You are on page 1of 68

‫للدكتور مصطفى محمود‬

‫القرآن ‪ -‬محاولة لفھم عصري‬

‫مقدمة‬

‫مازال القرآن كتاب المسلمين المعجزة يتحدى العقول بعد ألف و أربعمائة عام من نزوله و كأنه‬
‫نزل اليوم ليتحدث عن علوم اليوم و شواغل اليوم و أسرار اليوم و حروب اليوم‪ ..‬و بين دفتيه‬
‫سوف يفاجأ كل شغوف بعلوم الفلك و الطبيعة و الجيولوجيا و الطب و التشريح و الحياة بلمحات‬
‫من ھذه العلوم و بالجديد في علوم الباطن و النفس و الروح و ما وراء الطبيعة و بالجديد في‬
‫عوالم الغيب و خفايا الزمن و المكان و المادة‪ ..‬و بالجديد و المبھر في األخالق و الدستور و‬
‫الشرائع و األديان‪.‬‬

‫و قد ظل علماء الفلك يتحدثون عن سبعة كواكب تدور حول الشمس حتى نزلت آيات القرآن‬
‫تتحدث عن أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر في سورة يوسف‪:‬‬

‫س َو ْالقَ َم َر َرأَ ْيتُھُ ْم لِي َس ِ‬


‫اج ِدينَ )‪(4‬‬ ‫ْت أَ َح َد َع َش َر َكوْ َكبًا َوال ﱠ‬
‫ش ْم َ‬ ‫سفُ ِألَبِي ِه يَا أَبتِ إِنﱢي َرأَي ُ‬ ‫)) إِ ْذ قَ َ‬
‫ال يُو ُ‬
‫(( ] يوسف [‬

‫و نعلم اليوم أن التلسكوبات الفلكية رصدت بالفعل أحد عشر كوكبا تدور مع األرض و القمر على‬
‫أبعاد شاسعة متفاوتة حول الشمس‪ ..‬و ھو أمر جديد تماما لم يعرف إال قريبا‪.‬‬

‫و لم يكن أحد من العرب القدامى أيام الجاھلية يعلم شيئا عن البصمة المرسومة على طرف البنان‬
‫و التي ينفرد بھا كل مولود لتدل على شخصيته التي ال يشاركه فيھا مخلوق حتى أخيه التوأم‪..‬‬
‫فإذا بكل إنسان له بصمته التي ينفرد بھا‪ ..‬فيقول ربنا في قرآنه المجيد عن يوم البعث الذي كان‬
‫يشك فيه الجاھليون إن يوم القيامة سوف تقوم األجساد من قبورھا و سوف يعود الموتى إلى‬
‫سالف ھيئتھم‪ ..‬و يقول لھذا الجاھلي الذي يشك في البعث‪:‬‬

‫ظا َمه ُ )‪ (3‬بَلَى قَا ِد ِرينَ َعلَى أَن ﱡن َس ﱢو َ‬


‫ي بَنَانَه ُ )‪ ] (( (4‬القيامة [‬ ‫اإلن َسانُ أَلﱠن نَجْ َم َع ِع َ‬
‫)) أَيَحْ َسبُ ْ ِ‬

‫و يخص البنان بالتسوية ألنه الحامل للبصمة المعجزة الدالة على شخصيته المتفردة التي ال‬
‫تتكرر و التي سوف تعود إليه يوم البعث‪.‬‬
‫ھل كان العرب األوائل يعلمون شيئا عن ھذا ؟‪ ..‬لم يكونوا يعلمون‪ ..‬و لم يكن يعلم العرب و ال‬
‫الفرنجة في أوروبا و ال في أمريكا شيئا عن ھذه البصمة‪ ..‬فنزلت كلمات القرآن قبل ألف و‬
‫أربعمائة سنة لتعلن عنھا‪.‬‬

‫كانت البصمة التي على البنان إعالما قرآنيا بحتا‪.‬‬

‫ھل كان علماء األرض حينذاك يعلمون أن كل جبل له جذر ممتد تحت األرض أكثر منه غلظة‬
‫ال أَوْ تَادًا )‪ ] (( (7‬النبأ [ ‪ ..‬و أن ھذه الجبال موزعة على محيط‬
‫كالوتد ليزيده ثباتا )) َو ْال ِجبَ َ‬
‫األرض بشكل محسوب‪ ،‬و مقدر كثقاالت ليكون دوران األرض منتظما‪ ..‬و ھذه قضية معلومة‬
‫اآلن في الميكانيكا و الحركة‪ ..‬إن ھذه الثقاالت الدائرة على األطراف ھي التي تنظم الحركة و‬
‫تجعل الحركة منسابة غير قلقة‪.‬‬
‫ْ‬
‫)) َوأَنزَ ْلنَا ْال َح ِدي َد فِي ِه بَأسٌ َش ِدي ٌد َو َمنَافِ ُع لِلنﱠ ِ‬
‫اس‪ ] (( (25) ..‬الحديد [‬

‫و تلك مفاجأة قرآنية أخرى‪ ،‬فقد جاءنا الحديد من السماء‪ ..‬و كان ذلك بعملية تعدين سماوي خاص‬
‫لعنصر الحديد‪ ..‬ھكذا يقول القرآن‪ ..‬و نعلم اآلن أن ذلك يحدث بالفعل عن طريق انفجار النجوم‬
‫المستعرة شديدة الحرارة ) السوبر نوفا ( و بسبب شدة حرارتھا فإنھا تقذف إلى األرض بدقائق‬
‫ذرية مكھربة كالسھام تخترق األرض و تصل إلى معادنھا الباطنة و بفعل طاقتھا االنفجارية‬
‫الزائدة تؤدي إلى خلق الحديد بذراته المتدامجة المتماسكة شديدة الصالبة التي نعرفھا‪ ،‬فيعاد‬
‫إنشاء جزيئات الحديد على ھذه الصورة الصلبة المتدامجة‪.‬‬

‫جاء الحديد الذي نعرفه بصالبته إذن بحقن سماوي للخام األصلي في باطن األرض و بفعل‬
‫سماوي فوقي للنجوم المستعرة و بتعدين رباني‪ ..‬فھو مصنوع بإرادة ربانية و عناية خاصة‬
‫ليكتسب ھذه الصالبة الفائقة لتكون فيما بعد‪ ..‬دبابات و مجنزرات و سيوفا و دروعا و أسلحة‬
‫قتالية فتاكة‪ ..‬و لماذا حدث ھذا الترتيب و التدبير؟ ليعلم ﷲ من ينصره و رسله بالغيب‪ ..‬إنه‬
‫االمتحان إليمان المؤمن و صالبته و ثباته في الحروب و لدحر الكفار و ھزيمتھم‪.‬‬

‫و قد عشنا و سمعنا الرئيس األمريكي ) كلينتون ( يعلن عن اكتشاف ) الجينيوم البشري ( عبر‬
‫اإلذاعات للعالم كله و يعلن عن فض رموز ھذا ) الجينيوم ( الذي يتألف من ثالثة مليارات حرف‬
‫كيميائي و ھو ما يمأل خمسة ماليين صفحة مدونة و كل ھذا في حيز صغير متناھي الصغر في‬
‫نواة الخلية ) بضعة أجزاء من المللي ( تحتوي على مقدرات ھذا المخلوق اإلنساني و صفاته‬
‫البدنية و حظه من الصحة و المرض و القوة و الضعف و مواھبه و ملكاته و ما سيجري عليه‬
‫من أحوال‪ ..‬و كل ھذا مدون بالتفصيل في مخطوطة شاملة ال تكاد ترى إال بميكرسكوب‬
‫إلكتروني‪ ..‬معلومات تمأل خمسة ماليين صفحة في حيز متناه في الدقة ال يُرى‪..‬‬

‫و من الذي استطاع أن يدون ھذه المخطوطة و بأي قلم و في مثل ھذا الحيز الخرافي‪ ..‬إال الخالق‬
‫جل جالله‪ ..‬و صدق القرآن العظيم‪:‬‬

‫ْت بِ َربﱢ ُك ْم قَالُ ْ‬


‫وا بَ َلى‬ ‫ُور ِھ ْم ُذرﱢ يﱠتَھُ ْم َوأَ ْشھَ َدھُ ْم َعلَى أَنفُ ِس ِھ ْم أَلَس ُ‬
‫ك ِمن بَنِي آ َد َم ِمن ظُھ ِ‬ ‫)) َوإِ ْذ أَخَ َذ َر ﱡب َ‬
‫وا إِنﱠ َما أَ ْش َركَ آبَا ُؤنَا ِمن قَ ْب ُل َو ُكنﱠا‬ ‫وا يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة إِنﱠا ُكنﱠا ع َْن ھَ َذا غَافِلِينَ )‪ (172‬أَوْ تَقُولُ ْ‬
‫َش ِھ ْدنَا أَن تَقُولُ ْ‬
‫ت َولَ َعلﱠھُ ْم َيرْ ِجعُونَ )‪(174‬‬ ‫ُذرﱢ يﱠةً ﱢمن بَ ْع ِد ِھ ْم أَفَتُ ْھلِ ُكنَا بِ َما فَ َع َل ْال ُمب ِ‬
‫ْطلُونَ )‪َ (173‬و َك َذلِكَ نُفَ ﱢ‬
‫ص ُل اآليَا ِ‬
‫(( ] األعراف [‬

‫)) و أشھدھم على أنفسھم ((‪ ..‬ھذا إشھاد صريح و مفصل‪.‬‬

‫و ﷲ يروي في قرآنه عملية اإلشھاد‪ ..‬كما يحكي عن ھذا ) المانفستو ( اإللھي الذي اسمه )‬
‫الجينيوم البشري (‪ ..‬و كيف أن كل مولود جاء و معه قصته و حكايته من األزل مكتوبة في‬
‫خالياه و مسطورة في جيناته‪..‬‬

‫ثم ما حدث في ھذا القرن من الزمان من إشھاد العالم كله على أصل الحكاية و بلسان أكبر زعيم‬
‫ألكبر دولة‪ ..‬ھو الرئيس األمريكي ) كلينتون (‪.‬‬

‫تلك الجينات‪ ..‬من كتبھا‪..‬؟! و من أودعھا في ھذه الحروف الكيمائية‪..‬؟!‬

‫و اإلشھاد بھذا المفھوم الجديد أوسع و أشمل مما جاء في كتب التفسير القديمة‪ ..‬فقد اشتركت‬
‫الدنيا كلھا في ھذه المظاھرة الشھودية و كانت حديث الساعة و موضوع التفاخر و االستعالء‬
‫بالنسبة لعلماء الغرب‪ ..‬و قد اتخذوا منه حجة على موقفھم من الدين‪ ..‬مع أنه حجة عليھم و ليس‬
‫حجة لھم‪ ..‬فھذا كتاب ال يمكن أن يكتبه مخلوق‪ ..‬و ال مفر و ال معدى و ال مھرب من القول إن‬
‫الذي كتب ھو الذي خلق ألن الكتابة جاءت في صميم الخلقة و في الحشوة المخلوقة ذاتھا و‬
‫بالحروف الكيمائية لنفس المخلوق و ھو عمل معجز ال يقدر عليه إال الخالق الذي خلق‪.‬‬

‫كان ھذا اليوم يوم إشھاد عالمي على عظمة القرآن و شموله و إحاطته و إعجازه و خلود آياته و‬
‫قدرته على الحضور في كل عصر‪ )) ..‬و أشھدھم على أنفسھم ((‪ ..‬و ھذه ما حدث بالفعل‪ ،‬فقد‬
‫شھد العالم كله من أدناه إلى أقصاه حكاية ھذا ) الجينيوم البشري ( و مازالت األيام تأتي بما يؤكد‬
‫روعة ھذا الكتاب و إعجازه و استباقه لما حدث و يحدث بطول أربعة عشر قرنا من الزمان‪.‬‬

‫و رحلتنا مع القرآن تبدأ و ال تنتھي‪ ..‬و أفضل أن نأخذھا على مھل‪ ..‬و نخطوھا خطوة خطوة من‬
‫البداية‪ ..‬من أول لقاء مع الحروف و الكلمات القرآنية و ھي تقرع السمع و تتسلل إلى الوجدان و‬
‫تنداح في القلب و تستقر في األرواح لتؤلف في النھاية ھذا اإلحساس الغامر بالجمال و الجالل و‬
‫الرھبة و بأن ھذا الكالم يأتينا من فوق سبع سماوات‪ ..‬و من وراء الغيب‪.‬‬

‫و موعدنا مع الطبعة الجديدة من كتاب‪ ) ..‬القرآن محاولة لفھم عصري (‪ ..‬و الذي يصدر في‬
‫طبعة خاصة من كتاب مايو‪ ..‬و ال ينتھي في الحب كالم‪.‬‬
‫المعمار القرآني‬

‫و كان أول لقاء لي مع القرآن و أنا في الرابعة من العمر طفال أجلس في صف بين عدة صفوف‬
‫في كتاب الشيخ ) محمود ( أحملق في بالھة إلى سبورة و إلى مؤشر يتحرك في يد الشيخ على‬
‫كلمات منقوشة بالطباشير و ھو يتلو‪ )) ..‬و الضحى و الليل إذا سجى ((‪ ..‬فنردد خلفه في آلية‪)) ..‬‬
‫و الضحى و الليل إذا سجى ((‪ ..‬ال نفھم من الكالم حرفا‪ ..‬و ال نعلم ما الضحى و ال كيف سجى‪..‬‬
‫و لكننا نردد مجرد مقاطع و مخارج حروف‪.‬‬

‫و كان عقلي آنذاك صفحة بيضاء نقية لم يكتب عليھا شيء‪ ،‬و لم تتلق تأثيرا تربوبا خاصا‪ ،‬فقد‬
‫نشأت في أسرة كل فرد فيھا متروك لحاله‪ ..‬يحب ما يحب‪ ،‬و يكره ما يكره‪ ،‬و يلعب حتى يشبع‬
‫لعبا‪ ،‬و أذكر أني رسبت في السنة األولى ثالث سنوات دون أن أتلقى تعنيفا‪ ..‬و كان الصفر بالقلم‬
‫األحمر يزين كل صفحة من كراساتي مرة بعد مرة فال يثير إال الضحك‪ .‬و كانوا إذا سألوني ماذا‬
‫أخذت اليوم‪ ،‬كنت أقول اختصارا للمھزلة و حتى ال أعود إلى شرح حكاية الصفر اليومي التي‬
‫أصبحت بالنسبة لي مملة‪ ..‬كنت أقول‪ ..‬زي العادة‪ ..‬و كانوا يضحكون‪.‬‬

‫ھكذا كانت تجري األمور في بيتنا‪ ،‬ال إرغام على مذاكرة و ال قھر على تدين‪ ..‬و إنما لكل حياته‪..‬‬
‫و على كل تبعته‪.‬‬

‫لم نعرف غسيل المخ الذي عرفه كثير من األطفال في أسر متزمتة تحشر العلم و الدين حشرا في‬
‫عقول أطفالھا بالكرباج و العصا‪.‬‬

‫كنت إذن أتلقى أول عبارة من القرآن بذھن أبيض تماما و دون تأثير مسبق مثلما أتلقى دروس‬
‫الحساب و الجغرافيا و اإلنشاء‪.‬‬

‫و كما بھرتني حكاية الكرة األرضية المدورة و القارات كالجزر سابحة فيھا‪ ،‬و كما بھرتني‬
‫حكاية القمر يدور حول األرض‪ ،‬و األرض حول الشمس‪ ..‬و الكل معلق في السماء‪ ،‬كذلك فعل‬
‫بي القرآن شيئا‪.‬‬

‫و أحار في وصف الشعور الذي تلقيت به أول عبارة من القرآن‪.‬‬

‫و ال أجد الكلمات لتشرح ھذا النوع من االستقبال النفسي الغامض‪ ..‬و كيف كانت الكلمات تعود‬
‫من تلقاء نفسھا فتراود سمعي و ذاكرتي و أنا وحدي فأراني أردد بال صوت‪ )) ..‬و الضحى و‬
‫الليل إذا سجى ((‪.‬‬

‫و تقتحم علي العبارة القرآنية سكون طفولتي فأتذكر في ظالم الليل إلقاء الشيخ و ھو يردد‪ )) :‬و‬
‫جاء من أقصى المدينة رج ٌل يسعى ((‪.‬‬

‫تسعى العبارة إلى خيالي و كأنھا مخلوق حي مستقل له حياته الخاصة‪.‬‬

‫و قطعا أنا لم أكن أعلم ما الضحى و ال كيف سجى الليل‪ ..‬و ال من ھو الرجل الذي جاء من‬
‫أقصى المدينة يسعى‪.‬‬
‫و لعل المقاطع كانت تتردد في سمعي أشبه بمقاطع سلم موسيقي‪ ) ..‬صول ال سي دو ري مي فا‬
‫(‪ ..‬مجرد حروف ال معنى لھا و ال وقع سوى مدلولھا الموسيقي‪ ..‬مجرد نغم و مازورات‬
‫موسيقية و إيقاع يطرب الوجدان‪.‬‬

‫نعم‪ ..‬لقد اكتشفت منذ تلك الطفولة البعيدة دون أن أدري حكاية الموسيقى الداخلية الباطنة في‬
‫العبارة القرآنية‪.‬‬

‫و ھذا سر من أعمق األسرار في التركيب القرآني‪ ..‬إنه ليس بالشعر و ال بالنثر و ال بالكالم‬
‫المسجوع‪ ..‬و إنما ھو معمار خاص من األلفاظ صفت بطريقة تكشف عن الموسيقى الباطنة فيھا‪.‬‬

‫و فرق كبير بين الموسيقى الباطنة و الموسيقى الظاھرة‪.‬‬

‫و كمثل نأخذ بيتا لشاعر مثل ) عمر بن أبي ربيعة ( اشتھر بالموسيقى في شعره‪ ..‬البيت الذي‬
‫ينشد فيه‪:‬‬

‫قال لي صاحبي ليعلم ما بي أتحب القتول أخت الرباب‬

‫أنت تسمع و تطرب و تھتز على الموسيقى‪ ..‬و لكن الموسيقى ھنا خارجية صنعھا الشاعر‬
‫بتشطير الكالم في أشطار متساوية ثم تقفيل كل عبارة تقفيال واحدا على الباء الممدودة‪.‬‬

‫الموسيقى تصل إلى أذنك من خارج العبارة و ليس من داخلھا‪ .‬من التقفيالت ) القافية (‪ ..‬و من‬
‫البحر و الوزن‪ ..‬أما حينما تتلو‪:‬‬

‫)) َوالضﱡ َحى )‪َ (1‬واللﱠي ِْل إِ َذا َس َجى )‪ ] (( (2‬الضحى [‬

‫فأنت أمام شطرة واحدة‪ ..‬و ھي بالتالي تخلو من التقفية و الوزن و التشطير‪ ،‬و مع ذلك‬
‫فالموسيقى تقطر من كل حرف فيھا‪ ..‬من أين ؟ و كيف ؟‬

‫ھذه ھي الموسيقى الداخلية‪.‬‬

‫الموسيقى الباطنة‪.‬‬

‫سر من أسرار المعمار القرآني ال يشاركه فيه أي تركيب أدبي‪.‬‬

‫و كذلك حينما تقول‪:‬‬

‫)) الرﱠحْ َمنُ َعلَى ْال َعرْ ِ‬


‫ش ا ْست ََوى )‪ ] (( (5‬طه [‬

‫و حينما تتلو كلمات زكريا لربه‪:‬‬

‫ظ ُم ِمنﱢي َوا ْشتَ َع َل الر ْﱠأسُ َش ْيبًا َولَ ْم أَ ُكن بِ ُدعَائِكَ َربﱢ َشقِيًّا )‪ ] (( (4‬مريم [‬
‫)) قَا َل َربﱢ إِنﱢي َوھَنَ ْال َع ْ‬
‫أو كلمة ﷲ لموسى‪:‬‬

‫)) إِ ﱠن السﱠا َعةَ ءاَتِيَةٌ أَ َكا ُد أُ ْخفِي َھا لِتُجْ زَى ُكلﱡ نَ ْف ٍ‬
‫س بِ َما تَ ْس َعى )‪ ] (( (15‬طه [‬

‫أو كلمته تعالى و ھو يتوعد المجرمين‪:‬‬

‫)) ِإنﱠه ُ َمن َيأْ ِ‬


‫ت َربﱠه ُ ُمجْ ِر ًما فَإ ِ ﱠن لَهُ َجھَنﱠ َم َال يَ ُم ُ‬
‫وت فِيھَا َو َال يَحْ يى )‪ ] (( (74‬طه [‬

‫كل عبارة بنيان موسيقي قائم بذاته تنبع فيه الموسيقى من داخل الكلمات و من ورائھا و من بينھا‬
‫بطريقة محيرة ال تدري كيف تتم‪.‬‬

‫و حينما يروي القرآن حكاية موسى بذلك األسلوب ) السيمفوني ( المذھل‪:‬‬

‫ْر بِ ِعبَا ِدي فَاضْ ِربْ لَھُ ْم طَ ِريقًا فِي ْالبَحْ ِر يَبَسًا ﱠال تَخَافُ د ََر ًكا َو َال‬ ‫)) َولَقَ ْد أَوْ َح ْينَا إِلَى ُمو َسى أَ ْن أَس ِ‬
‫ت َْخ َشى )‪ (77‬فَأَ ْتبَ َعھُ ْم فِرْ عَوْ نُ بِ ُجنُو ِد ِه فَغ َِشيَھُم ﱢمنَ ْاليَ ﱢم َما غ َِشيَھُ ْم )‪َ (78‬وأَ َ‬
‫ض ﱠل فِرْ عَوْ نُ قَوْ َمه ُ َو َما‬
‫ھَدَى )‪ ] (( (79‬طه [‬

‫كلمات في غاية الرقة مثل )) يبسا ً (( أو ال تخاف )) دركا ً (( بمعنى ال تخاف إدراكا ً‪.‬‬

‫إن الكلمات تذوب في يد خالقھا و تصطف و تتراص في معمار و رصف موسيقي فريد ھو نسيج‬
‫وحده بين كل ما كتب بالعربية سابقا و الحقا‪.‬‬

‫ال شبه بينه و بين الشعر الجاھلي‪ ،‬و ال بينه و بين الشعر و النثر المتأخر‪ ،‬و ال محاولة واحدة‬
‫للتقليد حفظھا لنا التاريخ برغم كثرة األعداء الذين أرادوا الكيد للقرآن‪.‬‬

‫في كل ھذا الزحام تبرز العبارة القرآنية منفردة بخصائصھا تماما‪ ..‬و كأنھا ظاھرة بال تبرير و ال‬
‫تفسير سوى أن لھا مصدرا آخر غير ما نعرف‪.‬‬

‫اسمع ھذا اإليقاع المنغم الجميل‪:‬‬

‫وح ِم ْن أَ ْم ِر ِه َعلَى َمن يَشَاء ِم ْن ِعبَا ِد ِه لِيُن ِذ َر يَوْ َم التﱠ َال ِ‬


‫ق‬ ‫ش ي ُْلقِي الرﱡ َ‬
‫ت ُذو ْال َعرْ ِ‬‫)) َرفِي ُع ال ﱠد َر َجا ِ‬
‫)‪ ] (( (15‬غافر [‬

‫ت ِمنَ ْال َح ﱢي )‪ ] (( (95‬األنعام [‬


‫ت َو ُم ْخ ِر ُج ْال َميﱢ ِ‬
‫ي ِمنَ ْال َميﱢ ِ‬
‫ق ْال َحبﱢ َوالنﱠ َوى ي ُْخ ِر ُج ْال َح ﱠ‬
‫)) فَالِ ُ‬

‫س َو ْالقَ َم َر ُح ْسبَانًا‪ ] (( (96) ..‬األنعام [‬


‫اح َو َج َع َل اللﱠ ْي َل َس َكنًا َوال ﱠش ْم َ‬ ‫)) فَالِ ُ‬
‫ق ا ِإلصْ بَ ِ‬

‫)) يَعْ لَ ُم خَ ائِنَةَ ْاألَ ْعي ُِن َو َما تُ ْخفِي الصﱡ دُو ُر )‪ ] (( (19‬غافر [‬

‫ك األَب َ‬
‫ْصا َر‪ ] (( (103) ..‬األنعام [‬ ‫))ال ﱠ تُ ْد ِر ُكهُ األَب َ‬
‫ْصا ُر َوھ ُ َو يُ ْد ِر ُ‬

‫)) َو ِس َع َر ﱡبنَا ُك ﱠل َش ْي ٍء ِع ْل ًما‪ ] (( (89) ..‬األعراف [‬


‫ثم ھذه العبارة الجديدة في تكوينھا و صياغتھا‪ ..‬العميقة في معناھا و داللتھا على العجز عن‬
‫إدراك كنه الخالق‪:‬‬

‫شھَا َد ِة ْال َكبِي ُر ْال ُمتَ َعا ِل )‪ ] (( (9‬الرعد [‬ ‫))عَالِ ُم ْال َغ ْي ِ‬


‫ب َوال ﱠ‬

‫ﷲِ َوھ َُو َش ِدي ُد ْال ِم َح ِ‬


‫ال )‪ ] (( (13‬الرعد [‬ ‫)) ي َُجا ِدلُونَ فِي ّ‬

‫ثم ھذا االستطراد في وصف القدرة اإللھية‪:‬‬

‫ب الَ يَ ْع َل ُمھَا إِال ﱠ ھ َُو َويَ ْعلَ ُم َما فِي ْالبَ ﱢر َو ْالبَحْ ِر َو َما تَ ْسقُطُ ِمن َو َرقَ ٍة إِالﱠ يَ ْع َل ُمھَا َوالَ‬
‫)) َو ِعن َده ُ َمفَاتِ ُح ْال َغ ْي ِ‬
‫ب الَ‬ ‫ب ﱡمبِي ٍن )‪َ (59‬و ِعن َده ُ َمفَاتِ ُح ْال َغ ْي ِ‬ ‫س إِال ﱠ فِي ِكتَا ٍ‬‫ب َوالَ يَابِ ٍ‬ ‫ط ٍ‬ ‫ت األَرْ ض َوالَ َر ْ‬ ‫َحبﱠ ٍة فِي ظُلُ َما ِ‬
‫ِ‬
‫ت األرْ ِ‬
‫ض‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫يَ ْعلَ ُمھَا إِالﱠ ھ َُو َويَ ْعلَ ُم َما فِي البَرﱢ َوالبَحْ ِر َو َما تَ ْسقط ِمن َو َرقَ ٍة إِال يَ ْعلَ ُمھَا َوالَ َحب ﱠ ٍة ِفي ظل َما ِ‬
‫ﱠ‬ ‫ُ‬
‫ب ﱡمبِي ٍن )‪ ] (( (59‬األنعام [‬ ‫س إِال ﱠ فِي ِكتَا ٍ‬ ‫ب َوالَ َيابِ ٍ‬ ‫ط ٍ‬ ‫َوالَ َر ْ‬

‫و لكن الموسيقى الباطنية ليست ھي كل ما انفردت به العبارة القرآنية‪ ،‬و إنما مع الموسيقى صفة‬
‫أخرى ھي الجالل‪.‬‬

‫و في العبارة البسيطة المقتضبة التي روى بھا ﷲ نھاية قصة الطوفان تستطيع أن تلمس ذلك‬
‫ك َو َيا َس َماء أَ ْقلِ ِعي‬
‫الشيء )) الھائل (( )) الجليل (( في األلفاظ‪َ )) :‬وقِي َل يَا أَرْ ضُ ا ْبلَ ِعي َماء ِ‬
‫ض َي األَ ْم ُر‪ ] (( (44) ..‬ھود [‬
‫يض ْال َماء َوقُ ِ‬
‫َو ِغ َ‬

‫تلك اللمسات الھائلة‪ ..‬كل لفظ له ثقل الجبال و وقع الرعود‪ ..‬تنزل فإذا كل شيء‪ ،‬صمت‪ ..‬سكون‪،‬‬
‫ھدوء‪ ،‬و قد كفت الطبيعة عن الغضب و وصلت القصة إلى ختامھا‪:‬‬

‫ت َعلَى ْالجُو ِديﱢ‬


‫ض َي األَ ْم ُر َوا ْست ََو ْ‬
‫يض ْال َماء َوق ُ ِ‬
‫اءك َو َيا َس َماء أَ ْقلِ ِعي َو ِغ َ‬
‫)) َوقِي َل يَا أَرْ ضُ ا ْبلَ ِعي َم ِ‬
‫يل بُعْداً لﱢ ْلقَوْ ِم الظﱠالِ ِمينَ )‪ ] (( (44‬ھود [‬ ‫َوقِ َ‬

‫إنك لتشعر بشيء غير بشري تماما في ھذه األلفاظ الھائلة الجليلة المنحوتة من صخر صوان و‬
‫كأن كل حرف فيھا جبل األلب‪.‬‬

‫ال يمكنك أن تغير حرفا‪ ،‬أو تستبدل كلمة بأخرى‪ ،‬أو تؤلف جملة مكان جملة‪ ،‬تعطي نفس اإليقاع‬
‫و النغم و الحركة و الثقل و الداللة‪ ..‬و حاول و جرب لنفسك في ھذه العبارة البسيطة ذات‬
‫الكلمات العشر أن تغير حرفا أو تستبدل كلمة بكلمة‪.‬‬

‫و لھذا وقعت العبارة القرآنية على آذان عرب الجاھلية الذين عشقوا الفصاحة و البالغة وقع‬
‫الصاعقة‪.‬‬

‫و لم يكن مستغربا من جاھلي مثل الوليد بن المغيرة عاش و مات على كفره أن يذھل‪ ،‬و أال‬
‫يستطيع أن يكتم إعجابه بالقرآن‪ ،‬برغم كفره فيقول‪ :‬و قد اعتبره من كالم محمد‪:‬‬

‫) و ﷲ إن لقوله لحالوة‪ ،‬و إن عليه لطالوة‪ ،‬و إن أعاله لمثمر‪ ،‬و إن أسفله لمغدق و إنه ليعلو و‬
‫ال يعلى عليه (‪.‬‬
‫و لما طلبوا منه أن يسبه قال‪:‬‬

‫) قولوا ساحر جاء بقول يفرق به بين المرء و أبيه‪ ،‬و بين المرء و أخيه‪ ،‬و بين المرء و زوجته‪،‬‬
‫و بين المرء و عشيرته (‪.‬‬

‫إنه السحر حتى على لسان العدو الذي يبحث عن كلمة يسبه بھا‪.‬‬

‫و إذا كانت العبارة القرآنية ال تقع على آذاننا اليوم موقع السحر و العجب و الذھول‪ ،‬فالسبب ھو‬
‫التعود و األلفة و المعايشة منذ الطفولة و البالدة و اإلغراق في عامية مبتذلة أبعدتنا عن أصول‬
‫لغتنا‪ ..‬ثم أسلوب األداء الرتيب الممل الذي نسمعه من مرتلين محترفين يكرون السورة من أولھا‬
‫إلى آخرھا بنبرة واحدة ال يختلف فيھا موقف الحزن من موقف الفرح من موقف الوعيد من‬
‫موقف البشرى من موقف العبرة‪ .‬نبرة واحدة رتيبة تموت فيھا المعاني و تتسطح العبارات‪ ..‬و‬
‫بالمثل بعض المشايخ ممن يقرأ القرآن على سبيل ) اللعلعة ( دون أن ينبض شيء في قلبه‪ ..‬ثم‬
‫المناسبات الكثيرة التي يُقرأ القرآن فيھا روتينيا‪ ..‬ثم الحياة العصرية التي تعددت فيھا المشاغل و‬
‫توزع االنتباه و تحجر القلب و تعقدت النفوس و صدأت األرواح‪.‬‬

‫و برغم ھذا كله فإن لحظة صفاء ينزع الواحد فيھا نفسه من ھذه البيئة اللزجة و يرتد فيھا طفال‬
‫بكرا و ترتد له نفسه على شفافيتھا‪ ،‬كفيلة بأن تعيد إليه ذلك الطعم الفريد و النكھة المذھلة و‬
‫اإليقاع المطرب الجميل في القرآن‪ ..‬و كفيلة بأن توقفه مذھوال من جديد بعد قرابة ألف و‬
‫أربعمائة سنة من نزول ھذه اآليات و كأنھا تنزل عليه لساعتھا و توھا‪.‬‬

‫اسمع القرآن يصف العالقة الجنسية بين رجل و امرأة بأسلوب رفيع و بكلمة رقيقة مھذبة فريدة‬
‫ال تجد لھا مثيال و ال بديال في أي لغة‪:‬‬

‫ت َح ْمالً خَ فِيفًا‪ ] (( (189) ..‬األعراف [‬


‫شاھَا َح َم َل ْ‬
‫)) فَلَ ﱠما تَ َغ ﱠ‬

‫ھذه الكلمة )) تغشاھا ((‪ ..‬تغشاھا رجلھا‪.‬‬

‫أن يمتزج الذكر و األنثى كما يمتزج ظالن و كما يغشى الليل النھار و كما تذوب األلوان بعضھا‬
‫في بعض‪ ،‬ھذا اللفظ العجيب الذي يعبر به القرآن عن التداخل الكامل بين اثنين ھو ذروة في‬
‫التعبير‪.‬‬

‫و ألفاظ أخرى تقرؤھا في القرآن فتترك في السمع رنينا ً و أصدا ًء و صوراً حينما يقسم ﷲ بالليل‬
‫و النھار فيقول‪:‬‬

‫ْح إِ َذا تَنَفﱠ َ‬


‫س )‪ ] (( (18‬التكوير [‬ ‫)) َواللﱠي ِْل إِ َذا َع ْس َع َ‬
‫س )‪َ (17‬والصﱡ ب ِ‬

‫)) عسعس ((‪ ..‬ھذه الحروف األربعة ھي الليل مصورا بكل ما فيه‪.‬‬

‫)) و الصبح إذا تنفس (( إن ضوء الفجر ھنا مرئي و مسموع‪ ..‬إنك تكاد تسمع زقزقة العصفور و‬
‫صيحة الديك‪.‬‬
‫فإذا كانت اآليات نذير الغضب و إعالن العقاب‪ ،‬فإنك تسمع األلفاظ تتفجر‪ ..‬و ترى المعمار‬
‫ُ‬
‫ص ٍر عَاتِيَ ٍة‬ ‫صرْ َ‬ ‫يح َ‬ ‫القرآني كله له جلجلة‪ .‬اسمع ما يقول ﷲ عن قوم عاد‪َ )) :‬وأَ ﱠما عَا ٌد فَأ ْھلِ ُكوا بِ ِر ٍ‬
‫صرْ عَى َكأَنﱠھُ ْم أَ ْع َجا ُز ن َْخ ٍل‬ ‫)‪َ (6‬س ﱠخ َرھَا َعلَ ْي ِھ ْم َس ْب َع لَيَا ٍل َو َث َمانِيَةَ أَي ٍﱠام ُحسُو ًما فَت ََرى ْالقَوْ َم فِيھَا َ‬
‫خَاويَ ٍة )‪ ] (( (7‬الحاقة [‬ ‫ِ‬

‫إن اآليات كلھا تصر فيھا الرياح و تسمع فيھا اصطفاق الخيام و أعجاز النخل الخاوي و صورة‬
‫األرض الخراب‪.‬‬

‫و الصور القرآنية كلھا تجدھا مرسومة بھذه اللمسات السريعة و الظالل المحكمة و األلفاظ التي‬
‫لھا جرس و صوت و صورة‪.‬‬

‫و لھذه األسباب مجتمعة كان القرآن كتابا ال يترجم‪.‬‬

‫إنه قرآن في لغته‪ .‬أما في اللغات األخرى فھو شيء آخر غير القرآن‪ )) :‬إِنﱠا أَنزَ ْلنَاه ُ قُرْ آنًا َع َربِيًّا‪..‬‬
‫)‪ ] (( (2‬يوسف [ و في ھذا تحديد فاصل‪.‬‬

‫و كيف يمكن أن تترجم آية مثل‪:‬‬

‫)) الرﱠحْ َمنُ َعلَى ْال َعرْ ِ‬


‫ش ا ْست ََوى )‪ ] (( (5‬طه [‬

‫إننا لسنا أمام معنى فقط‪ .‬و إنما نحن بالدرجة األولى أمام معمار‪ ..‬أمام تكوين و بناء تنبع فيه‬
‫الموسيقى من داخل الكلمات‪ ،‬من قلبھا ال من حواشيھا‪ ،‬من خصائص اللغة العربية و أسرارھا و‬
‫ظاللھا و خوافيھا‪.‬‬

‫و لھذا انفردت اآلية القرآنية بخاصية عجيبة‪ ..‬إنھا تحدث الخشوع في النفس بمجرد أن تالمس‬
‫األذن و قبل أن يتأمل العقل معانيھا‪ ..‬ألنھا تركيب موسيقي يؤثر في الوجدان و القلب لتوه و من‬
‫قبل أن يبدأ العقل في العمل‪.‬‬

‫فإذا بدأ العقل يحلل و يتأمل فإنه سوف يكتشف أشياء جديدة‪ ،‬و سوف يزداد خشوعا‪ ..‬و لكنھا‬
‫مرحلة ثانية‪ ..‬قد تحدث و قد ال تحدث‪ ..‬و قد تكشف لك اآلية عن سرھا و قد ال تكشفه‪ ..‬و قد‬
‫تؤتى البصيرة التي تفسر بھا معاني القرآن و قد ال تؤتى ھذه البصيرة‪ ..‬و لكنك دائما خاشع ألن‬
‫القرآن يخاطبك أوال كمعمار فريد من الكالم بنيان‪ ) ..‬فورم (‪ ..‬طراز من الرصف يبھر القلب‪..‬‬
‫ألقاه عليك الذي خلق اللغة و يعرف سرھا‪ ،‬و ليس أبدا محمد النبي األمي الذي كان يرتجف كما‬
‫ق )‪ ] (( (1‬العلق [ فيرتجف و‬ ‫ترتجف أنت و الوحي يلقي عليه باآلية‪ )) :‬ا ْق َر ْأ بِاس ِْم َربﱢكَ الﱠ ِذي خَ لَ َ‬
‫يتصبب عرقا و ال يعرف من أي سماوات يلم به ھذا الصوت اآلمر‪ ..‬و ھو يلوذ بزوجته خديجة‬
‫و ھو ال يزال يرتجف فرقا لما سمع و قد بات يخشى على نفسه الجنون فتطمئنه خديجة بصوتھا‬
‫الحاني ھامسة‪:‬‬

‫)) و ﷲ ما يخزيك ﷲ أبدا‪ ،‬إنك لتصل الرحم‪ ،‬و تحمل ال َكل‪ .‬و تكسب المعدوم‪ ..‬و تقري الضيف‪،‬‬
‫و تعين على نوائب الحق ((‪.‬‬

‫و ينقطع عنه الوحي سنتين بعد ھذه الكلمات القليلة األولى‪ ،‬و يتركه في حيرة‪ ..‬يذرع دروب‬
‫الصحراء الملتھبة يكاد يجن من أمر ھذا الصوت الذي نزل عليه ثم انقطع عنه‪.‬‬
‫و لو كان محمد مؤلفا أللف في ھاتين السنتين كتابا كامال‪.‬‬

‫و لكنه لم يكن أكثر من مستمع أمين سمع كما تسمع أنت تلك الكلمات ذات الموسيقى العلوية في‬
‫لحظة صفاء و جالء فذھل كما تذھل و صُعقت حواسه أمام ھذا التركيب الفريد المضيء‪.‬‬

‫و بعد سنتين من الصمت عاد الصوت ليھتف في أذنه‪:‬‬

‫)) َيا أَ ﱡيھَا ْال ُم ﱠدثﱢ ُر )‪ (1‬قُ ْم فَأَن ِذرْ )‪ ] (( (2‬المدثر [‬

‫ثم بدأت آيات القرآن تنزل متوالية‪ .‬و لم يكن محمد من أدعياء المعجزات‪.‬‬

‫و يوم دفن ولده الوحيد إبراھيم حدث كسوف كلي للشمس فسره الناس على أنه معجزة و مشاركة‬
‫من الطبيعة لحزن محمد فقال محمد كلمته المشھورة‪:‬‬

‫)) إن الشمس و القمر آياتان من آيات ﷲ ال ينكسفان لموت أحد و ال لحياته ((‪.‬‬

‫و لو كان في طبعه اإلدعاء اللتمس فيما حدث سببا للدعاية لنفسه‪ ،‬و لكنه كان الصادق األمين من‬
‫أول يوم في حياته إلى آخر يوم‪.‬‬

‫و الوحي يلقي إلى محمد بما ال يعلم محمد‪.‬‬

‫وحي ِه إِلَيكَ َو َما ُكنتَ لَ َد ْي ِھ ْم إِ ْذ ي ُْلقُون أَ ْقالَ َمھُ ْم أَ ﱡيھ ُْم يَ ْكفُ ُل َمرْ يَ َم َو َما ُكنتَ‬ ‫)) َذلِكَ ِم ْن أَنبَاء ْال َغ ْي ِ‬
‫ب نُ ِ‬
‫َص ُمونَ )‪ ] (( (44‬آل عمران [‬ ‫لَ َد ْي ِھ ْم إِ ْذ يَ ْخت ِ‬

‫ك ِمن قَ ْب ِل ھَ َذا فَاصْ بِرْ إِ ﱠن ْال َعاقِبَةَ‬


‫وحيھَا إِ َل ْيكَ َما ُكنتَ تَ ْعلَ ُمھَا أَنتَ َوالَ قَوْ ُم َ‬ ‫)) ِت ْلكَ ِم ْن أَنبَاء ْال َغ ْي ِ‬
‫ب نُ ِ‬
‫لِ ْل ُمتﱠقِينَ )‪ ] (( (49‬ھود [‬

‫و ھو يلقي إليه بأسرار في التوراة و اإلنجيل‪ ..‬و لم تكن ھذه الكتب قد ترجمت إلى العربية في‬
‫ذلك العصر البعيد – و أول نص مسيحي ترجم إلى العربية ھو مخطوط بمكتبة ) القديس‬
‫بطرسبرج ( كتب حوالي عام ‪ 1060‬ميالدية – كانت ھذه الكتب أسرارا عبرية ال يعرفھا إال‬
‫أصحابھا‪.‬‬

‫و ھو يتحدى اليھود بأن يخرجوا مخطوطاتھم و يقرأوھا‪:‬‬

‫)) قُلْ فَأْتُ ْ‬


‫وا بِالتﱠوْ َرا ِة فَا ْتلُوھَا إِن ُكنتُ ْم َ‬
‫صا ِدقِينَ )‪ ] (( (93‬آل عمران [‬

‫ثم ھو يصحح بعض تفاصيل التوراة‪.‬‬

‫ففي رواية التوراة لقصة يوسف يقول النص إن إخوة يوسف استخدموا في سفرھم )) الحمير (( و‬
‫القرآن يروي أنھم استخدموا )) العير (( و ھي اإلبل‪.‬‬
‫و الحمار حيوان حضري عاجز عن أن يجتاز مسافات صحراوية شاسعة لكي يجيء من فلسطين‬
‫إلى مصر‪ ..‬و حكاية العير ھي حكاية أدق و أصدق‪:‬‬

‫ألم يلعن أرميا‪ )) :‬أقالم النساخ الكاذبة ((‪.‬‬

‫إن الوحي يلقي على محمد ما ال يعلمه محمد ال ھو و ال أصحابه و ال قومه و ال نساخ التوراة و‬
‫حفاظھا‪ ..‬ثم ھو يلقي عليه من فواتح السور ما ھو أشبه بالشفرة و األلغاز مثل‪ ) :‬كھيعص (‪) ..‬‬
‫طسم (‪ ) ..‬حم (‪ ) ..‬عسق ( مما لم يقل لنا النبي إنه يعلم له تفسيراً‪.‬‬

‫و لو أن محمدا ھو الذي وضع القرآن لبث فيه أشجانه و حاالته النفسية و أزماته و أحزانه‪ ..‬و‬
‫القرآن غير ھذا تماما فھو يبدو من البدء إلى النھاية معزوال عن النفس المحمدية بما فيھا من‬
‫مشاغل و ھموم‪ ..‬بل إن اآلية لتنزل مناقضة لإلرادة المحمدية‪:‬‬

‫ْجلْ بِ ْالقُرْ آ ِن ِمن قَ ْب ِل أَن يُ ْق َ‬


‫ضى إِلَ ْيكَ َوحْ يُه ُ‪ ] (( (114) ..‬طه [‬ ‫)) َو َال تَع َ‬

‫كل ھذا يضع أمامنا القرآن كظاھرة متعالية معزولة عن النفس التي أخبرتنا بھا‪ ..‬فھي ال أكثر من‬
‫واسطة سمعت فأخبرت‪.‬‬

‫أما القرآن ذاته فھو – لفظا و معنى – من ﷲ الذي أحاط بكل شيء علما‪.‬‬

‫مخير أم مسير‬

‫القرآن معمار فريد‪ ..‬نسيج وحده‪ ..‬في الطريقة التي تصف بھا األلفاظ في رصف خاص يفجر ما‬
‫بداخلھا من نغم‪ ،‬و ھو نغم ال ينبع من حواشي الكلمات و أوزانھا و قوافيھا و إنما من باطنھا‬
‫بطريقة محيرة مجھولة تماما‪ ..‬و بطريقة تؤدي إلى خشوع المستمع و إدراكه الغامض للمصدر‬
‫الجليل الذي جاءت منه‪.‬‬

‫فنحن نصبح أسرى للقرآن بمجرد االستماع إليه‪ ..‬و قبل أن نتعقل كلماته‪ ،‬فإذا بدأنا نتأمل و نتعقل‬
‫و نحلل و نعكف على الكلمات فسوف تنفتح لنا كنوز من المعاني و المعارف و األفكار تحتاج إلى‬
‫مجلدات لشرحھا‪ ،‬و لذلك سوف أكتفي بوقفات قليلة أمام بعض المشكالت األزلية‪ ..‬كيف تناولھا‬
‫القرآن؟ و ماذا قال فيھا؟‬

‫و أوالھا مشكلة الحرية‪.‬‬

‫و الحرية ثغرة كبيرة يدخل منھا الشك و يتسلل منھا ھواة الجدل من الملحدين‪ ..‬فأول ما يقوله‬
‫الواحد منھم ليقيم الحجة على الدين كله أن يھتف محتجا‪:‬‬
‫)) إذا كان ﷲ قدر علي أفعالي‪ .‬فلماذا يحاسبني؟ ((‬

‫)) و إذا كان كل شيء يجري في الدنيا بمشيئة ﷲ فما ذنبي؟ ((‬

‫و السؤال يطرح معضلة بالفعل‪.‬‬

‫و قد أوصى النبي – صلى ﷲ عليه و سلم – أصحابه بعدم الدخول في جدل‪.‬‬

‫و قال لھم إذا جاء ذكر القدر فأمسكوا‪..‬‬

‫ألنه علم أن المعضلة من المعضالت الفلسفية العالية التي ال يتيسر الرد عليھا بعلوم عصره‪ ..‬و‬
‫أن الجدل سوف ينزلق بھم إلى متاھة يضيعون فيھا‪ ..‬و لذا فضل اإليمان بالقلب على الثرثرة‬
‫العقلية العقيمة‪..‬‬

‫و ھي وصية ال تنسحب تماما على عصرنا‪ ،‬الذي دخلت فيه الفلسفة الجامعات درسا ميسرا يتلقاه‬
‫ابن العشرين كل يوم‪.‬‬

‫و بذلك أصبح السؤال مطروحا بشدة‪ ..‬و في حاجة إلى جواب و رد شاف من الفلسفة و من الدين‬
‫و من صميم القرآن ذاته‪.‬‬

‫و من النظرة المبدئية للعالم بما فيه من أرض و سماوات و نجوم و كواكب نرى أنه يقوم على‬
‫سلسلة محكمة من األسباب و المسببات‪ ،‬و أن كل شيء فيه يجري بنظام محكم‪ ..‬و إن كان لديك‬
‫ورقة و قلم فإنك تستطيع أن تحسب بالضبط متى تشرق الشمس و متى تغرب‪ ،‬ألنھا تتحرك‬
‫حسب قانون‪ ..‬و كل شيء في الدنيا يتحرك حسب قانون‪.‬‬

‫إال اإلنسان‪ ..‬فإنه يشعر بأنه يمشي ) على كيفه (‪.‬‬

‫اإلنسان وحده ھو الحر المتمرد الثائر على طبيعته و ظروفه‪ ،‬و لھذا يصطدم بالعالم و يصارعه‪..‬‬
‫و يستحيل في أي لحظة أن يتنبأ أحد بمصيره‪.‬‬

‫و حكاية الحتمية الداخلية التي تصورھا ) فرويد ( فاعتبر اإلرادة بسببھا حرة في الظاھر لكن‬
‫مقيدة في الباطن و أسيرة لجبرية الغرائز و آلية الحوافز الباطنة‪ ..‬عاد ھو ذاته فنقضھا و قال‪ :‬إن‬
‫الغريزة ھي خام غفل تتصرف فيه اإلرادة بالكبت أو باإلطالق أو بالتسامي‪.‬‬

‫و ھكذا عادت الغريزة لتصبح مجرد ظرف تتحكم فيه اإلرادة كما تتصرف اإلرادة في الظروف‬
‫الخارجية و تتحكم فيھا‪ ..‬و أصبحت اإلرادة بھذا المعنى حقيقة متعالية متجاوزة للغرائز‪.‬‬

‫و بالمثل حكاية الحتمية الطبقية التي أثارھا ) الماركسيون ( ‪ ..‬فاعتبروا كل إنسان ابن طبقته‪..‬‬
‫تحدد له طبقته حوافزه النفسية و عواطفه و رغباته و شخصيته السلوكية‪ ..‬فھو يتصرف كنبيل أو‬
‫إقطاعي أو ) كبروليتاري ( ال كفالن الفالني‪ .‬بل ھو ال يكاد يملك نفسا فما يتخيل أنه نفس مستقلة‬
‫بداخله‪ ،‬ما ھي في الحقيقة إال مجموعة من األنماط السلوكية التي استعارھا من طبقته‪ ..‬إنھا‬
‫الحتمية الطبقية تعمل من خالله‪ ..‬و ما ھو إال وسيط تظھر من خالله القوى اإلجتماعية‬
‫الالمعقولة في تصارعھا‪.‬‬
‫و ھي نظرة أوقعت الفكر الماركسي و علم النفس الطبقي في أشد التناقض‪ ..‬فكيف نفسر سلوك‬
‫رجل مثل ) تولستوي ( و ھو من النبالء اإلقطاعيين بحكم الوراثة و ھو مع ذلك لم يتصرف أبدا‬
‫كنبيل و ال كإقطاعي‪ ،‬بل تصرف كطليعة الفقراء و الفالحين محطما بذلك تلك الحتمية التي‬
‫سماھا )) علم النفس الطبقي ((‪ .‬و بالمثل ) باكونين( و ) كروبتكين ( طليعة الفوضوية و كانا من‬
‫كبار األعيان‪ .‬و ) ماركس ( ذاته ابن الطبقة البورجوازية الذي انقلب على الطبقة البورجوازية‪.‬‬

‫و ماذا نقول عن الفالح الذي يھمل تنقية الدودة في مزرعة تعاونية‪ ..‬و العامل الذي يھمل صيانة‬
‫األوتوبيسات في قطاع عام‪.‬‬

‫إن ھذ الحتمية التي يصورھا علم النفس الطبقي ھي كالم غير دقيق و غير علمي‪.‬‬

‫و الحقيقة أن النفس اإلنسانية انفردت دون صنوف الوجود المادي‪ ،‬بأنھا تملك قدرة داخلية على‬
‫التملص من الالبد و الالزم‪ ..‬و الضروري‪ ..‬و المحتوم‪ ..‬و أن اإلرادة اإلنسانية لھا حريتھا في أن‬
‫تخل بأي تعاقد‪ ..‬و يستحيل التنبؤ بما يجري في منطقة الضمير‪ ..‬ألنھا منطقة حرة بالفعل‪.‬‬

‫ال شيء يحول بين اإلنسان و بين أن يضمر شيئا في نفسه‪ .‬إنه المخلوق الوحيد الذي يملك ناصية‬
‫أحالمه‪.‬‬

‫و لكن ھذه الحرية البكر الطليقة في الداخل ما تلبث أن تصطدم بالعالم حينما تحتك به ألول مرة‬
‫في لحظة الفعل‪.‬‬

‫إن رغبتنا تظل حرة مادامت كامنة في الضمير و النية‪ ..‬فإذا بدأنا التنفيذ اصطدمنا بالقيود‪ ..‬و أول‬
‫قيد نصطدم به ھو جسدنا نفسه الذي يحيط بنا مثل ) الجاكتة الجبس( و يحصرنا بالضرورات و‬
‫الحاجات و يطالبنا بالطعام و الشراب ليعيش و يستمر و ال نجد مھربا من تلبية ھذه المطالب‪.‬‬
‫فنجري خلف اللقمة و نلھث خلف الوظيفة و نضيع في صراع التكسب و نفقد بعض حريتنا‪..‬‬
‫بعضھا و ليس كلھا‪ ..‬و ھو ثمن ضروري‪ ،‬فرغباتنا ال تستطيع أن تعلن عن نفسھا بدون جسد‪ ،‬و‬
‫جسدنا ھو أداة حريتنا كما أنه القيد عليھا‪ .‬و ليس جسدنا وحده بل أجساد اآلخرين أيضا أدواتنا‪،‬‬
‫فنحن ننتفع بما يصنعه العامل و ما يزرعه الفالح و ما يخترعه المخترع و ما يكتبه الكاتب و كل‬
‫ھذه ثمار أجساد اآلخرين و حرياتھم‪.‬‬

‫إن المجتمع أداة ھائلة موضوعة في خدمتنا بما فيه من بريد و مواصالت و نور و مياه و‬
‫صناعات و علوم و معارف‪.‬‬

‫و حينما يركب أحدنا قطارا فإنه يركب في الوقت نفسه على حرية مجھزة أعدھا له آالف العمال‬
‫و المھندسين و المخترعين و ھو يدفع في مقابل ھذا الكسب ضريبة من حريته‪.‬‬

‫و ليس المجتمع وحده ھو الذي يتقضاه ضرائب و لكن الكون كله‪ ..‬جاذبية األرض و ضغط‬
‫الھواء و مياه المحيطات و السماء بكواكبھا‪ ..‬كلھا تحاصره و تحاصر حريته و تطالبه بنوع من‬
‫الوفاق معھا‪.‬‬

‫و ھو بالوفاق يربح حريته دائما‪.‬‬


‫بالوفاق مع العالم يمتطيه كما يمتطي الجواد‪.‬‬

‫فھو حينما يفطن إلى اتجاه الريح و يضع شراعه في مواجھتھا يمتطي الريح و يسخرھا لخدمته‪..‬‬
‫و حينما يفطن إلى أن الخشب يمتطي الماء‪ ..‬و بالمثل حينما يفطن إلى نفع الناس‪ ،‬و يسير في‬
‫اتجاھھم يكسب الناس و يكسب معونتھم‪.‬‬

‫إن اإلنسان يعيش مضطربا بين عالمين‪ :‬عالم إرادته الحرة بداخله‪ ..‬و عالم المادة حوله الراسف‬
‫المغلول في القوانين‪.‬‬

‫و سبيله الوحيد إلى فعل حر ھو معرفة ھذه القوانين و الفطنة إلى استغاللھا بالوفاق معھا‪ ..‬و ھو‬
‫دائما أمر ممكن‪.‬‬

‫و لھذا فالحرية حقيقة ال تنفيھا المقاومات و الظروف الخارجية‪ ،‬بل إن ھذه المقاومات تؤكد‬
‫الحرية فال يمكن أن تكشف حريتنا عن مدلولھا في الخارج إال بوجود عقبات تزحزحھا و تتغلب‬
‫عليھا‪ ..‬إنھا تكشف عن مدلولھا من خالل صراع و بدون ھذا الصراع ال يقوم لھا معنى‪.‬‬

‫و الضوابط الخلقية و القوانين االجتماعية ال تنفي الحرية و إنما ھي أشبه بعالمات المرور‪..‬‬
‫وضعت لتننظم المرور و تفسح أكبر حرية للكل‪.‬‬

‫و أنت حينما تقيم الضوابط على شھوتك تكسب حريتك ألنك تصبح سيد نفسك ال عبدا لغريزتك‪.‬‬

‫أما حرية القمار و السكر و العربدة و المخدرات و التبذل الجنسي فھي ليست حريات و إنما‬
‫درجات من االنتحار و إھدار الحياة و بالتالي إھدار الحرية‪.‬‬

‫و كل اختيار ضد الحياة ال يكون اختيارا‪.‬‬

‫و كل اختيار ضد القانون الطبيعي ليس اختيارا و إنما إھدار لالختيار‪ ،‬و كلنا نعلم أننا إذا أردنا أن‬
‫نزداد حرية و نحن نسبح اخترنا السباحة مع التيار و ليس ضده‪.‬‬

‫نخلص من ھذا إلى أن حرية اإلنسان حقيقة برغم ما يقوم حولھا من حدود و مقاومات‪ ..‬و أن‬
‫اإلنسان حر حرية مطلقة في منطقة ضميره‪ ،‬فھو يستطيع أن يضمر ما يشاء‪ ..‬و حر حرية نسبية‬
‫في التنفيذ‪ ،‬في منطقة الفعل و العمل‪ ..‬بحسب ما يقوم حوله من حدود و مقاومات‪.‬‬

‫و يبقى بعد ذلك اللغز األزلي في عالقة اإلنسان با ‪ ..‬و عالقة حرية اإلنسان باإلرادة اإللھية‬
‫المطلقة‪.‬‬

‫و ألن القرآن كتاب دين و ليس كتاب فلسفة فإنه يكتفي بالومض و الرمز و اإلشارة و اللمحة‪.‬‬

‫فيقرر أوال أن حرية اإلنسان كانت بمشيئة ﷲ و رغبته و مراده‪ ..‬و أن ما يجري من حرية‬
‫اإلنسان ال يجري إكراھا للخالق و ال إكراھا للمخلوق‪ ،‬و إنما بھذا قضت المشيئة‪.‬‬

‫و يقول القرآن في وضوح‪:‬‬


‫)) و لو شاء ربك آلمن من في األرض كلھم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (( )‬
‫‪ – 99‬يونس (‬

‫لقد رفض ﷲ أن يكره الناس على اإليمان و كان ھذا في إمكانه‪ ،‬و لكنه أراد لإلنسان أن يكون‬
‫حرا مختارا‪ ،‬يختار اإليمان أو الكفر كما يشاء‪:‬‬

‫)) و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر‪ – 29) (( ..‬الكھف (‬

‫)) ال إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي‪ – 256 ) (( ..‬البقرة (‬

‫)) و لو شئنا آلتينا كل نفس ھداھا‪ – 13) (( ..‬السجدة(‬

‫)) و أما ثمود فھديناھم فاستحبوا العمى على الھدى‪ – 17 ) (( ..‬فصلت (‬

‫إن ﷲ يتركنا و لو اخترنا العمى على الھدى‪ ..‬و قد سبقت بھذا مشيئته‪ .‬بل فعل بنا أكثر من ھذا‪،‬‬
‫فخيرنا حتى في أن نختار‪ ..‬عرض علينا ھذه األمانة ) و ھي الحرية و المسئولية ( عرضھا‬
‫لنقبلھا أو نرفضھا كما نشاء و ھي األمانة التي رفضتھا الجبال فحمل اإلنسان األمانة التي‬
‫رفضتھا الجبال‪ .‬و كان بنفسه جھوال ظلوما‪:‬‬
‫)) إنا عرضنا األمانة على السماوات و األرض و الجبال فأبين أن يحملنھا و أشفقن منھا و حملھا‬
‫اإلنسان إنه كان ظلوما جھوال (( ) ‪ – 72‬األحزاب (‬

‫لقد جھل اإلنسان تبعة ھذه األمانة و أھوالھا و مھالك الغرور التي سوف يتعرض لھا بحملھا‪ ..‬و‬
‫كيف أنه سيظلم بھا نفسه و غيره‪ ..‬و لكن ﷲ كان يعلم بھذه المحنة الھائلة‪ ..‬و كان يعلم أن ھذه‬
‫المحنة سوف تزكي اإلنسان و تطھره و تربيه‪:‬‬

‫)) و إذ قال ربك للمالئكة إني جاعل في األرض خليفة قالوا أتجعل فيھا من يفسد فيھا و يسفك‬
‫الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال إني أعلم ما ال تعلمون (( ) ‪ – 30‬البقرة (‬

‫و ال نعرف كيف تم ھذا العرض على اإلنسان بأن يكون حرا أو ال يكون‪ ،‬و ال متى تم ھذا‬
‫العرض‪ ..‬ھل حدث في مبدأ الخلق مع آدم‪ ..‬أم مع األرواح قبل نزولھا إلى األرحام‪ ..‬فھذا غيب‬
‫مطلق‪.‬‬

‫و القرآن يكتفي بأن يعطي ومضة‪ ،‬و لمحة‪..‬‬

‫و بھذه الحرية التي قبلھا اإلنسان مختارا حقت عليه المسئولية و المحاسبة‪ ،‬و أشار القرآن لھذا في‬
‫آيات حاسمة قاطعة‪:‬‬

‫)) كل نفس بما كسبت رھينة (( ) ‪ – 38‬المدثر (‬

‫)) كل امرئ بما كسب رھين (( ) ‪ – 21‬الطور (‬

‫)) و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه‪ – 13 ) (( ..‬اإلسراء (‬


‫)) قل ال تسألون عما أجرمنا و ال نسأل عما تعملون (( ) ‪ – 25‬سبأ (‬

‫)) و ال تزر وازرة وزر أخرى‪ – 15 ) (( ..‬اإلسراء (‬

‫و ال يستطيع أحد أن يفتدي آخر أو يحمل عنه ذنبه و إنما لكل عمله و على كل وزره‪.‬‬

‫و بمقتضى ھذه الحرية جعل ﷲ من )) ضمير اإلنسان و نيته و سريرته (( منطقة محرمة و قدس‬
‫أقداس‪ ..‬ال يدخلھا قھر أو جبر‪ ..‬و قطع على نفسه عھدا بأن تكون ھذه المنطقة حراما ال يدخلھا‬
‫جنده‪.‬‬

‫فالمبادرة بالنية حرة تماما‪.‬‬

‫و كل منا له أن يضمر و ينوي و يسر في سريرته ما يشاء‪ ،‬و إنما يبدأ التدخل اإللھي لحظة‬
‫خروج النية إلى حيز الفعل‪ .‬فيعطي ﷲ لكل إنسان تيسيرات من جنس نيته و من جنس ضميره و‬
‫قلبه‪ ..‬و ھو عين العدل‪ ..‬ليكون الفعل بعد ھذا معبرا عن دخيلة فاعله‪:‬‬

‫))فأما من أعطى و أتقى )‪ (5‬و صدق بالحسنى )‪ (6‬فسنيسره لليسرى )‪ (7‬و أما من بخل و‬
‫استغنى )‪ (8‬وكذب بالحسنى )‪ (9‬فسنيسره للعسرى )‪) (( (10‬الليل(‬

‫ھا ھنا وعد آخر من ﷲ بأن يجعل تيسيرات األفعال مطابقة لدخائل القلوب فيجد الشرير تيسيرات‬
‫الشر‪ ،‬و يجد الخير تيسيرات الخير‪ ..‬و من يعلم ﷲ فيه الھدى يھديه‪ ،‬و من يعلم فيه الضالل‬
‫يتركه للشياطين تضله‪:‬‬

‫)) فعلم ما في قلوبھم فأنزل السكينة عليھم و أثابھم فتحا قريبا (( ) ‪ – 18‬الفتح (‬

‫و في آيات أخرى نراه يقول‪:‬‬

‫)) و لو علم ﷲ فيھم خيرا ألسمعھم‪ – 23 ) (( ..‬األنفال (‬

‫)) فلما زاغوا أزاغ ﷲ قلوبھم‪ – 5 ) (( ..‬الصف (‬

‫و ألن ﷲ علم بكل شيء مسبقا‪ ..‬و أحاط بكل شيء علما‪ ..‬نراه يتكلم في القرآن عمن‪:‬‬

‫)) حق عليھم القول‪ – 25 ) (( ..‬فصلت (‬

‫)) إن الذين سبقت لھم منا الحسنى‪ – 101 ) (( ..‬األنبياء (‬

‫)) و منھم من حقت عليه الضاللة‪ – 36 ) (( ..‬النحل (‬

‫)) حق القول مني ألمألن جھنم من الجنة و الناس أجمعين (( ) ‪ – 13‬السجدة (‬

‫فقد علم مسبقا و سلفا أن اإلنسان سيفسد في األرض و سيسفك الدم و يظلم نفسه و يظلم اآلخرين‪..‬‬
‫و يستحق بذلك درجات متفاوتة من العقوبة‪.‬‬
‫كل ھذا كان في سابق علمه‪.‬‬

‫و ليس ھذا بالجبر و ال بالحتم‪ ..‬و لكن‪ ..‬كما يحدث أن تتوسم في أحد أبنائك حب العلم و التحصيل‬
‫فتمده بالتسھيالت و التيسيرات و تبعثه إلى الخارج في بعثة‪ ..‬و ترى في اآلخر العكوف على‬
‫الفساد و صحبة السوء فتكتفي بما له من حظ محدود من التعليم في بلده‪ ..‬و لو فعلت عكس ذلك‬
‫لكنت ظالما‪ ،‬و ألكرھت أبناءك على غير طبائعھم‪.‬‬

‫كما أن ھذا التوسم المسبق ليس فيه عنصر إكراه و ال جبر‪ ..‬و إنما ھو مجرد سبق علم‪ ..‬فأنت‬
‫تعلم مسبقا من أخالق ولدك بأنه سوف ينصرف إلى اللعب و يھمل كتبه‪ ..‬فإذا انصرف إلى اللعب‬
‫بالفعل و أھمل كتبه فإن ذلك ال يكون إكراھا منك و ال جبرا و ال عنوة و إنما ألن ھذه طبيعته‬
‫التي سبق علمك إليھا‪ ..‬و إنما تأتي التجربة فتكشف له نفسه‪ ..‬و بذلك يحق عليه العقاب صدقا و‬
‫عدال‪ ..‬فقد علم من نفسه ما لم يكن يعلمه‪:‬‬

‫)) علمت نفس ما قدمت و أخرت (( ) ‪ – 5‬االنفطار (‬

‫و لھذا جاءت الدنيا لتكون حقل تجربة و اختبارا لمعادن النفوس‪:‬‬

‫)) خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عمال‪ – 2 ) (( ..‬الملك (‬

‫و حتى ال تكون ألحد أعذار في أفعاله فيقول لحظة الحساب فعلت كذا و كذا تحت تأثير العرف و‬
‫التقاليد و البيئة و المجتمع و التربية‪ ..‬إلخ‪ ..‬إلخ‪ ..‬حسم ﷲ الموضوع فقال في القرآن‪:‬‬

‫)) ال يؤاخذكم ﷲ باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم‪ – 225) (( ..‬البقرة (‬

‫و في آية ثانية‪:‬‬

‫)) و ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به و لكن ما تعمدت قلوبكم‪ – 5 ) (( ..‬األحزاب (‬

‫و في آية ثالثة يحدثنا عن الذين ارتدوا إلى الكفر بعد إيمانھم و يھددھم بأشد العذاب ثم يستثني‬
‫قائال‪:‬‬

‫)) إال من أكره و قلبه مطمئن باإليمان‪ – 106 ) (( ..‬النحل (‬

‫أي من كفر بلسانه تحت تأثير التعذيب و ظل قلبه مؤمنا‪.‬‬

‫إن ما يدور في القلب ھو موضوع المحاسبة بالدرجة األولى و ليس ما يجري على مسرح الفعل‪.‬‬

‫)) يوم تُبلى السرائر (( ) ‪ – 9‬الطارق (‬

‫إن السريرة ھي محل االبتالء و محل المحاسبة‪.‬‬


‫و السريرة ھي السر المتجاوز للظروف و المجتمع و البيئة و التربية كما أسلفنا في شرحنا‬
‫المسھب‪ ..‬فھي المبادرة المطلقة‪ ..‬و االبتداء المطلق الذي أعتقه ﷲ من كل القيود‪.‬‬

‫إنھا روحك ذاتھا و ھي الكاشفة عن حقيقتك بمثل ما تكشف بصمة إصبعك عن فرديتك‪.‬‬

‫و روحك فيھا من حرية ﷲ ألنھا نفخة منه‪:‬‬

‫)) فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (( ) ‪ – 29‬الحجر (‬

‫و ألن فيك ذلك القبس من ﷲ و ألنه كرمك بحرية اإلرادة‪ ،‬فأنت محاسب على ھذه الحرية‪ ،‬و ھذا‬
‫منتھى العطاء اإللھي و منتھى العدل أيضا‪.‬‬

‫و من ھنا يأتي المزج بين الروح و بين ﷲ في آيات عميقة الداللة‪:‬‬

‫)) و ما رميت إذ رميت و لكن ﷲ رمى‪ – 17 ) (( ..‬األنفال (‬

‫يأتيك النصر بيدك و بيد ﷲ في ذات الوقت فتكون يدك لحظة االنتصار ھي يد ﷲ و رميتك رميته‬
‫و مشيئتك مشيئته‪.‬‬

‫و من ھنا قد يعترض معترض فيقول‪:‬‬

‫فلماذا ال تكون النية ھي األخرى مقدرة؟‬

‫و الجواب على ذلك يأتي من صميم القرآن‪:‬‬

‫)) في قلوبھم مرض فزادھم ﷲ مرضا‪ – 10 ) (( ..‬البقرة (‬

‫)) كذلك يضل ﷲ من ھو مسرف مرتاب (( ) ‪ – 34‬غافر (‬

‫)) و الذين اھتدوا زادھم ھدى‪ – 17 ) (( ..‬محمد (‬

‫)) فلما زاغوا أزاغ ﷲ قلوبھم‪ – 5 ) (( ..‬الصف (‬

‫)) سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في األرض بغير الحق‪ – 146 ) (( ..‬األعراف (‬

‫و من ھذا يتبين أن ﷲ ترك المبادرة بالنية دائما لك ثم بعد ذلك يأتي قضاؤه فيزيدك مرضا إذا‬
‫أضمرت المرض في قلبك و يھديك إذا بادرت في سريرتك بميل إلى ھدى‪ ..‬و يصرفك عن‬
‫الھدى إذا أضمرت الكبر‪.‬‬

‫إن منطقة الضمير متروكة دائما لك لتبادر بما تشاء‪ ..‬و بعد ذلك ينزل عليك القضاء و يحق عليك‬
‫القول‪.‬‬

‫و ﷲ ال يمكن أن يفرض عليك نية بالسوء أو بالظلم‪:‬‬


‫)) إن ﷲ ال يأمر بالفحشاء أتقولون على ﷲ ما ال تعلمون (( ) ‪ – 28‬األعراف (‬

‫و ھذا يدل على أن قانون الخلق األول ھو أن تكون الروح محرابا و قدس أقداس ال يدخلھا قھر‪..‬‬
‫و ال يكرھھا ﷲ على شيء ال ھو و ال جنده و ال أنبياؤه و ال أولياؤه إن النفس حرة منزھة‪.‬‬

‫إنھا)) السر األعظم (( الذي ال يعلم به إال ﷲ يوم تبلى السرائر‪.‬‬

‫و في ھذا يقول حديث نبوي شريف عن أبي بكر‪:‬‬

‫)) ال يفضلكم أبوبكر بصالة و ال بصيام و لكن بسر وقر في قلبه ((‪.‬‬

‫و يقول ﷲ في قرآنه‪:‬‬

‫)) ود كثير من أھل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسھم‪– 109 ) (( ..‬‬
‫البقرة (‬

‫لم يخلق ﷲ الحسد في قلوبھم و لم يودعه ضمائرھم‪ ،‬و لكنھم يحسدونكم اختيارا من عند أنفسھم‪..‬‬
‫و العبارة ھنا صريحة )) من عند أنفسھم ((‪ ..‬و ھي تنفي التدخل اإللھي و تقطع بوجود ھذه‬
‫المنطقة الداخلية التي تركھا ﷲ حرة‪.‬‬

‫و يقول ﷲ تعالى مخاطبا الشيطان‪:‬‬

‫)) إن عبادي ليس لك عليھم سلطان إال من اتبعك من الغاوين (( ) ‪ – 42‬الحجر (‬

‫إن الشيطان ال يستطيع أن يدخل قلبك إال إذا فتحت له الباب اختيارا و كنت من الغاوين‪ ،‬و لكنه ال‬
‫يستطيع أن يقتحم عليك قلبك جبرا و قسرا‪.‬‬

‫إن ﷲ قد كفل لھذا لقلب الحماية و لم يجعل ألحد من جند الشر أو الخير سلطانا قاھرا عليه إال إذا‬
‫أراد صاحب ھذا القلب اختيارا أن يستضيف و يدعو و يحتضن دواعي الشر أو دواعي الخير‬
‫فحينئذ يكون له ما أراد‪.‬‬

‫نحن أمام قدس أقداس بالفعل‪ ..‬و حرم محرم تقوم عليه األسوار و ال يدخله حتم و ال جبر و ال‬
‫إكراه‪.‬‬

‫و ما يحدث لنا من إكراه بالفعل في عالم الواقع ال يمكن أن يصل إلى داخل ضمائرنا‪.‬‬

‫يمكنك أن تجبرني بالقوة على أن أرفع يدي أو أقف مرغما أو اھتف باسمك‪ ،‬و ال يمكنك أبدا أن‬
‫تجبرني على أن أحبك‪.‬‬

‫و لھذا ال تعطينا األديان رخصة لنقول يوم الحساب إن فالنا أغراني أو فالنا أجبرني‪ ،‬أو فالنا‬
‫أكرھني أمال في أن يلقي الواحد ذنبه على اآلخر‪ ،‬فقد جعل ﷲ من أعماق الضمير و السريرة‬
‫منطقة حراما ال يستطيع أن يدخلھا جبار بجبروته‪.‬‬
‫يمكنك أن تكره خادمك على فعل‪ .‬و لكنك ال تستطيع أن تكرھه على أن يضمر شيئا في سريرة‬
‫قلبه‪.‬‬

‫و القرآن يعتبرك حرا مسئوال مھما أحاطت بك ظروف االستبداد فيقول إشارة إلى أمثال ھذه‬
‫الظروف‪:‬‬

‫)) ألم تكن أرض ﷲ واسعة فتھاجروا فيھا‪ – 97 ) ( ..‬النساء (‬

‫ال أعذار‪.‬‬

‫حينما تقضي اللحظة أن تختار فأنت تختار نفسك بالفعل‪.‬‬

‫)) إنا ھديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا (( ) ‪ – 3‬اإلنسان (‬

‫و في لفظ )) إما (( يبدو عنصر االختيار واضحا محددا‪.‬‬

‫)) و نفس و ما سواھا ) ‪ ( 7‬فألھمھا فجورھا و تقواھا ) ‪ ) (( ( 8‬الشمس (‬

‫أي فتح أمامھا سبيل الخير و الشر و تركھا أمام الطريقين لتختار‪ ..‬و لھذا قال ) فجورھا و تقواھا‬
‫(‪ ،‬و لم يقل ) أو تقواھا ( ألنه فتح الطريقين معا ليجعل للنفس االختيار و لم يجبرھا على أحد‬
‫الطريقين‪ ..‬و لذلك أردف موضحا‪:‬‬

‫)) قد أفلح من زكاھا ) ‪ ( 9‬و قد خاب من دساھا ) ‪ ) (( ( 10‬الشمس (‬

‫فرد الفالح و الخيبة للنفس المخيرة‪ ،‬و في آية أخرى يوضح األمر أكثر فيقول‪:‬‬

‫)) و ھديناه النجدين (( ) ‪ – 10‬البلد (‬

‫أي ھديناه مفترق طريقين يختار أيھما‪.‬‬

‫إن النية حرة‪.‬‬

‫و السريرة حرة في إضمارھا لما تشاء‪.‬‬

‫أما الفعل فھو حر و مقدور في ذات الوقت‪.‬‬

‫و كل واحد منا له نصيبه من حرية الفعل‪ ..‬و الذي يقول بالجبرية سوف يقع في مأزق حينما‬
‫نسأله كيف يميز بين يده يحركھا في حرية و يكتب بھا ما يشاء‪ ..‬و بين يده و ھي أسيرة ترتعش‬
‫قھرا في رجفة الحمى‪ ..‬ھنا أمامنا حالتان واضحتان‪ ،‬حرية في حالة الصحة‪ ،‬و جبرية في حالة‬
‫المرض‪ ،‬و لو كانت الجبرية التي يقول بھا صحيحة لما أمكن أن يميز بداھة بين الحالين‪ ..‬و لما‬
‫أمكن أن تقوم الحالتان أصال‪.‬‬
‫إن حرية الفعل إذن حقيقة‪ ..‬و القدر أيضا حقيقة‪.‬‬

‫و المشكلة ھي أن نحاول أن نفھم ھذا االزدواج و كيف ال يلغي القدر الحرية‪ ..‬و كيف ال تلغي‬
‫الحرية القدر‪.‬‬

‫و ھذا أمر نستشفه من اآليات استشفافا‪ ..‬فھي تلمح و ال تصرح حتى ال تُلقي بالناس في بلبلة‪.‬‬

‫يقول ﷲ في كتابه‪:‬‬

‫)) إن نشأ ننزل عليھم من السماء آية فظلت أعناقھم لھا خاضعين (( ) ‪ – 4‬الشعراء (‬

‫لو شاء لفعل و لكنه لم يفعل‪ ..‬ألنه لم يشأ أن يقھرنا على إيمان فتنتفي بذلك حرية االختيار التي‬
‫جعل منھا جوھر وجودنا‪ ..‬فقد أراد لنا أن نكون أحرارا نؤمن أو نكفر‪.‬‬

‫و لم يجعل ﷲ إبليس إبليسا‪.‬‬

‫و إنما إبليس اختار لنفسه الكبرياء و الجبروت و التعاظم حينما رفض أن يكون في خدمة آدم مثل‬
‫بقية المالئكة و قال‪:‬‬

‫)) أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين (( ) ‪ – 76‬ص (‬

‫اختار إبليس لنفسه الغرور بغير علم و ال حق‪ .‬فاختاره ﷲ ليغرر بالناس و قضى عليه قضاء من‬
‫جنس ضميره‪.‬‬

‫و بالمثل أبصر النقاء و الطھر في قلب محمد فاختاره نبيا للھداية‪:‬‬

‫)) و الذين جاھدوا فينا لنھدينھم سبلنا‪ – 69 ) (( ..‬العنكبوت (‬

‫و لھذا السبب أيضا – لعدم القھر و الجبر – أخفى ﷲ نفسه في اإلنجيل‪ ،‬و أخفى نفسه في القرآن‬
‫ألنه لم يرد أن يلجمنا بالتجلي القاطع الفاصل فيقھرنا على اإليمان قھرا‪ .‬فجعل من التوراة و‬
‫اإلنجيل و القرآن كتبا يمكن أن نؤمن بھا و يمكن أن نشك فيھا‪.‬‬

‫و قال عن قرآنه‪:‬‬

‫)) يضل به كثيرا و يھدي به كثيرا‪ – 26 ) (( ..‬البقرة (‬

‫و ضمن آياته البراھين و لكنه لم يجعلھا أبدا براھين ملزمة تأخذ بالخناق و تقھر العقل‪ ..‬و إنما‬
‫تركك دائما لترجح شيئا على شيء حرصا منه على حريتك‪ ..‬و لتقول ما تريد دون مؤثرات‬
‫كابحة‪ ..‬فتفصح عن دخيلتك و سريرتك و يحق عليك القول‪.‬‬

‫لقد أرادك أن تكون من أحد األوجه خليفة صغيرا له على األرض تحكم و تقضي في شئونك و‬
‫شئون اآلخرين‪ ..‬ليمتحنك و يختبرك‪.‬‬
‫و في آية نموذجية يشرح القرآن ما بين القدر اإللھي و الحرية الفردية من تالق‪ ،‬و يرفع ما بينھما‬
‫من تناقض‪ ..‬حينما يروي ما حدث من تكاسل المنافقين عن نصرة الرسول – صلى ﷲ عليه و‬
‫سلم – و عدم الخروج معه في غزواته‪:‬‬

‫)) و لو أرادوا الخروج ألعدوا له عدة و لكن كره ﷲ انبعاثھم فثبطھم و قيل اقعدوا مع القاعدين )‬
‫‪ ( 46‬لو خرجوا فيكم ما زادوكم إال خباال و ألوضعوا خاللكم يبغونكم الفتنة و فيكم سماعون لھم‬
‫و ﷲ عليم بالظالمين ) ‪ ) (( ( 47‬التوبة (‬

‫ھا ھنا منافقون بالقلب ال يريدون بالنية أن ينصروا نبيھم فيقضي عليھم ﷲ بمثل نيتھم فال يريد‬
‫لھم كما لم يريدوا ألنفسھم و يثبطھم و يكره لھم الخروج كما كرھوه ألنفسھم‪.‬‬

‫و يبدو ھذا التماثل بين قدر ﷲ و سريرة اإلنسان في آية أخرى أكثر صراحة و التي تخاطب النبي‬
‫)) يا أيھا النبي قل لمن في أيديكم من األسرى إن يعلم ﷲ في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ‬
‫منكم‪ – 70 ) (( ..‬األنفال (‬

‫ھنا يبدو الفعل اإللھي ) القدر ( دائما من جنس النية التي ھي عين االختيار‪.‬‬

‫و يبدو كيف تماثل أمر ﷲ و اختيار اإلنسان و انتفى التناقض‪ ..‬فلم يكن التناقض إال في وھمنا‬
‫نتيجة عدم الفھم‪.‬‬

‫و أصبح من السھل علينا أن نفھم آيتين متناقضتين في الظاھر مثل‪:‬‬

‫)) فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر‪ – 29 ) (( ..‬الكھف (‬

‫)) و ما تشاءون إال أن يشاء ﷲ‪ – 30 ) (( ..‬اإلنسان (‬

‫ففي اآلية األولى يصف ﷲ إرادة اإلنسان الحرة‪.‬‬

‫و في اآلية الثانية يتكلم عن إرادته اإللھية و ھي القدر‪.‬‬

‫و ما بين اإلثنين من تناقض ھو تناقض في الظاھر فقط‪ ..‬فقد فھمنا أن ﷲ ال يريد لإلنسان إال ما‬
‫يريد اإلنسان لنفسه‪:‬‬

‫)) و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الھدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى و‬
‫نصله جھنم و ساءت مصيرا (( ) ‪ – 115‬النساء (‬

‫من يختار طريق السوء و يرى ﷲ في نيته اإلصرار فإنه ال يكرھه على الخير و إنما يختار له ما‬
‫اختار لنفسه و يمد له في غيه و يمھد له أسباب الشر تمھيدا حتى يخرج ما يكتمه و يتلبس بفعله و‬
‫يحق عليه العذاب‪:‬‬

‫)) نولّه ما تولى و نصله جھنم و ساءت مصيرا (( ) ‪ – 115‬النساء (‬

‫ھنا الجبر ھو عين االختيار و ال تناقض ألن إرادة ﷲ ھي إرادة العبد‪.‬‬


‫انتفت الثنائية‪.‬‬

‫)) إن ﷲ ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسھم‪ – 11 ) (( ..‬الرعد (‬

‫ﷲ ال يغير ما يريده بإنسان حتى يغير ذلك اإلنسان ما يريده بنفسه‪ ..‬التطابق ھنا واضح‪.‬‬

‫اإلثنان‪ ..‬الحرية و القدر‪ ..‬ينفذ القضاء و يتم الفعل بإرادة ﷲ و مشيئته و في الوقت نفسه باختيار‬
‫اإلنسان و حريته بال تناقض )) قل ك ٌل من عند ﷲ (( ) ‪ – 78‬النساء (‬

‫فأنت تشاء و لكن قدرتك على أن تشاء و تختار ھي منحة من ﷲ و مشيئة عليا‪ ..‬حريتك ذاتھا‬
‫منحة و عطية و مشيئة إلھية‪ ..‬و من ھنا كانت اآلية‪:‬‬

‫)) و ما تشاءون إال أن يشاء ﷲ‪ – 30 ) (( ..‬اإلنسان (‬

‫ھي تقرير للحقيقة‪ ..‬و ليست كالما متناقضا‪ ..‬فھي تقرر أنك حر و لكن حريتك منحة و عطية و‬
‫ھبة و مشيئة من المعطي‪.‬‬

‫)) و ﷲ مخرج ما كنتم تكتمون (( ) ‪ – 72‬البقرة (‬

‫ﷲ يخرج ما في النية و يفضح مكتوم السرائر ليسجل على كل واحد نيته كما ھي دون جبر أو‬
‫إكراه‪ ..‬إنه يفضحھا فقط و يخرجھا على حالھا ليكون كل واحد ) طائره في عنقه (‪.‬‬

‫ثم تأتي اآلية القرآنية الحاسمة فتختم الموضوع‪:‬‬

‫)) و اعلموا أن ﷲ يحول بين المرء و قلبه و أنه إليه تحشرون (( ) ‪ – 24‬االنفال (‬

‫و معنى ھذا أن ﷲ يدع القلب حرا فتكون لكل إنسان سريرة ھو حر فيھا‪ .‬و لكنه يقيم سلطانه بين‬
‫المرء و قلبه‪.‬‬

‫فھو يحول بين المرء و قلبه بالتمكين أو اإلحباط لطفا منه و رحمة ليقي أحبائه السيئات‪ ..‬و ليقدم‬
‫التيسيرات لكلﱟ حسب ضميره و نيته و مبادراته‪ ..‬إما لليسرى و إما للعسرى‪.‬‬

‫)) إذ يريكھم ﷲ في منامك قليال و لو أراكھم كثيرا لفشلتم و لتنازعتم في األمر و لكن ﷲ سلم إنه‬
‫عليم بذات الصدور ) ‪ ( 43‬و إذ يريكموھم إذ التقيتم في أعينكم قليال و يقللكم في أعينھم ليقضي‬
‫ﷲ أمرا كان مفعوال و إلى ﷲ ترجع األمور ) ‪ ) (( ( 44‬األنفال (‬

‫ھنا مثل آخر بليغ للتدخل اإللھي اللطيف الخفي بين المرء و بين قلبه‪ ..‬فا يريد أن يحث‬
‫المسلمين على القتال في بدر و ھم قلة ) ثلثمائة يواجھون ألفا مدججين بالسالح و الدروع ( يريد‬
‫أن يدفع المسلمين إلى المعركة دون جبر و دون إكراه حتى يكون االختيار اختيارھم‪ ..‬فيسوق إلى‬
‫الرسول في منامه رؤيا يظھر فيھا األعداء قلة قليلة ال يؤبه لھا‪ ..‬و ساعة المعركة يجعل كثرة‬
‫المشركين تبدو للمسلمين قلة ليھون من شأنھم‪ ..‬كما يھون من شأن المسلمين في أعينھم‪ ..‬و بذلك‬
‫يستدرج الكل إلى معركة ليقضي أمرا كان في علمه مفعوال‪.‬‬
‫و ھذا ھو التيسير الذي يسوق به األسباب دون أن يخل بناموس الحرية الذي قضى به لكل إنسان‬
‫في سريرته و ھو عن ھذه الحرية مسئول‪.‬‬

‫بھذه الكلمات التي تضيء كالومض الخفي يعطي القرآن المفتاح ألكبر المشكالت استعصاء في‬
‫الفلسفة‪ ..‬مشكلة الجبر و االختيار‪.‬‬

‫قصة الخلق‬

‫)ما جاء في ھذا الفصل ھو محاولة تخضع لقاعدة االجتھاد في احتمال الخطأ و الصواب‪ ..‬و ﷲ‬
‫الموفق( مصطفى محمود‬

‫مبدأ الخليقة و كيف كان؟‪ ..‬و ميالد األرض و القمر و الشمس و النجوم و كيف حدث؟‪ ..‬و كيف‬
‫خطا على األرض أول إنسان؟‪ ..‬و من أين جاء؟‪..‬‬

‫كل ھذه أمور خاضت فيھا العلوم و كان لھا في شأنھا نظريات و شواھد و براھين‪.‬‬

‫علوم البيولوجيا و اإلنثروبولوجيا و الفلك و الكيمياء العضوية و الجيولوجيا و التطور الذي‬


‫أصبح اآلن علما قائما بذاته‪ ..‬و علم األجنة‪ ..‬و علم التشريح‪ ..‬مجلدات و مجلدات‪..‬‬

‫و كالم كثير ال يمكن أن نكون بمعزل عنه و نحن نقرأ ما يقوله القرآن عن قصة الخلق‪ ..‬فما قام‬
‫الدين أبدا منعزال عن الحياة و ال قام ليعادي العلم بل إنه قام ليقدم لنا منتھى العلم‪ ..‬و ليقودنا إلى‬
‫اليقين في مقابل الشك و االحتمال و الترجيح‪ ..‬جاء ليقول كلمة أخيرة‪ ..‬فال يمكن أن نخوض فيه‬
‫دون أن نخوض في كل شيء‪ ..‬و دون أن نثير القضية كاملة برمتھا علما و دينا و فلسفة و‬
‫سياسة‪.‬‬

‫و ھذا يردني إلى كتابين كتبتھما و قدمت فيھما اإلشكال جملة و تفصيال ھما‪ ) ..‬لغز الموت(‪ ..‬و‬
‫)لغز الحياة(‪ ،‬و ال يمكن أن أعود فأكرر ما قلته فيھما‪ ..‬و لذا سأكتفي بسطور أعود فأثيرھا حتى‬
‫ال يضيع منا السياق و حتى أربط معي القارئ في الفكرة الكلية‪.‬‬

‫أعود إلى الحياة‪ ..‬و إلى مبدئھا و ألتقط ) داروين(‪ ..‬أبا التطور ليروي لنا رؤيته عن مسيرة‬
‫الحياة‪ ،‬و ال أتفق مع القائلين إن كل ما قاله ) داروين( خطأ‪ ،‬كما ال أقول أيضا إن كل ما رآه‬
‫صواب‪ ..‬و إنما ھي مناسبة إلعادة النظر و التفكير‪.‬‬
‫•••‬

‫و في رحلة حول العالم في الباخرة)) بيجل (( مضى ) داروين( يجمع العينات من البر و البحر و‬
‫من تحت الماء و من فوق الماء و يدرس و يتأمل و يدون و يجمع مالحظاته عن األحياء في كافة‬
‫أرجاء األرض‪.‬‬

‫و الحظ ) داروين( عدة مالحظات‪:‬‬

‫* إن الحياة تتلون و تتكيف و تغير من تكوينھا لتتالءم مع بيئتھا على الدوام‪.‬‬

‫* اإلنسان في المناطق القطبية‪ ،‬سمين مكتنز بالدھن تماما مثل الحوت ليقي نفسه غائلة البرد‪ ..‬و‬
‫الدببة مغطاة بالمثل بمعاطف من الفراء‪ .‬بينما ھو في المناطق االستوائية الحارة نحيل ھزيل‬
‫أسود‪ ،‬و كأنما اخترع لجلده مظلة لتقيه الشمس‪.‬‬

‫* سحالي الكھوف التي تعيش في الظالم ال وظيفة عندھا للبصر‪ ،‬و ال لأللوان‪ ..‬و لھذا فھي‬
‫عمياء و بال لون‪ ..‬أما سحالي البراري فحادة البصر و ملونة‪.‬‬

‫* أفواه الحيوانات اختلفت و تباينت حسب وظائفھا‪ :‬فم مزود بأسنان خنجرية تقطع و تمزق مثل‬
‫النمر‪ ،‬و فم مزود بمنقار يلتقط مثل الطير‪ ،‬و فم مزود بخطاف يتشبث كما في دودة )‬
‫االنكلستوما( التي تمسك بجدار األمعاء‪ ..‬و فم مزود بخرطوم يمص كما في الذبابة‪ ..‬و فم مزود‬
‫بإبرة تحقن كما في البعوضة‪ ..‬و فم مزود بمناشير و طواحين تطحن و تقرض كما في الحشرات‬
‫القارضة‪.‬‬

‫ھل الحكاية أن الحيوانات أصلھا واحد‪ ،‬ثم تطور ھذا األصل و تباين و اختلف إلى ھذه الفصائل‬
‫المتباينة بسبب تباين الظروف و البيئات؟!‪ ..‬الحيوانات التي دبت عل األرض طورت لنفسھا‬
‫أرجال‪ ..‬و التي نزلت إلى البحر تحورت فيھا األرجل إلى زعانف‪ ،‬و التي طارت في الجو‬
‫تحورت فيھا األطراف إلى أجنحة‪.‬‬

‫إذا كان ھذا االستنتاج صحيحا‪ ،‬فال بد أن يكشف لنا تشابھا في بنية الجميع‪.‬‬

‫و ھذا ھو ما قاله المشرط بالفعل‪.‬‬

‫ففي الثعبان الذي بال أرجل يكشف التشريح عن أرجل ضامرة مختفية في ھيكله العظمي‪.‬‬

‫و الطيور التي تبدو و كأنھا لھا زوجا واحدا من األطراف يكشف التشريح أن أجنحتھا ھي الزوج‬
‫الثاني من األطراف تحور ليالئم وظيفته الجديدة‪.‬‬

‫األسماك التي تدب على األرض و تتنفس برئات يكشف التشريح عن أن رئاتھا ھي نفس كيس‬
‫العوم تحور ليالئم وظيفة التنفس الجديدة‪.‬‬
‫زعانف السمك األربع ھي نفس األطراف األربعة متحورة إلى ما يشبه المجاديف‪.‬‬

‫عدد أصابع اليد و القدم فينا خمس و في القرود خمس و في الفئران خمس و في السحالي خمس‪،‬‬
‫حتى الوطاويط لھا خمس أصابع ضامرة‪.‬‬

‫القلب و الدورة الدموية تسير على خطة واحدة في الحوت كما في الفأر‪ ،‬كما في القرد‪ ،‬كما في‬
‫اإلنسان‪ ،‬كما في الوطواط‪ .‬نفس الشرايين لھا نظائرھا في كل نوع‪ ،‬و القلب ھو دائما نفس القلب‬
‫بغرفه األربع‪.‬‬

‫و الجھاز العصبي الذي يتألف من مخ و حبل شوكي و أعصاب حس‪ ،‬و أعصاب حركة‪ ،‬ھو‬
‫نفس الجھاز العصبي في الكل‪.‬‬

‫و الجھاز العضلي بعضالته و الھيكل العظمي بعظامه عظمة عظمة‪ ..‬كل عظمة لھا نظيرھا مع‬
‫اختالفات طفيفة في الشكل لتالئم الوظيفة في كل حيوان‪.‬‬

‫و الجھاز التناسلي نفس الخصية و المبيض و قنوات الخصية و المبيض و الرحم في كل حيوان‪.‬‬

‫و فترة الحمل عندنا تسعة أشھر‪ ،‬و في القرود العليا تسعة أشھر و في الحيتان تسعة أشھر‪ ..‬حتى‬
‫فترة الرضاعة في الجميع سنتان‪.‬‬

‫ثم خبطة أخرى‪ :‬يكشف التشريح في الھيكل العظمي لإلنسان نفس فقرات الذيل التي في القرود‪،‬‬
‫و قد تدامجت و التحمت النعدام وظائفھا‪ ..‬حتى عضالت الذيل قد تحورت إلى قاع متين للحوض‪.‬‬

‫و فقرات الرقبة في اإلنسان عددھا سبع و في الزرافة برغم طول رقبتھا أيضا سبع و في القنفذ‬
‫سبع رغم قصر رقبته‪.‬‬

‫و خبطة ثالثة‪ :‬يمر الجنين في رحم أمه و ھو يتخلق على مراحل‪ ..‬في مرحلة يكون أشبه بسمكة‬
‫و تكون له خياشيم‪ ..‬و في مرحلة أخرى ينمو له ذيل ثم يضمر‪ ..‬و في مرحلة ثالثة يتغطى بالشعر‬
‫تماما كالقرود ثم يبدأ الشعر ينحسر عن جسمه تاركا مساحة صغيرة عند الرأس‪.‬‬

‫لقد فضح الجنين القصة‪ ..‬و كشف لنا مبدأ الخليقة و مراحل تطورھا‪.‬‬

‫و المشرط و ھو يعبث خلف األذن البشرية يكتشف شيئا آخر‪ .‬فھا ھي ذي نفس عضالت األذن‬
‫التي كانت تحرك آذان الحمير و قد تليفت و ضمرت حينما لم تعد لھا وظيفة و حينما اتخذت آذننا‬
‫أشكاال تغنيھا عن الحركة‪.‬‬

‫ثم ھا ھي ذي الحفريات تكشف عن جماجم بشرية ذات شكل قردي في ) الترنسفال( و ) بكين( و‬
‫) جاوة( و ) نياندرتال(‪ ،‬و بعض ھذه الجماجم وجدت في كھوف عثر بھا على بقايا خشب متفحم‬
‫في مواقد تدل على أن أصحاب ھذه الجماجم قد اكتشفوا النار و استخدموھا منذ ماليين السنيين‪.‬‬

‫لم يبق إال أن يكتب ) داروين( نظريته في أصل األنواع‪.‬‬


‫بل إن النظرية لتكتب نفسھا فتقول‪ :‬إن األنواع انحدرت كلھا من أصل واحد تباين و اختلف إلى‬
‫شجرة من الفصائل و األنواع نتيجة تباين الظروف و البيئات‪.‬‬

‫و لم يقل ) داروين( إن اإلنسان انحدر من القرد و لم يقل إن الجنس البشري من ساللة شمبانزي‬
‫أو نسناس و إنما ھي نكتة روجتھا الصحف و انتشرت كنوع من الكاريكاتير الخفيف الدم )‬
‫للداروينية(‪.‬‬

‫و لكن النظرية في أصلھا المكتوب ال تقول إن أيا من األجناس الموجودة خرج من اآلخر‪ ..‬و إنما‬
‫كل جنس ھو بذاته نھاية فرع مستقل من الشجرة‪ ..‬لم يخرج فرع من فرع – لم يخرج فرع‬
‫اإلنسان من فرع القرود – و إنما خرج كل منھما على حدة من الشجرة األم و ھما يرتدان في‬
‫األصول إلى منبع واحد ھو الخلية األولى التي تنوعت بھا البيئات فتفرعت شجرتھا إلى ما نرى‬
‫حولنا من تصانيف‪ ..‬و لكن لم يخرج صنف من صنف‪ ..‬فكل صنف ھو ذروة نوعه و ھو مستقل‬
‫بتكوينه ال يلد إال مثله‪.‬‬

‫و وقف ) داروين( أمام ظاھرة الترقي مفكرا متأمال‪.‬‬

‫إن كالمه عن التكيف و التالؤم بين المخلوق و بيئته ال يفسر إال التباين الخلقي و الوظيفي بين‬
‫المخلوقات و لكنه ال يفسر ارتقاءھا من األدنى إلى األعلى‪.‬‬

‫و ابتكر ) داروين( لنفسه تفسيرا‪ ..‬فقال إن الترقي حدث بحوافز داخلية مادية بحتة و بدون يد‬
‫ھادية من خارج‪.‬‬

‫مجرد صراع البقاء كان الغربال‪.‬‬

‫كان التزاوج يلقي بتصانيف و تواليف‪ ..‬التواليف التي خرجت إلى الحياة بأرجل مبططة كانت‬
‫أصلح للعوم و استطاعت أن تستمر في الحياة المائية‪ ،‬و الحيوانات المائية األخرى التي حافظت‬
‫على التصنيف القديم لألرجل البرية ماتت‪.‬‬

‫و ھكذا عاش األصلح و مات األقل صالحية‪ ..‬و حدث الترقي الذي نراه تلقائيا بمجرد الحوافز‬
‫الحياتية المادية‪.‬‬

‫و قامت الزوبعة على ) داروين(‪.‬‬

‫و مضت سنون و سنون من التمحيص و إعادة النظر‪ ..‬و عاش من نظرية ) داروين( بعضھا و‬
‫مات بعضھا‪.‬‬

‫حكاية أن األنواع انحدرت من أصل واحد و أنھا تباينت إلى شجرة من الفصائل و األنواع نتيجة‬
‫تباين الظروف و البيئات كانت احتماال مرجحا أقرب إلى الصحة تقوم عليه الشواھد‪ .‬فالوشيجة‬
‫العائلية تربط كل الخالئق بالفعل‪ ..‬و التشريح يقول إنھا ترتبط بعضھا ببعض بصلة رحم و قربى‪.‬‬

‫أما حكاية أن الترقي حدث بالحوافز الحياتية وحدھا و بدون يد ھادية فلم تعد مقنعة‪ ..‬و سقطت من‬
‫غربال الفكر المدقق المحقق‪.‬‬
‫فلماذا يخرج من شجرة الحمار شيء كالحصان مع أن الحمار أكثر جلدا و احتماال‪ ..‬و بأي حوافز‬
‫يتطور من عائلة الوعل شيء كالغزال و ھو أرھف و أضعف و أقل جلدا من الوعل‪ ..‬و بالمثل‬
‫الفراش الملون الرقيق أبطأ و أضعف و أقل قدرة من الزنبور الطنان الغليظ الشكل‪ ..‬و الحمام و‬
‫اليمام و الطواويس و العصافير الملونة أكثر رھافة و تھافتا من الصقور و الحدادى و النسور‪.‬‬

‫و نشوء ھذه األنواع ال يمكن أن يفسره قانون بقاء األصلح‪ ،‬و إنما قانون آخر ھو بقاء األجمل‪.‬‬

‫أجمل في عين من؟‬

‫يقول المعلق الخبيث‪ ..‬أجمل في عين بعضھا بعضا‪ ..‬الذكر فيھا يختار األنثى األجمل‪ ..‬إنه انتقاء‬
‫جنسي‪ ..‬إننا مازلنا أمام الحوافز الحياتية المادية‪.‬‬

‫و ھو قول مردود عليه‪.‬‬

‫فلماذا يختار الذكر األنثى األجمل؟ إن القضية مازالت تطرح نفسھا‪ ..‬إن الجناح المنقوش ليس‬
‫أصلح للطيران من الجناح السادة‪.‬‬

‫ال توجد مصلحة حياتية ھنا‪ ..‬و إنما ھنا قيمة جمالية عليا تفرض نفسھا على جميع الحوافز‪ ..‬ھنا‬
‫عقل الفنان المبدع الذي يجمل مخلوقاته‪ ..‬نلمس آثاره في ورق الشجر و ألوان الزھر و أجنحة‬
‫الفراش و ريش الطواويس‪.‬‬

‫كما نقف مذھولين أمام بعض األشجار الصحراوية إذ نجد أن الطبيعة خصتھا ببذور مجنحة‬
‫لتطير محلقة تقطع أميال الصحاري الجرد لتجد فرصھا القليلة في الماء‪ ..‬أو نتأمل بيض البعوض‬
‫فنكتشف أنه يملك أكياسا ھوائية للطفو‪ ،‬ليعوم في الماء و ال يغرق‪..‬‬

‫كل ھذا ال يفسره إال عقل كلي يفكر و يھندس لمخلوقاته فال أشجار الصحاري تعقل لتزود بذورھا‬
‫بأجنحة و ال البعوض يعرف قوانين ) أرشميدس( في الطفو ليزود بيضه بوسيلة للعوم‪.‬‬

‫ھذه أمور تعجز أمامھا نظرية ) داروين( تماما و ال يفسرھا إال وجود خالق عليم قدير يھندس‬
‫الوجود و يصممه و ينشئه إنشاء‪ ،‬و ما يجري أمامنا ليس تطورا‪ ،‬بل تطويرا مرادا مدبرا و‬
‫متعمدا من يد خالقة مبدعة ھي التي تقوم بالتعديل و التحسين‪.‬‬

‫و لنشرح ھذا الكالم أكثر سوف نتصور حكاية خيالية افتراضية‪ ..‬سوف نتصور أننا نعاني نقصا‬
‫خاصا في حاسة البصر‪ ..‬و ھو نقص يجعلنا نرى اآلالت المختلفة دون أن نرى صانعھا‪ ..‬و ھكذا‬
‫سوف نرى عربة اليد و عربة ) الكارو( و العربة ) الحنطور( و السيارة و القطار و ) الديزل(‬
‫دون أن نرى اإلنسان‪ ..‬و سوف نقول إن ھذه أشياء تطورت بعضھا من بعض على سلسلة من‬
‫المراحل‪ .‬و سوف ندلل على ذلك بما بينھا من تشابه تشريحي‪ .‬فكل ھذه الكائنات تتشابه في أنھا‬
‫من مادة الحديد و الخشب و الجلد و تتركب من جسم و عجالت‪ ..‬و بين السيارة و ) الديزل( و‬
‫القطار سوف نرى أن ھناك ) موتورا( يتألف من )سلندر وبستم(‪ ،‬مرة يشتغل بالبنزين و مرة‬
‫بالبخار و مرة بزيت البترول‪.‬‬

‫و ألننا ال نرى الصانع الذي صنعھا جميعا فسنقول إنھا تطورت بعوامل داخلية فيھا‪ ..‬نتيجة‬
‫صراعھا مع البيئة و بقاء األصلح بعد معارك البقاء الطويلة‪.‬‬
‫و سوف ننكر العامل الخارجي ألننا ال نراه‪.‬‬

‫فنحن نرى أنھا تتحرك بمحرك داخلي فيھا‪.‬‬

‫و ھذا ھو الخطأ الذي وقع فيه ) داروين( في نظريته عن النشوء و االرتقاء حينما قال إن عوامل‬
‫التطور ھي عوامل داخلية و إن الحياة تتقدم بحوافز باطنية دون يد ھادية ترشدھا‪ ..‬تتقدم بفعل‬
‫اآلليات المادية داخلھا‪ ..‬لمجرد أنه ال يرى يد الصانع الخالق المبدع و ھي تبدع و تخلق‪.‬‬

‫نحن إذن أمام نظرية اكتشفت الوشائج العائلية بين أسرة األحياء من نبات و حيوان و إنسان‪ ،‬و‬
‫لكنھا لم تستطع أن تفسر لنا كيف حدث الترقي بينھا‪.‬‬

‫فإذا انتقلنا إلى كالم العلم عن مبدأ الحياة‪ ..‬فنحن أمام إجماع بأن الحياة بدأت من الماء‪ ..‬من ماء‬
‫المستنقعات الذي تختمر فيه المادة و تتحلل و تتركب بقوة غير معروفة إلى الشكل األول للحياة‪..‬‬
‫) البروتوبالزم(‪ ..‬ال أحد يعرف كيف نشأ من الماء و التراب‪.‬‬

‫فإذا جئنا إلى مبدأ الكون كله‪ ..‬بنجومه و شموسه و كواكبه فنحن أمام إجماع من علماء الفلك بأن‬
‫كل شيء نشأ من الھواء من سحب الغاز و التراب األولية‪.‬‬

‫تكاثفت ھذه السحب من الغاز و التراب بفعل الجاذبية بين ذراتھا إلى أنوية في الوسط ھي‬
‫الشموس و إلى تكثفات أصغر حولھا ھي الكواكب‪.‬‬

‫ھذا مبلغنا من العلم في قضية الخلق في عرض سريع موجز‪.‬‬

‫فماذا قال القرآن حينما تعرض لھذه القضية منذ أربعة عشر قرنا من الزمان؟ و ماذا جاء على‬
‫لسان ذلك النبي األمي الذي لم يكن يعرف ال ھو و ال قومه و ال عصره معنى كلمة ) بيولوجيا( و‬
‫) جيولوجيا( و كيمياء عضوية و علم أجنة و تشريح و ) أنثروبولوجيا( ؟‬

‫•••‬

‫القرآن له أسلوبه المختلف عن كل األساليب‪ ..‬و ھو حينما يشير إلى مسألة علمية ال يعرضھا كما‬
‫يعرضھا ) أينشتين( بالمعادالت‪ ..‬و ال كما يعرضھا عالم ) بيولوجي( برواية التفاصيل‬
‫التشريحية‪ ..‬و إنما يقدمھا باإلشارة و الرمز و المجاز و االستعارة و اللمحة الخاطفة و العبارة‬
‫التي تومض في العقل كبرق خاطف‪ ،‬إنه يلقي بكلمة قد يفوت فھمھا و تفسيرھا على معاصريھا‪..‬‬
‫و لكنه يعلم أن التاريخ و المستقبل سوف يشرح ھذه الكلمة و يثبتھا تفصيال‪.‬‬

‫)) سنريھم آياتنا في اآلفاق و في أنفسھم حتى يتبين لھم أنه الحق(( )‪ – 53‬فصلت(‬
‫و ﷲ يقول عن كالمه‪:‬‬

‫)) و ما يعلم تأويله إال ﷲ‪ – 7) ((..‬آل عمران(‬

‫و يقول عن القرآن‪:‬‬

‫)) ثم إن علينا بيانه(( )‪ – 19‬القيامة(‬

‫أي أنه سوف يشرحه و يبينه في مستقبل األعصر و الدھور‪.‬‬

‫فماذا قال القرآن عن قصة الخلق؟‬

‫إنه يقول عن ﷲ في البدء األول‪:‬‬

‫)) ثم استوى إلى السماء و ھي دخان‪ – 11) ((..‬فصلت(‬

‫في البدء كان شيئا كالدخان جاء منه الكون بنجومه و شموسه‪:‬‬

‫)) يكور الليل على النھار و يكور النھار على الليل‪ – 5) ((..‬الزمر(‬

‫و ھي آية ال يمكن تفسيرھا إال أن نتصور أن األرض كروية و الليل و النھار كنصفي الكرة‬
‫ينزلق الواحد منھما على اآلخر بفعل دوران ھذه الكرة المستمر‪ ..‬بل إن استعمال لفظ )) يكور((‬
‫ھو استعمال غريب تماما‪ ..‬و يفرض علينا ھذالتفسير فرضا‪:‬‬
‫)) و القمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم(( )‪ – 39‬يس(‬

‫و العرجون ھو فرع النخل القديم اليابس ال خضرة فيه و ال ماء و ال حياة‪.‬‬

‫)) ال الشمس ينبغي لھا أن تدرك القمر و ال الليل سابق النھار و كل في فلك يسبحون(( )‪- 40‬‬
‫يس(‬

‫بل إنه يصف الفضاء بأن فيه طرقا و مجاري و مسارات‪.‬‬

‫)) و السماء ذات الحبك(( )‪ – 7‬الذاريات(‬

‫و الحبك ھي المسارات‪.‬‬

‫و يصف األرض بأنھا كالبيضة‪:‬‬

‫)) و األرض بعد ذلك دحاھا(( )‪ – 30‬النازعات(‬

‫و دحاھا أي جعلھا كالدحية ) البيضة( و ھو ما يوافق أحدث اآلراء الفلكية عن شكل األرض‪.‬‬

‫و يقدم فكرة الحركة الخفية من وراء السكون الظاھر‪:‬‬


‫)) و ترى الجبال تحسبھا جامدة و ھي تمر مر السحاب‪ – 88) ((..‬النمل(‬

‫و تشبيه الجبل بسحابة ھو تشبيه يقترح على الذھن تكوينا ذريا فضفاضا مخلخال‪ ،‬و ھو ما عليه‬
‫الجبل بالفعل‪ ،‬فما األشكال الجامدة إال وھم‪ ،‬و كل شيء يتألف من ذرات في حالة حركة‪ ..‬و‬
‫األرض كلھا بجبالھا في حالة حركة‪.‬‬

‫و ما يقوله المفسرون القدامى من أن ھذه اآلية تصف ما يحدث يوم القيامة‪ ..‬ھو تفسير غير‬
‫صحيح ألن يوم القيامة ھو يوم اليقين و العيان القاطع و ال يقال في مثل ھذا اليوم )) و ترى‬
‫الجبال تحسبھا((‪ ..‬فال موجب لشك في ذلك اليوم‪.‬‬

‫)) و يسألونك عن الجبال فقل ينسفھا ربي نسفا(( )‪ – 105‬طه(‬

‫ھذه ھي القيامة بحق‪ ،‬ال مجال ھنا ألن تنظر العين فتحسب الشيء قائما و ھو ينسف‪ ..‬فاآلية إذن‬
‫وصف لحال الجبال في الدنيا و ال يمكن أن تكون غير ذلك‪.‬‬

‫ثم يروي لنا القرآن بعد ذلك ما يحدث لمياه األمطار‪:‬‬

‫)) ألم تر أن ﷲ أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في األرض‪ – 21) ((..‬الزمر(‬

‫و ھو بذلك يشرح دورة المياه الجوفية من السماء إلى سطح األرض إلى جوفھا إلى خزانات‬
‫جوفية ثم إلى نافورات و ينابيع تعود إلى سطح األرض من جديد‪.‬‬

‫ثم يأتي ذكر الحياة‪.‬‬

‫)) و جعلنا من الماء كل شيء حي‪ – 30) ((..‬األنبياء(‬

‫)) و ﷲ خلق كل دابة من ماء‪ – 45) ((..‬النور(‬

‫)) أكفرت بالذي خلقك من تراب‪ – 37) ((..‬الكھف(‬

‫)) و إذ قال ربك للمالئكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون(( )‪ – 28‬الحجر(‬

‫و الحمأ المسنون ھو الطين المنتن المختمر‪.‬‬

‫فھو مرة يذكر أن الحياة خلقت من الماء و مرة يذكر أنھا خلقت من تراب ثم يعود فيخصص و‬
‫يقول من الطين أو على وجه الدقة الماء المنتن المختمر المختلط بالتراب‪ ..‬و ھو اتفاق غريب و‬
‫دقيق مع اكتشافات العلم بعد ألف و أربعمائة سنة‪.‬‬

‫و في سورة األعراف يروي بتفصيل أكثر‪:‬‬

‫)) و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للمالئكة اسجدوا آلدم فسجدوا إال إبليس لم يكن من‬
‫الساجدين(( )‪ – 11‬األعراف(‬
‫و في ھذه اآلية يحدد أن خلق اإلنسان تم على مراحل زمنية‬

‫))خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للمالئكة اسجدوا آلدم‪ – 11) ((..‬األعراف(‬

‫و الزمن بالمعنى اإللھي طويل جدا‪:‬‬

‫)) و إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون(( )‪ – 47‬الحج(‬

‫و في مكان آخر‪:‬‬

‫)) تعرج المالئكة و الروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة(( )‪ – 4‬المعارج(‬

‫ھذه إذن أيام ﷲ‪ ..‬و ھي شيء كاآلباد و األحقاب بالنسبة لنا‪ ،‬فإذا قال ﷲ خلقناكم ثم صورناكم‪ ..‬ثم‬
‫اكتملت الصورة بتخليق آدم فقلنا للمالئكة اسجدوا آلدم‪ ..‬معنى ھذا أن آدم جاء عبر مراحل من‬
‫التخليق و التصوير و التسوية استغرقت ماليين السنين بزماننا و أياما بزمن ﷲ األبدي‪..‬‬

‫)) و قد خلقكم أطوارا(( )‪ – 14‬نوح(‬

‫و معناھا أنه كانت ھناك قبل آدم صور و صنوف من الخالئق جاء ھو ذروة لھا‪.‬‬

‫)) ھل أتى على اإلنسان حين من الدھرلم يكن شيئا مذكورا(( )‪ – 1‬اإلنسان(‬

‫إشارة إلى مرحلة بائدة من الدھر لم يكن اإلنسان يساوي فيھا شيئا يذكر‪ .‬و يقول القرآن عن ﷲ‬
‫إنه ھو‪:‬‬

‫)) الذي أعطى كل شيء خلقه ثم ھدى(( )‪ – 50‬طه(‬

‫أي إنه ھدى مسيرة التطور حتى بلغت ذروتھا في آدم‪.‬‬


‫)) و ما من دابة في األرض و ال طائر يطير بجناحيه إال أمم أمثالكم‪ – 38) ((..‬األنعام(‬

‫)) و ﷲ أنبتكم من األرض نباتا(( )‪ – 17‬نوح(‬

‫ربط وثيق بين أمة اإلنسان و بين أمم الدواب و الطير ثم ربط بين اإلنسان و الحيوان و النبات‪.‬‬

‫)) و لقد خلقنا اإلنسان من ساللة من طين(( )‪ – 12‬المؤمنون(‬

‫و ھي إشارة صريحة إلى أن اإلنسان لم يخلق من الطين ابتداء‪ ..‬و إنما خلق من سالالت جاءت‬
‫من الطين‪ ..‬ھناك مرحلة متوسطة بين اإلنسان و الطين‪ ..‬ھي سالالت عديدة متالحقة كانت‬
‫تمھيدا لظھور نوع اإلنسان المتفوق‪ ..‬ثم يحدثنا القرآن عن تخلق الجنين فيحكي لنا أن خلق العظام‬
‫سابق على خلق العضالت‪:‬‬

‫)) فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما‪ – 14) ((..‬المؤمنون(‬


‫و معلوم في علم األجنة أن نشأة العمود الفقري سابقة على نشأة العضالت و عن ھذه النشأة يقول‪:‬‬

‫)) يخلقكم في بطون أمھاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثالث‪ – 6) ((..‬الزمر(‬

‫يكشف لنا الخلق داخل الرحم‪ ،‬فيصفه بأنه يتم على أطوار‪ ..‬خلق من بعد خلق‪ ..‬و أنه يجري‬
‫داخل ظلمات ثالث‪ ..‬و الظلمات الثالث ھي‪ :‬ظلمة البطن و ظلمة الرحم و ظلمة )الغالف‬
‫األمنيوسي(‪ ..‬كل غرفة منھا داخل األخرى‪ ..‬و الجنين في قلبھا‪ ،‬و ھي حقائق تشريحية‪ ..‬أو ھي‬
‫ظلمات األغشية الثالثة التي يتألف منھا الجنين ذاته و ھي حقيقة أخرى‪.‬‬

‫)) و أنه خلق الزوجين الذكر و األنثى‪ ،‬من نطفة إذا تمنى(( )‪ – 46 ،45‬النجم(‬

‫و نعرف اآلن أن الحيوان المنوي الذي يمنى ھو الذي يحدد جنس المولود إن كان ذكرا أو أنثى و‬
‫ليس البويضة‪ ،‬فھو وحده الذي يحتوي على عوامل تحديد الجنس‬

‫‪sex determination factor‬‬

‫كيف جاء القرآن بھذه الموافقات التي اتفقت مع نتائج العلوم و البحوث و الجھود المضنية عبر‬
‫مئات السنين!‪ ..‬مصادفة؟!‬

‫و إذا سلمنا بمصادفة واحدة فكيف نسلم بالباقي؟‬

‫و كيف يخطر على ذھن نبي أمي مشكالت و قضايا و حقائق ال يعرفھا عصره؟‪ ..‬و ال تظھر إال‬
‫بعد موته بأكثر من ألف و ثالثمائة سنة؟‬

‫و إذا أخذنا بالتفسير الغربي الملحد الذي يرى في ذلك الكالم الذي يجيء على لسان محمد صورة‬
‫من نشاط عقل باطن انفتح تماما على الحقيقة المطلقة‪ ..‬إذا قلنا ھذا فقد اعترفنا اعترافا مھذبا جدا‬
‫و علميا بالوحي‪ ..‬فما الحق المطلق سوى ﷲ و ما االنفتاح على ﷲ و االتصال به إال الوحي‬
‫بعينه‪.‬‬

‫و لكن القصة لم تنته‪.‬‬

‫إن القرآن يزودنا بما ھو أكثر من كل ما قاله العلم‪ ..‬فيطلعنا على بعض الغيب‪ ..‬على ما حدث في‬
‫الملكوت في المأل األعلى عند خلق آدم و كيف أسكنه جنته يأكل منھا رغدا كيف يشاء إال من‬
‫شجرة واحدة عينھا له‪ ..‬و كيف أسجد له المالئكة‪.‬‬

‫و يروي لنا القرآن كيف أن المالئكة سجدوا آلدم‪:‬‬

‫)) إال إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه‪ – 50) ((..‬الكھف(‬

‫و يقول إبليس في كبرياء و غرور مبررا عصيانه لألمر اإللھي بالسجود آلدم‪:‬‬

‫)) أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين(( )‪ – 76‬ص(‬


‫إنه لم يدرك حكمة ﷲ في تشريف ابن الطين‪ ..‬و لكن ﷲ وحده كان يعلم أن آدم سوف يتعذب‬
‫نتيجة خلقته المتصارعة من التراب و من الروح و أنه سوف يعاني عناء ھائال و يتمزق بين‬
‫رغبات جسده الھابطة و سبحات روحه و ضميره المتعالية‪.‬‬

‫)) لقد خلقنا اإلنسان في كبد(( )‪ – 4‬البلد(‬

‫أي في مكابدة مستمرة و صراع و عناء‪.‬‬

‫و إنه سيبلغ بھذه المكابدة إلى مرتبة أعلى من مرتبة الجن و المالئكة‪ ،‬و يفوز بمواھب و لياقات‬
‫أعلى من اإلثنين‪.‬‬

‫و لھذا أسجد ﷲ له المالئكة و سخرھم لخدمته و معونته‪.‬‬

‫و لكن إبليس في كبريائه و غروره و تجبره فاتته ھذه الحقيقة و لم يذكر إال أنه خلق من نار و أن‬
‫آدم خلق من طين و أنه خلق قبل آدم‪.‬‬

‫)) و الجان خلقناه من قبل من نار السموم(( )‪ – 27‬الحجر(‬

‫و نار السموم ھي النار الصافية بال دخان أو من الطاقة الخالصة ذاتھا‪ ..‬و ھكذا رفض إبليس‬
‫السجود آلدم و خرج من الحضرة الربانية رجيما مطرودا و بدال من أن يرجع إلى ﷲ تائبا آمال‬
‫في رحمته و مغفرته‪ ..‬فإنه يئس تماما من ھذه الرحمة‪ ..‬و ھذه ھي الخطيئة الثانية‪ ..‬ثم أضمر‬
‫الحقد و العداء و االنتقام من آدم الذي تصور فيه سببا لطرده و ھذه ھي الخطيئة الثالثة‪ ..‬إنه‬
‫الشيطان بعينه الذي يحاول أن يخرج من خطيئة بخطيئة و ينحدر من ھاوية إلى ھاوية‪.‬‬

‫و ھكذا راح يغري آدم باألكل من الشجرة و يزينھا له و يصورھا بأنھا شجرة الخلود و ھو يعلم‬
‫أنھا شجرة الموت‪.‬‬

‫)) و عصى آدم ربه فغوى(( )‪ -121‬طه(‬

‫لقد منح ﷲ آدم الحرية ) إذ نفخ فيه من روحه ( و خيره في أن يختار الدخول في طاعته فيكون‬
‫شأنه شأن النجوم في أفالكھا تجري على نواميس ﷲ الموضوعة و تسلم نفسھا لسننه أو يكون‬
‫حرا مسئوال فيحمل األمانة‪.‬‬
‫)) إنا عرضنا األمانة على السماوات و األرض و الجبال فأبين أن يحملنھا و أشفقن منھا و حملھا‬
‫اإلنسان إنه كان ظلوما جھوال(( ) ‪ – 72‬األحزاب(‬

‫و اإلنسان لم يدرك مخاطر ھذه األمانة لجھله فظلم نفسه بحملھا‪ ،‬و ألن ﷲ كان يعلم مخاطر حمل‬
‫ھذه األمانة‪ ..‬و كان يعلم أنھا سوف تلقي باإلنسان في مھالك الغرور‪ ..‬فإنه لطفا منه و رحمة‪..‬‬
‫أمره بالطاعة و باإلسالم لكلمة ﷲ بأال يأكل من الشجرة لتدوم له الجنة ) جنة الطاعة و اإلسالم‬
‫للناموس اإللھي(‪.‬‬

‫و لكن اإلنسان اختار أن يكون حرا مسئوال و أن يخرج عن األمر اإللھي )بإغراء إبليس( فيأكل‬
‫من الشجرة‪ ..‬و ھكذا وقع عليه التكليف و أصبح محاسبا منذ تلك اللحظة‪ ..‬و حق عليه العقاب‪.‬‬
‫و كان العقاب ھو الطرد و اإلھباط من الجنة إلى عالم الكدح و العرق و التعب و المرض و‬
‫الموت‪.‬‬

‫و كان الفرق بين خطيئة آدم و خطيئة الشيطان‪ ..‬أن آدم رجع إلى ﷲ تائبا طامعا في رحمته و‬
‫أصر الشيطان على العصيان يائسا من رحمة ﷲ‪.‬‬

‫)) فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه‪ – 37) ((..‬البقرة(‬

‫و أسبغ ﷲ عليه رحمته و وعده بھداية نسله‪ ..‬و أقامه خليفة على األرض يحكم فيھا بإرادته و‬
‫عقله‪.‬‬

‫)) و إذ قال ربك للمالئكة إني جاعل في األرض خليفة قالوا أتجعل فيھا من يفسد فيھا و يسفك‬
‫الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك‪ – 30) ((..‬البقرة(‬

‫يقول المالئكة ذلك الكالم ألنھم رأوا ھذا اآلدم و شاھدوا نشأته و مراحل تخليقه من أسالف تسفك‬
‫الدم و تتصارع بالمخلب و الناب و لكن ﷲ يقول لھم‪:‬‬

‫)) إني أعلم ما ال تعلمون(( )‪ – 30‬البقرة(‬

‫و ھو يعلم أن ذلك اإلنسان قد استحق بھذه النشأة و ھذه الجبلة المتصارعة من الطين و الروح‬
‫درجة أرفع من درجة المالئكة‪ .‬و أنه قد اكتسب لياقات تؤھله للخالفة‪ ..‬و ھو يكشف ھذه الحقيقة‬
‫للمالئكة‪:‬‬

‫)) و علم آدم األسماء كلھا ثم عرضھم على المالئكة فقال أنبئوني بأسماء ھؤالء إن كنتم صادقين‬
‫)‪ (31‬قالوا سبحانك ال علم لنا إال ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم )‪ (32‬قال يا آدم أنبئھم بأسمائھم‬
‫فلما أنبئھم بأسمائھم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات و األرض‪) (( (33) ..‬البقرة(‬

‫ھا ھو ذا آدم األرضي و قد امتلك لياقات أكبر من لياقات المالئكة‪ ،‬و نفھم من ھذا أن ﷲ قد جعل‬
‫من ھذا اآلدم أول أنبيائه على األرض‪ ..‬فكلمة )) و علم آدم األسماء كلھا(( ھي بداية الوحي و‬
‫التنزيل و التعليم اإللھي‪.‬‬

‫و من حكاية تعليم ﷲ األسماء آلدم نتعرف على صفة أخرى في العقل البشري أنه معد و مؤھل‬
‫لتعلم أسماء األشياء فقط و ليس ماھيتھا و أن العلم البشري ھو علم بالحدود و المقادير و العالقات‬
‫الخارجية فقط‪ ،‬و أنه ال يستطيع أن يدرك كنه شيء‪ ..‬و ھو أمر ثابت في الفلسفة‪.‬‬

‫و ﷲ في القرآن )) رب (( بمعنى مرب و راع و معلم و ھاد رؤوف رحيم ودود يعنى بمخلوقاته‬
‫و يخلق لھا الحيل و األسباب و يوفر لھا األرزاق‪.‬‬

‫و قد وعد ﷲ آدم بإرسال األنبياء لھداية نسله و أوالده‪.‬‬

‫)) قلنا اھبطوا منھا جميعا فإما يأتينكم مني ھدى فمن تبع ھداي فال خوف عليھم و ال ھم‬
‫يحزنون(( )‪ – 38‬البقرة(‬
‫و يشرح لنا القرآن معنى إتباع اإلنسان لھدى ﷲ‪ ..‬و ذلك بأن يفطن اإلنسان إلى خطئه و يعود إلى‬
‫الجنة التي ضيعھا أبوه‪ ..‬جنة الطاعة و اإلسالم للنواميس اإللھية‪ ..‬و ھذ ھي اإلنابة و الرجعة‬
‫التي تتكرر في كل صفحة في القرآن‪ ..‬أن يفطن اإلنسان إلى أنه ال يملك إال ضميره ) قدس‬
‫األقداس الذي تركه ﷲ حرا بالفعل ( فيسلمه خالصا و يتجه به مختارا طائعا‪ ..‬و قد وكل أمر‬
‫نفسه إلى خالقه و خضع لنواميسه‪ ..‬و بذلك يكون أفضل من الجمادات و من النجوم في مداراتھا‬
‫التي تسلم نفسھا لسنن ﷲ و قوانينه قھرا و بال اختيار‪ ..‬على حين يسلم ھو نفسه لربه محبة و‬
‫اختيارا و طواعية‪.‬‬

‫يفعل ھذا و قد أدرك أن مشيئة ﷲ واقعة إن طوعا و إن كرھا‪ ..‬و أن ﷲ ھو الخالق المھيمن على‬
‫جميع األسباب و أنه ھو الوحيد الذي يملك الھداية و العلم و القدرة‪.‬‬

‫و تعود فتطالعنا آيات أخرى غامضة في القرآن نفھم منھا أننا نحن‪ :‬ذرية آدم كانت لنا حياة قبل‬
‫حياتنا األرضية‪.‬‬

‫)) و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظھورھم ذريتھم و أشھدھم على أنفسھم ألست بربكم قالوا بلى‬
‫شھدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن ھذا غافلين )‪ (172‬أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و‬
‫كنا ذرية من بعدھم أفتھلكنا بما فعل المبطلون )‪ (173‬و كذلك نفصل اآليات و لعلھم يرجعون‬
‫)‪ ) (( (174‬األعراف(‬

‫إن ﷲ يفصل لنا في ھذه اآليات واقعة غريبة‪ ..‬يفھم منھا أننا كنا في حضرة ﷲ قبل النزول إلى‬
‫األرحام ) في عالم المثال و الملكوت ( ربما كأرواح أو نفوس ال أحد يدري‪ ..‬و أن ﷲ أشھدنا‬
‫على ربوبيته و أخذ منا ميثاقا بھذا الشھود حتى ال نعود فنكفر و نبرر كفرنا بأننا كنا ضحية‬
‫اآلباء‪.‬‬

‫و نعود فنقرأ عن ھذا الميثاق في آيات أكثر غموضا في سورة ) آل عمران(‪:‬‬

‫)) و إذ أخذ ﷲ ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم‬
‫لتؤمنن به و لتنصرنه قال أأقررتم و أخذتم على ذلكم إصري ) عھدي ( قالوا أقررنا قال فاشھدوا‬
‫و أنا معكم من الشاھدين(( ) ‪ – 81‬آل عمران(‬

‫ھا ھم أوالء األنبياء مجموعون ليأخذ ﷲ عليھم ميثاق غليظا بأن يؤيد بعضھم بعضا‪ ..‬كيف كان‬
‫ذلك؟ ‪ ..‬و أين؟ ‪ ..‬و متى؟‪..‬‬

‫ھي آيات كواشف تشير إلى مرحلة روحية عشناھا في الملكوت قبل النزول إلى األرحام‪ ..‬و إلى‬
‫أنه كان لنا ثمة وجود قبل الميالد كما أن لنا وجود بعد الموت‪..‬‬

‫و في أسماء ﷲ أنه )) الخالق البارئ المصور ((‪ ..‬الخالق الذي خلقنا أرواحا و البارئ الذي‬
‫أعطانا رخصة الوجود كما يعطي الملك براءة الوسام لحامله‪ ..‬و المصور الذي صور لنا القوالب‬
‫المادية التي نزلنا بھا في األرحام‪.‬‬

‫و في حديث شريف يشير نبينا محمد – صلى ﷲ عليه و سلم – إلى ھذا الوجود الروحي السابق‬
‫للميالد حينما يقول‪ )) :‬كنت نبيا و آدم يجدل في طينته((‪.‬‬
‫و يقول ﷲ في القرآن لمحمد‪:‬‬

‫رب العالمين )‪ (162‬ال شريك له و بذلك أمرت‬ ‫)) قل إن صالتي و نسكي و محياي و مماتي‬
‫و أنا أول المسلمين )‪ ) (( (163‬األنعام(‬

‫و ھي كلمات تعني سبق الوجود المحمدي على جميع األنبياء إذ يعتبر القرآن جميع األنبياء‬
‫مسلمين و محمد أولھم‪.‬‬

‫و ھي إشارات تدل على وجود روحي سابق على الميالد كنا فيه في عالم ملكوتي قبل أن ننزل‬
‫إلى األرحام‪.‬‬

‫•••‬

‫و يحدثنا القرآن في قصة الخلق عن السماوات السبع‪.‬‬

‫)) الذي خلق سبع سماوات و من األرض مثلھن‪ – 12) (( ..‬الطالق(‬

‫)) الذي خلق سبع سماوات طباقا‪ – 3) (( ..‬الملك(‬

‫)) و لقد خلقنا فوقكم سبع طرائق‪ – 17) ((..‬المؤمنون(‬

‫)) و بنينا فوقكم سبعا شدادا(( )‪ – 12‬النبأ(‬

‫و السماوات السبع سر ال يفھمه العلم و لكن ھناك أمرا مثيرا للتأمل‪ ..‬أن يكشف لنا العلم مثال أن‬
‫الضوء سبعة ألوان ھي ألوان الطيف و سبع درجات من األطوال الموجية من األحمر إلى‬
‫البنفسجي ثم يعود فيتكرر السلم في سبع درجات أخرى من تحت األحمر لفوق البنفسجي‪ ..‬و‬
‫بالمثل السلم الموسيقي سبع درجات ثم تعود الثامنة فتكون جوابا لألولى و ھكذا تتكرر النغمات‬
‫سبعات سبعات‪.‬‬

‫و نعرف أيضا في علم األجنة‪ ..‬أن الجنين ال يكتمل نموه إال في الشھر السابع‪ ،‬و أنه إذا ولد قبل‬
‫السابع يموت‪.‬‬

‫و منذ بدأنا نعرف األيام قسمناھا سبعات سبعات‪ ،‬و عرفنا األسبوع كوحدة زمنية للحساب‪ ..‬اتفق‬
‫الناس من كل األجناس و األديان و األلوان على ذلك منذ الماضي السحيق و التقوا عليه دون أن‬
‫يكون بينھم اتفاق مكتوب‪ ..‬لماذا؟ ‪ ..‬و كيف؟ ال ندري‪.‬‬

‫ثم نكتشف أخيرا أن درجات الطيف السبعة في ضوء الشمس سببھا نقالت سبعة لإللكترون‬
‫عروجا في أفالك سبعة حول نواة ذرة ) اإليدروجين(‪ ..‬كلما قفز اإللكترون في فلك خارج النواة‬
‫أطلق شحنة ھي التي تعطي الطيف المناظر‪.‬‬
‫و تحدث ھذه القفزات في باطن الشمس ) المكون من غاز اإليدروجين( من فرط الحرارة التي‬
‫تتجاوز ماليين الدرجات‪ ..‬فتنفرط اإللكترونات خارجة من ذراتھا و تطلق الضوء الشمسي‬
‫المعروف‪.‬‬

‫و نفھم من ھذا أن ) اإللكترون( يعرج صاعدا في سبعة أفالك أشبه بالسماوات السبع‪ ..‬ثم في‬
‫عودته ھبوطا من سماء إلى سماء تحتھا ال بد له أن يتخلص من غل من أغالل الطاقة التي‬
‫امتصھا‪ ..‬فتنطلق ھذه الطاقة على شكل حزمة ضوئية من طيف معين‪ ..‬إلى أن يعطينا األطياف‬
‫السبعة للضوء األبيض‪.‬‬

‫و كأنما الذرة و ھي النموذج المصغر للكون فيھا سبع سماوات‪.‬‬

‫ھل معنى ھذا أننا سوف نكتشف يوما ما أن الوجود مرتب في سبع درجات في جميع حاالته‪ ..‬و‬
‫أن ھناك سلما يكرر نفسه من أسفل سافلين إلى أعلى عليين‪ ..‬سبع سماوات و سبع أرضين‪ ..‬مثلما‬
‫للضوء سبع درجات و الصوت سبع نغمات و اإللكترون سبعة أفالك‪ ..‬و إن ما ورد في القرآن‬
‫حول الرقم سبعة ) عن جھنم التي لھا سبعة أبواب و عن األرضين السبع و السماوات السبع و‬
‫عن سبع سنوات عجاف و سبع بقرات سمان و عن استواء ﷲ على عرشه في اليوم السابع من‬
‫أيام الخلق(‪ ..‬كل ھذه إشارات إلى ھذا السر الخطير من أسرار الكون‪.‬‬

‫ال شك أن القرآن ھنا يبدو بكل ثقله و خطورته مشيرا إلى مسألة علمية غاية في األھمية‪.‬‬

‫•••‬

‫و مثال ذلك اللمحة العلمية األخرى التي نصادفھا في القرآن حينما نقرأ عن ﷲ عز وجل أنه‪:‬‬

‫)) إن ﷲ فالق الحب و النوى يخرج الحي من الميت و مخرج الميت من الحي‪– 95) ((..‬‬
‫األنعام(‬

‫و قد فھم منھا المفسرون القدامى انفالق نواة البلحة عند اإلنبات و أنه بھذا تجدد النخلة حياتھا‬
‫فتخرج الساق الحي من النوى الميت‪.‬‬

‫فھل كانت مصادفة أن يكشف لنا العلم التشريحي أن الخلية أيضا تجدد حياتھا بأن تنفلق نواتھا و‬
‫أن ھذه ھي الطريقة التي تلد بھا الخلية فتصبح خليتين‪.‬‬

‫و ھل كانت مصادفة أن يكشف لنا العلم أن الذرة ال تخرج طاقتھا المكنونة إال بانفالق نواتھا‬
‫أيضا فيخرج منھا الحي من الميت ) ميالد الطاقة الذرية من المادة الموات(‪.‬‬

‫ھي مجرد تأمالت‪.‬‬

‫•••‬
‫و الشيء نفسه حينما تحكي لنا سورة ياسين عن ﷲ‪:‬‬

‫)) الذي خلق األزواج كلھا مما تنبت األرض و من أنفسھم و مما ال يعلمون(( )‪ – 36‬يس(‬
‫و نعلم أن ﷲ خلق النبات من زوجين ذكرا و أنثى كما خلقنا من زوجين و الجن من زوجين‪.‬‬

‫و ما لم نكن نعلمه و ما كشفه لنا العلم أن ھذه الزوجية ھي في األشياء أيضا‪:‬‬

‫)) و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون(( )‪ – 49‬الذاريات(‬

‫فالكھرباء فيھا الشحنتان السالبة و الموجبة‪.‬‬

‫و المغانطيسية فيھا االستقطاب إلى قطبين‪.‬‬

‫و في الذرة اإللكترون و البوزيترون‪.‬‬

‫و البروتون و النيوترون‪.‬‬

‫و في الكيمياء العضوية‪ ..‬الجزيء اليساري و الجزيء اليميني‪.‬‬

‫و نعرف اآلن المادة‪ ..‬و المادة المضادة‪.‬‬

‫و الثنائية اإلزدواجية في تركيب األحياء و الجمادات يكشف لنا العلم أسرارھا كل يوم‪.‬‬

‫و ھي إشارات و لمحات و قطرات من بحر القرآن المليء بالكنوز و األسرار‪.‬‬

‫•••‬

‫و ربما كان أعمق ھذه األسرار ما جاء في القرآن وصفا ليوم القيامة بأن البحار تفجر و تضرم‬
‫فيھا النيران‪:‬‬

‫)) و إذا البحار سجرت(( )‪ – 6‬التكوير(‬

‫)) و سجرت(( معناھا أضرمت نارا‪.‬‬

‫و في سورة االنفطار يعود القرآن إلى ھذه اإلشارة‪:‬‬

‫)) و إذا البحار فجرت )‪ (3‬و إذا القبور بعثرت )‪ ) (( (4‬االنفطار(‬

‫و في سورة الطور يقسم ﷲ بھذا الحدث فيقول جل من قائل‪:‬‬


‫)) و البحر المسجور )‪ (6‬إن عذاب ربك لواقع )‪ ) (( (7‬الطور(‬

‫إنه يقسم بالبحر إذ يفجر و يضرم نارا يوم القيامة بأن العذاب واقع و أنه حق‪.‬‬

‫و القسم فيه لفت نظري ألھمية الحدث و جسامته‪ ..‬و قد ظل )) البحر المسجور(( في نظري لغزا‬
‫عجيبا حتى وقعت في يدي خريطة لتوزيع األحزمة البركانية و الزلزالية على األرض في أثناء‬
‫قراءة عن النشاط البركاني و أسراره‪ .‬و كانت الخريطة بداية لدوامة من التأمل‪.‬‬

‫فالمؤلف و ھو العالم الجيولوجي الدكتور ) بو( يقول لنا بالرسم و اإلحصاءات إنه من خمسمائة‬
‫بركان و ھي كل ما نعرف من براكين على األرض وجد أن معظم ھذه البراكين تصطف في‬
‫حلقة حول المحيط الھادي و في خط بطول البحر المتوسط و خط بحافة األطلسي‪ ..‬و أعجب من‬
‫ھذا أنه وجد أن قاع المحيط الھادي يتكون من البازلت و ھو صخر بركاني‪ ..‬و معنى ھذا أن‬
‫جوف األرض الناري ھو أقرب ما يكون إلى السطح عند قاع المحيط الھادي و البحرالمتوسط و‬
‫األطلسي‪ ،‬و أن ھذه األمكنة تحت الماء تمثل نقاط الضعف في القشرة األرضية حيث يحدث بين‬
‫وقت و آخر أن تنفجر البثور البركانية فتقذف بالحمم من جوف األرض الملتھب إلى السطح‪.‬‬

‫ثم يمضي المؤلف فيحصي لنا عددا من أعظم تلك البراكين التي تشكل حلقة من النيران حول‬
‫الماء و تحت الماء يذكر لنا منھا بركان ) فوجياما( و بركان ) مايون( و بركان ) تال( و بركان )‬
‫كركاتوا( و بركان ) أورزابا( و بركان ) باريكوتين( و بركان ) كوتوباكسي( و بركان )‬
‫شيمبوراز( و البراكين الثالثة ) مونت السن و مونت ھود و مونت رينير(‪ ..‬ھذا غير جزر‬
‫بركانية تقوم وسط المحيط مثل‪ :‬جزر ) ھاواي( و ھي مجموعة من الجزر شيدتھا البراكين‪ ..‬و‬
‫من أعجب مايراه السائحون فيھا مشھد حفرة ) كيالويا( النارية و يسميھا أھل البالد ) ھاليوما(‬
‫أي بيت النار‪ ..‬و فيھا يمكنك أن ترى رأي العين الحمم المتوھجة و ھي تغلي و تفور و تبصق‬
‫نافورات النار على أعماق سحيقة داخل الفوھة‪.‬‬

‫و بين براكين البحر المتوسط أكبرھا بعد ) فيزوف( ھو بركان ) أتنا( بصقلية و إلى الشمال منه‬
‫يقع بركان ) سترمبولي( الذي يثور بصفة مستمرة و يلمع كل ليلة بالضوء األحمر و يسميه‬
‫المالحون منارة البحر المتوسط‪.‬‬

‫و في شرق البحر المتوسط مجموعة أخرى من البراكين من بينھا جبل ) أرارات(‪ ..‬و في‬
‫األطلسي جزر ) الكناري و آزور و كاب فرد( و كلھا جزر بركانية‪.‬‬

‫ثم تطالعنا اإلحصاءات بحقيقة أخرى دامغة فتقول إن ‪ % 80‬من النشاط الزلزالي يقع ھو اآلخر‬
‫في الحزام الذي يحتضن المحيط الھادي و إن معظم الھزات الزلزالية تقع في قاع البحار‪.‬‬

‫إن ذروة االضطراب البركاني و الزلزالي واقعة إذن حول الماء و تحت الماء حيث جوف‬
‫األرض الناري المتأجج بالحرارة قريب من السطح‪ ،‬ال يحفظه من التفجر إال توازن القشرة‬
‫األرضية الدقيق و الجبال الھائلة التي تعمل كثقاالت و أوتاد تحفظ ھذه القشرة في مكانھا‪ ،‬و‬
‫ترسيھا فال تميد فوق بحر النار المضطرب في الداخل‪.‬‬

‫و في ذلك يقول القرآن عن تلك الجبال الرواسي‪.‬‬

‫)) و ألقى في األرض رواسي أن تميد بكم و بث فيھما من كل دابة‪ – 10) (( ..‬لقمان(‬
‫و في مكان آخر يصف الجبال بأنھا أوتاد‪ )) ..‬و الجبال أوتادا(( )‪ – 7‬النبأ( و ھو وصف علمي و‬
‫دقيق فھي بالفعل أوتاد‪..‬‬

‫فإذا جاء وعد اآلخرة و نسفت ھذه الجبال تدفقت حمم النار من نقطة الضعف الكبرى و ھي قيعان‬
‫البحار و ألقت األرض بجوفھا الملتھب‪.‬‬

‫)) إذا زلزلت األرض زلزالھا )‪(1‬و أخرجت األرض أثقالھا )‪) (( (2‬الزلزلة(‬

‫و أضرمت النيران في مياه البحار و المحيطات و كان ذلك )) البحر المسجور(( الذي فجرت‬
‫مياھه نارا‪ .‬و الذي أقسم به الخالق‪..‬‬

‫)) و برزت الجحيم لمن يرى(( )‪ – 36‬النازعات(‬

‫و نعلم أن الحرارة في جوف األرض تبلغ ألوف الدرجات‪ ،‬و أن بطن األرض ھو أتون فوار من‬
‫الحديد المنصھر و الحجارة المنصھرة و الحمم‪ ،‬و لعل ھذا الباطن الناري ھو الجحيم التي يقول‬
‫فيھا خالقنا‪:‬‬

‫)) وبرزت الجحيم للغاوين(( )‪ – 91‬الشعراء(‬

‫)) و برزت الجحيم لمن يرى(( )‪ – 36‬النازعات(‬

‫و اإلبراز كلمة دقيقة محددة تعني إخراج شيء من حالة بطون إلى حالة ظھور‪ ..‬من الجوف إلى‬
‫السطح‪.‬‬

‫و لعل ھذا الباطن الفوار ھو أسفل سافلين الذي سوف تتھابط إليه األرواح الكثيفة الظلمانية‪ ..‬و‬
‫ھو تلك النار التي وقودھا الحجارة‪.‬‬

‫ھي إشارات‪ ..‬و لمحات‪ ..‬و كلمات بعيدة الغور‪ ..‬تلتقي فيھا روعة البالغة بدقة العلم‪.‬‬

‫و ال يمكن أن يكون ھذا االلتقاء مصادفة‪ ..‬و أن تكون تلك الموافقات العديدة بين أحدث علوم‬
‫العصر و بين كلمات القرآن األزلية‪ ..‬أمورا عشوائية اعتباطية جاءت مصادفة و اتفاقا‪.‬‬

‫ملحوظة‪ :‬يوجد جزء في ھذا الفصل لم تتم طباعته و ھو محاولة من الكاتب للتوصل إلى ماھية‬
‫الشجرة المذكورة في القرآن لذا وجب التنويه‪.‬‬
‫الجنة و الجحيم‬

‫كان من أسباب انصرافي عن القرآن في شبابي ما قرأته عن أنھار العسل و أنھار الخمر في‬
‫الجنة‪ ..‬و أنا ال أحب العسل و ال أحب الخمر‪ ..‬فاعتبرت ھذه سذاجات و انسحب حكمي على‬
‫القرآن ثم على الدين كله‪.‬‬

‫و الساذج في واقع األمر‪ ..‬لم يكن إال أنا‪.‬‬

‫فأنا لم أحاول أن أتفھم النص القرآني و ال أن أعكف حتى على ظاھر عبارته فما بال باطنھا‪ ..‬و‬
‫كنت في عجلة من أمري‪ ..‬و كان االنصراف غايتي و شھوتي‪ ..‬و غطت ھذه الشھوة على كل‬
‫شيء فضاعت معالم الحقيقة من أمامي‪ ..‬و فاتتني أمور كانت شديدة الوضوح‪.‬‬

‫فماذا يقول القرآن في الجنة؟‬

‫ط ْع ُمهُ َوأَ ْنھَا ٌر‬


‫آس ٍن َوأَ ْنھَا ٌر ِمن لﱠبَ ٍن لﱠ ْم يَتَ َغيﱠرْ َ‬
‫)) َمثَ ُل ْال َجنﱠ ِة الﱠتِي ُو ِع َد ْال ُمتﱠقُونَ فِيھَا أَ ْنھَا ٌر ﱢمن ﱠماء َغي ِْر ِ‬
‫ت َو َم ْغفِ َرة ٌ ﱢمن ﱠربﱢ ِھ ْم َك َم ْن‬ ‫صفًّى َولَھُ ْم فِيھَا ِمن ُك ﱢل الثﱠ َم َرا ِ‬
‫اربِينَ َوأَ ْنھَا ٌر ﱢم ْن َع َس ٍل ﱡم َ‬‫ﱢم ْن خَ ْم ٍر لﱠ ﱠذ ٍة لﱢل ﱠش ِ‬
‫َ‬ ‫ﱠ‬
‫سقُوا َماء َح ِمي ًما فَقَط َع أ ْم َعاءھُ ْم )‪ ] (( (15‬محمد [‬ ‫ھُ َو خَالِ ٌد فِي النﱠ ِ‬
‫ار َو ُ‬

‫و اآلية تبدأ بأنھا ضرب مثل‪َ )) .‬مثَ ُل ْال َجنﱠ ِة الﱠتِي ُو ِع َد ْال ُمتﱠقُونَ ‪ (( ..‬و ليست إيرادا ألوصاف‬
‫حرفية‪ .‬فھذا أمر مستحيل ألن الجنة و الجحيم أمور غيبية بالنسبة لنا ال يمكن تصويرھا في‬
‫كلمات من قاموسنا‪.‬‬

‫تماما كما يسألك الطفل عن اللذة الجنسية‪ ..‬فتحتار كيف تصفھا له فھي بالنسبة له غيب خارج عن‬
‫حدود خبراته تماما‪ .‬و بعد أن تعجز عن توصيل المعنى إليه تقول على سبيل ضرب المثل و على‬
‫سبيل التقريب‪ ..‬إنھا شيء مثل السكر‪.‬‬

‫لقد اخترت له شيئا من خبراته اليومية‪.‬‬

‫و مع ذلك فما أبعد المعنى‪.‬‬

‫و ما أبعد الفارق بين اللذة الجنسية و بين طعم السكر العادي المبتذل‪.‬‬

‫و بالمثل كان موقف القرآن في مخاطبة البدوي البسيط‪.‬‬

‫و كل أمنية البدوي الذي يعيش في ھجير الصحراء أن يعثر على نبع ماء عذب‪ .‬فكل ما يجد من‬
‫مياه ما ھي إال ينابيع مالحة آسنة‪.‬‬

‫و كذلك اللبن‪ ..‬فما أسرع ما يختمرو يتغير طعمه في حر الصحارى‪ ..‬فيضرب له القرآن المثل‬
‫من أعز ما يتمنى‪.‬‬
‫ضةً فَ َما فَوْ قَ َھا‪ ] (( (26) ..‬البقرة [‬ ‫ﷲَ الَ يَ ْستَحْ يِي أَن يَضْ ِر َ‬
‫ب َمثَالً ﱠما بَعُو َ‬ ‫)) إِ ﱠن ﱠ‬

‫فكل الغاية ھي تقريب تلك المعاني المستحيلة بقدر اإلمكان‪.‬‬

‫و كل ما جاء عن الجنة و الجحيم ما ھو إال ألوان من ضرب المثال‪ ..‬و ألوان من التقريب و ألوان‬
‫من الرمز‪.‬‬

‫و في العھد القديم يصف ) أشعيا ( يوم الرضوان قائال‪:‬‬

‫)) يصنع رب الجنود لجميع الشعوب في ھذا الجبل وليمة سمائن و وليمة خمر و يمسح السيد‬
‫الرب الدموع من كل الوجوه ((‪.‬‬

‫و في تراتيل القديس ) أفرايم (‪:‬‬

‫)) و رأيت مساكن الصالحين‪ ..‬رأيتھم تقطر منھم العطور و تزينھم ضفائر الفاكھة و الريحان‪ ..‬و‬
‫كل من عف عن الشھوات تلقته الحسان في صدر طھور ((‪.‬‬

‫إنھا صور مشتركة في جميع األديان‪.‬‬

‫و لكن القرآن ال يتركنا في ضباب األمثلة فما يلبث أن يقطع بالقول الفصل‪:‬‬

‫)) فَ َال تَ ْعلَ ُم نَ ْفسٌ ﱠما أُ ْخفِ َي لَھُم ﱢمن قُ ﱠر ِة أَ ْعي ٍُن َجزَاء بِ َما َكانُوا يَعْ َملُونَ )‪ ] (( (17‬السجدة [‬

‫إنه يحيل القضية كلھا إلى غيب ال يمكن التعبير عنه بلغة األرض‪.‬‬

‫ھنا كل منى العين و القلب مما ال يمكن تصويره بألفاظ‪.‬‬

‫أما جھنم فھي شيء فظيع‪ ..‬ال ھي بالحياة و ال ھي بالموت‪.‬‬

‫ت َو ِمن َو َرآئِ ِه َع َذابٌ َغلِيظٌ )‪ ] (( (17‬إبراھيم [‬ ‫)) َويَأْتِي ِه ْال َموْ ُ‬


‫ت ِمن ُك ﱢل َمك ٍ‬
‫َان َو َما ھ َُو بِ َميﱢ ٍ‬

‫ار الﱠتِي َوقُو ُدھَا النﱠاسُ َو ْال ِح َج َ‬


‫ارةُ‪ ] (( (24) ..‬البقرة [‬ ‫)) فَاتﱠق ُ ْ‬
‫وا الن ﱠ َ‬

‫ثم يشرح لنا أكثر‪:‬‬

‫ُخَوفُ ﱠ‬
‫ﷲُ بِ ِه ِعبَا َدهُ يَا ِعبَا ِد فَاتﱠقُ ِ‬
‫ون )‪(( (16‬‬ ‫ار َو ِمن تَحْ تِ ِھ ْم ظُلَ ٌل َذلِكَ ي ﱢ‬
‫)) لَھُم ﱢمن فَوْ قِ ِھ ْم ظُلَ ٌل ﱢمنَ النﱠ ِ‬
‫] الزمر [‬

‫ھا ھو ذا يبين لنا حقيقة جديدة‪ ..‬فيقول إنه يورد األلفاظ للتخويف‪ .‬و لكنه ليس تخويفا على غير‬
‫أساس‪.‬‬

‫إنه مثل تخويفك البنك حين تحذره من إھمال نظافة أسنانه و تقول له‪ :‬إذا لم تنظف أسنانك‬
‫بالفرشاة فإن السوس سوف يأكل أسنانك‪ ..‬تقول ذلك محبة منك و رحمة لطفلك‪.‬‬
‫و بالطبع‪ ..‬السوس لن يأكل أسنانه‪ ..‬إنما ھي ميكروبات و فيروسات غير مرئية‪.‬‬

‫و لكن التخويف كان على أساس‪ ..‬ألن ما سوف يحدث له إذا أھمل نظافة أسنانه سيكون ألعن من‬
‫أكل السوس‪.‬‬

‫و من جرب اآلالم الرھيبة لضرس مسوس‪ ..‬يعرف أنھا أسوأ من كل ما سمع من تحذيرات‪.‬‬

‫إنه تخويف العزيز الرحيم من شيء سوف يحدث بالفعل و سيكون أسوأ من جميع ما قيل و كتب‪..‬‬
‫مما ال عين رأت و ال أذن سمعت و ال خطر على قلب بشر‪.‬‬

‫إن العذاب حق‪ ..‬و الثواب حق‪.‬‬

‫و ھنا يعترض معترض‪.‬‬

‫أال يتنافى مع رحمة ﷲ و مع عظمته أن يعذب‪ ..‬و يعذب من !‪ ..‬إنسانا مسكينا ال يساوي ذرة أو‬
‫ھباء في مملكة ﷲ الالنھائية‪.‬‬

‫و ھو اعتراض كان يشغلني دائما و كان يصرفني دائما عن قبول فكرة العذاب و بالتالي عن‬
‫القرآن و عن الدين كله‪.‬‬

‫و السؤال يحتاج منا إلى أن نتعمق في معنى كلمة عذاب‪.‬‬

‫و ﷲ بالفعل ال يعذب‪.‬‬

‫إنما ھو فقط يعدل‪.‬‬

‫و لو أنه ساوى في آخرته بين ظالم و مظلوم‪ ..‬و بين قتيل و القاتل الذي قتله‪ ..‬لو أنه فعل ذلك‬
‫بحجة الرحمة لكان أبعد ما يمكن عن الرحمة‪ ..‬و عن العدل‪ ..‬فالمساواة بين غير المتساويين ظلم‬
‫فادح‪ ..‬تعالى ﷲ عن أن يقع فيه‪.‬‬

‫ثم ھي الفوضى أن يكون األبيض في عين ﷲ كاألسود‪ ،‬و األعمى كالبصير‪ ،‬و الميت كالحي‪ ،‬و‬
‫الذي يسمع كمن ال يسمع‪.‬‬

‫و الكون ينفي الفوضى‪.‬‬

‫تأمل كل جزئية في الكون تكشف لك عن النظام المحكم و القانون الذي ال يفوته واحد من ألف من‬
‫المليجرام‪.‬‬

‫و حركة إليكترون من مدار إلى مدار في داخل الذرة ال تتم إال بحساب‪ ،‬فھو ال بد أن يعطي‬
‫حزمة من الطاقة ليقفز إلى الخارج قفزة مساوية‪ ،‬و ال بد له أن يمتص حزمة أخرى ليقفز إلى‬
‫الداخل قفزة مساوية‪ ..‬إنه محاسب في حركاته‪ ..‬و ھو إليكترون‪ ..‬فما بال اإلنسان العاقل و ھو‬
‫بالنسبة لإلليكترون كالمجرة و الفلك بالنسبة لإلنسان‪ ..‬و قد نفخ ﷲ فيه من روحه فھو شيء‬
‫عظيم‪ ..‬و ليس في ھوان الذرة و ال اإلليكترون‪.‬‬

‫ثم ما معنى أن يموت مظلوما و ظالما فيصبح ترابا بال بعث و يذھب ما حصله من خير و شر و‬
‫علم و حكمة سدى‪.‬‬

‫إنھا تكون مجرد سخافة‪.‬‬

‫وت َونَحْ يَا َو َما يُ ْھلِ ُكنَا إِ ﱠال ال ﱠد ْھ ُر َو َما لَھُم بِ َذلِكَ ِم ْن ِع ْل ٍم إِ ْن ھُ ْم إِ ﱠال‬
‫)) َوقَالُوا َما ِھ َي إِ ﱠال َحيَاتُنَا ال ﱡد ْنيَا نَ ُم ُ‬
‫يَظُنﱡونَ )‪ ] (( (24‬الجاثية [‬

‫و ھو ظن خاطئ‪ ..‬ألن الحياة تكون به مجرد لعبة عبثية و باطل في باطل‪.‬‬

‫اإلن َسانُ أَن يُ ْت َر َ‬


‫ك ُسدًى )‪ ] (( (36‬القيامة [‬ ‫)) أَيَحْ َسبُ ْ ِ‬

‫و العقل المتأمل ال يقول ھذا أبدا‪ .‬إنه ليتفكر في خلق الكون و نواميس الفلك المحكمة و يھتف من‬
‫أعماقه‪:‬‬

‫)) َربﱠنَا َما خَ لَ ْقتَ ھَذا بَ ِ‬


‫اطالً ُسب َْحانَكَ ‪ ] (( (191) ..‬آل عمران [‬

‫مستحيل أن ينتھي كل ھذا إلى باطل‪ ..‬ال بد أن ھناك استمرار بطريقة ما‪ ..‬و ال بد أن يتضح لنا‬
‫الحكمة من كل ھذا في ميقاتھا‪.‬‬

‫إتھا قضية عدالة و قضية منطق و ليست قضية تعذيب لھدف التعذيب‪ ،‬و الذي سوف يحدث لنا‬
‫بعد البعث ھو أن كل واحد ستالزمه رتبته و درجته التي حصلھا في الدنيا ال أكثر‪.‬‬

‫)) فَقَ ْد َك ﱠذ ْبتُ ْم فَ َسوْ فَ يَ ُكونُ ِلزَ ا ًما )‪ ] (( (77‬الفرقان [‬

‫فمن عاش ال يسمع و ال يعقل و ال يبصر الحق سوف يحشره ﷲ أعمى‪:‬‬

‫ضن ًكا َونَحْ ُش ُرهُ يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة أَ ْع َمى )‪ (124‬قَ َ‬


‫ال َربﱢ لِ َم‬ ‫ض عَن ِذ ْك ِري فَإِ ﱠن لَه ُ َم ِعي َشةً َ‬ ‫)) َو َم ْن أَ ْع َر َ‬
‫ك ْاليَوْ َم تُن َسى )‪(126‬‬
‫ك أَتَ ْتكَ آيَاتُنَا فَن َِسيتَ َھا َو َك َذلِ َ‬
‫صيرًا )‪ (125‬قَا َل َك َذلِ َ‬ ‫َحشَرْ تَنِي أَ ْع َمى َوقَ ْد ُك ُ‬
‫نت بَ ِ‬
‫(( ] طه [‬

‫إنھا مجرد صفتك تالزمك )) سوف يكون لزاما ((‪.‬‬

‫إن ﷲ ال يعذبك‪ ..‬و لكنك تعذب نفسك بجھلك‪.‬‬

‫وا أَنفُ َسھُ ْم يَ ْ‬


‫ظلِ ُمونَ )‪ ] (( (118‬النحل [‬ ‫ظلَ ْمنَاھُ ْم َولَ ِكن َكانُ ْ‬
‫)) َو َما َ‬

‫من عاش حيوانا ال ھم له إال أن يأكل و يضاجع فھو في الحياة الثانية له رتبة الحيوان أو الرتبة‬
‫السفلى بالنسبة لغيره ممن عاشوا يتأملون و يعقلون‪.‬‬
‫اآلخ َر ِة أَ ْع َمى َوأَ َ‬
‫ضلﱡ َسبِيالً )‪ ] (( (72‬اإلسراء [‬ ‫)) َو َمن َكانَ فِي ھَ ِذ ِه أَ ْع َمى فَھ َُو فِي ِ‬

‫و في اآلخرة تتزايد الفروق و تتضاعف‪ ..‬فما بين اثنين سوف يكون أكثر بمراحل من فارق‬
‫الدرجة بين حيوان و إنسان‪.‬‬

‫ت َوأَ ْكبَ ُر تَ ْف ِ‬
‫ضيالً )‪ ] (( (21‬اإلسراء‬ ‫آلخ َرة ُ أَ ْكبَ ُر د ََر َجا ٍ‬
‫ْض َولَ ِ‬ ‫)) انظُرْ َك ْيفَ فَض ْﱠلنَا بَع َ‬
‫ْضھُ ْم َعلَى بَع ٍ‬
‫[‬

‫صغَا ٌر ِعن َد ّ‬
‫ﷲِ‪ ] (( (124) ..‬األنعام [‬ ‫ُصيبُ الﱠ ِذينَ أَجْ َر ُم ْ‬
‫وا َ‬ ‫)) َسي ِ‬

‫إن ھذا الصغار سيعذب و يحرق‪ ..‬ألنه سيكون حسرة على صاحبه حينما يرى مكانته و مكانة‬
‫اآلخرين و مقدار ما خسر و مقدار ما كسبوا‪.‬‬

‫)) َربﱠنَا إِنﱠكَ َمن تُ ْد ِخ ِل النﱠا َر فَقَ ْد أَ ْخزَ ْيتَه ُ‪ ] (( (192) ..‬آل عمران [‬

‫ﷲ يعتبر الخزي في ھذه اآلية أشد من النار إيالما‪.‬‬

‫و كما يصف اإلنجيل ھذا العالم اآلخر )) عالم البكاء و صرير األسنان ((‪ .‬المجرم فيه يصر على‬
‫أسنانه ندما على ما يرى من ھوان شأنه أمام الدرجات العالية التي أصابھا اآلخرون‪ .‬و يصف‬
‫القرآن أھل الجنة في تلك الدرجات بأنھم المقربون‪ .‬المقربون من ﷲ‪ ..‬من الحق‪.‬‬

‫ك ﱡم ْقتَ ِد ٍر )‪ ] (( (55‬القمر [‬ ‫)) فِي َم ْق َع ِد ِ‬


‫ص ْد ٍ‬
‫ق ِعن َد َملِي ٍ‬

‫و يروي لنا أن ﷲ يكلمھم و ينظر إليھم و أنھم على أسرة الملك متقابلون قد نزع ﷲ ما في قلوبھم‬
‫من غل فأصبحوا إخوانا متحابين‪.‬‬

‫و يصف الجنة بأنھا دار السالم‪ ..‬و أنه ال حرب فيھا و ال كذب و ال لغو و ال سباب‪.‬‬

‫و بعد أن يستطرد في اآلية الثانية و السبعين من سورة التوبة في وصف الجنات التي تجري من‬
‫تحتھا األنھار و المساكن الطيبة في جنات عدن يختم اآلية قائال‪:‬‬

‫ﷲِ أَ ْك َب ُر )‪ ] (( (72‬التوبة [‬
‫ان ﱢمنَ ّ‬
‫)) َو ِرضْ َو ٌ‬

‫و المعنى واضح‪ ..‬إن مقام الرضا‪ ..‬رضا ﷲ أعظم من كل تلك اللذات المادية‪.‬‬

‫ثم يتأكد المعنى من ھذه اآلية في سورة اإلسراء التي توصي بالتھجد في الليل‪.‬‬

‫)) َو ِمنَ اللﱠ ْي ِل فَتَھَ ﱠج ْد بِ ِه نَافِلَةً لﱠكَ َع َسى أَن يَ ْب َعثَكَ َر ﱡبكَ َمقَا ًما ﱠمحْ ُمودًا )‪ ] (( (79‬اإلسراء [‬

‫إنھا إذن مسألة مقامات‪ .‬كل واحد يبعث على رتبته و مقامه‪.‬‬

‫ﷲ ال يعذب للعذاب‪.‬‬
‫و إنما يأتي العذاب و احتراق الصدر من إحساس من ھم في أسافل الدرجات بالغيرة و الحسد و‬
‫الھوان و الخسران األبدي الذي ال مخرج منه‪ ..‬و سوف يحرق ھذا اإلحساس الصدور كما‬
‫تحرقھا النار و أكثر‪ ..‬و سوف يكون ھو النكال و التنكيل‪ ..‬ينكل الواحد منا بنفسه بالدرجة التي‬
‫وضع نفسه فيھا و التي انحدر إليھا بأعماله في الدنيا‪.‬‬

‫و مما يدل على أن النار في اآلخرة ھي غير ما نعرف من نارنا ھذه اآليات من سورة األعراف‪:‬‬

‫ت ِمن قَ ْبلِ ُكم ﱢمن ْال ِجنﱢ‬ ‫وا فِي أُ َم ٍم قَ ْد خَ لَ ْ‬ ‫وا كَافِ ِرينَ )‪ (37‬قَا َل ا ْد ُخل ُ ْ‬ ‫ُوا َعلَى أَنفُ ِس ِھ ْم أَنﱠھُ ْم كَانُ ْ‬ ‫)) َو َش ِھد ْ‬
‫وا فِيھَا َج ِميعًا ) حتى إذا أدرك بعضھم‬ ‫ار ُك ْ‬ ‫َت أُ ْختَھَا َحتﱠى إِ َذا ا ﱠد َ‬
‫ت أُ ﱠمةٌ لﱠ َعن ْ‬ ‫ار ُكلﱠ َما َدخَ لَ ْ‬
‫نس فِي النﱠ ِ‬ ‫اإل ِ‬‫َو ِ‬
‫ضع ٌ‬
‫ْف‬ ‫ِ‬ ‫لﱟ‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫ل‬
‫ِ َ ِ‬‫ل‬ ‫ا‬‫َ‬ ‫ق‬ ‫ار‬ ‫ﱠ‬ ‫ن‬‫ال‬ ‫م‬
‫ﱢ نَ‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ف‬‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ض‬
‫ِ‬ ‫ًا‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫ذ‬ ‫ع‬ ‫م‬
‫ِ ِْ َ‬ ‫ھ‬‫ت‬ ‫آ‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫َا‬
‫ن‬ ‫و‬‫ﱡ‬
‫ل‬ ‫ض‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ُالء‬‫ؤ‬ ‫َ‬ ‫ھ‬ ‫َا‬ ‫ن‬‫ﱠ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ُم‬
‫ْ َ‬ ‫ھ‬ ‫َ‬ ‫ال‬ ‫و‬‫ُ‬ ‫أل‬ ‫ُم‬
‫َ ْ‬‫ھ‬ ‫ا‬‫ر‬ ‫ْ‬
‫خ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ْ‬
‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ا‬‫َ‬ ‫ق‬ ‫(‬ ‫ضا‬ ‫بع‬
‫َولَ ِكن ال ﱠ تَ ْع َل ُمونَ )‪ ] (( (38‬األعراف [‬

‫إنه حوار و مكالمة في النار تجرى بين المعذبين‪ ..‬و في مثل نارنا ال يمكن أن يجرى حوار بين‬
‫اثنين يحترقان‪.‬‬

‫و المعنى الثاني العميق في اآلية )) لكل ضعف و لكن ال تعلمون ((‪.‬‬

‫إن أمامنا اثنين يتعذب الواحد منھما ضعف اآلخر مع أنھما في المكان نفسه‪ ،‬و معنى ھذا أن‬
‫العذاب في الشخص و ليس في المكان ذاته‪ ..‬و ھذا ال ينفي أن يكون العذاب المذكور حسيا‪ ،‬بل‬
‫إنه من الممكن أن يكون معنويا و حسيا في نفس الوقت ) كما يحدث أن يتعرض اثنان للحر‬
‫الالفح فيصاب أحدھما بالصداع على حين يتحمل اآلخر بسبب اختالف درجات اللياقة عند‬
‫اإلثنين ( و الصداع ألم حسي و معنوي‪.‬‬

‫و ال ينفي أن يكون نارا و لكنھا نار غير ما نعرف من نارنا‪.‬‬

‫و يروي القرآن عن أھل الجنة و كيف أنھم يتذكرون و ھم يأكلون فاكھة الجنة أنھم قد رزقوا‬
‫أنواع ھذه الفاكھة حينما كانوا على األرض ) مع الفارق في الجودة (‪.‬‬

‫و كيف أن لھم زوجات في الجنة و لكنھن زوجات مطھرات ) لسن كزوجات األرض يعانين‬
‫الحيض و المخاض شكسات غيورات متسلطات (‪.‬‬

‫تقول اآلية عن ھؤالء الصالحين في الجنة‪:‬‬

‫ُز ْقنَا ِمن قَ ْب ُل َوأُت ُ ْ‬


‫وا بِ ِه ُمتَ َشابِھا ً َولَھ ُْم فِيھَا أَ ْز َوا ٌج‬ ‫وا ھَ َذا الﱠ ِذي ر ِ‬
‫وا ِم ْنھَا ِمن ثَ َم َر ٍة رﱢ ْزقا ً قَالُ ْ‬
‫ُزقُ ْ‬
‫)) ُكلﱠ َما ر ِ‬
‫طھ َﱠرةٌ َوھُ ْم فِيھَا خَ الِ ُدونَ )‪ ] (( (25‬البقرة [‬ ‫ﱡم َ‬

‫و الجنة بھذه الصورة ھي درجة و مقام‪ ..‬فيھا كل ما نعرف على األرض و لكن مع تفاوت ھائل‬
‫في الرتبة‪ ..‬تفاوت يفوق التصور‪ ..‬تفاوت مثل التفاوت بين الزمن و األبد و مثل التفاوت الذي‬
‫ذكرناه بين طعم قطعة السكر و طعم اللذة الجنسية الحادة بالنسبة لبالغ‪.‬‬

‫و إذا ذكر العسل في مثل ھذه الجنة فھو عسل و لكم ال كما نعرف من عسل‪ ،‬و اللبن ھو اللبن و‬
‫لكن ال كما نعرف من لبن‪ ،‬و النساء ال كما نعرف من نساء‪.‬‬
‫إنھا ستكون أشياء مدھشة كالغيب بالنسبة لما نعلم‪ ..‬يقول الشاعر عن امرأة يحبھا إن جسمھا‬
‫يضيء كأنھا صيغت من النور‪ ..‬إنھا أحالم يمكن أن تكون ھناك حقائق‪.‬‬

‫و بالمثل ما يروي القرآن عن النار‪ ..‬فھي نار ال كما نعرف من نار‪ ..‬نار تنبت فيھا شجرة لھا‬
‫ثمر ) شجرة الزقوم (‪ ..‬و فيھا ماء حميم يشربه أھلھا‪ ..‬و المعذبون فيھا يتكلمون و يتحاورون‬
‫فأجسادھم ال يمكن أن تكون لھا نفس كيمياء األجساد كما نعلمھا و إال لتبخرت دخانا في لحظات و‬
‫لما استطاعوا أن يتبادلوا كلمة‪.‬‬

‫و معنى ھذا أننا سوف نبعث أجسادا و لكن ال كاألجساد‪ ..‬ربما كيانات لھا ذات الھيئة و الصورة‬
‫و لكن من مادة مختلفة ھي بالنسبة لنا غيب‪ ..‬إنھا لن تكون األجساد الترابية التي نتكون منھا اآلن‬
‫في حياتنا األرضية‪.‬‬

‫و لھذا يمكن أن تتضاعف المتع حسيا و معنويا بطريقة نجھلھا‪.‬‬

‫كما تتضاعف درجات العذاب حسيا و معنويا عما نعلم و كما يتوزع الناس مراتب و درجات‬
‫بحسب لياقتھم‪ ..‬تكون لكل مرتبة مواصفاتھا الحياتية التي تكفل لمن فيھا حظوظا من السعادة أو‬
‫الشقاء كل حسب قدره‪ ،‬و أتصور أن أعلى الناس قدرا في الجنة ھم الذين سيرتفعون عن متع‬
‫الحواس و جنة الحواس و يختار لھم الرحمن درجة الحياة الروحية الخالصة إلى جواره في سدرة‬
‫المنتھى‪ ،‬حيث ال تكون اللذة ھي لذة طعام و ال لذة شراب و ال لذة حور عين و إنما لذة النظر إلى‬
‫ﷲ في كماله و لذة تأمل الحق و الجمال و صورة الخير المطلق‪.‬‬

‫ك ﱡم ْقتَ ِد ٍر )‪ ] (( (55‬القمر [‬ ‫إنھا لذة الجالس )) فِي َم ْق َع ِد ِ‬


‫ص ْد ٍ‬
‫ق ِعن َد َملِي ٍ‬

‫و ھي مرتبة المفضلين من األنبياء و من في مقامھم‪.‬‬

‫و ھكذا تشتمل الجنة على جميع الدرجات من المتع الحسية من مأكل و مشرب ارتفاعا حتى المتع‬
‫الروحية الخالصة ينال كل منا ما تؤھله له رتبته‪.‬‬

‫كل ھذه آيات كواشف ذات داللة تدلنا على أن النار ليست ھي نارنا و ال الجنة ھي سوق الخضار‬
‫و ال ﷲ ھو الباطش اإلرھابي‪.‬‬

‫و إنما ﷲ سوف يبعث كل واحد على رتبته و مقامه و درجته‪ ،‬ألن ھذا عين العدل و ھو العادل‪.‬‬

‫و إنما سوف يتأتى العذاب من تفاوت الرتب تفاوتا عظيما‪ ،‬ثم بالسقوط في تقييم أبدي ال مخرج‬
‫منه يلزم صاحبه كما تلزم اإلصبع بصمتھا‪.‬‬

‫و ھو عذاب أكيد و جحيم أكيد سوف نراه عيانا و يقينا‪:‬‬

‫)) َك ﱠال لَوْ تَعْ لَ ُمونَ ِع ْل َم ْاليَقِي ِن )‪ (5‬لَتَ َر ُو ﱠن ْال َج ِحي َم )‪ (6‬ثُ ﱠم لَت ََر ُونﱠھَا َع ْينَ ْاليَقِي ِن )‪ ] (( (7‬التكاثر [‬
‫و ألن ﷲ يعلم أن ھذا العذاب سوف يكون رھيبا‪ ..‬فقد حذرنا و خوفنا باأللفاظ المجلجلة و أرسل‬
‫لنا األنبياء مبشرين منذرين مؤيدين بالمعجزات و الخوارق و اآليات و الكتب‪ ..‬فعل ذلك رحمة‬
‫منه و حنانا و عطفا‪ ..‬و ھو القائل في حديثه القدسي‪ )) :‬سبقت رحمتي غضبي ((‪.‬‬

‫و في سورة الفاتحة يصف نفسه أوال بأنه الرحمن الرحيم قبل أن يقول مالك يوم الدين‪ ..‬و ھو يوم‬
‫الحساب‪ ..‬يوم الغضب‪ ..‬يوم يحق القول على العالمين بال رجعة‪.‬‬

‫و ألنه رحيم فقد فتح باب التوبة و إصالح الخطأ على مصراعيه‪.‬‬

‫ﷲَ يَ ْغفِ ُر ال ﱡذنُ َ‬


‫وب َج ِميعًا‪..‬‬ ‫ي الﱠ ِذينَ أَس َْرفُوا َعلَى أَنفُ ِس ِھ ْم َال تَ ْقنَطُوا ِمن رﱠحْ َم ِة ﱠ‬
‫ﷲِ إِ ﱠن ﱠ‬ ‫)) قُلْ يَا ِعبَا ِد َ‬
‫)‪ ] (( (53‬الزمر [‬

‫ثم أقام شروط المغفرة‪:‬‬

‫صالِحًا ثُ ﱠم ا ْھتَدَى )‪ ] (( (82‬طه [‬ ‫)) َوإِنﱢي لَ َغفﱠا ٌر لﱢ َمن ت َ‬


‫َاب َوآ َمنَ َو َع ِم َل َ‬

‫ﷲِ أَ ْكبَ ُر‪ ] (( (45) ..‬العنكبوت [‬


‫و أمر بالصالة‪ ..‬ثم قال‪َ )) :‬ولَ ِذ ْك ُر ﱠ‬

‫أن تتذكر أن ھناك قوة إلھية و أن يشخص ھذا المعنى في ذاكرتك و في أفعالك على الدوام‪..‬‬
‫ينجيك و يحقق لك شرط المؤمن و يكون أفضل من صالة المصلي الذي ليس في قلبه ذكر‪.‬‬

‫و كلمة )) الذكر (( في القرآن كلمة عميقة المعنى و الداللة‪ .‬فالقرآن نفسه اسمه ذكر‪ ،‬و التدين و‬
‫اإليمان ھو مجرد تذكر‪:‬‬

‫)) إِن ﱠ َما يَ َت َذ ﱠك ُر أُوْ لُوا ْاألَ ْلبَا ِ‬


‫ب )‪ ] (( (9‬الزمر [‬

‫)) َوإِ َذا ُذ ﱢكرُوا َال يَ ْذ ُكرُونَ )‪ ] (( (13‬الصافات [‬

‫)) إِنﱠا نَحْ نُ نَ ﱠز ْلنَا ال ﱢذ ْك َر َوإِنﱠا لَهُ لَ َحافِظُونَ )‪ ] (( (9‬الحجر [‬

‫)) َولَقَ ْد يَسﱠرْ نَا ْالقُرْ آنَ لِل ﱢذ ْك ِر فَھَلْ ِمن ﱡم ﱠد ِك ٍر )‪ ] (( (17‬القمر [‬

‫)) فَ َذ ﱢكرْ إِنﱠ َما أَنتَ ُم َذ ﱢك ٌر )‪ (21‬لﱠسْتَ َعلَ ْي ِھم بِ ُم َ‬


‫صي ِْط ٍر )‪ ] (( (22‬الغاشية [‬

‫)) َولِيَتَ َذ ﱠك َر أُوْ لُوا ْاألَ ْلبَا ِ‬


‫ب )‪ ] (( (29‬ص [‬

‫ف ﱢمنَ ال ﱠش ْيطَا ِن تَ َذ ﱠكرُواْ فَإِ َذا ھُم ﱡمب ِ‬


‫ْصرُونَ )‪ ] (( (201‬األعراف [‬ ‫)) إِ ﱠن الﱠ ِذينَ اتﱠقَ ْ‬
‫وا إِ َذا َم ﱠسھُ ْم طَائِ ٌ‬

‫و ھنا ينبغي أن نقف وقفة تأمل طويلة‪.‬‬

‫فما ھو ھذا التذكر المطلوب‪.‬‬


‫إن أحدث النظريات النفسية تقول لنا‪ :‬إن المعارف كلھا تكون مخبوءة مكنوزة داخل نفس اإلنسان‬
‫و لكن تحجبھا عنه غرائزه و شھواته‪ ..‬و لھذا فالتعلم ھو في حقيقته تذكر‪ .‬بارتفاع حجب النفس و‬
‫شفوفھا‪ ..‬و ال يكون تعلما من عدم‪.‬‬

‫فالطفل ال يتعلم أن ) ‪ ( 4 = 2 + 2‬و إنما ھو فقط يتذكر حقيقة باطنة في روحه‪ ،‬ولد بھا‪.‬‬

‫و بالمثل اإلحساس بالجمال و الطرب ھو نوع من التذكر المبھم لعالم القدس و ما فيه‪ ..‬عالم‬
‫الملكوت الذي كنا فيه قبل النزول إلى األرحام‪.‬‬

‫و لھذا السبب فإن جمال المرأة مثال ھو جمال زائر و ليس جماال مقيما ألنه ليس جمالھا ھي‪ ..‬و‬
‫إنما ھو ظل ينعكس عليھا من الملكوت‪ ..‬ثم ما يلبث أن يفارقھا حينما يتغلب قانون المادة و‬
‫الشيخوخة و التراب‪.‬‬

‫قبل ميالدنا‪ ..‬كانت لنا ثمة حياة كأرواح‪.‬‬

‫و في ذلك تقول اآلية القرآنية البديعة‪:‬‬

‫ْت بِ َربﱢ ُك ْم قَالُ ْ‬


‫وا بَ َلى‬ ‫ُور ِھ ْم ُذرﱢ يﱠتَھ ُْم َوأَ ْشھَ َدھُ ْم َعلَى أَنفُ ِس ِھ ْم أَلَس ُ‬
‫ك ِمن بَنِي آ َد َم ِمن ظُھ ِ‬‫)) َوإِ ْذ أَخَ َذ َر ﱡب َ‬
‫وا يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة إِنﱠا ُكنﱠا ع َْن ھَ َذا غَافِلِينَ )‪ ] (( (172‬األعراف [‬ ‫َش ِھ ْدنَا أَن تَقُولُ ْ‬

‫و اآلية تروي ما كان في الغيب قبل الميالد و قبل النزول إلى الدنيا‪.‬‬

‫و كل الخالئق مما خلق ﷲ و يخلق و سيخلق مثل الذر في كفه ينظر إليھم و يشھدھم على‬
‫أنفسھم‪ ..‬ألست بربكم‪ ..‬فيقولون بلى شھدنا‪ ..‬و ھو بھذا يأخذ عليھم ميثاقا غليظا ألنه يعلم أنه بعد‬
‫الھبوط في األرحام و انسدال حجاب اللحم الكثيف و نزول غشاوة الحواس و الشھوات و الغرائز‬
‫و األھواء أنھم سوف ينسون تماما‪ ..‬و سوف يتخبطون في نكران وكفر و جھالة‪.‬‬

‫و ھو‪ ..‬رحمة منه يرسل لھم األنبياء يذكرونھم‪.‬‬

‫و يقول لمحمد – صلى ﷲ عليه و سلم ‪: -‬‬

‫)) فَ َذ ﱢكرْ إِنﱠ َما أَنتَ ُم َذ ﱢك ٌر )‪ (21‬لﱠسْتَ َعلَ ْي ِھم بِ ُم َ‬


‫صي ِْط ٍر )‪ ] (( (22‬الغاشية [‬

‫و يقول عن اإليمان إنه حياة‪.‬‬

‫وا ا ْست َِجيب ْ‬


‫ُوا ِ ّ ِ َولِل ﱠرسُو ِل إِ َذا َدعَا ُكم لِ َما ي ُحْ يِي ُك ْم‪ ] (( (24) ..‬األنفال [‬ ‫)) َيا أَ ﱡيھَا الﱠ ِذينَ آ َمنُ ْ‬

‫ألن اتصال الوجود الدنيوي بالتذكر بالوجود الملكوتي األول ثم بالوجود األخروي‪ ..‬ھو فطنة‬
‫اإلنسان إلى حياته بكاملھا‪ .‬و ھي الحياة كل الحياة‪.‬‬

‫و ﷲ ليس بحاجة إلى صالتنا و ال إلى صيامنا و لكن نحن المحتاجون‪ ..‬لعلنا في صالتنا العميقة‬
‫نتذكر و لعلنا بالعبادة و التوجه نتصل بنبع وجودنا‪ ..‬و نستمد منه حياتنا‪.‬‬
‫إن الصالة و العبادة استمداد‪ .‬نحن الذين نحتاج إليھا لتكون لنا حياة‪ .‬و ليس ﷲ‪ ..‬ألن ﷲ ھو الحي‬
‫بذاته المستغني بوجوده عن كل شيء‪.‬‬

‫أما نحن فال يمكن أن تكون لنا حياة إال بمدد منه‪ ..‬من ﷲ‪ ..‬الحي الذي به الحياة‪.‬‬

‫و نفھم من ھذا أن ﷲ فرض الفروض ووضع شرائع العبادات من أجلنا و ليس من أجل أن يشعر‬
‫بألوھيته‪ .‬فھو في غنى عنا‪ ..‬و في غنى عن أن يعذبنا‪ ..‬و في غنى عن أن يطلب منا طلبا أو‬
‫يفرض علينا فرضا‪.‬‬

‫)) ﱠما يَ ْف َع ُل ّ‬
‫ﷲ ُ بِ َع َذابِ ُك ْم إِن َشكَرْ تُ ْم َوآ َمنتُ ْم‪ ] (( (147) ..‬النساء [‬

‫في تعذيب خلقه و ال حاجة له في ذلك‪.‬‬ ‫ال مصلحة‬

‫و ھو بالفعل ال يفرض علينا فرضا و ال يطالبنا بطلب و ال يقيم علينا عذابا‪ ،‬كل ھذا يبدو من‬
‫ظاھر العبارات فقط‪ .‬أما باطن القرآن الذي يكشف نفسه لكل من جاھد في الفھم‪ ،‬إن ﷲ ھو‬
‫الرحيم مطلق الرحمة‪ ،‬العادل مطلق العدل الذي يعطي مطلق العطاء و ال يأخذ شيئا و ال يحتاج‬
‫لشيء‪.‬‬

‫و إذا كان في الدنيا ألوان من العذاب فھي من عيون رحمته‪.‬‬

‫ب ْاألَ ْكبَ ِر َل َعلﱠھُ ْم يَرْ ِجعُونَ )‪ ] (( (21‬السجدة [‬


‫ب ْاألَ ْدنَى ُدونَ ْال َع َذا ِ‬
‫)) َولَنُ ِذيقَنﱠھُ ْم ِمنَ ْال َع َذا ِ‬

‫إنھا محاوالت إليقاظ العقل الغافل لعله يتذكر و يرجع و ينجو بنفسه من عذاب أكبر في الطريق‪.‬‬
‫عذاب لن يكون منه مخرج و ال مھرب‪ .‬حينما تحق على كل واحد رتبته و درجته‪.‬‬

‫و نفھم من القرآن أن سنة ﷲ أن يوقظ الغافلين في األرض فيبتليھم بكل صنوف البؤس و المرض‬
‫و العذاب لعلھم يفطنون إلى ما في الدنيا من زوال و ما وراءھا من حقيقة باقية‪ ..‬يفعل ھذا رحمة‬
‫بھم و ألنه يعلم ما ينتظرھم من ناموس عادل لن يلطف بھم‪ ..‬حتى إذا نفذت فيھم كل ھذه اآلالم‬
‫الدنيوية و لم يتيقظوا‪ ..‬فتح ﷲ عليھم أبواب كنوزه ليتمتعوا‪ ..‬و حقت عليھم كلمته بالھالك في‬
‫اآلخرة‪.‬‬

‫َض ﱠر ُعونَ )‪ (42‬فَلَوْ ال إِ ْذ‬ ‫ضرﱠاء َل َعلﱠھُ ْم يَت َ‬ ‫خَذنَاھُ ْم بِ ْالبَأْ َساء َوال ﱠ‬
‫)) َولَقَ ْد أَرْ َسلنَآ إِلَى أُ َم ٍم ﱢمن قَ ْبلِكَ فَأَ ْ‬
‫وا يَ ْع َملُونَ )‪ (43‬فَلَ ﱠما نَس ْ‬
‫ُوا َما‬ ‫طانُ َما َكانُ ْ‬ ‫ش ْي َ‬‫ت قُلُوبُھُ ْم َو َزيﱠنَ لَھُ ُم ال ﱠ‬ ‫َض ﱠرع ْ‬
‫ُوا َولَ ِكن قَ َس ْ‬ ‫َجاءھُ ْم بَأْ ُسنَا ت َ‬
‫وا أَ ْ‬
‫خَذنَاھُم بَ ْغتَةً َفإِ َذا ھُم ﱡم ْبلِسُونَ‬ ‫ُوا ِب َما أُوتُ ْ‬
‫اب ُك ﱢل َش ْي ٍء َحتﱠى إِ َذا فَ ِرح ْ‬ ‫ُوا بِ ِه فَتَحْ نَا َعلَ ْي ِھ ْم أَب َْو َ‬
‫ُذ ﱢكر ْ‬
‫)‪ ] (( (44‬األنعام [‬

‫فما يبدو لنا أنه نعمة قد يكون في الحقيقة نقمة‪:‬‬

‫ق أَنفُ ُسھ ُْم َوھُ ْم‬


‫ﷲ ُ لِي ُ َع ﱢذبَھُم بِھَا فِي ْال َحيَا ِة ال ﱡد ْنيَا َوتَ ْزھَ َ‬
‫ك أَ ْم َوالُھُ ْم َوالَ أَوْ الَ ُدھُ ْم إِن ﱠ َما ي ُِري ُد ّ‬
‫)) فَالَ تُ ْع ِج ْب َ‬
‫َكافِرُونَ )‪ ] (( (55‬التوبة [‬

‫ع لَھ ُْم فِي ْالخَ ْي َرا ِ‬


‫ت بَل ﱠال يَ ْش ُعرُونَ )‪(( (56‬‬ ‫)) أَيَحْ َسب ُونَ أَنﱠ َما نُ ِم ﱡدھُم بِ ِه ِمن ﱠم ٍ‬
‫ال َوبَنِينَ )‪ (55‬نُ َس ِ‬
‫ار ُ‬
‫] المؤمنون [‬
‫ُوا إِ ْث ًما َولَ ْھ ُم َع َذابٌ ﱡم ِھ ٌ‬
‫ين )‪ ] (( (178‬آل عمران [‬ ‫)) إِن ﱠ َما نُ ْملِي لَھ ُْم لِيَ ْزدَاد ْ‬

‫فليس الخير الظاھر في الدنيا و النعمة الغامرة بعالمة رضا ﷲ في جميع األحوال‪ ..‬و ال عذاب‬
‫الدنيا و بالئھا بعالمة غضب ﷲ في كل حال‪ ..‬فقد يكون الخير غضبا و قد يكون البالء لطفا‪ ..‬و‬
‫ال يكشف لك عن الحقيقة إال صوت ضميرك‪ ..‬إذا رأيت البالء يطھرك فھو نعمة‪ ..‬و إذا رأيت‬
‫النعمة تطغيك فھي غضب‪.‬‬

‫ثم يتكلم القرآن عن أھل الجحيم‪:‬‬

‫اب األَلِي َم‬


‫ك الَ ي ُْؤ ِمنُونَ )‪َ (96‬ولَوْ َجاء ْتھُ ْم ُكلﱡ آيَ ٍة َحتﱠى يَ َر ُو ْا ْال َع َذ َ‬ ‫ت َعلَ ْي ِھ ْم َكلِ َم ُ‬
‫ت َربﱢ َ‬ ‫)) إِ ﱠن الﱠ ِذينَ َحقﱠ ْ‬
‫)‪ ] (( (97‬يونس [‬

‫و إنھم إذ ينزل بھم عذاب الجحيم ليصطرخون متوسلين‪:‬‬

‫)) َيا لَ ْيتَنَا نُ َر ﱡد َوالَ نُ َك ﱢذ َ‬


‫ب‪ ] (( (27) ..‬األنعام [‬

‫ُوا لِ َما نُھ ْ‬


‫ُوا َع ْنه ُ َوإِنﱠھُ ْم لَ َكا ِذبُونَ )‪ ] (( (28‬األنعام [‬ ‫وا َل َعاد ْ‬
‫)) َولَوْ ُر ﱡد ْ‬

‫إن ﷲ يعلم أنھم لو ردوا للدنيا لعادوا إلى كبريائھم‪.‬‬

‫إنه جھل و إصرار على الجھل ال وسيلة لعالجه‪ ..‬ال األنبياء و ال المعجزات و ال الخوارق و‬
‫اآليات‪ ..‬و ال حتى مرورھم على الجحيم بكاف لردھم إلى معرفة‪.‬‬

‫و من ھنا يبدو البقاء في الجحيم رحمة‪ ،‬فھو بالنسبة لبعض الجبارين الوسيلة الوحيدة إلى المعرفة‬
‫و التقويم‪.‬‬

‫إن ﷲ رحيم دائما حتى في جحيمه‪ ..‬و لھذا سمى نفسه )) الرحمن ((‪ ..‬أي الرحيم مطلق الرحمة‬
‫في جميع األحوال لمن يستحق و من ال يستحق‪ ..‬يرحم من يستحق بالجنة و يرحم من ال يستحق‬
‫بالجحيم‪ ..‬فالجحيم كما رأينا ھو تعريف لمن ال يعرف و لمن فشلت معه كل وسائل التعريف فھو‬
‫نوع من الرحمة‪ ..‬و لھذا يقول في أجمل آياته‪:‬‬

‫)) َع َذابِي أُ ِ‬
‫صيبُ بِ ِه َم ْن أَ َشاء َو َرحْ َمتِي َو ِس َع ْ‬
‫ت ُك ﱠل َش ْي ٍء‪ ] (( (156) ..‬األعراف [‬

‫فأدخل عذابه ضمن رحمته التي وسعت كل شيء‪ ،‬و يفسر لنا الحساب فيقول‪:‬‬

‫)) ا ْق َر ْأ َكتَا َبكَ َكفَى بِنَ ْف ِس َ‬


‫ك ْاليَوْ َم َعلَ ْي َ‬
‫ك َح ِسيبًا )‪ ] (( (14‬اإلسراء [‬

‫و الحساب ھنا يبدو أنه حساب النفس للنفس و تنكيل النفس بالنفس و مواجھة النفس للنفس‪.‬‬

‫لقد لزم كل واحد عمله كظله و ال خالص‪ ..‬و حق القول‪ ..‬و نفذ العدل األزلي‪.‬‬
‫و لكن ھذه المعاني تضيع في النظرة المتعجلة و القراءة السطحية و الوقوف عند الحروف و عند‬
‫جلجلة األلفاظ‪.‬‬

‫و األلفاظ التي وصف ﷲ بھا القيامة كلھا ألفاظ رھيبة ذات جلجلة و صلصلة‪ ..‬تقرع اآلذان‬
‫كاألجراس‪ ،‬فھي الساعة‪ ،‬و الواقعة‪ ،‬و القارعة‪ ،‬و الزلزلة‪ ،‬و الدمدمة‪ ،‬و الغاشية‪ ،‬و الراجفة‪ ،‬و‬
‫الرادفة‪ ،‬و الزجرة‪ ،‬و السكرة‪ ،‬و الطامة‪ ،‬و الحاقة‪ ،‬و الصاخة‪.‬‬

‫ھل سمعت لفظا اسمه )) الصاخة (( ؟!‬

‫إنه لفظ يخرق طبلة األذن‪ ..‬ألن ﷲ علم أن الواحد منا في ھذه الدنيا تتخطفه الشھوات و تبرق في‬
‫عينيه المطامع فھو ال يعقل‪ ..‬و ھو أصم ال يسمع‪.‬‬

‫فھتف في أذنه بھذه الكلمة‪ ..‬التي تكاد تخرق السمع من فرط ارتفاع ذبذبتھا ليوقظه‪:‬‬

‫ت الصﱠا ﱠخةُ )‪ (33‬يَوْ َم يَفِرﱡ ْال َمرْ ُء ِم ْن أَ ِخي ِه )‪َ (34‬وأُ ﱢم ِه َوأَبِي ِه )‪ ] (( (35‬عبس [‬
‫)) فَإِ َذا َجاء ِ‬

‫فعل ھذا رحمة و لطفا و حنانا‪ ..‬تعالى ﷲ عن أن يعذبنا شھوة في عذاب‪.‬‬

‫و ما العذاب إال لزوم ما يلزم و حلول الصفة بموصوفھا و انتظام األرواح في سلم درجاتھا الحق‬
‫و انسدال الستار على ھذا العالم الذي يتبارى فيه الناس على نوال ما ال يستحقون‪.‬‬

‫و نعطي مثال لھذا التفاوت في الرتب فيما يشعر به كل منا في حياته الخاصة‪ ..‬من تفاوت‬
‫المستويات التي يمكن أن يعيش فيھا‪ ..‬ال نقصد مستويات الدخل‪ ..‬و إنما نقصد شيئا أعمق‪ ..‬نقصد‬
‫المستويات الوجودية ذاتھا‪.‬‬

‫فالواحد منا يمكن أن يعيش على مستوى متطلبات جسده‪ ،‬كل ھمه أن يأكل و يشرب و يضاجع‬
‫كالبھيمة‪.‬‬

‫و يمكن أن يسكت ذلك السعار الجسدي ليستسلم لسعار آخر ھو سعار النفس بين غيرة و حسد و‬
‫غضب و شماتة و رغبة في السيطرة و جوع للظھور و تعطش للشھرة و استئثار ألسباب القوة‬
‫بتكديس األموال و الممتلكات و تربص الصطياد المناصب‪.‬‬

‫و أكثر الناس ال يرتفعون عن ھذه الدرجة و يموتون عليھا و ال يكون العقل عندھم إال وسيلة‬
‫احتيال لبلوغ ھذه االسباب‪.‬‬

‫و الحياة بالنسبة لھذه الكثرة من الناس غابة و الشعور الطبيعي ھو العدوان و تنازع البقاء و‬
‫الصراع‪ ..‬و الھدف ھو التھام كل ما يمكن التھامه و انتھاز ما يمكن انتھازه‪ ..‬و الواحد منھم تجده‬
‫يتأرجح كالبندول من لھيب رغبة إلى لھيب رغبة أخرى‪ ..‬يسلمه مطمع إلى مطمع و ھو في‬
‫ضرام من ھذه الرغبات ال ينتھي‪.‬‬

‫و ھناك قلة قليلة تكتشف زيف ھذه الحياة و تصحو على إدراك واضح بأن ھذا اللون من الحياة‬
‫عبودية ال حرية‪ ..‬و أنھا كانت حياة أشبه بالسخرة و األشغال الشاقة خضوعا لغرائز ھمجية ال‬
‫تشبع و أطماع ال مضمون لھا و ال معنى و ال قيمة‪ ..‬كلھا إلى زوال‪.‬‬
‫فتبدأ ھذه القلة القليلة في إسكات ھذا الصوت و في تكبيل ھذه النفس الھائجة‪ ،‬و قد اكتشفت أنھا‬
‫حجاب على الرؤية و تشويش على الفھم‪.‬‬

‫و ھكذا ترتفع ھذه القلة القليلة في الرتبة لتعيش بمنطق آخر‪ ..‬ھو أن تعطي ال أن تأخذ‪ ..‬و تحب ال‬
‫أن تكره‪ ..‬و تصبح ھموم ھذه القلة ھي إدراك الحقيقة‪.‬‬

‫و على ھذه القلة تنزل سكينة القلب فيتذكر الواحد منھم ماضيه حينما كان عبدا لسعار نفسه و كأنه‬
‫خارج من جحيم !‬

‫و مثل ھؤالء يموتون و قد انعتقوا من وھم النفس و الجسد و بلغوا خالصھم الروحي و أيقنوا‬
‫حقيقة ذواتھم كأرواح كانت تبتلى في تجربة‪.‬‬

‫و ما أشبه الجسد – في الرتبة – بالتراب‪ ..‬و النفس بالنار و الروح بالنور و ھي مجرد ألفاظ‬
‫للتقريب‪ ..‬و لكنھا تكشف لنا أن حكاية الرتب ھي حكاية حقيقية‪ ..‬و أن كل من يموت على رتبة‬
‫يبعث عليھا و أن ھذا ھو عين العدل و ليس تجبرا‪ ..‬و قد يكون العذاب فوق الوصف إذا تجردت‬
‫النفوس من أجسادھا الترابية و لم يبق منھا إال سعار خالص و جوع بحت و اضطرام مطلق‬
‫برغبات ال ترتوي ثم عدوان بين نفوس شرسة ال ھدنة بينھا و ال سالم و ال مصالحة إلى األبد‪..‬‬
‫على عكس أرواح تتعايش في محبة و تتأمل الحق في عالم ملكوتي‪.‬‬

‫أكاد أجزم بأن ألفاظ القرآن بما فيھا من جلجلة و صلصلة حينما تصف الجحيم إنما ھي نذير‬
‫حقيقي بعذاب فوق التصور و سوف نعذبه ألنفسنا بأنفسنا عدال و صدقا على رتبة استحقھا كل‬
‫منا بعمله‪ ..‬و أكاد أضع يدي على الحقيقة‪ ..‬ال ريب فيھا‪.‬‬

‫تعالى ﷲ عن أن يعذبنا شھوة في عذاب‪ ..‬و ھو الحق العدل الحكم‪.‬‬

‫و في أخبار داود أن ﷲ قال له‪:‬‬

‫)) يا داود أبلغ أھل أرضي أني حبيب لمن أحبني و جليس لمن جالسني و صاحب لمن صاحبني‬
‫و مختار لمن اختارني‪ ..‬و مطيع لمن أطاعني‪ ..‬من طلبني بالحق وجدني و من طلب غيري لم‬
‫يجدني ((‪.‬‬

‫أنعم به من رب رحيم‪ ..‬و تقدس و تعالى عن الظلم و العدوان‪.‬‬


‫الحالل و الحرام‬

‫التحريم في القرآن ليس لمجرد التحريم‪.‬‬

‫و ال التحليل لمجرد التحليل‪.‬‬

‫و إنما ھو تحليل لكل ما ھو طيب و تحريم لكل ما ھو خبيث‪:‬‬

‫ت َوي َُحرﱢ ُم َعلَ ْي ِھ ُم ْالخَ بَآئِ َ‬


‫ث‪ ] (( (157) ..‬األعراف [‬ ‫)) َويُ ِحلﱡ لَھُ ُم الطﱠيﱢبَا ِ‬

‫ﷲ حرم الضار الخبيث‪.‬‬

‫و أحل الطيب النافع‪.‬‬

‫لم يصدر األمر تسلطا و معاقبة و تضييقا على الناس‪.‬‬

‫و إنما أقام شريعته محبة و رحمة‪.‬‬

‫إذا لم نفھم ھذه الحقيقة الجوھرية فسوف نتوه في حرفيات ال آخر لھا و تضيع منا روح القرآن‬
‫كلية‪.‬‬

‫و على سبيل المثال نأخذ ھذه اآلية‪:‬‬

‫ار ِھ ْم‪ ] (( (30) ..‬النور [‬


‫ص ِ‬‫)) قُل لﱢ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ يَ ُغضﱡ وا ِم ْن أَ ْب َ‬

‫ار ِھ ﱠن‪ ] (( (31) ..‬النور [‬ ‫ت يَ ْغضُضْ نَ ِم ْن أَب َ‬


‫ْص ِ‬ ‫)) َوقُل لﱢ ْل ُم ْؤ ِمنَا ِ‬

‫لو أخذنا اآلية بظاھر حروفھا دون أن نحاول أن نتدبر حكمتھا سوف يخيل لنا أن فيھا تضييقا‬
‫علينا بدون مبرر‪ ..‬كيف يخلق لنا ﷲ العيون و النواظر ثم يقول لنا ال تنظروا‪ ..‬كيف يخلق لنا‬
‫الجمال ثم يقول غضوا البصر‪.‬‬

‫و لو تدبرنا اآلية الكتشفنا أن ھذا األمر ھو غاية الرحمة و غاية اللطف و أنه استنقاذ لإلنسان من‬
‫العبودية و من األغالل و ليس استبدادا به أو تضييقا عليه‪.‬‬

‫فالنظر ھو السبيل إلى التعلق‪ ..‬و التعلق حبس‪ ..‬و العين إذا نظرت إلى الوجه الجميل سُجنت فيه‬
‫و سجنت معه نفسھا‪ ..‬و ﷲ يريد لنا الحرية و االنعتاق‪ ،‬و ال انعتاق إال بأن نتجاوز المحسوسات‬
‫الجميلة ناظرين إلى خالقھا و بھذا ترفعنا نظرتنا إلى مقام القرب و المعية مع ﷲ و ھو مقام‬
‫الحرية المطلقة‪..‬‬
‫و ما خلق لنا ﷲ اإلغراء الدنيوي إال ليختبرنا‪ ..‬ھل سنتصرف بالفطرة السليمة فنتجه بذوقنا‬
‫السليم إلى الجمال األعظم إلى جمال ﷲ و وجھه أو سنقف عند الجمال الحسي األصغر و نلتصق‬
‫به و نسجن أنفسنا فيه مدللين بذلك على فساد ذوقنا و انحراف فطرتنا‪.‬‬

‫إن المسألة ليست مجرد نظرة إلى وجه جميل‪..‬‬

‫إنھا نظرة ما تلبث أن تعقبھا رغبة ثم شھوة ثم مشروع إلشباع تلك الشھوة و امتالك تلك المرأة‬
‫أو ھذا الصدر أو ھذا الظھر‪.‬‬

‫و تتخطف العقل الشھوات فيفقد اإلنسان ھدفه و ينسى وجھته و يتشتت و يأخذ سبيله وراء ھذا‬
‫الصدر العريان و ينسى المشوار الذي كان يسعى إليه‪.‬‬

‫مثل ھذا اإلنسان قد فقد حريته و ھبط من ذروة إنسانية إلى حالة أشبه بحالة كلب يتشمم‪ ..‬و إلى‬
‫عبد أسير ال يعرف لنفسه خالصا من ھاتين الساقين أو ھذا الظھر‪ ..‬و إلى عقل مغلول في الشھوة‬
‫يفكر في اللھط و يسيل لعابه و تخرج عيناه من محجريھما جموحا و شھوة و يفقد السيطرة على‬
‫نفسه و ينسى المصلحة التي جاءت به إلى المكان‪ ..‬و تجري رجاله المرتعشتان وراء اللحم‬
‫األبيض‪ ..‬ال يعرف كيف يحكمھا‪.‬‬

‫مثل ھذه الحالة من الھبوط قد تنتھي بصاحبھا إلى صفعة على صدغه تفيقه أو إلى محضر في‬
‫بوليس اآلداب‪ ..‬أو إلى قصة تبدأ بدقائق لذيذة ثم تنتھي بحادث نشل أو إلى عالقة جنسية تنتھي‬
‫إلى مستشفى الحوض المرصود لعالج مرض سري مزمن‪.‬‬

‫و حكمة اآلية القرآنية واضحة في مثل ھذا النوع من النظر‪.‬‬

‫و الذوق السليم ينفر بالفطرة و يعف عن مثل ھذا التحديق‪ ..‬ألنه ضرر‪.‬‬

‫و لھذا أمر القرآن المرأة المؤمنة بأن تدني عليھا جلبابھا ابتعادا عن مزالق اإلثارة و االستثارة‪.‬‬

‫و ھنا نصل إلى جوھر التحريم‪.‬‬

‫فالتحريم دائما لضرر‪.‬‬

‫و ﷲ أقام شريعته محبة و رحمة ال تسلطا و غطرسة‪.‬‬

‫و من ھنا كان البد من غض البصر تفاديا للضرر‪ ..‬و إشفاقا من العواقب و وقاية من ضعفنا‬
‫الطبيعي المركب في أجسادنا‪..‬‬

‫و غض البصر ليس فقط غض البصر عما يتعرى من الجسد‪.‬‬

‫و إنما ھو أيضا غض للبصر عما في يد الناس من مال و نعمة‪ ،‬و ھو الحياء و الترفع عن النزول‬
‫بالنفس إلى مواطن الشھوة و الحسد و الحقد و الغيرة‪.‬‬
‫و من أكبر الذنوب عند ﷲ التعصب‪ ..‬أن تتعصب لنفسك أو عائلتك‪ ..‬و أن تميل مع الھوى‪ ..‬و‬
‫تأخذ حمية من العنصرية و كبرياء العرق و الجنس‪.‬‬

‫و المتعصب إنسان يعبد نفسه‪ ..‬يعبد فھمه المحدود و ليس ﷲ فھو مشرك‪ .‬و جوھر الدين ھو أن‬
‫تتجاوز نفسك و تتخطاھا و تنكرھا و تكبح شھواتك و تلجم أھواءك و تتحرر من أطماعك و‬
‫تطلعاتك و تتخلص من غرورك و كبرك و عنادك‪ ..‬فكل ھذه أغالل و الدين يحرمھا ليخلصك من‬
‫أسرھا‪.‬‬

‫و أبغض الحرام إلى ﷲ الشرك‪ ..‬أو عبادة غير ﷲ‪.‬‬

‫و الشرك ليس فقط عبادة األصنام فھذا لون قديم ساذج من الشرك انتھى أمره‪.‬‬

‫و األصنام اآلن ھي غير ) الالت ( و ) العزى ( و ) ھبل (‪.‬‬

‫و أخطر األصنام ھي األصنام المجردة و ھي ما يعبد اآلن في كل مكان‪.‬‬

‫أن تتخذ نفسك صنما‪ ..‬أن تعبد رأيك و ھواك و مصلحتك فال يشغلك إال نفسك‪.‬‬

‫)) أَفَ َرأَيْتَ َم ِن اتﱠخَ َذ إِ َلھَه ُ ھ ََواهُ‪ ] (( (23) ..‬الجاثية [‬

‫و ھذا ھو إله اليوم الذي يُحرق له البخور و تُقدم له القرابين من دم اآلخرين‪.‬‬

‫و سوف نعود إلى ميزان الحرام و الحالل‪ ..‬و نقول‪ :‬و ما الضرر ؟ ما الضرر في أن يعبد‬
‫اإلنسان نفسه و ال يرى غير مصلحته ؟‬

‫و الضرر واضح بيّن‪ ..‬فلن تكون حياة مثل ھذا اإلنسان حياة‪.‬‬

‫سوف يقضي حياته في سجن من المرايا كلما تطلع إلى جدار لم ير فيه إال صورته‪.‬‬

‫سوف يكذب و يسرق و يقتل و يستغل‪ ..‬و لن تصل إلى أذنيه آالم اآلخرين ألنه ال يرى إال نفسه‬
‫و ما يكسب و ما يربح و ما يرفع من عقار و ما يقتني من أرض و ما يكدس من مال‪.‬‬

‫سوف تصبح نفسه حجابا بينه و بين ﷲ و حجابا بينه و بين الحقيقة‪ ،‬و حجابا بينه و بين العدل‪.‬‬

‫و عن مثل ھؤالء يقول القرآن‪:‬‬

‫خَل ِف ِھ ْم َس ًّدا َفأ َ ْغ َش ْينَاھُ ْم فَھُ ْم الَ يُب ِ‬


‫ْصرُونَ )‪ ] (( (9‬يس [‬ ‫)) َو َج َع ْلنَا ِمن بَي ِْن أَ ْي ِدي ِھ ْم َس ًّدا َو ِم ْن ْ‬

‫و ما السد الذي بين يديك و من خلفك و محيط بك لدرجة تحول بينك و بين اإلبصار كأنه غشاوة‪..‬‬
‫إال نفسك‪.‬‬

‫و يقول في سورة أخرى‪:‬‬


‫)) فَ َال ا ْقت ََح َم ْال َعقَبَةَ )‪َ (11‬و َما أَ ْد َراكَ َما ْال َعقَبَة ُ )‪ (12‬فَ ﱡك َرقَبَ ٍة )‪ ] (( (13‬البلد [‬

‫يقول لك‪ )) ..‬و ما أدراك ما العقبة (( ليحضك على التساؤل و التفكير في تلك العقبة فأمرھا‬
‫يغمض عليك‪ ..‬ألنھا ھي نفسك ذاتھا‪ ..‬و ال عقبة أمامك سوى نفسك و عليك أن تقتحمھا لتستطيع‬
‫أن تفعل أي خير فتفك رقبة من تستغل و تستعبد‪ ..‬و لن تستطيع أن تفك رقبة من تستعبد إال إذا‬
‫فطنت إلى استعباد نفسك لك و فككت عنك أغاللھا‪ ..‬فلن تستطيع أن تحرر إنسانا إال إذا بدأت‬
‫فحررت نفسك أوالً‪.‬‬

‫و بعد ذلك سوف تجد أن أي خير سيصبح ممكنا‪ ..‬سوف تستطيع أن تحب و تعطي و تجود و‬
‫تمنح‪.‬‬

‫و لھذا تقرأ في القرآن‪:‬‬

‫ﷲَ ا ْشت ََرى ِمنَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ أَنفُ َسھُ ْم َوأَ ْم َوالَھُم بِأ َ ﱠن لَھُ ُم َ‬
‫الجنﱠةَ‪ ] (( (111) ..‬التوبة [‬ ‫)) إِ ﱠن ّ‬

‫وا أَنفُ َس ُك ْم َذلِ ُك ْم خَ ْي ٌر ل ﱠ ُك ْم ِعن َد بَ ِ‬


‫ارئِ ُك ْم‪ ] (( (54) ..‬البقرة [‬ ‫)) فَا ْقتُلُ ْ‬

‫بمعنى فاھزموا أنفسكم و انتصروا عليھا‪.‬‬

‫و في اإلنجيل يقول المسيح بالمعنى نفسه‪:‬‬

‫)) من أراد أن يخلص نفسه يھلكھا‪ .‬و من يھلك نفسه من أجلي يجدھا‪ ،‬ألنه ماذا ينتفع اإلنسان لو‬
‫ربح العالم كله و خسر نفسه ((‪.‬‬

‫و يقول ﷲ لداود‪:‬‬

‫)) اقطع شھوتك و تحبب إلي بمعاداة نفسك‪ ..‬ضعني بين عينيك و انظر إلي ببصر قلبك‪ ..‬و أعلم‬
‫أنه ما اطمأن عبد إلى نفسه إال و كلته إليھا فأھلكته ((‪.‬‬

‫و يسأل داود ربه )) يارب كيف أصل إليك ؟ (( فيقول له ربه‪ )) :‬اترك نفسك و تعال ((‪.‬‬

‫و يقول ﷲ لموسى‪:‬‬

‫اخلَ ْع نَ ْعلَ ْيكَ إِنﱠكَ بِ ْال َوا ِد ْال ُمقَ ﱠد ِ‬


‫س طُ ًوى )‪ ] (( (12‬طه [‬ ‫)) فَ ْ‬

‫فال يمكن الوقوف في حضرة ﷲ إال بخلع النفس و الجسد و خلع شواغل النفس و شواغل الجسد‬
‫كشرط للوصول‪.‬‬

‫و لھذا كان الشرك الخفي الذي يمارسه اإلنسان بعبادته نفسه ھو منتھى الحرام و ذروة الخطيئة‪..‬‬
‫ألنه يحتوي على جميع الخطايا األخرى في داخله و ألنه ھالك ال ھالك بعده‪.‬‬

‫و كل ما تعبد من دون ﷲ شرك‪ ..‬إذا كنت عبدا لنفسك و ھواك و مصلحتك فأنت مشرك‪ ،‬و إذا‬
‫كنت عبدا لعصبية العائلة أو القبيلة أو العنصر أو الجنس فأنت مشرك‪ ..‬و إذا استعبدتك فكرة‬
‫مجردة أو نظرية أفسدت عليك مسالك تفكيرك فأصبحت ترفض مناقشة أي فكرة أخرى فأنت‬
‫راكع أمام صنم و إن كان صنما ً مجرداً و منحوتا ً من الفلسفة ال من المادة‪.‬‬

‫و لھذا اعتبر القرآن الشرك خطيئة ال تغتفر ألنه عمى للعين و البصيرة و العقل و شلل لجميع‬
‫المدارك و توقف لنمو الروح و تعطيل لھا في ھجرتھا إلى منبع نورھا‪.‬‬

‫ﷲَ الَ يَ ْغفِ ُر أَن ي ُ ْش َركَ بِ ِه َو َي ْغفِ ُر َما ُدونَ َذلِكَ لِ َمن يَشَاء‪ ] (( (48) ..‬النساء [‬
‫)) إِ ﱠن ّ‬

‫ألن الشرك في الحقيقة أشبه بانقطاع الحبل السري الذي يفصم الصلة بين الجنين و مصدر‬
‫حياته‪ ..‬بين اإلنسان و ﷲ‪.‬‬

‫و ماذا يحدث لو أن زھرة عباد الشمس انصرفت عن الشمس و أعطت ظھرھا لھا و اتجھت إلى‬
‫القمر مثال‪ ..‬إنھا ببساطة تموت‪ ..‬فالشمس ھي مصدر حياتھا‪ ..‬و ھي ال تعبد الشمس ذالً‪ ..‬و إنما‬
‫ألن الشمس حياتھا‪.‬‬

‫وا ا ْست َِجيب ْ‬


‫ُوا ِ ّ ِ َولِل ﱠرسُو ِل إِ َذا َدعَا ُكم لِ َما ي ُحْ يِي ُك ْم‪ ] (( (24) ..‬األنفال [‬ ‫)) َيا أَ ﱡيھَا الﱠ ِذينَ آ َمنُ ْ‬

‫و العبادة حياة و استمداد للنور و الحق‪.‬‬

‫و ﷲ أمر بالعبادة ألنه يعلم أن فيھا حياتنا‪ ..‬و لم يأمر بھا تسلطاً و تجبراً و لمجرد فرض أوامر‪.‬‬

‫و لھذه األسباب حرم ﷲ الخمر و ما في حكمھا من المسكرات و المغيبات لما فيھا من أضرار‪.‬‬

‫و حرم القمار لما فيه من خسارة و تباغض و عدوان‪.‬‬

‫و حرم الزنا ألنه فوضى تختلط فيه األنساب‪ ..‬و تخضع فيه النفوس للنزوات و الشھوات و‬
‫األھواء‪.‬‬

‫و أحل الزواج ألنه تنظيم و نظام و مسئولية و سكينة قلب‪.‬‬

‫و حرم لحم الخنزير‪ .‬و نحن نعلم اآلن أن حيوان الخنزير ھو مستودع فيروس اإلنفلونزا و الدودة‬
‫الشريطية‪ ،‬و أنه أغلظ أنواع البروتين و أشدھا تعقيداً‪ ،‬و أنه يربي قساوة القلب‪.‬‬

‫و لو ألقينا نظرة على الحيوانات آكلة الخضروات كالغزال و األرنب و الحصان و الجمل و‬
‫الدجاج و الحمار لالحظنا أنھا كلھا رقيقة وديعة‪ ..‬أما الحيوانات آكلة اللحوم كالسباع و النمور و‬
‫الضباع و الذئاب و الثعالب و النسور و الصقور‪ ..‬فكلھا تشترك في صفات القسوة و الوحشية و‬
‫الضراوة‪.‬‬

‫و ال شك أن ھناك عالقة بين اإلسراف في اللحم كطعام‪ ..‬و نشأة صفات خاصة في النفس‪ ..‬مثل‬
‫الحدة و الصرامة و القسوة‪.‬‬

‫و ألن لحم الخنزير ھو أكثر اللحوم غلظة و أعقد البروتينات الحيوانية تركيبا ً فربما كان ضرره‬
‫على آكله أبلغ من جميع اللحوم األخرى‪ ..‬و ﷲ يعلم و نحن ال نعلم‪.‬‬
‫و ﷲ ھو العقل الكلي المحيط و ھو ال يضع سنة بال سبب‪.‬‬

‫و لقد أقام التشريع و حرم الحرام و أحل الحالل و فرض العبادة‪ ..‬محبة منه و رحمة‪.‬‬

‫و يجب أال تفوتنا ھذه الحقيقة لحظة واحدة‪ ..‬فھي روح الناموس و قلب الشرائع‪.‬‬

‫و لذلك حرم ﷲ السرقة و حرم القتل‪.‬‬

‫اس َج ِميعًا َو َم ْن أَحْ يَاھَا فَكَأَنﱠ َما أَحْ يَا‬


‫ض فَكَأَنﱠ َما قَت ََل النﱠ َ‬
‫س أَوْ فَ َسا ٍد فِي األَرْ ِ‬
‫)) َمن قَتَ َل نَ ْفسًا بِ َغي ِْر نَ ْف ٍ‬
‫اس َج ِميعًا‪ ] (( (32) ..‬المائدة [‬ ‫النﱠ َ‬

‫ألن قتل اإلنسان ألخيه اإلنسان بال ذنب ھو خرق لجميع النواميس‪ ..‬لھذا اعتبره ﷲ قتالً للناس‬
‫جميعا ً‪.‬‬

‫و حرم االنتحار‪.‬‬

‫ﷲَ َكانَ بِ ُك ْم َر ِحي ًما )‪َ (29‬و َمن يَ ْف َعلْ َذلِكَ ُع ْد َوانًا َوظُ ْل ًما َف َسوْ فَ ن ُصْ لِي ِه‬
‫وا أَنفُ َس ُك ْم إِ ﱠن ّ‬
‫)) َوالَ تَ ْقتُلُ ْ‬
‫نَارًا‪ ] (( (30) ..‬النساء [‬

‫ألن االنتحار ھو منتھى سوء الظن با و العمى عن رحمته و اليأس من عدالته و الخرق‬
‫لنواميسه و الجھل بآخرته‪ ،‬و ھو منتھى الظلم للنفس‪.‬‬

‫ﷲُ َعلَ ْي ِھ ْم َولَ َعنَھ ُْم َوأَ َع ﱠد لَھُ ْم َجھَنﱠ َم َو َس ْ‬


‫اءت‬ ‫ب ﱠ‬ ‫)) الظﱠانﱢينَ بِا ﱠ ِ َ‬
‫ظ ﱠن السﱠوْ ِء َعلَ ْي ِھ ْم دَائِ َرةُ السﱠوْ ِء َوغ ِ‬
‫َض َ‬
‫صيرًا )‪ ] (( (6‬الفتح [‬ ‫َم ِ‬

‫و ﷲ حرم الزنا ألنه ضرر‪.‬‬

‫و ھنا سوف يطلع علينا رأي ) مودرن ( باريسي متحرر يقول‪ :‬و ما الضرر؟‬

‫أين الضرر في اثنين يتبادالن لذة بدون زواج لكن بتراض وراء جدران مغلقة و بعيداً عن العيون‬
‫ال يكذبان على نفسيھما في شيء‪ ..‬فما يفعالنه يقومان به حبا ً و وجداً و غراما ً‪ .‬و ال يؤذيان‬
‫بعملھما مخلوقاً‪ ..‬أين الضرر ھنا ؟‬

‫و لنفھم الضرر البد أن نضع الحب و الجنس في إطارھما الطبيعي حيث إرادتھما الطبيعية‪.‬‬

‫و الطبيعة جعلت من العاطفة و الجنس في إطارھما الطبيعي حيث إرادتھما الطبيعية‪.‬‬

‫و الطبيعة جعلت من العاطفة و الجنس وسائل للتكاثر و اإلبقاء على النوع و عمار الدنيا‪ ..‬و‬
‫جعلت منھما أدوات إنتاج‪.‬‬

‫فإذا اجتمع رجل و امرأة و اعتزال ركنا ً يتبادالن اللذة بدون تفكير في زواج أو بناء بيت‪ ..‬و إنما‬
‫لمجرد اختالس متعة‪ ..‬فإنھما يحوالن الحب و الجنس من أدوات إنتاج إلى أدوات استھالك و‬
‫يستھلكان طاقة من أشرف الطاقات الحية خلقت لتبني أمما ً و حضارات و يجعالن منھا مجرد‬
‫وسيلة إلى ارتجافات جنسية‪.‬‬

‫و حينما يجتمع رجالن على شذوذ جنسي‪ ..‬فإنھما يقوالن الشيء نفسه‪ ،‬سوف يقوالن‪ :‬إننا اجتمعنا‬
‫على حب و رضا‪ ..‬و إننا ال نضر أحداً‪ ،‬و إننا نستمتع و ال نؤذي أحداً‪.‬‬

‫و الشذوذ واحد في الحالين إذا أخذنا القوانين الكونية بعين االعتبار و نظرنا نظرة شاملة إلى‬
‫الموضوع‪ ..‬فكال الحالين انحراف بالطاقة الطبيعية عن أھدافھا لمجرد دقائق من االرتجافات‬
‫الجنسية‪ ..‬و الفرق ھو فرق في درجة البشاعة‪ ..‬و في درجة المخالفة للنواميس الطبيعية‪..‬‬
‫المدلھان حبا ً و ھوى‪ ،‬اللذان يرتمي الواحد منھما في حضن اآلخر‪ ..‬و يتعلل كل منھما بأنه‬
‫صادق مع نفسه فيما يفعل‪ ..‬ھما في الحقيقة كاذبان‪.‬‬

‫ألن صدق اإلنسان مع نفسه ال يكون صدقا ً حقيقيا ً إال إذا كان بالمثل صدقا ً مع الطبع و الطبيعة‪.‬‬

‫و ليكون اإلنسان صادقا ً مع نفسه البد أن يكون صادقا ً مع طبيعته و مع النواميس الكونية العظيمة‬
‫التي جاءت به إلى الدنيا‪ ،‬و إال انقسم و انفصم و انشق على نفسه و تحول إلى جسد في ناحية‪ ..‬و‬
‫روح في ناحية‪.‬‬

‫و التي تحب رجالً بحق‪ ..‬ال تقول له‪ :‬أريد أن أنام معك‪ .‬و إنما تقول له‪ :‬أريد أن أعيش معك‬
‫العمر كله‪ .‬أريدك أن تكون أبا ً ألوالدي و سقفاً لبيتي و شرفا ً السمي و رفيقا ً مصاحبا ً لرحلة‬
‫حياتي كلھا‪.‬‬

‫و إذا لم تفعل ھذا فإنھا تكذب على نفسھا‪ .‬و ھي خاطئة و إن ادعت لنفسھا أنھا جولييت‪ ..‬بل إن‬
‫الخاطئة التي تبيع عرضھا لحاجتھا إلى اللقمة سوف تتعلل بعذر الجوع‪ ..‬أما ھي فقد ابتذلت‬
‫أشرف ما أعطتھا الطبيعة بدون دوافع سوى تشنجات و رعشات عابرة و تلك الحكة التي تبحث‬
‫عن مھدئ بين وقت و آخر بحجة الحب‪ ..‬و ھو كذب‪ ..‬ألن حب المرأة يريد الرجل أبا ً ألبنائھا و‬
‫سقفا ً لبيتھا‪ ..‬ال مجرد دواء مؤقت للحكة‪.‬‬

‫و الزنا إذا تحول إلى عادة ثم إلى سلوك و منھج حياة يؤدي إلى التفسخ الكامل للكيان‪ ..‬و إلى‬
‫انفصام الشخصية‪ ..‬فيصبح الجسد في ناحية و القلب في ناحية‪ ..‬و الروح في ناحية‪ ..‬و بھذا يتم‬
‫تخريب الفطرة‪ ،‬و ھذا ھو الضرر غاية الضرر‪ ..‬و لھذا نقرأ في اإلحصاءات أن أعلى نسبة‬
‫للجنون و االنتحار تحدث في السويد و في روسيا برغم السعادة الجنسية و عدم الكبت و التحلل‬
‫غاية التحلل‪ ..‬و السبب ھو ذلك االنفصام الذي يحدث لإلنسان المتحلل في أعماق روحه فيفقده‬
‫السالم الداخلي إلى األبد‪.‬‬

‫و ھكذا تأتي التعاليم الدينية لحكمة و أسباب ال مجرد رغبة ﷲ في التسلط على خلقه و إنما محبة‬
‫و رحمة و تنبيھا إلى فائدة‪.‬‬

‫و يحرم الدين الزواج بين األخوات‪ ،‬و بين األم و ابنھا‪ ،‬و األب و ابنته ألنه يريد أن تنمو في‬
‫األسرة ألوان أخرى من العاطفة غير الشھوة‪ ..‬كاألمومة و األبوة و األخوة و المودة‪ ..‬و أن يكون‬
‫الرباط األسري ھو التراحم ) ألنه ھو الرباط الوحيد الباقي (‪ ..‬أما ضرام الشھوات فھو يضرم‬
‫معه الغيرة و الرغبة في التملك فيقتتل اإلخوة على أختھم و تتفجر األسرة من داخلھا و تنھار‪.‬‬
‫ھذا غير األمراض الوراثية التي تصيب النطفة بسبب زواج األخوات‪.‬‬

‫لم يكره ﷲ لإلنسان إال كل ما ھو كريه بالفعل‪ ..‬و لم يحب له إال كل ما ھو محبوب‪.‬‬

‫و لذا جعل الطالق مكروھا لكنه ممكن إذا استحالت الحياة و جعل الكذب كبيرة الكبائر‪.‬‬

‫ﷲِ أَن تَقُولُوا َما َال تَ ْف َعلُونَ )‪ ] (( (3‬الصف [‬


‫)) َكب َُر َم ْقتًا ِعن َد ﱠ‬

‫و الكذب على ﷲ غاية اإلثم‪.‬‬

‫)) َو َم ْن أَ ْ‬
‫ظلَ ُم ِم ﱠم ِن ا ْفت ََرى َعلَى ّ‬
‫ﷲِ َك ِذبًا‪ ] (( (21) ..‬األنعام [‬

‫فيكون إدعاء النبوة كذبا و التحريف في الكتب المقدسة زعما بأن آيات نزلت و ھي لم تنزل‪ ..‬ھو‬
‫منتھى الحرام‪ ..‬ألنه اإلضرار و التضليل للناس‪.‬‬

‫ھذه ھي الشريعة و ھذه روحھا‪ ..‬إن ﷲ أحل الطيبات و حرم الخبائث‪ ،‬و إذا تطھرت فطرتنا‬
‫فسوف نحب لنفوسنا ما يحب لھا ﷲ بدون جھد و بدون مشقة‪.‬‬

‫و لھذا يزول التناقض في قلب المؤمن بين ﷲ و شريعته و بين ما تمليه عاطفته الخاصة و يرغب‬
‫فيه عقله‪ ..‬فإذا بما يريده لنفسه ھو ما يريده ﷲ له‪ ..‬و ما يتمناه لنفسه ھو ما يتمناه ﷲ له‪.‬‬

‫و لھذا يتوجه إبراھيم بالدعاء قائالً‪:‬‬

‫)) َربﱢ اجْ َع ْلنِي ُم ِقي َم ال ﱠ‬


‫صالَ ِة‪ ] (( (40) ..‬إبراھيم [‬

‫فيطلب من ﷲ ما يطلبه ﷲ منه‪.‬‬

‫و ھذا غاية اإليمان و الثقة و منتھى الحب للشريعة‪ ..‬حتى لتصبح الشريعة و الرغبة شيئا ً واحداً‪.‬‬

‫و ال تعود لإلنسان رغبة سوى ما يرغب ﷲ‪.‬‬

‫و ھذا درب الذين وصلوا‪.‬‬

‫يقول ﷲ في حديث قدسي‪:‬‬

‫)) عبدي اطعني أجعلك ربانيا ً يدك يدي و لسانك لساني و بصرك بصري و إرادتك إرادتي و‬
‫رغبتك رغبتي ((‪.‬‬

‫و ھؤالء ھم األنبياء و األولياء و المقربون الذين أمدھم ﷲ بأسباب علمه و قدرته‪.‬‬


‫العلم و العمل‬

‫أول ما نزل من القرآن ھي كلمة )) اقرأ ((‪.‬‬

‫)) ا ْق َر ْأ ِباس ِْم َربﱢكَ الﱠ ِذي خَ لَ َ‬


‫ق )‪ ] (( (1‬العلق [‬

‫إنه أول أمر إلھي نزل في اإلسالم‪.‬‬

‫أمر لكل إنسان بأن يقرأ‪.‬‬

‫قبل األمر بالصالة و الصيام و قبل تفصيل الشرائع و قبل الكالم عن العقيدة قال ﷲ‪:‬‬

‫)) اقرأ ((‪.‬‬

‫و انفرد القرآن بين جميع الكتب المقدسة بأنه ابتدأ بھذه الكلمة و ھذا األمر‪ ..‬و ھذا منتھى‬
‫التشريف للعلم و العلماء‪ ..‬أن يكون أول حرف في الدين ھو أمر بالقراءة و طلب العلم‪ ..‬و اآلية‬
‫حددت نوع العلم المقصود‪:‬‬

‫)) ا ْق َر ْأ ِباس ِْم َربﱢكَ الﱠ ِذي خَ لَ َ‬


‫ق )‪ ] (( (1‬العلق [‬

‫فھو علم با و ‪ ..‬علم خير فاضل‪ ..‬علم للنفع و ليس علما ً للضرر‪.‬‬

‫و توالت بعد ذلك اآليات التي تأمر بالعلم و تحض عليه‪:‬‬

‫)) َوقُل رﱠبﱢ ِز ْدنِي ِع ْل ًما )‪ ] (( (114‬طه [‬

‫ض فَانظُرُوا َك ْيفَ بَدَأَ ْالخَ ْل َ‬


‫ق‪ ] (( (20) ..‬العنكبوت [‬ ‫)) قُلْ ِسيرُوا فِي ْاألَرْ ِ‬

‫ﷲ ُ الﱠ ِذينَ آ َمنُوا ِمن ُك ْم َوالﱠ ِذينَ أُوتُوا ْال ِع ْل َم د ََر َجا ٍ‬
‫ت‪ ] (( (11) ..‬المجادلة [‬ ‫)) َيرْ فَ ِع ﱠ‬

‫)) قُلْ ھَلْ يَ ْست َِوي الﱠ ِذينَ يَ ْعلَ ُمونَ َوالﱠ ِذينَ َال يَ ْعلَ ُمونَ ‪ ] (( (9) ..‬الزمر [‬

‫ﷲ ُ أَنﱠهُ الَ إِلَهَ ِإال ﱠ ھ ُ َو َو ْال َمالَئِ َكة ُ َوأُوْ لُ ْ‬


‫وا ْال ِع ْل ِم‪ ] (( (18) ..‬آل عمران [‬ ‫) ) َش ِھ َد ّ‬

‫فجعل ﷲ أولي العلم إلى جواره مع المالئكة المقربين من حيث قيمة شھادتھم و ھذا منتھى ما‬
‫يحلم به اإلنسان من رفعة المقام‪ ..‬أن يذكر مع ﷲ و مالئكته‪.‬‬

‫و تتكرر كلمة العلم و مشتقاته في القرآن نحو ثمانمائة و خمسين مرة و يقسم ﷲ بالقلم و ما يسطر‬
‫به )) ن َو ْالقَ َل ِم َو َما َي ْسطُرُونَ )‪ ] (( (1‬القلم [‬
‫و لكنه ليس علما ً نظريا ً فارغا ً و إنما علم مقرون بالعمل‪.‬‬

‫)) َوقُ ِل ا ْع َملُ ْ‬


‫وا فَ َسيَ َرى ّ‬
‫ﷲ ُ َع َملَ ُك ْم‪ ] (( (105) ..‬التوبة [‬

‫و في كل مكان يتكلم فيه القرآن عن )) الذين آمنوا (( يقرن ھذا اإليمان بالعمل فيقول )) الذين‬
‫آمنوا و عملوا الصالحات (( في عشرات اآليات يتكرر ھذا التقارن و التالزم‪.‬‬

‫و ھو تكرار مقصود به أن يثبت تماما في الذھن أنه ال إيمان إال بالعمل و مع العمل‪ ..‬و أن‬
‫األعمال ھي التي تفصح عن دخائل القلوب و ھي التي تبرھن على فضيلة الفاضل و طاعة‬
‫المطيع و إحسان المحسن‪.‬‬

‫و ألن أول أمر في القرآن و في اإلسالم ھو أمر صريح بالقراءة و التعلم فال يصح أن يدعي‬
‫اإلسالم جاھل ال يقرأ مھما صلى و صام و حمل المسابح و حوقل و بسمل و رتل‪.‬‬

‫و الشرق العربي اآلن بما فيه من جھل و كسل ھو كافر بأوليات كتابه و دينه‪ ..‬فال ھو يقرأ و ال‬
‫ھو يتعلم و ال ھو يعمل‪ ..‬و بدل العلم و العمل ال نرى حولنا إال الجھل و الكسل‪.‬‬

‫و كل واحد يتصور أنه من أھل الجنة لمجرد أن اسمه في بطاقة تحقيق الشخصية محمد و أنه‬
‫مسلم بالوراثة و أنه يقتني مصحفا ً‪.‬‬

‫و ينسى أن أول كلمة في ھذا المصحف ھي )) اقرأ ((‪ ..‬و أنه ال يقرأ‪..‬‬

‫و أن ﷲ يقول‪:‬‬

‫)) َوقُ ِل ا ْع َملُ ْ‬


‫وا فَ َسيَ َرى ّ‬
‫ﷲ ُ َع َملَ ُك ْم‪ ] (( (105) ..‬التوبة [‬

‫و أنه ال يعمل و إنما يتمدد على المقاھي يتثاءب‪.‬‬

‫بل إن العالم الغربي األوربي بما فيه من علم و عمل و فكر و نشاط دائب خالق ھو أقرب لجوھر‬
‫اإلسالم و جوھر القرآن من ھذا الشرق الكسول المتخاذل الغارق ألذنيه في الجھل المزري‪.‬‬

‫علينا أن نفھم القرآن قبل أن ندعي أننا من أھل القرآن‪.‬‬

‫و الذين يمسحون كسلھم و جھلھم في عباءة التصوف و يقول الواحد منھم و قد أخلد إلى خلوة‬
‫فارغة و تأمل خاو‪ ..‬أنا متصوف‪ ..‬ينسى أن الھجرة إلى ﷲ عند المتصوف ال تكون إال بالعلم و‬
‫العمل و أن المتصوف عليه أوالً أن يطلب العلم فإذا علم كان عليه أن يعمل بما علم‪ ..‬فإذا أصبح‬
‫من ذوي األعمال‪ ..‬ارتقت به أعماله من حال إلى حال‪ ..‬فإذا دام له الحال و ثابر على األعمال‬
‫انتقل من مقام إلى مقام‪ ..‬و ھذه ھي الدرجات التي يتسلق عليھا الصوفي كادحا ً إلى ﷲ‪ ..‬العلم و‬
‫العمل و الحال و المقام‪ ..‬و المتصوفون األوائل كانوا مرابطين يحملون السالح و يدافعون عن‬
‫األوطان‪ ..‬المصحف في يد و السالح في يد‪ ..‬و الشمال األفريقي يمتلئ بأضرحة ھؤالء‬

‫المرابطين حيث ماتوا في مرابطھم بعد أن حاربوا آلخر طلقة و آخر شھقة في صدورھم‪.‬‬
‫إن الشجاعة و الشھامة و الصدق و قتال الباطل و إحقاق الحق و العمل على عمارة الدنيا بالخير‬
‫و العدل بين الناس و محاربة االستغالل و نصرة الضعيف ھي من صميم الدين بل ھي الدين‬
‫ذاته‪.‬‬

‫و لكن في البدء دائما ً يلزم العلم‪.‬‬

‫)) اقرأ (( أوال‪ ..‬لتعرف الحق من الباطل و لتعرف قوانين العالم الذي تعيش فيه قبل أن تدعي‬
‫لنفسك أنك تستطيع إصالحه‪.‬‬

‫و لكن القرآن ال يدعونا إلى القراءة و يتركنا في ظالم الحيرة و إنما يختط لنا منھجا ً للوصول إلى‬
‫العلم ھو منھج )) السير و النظر ((‪.‬‬

‫ض فَانظُرُوا َك ْيفَ بَدَأَ ْالخَ ْل َ‬


‫ق‪ ] (( (20) ..‬العنكبوت [‬ ‫)) قُلْ ِسيرُوا فِي ْاألَرْ ِ‬

‫السير و جمع المالحظات و تدوين المشاھدات ثم النظر في ھذه المالحظات و استقرائھا‬


‫الستخراج القانون العام الذي يربطھا‪ ..‬و ھو المنھج االستقرائي الذي جاء به )) باكون (( بعد‬
‫القرآن بألف سنة و أثمر ھذا المنھج على يد العلماء الغربيين كل ما نقرأ و نرى من علوم و‬
‫صناعات مذھلة‪ .‬و لو حاولنا أن نتفھم كتابنا و نسير على ھديه لسبقناھم إلى ھذه العلوم‪.‬‬

‫و قد اھتدت قلة من العلماء العرب إلى ھذا المنھج في صدر اإلسالم و كان لھم عطاء أثروا به‬
‫الغرب و أخصبوا ثقافته في أوقات كان ھذا الغرب غارقا في ظلمات قرونه الوسطى‪.‬‬

‫و نذكر جابر بن حيان في الكيمياء‪.‬‬

‫و ابن سينا في الطب‪.‬‬

‫و ابن رشد في الفلسفة‪.‬‬

‫و ابن عربي في التصوف‪.‬‬

‫و ابن الھيثم في الھندسة و الرياضيات‪.‬‬

‫و نذكر األندلسيين و ما استحدثوه في الموسيقى و الموشحات‪.‬‬

‫و نذكر علماء الفلك العرب‪ ..‬و أغلب الكوكبات النجمية مازالت تحتفظ بأسمائھا العربية إلى اآلن‬
‫في المراجع األجنبية‪.‬‬

‫و كلمة )) أنبيق (( التي أطلقھا جابر بن حيان على جھاز التقطير مازالت ھي ذاتھا مستعملة في‬
‫الفرنسية ‪ ambique‬و يشتق منھا الفعل ‪ ambiquer‬أي يقطر‪.‬‬

‫و األرقام العشرية في الحساب لم يعرفھا الغرب إال عن طريق العرب‪ .‬كان ھناك علم و عمل‬
‫إذن‪.‬‬
‫و حينما كان ھناك علم و عمل كان ھناك عطاء و كانت ھناك حضارة و قد أعطى القرآن مفتاح‬
‫ھذه الحضارة‪.‬‬

‫)) اقرأ ((‪.‬‬

‫و جعل من ھذا المفتاح أول ما نزل من حروف‪ ..‬و أول ما كلف الوحي بتبليغه إلى محمد – صلى‬
‫ﷲ عليه و سلم – و أمته‪ .‬و من ال يقرأ ال يستحق أن يكون من أمة محمد – صلى ﷲ عليه و سلم‬
‫– و ال أن يدعي لنفسه أنه يحمل القرآن و يفھمه‪.‬‬

‫و من يعلم و ال يعمل بما يعلم فھو عاطل عن الفعل و األثر و الدين‪.‬‬

‫يقول القرآن عن إبراھيم و ھو يبني البيت‪:‬‬

‫ت َوإِ ْس َما ِعي ُل َربﱠنَا تَقَب ﱠلْ ِمنﱠا إِنﱠكَ أَنتَ ال ﱠس ِمي ُع ْال َعلِي ُم )‪] (( (127‬‬
‫اع َد ِمنَ ْالبَ ْي ِ‬
‫)) َوإِ ْذ يَرْ فَ ُع إِب َْرا ِھي ُم ْالقَ َو ِ‬
‫البقرة [‬

‫العقل يھندس و اليد تبني و القلب يسبح ھامسا ً )) ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ((‪.‬‬

‫علم و عمل و إيمان و بناء‪.‬‬

‫ھذا ھو الدين الحق كما يقدمه القرآن‪.‬‬

‫و القرآن يتكلم عن المؤمنين العاملين بأحسن الكلمات‪:‬‬

‫ت أُوْ لَئِ َ‬
‫ك ھُ ْم خَ ْي ُر ْالبَ ِريﱠ ِة )‪ ] (( (7‬البينة [‬ ‫)) إِ ﱠن الﱠ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُوا الصﱠالِ َحا ِ‬

‫صالِحًا‪ ] (( (33) ..‬فصلت [‬ ‫)) َو َم ْن أَحْ َسنُ قَوْ ًال ﱢم ﱠمن َدعَا إِلَى ﱠ‬
‫ﷲِ َو َع ِم َل َ‬

‫و يؤكد أن األعمال تحفظ و تكتب و أن ﷲ يلقانا بأعمالنا يوم الحساب‪:‬‬

‫)) َوالَ تَ ْع َملُونَ ِم ْن َع َم ٍل إِال ﱠ ُكنﱠا َعلَ ْي ُك ْم ُ‬


‫شھُودًا‪ ] (61) ..‬يونس [‬

‫ت ِمن س َُو ٍء ت ََو ﱡد َلوْ أَ ﱠن بَ ْينَھَا َوبَ ْي َنه ُ أَ َمدًا‬


‫ضرًا َو َما َع ِملَ ْ‬
‫ت ِم ْن َخي ٍْر ﱡمحْ َ‬ ‫)) َيوْ َم ت َِج ُد ُكلﱡ نَ ْف ٍ‬
‫س ﱠما َع ِملَ ْ‬
‫بَ ِعيدًا‪ ] (( (30) ..‬آل عمران [‬

‫ﷲ ُ أَ ْع َمالَھ ُْم َح َس َرا ٍ‬


‫ت َعلَ ْي ِھ ْم‪ ] (( (167) ..‬البقرة [‬ ‫)) َك َذلِكَ ي ُِري ِھ ُم ّ‬

‫اضرًا َو َال يَ ْ‬
‫ظلِ ُم َر ﱡبكَ أَ َحدًا )‪ ] (( (49‬الكھف [‬ ‫)) َو َو َجدُوا َما َع ِملُوا َح ِ‬

‫و يؤكد القرآن أن الدنيا ھي الفرصة الوحيدة إلحراز األعمال و أنھا االمتحان الوحيد الذي ال‬
‫امتحان بعده‪ ..‬و يقول عن أھل الجحيم‪:‬‬
‫ط ِر ُخونَ فِيھَا َربﱠنَا أَ ْخ ِرجْ نَا نَ ْع َملْ َ‬
‫صالِحًا َغ ْي َر الﱠ ِذي ُكنﱠا نَعْ َم ُل‪ ] (( (37) ..‬فاطر [‬ ‫)) َوھُ ْم يَصْ َ‬

‫يقولون ھذا بعد فوات األوان‪.‬‬

‫ُوا لِ َما نُھ ْ‬


‫ُوا َع ْنه ُ َوإِنﱠھُ ْم لَ َكا ِذبُونَ )‪ ] (( (28‬األنعام [‬ ‫وا َل َعاد ْ‬
‫)) َولَوْ ُر ﱡد ْ‬

‫انتھى األمر و ال اعتذار‪...‬‬

‫و يؤكد القرآن أن العمل الصالح الخالي من اإليمان با ال يكون عمال صالحا و أن مثل ھذه‬
‫األعمال الصالحة من قلب يجحد خالقه مصيرھا البوار‪:‬‬

‫)) َوقَ ِد ْمنَا إِلَى َما َع ِملُوا ِم ْن َع َم ٍل فَ َج َع ْلنَاه ُ ھَ َباء ﱠمنثُورًا )‪ ] (( (23‬الفرقان [‬

‫و يقول عن أعمال الكفار الصالحة‪:‬‬

‫ف‪ ] (( (18) ..‬إبراھيم [‬


‫ص ٍ‬ ‫)) أَ ْع َمالُھُ ْم َك َر َما ٍد ا ْشتَ ﱠد ْ‬
‫ت بِ ِه الرﱢ ي ُح فِي يَوْ ٍم عَا ِ‬

‫و قد يسأل سائل كيف يتجرد العمل الصالح عن الصالح إذا تجرد قلب صاحبه من اإليمان با ‪..‬‬

‫إذا تبرع الكافر لعمل خيري‪ ..‬كيف ال يكون عمله ھذا عمالً صالحا ً يثاب عليه‪..‬؟!‬

‫و الجواب أن الكافر الذي ال يؤمن بوجود إله سوف يسند كل عمل يقوم به إلى نفسه فيعطي عن‬
‫اعتقاد أنه ھو الذي يعطي و ھو الذي يتصدق و ھو الذي يرزق و ھو الذي يغني‪ ..‬و ھذا ھو‬
‫الزھو و االختيال و الغرور بعينه و ال يمكن أن يكون مثل ھذا العطاء صالحا ً‪ ..‬بعكس المؤمن‬
‫الذي يعطي و ھو يعتقد أن ﷲ ھو الذي ألھمه بالعطاء و أن ﷲ ھو الذي وفقه لإلحسان و ھو الذي‬
‫أعطاه اليد الكريمة و المال الوفير و القلب العطوف‪ ..‬و مثل ھذا العطاء في تواضع ھو الصالح‬
‫حقا‪.‬‬

‫و يؤكد القرآن أن النية العاطلة عن العمل ال تكفي لتكون شاھدا على إيمان صاحبھا‪.‬‬

‫الرغبة في الجھاد ال تكفي‪ ..‬و إنما البد من الجھاد بالفعل حيث يواجه اإلنسان الشدة و يصبر‬
‫عليھا‪ ..‬و يواجه الموت و يثبت أمامه‪:‬‬

‫ُوا ِمن ُك ْم َويَ ْعلَ َم الصﱠابِ ِرينَ )‪ ] (( (142‬آل‬ ‫وا ْال َجنﱠةَ َولَ ﱠما يَعْ لَ ِم ّ‬
‫ﷲُ الﱠ ِذينَ َجاھَد ْ‬ ‫)) أَ ْم َح ِس ْبتُ ْم أَن تَ ْد ُخلُ ْ‬
‫عمران [‬

‫و النية التي ال تتحول إلى فعل ھي نية ينقصھا الصدق‪.‬‬

‫و ھي إدعاء بين اإلنسان و نفسه أكثر من كونھا رغبة حقيقية ألن الرغبة إذا صدقت حفزت إلى‬
‫عمل‪.‬‬

‫و ﷲ يقول لنا إنه لم يخلق الحياة الدنيا إال لھذا السبب‪:‬‬


‫ق ْال َموْ تَ َو ْال َحيَاةَ لِ َي ْبلُ َو ُك ْم أَ ﱡي ُك ْم أَحْ َسنُ َع َم ًال‪ ] (2) ..‬الملك [‬
‫)) الﱠ ِذي خَ لَ َ‬

‫لقد جعل منھا امتحانا يظھر فيه من يعمل و من ال يعمل و تجربة تعرف بھا كل نفس مقامھا و‬
‫مقدارھا‪ ..‬حتى إذا حقت عليھا الكلمة يوم الحساب كانت ھذه الكلمة عدال مطلقا ال مراء فيه‪.‬‬

‫يقول القرآن‪:‬‬

‫وا إِلَي ِه ْال َو ِسيلَةَ‪ ] (( (35) ..‬المائدة [‬


‫ﷲَ َوا ْبتَ ُغ ْ‬ ‫وا اتﱠق ُ ْ‬
‫وا ّ‬ ‫))يَا أَ ﱡيھَا الﱠ ِذينَ آ َمن ُ ْ‬

‫و الوسيلة إلى ﷲ ھي العمل‪.‬‬

‫و نبينا و قدوتنا محمد عليه الصالة و السالم لم يكن مبلغا لآليات و حامال للقرآن و مبشرا به فقط‬
‫و إنما كان أول العاملين‪ ..‬و كان أول من يخرج في الغزوات حامال سيفه قائدا جيشه‪ ..‬و كان‬
‫يجوع مع جنوده إذا جاعوا و يعطش معھم إذا عطشوا‪ ..‬و كان أول من يقتحم األخطار‪ ..‬و في‬
‫إحدى الغزوات نعلم أنه جرح بين من جرحوا‪ ..‬و قد حارب سبعا و عشرين معركة خاضھا‬
‫جميعا و قد جاوز سن الخمسين‪ ..‬فھو النبي المبلغ و الجندي المحارب و القائد المخطط و‬
‫السياسي الحكيم‪ ..‬و ھو العابد الزاھد‪ ..‬و ھو الصادق األمين العف اليد و اللسان‪ ..‬و ھو االب‬
‫الحنون و الزوج العطوف و الصديق الودود‪ ..‬و ھو صاحب الدعوة الذي ال ينام عنھا و الذي‬
‫يحارب لھا و يحارب دونھا إلى آخر نفس من أنفاسه الطاھرة‪.‬‬

‫إنه رمز للعمل الدائب‪.‬‬

‫و ھو دليل كل من يبتغي الوصول‪ ،‬حيث ال وصول إال بالعمل‪.‬‬

‫و ال طريق إال على سلم األعمال‪.‬‬

‫ﻕ ﻤﻥ ﺍﻝﻜﺘﺎﺏ ﺜﻤﺎﻥ ﻓﺼﻭل‬


‫ﺒﺎ ‪‬‬

You might also like