) (( (10الليل(
ھا ھنا وعد آخر من ﷲ بأن يجعل تيسيرات األفعال مطابقة لدخائل القلوب فيجد الشرير تيسيرات
الشر ،و يجد الخير تيسيرات الخير ..و من يعلم ﷲ فيه الھدى يھديه ،و من يعلم فيه الضالل
يتركه للشياطين تضله:
)) فعلم ما في قلوبھم فأنزل السكينة عليھم و أثابھم فتحا قريبا (( ) – 18الفتح (
و ألن ﷲ علم بكل شيء مسبقا ..و أحاط بكل شيء علما ..نراه يتكلم في القرآن عمن:
فقد علم مسبقا و سلفا أن اإلنسان سيفسد في األرض و سيسفك الدم و يظلم نفسه و يظلم اآلخرين..
و يستحق بذلك درجات متفاوتة من العقوبة.
كل ھذا كان في سابق علمه.
و ليس ھذا بالجبر و ال بالحتم ..و لكن ..كما يحدث أن تتوسم في أحد أبنائك حب العلم و التحصيل
فتمده بالتسھيالت و التيسيرات و تبعثه إلى الخارج في بعثة ..و ترى في اآلخر العكوف على
الفساد و صحبة السوء فتكتفي بما له من حظ محدود من التعليم في بلده ..و لو فعلت عكس ذلك
لكنت ظالما ،و ألكرھت أبناءك على غير طبائعھم.
كما أن ھذا التوسم المسبق ليس فيه عنصر إكراه و ال جبر ..و إنما ھو مجرد سبق علم ..فأنت
تعلم مسبقا من أخالق ولدك بأنه سوف ينصرف إلى اللعب و يھمل كتبه ..فإذا انصرف إلى اللعب
بالفعل و أھمل كتبه فإن ذلك ال يكون إكراھا منك و ال جبرا و ال عنوة و إنما ألن ھذه طبيعته
التي سبق علمك إليھا ..و إنما تأتي التجربة فتكشف له نفسه ..و بذلك يحق عليه العقاب صدقا و
عدال ..فقد علم من نفسه ما لم يكن يعلمه:
و حتى ال تكون ألحد أعذار في أفعاله فيقول لحظة الحساب فعلت كذا و كذا تحت تأثير العرف و
التقاليد و البيئة و المجتمع و التربية ..إلخ ..إلخ ..حسم ﷲ الموضوع فقال في القرآن:
)) ال يؤاخذكم ﷲ باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم – 225) (( ..البقرة (
و في آية ثانية:
)) و ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به و لكن ما تعمدت قلوبكم – 5 ) (( ..األحزاب (
و في آية ثالثة يحدثنا عن الذين ارتدوا إلى الكفر بعد إيمانھم و يھددھم بأشد العذاب ثم يستثني
قائال:
إن ما يدور في القلب ھو موضوع المحاسبة بالدرجة األولى و ليس ما يجري على مسرح الفعل.
إنھا روحك ذاتھا و ھي الكاشفة عن حقيقتك بمثل ما تكشف بصمة إصبعك عن فرديتك.
و ألن فيك ذلك القبس من ﷲ و ألنه كرمك بحرية اإلرادة ،فأنت محاسب على ھذه الحرية ،و ھذا
منتھى العطاء اإللھي و منتھى العدل أيضا.
يأتيك النصر بيدك و بيد ﷲ في ذات الوقت فتكون يدك لحظة االنتصار ھي يد ﷲ و رميتك رميته
و مشيئتك مشيئته.
)) سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في األرض بغير الحق – 146 ) (( ..األعراف (
و من ھذا يتبين أن ﷲ ترك المبادرة بالنية دائما لك ثم بعد ذلك يأتي قضاؤه فيزيدك مرضا إذا
أضمرت المرض في قلبك و يھديك إذا بادرت في سريرتك بميل إلى ھدى ..و يصرفك عن
الھدى إذا أضمرت الكبر.
إن منطقة الضمير متروكة دائما لك لتبادر بما تشاء ..و بعد ذلك ينزل عليك القضاء و يحق عليك
القول.
و ھذا يدل على أن قانون الخلق األول ھو أن تكون الروح محرابا و قدس أقداس ال يدخلھا قھر..
و ال يكرھھا ﷲ على شيء ال ھو و ال جنده و ال أنبياؤه و ال أولياؤه إن النفس حرة منزھة.
)) ال يفضلكم أبوبكر بصالة و ال بصيام و لكن بسر وقر في قلبه ((.
و يقول ﷲ في قرآنه:
)) ود كثير من أھل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسھم– 109 ) (( ..
البقرة (
لم يخلق ﷲ الحسد في قلوبھم و لم يودعه ضمائرھم ،و لكنھم يحسدونكم اختيارا من عند أنفسھم..
و العبارة ھنا صريحة )) من عند أنفسھم (( ..و ھي تنفي التدخل اإللھي و تقطع بوجود ھذه
المنطقة الداخلية التي تركھا ﷲ حرة.
إن الشيطان ال يستطيع أن يدخل قلبك إال إذا فتحت له الباب اختيارا و كنت من الغاوين ،و لكنه ال
يستطيع أن يقتحم عليك قلبك جبرا و قسرا.
إن ﷲ قد كفل لھذا لقلب الحماية و لم يجعل ألحد من جند الشر أو الخير سلطانا قاھرا عليه إال إذا
أراد صاحب ھذا القلب اختيارا أن يستضيف و يدعو و يحتضن دواعي الشر أو دواعي الخير
فحينئذ يكون له ما أراد.
نحن أمام قدس أقداس بالفعل ..و حرم محرم تقوم عليه األسوار و ال يدخله حتم و ال جبر و ال
إكراه.
و ما يحدث لنا من إكراه بالفعل في عالم الواقع ال يمكن أن يصل إلى داخل ضمائرنا.
يمكنك أن تجبرني بالقوة على أن أرفع يدي أو أقف مرغما أو اھتف باسمك ،و ال يمكنك أبدا أن
تجبرني على أن أحبك.
و لھذا ال تعطينا األديان رخصة لنقول يوم الحساب إن فالنا أغراني أو فالنا أجبرني ،أو فالنا
أكرھني أمال في أن يلقي الواحد ذنبه على اآلخر ،فقد جعل ﷲ من أعماق الضمير و السريرة
منطقة حراما ال يستطيع أن يدخلھا جبار بجبروته.
يمكنك أن تكره خادمك على فعل .و لكنك ال تستطيع أن تكرھه على أن يضمر شيئا في سريرة
قلبه.
و القرآن يعتبرك حرا مسئوال مھما أحاطت بك ظروف االستبداد فيقول إشارة إلى أمثال ھذه
الظروف:
ال أعذار.
أي فتح أمامھا سبيل الخير و الشر و تركھا أمام الطريقين لتختار ..و لھذا قال ) فجورھا و تقواھا
( ،و لم يقل ) أو تقواھا ( ألنه فتح الطريقين معا ليجعل للنفس االختيار و لم يجبرھا على أحد
الطريقين ..و لذلك أردف موضحا:
فرد الفالح و الخيبة للنفس المخيرة ،و في آية أخرى يوضح األمر أكثر فيقول:
و كل واحد منا له نصيبه من حرية الفعل ..و الذي يقول بالجبرية سوف يقع في مأزق حينما
نسأله كيف يميز بين يده يحركھا في حرية و يكتب بھا ما يشاء ..و بين يده و ھي أسيرة ترتعش
قھرا في رجفة الحمى ..ھنا أمامنا حالتان واضحتان ،حرية في حالة الصحة ،و جبرية في حالة
المرض ،و لو كانت الجبرية التي يقول بھا صحيحة لما أمكن أن يميز بداھة بين الحالين ..و لما
أمكن أن تقوم الحالتان أصال.
إن حرية الفعل إذن حقيقة ..و القدر أيضا حقيقة.
و المشكلة ھي أن نحاول أن نفھم ھذا االزدواج و كيف ال يلغي القدر الحرية ..و كيف ال تلغي
الحرية القدر.
و ھذا أمر نستشفه من اآليات استشفافا ..فھي تلمح و ال تصرح حتى ال تُلقي بالناس في بلبلة.
يقول ﷲ في كتابه:
)) إن نشأ ننزل عليھم من السماء آية فظلت أعناقھم لھا خاضعين (( ) – 4الشعراء (
لو شاء لفعل و لكنه لم يفعل ..ألنه لم يشأ أن يقھرنا على إيمان فتنتفي بذلك حرية االختيار التي
جعل منھا جوھر وجودنا ..فقد أراد لنا أن نكون أحرارا نؤمن أو نكفر.
و إنما إبليس اختار لنفسه الكبرياء و الجبروت و التعاظم حينما رفض أن يكون في خدمة آدم مثل
بقية المالئكة و قال:
اختار إبليس لنفسه الغرور بغير علم و ال حق .فاختاره ﷲ ليغرر بالناس و قضى عليه قضاء من
جنس ضميره.
و لھذا السبب أيضا – لعدم القھر و الجبر – أخفى ﷲ نفسه في اإلنجيل ،و أخفى نفسه في القرآن
ألنه لم يرد أن يلجمنا بالتجلي القاطع الفاصل فيقھرنا على اإليمان قھرا .فجعل من التوراة و
اإلنجيل و القرآن كتبا يمكن أن نؤمن بھا و يمكن أن نشك فيھا.
و قال عن قرآنه:
و ضمن آياته البراھين و لكنه لم يجعلھا أبدا براھين ملزمة تأخذ بالخناق و تقھر العقل ..و إنما
تركك دائما لترجح شيئا على شيء حرصا منه على حريتك ..و لتقول ما تريد دون مؤثرات
كابحة ..فتفصح عن دخيلتك و سريرتك و يحق عليك القول.
لقد أرادك أن تكون من أحد األوجه خليفة صغيرا له على األرض تحكم و تقضي في شئونك و
شئون اآلخرين ..ليمتحنك و يختبرك.
و في آية نموذجية يشرح القرآن ما بين القدر اإللھي و الحرية الفردية من تالق ،و يرفع ما بينھما
من تناقض ..حينما يروي ما حدث من تكاسل المنافقين عن نصرة الرسول – صلى ﷲ عليه و
سلم – و عدم الخروج معه في غزواته:
)) و لو أرادوا الخروج ألعدوا له عدة و لكن كره ﷲ انبعاثھم فثبطھم و قيل اقعدوا مع القاعدين )
( 46لو خرجوا فيكم ما زادوكم إال خباال و ألوضعوا خاللكم يبغونكم الفتنة و فيكم سماعون لھم
و ﷲ عليم بالظالمين ) ) (( ( 47التوبة (
ھا ھنا منافقون بالقلب ال يريدون بالنية أن ينصروا نبيھم فيقضي عليھم ﷲ بمثل نيتھم فال يريد
لھم كما لم يريدوا ألنفسھم و يثبطھم و يكره لھم الخروج كما كرھوه ألنفسھم.
و يبدو ھذا التماثل بين قدر ﷲ و سريرة اإلنسان في آية أخرى أكثر صراحة و التي تخاطب النبي
)) يا أيھا النبي قل لمن في أيديكم من األسرى إن يعلم ﷲ في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ
منكم – 70 ) (( ..األنفال (
ھنا يبدو الفعل اإللھي ) القدر ( دائما من جنس النية التي ھي عين االختيار.
و يبدو كيف تماثل أمر ﷲ و اختيار اإلنسان و انتفى التناقض ..فلم يكن التناقض إال في وھمنا
نتيجة عدم الفھم.
و ما بين اإلثنين من تناقض ھو تناقض في الظاھر فقط ..فقد فھمنا أن ﷲ ال يريد لإلنسان إال ما
يريد اإلنسان لنفسه:
)) و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الھدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى و
نصله جھنم و ساءت مصيرا (( ) – 115النساء (
من يختار طريق السوء و يرى ﷲ في نيته اإلصرار فإنه ال يكرھه على الخير و إنما يختار له ما
اختار لنفسه و يمد له في غيه و يمھد له أسباب الشر تمھيدا حتى يخرج ما يكتمه و يتلبس بفعله و
يحق عليه العذاب:
ﷲ ال يغير ما يريده بإنسان حتى يغير ذلك اإلنسان ما يريده بنفسه ..التطابق ھنا واضح.
اإلثنان ..الحرية و القدر ..ينفذ القضاء و يتم الفعل بإرادة ﷲ و مشيئته و في الوقت نفسه باختيار
اإلنسان و حريته بال تناقض )) قل ك ٌل من عند ﷲ (( ) – 78النساء (
فأنت تشاء و لكن قدرتك على أن تشاء و تختار ھي منحة من ﷲ و مشيئة عليا ..حريتك ذاتھا
منحة و عطية و مشيئة إلھية ..و من ھنا كانت اآلية:
ھي تقرير للحقيقة ..و ليست كالما متناقضا ..فھي تقرر أنك حر و لكن حريتك منحة و عطية و
ھبة و مشيئة من المعطي.
ﷲ يخرج ما في النية و يفضح مكتوم السرائر ليسجل على كل واحد نيته كما ھي دون جبر أو
إكراه ..إنه يفضحھا فقط و يخرجھا على حالھا ليكون كل واحد ) طائره في عنقه (.
)) و اعلموا أن ﷲ يحول بين المرء و قلبه و أنه إليه تحشرون (( ) – 24االنفال (
و معنى ھذا أن ﷲ يدع القلب حرا فتكون لكل إنسان سريرة ھو حر فيھا .و لكنه يقيم سلطانه بين
المرء و قلبه.
فھو يحول بين المرء و قلبه بالتمكين أو اإلحباط لطفا منه و رحمة ليقي أحبائه السيئات ..و ليقدم
التيسيرات لكلﱟ حسب ضميره و نيته و مبادراته ..إما لليسرى و إما للعسرى.
)) إذ يريكھم ﷲ في منامك قليال و لو أراكھم كثيرا لفشلتم و لتنازعتم في األمر و لكن ﷲ سلم إنه
عليم بذات الصدور ) ( 43و إذ يريكموھم إذ التقيتم في أعينكم قليال و يقللكم في أعينھم ليقضي
ﷲ أمرا كان مفعوال و إلى ﷲ ترجع األمور ) ) (( ( 44األنفال (
ھنا مثل آخر بليغ للتدخل اإللھي اللطيف الخفي بين المرء و بين قلبه ..فا يريد أن يحث
المسلمين على القتال في بدر و ھم قلة ) ثلثمائة يواجھون ألفا مدججين بالسالح و الدروع ( يريد
أن يدفع المسلمين إلى المعركة دون جبر و دون إكراه حتى يكون االختيار اختيارھم ..فيسوق إلى
الرسول في منامه رؤيا يظھر فيھا األعداء قلة قليلة ال يؤبه لھا ..و ساعة المعركة يجعل كثرة
المشركين تبدو للمسلمين قلة ليھون من شأنھم ..كما يھون من شأن المسلمين في أعينھم ..و بذلك
يستدرج الكل إلى معركة ليقضي أمرا كان في علمه مفعوال.
و ھذا ھو التيسير الذي يسوق به األسباب دون أن يخل بناموس الحرية الذي قضى به لكل إنسان
في سريرته و ھو عن ھذه الحرية مسئول.
بھذه الكلمات التي تضيء كالومض الخفي يعطي القرآن المفتاح ألكبر المشكالت استعصاء في
الفلسفة ..مشكلة الجبر و االختيار.
قصة الخلق
)ما جاء في ھذا الفصل ھو محاولة تخضع لقاعدة االجتھاد في احتمال الخطأ و الصواب ..و ﷲ
الموفق( مصطفى محمود
مبدأ الخليقة و كيف كان؟ ..و ميالد األرض و القمر و الشمس و النجوم و كيف حدث؟ ..و كيف
خطا على األرض أول إنسان؟ ..و من أين جاء؟..
كل ھذه أمور خاضت فيھا العلوم و كان لھا في شأنھا نظريات و شواھد و براھين.
و كالم كثير ال يمكن أن نكون بمعزل عنه و نحن نقرأ ما يقوله القرآن عن قصة الخلق ..فما قام
الدين أبدا منعزال عن الحياة و ال قام ليعادي العلم بل إنه قام ليقدم لنا منتھى العلم ..و ليقودنا إلى
اليقين في مقابل الشك و االحتمال و الترجيح ..جاء ليقول كلمة أخيرة ..فال يمكن أن نخوض فيه
دون أن نخوض في كل شيء ..و دون أن نثير القضية كاملة برمتھا علما و دينا و فلسفة و
سياسة.
و ھذا يردني إلى كتابين كتبتھما و قدمت فيھما اإلشكال جملة و تفصيال ھما ) ..لغز الموت( ..و
)لغز الحياة( ،و ال يمكن أن أعود فأكرر ما قلته فيھما ..و لذا سأكتفي بسطور أعود فأثيرھا حتى
ال يضيع منا السياق و حتى أربط معي القارئ في الفكرة الكلية.
أعود إلى الحياة ..و إلى مبدئھا و ألتقط ) داروين( ..أبا التطور ليروي لنا رؤيته عن مسيرة
الحياة ،و ال أتفق مع القائلين إن كل ما قاله ) داروين( خطأ ،كما ال أقول أيضا إن كل ما رآه
صواب ..و إنما ھي مناسبة إلعادة النظر و التفكير.
•••
و في رحلة حول العالم في الباخرة)) بيجل (( مضى ) داروين( يجمع العينات من البر و البحر و
من تحت الماء و من فوق الماء و يدرس و يتأمل و يدون و يجمع مالحظاته عن األحياء في كافة
أرجاء األرض.
* اإلنسان في المناطق القطبية ،سمين مكتنز بالدھن تماما مثل الحوت ليقي نفسه غائلة البرد ..و
الدببة مغطاة بالمثل بمعاطف من الفراء .بينما ھو في المناطق االستوائية الحارة نحيل ھزيل
أسود ،و كأنما اخترع لجلده مظلة لتقيه الشمس.
* سحالي الكھوف التي تعيش في الظالم ال وظيفة عندھا للبصر ،و ال لأللوان ..و لھذا فھي
عمياء و بال لون ..أما سحالي البراري فحادة البصر و ملونة.
* أفواه الحيوانات اختلفت و تباينت حسب وظائفھا :فم مزود بأسنان خنجرية تقطع و تمزق مثل
النمر ،و فم مزود بمنقار يلتقط مثل الطير ،و فم مزود بخطاف يتشبث كما في دودة )
االنكلستوما( التي تمسك بجدار األمعاء ..و فم مزود بخرطوم يمص كما في الذبابة ..و فم مزود
بإبرة تحقن كما في البعوضة ..و فم مزود بمناشير و طواحين تطحن و تقرض كما في الحشرات
القارضة.
ھل الحكاية أن الحيوانات أصلھا واحد ،ثم تطور ھذا األصل و تباين و اختلف إلى ھذه الفصائل
المتباينة بسبب تباين الظروف و البيئات؟! ..الحيوانات التي دبت عل األرض طورت لنفسھا
أرجال ..و التي نزلت إلى البحر تحورت فيھا األرجل إلى زعانف ،و التي طارت في الجو
تحورت فيھا األطراف إلى أجنحة.
إذا كان ھذا االستنتاج صحيحا ،فال بد أن يكشف لنا تشابھا في بنية الجميع.
ففي الثعبان الذي بال أرجل يكشف التشريح عن أرجل ضامرة مختفية في ھيكله العظمي.
و الطيور التي تبدو و كأنھا لھا زوجا واحدا من األطراف يكشف التشريح أن أجنحتھا ھي الزوج
الثاني من األطراف تحور ليالئم وظيفته الجديدة.
األسماك التي تدب على األرض و تتنفس برئات يكشف التشريح عن أن رئاتھا ھي نفس كيس
العوم تحور ليالئم وظيفة التنفس الجديدة.
زعانف السمك األربع ھي نفس األطراف األربعة متحورة إلى ما يشبه المجاديف.
عدد أصابع اليد و القدم فينا خمس و في القرود خمس و في الفئران خمس و في السحالي خمس،
حتى الوطاويط لھا خمس أصابع ضامرة.
القلب و الدورة الدموية تسير على خطة واحدة في الحوت كما في الفأر ،كما في القرد ،كما في
اإلنسان ،كما في الوطواط .نفس الشرايين لھا نظائرھا في كل نوع ،و القلب ھو دائما نفس القلب
بغرفه األربع.
و الجھاز العصبي الذي يتألف من مخ و حبل شوكي و أعصاب حس ،و أعصاب حركة ،ھو
نفس الجھاز العصبي في الكل.
و الجھاز العضلي بعضالته و الھيكل العظمي بعظامه عظمة عظمة ..كل عظمة لھا نظيرھا مع
اختالفات طفيفة في الشكل لتالئم الوظيفة في كل حيوان.
و الجھاز التناسلي نفس الخصية و المبيض و قنوات الخصية و المبيض و الرحم في كل حيوان.
و فترة الحمل عندنا تسعة أشھر ،و في القرود العليا تسعة أشھر و في الحيتان تسعة أشھر ..حتى
فترة الرضاعة في الجميع سنتان.
ثم خبطة أخرى :يكشف التشريح في الھيكل العظمي لإلنسان نفس فقرات الذيل التي في القرود،
و قد تدامجت و التحمت النعدام وظائفھا ..حتى عضالت الذيل قد تحورت إلى قاع متين للحوض.
و فقرات الرقبة في اإلنسان عددھا سبع و في الزرافة برغم طول رقبتھا أيضا سبع و في القنفذ
سبع رغم قصر رقبته.
و خبطة ثالثة :يمر الجنين في رحم أمه و ھو يتخلق على مراحل ..في مرحلة يكون أشبه بسمكة
و تكون له خياشيم ..و في مرحلة أخرى ينمو له ذيل ثم يضمر ..و في مرحلة ثالثة يتغطى بالشعر
تماما كالقرود ثم يبدأ الشعر ينحسر عن جسمه تاركا مساحة صغيرة عند الرأس.
لقد فضح الجنين القصة ..و كشف لنا مبدأ الخليقة و مراحل تطورھا.
و المشرط و ھو يعبث خلف األذن البشرية يكتشف شيئا آخر .فھا ھي ذي نفس عضالت األذن
التي كانت تحرك آذان الحمير و قد تليفت و ضمرت حينما لم تعد لھا وظيفة و حينما اتخذت آذننا
أشكاال تغنيھا عن الحركة.
ثم ھا ھي ذي الحفريات تكشف عن جماجم بشرية ذات شكل قردي في ) الترنسفال( و ) بكين( و
) جاوة( و ) نياندرتال( ،و بعض ھذه الجماجم وجدت في كھوف عثر بھا على بقايا خشب متفحم
في مواقد تدل على أن أصحاب ھذه الجماجم قد اكتشفوا النار و استخدموھا منذ ماليين السنيين.
و لم يقل ) داروين( إن اإلنسان انحدر من القرد و لم يقل إن الجنس البشري من ساللة شمبانزي
أو نسناس و إنما ھي نكتة روجتھا الصحف و انتشرت كنوع من الكاريكاتير الخفيف الدم )
للداروينية(.
و لكن النظرية في أصلھا المكتوب ال تقول إن أيا من األجناس الموجودة خرج من اآلخر ..و إنما
كل جنس ھو بذاته نھاية فرع مستقل من الشجرة ..لم يخرج فرع من فرع – لم يخرج فرع
اإلنسان من فرع القرود – و إنما خرج كل منھما على حدة من الشجرة األم و ھما يرتدان في
األصول إلى منبع واحد ھو الخلية األولى التي تنوعت بھا البيئات فتفرعت شجرتھا إلى ما نرى
حولنا من تصانيف ..و لكن لم يخرج صنف من صنف ..فكل صنف ھو ذروة نوعه و ھو مستقل
بتكوينه ال يلد إال مثله.
إن كالمه عن التكيف و التالؤم بين المخلوق و بيئته ال يفسر إال التباين الخلقي و الوظيفي بين
المخلوقات و لكنه ال يفسر ارتقاءھا من األدنى إلى األعلى.
و ابتكر ) داروين( لنفسه تفسيرا ..فقال إن الترقي حدث بحوافز داخلية مادية بحتة و بدون يد
ھادية من خارج.
كان التزاوج يلقي بتصانيف و تواليف ..التواليف التي خرجت إلى الحياة بأرجل مبططة كانت
أصلح للعوم و استطاعت أن تستمر في الحياة المائية ،و الحيوانات المائية األخرى التي حافظت
على التصنيف القديم لألرجل البرية ماتت.
و ھكذا عاش األصلح و مات األقل صالحية ..و حدث الترقي الذي نراه تلقائيا بمجرد الحوافز
الحياتية المادية.
و مضت سنون و سنون من التمحيص و إعادة النظر ..و عاش من نظرية ) داروين( بعضھا و
مات بعضھا.
حكاية أن األنواع انحدرت من أصل واحد و أنھا تباينت إلى شجرة من الفصائل و األنواع نتيجة
تباين الظروف و البيئات كانت احتماال مرجحا أقرب إلى الصحة تقوم عليه الشواھد .فالوشيجة
العائلية تربط كل الخالئق بالفعل ..و التشريح يقول إنھا ترتبط بعضھا ببعض بصلة رحم و قربى.
أما حكاية أن الترقي حدث بالحوافز الحياتية وحدھا و بدون يد ھادية فلم تعد مقنعة ..و سقطت من
غربال الفكر المدقق المحقق.
فلماذا يخرج من شجرة الحمار شيء كالحصان مع أن الحمار أكثر جلدا و احتماال ..و بأي حوافز
يتطور من عائلة الوعل شيء كالغزال و ھو أرھف و أضعف و أقل جلدا من الوعل ..و بالمثل
الفراش الملون الرقيق أبطأ و أضعف و أقل قدرة من الزنبور الطنان الغليظ الشكل ..و الحمام و
اليمام و الطواويس و العصافير الملونة أكثر رھافة و تھافتا من الصقور و الحدادى و النسور.
و نشوء ھذه األنواع ال يمكن أن يفسره قانون بقاء األصلح ،و إنما قانون آخر ھو بقاء األجمل.
يقول المعلق الخبيث ..أجمل في عين بعضھا بعضا ..الذكر فيھا يختار األنثى األجمل ..إنه انتقاء
جنسي ..إننا مازلنا أمام الحوافز الحياتية المادية.
فلماذا يختار الذكر األنثى األجمل؟ إن القضية مازالت تطرح نفسھا ..إن الجناح المنقوش ليس
أصلح للطيران من الجناح السادة.
ال توجد مصلحة حياتية ھنا ..و إنما ھنا قيمة جمالية عليا تفرض نفسھا على جميع الحوافز ..ھنا
عقل الفنان المبدع الذي يجمل مخلوقاته ..نلمس آثاره في ورق الشجر و ألوان الزھر و أجنحة
الفراش و ريش الطواويس.
كما نقف مذھولين أمام بعض األشجار الصحراوية إذ نجد أن الطبيعة خصتھا ببذور مجنحة
لتطير محلقة تقطع أميال الصحاري الجرد لتجد فرصھا القليلة في الماء ..أو نتأمل بيض البعوض
فنكتشف أنه يملك أكياسا ھوائية للطفو ،ليعوم في الماء و ال يغرق..
كل ھذا ال يفسره إال عقل كلي يفكر و يھندس لمخلوقاته فال أشجار الصحاري تعقل لتزود بذورھا
بأجنحة و ال البعوض يعرف قوانين ) أرشميدس( في الطفو ليزود بيضه بوسيلة للعوم.
ھذه أمور تعجز أمامھا نظرية ) داروين( تماما و ال يفسرھا إال وجود خالق عليم قدير يھندس
الوجود و يصممه و ينشئه إنشاء ،و ما يجري أمامنا ليس تطورا ،بل تطويرا مرادا مدبرا و
متعمدا من يد خالقة مبدعة ھي التي تقوم بالتعديل و التحسين.
و لنشرح ھذا الكالم أكثر سوف نتصور حكاية خيالية افتراضية ..سوف نتصور أننا نعاني نقصا
خاصا في حاسة البصر ..و ھو نقص يجعلنا نرى اآلالت المختلفة دون أن نرى صانعھا ..و ھكذا
سوف نرى عربة اليد و عربة ) الكارو( و العربة ) الحنطور( و السيارة و القطار و ) الديزل(
دون أن نرى اإلنسان ..و سوف نقول إن ھذه أشياء تطورت بعضھا من بعض على سلسلة من
المراحل .و سوف ندلل على ذلك بما بينھا من تشابه تشريحي .فكل ھذه الكائنات تتشابه في أنھا
من مادة الحديد و الخشب و الجلد و تتركب من جسم و عجالت ..و بين السيارة و ) الديزل( و
القطار سوف نرى أن ھناك ) موتورا( يتألف من )سلندر وبستم( ،مرة يشتغل بالبنزين و مرة
بالبخار و مرة بزيت البترول.
و ألننا ال نرى الصانع الذي صنعھا جميعا فسنقول إنھا تطورت بعوامل داخلية فيھا ..نتيجة
صراعھا مع البيئة و بقاء األصلح بعد معارك البقاء الطويلة.
و سوف ننكر العامل الخارجي ألننا ال نراه.
و ھذا ھو الخطأ الذي وقع فيه ) داروين( في نظريته عن النشوء و االرتقاء حينما قال إن عوامل
التطور ھي عوامل داخلية و إن الحياة تتقدم بحوافز باطنية دون يد ھادية ترشدھا ..تتقدم بفعل
اآلليات المادية داخلھا ..لمجرد أنه ال يرى يد الصانع الخالق المبدع و ھي تبدع و تخلق.
نحن إذن أمام نظرية اكتشفت الوشائج العائلية بين أسرة األحياء من نبات و حيوان و إنسان ،و
لكنھا لم تستطع أن تفسر لنا كيف حدث الترقي بينھا.
فإذا انتقلنا إلى كالم العلم عن مبدأ الحياة ..فنحن أمام إجماع بأن الحياة بدأت من الماء ..من ماء
المستنقعات الذي تختمر فيه المادة و تتحلل و تتركب بقوة غير معروفة إلى الشكل األول للحياة..
) البروتوبالزم( ..ال أحد يعرف كيف نشأ من الماء و التراب.
فإذا جئنا إلى مبدأ الكون كله ..بنجومه و شموسه و كواكبه فنحن أمام إجماع من علماء الفلك بأن
كل شيء نشأ من الھواء من سحب الغاز و التراب األولية.
تكاثفت ھذه السحب من الغاز و التراب بفعل الجاذبية بين ذراتھا إلى أنوية في الوسط ھي
الشموس و إلى تكثفات أصغر حولھا ھي الكواكب.
فماذا قال القرآن حينما تعرض لھذه القضية منذ أربعة عشر قرنا من الزمان؟ و ماذا جاء على
لسان ذلك النبي األمي الذي لم يكن يعرف ال ھو و ال قومه و ال عصره معنى كلمة ) بيولوجيا( و
) جيولوجيا( و كيمياء عضوية و علم أجنة و تشريح و ) أنثروبولوجيا( ؟
•••
القرآن له أسلوبه المختلف عن كل األساليب ..و ھو حينما يشير إلى مسألة علمية ال يعرضھا كما
يعرضھا ) أينشتين( بالمعادالت ..و ال كما يعرضھا عالم ) بيولوجي( برواية التفاصيل
التشريحية ..و إنما يقدمھا باإلشارة و الرمز و المجاز و االستعارة و اللمحة الخاطفة و العبارة
التي تومض في العقل كبرق خاطف ،إنه يلقي بكلمة قد يفوت فھمھا و تفسيرھا على معاصريھا..
و لكنه يعلم أن التاريخ و المستقبل سوف يشرح ھذه الكلمة و يثبتھا تفصيال.
)) سنريھم آياتنا في اآلفاق و في أنفسھم حتى يتبين لھم أنه الحق(( ) – 53فصلت(
و ﷲ يقول عن كالمه:
و يقول عن القرآن:
في البدء كان شيئا كالدخان جاء منه الكون بنجومه و شموسه:
)) يكور الليل على النھار و يكور النھار على الليل – 5) ((..الزمر(
و ھي آية ال يمكن تفسيرھا إال أن نتصور أن األرض كروية و الليل و النھار كنصفي الكرة
ينزلق الواحد منھما على اآلخر بفعل دوران ھذه الكرة المستمر ..بل إن استعمال لفظ )) يكور((
ھو استعمال غريب تماما ..و يفرض علينا ھذالتفسير فرضا:
)) و القمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم(( ) – 39يس(
)) ال الشمس ينبغي لھا أن تدرك القمر و ال الليل سابق النھار و كل في فلك يسبحون(( )- 40
يس(
و الحبك ھي المسارات.
و دحاھا أي جعلھا كالدحية ) البيضة( و ھو ما يوافق أحدث اآلراء الفلكية عن شكل األرض.
و تشبيه الجبل بسحابة ھو تشبيه يقترح على الذھن تكوينا ذريا فضفاضا مخلخال ،و ھو ما عليه
الجبل بالفعل ،فما األشكال الجامدة إال وھم ،و كل شيء يتألف من ذرات في حالة حركة ..و
األرض كلھا بجبالھا في حالة حركة.
و ما يقوله المفسرون القدامى من أن ھذه اآلية تصف ما يحدث يوم القيامة ..ھو تفسير غير
صحيح ألن يوم القيامة ھو يوم اليقين و العيان القاطع و ال يقال في مثل ھذا اليوم )) و ترى
الجبال تحسبھا(( ..فال موجب لشك في ذلك اليوم.
ھذه ھي القيامة بحق ،ال مجال ھنا ألن تنظر العين فتحسب الشيء قائما و ھو ينسف ..فاآلية إذن
وصف لحال الجبال في الدنيا و ال يمكن أن تكون غير ذلك.
)) ألم تر أن ﷲ أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في األرض – 21) ((..الزمر(
و ھو بذلك يشرح دورة المياه الجوفية من السماء إلى سطح األرض إلى جوفھا إلى خزانات
جوفية ثم إلى نافورات و ينابيع تعود إلى سطح األرض من جديد.
)) و إذ قال ربك للمالئكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون(( ) – 28الحجر(
فھو مرة يذكر أن الحياة خلقت من الماء و مرة يذكر أنھا خلقت من تراب ثم يعود فيخصص و
يقول من الطين أو على وجه الدقة الماء المنتن المختمر المختلط بالتراب ..و ھو اتفاق غريب و
دقيق مع اكتشافات العلم بعد ألف و أربعمائة سنة.
)) و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للمالئكة اسجدوا آلدم فسجدوا إال إبليس لم يكن من
الساجدين(( ) – 11األعراف(
و في ھذه اآلية يحدد أن خلق اإلنسان تم على مراحل زمنية
و في مكان آخر:
)) تعرج المالئكة و الروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة(( ) – 4المعارج(
ھذه إذن أيام ﷲ ..و ھي شيء كاآلباد و األحقاب بالنسبة لنا ،فإذا قال ﷲ خلقناكم ثم صورناكم ..ثم
اكتملت الصورة بتخليق آدم فقلنا للمالئكة اسجدوا آلدم ..معنى ھذا أن آدم جاء عبر مراحل من
التخليق و التصوير و التسوية استغرقت ماليين السنين بزماننا و أياما بزمن ﷲ األبدي..
و معناھا أنه كانت ھناك قبل آدم صور و صنوف من الخالئق جاء ھو ذروة لھا.
)) ھل أتى على اإلنسان حين من الدھرلم يكن شيئا مذكورا(( ) – 1اإلنسان(
إشارة إلى مرحلة بائدة من الدھر لم يكن اإلنسان يساوي فيھا شيئا يذكر .و يقول القرآن عن ﷲ
إنه ھو:
ربط وثيق بين أمة اإلنسان و بين أمم الدواب و الطير ثم ربط بين اإلنسان و الحيوان و النبات.
و ھي إشارة صريحة إلى أن اإلنسان لم يخلق من الطين ابتداء ..و إنما خلق من سالالت جاءت
من الطين ..ھناك مرحلة متوسطة بين اإلنسان و الطين ..ھي سالالت عديدة متالحقة كانت
تمھيدا لظھور نوع اإلنسان المتفوق ..ثم يحدثنا القرآن عن تخلق الجنين فيحكي لنا أن خلق العظام
سابق على خلق العضالت:
)) يخلقكم في بطون أمھاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثالث – 6) ((..الزمر(
يكشف لنا الخلق داخل الرحم ،فيصفه بأنه يتم على أطوار ..خلق من بعد خلق ..و أنه يجري
داخل ظلمات ثالث ..و الظلمات الثالث ھي :ظلمة البطن و ظلمة الرحم و ظلمة )الغالف
األمنيوسي( ..كل غرفة منھا داخل األخرى ..و الجنين في قلبھا ،و ھي حقائق تشريحية ..أو ھي
ظلمات األغشية الثالثة التي يتألف منھا الجنين ذاته و ھي حقيقة أخرى.
)) و أنه خلق الزوجين الذكر و األنثى ،من نطفة إذا تمنى(( ) – 46 ،45النجم(
و نعرف اآلن أن الحيوان المنوي الذي يمنى ھو الذي يحدد جنس المولود إن كان ذكرا أو أنثى و
ليس البويضة ،فھو وحده الذي يحتوي على عوامل تحديد الجنس
كيف جاء القرآن بھذه الموافقات التي اتفقت مع نتائج العلوم و البحوث و الجھود المضنية عبر
مئات السنين! ..مصادفة؟!
و كيف يخطر على ذھن نبي أمي مشكالت و قضايا و حقائق ال يعرفھا عصره؟ ..و ال تظھر إال
بعد موته بأكثر من ألف و ثالثمائة سنة؟
و إذا أخذنا بالتفسير الغربي الملحد الذي يرى في ذلك الكالم الذي يجيء على لسان محمد صورة
من نشاط عقل باطن انفتح تماما على الحقيقة المطلقة ..إذا قلنا ھذا فقد اعترفنا اعترافا مھذبا جدا
و علميا بالوحي ..فما الحق المطلق سوى ﷲ و ما االنفتاح على ﷲ و االتصال به إال الوحي
بعينه.
إن القرآن يزودنا بما ھو أكثر من كل ما قاله العلم ..فيطلعنا على بعض الغيب ..على ما حدث في
الملكوت في المأل األعلى عند خلق آدم و كيف أسكنه جنته يأكل منھا رغدا كيف يشاء إال من
شجرة واحدة عينھا له ..و كيف أسجد له المالئكة.
)) إال إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه – 50) ((..الكھف(
و يقول إبليس في كبرياء و غرور مبررا عصيانه لألمر اإللھي بالسجود آلدم:
و إنه سيبلغ بھذه المكابدة إلى مرتبة أعلى من مرتبة الجن و المالئكة ،و يفوز بمواھب و لياقات
أعلى من اإلثنين.
و لكن إبليس في كبريائه و غروره و تجبره فاتته ھذه الحقيقة و لم يذكر إال أنه خلق من نار و أن
آدم خلق من طين و أنه خلق قبل آدم.
و نار السموم ھي النار الصافية بال دخان أو من الطاقة الخالصة ذاتھا ..و ھكذا رفض إبليس
السجود آلدم و خرج من الحضرة الربانية رجيما مطرودا و بدال من أن يرجع إلى ﷲ تائبا آمال
في رحمته و مغفرته ..فإنه يئس تماما من ھذه الرحمة ..و ھذه ھي الخطيئة الثانية ..ثم أضمر
الحقد و العداء و االنتقام من آدم الذي تصور فيه سببا لطرده و ھذه ھي الخطيئة الثالثة ..إنه
الشيطان بعينه الذي يحاول أن يخرج من خطيئة بخطيئة و ينحدر من ھاوية إلى ھاوية.
و ھكذا راح يغري آدم باألكل من الشجرة و يزينھا له و يصورھا بأنھا شجرة الخلود و ھو يعلم
أنھا شجرة الموت.
لقد منح ﷲ آدم الحرية ) إذ نفخ فيه من روحه ( و خيره في أن يختار الدخول في طاعته فيكون
شأنه شأن النجوم في أفالكھا تجري على نواميس ﷲ الموضوعة و تسلم نفسھا لسننه أو يكون
حرا مسئوال فيحمل األمانة.
)) إنا عرضنا األمانة على السماوات و األرض و الجبال فأبين أن يحملنھا و أشفقن منھا و حملھا
اإلنسان إنه كان ظلوما جھوال(( ) – 72األحزاب(
و اإلنسان لم يدرك مخاطر ھذه األمانة لجھله فظلم نفسه بحملھا ،و ألن ﷲ كان يعلم مخاطر حمل
ھذه األمانة ..و كان يعلم أنھا سوف تلقي باإلنسان في مھالك الغرور ..فإنه لطفا منه و رحمة..
أمره بالطاعة و باإلسالم لكلمة ﷲ بأال يأكل من الشجرة لتدوم له الجنة ) جنة الطاعة و اإلسالم
للناموس اإللھي(.
و لكن اإلنسان اختار أن يكون حرا مسئوال و أن يخرج عن األمر اإللھي )بإغراء إبليس( فيأكل
من الشجرة ..و ھكذا وقع عليه التكليف و أصبح محاسبا منذ تلك اللحظة ..و حق عليه العقاب.
و كان العقاب ھو الطرد و اإلھباط من الجنة إلى عالم الكدح و العرق و التعب و المرض و
الموت.
و كان الفرق بين خطيئة آدم و خطيئة الشيطان ..أن آدم رجع إلى ﷲ تائبا طامعا في رحمته و
أصر الشيطان على العصيان يائسا من رحمة ﷲ.
و أسبغ ﷲ عليه رحمته و وعده بھداية نسله ..و أقامه خليفة على األرض يحكم فيھا بإرادته و
عقله.
)) و إذ قال ربك للمالئكة إني جاعل في األرض خليفة قالوا أتجعل فيھا من يفسد فيھا و يسفك
الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك – 30) ((..البقرة(
يقول المالئكة ذلك الكالم ألنھم رأوا ھذا اآلدم و شاھدوا نشأته و مراحل تخليقه من أسالف تسفك
الدم و تتصارع بالمخلب و الناب و لكن ﷲ يقول لھم:
و ھو يعلم أن ذلك اإلنسان قد استحق بھذه النشأة و ھذه الجبلة المتصارعة من الطين و الروح
درجة أرفع من درجة المالئكة .و أنه قد اكتسب لياقات تؤھله للخالفة ..و ھو يكشف ھذه الحقيقة
للمالئكة:
)) و علم آدم األسماء كلھا ثم عرضھم على المالئكة فقال أنبئوني بأسماء ھؤالء إن كنتم صادقين
) (31قالوا سبحانك ال علم لنا إال ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) (32قال يا آدم أنبئھم بأسمائھم
فلما أنبئھم بأسمائھم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات و األرض) (( (33) ..البقرة(
ھا ھو ذا آدم األرضي و قد امتلك لياقات أكبر من لياقات المالئكة ،و نفھم من ھذا أن ﷲ قد جعل
من ھذا اآلدم أول أنبيائه على األرض ..فكلمة )) و علم آدم األسماء كلھا(( ھي بداية الوحي و
التنزيل و التعليم اإللھي.
و من حكاية تعليم ﷲ األسماء آلدم نتعرف على صفة أخرى في العقل البشري أنه معد و مؤھل
لتعلم أسماء األشياء فقط و ليس ماھيتھا و أن العلم البشري ھو علم بالحدود و المقادير و العالقات
الخارجية فقط ،و أنه ال يستطيع أن يدرك كنه شيء ..و ھو أمر ثابت في الفلسفة.
و ﷲ في القرآن )) رب (( بمعنى مرب و راع و معلم و ھاد رؤوف رحيم ودود يعنى بمخلوقاته
و يخلق لھا الحيل و األسباب و يوفر لھا األرزاق.
)) قلنا اھبطوا منھا جميعا فإما يأتينكم مني ھدى فمن تبع ھداي فال خوف عليھم و ال ھم
يحزنون(( ) – 38البقرة(
و يشرح لنا القرآن معنى إتباع اإلنسان لھدى ﷲ ..و ذلك بأن يفطن اإلنسان إلى خطئه و يعود إلى
الجنة التي ضيعھا أبوه ..جنة الطاعة و اإلسالم للنواميس اإللھية ..و ھذ ھي اإلنابة و الرجعة
التي تتكرر في كل صفحة في القرآن ..أن يفطن اإلنسان إلى أنه ال يملك إال ضميره ) قدس
األقداس الذي تركه ﷲ حرا بالفعل ( فيسلمه خالصا و يتجه به مختارا طائعا ..و قد وكل أمر
نفسه إلى خالقه و خضع لنواميسه ..و بذلك يكون أفضل من الجمادات و من النجوم في مداراتھا
التي تسلم نفسھا لسنن ﷲ و قوانينه قھرا و بال اختيار ..على حين يسلم ھو نفسه لربه محبة و
اختيارا و طواعية.
يفعل ھذا و قد أدرك أن مشيئة ﷲ واقعة إن طوعا و إن كرھا ..و أن ﷲ ھو الخالق المھيمن على
جميع األسباب و أنه ھو الوحيد الذي يملك الھداية و العلم و القدرة.
و تعود فتطالعنا آيات أخرى غامضة في القرآن نفھم منھا أننا نحن :ذرية آدم كانت لنا حياة قبل
حياتنا األرضية.
)) و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظھورھم ذريتھم و أشھدھم على أنفسھم ألست بربكم قالوا بلى
شھدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن ھذا غافلين ) (172أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و
كنا ذرية من بعدھم أفتھلكنا بما فعل المبطلون ) (173و كذلك نفصل اآليات و لعلھم يرجعون
) ) (( (174األعراف(
إن ﷲ يفصل لنا في ھذه اآليات واقعة غريبة ..يفھم منھا أننا كنا في حضرة ﷲ قبل النزول إلى
األرحام ) في عالم المثال و الملكوت ( ربما كأرواح أو نفوس ال أحد يدري ..و أن ﷲ أشھدنا
على ربوبيته و أخذ منا ميثاقا بھذا الشھود حتى ال نعود فنكفر و نبرر كفرنا بأننا كنا ضحية
اآلباء.
)) و إذ أخذ ﷲ ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم
لتؤمنن به و لتنصرنه قال أأقررتم و أخذتم على ذلكم إصري ) عھدي ( قالوا أقررنا قال فاشھدوا
و أنا معكم من الشاھدين(( ) – 81آل عمران(
ھا ھم أوالء األنبياء مجموعون ليأخذ ﷲ عليھم ميثاق غليظا بأن يؤيد بعضھم بعضا ..كيف كان
ذلك؟ ..و أين؟ ..و متى؟..
ھي آيات كواشف تشير إلى مرحلة روحية عشناھا في الملكوت قبل النزول إلى األرحام ..و إلى
أنه كان لنا ثمة وجود قبل الميالد كما أن لنا وجود بعد الموت..
و في أسماء ﷲ أنه )) الخالق البارئ المصور (( ..الخالق الذي خلقنا أرواحا و البارئ الذي
أعطانا رخصة الوجود كما يعطي الملك براءة الوسام لحامله ..و المصور الذي صور لنا القوالب
المادية التي نزلنا بھا في األرحام.
و في حديث شريف يشير نبينا محمد – صلى ﷲ عليه و سلم – إلى ھذا الوجود الروحي السابق
للميالد حينما يقول )) :كنت نبيا و آدم يجدل في طينته((.
و يقول ﷲ في القرآن لمحمد:
رب العالمين ) (162ال شريك له و بذلك أمرت )) قل إن صالتي و نسكي و محياي و مماتي
و أنا أول المسلمين ) ) (( (163األنعام(
و ھي كلمات تعني سبق الوجود المحمدي على جميع األنبياء إذ يعتبر القرآن جميع األنبياء
مسلمين و محمد أولھم.
و ھي إشارات تدل على وجود روحي سابق على الميالد كنا فيه في عالم ملكوتي قبل أن ننزل
إلى األرحام.
•••
و السماوات السبع سر ال يفھمه العلم و لكن ھناك أمرا مثيرا للتأمل ..أن يكشف لنا العلم مثال أن
الضوء سبعة ألوان ھي ألوان الطيف و سبع درجات من األطوال الموجية من األحمر إلى
البنفسجي ثم يعود فيتكرر السلم في سبع درجات أخرى من تحت األحمر لفوق البنفسجي ..و
بالمثل السلم الموسيقي سبع درجات ثم تعود الثامنة فتكون جوابا لألولى و ھكذا تتكرر النغمات
سبعات سبعات.
و نعرف أيضا في علم األجنة ..أن الجنين ال يكتمل نموه إال في الشھر السابع ،و أنه إذا ولد قبل
السابع يموت.
و منذ بدأنا نعرف األيام قسمناھا سبعات سبعات ،و عرفنا األسبوع كوحدة زمنية للحساب ..اتفق
الناس من كل األجناس و األديان و األلوان على ذلك منذ الماضي السحيق و التقوا عليه دون أن
يكون بينھم اتفاق مكتوب ..لماذا؟ ..و كيف؟ ال ندري.
ثم نكتشف أخيرا أن درجات الطيف السبعة في ضوء الشمس سببھا نقالت سبعة لإللكترون
عروجا في أفالك سبعة حول نواة ذرة ) اإليدروجين( ..كلما قفز اإللكترون في فلك خارج النواة
أطلق شحنة ھي التي تعطي الطيف المناظر.
و تحدث ھذه القفزات في باطن الشمس ) المكون من غاز اإليدروجين( من فرط الحرارة التي
تتجاوز ماليين الدرجات ..فتنفرط اإللكترونات خارجة من ذراتھا و تطلق الضوء الشمسي
المعروف.
و نفھم من ھذا أن ) اإللكترون( يعرج صاعدا في سبعة أفالك أشبه بالسماوات السبع ..ثم في
عودته ھبوطا من سماء إلى سماء تحتھا ال بد له أن يتخلص من غل من أغالل الطاقة التي
امتصھا ..فتنطلق ھذه الطاقة على شكل حزمة ضوئية من طيف معين ..إلى أن يعطينا األطياف
السبعة للضوء األبيض.
ھل معنى ھذا أننا سوف نكتشف يوما ما أن الوجود مرتب في سبع درجات في جميع حاالته ..و
أن ھناك سلما يكرر نفسه من أسفل سافلين إلى أعلى عليين ..سبع سماوات و سبع أرضين ..مثلما
للضوء سبع درجات و الصوت سبع نغمات و اإللكترون سبعة أفالك ..و إن ما ورد في القرآن
حول الرقم سبعة ) عن جھنم التي لھا سبعة أبواب و عن األرضين السبع و السماوات السبع و
عن سبع سنوات عجاف و سبع بقرات سمان و عن استواء ﷲ على عرشه في اليوم السابع من
أيام الخلق( ..كل ھذه إشارات إلى ھذا السر الخطير من أسرار الكون.
ال شك أن القرآن ھنا يبدو بكل ثقله و خطورته مشيرا إلى مسألة علمية غاية في األھمية.
•••
و مثال ذلك اللمحة العلمية األخرى التي نصادفھا في القرآن حينما نقرأ عن ﷲ عز وجل أنه:
)) إن ﷲ فالق الحب و النوى يخرج الحي من الميت و مخرج الميت من الحي– 95) ((..
األنعام(
و قد فھم منھا المفسرون القدامى انفالق نواة البلحة عند اإلنبات و أنه بھذا تجدد النخلة حياتھا
فتخرج الساق الحي من النوى الميت.
فھل كانت مصادفة أن يكشف لنا العلم التشريحي أن الخلية أيضا تجدد حياتھا بأن تنفلق نواتھا و
أن ھذه ھي الطريقة التي تلد بھا الخلية فتصبح خليتين.
و ھل كانت مصادفة أن يكشف لنا العلم أن الذرة ال تخرج طاقتھا المكنونة إال بانفالق نواتھا
أيضا فيخرج منھا الحي من الميت ) ميالد الطاقة الذرية من المادة الموات(.
•••
و الشيء نفسه حينما تحكي لنا سورة ياسين عن ﷲ:
)) الذي خلق األزواج كلھا مما تنبت األرض و من أنفسھم و مما ال يعلمون(( ) – 36يس(
و نعلم أن ﷲ خلق النبات من زوجين ذكرا و أنثى كما خلقنا من زوجين و الجن من زوجين.
و البروتون و النيوترون.
و الثنائية اإلزدواجية في تركيب األحياء و الجمادات يكشف لنا العلم أسرارھا كل يوم.
•••
و ربما كان أعمق ھذه األسرار ما جاء في القرآن وصفا ليوم القيامة بأن البحار تفجر و تضرم
فيھا النيران:
إنه يقسم بالبحر إذ يفجر و يضرم نارا يوم القيامة بأن العذاب واقع و أنه حق.
و القسم فيه لفت نظري ألھمية الحدث و جسامته ..و قد ظل )) البحر المسجور(( في نظري لغزا
عجيبا حتى وقعت في يدي خريطة لتوزيع األحزمة البركانية و الزلزالية على األرض في أثناء
قراءة عن النشاط البركاني و أسراره .و كانت الخريطة بداية لدوامة من التأمل.
فالمؤلف و ھو العالم الجيولوجي الدكتور ) بو( يقول لنا بالرسم و اإلحصاءات إنه من خمسمائة
بركان و ھي كل ما نعرف من براكين على األرض وجد أن معظم ھذه البراكين تصطف في
حلقة حول المحيط الھادي و في خط بطول البحر المتوسط و خط بحافة األطلسي ..و أعجب من
ھذا أنه وجد أن قاع المحيط الھادي يتكون من البازلت و ھو صخر بركاني ..و معنى ھذا أن
جوف األرض الناري ھو أقرب ما يكون إلى السطح عند قاع المحيط الھادي و البحرالمتوسط و
األطلسي ،و أن ھذه األمكنة تحت الماء تمثل نقاط الضعف في القشرة األرضية حيث يحدث بين
وقت و آخر أن تنفجر البثور البركانية فتقذف بالحمم من جوف األرض الملتھب إلى السطح.
ثم يمضي المؤلف فيحصي لنا عددا من أعظم تلك البراكين التي تشكل حلقة من النيران حول
الماء و تحت الماء يذكر لنا منھا بركان ) فوجياما( و بركان ) مايون( و بركان ) تال( و بركان )
كركاتوا( و بركان ) أورزابا( و بركان ) باريكوتين( و بركان ) كوتوباكسي( و بركان )
شيمبوراز( و البراكين الثالثة ) مونت السن و مونت ھود و مونت رينير( ..ھذا غير جزر
بركانية تقوم وسط المحيط مثل :جزر ) ھاواي( و ھي مجموعة من الجزر شيدتھا البراكين ..و
من أعجب مايراه السائحون فيھا مشھد حفرة ) كيالويا( النارية و يسميھا أھل البالد ) ھاليوما(
أي بيت النار ..و فيھا يمكنك أن ترى رأي العين الحمم المتوھجة و ھي تغلي و تفور و تبصق
نافورات النار على أعماق سحيقة داخل الفوھة.
و بين براكين البحر المتوسط أكبرھا بعد ) فيزوف( ھو بركان ) أتنا( بصقلية و إلى الشمال منه
يقع بركان ) سترمبولي( الذي يثور بصفة مستمرة و يلمع كل ليلة بالضوء األحمر و يسميه
المالحون منارة البحر المتوسط.
و في شرق البحر المتوسط مجموعة أخرى من البراكين من بينھا جبل ) أرارات( ..و في
األطلسي جزر ) الكناري و آزور و كاب فرد( و كلھا جزر بركانية.
ثم تطالعنا اإلحصاءات بحقيقة أخرى دامغة فتقول إن % 80من النشاط الزلزالي يقع ھو اآلخر
في الحزام الذي يحتضن المحيط الھادي و إن معظم الھزات الزلزالية تقع في قاع البحار.
إن ذروة االضطراب البركاني و الزلزالي واقعة إذن حول الماء و تحت الماء حيث جوف
األرض الناري المتأجج بالحرارة قريب من السطح ،ال يحفظه من التفجر إال توازن القشرة
األرضية الدقيق و الجبال الھائلة التي تعمل كثقاالت و أوتاد تحفظ ھذه القشرة في مكانھا ،و
ترسيھا فال تميد فوق بحر النار المضطرب في الداخل.
)) و ألقى في األرض رواسي أن تميد بكم و بث فيھما من كل دابة – 10) (( ..لقمان(
و في مكان آخر يصف الجبال بأنھا أوتاد )) ..و الجبال أوتادا(( ) – 7النبأ( و ھو وصف علمي و
دقيق فھي بالفعل أوتاد..
فإذا جاء وعد اآلخرة و نسفت ھذه الجبال تدفقت حمم النار من نقطة الضعف الكبرى و ھي قيعان
البحار و ألقت األرض بجوفھا الملتھب.
)) إذا زلزلت األرض زلزالھا )(1و أخرجت األرض أثقالھا )) (( (2الزلزلة(
و أضرمت النيران في مياه البحار و المحيطات و كان ذلك )) البحر المسجور(( الذي فجرت
مياھه نارا .و الذي أقسم به الخالق..
و نعلم أن الحرارة في جوف األرض تبلغ ألوف الدرجات ،و أن بطن األرض ھو أتون فوار من
الحديد المنصھر و الحجارة المنصھرة و الحمم ،و لعل ھذا الباطن الناري ھو الجحيم التي يقول
فيھا خالقنا:
و اإلبراز كلمة دقيقة محددة تعني إخراج شيء من حالة بطون إلى حالة ظھور ..من الجوف إلى
السطح.
و لعل ھذا الباطن الفوار ھو أسفل سافلين الذي سوف تتھابط إليه األرواح الكثيفة الظلمانية ..و
ھو تلك النار التي وقودھا الحجارة.
ھي إشارات ..و لمحات ..و كلمات بعيدة الغور ..تلتقي فيھا روعة البالغة بدقة العلم.
و ال يمكن أن يكون ھذا االلتقاء مصادفة ..و أن تكون تلك الموافقات العديدة بين أحدث علوم
العصر و بين كلمات القرآن األزلية ..أمورا عشوائية اعتباطية جاءت مصادفة و اتفاقا.
ملحوظة :يوجد جزء في ھذا الفصل لم تتم طباعته و ھو محاولة من الكاتب للتوصل إلى ماھية
الشجرة المذكورة في القرآن لذا وجب التنويه.
الجنة و الجحيم
كان من أسباب انصرافي عن القرآن في شبابي ما قرأته عن أنھار العسل و أنھار الخمر في
الجنة ..و أنا ال أحب العسل و ال أحب الخمر ..فاعتبرت ھذه سذاجات و انسحب حكمي على
القرآن ثم على الدين كله.
فأنا لم أحاول أن أتفھم النص القرآني و ال أن أعكف حتى على ظاھر عبارته فما بال باطنھا ..و
كنت في عجلة من أمري ..و كان االنصراف غايتي و شھوتي ..و غطت ھذه الشھوة على كل
شيء فضاعت معالم الحقيقة من أمامي ..و فاتتني أمور كانت شديدة الوضوح.
و اآلية تبدأ بأنھا ضرب مثلَ )) .مثَ ُل ْال َجنﱠ ِة الﱠتِي ُو ِع َد ْال ُمتﱠقُونَ (( ..و ليست إيرادا ألوصاف
حرفية .فھذا أمر مستحيل ألن الجنة و الجحيم أمور غيبية بالنسبة لنا ال يمكن تصويرھا في
كلمات من قاموسنا.
تماما كما يسألك الطفل عن اللذة الجنسية ..فتحتار كيف تصفھا له فھي بالنسبة له غيب خارج عن
حدود خبراته تماما .و بعد أن تعجز عن توصيل المعنى إليه تقول على سبيل ضرب المثل و على
سبيل التقريب ..إنھا شيء مثل السكر.
و ما أبعد الفارق بين اللذة الجنسية و بين طعم السكر العادي المبتذل.
و كل أمنية البدوي الذي يعيش في ھجير الصحراء أن يعثر على نبع ماء عذب .فكل ما يجد من
مياه ما ھي إال ينابيع مالحة آسنة.
و كذلك اللبن ..فما أسرع ما يختمرو يتغير طعمه في حر الصحارى ..فيضرب له القرآن المثل
من أعز ما يتمنى.
ضةً فَ َما فَوْ قَ َھا ] (( (26) ..البقرة [ ﷲَ الَ يَ ْستَحْ يِي أَن يَضْ ِر َ
ب َمثَالً ﱠما بَعُو َ )) إِ ﱠن ﱠ
و كل ما جاء عن الجنة و الجحيم ما ھو إال ألوان من ضرب المثال ..و ألوان من التقريب و ألوان
من الرمز.
)) يصنع رب الجنود لجميع الشعوب في ھذا الجبل وليمة سمائن و وليمة خمر و يمسح السيد
الرب الدموع من كل الوجوه ((.
)) و رأيت مساكن الصالحين ..رأيتھم تقطر منھم العطور و تزينھم ضفائر الفاكھة و الريحان ..و
كل من عف عن الشھوات تلقته الحسان في صدر طھور ((.
و لكن القرآن ال يتركنا في ضباب األمثلة فما يلبث أن يقطع بالقول الفصل:
)) فَ َال تَ ْعلَ ُم نَ ْفسٌ ﱠما أُ ْخفِ َي لَھُم ﱢمن قُ ﱠر ِة أَ ْعي ٍُن َجزَاء بِ َما َكانُوا يَعْ َملُونَ ) ] (( (17السجدة [
إنه يحيل القضية كلھا إلى غيب ال يمكن التعبير عنه بلغة األرض.
ُخَوفُ ﱠ
ﷲُ بِ ِه ِعبَا َدهُ يَا ِعبَا ِد فَاتﱠقُ ِ
ون )(( (16 ار َو ِمن تَحْ تِ ِھ ْم ظُلَ ٌل َذلِكَ ي ﱢ
)) لَھُم ﱢمن فَوْ قِ ِھ ْم ظُلَ ٌل ﱢمنَ النﱠ ِ
] الزمر [
ھا ھو ذا يبين لنا حقيقة جديدة ..فيقول إنه يورد األلفاظ للتخويف .و لكنه ليس تخويفا على غير
أساس.
إنه مثل تخويفك البنك حين تحذره من إھمال نظافة أسنانه و تقول له :إذا لم تنظف أسنانك
بالفرشاة فإن السوس سوف يأكل أسنانك ..تقول ذلك محبة منك و رحمة لطفلك.
و بالطبع ..السوس لن يأكل أسنانه ..إنما ھي ميكروبات و فيروسات غير مرئية.
و لكن التخويف كان على أساس ..ألن ما سوف يحدث له إذا أھمل نظافة أسنانه سيكون ألعن من
أكل السوس.
و من جرب اآلالم الرھيبة لضرس مسوس ..يعرف أنھا أسوأ من كل ما سمع من تحذيرات.
إنه تخويف العزيز الرحيم من شيء سوف يحدث بالفعل و سيكون أسوأ من جميع ما قيل و كتب..
مما ال عين رأت و ال أذن سمعت و ال خطر على قلب بشر.
أال يتنافى مع رحمة ﷲ و مع عظمته أن يعذب ..و يعذب من ! ..إنسانا مسكينا ال يساوي ذرة أو
ھباء في مملكة ﷲ الالنھائية.
و ھو اعتراض كان يشغلني دائما و كان يصرفني دائما عن قبول فكرة العذاب و بالتالي عن
القرآن و عن الدين كله.
و ﷲ بالفعل ال يعذب.
و لو أنه ساوى في آخرته بين ظالم و مظلوم ..و بين قتيل و القاتل الذي قتله ..لو أنه فعل ذلك
بحجة الرحمة لكان أبعد ما يمكن عن الرحمة ..و عن العدل ..فالمساواة بين غير المتساويين ظلم
فادح ..تعالى ﷲ عن أن يقع فيه.
ثم ھي الفوضى أن يكون األبيض في عين ﷲ كاألسود ،و األعمى كالبصير ،و الميت كالحي ،و
الذي يسمع كمن ال يسمع.
تأمل كل جزئية في الكون تكشف لك عن النظام المحكم و القانون الذي ال يفوته واحد من ألف من
المليجرام.
و حركة إليكترون من مدار إلى مدار في داخل الذرة ال تتم إال بحساب ،فھو ال بد أن يعطي
حزمة من الطاقة ليقفز إلى الخارج قفزة مساوية ،و ال بد له أن يمتص حزمة أخرى ليقفز إلى
الداخل قفزة مساوية ..إنه محاسب في حركاته ..و ھو إليكترون ..فما بال اإلنسان العاقل و ھو
بالنسبة لإلليكترون كالمجرة و الفلك بالنسبة لإلنسان ..و قد نفخ ﷲ فيه من روحه فھو شيء
عظيم ..و ليس في ھوان الذرة و ال اإلليكترون.
ثم ما معنى أن يموت مظلوما و ظالما فيصبح ترابا بال بعث و يذھب ما حصله من خير و شر و
علم و حكمة سدى.
وت َونَحْ يَا َو َما يُ ْھلِ ُكنَا إِ ﱠال ال ﱠد ْھ ُر َو َما لَھُم بِ َذلِكَ ِم ْن ِع ْل ٍم إِ ْن ھُ ْم إِ ﱠال
)) َوقَالُوا َما ِھ َي إِ ﱠال َحيَاتُنَا ال ﱡد ْنيَا نَ ُم ُ
يَظُنﱡونَ ) ] (( (24الجاثية [
و العقل المتأمل ال يقول ھذا أبدا .إنه ليتفكر في خلق الكون و نواميس الفلك المحكمة و يھتف من
أعماقه:
مستحيل أن ينتھي كل ھذا إلى باطل ..ال بد أن ھناك استمرار بطريقة ما ..و ال بد أن يتضح لنا
الحكمة من كل ھذا في ميقاتھا.
إتھا قضية عدالة و قضية منطق و ليست قضية تعذيب لھدف التعذيب ،و الذي سوف يحدث لنا
بعد البعث ھو أن كل واحد ستالزمه رتبته و درجته التي حصلھا في الدنيا ال أكثر.
من عاش حيوانا ال ھم له إال أن يأكل و يضاجع فھو في الحياة الثانية له رتبة الحيوان أو الرتبة
السفلى بالنسبة لغيره ممن عاشوا يتأملون و يعقلون.
اآلخ َر ِة أَ ْع َمى َوأَ َ
ضلﱡ َسبِيالً ) ] (( (72اإلسراء [ )) َو َمن َكانَ فِي ھَ ِذ ِه أَ ْع َمى فَھ َُو فِي ِ
و في اآلخرة تتزايد الفروق و تتضاعف ..فما بين اثنين سوف يكون أكثر بمراحل من فارق
الدرجة بين حيوان و إنسان.
ت َوأَ ْكبَ ُر تَ ْف ِ
ضيالً ) ] (( (21اإلسراء آلخ َرة ُ أَ ْكبَ ُر د ََر َجا ٍ
ْض َولَ ِ )) انظُرْ َك ْيفَ فَض ْﱠلنَا بَع َ
ْضھُ ْم َعلَى بَع ٍ
[
صغَا ٌر ِعن َد ّ
ﷲِ ] (( (124) ..األنعام [ ُصيبُ الﱠ ِذينَ أَجْ َر ُم ْ
وا َ )) َسي ِ
إن ھذا الصغار سيعذب و يحرق ..ألنه سيكون حسرة على صاحبه حينما يرى مكانته و مكانة
اآلخرين و مقدار ما خسر و مقدار ما كسبوا.
)) َربﱠنَا إِنﱠكَ َمن تُ ْد ِخ ِل النﱠا َر فَقَ ْد أَ ْخزَ ْيتَه ُ ] (( (192) ..آل عمران [
و كما يصف اإلنجيل ھذا العالم اآلخر )) عالم البكاء و صرير األسنان (( .المجرم فيه يصر على
أسنانه ندما على ما يرى من ھوان شأنه أمام الدرجات العالية التي أصابھا اآلخرون .و يصف
القرآن أھل الجنة في تلك الدرجات بأنھم المقربون .المقربون من ﷲ ..من الحق.
و يروي لنا أن ﷲ يكلمھم و ينظر إليھم و أنھم على أسرة الملك متقابلون قد نزع ﷲ ما في قلوبھم
من غل فأصبحوا إخوانا متحابين.
و يصف الجنة بأنھا دار السالم ..و أنه ال حرب فيھا و ال كذب و ال لغو و ال سباب.
و بعد أن يستطرد في اآلية الثانية و السبعين من سورة التوبة في وصف الجنات التي تجري من
تحتھا األنھار و المساكن الطيبة في جنات عدن يختم اآلية قائال:
ﷲِ أَ ْك َب ُر ) ] (( (72التوبة [
ان ﱢمنَ ّ
)) َو ِرضْ َو ٌ
و المعنى واضح ..إن مقام الرضا ..رضا ﷲ أعظم من كل تلك اللذات المادية.
ثم يتأكد المعنى من ھذه اآلية في سورة اإلسراء التي توصي بالتھجد في الليل.
)) َو ِمنَ اللﱠ ْي ِل فَتَھَ ﱠج ْد بِ ِه نَافِلَةً لﱠكَ َع َسى أَن يَ ْب َعثَكَ َر ﱡبكَ َمقَا ًما ﱠمحْ ُمودًا ) ] (( (79اإلسراء [
إنھا إذن مسألة مقامات .كل واحد يبعث على رتبته و مقامه.
ﷲ ال يعذب للعذاب.
و إنما يأتي العذاب و احتراق الصدر من إحساس من ھم في أسافل الدرجات بالغيرة و الحسد و
الھوان و الخسران األبدي الذي ال مخرج منه ..و سوف يحرق ھذا اإلحساس الصدور كما
تحرقھا النار و أكثر ..و سوف يكون ھو النكال و التنكيل ..ينكل الواحد منا بنفسه بالدرجة التي
وضع نفسه فيھا و التي انحدر إليھا بأعماله في الدنيا.
و مما يدل على أن النار في اآلخرة ھي غير ما نعرف من نارنا ھذه اآليات من سورة األعراف:
ت ِمن قَ ْبلِ ُكم ﱢمن ْال ِجنﱢ وا فِي أُ َم ٍم قَ ْد خَ لَ ْ وا كَافِ ِرينَ ) (37قَا َل ا ْد ُخل ُ ْ ُوا َعلَى أَنفُ ِس ِھ ْم أَنﱠھُ ْم كَانُ ْ )) َو َش ِھد ْ
وا فِيھَا َج ِميعًا ) حتى إذا أدرك بعضھم ار ُك ْ َت أُ ْختَھَا َحتﱠى إِ َذا ا ﱠد َ
ت أُ ﱠمةٌ لﱠ َعن ْ ار ُكلﱠ َما َدخَ لَ ْ
نس فِي النﱠ ِ اإل َِو ِ
ضع ٌ
ْف ِ لﱟ ُ
ك ل
ِ َ ِل اَ ق ار ﱠ نال م
ﱢ نَ اً فع ْ ض
ِ ًا ب ا َ
ذ ع م
ِ ِْ َ ھت آَ ف َا
ن وﱡ
ل ض
َ َ أ ُالءؤ َ ھ َا نﱠ ب ر ُم
ْ َ ھ َ ال وُ أل ُم
َ ْھ ار ْ
خ ُ أ ْ
ت َ لاَ ق ( ضا بع
َولَ ِكن ال ﱠ تَ ْع َل ُمونَ ) ] (( (38األعراف [
إنه حوار و مكالمة في النار تجرى بين المعذبين ..و في مثل نارنا ال يمكن أن يجرى حوار بين
اثنين يحترقان.
إن أمامنا اثنين يتعذب الواحد منھما ضعف اآلخر مع أنھما في المكان نفسه ،و معنى ھذا أن
العذاب في الشخص و ليس في المكان ذاته ..و ھذا ال ينفي أن يكون العذاب المذكور حسيا ،بل
إنه من الممكن أن يكون معنويا و حسيا في نفس الوقت ) كما يحدث أن يتعرض اثنان للحر
الالفح فيصاب أحدھما بالصداع على حين يتحمل اآلخر بسبب اختالف درجات اللياقة عند
اإلثنين ( و الصداع ألم حسي و معنوي.
و يروي القرآن عن أھل الجنة و كيف أنھم يتذكرون و ھم يأكلون فاكھة الجنة أنھم قد رزقوا
أنواع ھذه الفاكھة حينما كانوا على األرض ) مع الفارق في الجودة (.
و كيف أن لھم زوجات في الجنة و لكنھن زوجات مطھرات ) لسن كزوجات األرض يعانين
الحيض و المخاض شكسات غيورات متسلطات (.
و الجنة بھذه الصورة ھي درجة و مقام ..فيھا كل ما نعرف على األرض و لكن مع تفاوت ھائل
في الرتبة ..تفاوت يفوق التصور ..تفاوت مثل التفاوت بين الزمن و األبد و مثل التفاوت الذي
ذكرناه بين طعم قطعة السكر و طعم اللذة الجنسية الحادة بالنسبة لبالغ.
و إذا ذكر العسل في مثل ھذه الجنة فھو عسل و لكم ال كما نعرف من عسل ،و اللبن ھو اللبن و
لكن ال كما نعرف من لبن ،و النساء ال كما نعرف من نساء.
إنھا ستكون أشياء مدھشة كالغيب بالنسبة لما نعلم ..يقول الشاعر عن امرأة يحبھا إن جسمھا
يضيء كأنھا صيغت من النور ..إنھا أحالم يمكن أن تكون ھناك حقائق.
و بالمثل ما يروي القرآن عن النار ..فھي نار ال كما نعرف من نار ..نار تنبت فيھا شجرة لھا
ثمر ) شجرة الزقوم ( ..و فيھا ماء حميم يشربه أھلھا ..و المعذبون فيھا يتكلمون و يتحاورون
فأجسادھم ال يمكن أن تكون لھا نفس كيمياء األجساد كما نعلمھا و إال لتبخرت دخانا في لحظات و
لما استطاعوا أن يتبادلوا كلمة.
و معنى ھذا أننا سوف نبعث أجسادا و لكن ال كاألجساد ..ربما كيانات لھا ذات الھيئة و الصورة
و لكن من مادة مختلفة ھي بالنسبة لنا غيب ..إنھا لن تكون األجساد الترابية التي نتكون منھا اآلن
في حياتنا األرضية.
كما تتضاعف درجات العذاب حسيا و معنويا عما نعلم و كما يتوزع الناس مراتب و درجات
بحسب لياقتھم ..تكون لكل مرتبة مواصفاتھا الحياتية التي تكفل لمن فيھا حظوظا من السعادة أو
الشقاء كل حسب قدره ،و أتصور أن أعلى الناس قدرا في الجنة ھم الذين سيرتفعون عن متع
الحواس و جنة الحواس و يختار لھم الرحمن درجة الحياة الروحية الخالصة إلى جواره في سدرة
المنتھى ،حيث ال تكون اللذة ھي لذة طعام و ال لذة شراب و ال لذة حور عين و إنما لذة النظر إلى
ﷲ في كماله و لذة تأمل الحق و الجمال و صورة الخير المطلق.
و ھكذا تشتمل الجنة على جميع الدرجات من المتع الحسية من مأكل و مشرب ارتفاعا حتى المتع
الروحية الخالصة ينال كل منا ما تؤھله له رتبته.
كل ھذه آيات كواشف ذات داللة تدلنا على أن النار ليست ھي نارنا و ال الجنة ھي سوق الخضار
و ال ﷲ ھو الباطش اإلرھابي.
و إنما ﷲ سوف يبعث كل واحد على رتبته و مقامه و درجته ،ألن ھذا عين العدل و ھو العادل.
و إنما سوف يتأتى العذاب من تفاوت الرتب تفاوتا عظيما ،ثم بالسقوط في تقييم أبدي ال مخرج
منه يلزم صاحبه كما تلزم اإلصبع بصمتھا.
)) َك ﱠال لَوْ تَعْ لَ ُمونَ ِع ْل َم ْاليَقِي ِن ) (5لَتَ َر ُو ﱠن ْال َج ِحي َم ) (6ثُ ﱠم لَت ََر ُونﱠھَا َع ْينَ ْاليَقِي ِن ) ] (( (7التكاثر [
و ألن ﷲ يعلم أن ھذا العذاب سوف يكون رھيبا ..فقد حذرنا و خوفنا باأللفاظ المجلجلة و أرسل
لنا األنبياء مبشرين منذرين مؤيدين بالمعجزات و الخوارق و اآليات و الكتب ..فعل ذلك رحمة
منه و حنانا و عطفا ..و ھو القائل في حديثه القدسي )) :سبقت رحمتي غضبي ((.
و في سورة الفاتحة يصف نفسه أوال بأنه الرحمن الرحيم قبل أن يقول مالك يوم الدين ..و ھو يوم
الحساب ..يوم الغضب ..يوم يحق القول على العالمين بال رجعة.
و ألنه رحيم فقد فتح باب التوبة و إصالح الخطأ على مصراعيه.
أن تتذكر أن ھناك قوة إلھية و أن يشخص ھذا المعنى في ذاكرتك و في أفعالك على الدوام..
ينجيك و يحقق لك شرط المؤمن و يكون أفضل من صالة المصلي الذي ليس في قلبه ذكر.
و كلمة )) الذكر (( في القرآن كلمة عميقة المعنى و الداللة .فالقرآن نفسه اسمه ذكر ،و التدين و
اإليمان ھو مجرد تذكر:
)) َولَقَ ْد يَسﱠرْ نَا ْالقُرْ آنَ لِل ﱢذ ْك ِر فَھَلْ ِمن ﱡم ﱠد ِك ٍر ) ] (( (17القمر [
فالطفل ال يتعلم أن ) ( 4 = 2 + 2و إنما ھو فقط يتذكر حقيقة باطنة في روحه ،ولد بھا.
و بالمثل اإلحساس بالجمال و الطرب ھو نوع من التذكر المبھم لعالم القدس و ما فيه ..عالم
الملكوت الذي كنا فيه قبل النزول إلى األرحام.
و لھذا السبب فإن جمال المرأة مثال ھو جمال زائر و ليس جماال مقيما ألنه ليس جمالھا ھي ..و
إنما ھو ظل ينعكس عليھا من الملكوت ..ثم ما يلبث أن يفارقھا حينما يتغلب قانون المادة و
الشيخوخة و التراب.
و اآلية تروي ما كان في الغيب قبل الميالد و قبل النزول إلى الدنيا.
و كل الخالئق مما خلق ﷲ و يخلق و سيخلق مثل الذر في كفه ينظر إليھم و يشھدھم على
أنفسھم ..ألست بربكم ..فيقولون بلى شھدنا ..و ھو بھذا يأخذ عليھم ميثاقا غليظا ألنه يعلم أنه بعد
الھبوط في األرحام و انسدال حجاب اللحم الكثيف و نزول غشاوة الحواس و الشھوات و الغرائز
و األھواء أنھم سوف ينسون تماما ..و سوف يتخبطون في نكران وكفر و جھالة.
ألن اتصال الوجود الدنيوي بالتذكر بالوجود الملكوتي األول ثم بالوجود األخروي ..ھو فطنة
اإلنسان إلى حياته بكاملھا .و ھي الحياة كل الحياة.
و ﷲ ليس بحاجة إلى صالتنا و ال إلى صيامنا و لكن نحن المحتاجون ..لعلنا في صالتنا العميقة
نتذكر و لعلنا بالعبادة و التوجه نتصل بنبع وجودنا ..و نستمد منه حياتنا.
إن الصالة و العبادة استمداد .نحن الذين نحتاج إليھا لتكون لنا حياة .و ليس ﷲ ..ألن ﷲ ھو الحي
بذاته المستغني بوجوده عن كل شيء.
أما نحن فال يمكن أن تكون لنا حياة إال بمدد منه ..من ﷲ ..الحي الذي به الحياة.
و نفھم من ھذا أن ﷲ فرض الفروض ووضع شرائع العبادات من أجلنا و ليس من أجل أن يشعر
بألوھيته .فھو في غنى عنا ..و في غنى عن أن يعذبنا ..و في غنى عن أن يطلب منا طلبا أو
يفرض علينا فرضا.
)) ﱠما يَ ْف َع ُل ّ
ﷲ ُ بِ َع َذابِ ُك ْم إِن َشكَرْ تُ ْم َوآ َمنتُ ْم ] (( (147) ..النساء [
و ھو بالفعل ال يفرض علينا فرضا و ال يطالبنا بطلب و ال يقيم علينا عذابا ،كل ھذا يبدو من
ظاھر العبارات فقط .أما باطن القرآن الذي يكشف نفسه لكل من جاھد في الفھم ،إن ﷲ ھو
الرحيم مطلق الرحمة ،العادل مطلق العدل الذي يعطي مطلق العطاء و ال يأخذ شيئا و ال يحتاج
لشيء.
إنھا محاوالت إليقاظ العقل الغافل لعله يتذكر و يرجع و ينجو بنفسه من عذاب أكبر في الطريق.
عذاب لن يكون منه مخرج و ال مھرب .حينما تحق على كل واحد رتبته و درجته.
و نفھم من القرآن أن سنة ﷲ أن يوقظ الغافلين في األرض فيبتليھم بكل صنوف البؤس و المرض
و العذاب لعلھم يفطنون إلى ما في الدنيا من زوال و ما وراءھا من حقيقة باقية ..يفعل ھذا رحمة
بھم و ألنه يعلم ما ينتظرھم من ناموس عادل لن يلطف بھم ..حتى إذا نفذت فيھم كل ھذه اآلالم
الدنيوية و لم يتيقظوا ..فتح ﷲ عليھم أبواب كنوزه ليتمتعوا ..و حقت عليھم كلمته بالھالك في
اآلخرة.
َض ﱠر ُعونَ ) (42فَلَوْ ال إِ ْذ ضرﱠاء َل َعلﱠھُ ْم يَت َ خَذنَاھُ ْم بِ ْالبَأْ َساء َوال ﱠ
)) َولَقَ ْد أَرْ َسلنَآ إِلَى أُ َم ٍم ﱢمن قَ ْبلِكَ فَأَ ْ
وا يَ ْع َملُونَ ) (43فَلَ ﱠما نَس ْ
ُوا َما طانُ َما َكانُ ْ ش ْي َت قُلُوبُھُ ْم َو َزيﱠنَ لَھُ ُم ال ﱠ َض ﱠرع ْ
ُوا َولَ ِكن قَ َس ْ َجاءھُ ْم بَأْ ُسنَا ت َ
وا أَ ْ
خَذنَاھُم بَ ْغتَةً َفإِ َذا ھُم ﱡم ْبلِسُونَ ُوا ِب َما أُوتُ ْ
اب ُك ﱢل َش ْي ٍء َحتﱠى إِ َذا فَ ِرح ْ ُوا بِ ِه فَتَحْ نَا َعلَ ْي ِھ ْم أَب َْو َ
ُذ ﱢكر ْ
) ] (( (44األنعام [
فليس الخير الظاھر في الدنيا و النعمة الغامرة بعالمة رضا ﷲ في جميع األحوال ..و ال عذاب
الدنيا و بالئھا بعالمة غضب ﷲ في كل حال ..فقد يكون الخير غضبا و قد يكون البالء لطفا ..و
ال يكشف لك عن الحقيقة إال صوت ضميرك ..إذا رأيت البالء يطھرك فھو نعمة ..و إذا رأيت
النعمة تطغيك فھي غضب.
إنه جھل و إصرار على الجھل ال وسيلة لعالجه ..ال األنبياء و ال المعجزات و ال الخوارق و
اآليات ..و ال حتى مرورھم على الجحيم بكاف لردھم إلى معرفة.
و من ھنا يبدو البقاء في الجحيم رحمة ،فھو بالنسبة لبعض الجبارين الوسيلة الوحيدة إلى المعرفة
و التقويم.
إن ﷲ رحيم دائما حتى في جحيمه ..و لھذا سمى نفسه )) الرحمن (( ..أي الرحيم مطلق الرحمة
في جميع األحوال لمن يستحق و من ال يستحق ..يرحم من يستحق بالجنة و يرحم من ال يستحق
بالجحيم ..فالجحيم كما رأينا ھو تعريف لمن ال يعرف و لمن فشلت معه كل وسائل التعريف فھو
نوع من الرحمة ..و لھذا يقول في أجمل آياته:
)) َع َذابِي أُ ِ
صيبُ بِ ِه َم ْن أَ َشاء َو َرحْ َمتِي َو ِس َع ْ
ت ُك ﱠل َش ْي ٍء ] (( (156) ..األعراف [
فأدخل عذابه ضمن رحمته التي وسعت كل شيء ،و يفسر لنا الحساب فيقول:
و الحساب ھنا يبدو أنه حساب النفس للنفس و تنكيل النفس بالنفس و مواجھة النفس للنفس.
لقد لزم كل واحد عمله كظله و ال خالص ..و حق القول ..و نفذ العدل األزلي.
و لكن ھذه المعاني تضيع في النظرة المتعجلة و القراءة السطحية و الوقوف عند الحروف و عند
جلجلة األلفاظ.
و األلفاظ التي وصف ﷲ بھا القيامة كلھا ألفاظ رھيبة ذات جلجلة و صلصلة ..تقرع اآلذان
كاألجراس ،فھي الساعة ،و الواقعة ،و القارعة ،و الزلزلة ،و الدمدمة ،و الغاشية ،و الراجفة ،و
الرادفة ،و الزجرة ،و السكرة ،و الطامة ،و الحاقة ،و الصاخة.
إنه لفظ يخرق طبلة األذن ..ألن ﷲ علم أن الواحد منا في ھذه الدنيا تتخطفه الشھوات و تبرق في
عينيه المطامع فھو ال يعقل ..و ھو أصم ال يسمع.
فھتف في أذنه بھذه الكلمة ..التي تكاد تخرق السمع من فرط ارتفاع ذبذبتھا ليوقظه:
ت الصﱠا ﱠخةُ ) (33يَوْ َم يَفِرﱡ ْال َمرْ ُء ِم ْن أَ ِخي ِه )َ (34وأُ ﱢم ِه َوأَبِي ِه ) ] (( (35عبس [
)) فَإِ َذا َجاء ِ
و ما العذاب إال لزوم ما يلزم و حلول الصفة بموصوفھا و انتظام األرواح في سلم درجاتھا الحق
و انسدال الستار على ھذا العالم الذي يتبارى فيه الناس على نوال ما ال يستحقون.
و نعطي مثال لھذا التفاوت في الرتب فيما يشعر به كل منا في حياته الخاصة ..من تفاوت
المستويات التي يمكن أن يعيش فيھا ..ال نقصد مستويات الدخل ..و إنما نقصد شيئا أعمق ..نقصد
المستويات الوجودية ذاتھا.
فالواحد منا يمكن أن يعيش على مستوى متطلبات جسده ،كل ھمه أن يأكل و يشرب و يضاجع
كالبھيمة.
و يمكن أن يسكت ذلك السعار الجسدي ليستسلم لسعار آخر ھو سعار النفس بين غيرة و حسد و
غضب و شماتة و رغبة في السيطرة و جوع للظھور و تعطش للشھرة و استئثار ألسباب القوة
بتكديس األموال و الممتلكات و تربص الصطياد المناصب.
و أكثر الناس ال يرتفعون عن ھذه الدرجة و يموتون عليھا و ال يكون العقل عندھم إال وسيلة
احتيال لبلوغ ھذه االسباب.
و الحياة بالنسبة لھذه الكثرة من الناس غابة و الشعور الطبيعي ھو العدوان و تنازع البقاء و
الصراع ..و الھدف ھو التھام كل ما يمكن التھامه و انتھاز ما يمكن انتھازه ..و الواحد منھم تجده
يتأرجح كالبندول من لھيب رغبة إلى لھيب رغبة أخرى ..يسلمه مطمع إلى مطمع و ھو في
ضرام من ھذه الرغبات ال ينتھي.
و ھناك قلة قليلة تكتشف زيف ھذه الحياة و تصحو على إدراك واضح بأن ھذا اللون من الحياة
عبودية ال حرية ..و أنھا كانت حياة أشبه بالسخرة و األشغال الشاقة خضوعا لغرائز ھمجية ال
تشبع و أطماع ال مضمون لھا و ال معنى و ال قيمة ..كلھا إلى زوال.
فتبدأ ھذه القلة القليلة في إسكات ھذا الصوت و في تكبيل ھذه النفس الھائجة ،و قد اكتشفت أنھا
حجاب على الرؤية و تشويش على الفھم.
و ھكذا ترتفع ھذه القلة القليلة في الرتبة لتعيش بمنطق آخر ..ھو أن تعطي ال أن تأخذ ..و تحب ال
أن تكره ..و تصبح ھموم ھذه القلة ھي إدراك الحقيقة.
و على ھذه القلة تنزل سكينة القلب فيتذكر الواحد منھم ماضيه حينما كان عبدا لسعار نفسه و كأنه
خارج من جحيم !
و مثل ھؤالء يموتون و قد انعتقوا من وھم النفس و الجسد و بلغوا خالصھم الروحي و أيقنوا
حقيقة ذواتھم كأرواح كانت تبتلى في تجربة.
و ما أشبه الجسد – في الرتبة – بالتراب ..و النفس بالنار و الروح بالنور و ھي مجرد ألفاظ
للتقريب ..و لكنھا تكشف لنا أن حكاية الرتب ھي حكاية حقيقية ..و أن كل من يموت على رتبة
يبعث عليھا و أن ھذا ھو عين العدل و ليس تجبرا ..و قد يكون العذاب فوق الوصف إذا تجردت
النفوس من أجسادھا الترابية و لم يبق منھا إال سعار خالص و جوع بحت و اضطرام مطلق
برغبات ال ترتوي ثم عدوان بين نفوس شرسة ال ھدنة بينھا و ال سالم و ال مصالحة إلى األبد..
على عكس أرواح تتعايش في محبة و تتأمل الحق في عالم ملكوتي.
أكاد أجزم بأن ألفاظ القرآن بما فيھا من جلجلة و صلصلة حينما تصف الجحيم إنما ھي نذير
حقيقي بعذاب فوق التصور و سوف نعذبه ألنفسنا بأنفسنا عدال و صدقا على رتبة استحقھا كل
منا بعمله ..و أكاد أضع يدي على الحقيقة ..ال ريب فيھا.
)) يا داود أبلغ أھل أرضي أني حبيب لمن أحبني و جليس لمن جالسني و صاحب لمن صاحبني
و مختار لمن اختارني ..و مطيع لمن أطاعني ..من طلبني بالحق وجدني و من طلب غيري لم
يجدني ((.
إذا لم نفھم ھذه الحقيقة الجوھرية فسوف نتوه في حرفيات ال آخر لھا و تضيع منا روح القرآن
كلية.
لو أخذنا اآلية بظاھر حروفھا دون أن نحاول أن نتدبر حكمتھا سوف يخيل لنا أن فيھا تضييقا
علينا بدون مبرر ..كيف يخلق لنا ﷲ العيون و النواظر ثم يقول لنا ال تنظروا ..كيف يخلق لنا
الجمال ثم يقول غضوا البصر.
و لو تدبرنا اآلية الكتشفنا أن ھذا األمر ھو غاية الرحمة و غاية اللطف و أنه استنقاذ لإلنسان من
العبودية و من األغالل و ليس استبدادا به أو تضييقا عليه.
فالنظر ھو السبيل إلى التعلق ..و التعلق حبس ..و العين إذا نظرت إلى الوجه الجميل سُجنت فيه
و سجنت معه نفسھا ..و ﷲ يريد لنا الحرية و االنعتاق ،و ال انعتاق إال بأن نتجاوز المحسوسات
الجميلة ناظرين إلى خالقھا و بھذا ترفعنا نظرتنا إلى مقام القرب و المعية مع ﷲ و ھو مقام
الحرية المطلقة..
و ما خلق لنا ﷲ اإلغراء الدنيوي إال ليختبرنا ..ھل سنتصرف بالفطرة السليمة فنتجه بذوقنا
السليم إلى الجمال األعظم إلى جمال ﷲ و وجھه أو سنقف عند الجمال الحسي األصغر و نلتصق
به و نسجن أنفسنا فيه مدللين بذلك على فساد ذوقنا و انحراف فطرتنا.
إنھا نظرة ما تلبث أن تعقبھا رغبة ثم شھوة ثم مشروع إلشباع تلك الشھوة و امتالك تلك المرأة
أو ھذا الصدر أو ھذا الظھر.
و تتخطف العقل الشھوات فيفقد اإلنسان ھدفه و ينسى وجھته و يتشتت و يأخذ سبيله وراء ھذا
الصدر العريان و ينسى المشوار الذي كان يسعى إليه.
مثل ھذا اإلنسان قد فقد حريته و ھبط من ذروة إنسانية إلى حالة أشبه بحالة كلب يتشمم ..و إلى
عبد أسير ال يعرف لنفسه خالصا من ھاتين الساقين أو ھذا الظھر ..و إلى عقل مغلول في الشھوة
يفكر في اللھط و يسيل لعابه و تخرج عيناه من محجريھما جموحا و شھوة و يفقد السيطرة على
نفسه و ينسى المصلحة التي جاءت به إلى المكان ..و تجري رجاله المرتعشتان وراء اللحم
األبيض ..ال يعرف كيف يحكمھا.
مثل ھذه الحالة من الھبوط قد تنتھي بصاحبھا إلى صفعة على صدغه تفيقه أو إلى محضر في
بوليس اآلداب ..أو إلى قصة تبدأ بدقائق لذيذة ثم تنتھي بحادث نشل أو إلى عالقة جنسية تنتھي
إلى مستشفى الحوض المرصود لعالج مرض سري مزمن.
و الذوق السليم ينفر بالفطرة و يعف عن مثل ھذا التحديق ..ألنه ضرر.
و لھذا أمر القرآن المرأة المؤمنة بأن تدني عليھا جلبابھا ابتعادا عن مزالق اإلثارة و االستثارة.
و من ھنا كان البد من غض البصر تفاديا للضرر ..و إشفاقا من العواقب و وقاية من ضعفنا
الطبيعي المركب في أجسادنا..
و إنما ھو أيضا غض للبصر عما في يد الناس من مال و نعمة ،و ھو الحياء و الترفع عن النزول
بالنفس إلى مواطن الشھوة و الحسد و الحقد و الغيرة.
و من أكبر الذنوب عند ﷲ التعصب ..أن تتعصب لنفسك أو عائلتك ..و أن تميل مع الھوى ..و
تأخذ حمية من العنصرية و كبرياء العرق و الجنس.
و المتعصب إنسان يعبد نفسه ..يعبد فھمه المحدود و ليس ﷲ فھو مشرك .و جوھر الدين ھو أن
تتجاوز نفسك و تتخطاھا و تنكرھا و تكبح شھواتك و تلجم أھواءك و تتحرر من أطماعك و
تطلعاتك و تتخلص من غرورك و كبرك و عنادك ..فكل ھذه أغالل و الدين يحرمھا ليخلصك من
أسرھا.
و الشرك ليس فقط عبادة األصنام فھذا لون قديم ساذج من الشرك انتھى أمره.
أن تتخذ نفسك صنما ..أن تعبد رأيك و ھواك و مصلحتك فال يشغلك إال نفسك.
و سوف نعود إلى ميزان الحرام و الحالل ..و نقول :و ما الضرر ؟ ما الضرر في أن يعبد
اإلنسان نفسه و ال يرى غير مصلحته ؟
و الضرر واضح بيّن ..فلن تكون حياة مثل ھذا اإلنسان حياة.
سوف يقضي حياته في سجن من المرايا كلما تطلع إلى جدار لم ير فيه إال صورته.
سوف يكذب و يسرق و يقتل و يستغل ..و لن تصل إلى أذنيه آالم اآلخرين ألنه ال يرى إال نفسه
و ما يكسب و ما يربح و ما يرفع من عقار و ما يقتني من أرض و ما يكدس من مال.
سوف تصبح نفسه حجابا بينه و بين ﷲ و حجابا بينه و بين الحقيقة ،و حجابا بينه و بين العدل.
و ما السد الذي بين يديك و من خلفك و محيط بك لدرجة تحول بينك و بين اإلبصار كأنه غشاوة..
إال نفسك.
يقول لك )) ..و ما أدراك ما العقبة (( ليحضك على التساؤل و التفكير في تلك العقبة فأمرھا
يغمض عليك ..ألنھا ھي نفسك ذاتھا ..و ال عقبة أمامك سوى نفسك و عليك أن تقتحمھا لتستطيع
أن تفعل أي خير فتفك رقبة من تستغل و تستعبد ..و لن تستطيع أن تفك رقبة من تستعبد إال إذا
فطنت إلى استعباد نفسك لك و فككت عنك أغاللھا ..فلن تستطيع أن تحرر إنسانا إال إذا بدأت
فحررت نفسك أوالً.
و بعد ذلك سوف تجد أن أي خير سيصبح ممكنا ..سوف تستطيع أن تحب و تعطي و تجود و
تمنح.
ﷲَ ا ْشت ََرى ِمنَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ أَنفُ َسھُ ْم َوأَ ْم َوالَھُم بِأ َ ﱠن لَھُ ُم َ
الجنﱠةَ ] (( (111) ..التوبة [ )) إِ ﱠن ّ
)) من أراد أن يخلص نفسه يھلكھا .و من يھلك نفسه من أجلي يجدھا ،ألنه ماذا ينتفع اإلنسان لو
ربح العالم كله و خسر نفسه ((.
و يقول ﷲ لداود:
)) اقطع شھوتك و تحبب إلي بمعاداة نفسك ..ضعني بين عينيك و انظر إلي ببصر قلبك ..و أعلم
أنه ما اطمأن عبد إلى نفسه إال و كلته إليھا فأھلكته ((.
و يسأل داود ربه )) يارب كيف أصل إليك ؟ (( فيقول له ربه )) :اترك نفسك و تعال ((.
و يقول ﷲ لموسى:
فال يمكن الوقوف في حضرة ﷲ إال بخلع النفس و الجسد و خلع شواغل النفس و شواغل الجسد
كشرط للوصول.
و لھذا كان الشرك الخفي الذي يمارسه اإلنسان بعبادته نفسه ھو منتھى الحرام و ذروة الخطيئة..
ألنه يحتوي على جميع الخطايا األخرى في داخله و ألنه ھالك ال ھالك بعده.
و كل ما تعبد من دون ﷲ شرك ..إذا كنت عبدا لنفسك و ھواك و مصلحتك فأنت مشرك ،و إذا
كنت عبدا لعصبية العائلة أو القبيلة أو العنصر أو الجنس فأنت مشرك ..و إذا استعبدتك فكرة
مجردة أو نظرية أفسدت عليك مسالك تفكيرك فأصبحت ترفض مناقشة أي فكرة أخرى فأنت
راكع أمام صنم و إن كان صنما ً مجرداً و منحوتا ً من الفلسفة ال من المادة.
و لھذا اعتبر القرآن الشرك خطيئة ال تغتفر ألنه عمى للعين و البصيرة و العقل و شلل لجميع
المدارك و توقف لنمو الروح و تعطيل لھا في ھجرتھا إلى منبع نورھا.
ﷲَ الَ يَ ْغفِ ُر أَن ي ُ ْش َركَ بِ ِه َو َي ْغفِ ُر َما ُدونَ َذلِكَ لِ َمن يَشَاء ] (( (48) ..النساء [
)) إِ ﱠن ّ
ألن الشرك في الحقيقة أشبه بانقطاع الحبل السري الذي يفصم الصلة بين الجنين و مصدر
حياته ..بين اإلنسان و ﷲ.
و ماذا يحدث لو أن زھرة عباد الشمس انصرفت عن الشمس و أعطت ظھرھا لھا و اتجھت إلى
القمر مثال ..إنھا ببساطة تموت ..فالشمس ھي مصدر حياتھا ..و ھي ال تعبد الشمس ذالً ..و إنما
ألن الشمس حياتھا.
و ﷲ أمر بالعبادة ألنه يعلم أن فيھا حياتنا ..و لم يأمر بھا تسلطاً و تجبراً و لمجرد فرض أوامر.
و لھذه األسباب حرم ﷲ الخمر و ما في حكمھا من المسكرات و المغيبات لما فيھا من أضرار.
و حرم الزنا ألنه فوضى تختلط فيه األنساب ..و تخضع فيه النفوس للنزوات و الشھوات و
األھواء.
و حرم لحم الخنزير .و نحن نعلم اآلن أن حيوان الخنزير ھو مستودع فيروس اإلنفلونزا و الدودة
الشريطية ،و أنه أغلظ أنواع البروتين و أشدھا تعقيداً ،و أنه يربي قساوة القلب.
و لو ألقينا نظرة على الحيوانات آكلة الخضروات كالغزال و األرنب و الحصان و الجمل و
الدجاج و الحمار لالحظنا أنھا كلھا رقيقة وديعة ..أما الحيوانات آكلة اللحوم كالسباع و النمور و
الضباع و الذئاب و الثعالب و النسور و الصقور ..فكلھا تشترك في صفات القسوة و الوحشية و
الضراوة.
و ال شك أن ھناك عالقة بين اإلسراف في اللحم كطعام ..و نشأة صفات خاصة في النفس ..مثل
الحدة و الصرامة و القسوة.
و ألن لحم الخنزير ھو أكثر اللحوم غلظة و أعقد البروتينات الحيوانية تركيبا ً فربما كان ضرره
على آكله أبلغ من جميع اللحوم األخرى ..و ﷲ يعلم و نحن ال نعلم.
و ﷲ ھو العقل الكلي المحيط و ھو ال يضع سنة بال سبب.
و لقد أقام التشريع و حرم الحرام و أحل الحالل و فرض العبادة ..محبة منه و رحمة.
و يجب أال تفوتنا ھذه الحقيقة لحظة واحدة ..فھي روح الناموس و قلب الشرائع.
ألن قتل اإلنسان ألخيه اإلنسان بال ذنب ھو خرق لجميع النواميس ..لھذا اعتبره ﷲ قتالً للناس
جميعا ً.
و حرم االنتحار.
ﷲَ َكانَ بِ ُك ْم َر ِحي ًما )َ (29و َمن يَ ْف َعلْ َذلِكَ ُع ْد َوانًا َوظُ ْل ًما َف َسوْ فَ ن ُصْ لِي ِه
وا أَنفُ َس ُك ْم إِ ﱠن ّ
)) َوالَ تَ ْقتُلُ ْ
نَارًا ] (( (30) ..النساء [
ألن االنتحار ھو منتھى سوء الظن با و العمى عن رحمته و اليأس من عدالته و الخرق
لنواميسه و الجھل بآخرته ،و ھو منتھى الظلم للنفس.
و ھنا سوف يطلع علينا رأي ) مودرن ( باريسي متحرر يقول :و ما الضرر؟
أين الضرر في اثنين يتبادالن لذة بدون زواج لكن بتراض وراء جدران مغلقة و بعيداً عن العيون
ال يكذبان على نفسيھما في شيء ..فما يفعالنه يقومان به حبا ً و وجداً و غراما ً .و ال يؤذيان
بعملھما مخلوقاً ..أين الضرر ھنا ؟
و لنفھم الضرر البد أن نضع الحب و الجنس في إطارھما الطبيعي حيث إرادتھما الطبيعية.
و الطبيعة جعلت من العاطفة و الجنس وسائل للتكاثر و اإلبقاء على النوع و عمار الدنيا ..و
جعلت منھما أدوات إنتاج.
فإذا اجتمع رجل و امرأة و اعتزال ركنا ً يتبادالن اللذة بدون تفكير في زواج أو بناء بيت ..و إنما
لمجرد اختالس متعة ..فإنھما يحوالن الحب و الجنس من أدوات إنتاج إلى أدوات استھالك و
يستھلكان طاقة من أشرف الطاقات الحية خلقت لتبني أمما ً و حضارات و يجعالن منھا مجرد
وسيلة إلى ارتجافات جنسية.
و حينما يجتمع رجالن على شذوذ جنسي ..فإنھما يقوالن الشيء نفسه ،سوف يقوالن :إننا اجتمعنا
على حب و رضا ..و إننا ال نضر أحداً ،و إننا نستمتع و ال نؤذي أحداً.
و الشذوذ واحد في الحالين إذا أخذنا القوانين الكونية بعين االعتبار و نظرنا نظرة شاملة إلى
الموضوع ..فكال الحالين انحراف بالطاقة الطبيعية عن أھدافھا لمجرد دقائق من االرتجافات
الجنسية ..و الفرق ھو فرق في درجة البشاعة ..و في درجة المخالفة للنواميس الطبيعية..
المدلھان حبا ً و ھوى ،اللذان يرتمي الواحد منھما في حضن اآلخر ..و يتعلل كل منھما بأنه
صادق مع نفسه فيما يفعل ..ھما في الحقيقة كاذبان.
ألن صدق اإلنسان مع نفسه ال يكون صدقا ً حقيقيا ً إال إذا كان بالمثل صدقا ً مع الطبع و الطبيعة.
و ليكون اإلنسان صادقا ً مع نفسه البد أن يكون صادقا ً مع طبيعته و مع النواميس الكونية العظيمة
التي جاءت به إلى الدنيا ،و إال انقسم و انفصم و انشق على نفسه و تحول إلى جسد في ناحية ..و
روح في ناحية.
و التي تحب رجالً بحق ..ال تقول له :أريد أن أنام معك .و إنما تقول له :أريد أن أعيش معك
العمر كله .أريدك أن تكون أبا ً ألوالدي و سقفاً لبيتي و شرفا ً السمي و رفيقا ً مصاحبا ً لرحلة
حياتي كلھا.
و إذا لم تفعل ھذا فإنھا تكذب على نفسھا .و ھي خاطئة و إن ادعت لنفسھا أنھا جولييت ..بل إن
الخاطئة التي تبيع عرضھا لحاجتھا إلى اللقمة سوف تتعلل بعذر الجوع ..أما ھي فقد ابتذلت
أشرف ما أعطتھا الطبيعة بدون دوافع سوى تشنجات و رعشات عابرة و تلك الحكة التي تبحث
عن مھدئ بين وقت و آخر بحجة الحب ..و ھو كذب ..ألن حب المرأة يريد الرجل أبا ً ألبنائھا و
سقفا ً لبيتھا ..ال مجرد دواء مؤقت للحكة.
و الزنا إذا تحول إلى عادة ثم إلى سلوك و منھج حياة يؤدي إلى التفسخ الكامل للكيان ..و إلى
انفصام الشخصية ..فيصبح الجسد في ناحية و القلب في ناحية ..و الروح في ناحية ..و بھذا يتم
تخريب الفطرة ،و ھذا ھو الضرر غاية الضرر ..و لھذا نقرأ في اإلحصاءات أن أعلى نسبة
للجنون و االنتحار تحدث في السويد و في روسيا برغم السعادة الجنسية و عدم الكبت و التحلل
غاية التحلل ..و السبب ھو ذلك االنفصام الذي يحدث لإلنسان المتحلل في أعماق روحه فيفقده
السالم الداخلي إلى األبد.
و ھكذا تأتي التعاليم الدينية لحكمة و أسباب ال مجرد رغبة ﷲ في التسلط على خلقه و إنما محبة
و رحمة و تنبيھا إلى فائدة.
و يحرم الدين الزواج بين األخوات ،و بين األم و ابنھا ،و األب و ابنته ألنه يريد أن تنمو في
األسرة ألوان أخرى من العاطفة غير الشھوة ..كاألمومة و األبوة و األخوة و المودة ..و أن يكون
الرباط األسري ھو التراحم ) ألنه ھو الرباط الوحيد الباقي ( ..أما ضرام الشھوات فھو يضرم
معه الغيرة و الرغبة في التملك فيقتتل اإلخوة على أختھم و تتفجر األسرة من داخلھا و تنھار.
ھذا غير األمراض الوراثية التي تصيب النطفة بسبب زواج األخوات.
لم يكره ﷲ لإلنسان إال كل ما ھو كريه بالفعل ..و لم يحب له إال كل ما ھو محبوب.
و لذا جعل الطالق مكروھا لكنه ممكن إذا استحالت الحياة و جعل الكذب كبيرة الكبائر.
)) َو َم ْن أَ ْ
ظلَ ُم ِم ﱠم ِن ا ْفت ََرى َعلَى ّ
ﷲِ َك ِذبًا ] (( (21) ..األنعام [
فيكون إدعاء النبوة كذبا و التحريف في الكتب المقدسة زعما بأن آيات نزلت و ھي لم تنزل ..ھو
منتھى الحرام ..ألنه اإلضرار و التضليل للناس.
ھذه ھي الشريعة و ھذه روحھا ..إن ﷲ أحل الطيبات و حرم الخبائث ،و إذا تطھرت فطرتنا
فسوف نحب لنفوسنا ما يحب لھا ﷲ بدون جھد و بدون مشقة.
و لھذا يزول التناقض في قلب المؤمن بين ﷲ و شريعته و بين ما تمليه عاطفته الخاصة و يرغب
فيه عقله ..فإذا بما يريده لنفسه ھو ما يريده ﷲ له ..و ما يتمناه لنفسه ھو ما يتمناه ﷲ له.
و ھذا غاية اإليمان و الثقة و منتھى الحب للشريعة ..حتى لتصبح الشريعة و الرغبة شيئا ً واحداً.
)) عبدي اطعني أجعلك ربانيا ً يدك يدي و لسانك لساني و بصرك بصري و إرادتك إرادتي و
رغبتك رغبتي ((.
قبل األمر بالصالة و الصيام و قبل تفصيل الشرائع و قبل الكالم عن العقيدة قال ﷲ:
و انفرد القرآن بين جميع الكتب المقدسة بأنه ابتدأ بھذه الكلمة و ھذا األمر ..و ھذا منتھى
التشريف للعلم و العلماء ..أن يكون أول حرف في الدين ھو أمر بالقراءة و طلب العلم ..و اآلية
حددت نوع العلم المقصود:
فھو علم با و ..علم خير فاضل ..علم للنفع و ليس علما ً للضرر.
ﷲ ُ الﱠ ِذينَ آ َمنُوا ِمن ُك ْم َوالﱠ ِذينَ أُوتُوا ْال ِع ْل َم د ََر َجا ٍ
ت ] (( (11) ..المجادلة [ )) َيرْ فَ ِع ﱠ
)) قُلْ ھَلْ يَ ْست َِوي الﱠ ِذينَ يَ ْعلَ ُمونَ َوالﱠ ِذينَ َال يَ ْعلَ ُمونَ ] (( (9) ..الزمر [
فجعل ﷲ أولي العلم إلى جواره مع المالئكة المقربين من حيث قيمة شھادتھم و ھذا منتھى ما
يحلم به اإلنسان من رفعة المقام ..أن يذكر مع ﷲ و مالئكته.
و تتكرر كلمة العلم و مشتقاته في القرآن نحو ثمانمائة و خمسين مرة و يقسم ﷲ بالقلم و ما يسطر
به )) ن َو ْالقَ َل ِم َو َما َي ْسطُرُونَ ) ] (( (1القلم [
و لكنه ليس علما ً نظريا ً فارغا ً و إنما علم مقرون بالعمل.
و في كل مكان يتكلم فيه القرآن عن )) الذين آمنوا (( يقرن ھذا اإليمان بالعمل فيقول )) الذين
آمنوا و عملوا الصالحات (( في عشرات اآليات يتكرر ھذا التقارن و التالزم.
و ھو تكرار مقصود به أن يثبت تماما في الذھن أنه ال إيمان إال بالعمل و مع العمل ..و أن
األعمال ھي التي تفصح عن دخائل القلوب و ھي التي تبرھن على فضيلة الفاضل و طاعة
المطيع و إحسان المحسن.
و ألن أول أمر في القرآن و في اإلسالم ھو أمر صريح بالقراءة و التعلم فال يصح أن يدعي
اإلسالم جاھل ال يقرأ مھما صلى و صام و حمل المسابح و حوقل و بسمل و رتل.
و الشرق العربي اآلن بما فيه من جھل و كسل ھو كافر بأوليات كتابه و دينه ..فال ھو يقرأ و ال
ھو يتعلم و ال ھو يعمل ..و بدل العلم و العمل ال نرى حولنا إال الجھل و الكسل.
و كل واحد يتصور أنه من أھل الجنة لمجرد أن اسمه في بطاقة تحقيق الشخصية محمد و أنه
مسلم بالوراثة و أنه يقتني مصحفا ً.
و ينسى أن أول كلمة في ھذا المصحف ھي )) اقرأ (( ..و أنه ال يقرأ..
و أن ﷲ يقول:
بل إن العالم الغربي األوربي بما فيه من علم و عمل و فكر و نشاط دائب خالق ھو أقرب لجوھر
اإلسالم و جوھر القرآن من ھذا الشرق الكسول المتخاذل الغارق ألذنيه في الجھل المزري.
و الذين يمسحون كسلھم و جھلھم في عباءة التصوف و يقول الواحد منھم و قد أخلد إلى خلوة
فارغة و تأمل خاو ..أنا متصوف ..ينسى أن الھجرة إلى ﷲ عند المتصوف ال تكون إال بالعلم و
العمل و أن المتصوف عليه أوالً أن يطلب العلم فإذا علم كان عليه أن يعمل بما علم ..فإذا أصبح
من ذوي األعمال ..ارتقت به أعماله من حال إلى حال ..فإذا دام له الحال و ثابر على األعمال
انتقل من مقام إلى مقام ..و ھذه ھي الدرجات التي يتسلق عليھا الصوفي كادحا ً إلى ﷲ ..العلم و
العمل و الحال و المقام ..و المتصوفون األوائل كانوا مرابطين يحملون السالح و يدافعون عن
األوطان ..المصحف في يد و السالح في يد ..و الشمال األفريقي يمتلئ بأضرحة ھؤالء
المرابطين حيث ماتوا في مرابطھم بعد أن حاربوا آلخر طلقة و آخر شھقة في صدورھم.
إن الشجاعة و الشھامة و الصدق و قتال الباطل و إحقاق الحق و العمل على عمارة الدنيا بالخير
و العدل بين الناس و محاربة االستغالل و نصرة الضعيف ھي من صميم الدين بل ھي الدين
ذاته.
)) اقرأ (( أوال ..لتعرف الحق من الباطل و لتعرف قوانين العالم الذي تعيش فيه قبل أن تدعي
لنفسك أنك تستطيع إصالحه.
و لكن القرآن ال يدعونا إلى القراءة و يتركنا في ظالم الحيرة و إنما يختط لنا منھجا ً للوصول إلى
العلم ھو منھج )) السير و النظر ((.
و قد اھتدت قلة من العلماء العرب إلى ھذا المنھج في صدر اإلسالم و كان لھم عطاء أثروا به
الغرب و أخصبوا ثقافته في أوقات كان ھذا الغرب غارقا في ظلمات قرونه الوسطى.
و نذكر علماء الفلك العرب ..و أغلب الكوكبات النجمية مازالت تحتفظ بأسمائھا العربية إلى اآلن
في المراجع األجنبية.
و كلمة )) أنبيق (( التي أطلقھا جابر بن حيان على جھاز التقطير مازالت ھي ذاتھا مستعملة في
الفرنسية ambiqueو يشتق منھا الفعل ambiquerأي يقطر.
و األرقام العشرية في الحساب لم يعرفھا الغرب إال عن طريق العرب .كان ھناك علم و عمل
إذن.
و حينما كان ھناك علم و عمل كان ھناك عطاء و كانت ھناك حضارة و قد أعطى القرآن مفتاح
ھذه الحضارة.
و جعل من ھذا المفتاح أول ما نزل من حروف ..و أول ما كلف الوحي بتبليغه إلى محمد – صلى
ﷲ عليه و سلم – و أمته .و من ال يقرأ ال يستحق أن يكون من أمة محمد – صلى ﷲ عليه و سلم
– و ال أن يدعي لنفسه أنه يحمل القرآن و يفھمه.
ت َوإِ ْس َما ِعي ُل َربﱠنَا تَقَب ﱠلْ ِمنﱠا إِنﱠكَ أَنتَ ال ﱠس ِمي ُع ْال َعلِي ُم )] (( (127
اع َد ِمنَ ْالبَ ْي ِ
)) َوإِ ْذ يَرْ فَ ُع إِب َْرا ِھي ُم ْالقَ َو ِ
البقرة [
العقل يھندس و اليد تبني و القلب يسبح ھامسا ً )) ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ((.
ت أُوْ لَئِ َ
ك ھُ ْم خَ ْي ُر ْالبَ ِريﱠ ِة ) ] (( (7البينة [ )) إِ ﱠن الﱠ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُوا الصﱠالِ َحا ِ
صالِحًا ] (( (33) ..فصلت [ )) َو َم ْن أَحْ َسنُ قَوْ ًال ﱢم ﱠمن َدعَا إِلَى ﱠ
ﷲِ َو َع ِم َل َ
اضرًا َو َال يَ ْ
ظلِ ُم َر ﱡبكَ أَ َحدًا ) ] (( (49الكھف [ )) َو َو َجدُوا َما َع ِملُوا َح ِ
و يؤكد القرآن أن الدنيا ھي الفرصة الوحيدة إلحراز األعمال و أنھا االمتحان الوحيد الذي ال
امتحان بعده ..و يقول عن أھل الجحيم:
ط ِر ُخونَ فِيھَا َربﱠنَا أَ ْخ ِرجْ نَا نَ ْع َملْ َ
صالِحًا َغ ْي َر الﱠ ِذي ُكنﱠا نَعْ َم ُل ] (( (37) ..فاطر [ )) َوھُ ْم يَصْ َ
و يؤكد القرآن أن العمل الصالح الخالي من اإليمان با ال يكون عمال صالحا و أن مثل ھذه
األعمال الصالحة من قلب يجحد خالقه مصيرھا البوار:
)) َوقَ ِد ْمنَا إِلَى َما َع ِملُوا ِم ْن َع َم ٍل فَ َج َع ْلنَاه ُ ھَ َباء ﱠمنثُورًا ) ] (( (23الفرقان [
و قد يسأل سائل كيف يتجرد العمل الصالح عن الصالح إذا تجرد قلب صاحبه من اإليمان با ..
إذا تبرع الكافر لعمل خيري ..كيف ال يكون عمله ھذا عمالً صالحا ً يثاب عليه..؟!
و الجواب أن الكافر الذي ال يؤمن بوجود إله سوف يسند كل عمل يقوم به إلى نفسه فيعطي عن
اعتقاد أنه ھو الذي يعطي و ھو الذي يتصدق و ھو الذي يرزق و ھو الذي يغني ..و ھذا ھو
الزھو و االختيال و الغرور بعينه و ال يمكن أن يكون مثل ھذا العطاء صالحا ً ..بعكس المؤمن
الذي يعطي و ھو يعتقد أن ﷲ ھو الذي ألھمه بالعطاء و أن ﷲ ھو الذي وفقه لإلحسان و ھو الذي
أعطاه اليد الكريمة و المال الوفير و القلب العطوف ..و مثل ھذا العطاء في تواضع ھو الصالح
حقا.
و يؤكد القرآن أن النية العاطلة عن العمل ال تكفي لتكون شاھدا على إيمان صاحبھا.
الرغبة في الجھاد ال تكفي ..و إنما البد من الجھاد بالفعل حيث يواجه اإلنسان الشدة و يصبر
عليھا ..و يواجه الموت و يثبت أمامه:
ُوا ِمن ُك ْم َويَ ْعلَ َم الصﱠابِ ِرينَ ) ] (( (142آل وا ْال َجنﱠةَ َولَ ﱠما يَعْ لَ ِم ّ
ﷲُ الﱠ ِذينَ َجاھَد ْ )) أَ ْم َح ِس ْبتُ ْم أَن تَ ْد ُخلُ ْ
عمران [
و ھي إدعاء بين اإلنسان و نفسه أكثر من كونھا رغبة حقيقية ألن الرغبة إذا صدقت حفزت إلى
عمل.
لقد جعل منھا امتحانا يظھر فيه من يعمل و من ال يعمل و تجربة تعرف بھا كل نفس مقامھا و
مقدارھا ..حتى إذا حقت عليھا الكلمة يوم الحساب كانت ھذه الكلمة عدال مطلقا ال مراء فيه.
يقول القرآن:
و نبينا و قدوتنا محمد عليه الصالة و السالم لم يكن مبلغا لآليات و حامال للقرآن و مبشرا به فقط
و إنما كان أول العاملين ..و كان أول من يخرج في الغزوات حامال سيفه قائدا جيشه ..و كان
يجوع مع جنوده إذا جاعوا و يعطش معھم إذا عطشوا ..و كان أول من يقتحم األخطار ..و في
إحدى الغزوات نعلم أنه جرح بين من جرحوا ..و قد حارب سبعا و عشرين معركة خاضھا
جميعا و قد جاوز سن الخمسين ..فھو النبي المبلغ و الجندي المحارب و القائد المخطط و
السياسي الحكيم ..و ھو العابد الزاھد ..و ھو الصادق األمين العف اليد و اللسان ..و ھو االب
الحنون و الزوج العطوف و الصديق الودود ..و ھو صاحب الدعوة الذي ال ينام عنھا و الذي
يحارب لھا و يحارب دونھا إلى آخر نفس من أنفاسه الطاھرة.