Professional Documents
Culture Documents
نقد المنطق
نقد المنطق
مقاالت متعلقة
الزيارات139562 :
بَّينا آنًفا عند حديثنا عن ماهية العقل؛ أن ابن تيمية هو أَّو ل َم ن تحرر من الفكر اليوناني في تبيان ماهية العقل ،بينما غيُر ه من فالسفة اإلسالم -كما ُيطَلق عليهم -بُقوا أسرى الفلسفِة اليونانية الوثنية.
وكذلك في مجال المعرفة اليقينية والوصول إليها ،نجد ابن تيمية أيًض ا هو أَّو ل َم ن تحَّر ر من الفلسفة العقلية اليونانية ،وهذا ال يمنع من أن بعض علماء اإلسالم أمثال "أبي حامد الغزالي" قد نقد
الفلسفة اليونانية في كتابه "تهافت الفالسفة" ،إال أن الغزالي بقي أسيًر ا لمنطق أرسطو ،وهو أول من صرح بوجوب اتخاذه ميزاًنا للعلوم ،وفي كتابه "القسطاس المستقيم" نجد كثيًر ا من الحجج
القرآنية قد صاغها في أقيسة منطقية أرستطالية[.]1
ومَّم ا ُيؤَسف له أن الجامعاِت والمدارس اإلسالمية الشرعية في القرون الماضية -وحتى الوقت الحاضر -تدرس المنطق الصوري األرسطي ،ويعُّدونه من متِّم مات الدراسة الشرعية ،وال يذكرون
ما بذله ابن تيمية من جهٍد في نقده لهذا المنطق ،والذي ُيَعُّد بحق أَّو َل َم ن نقده نقًدا علمًّيا دقيًقا ،فقد نقد القضايا والحَّد والقياس ،ونحن هنا لن نتطَّر ق بالتفصيل لهذا النقد ،وقد بحث هذا األمر في كتب
متخصصة[ ،]2وإنما نلقي نظرًة عاَّم ة لهذا النقد وسبل المعرفة الحقة عند ابن تيمية في نقده للمنطق.
يبدأ بأقوال العلماء السابقين مثل ابن الصالح الذي يقول في فتاواه:
"المنطق مدخل الفلسفة ومدخل الشر ،وليس االشتغاُل بتعليمه وتعُّلمه مما أباحه الشرع ،وال استباحه أحد من الصحابة والتابعين واألئمة المجتهدين ،والسلف الصالح وسائر َم ن ُيقَتدى بهم ...وليس
باألحكام الشرعية افتقار إلى المنطق أصًال ،وما يزعمه المنطقي بالمنطق من أمر الحد والبرهان فقاقيُع قد أغنى هللا عنها كَّل صحيِح الذهن ،وال سيما َم ن خدم نظريات العلوم الشرعية ،ولقد تمت
الشريعة وعلومها ،وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها؛ حيث ال منطق وال فلسفة وال فالسفة ،وَم ن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها ،فقد خدعه الشيطان"[.]3
وفي هذا الباب أيًض ا ُيِشير ابُن تيمية إلى مناظرة أبي سعيد السيرافي -وكان من العلماء الفضالء -مع مَّتى بِن يونس -الفيلسوف النصراني -في حضرِة الوزير ابن الفرات ،وكان هذا الفيلسوف
النصراني يقول" :إنه ال سبيل إلى معرفة الحق من الباطل ،والحجة من الشبهة ،والشك من اليقين ،إال بما حويناه من المنطق ،واستفدناه من واضعه على مراتبه"[ ،]4وهذه المناظرة جاءت كاملة في
كتاب "اإلمتاع والمؤانسة" ألبي حيان التوحيدي ،وقد بدأت المناظرة بتوضيح "متى بن يونس" لغاية المنطق ،فقال" :إنه آلة من آالت الكالم ،يعرف بها صحيح الكالم من سقيمه ،وفاسد المعنى من
صالحه ،كالميزان ،فإني أعرف به الرجحان من النقصان ،والشائل من الجانح[ ،]5فقال أبو سعيد :أخطأَت ؛ ألَّن صحيح الكالم من سقيمه ُيعَر ف بالنظم المألوف واإلعراب المعروف ،إذا كنا نتكَّلم
بالعربية ،وفاسد المعنى من صحيحه ُيعَر ف بالعقل ،إذا كنا نبحث بالعقل ...وَهْبَك عَر ْفَت الراجح من الناقص عن طريق الوزن ،فمن لك بمعرفة الموزون؟ أيما هو :حديد ،أو ذهب ،أو شبه[،]6
فأراك بعد معرفة الوزن فقيًر ا إلى معرفة جوهر الموزون ،وإلى معرفة قيمته ،وسائر صفاته التي يطول عُّدها ،فعلى هذا لم ينَفْعك الوزن الذي كان عليك اعتماُده ،وفي تحقيقه كان اجتهادك ،إال نفًعا
يسيًر ا من وجه واحد".
وبعد مناقشة طويلة حول فضل اليونان على الفلسفة والحكمة ،وحول مسائل ُلَغوية ،ومصطلحات فلسفية ومنطقية ،يقول أبو سعيد السيرافي" :قد سمعت قائًال يقول :الحاجة ماَّسة إلى كتاب البرهان،
فإن كان كما قال ،فِلَم قطع الزمان بما قبله من الكتب؟ وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان ،فهي أيًض ا ماسة إلى ما بعد البرهان ،وإال فلَم صنف ما ال يحتاج إليه ويستغنى عنه؟ وإنما بوِّدكم
أن تشغلوا جاهًال ،وتستذلوا عزيًز ا ،وعنايتكم أن تهِّو لوا بالجنس والنوع ،والخاصة والفصل ،والَعَر ض والشخص ،وتقولوا الهلية واألينية[ ،]7والكيفية والكمية ،والذاتية والعرضية ،والهيولية
والصورية ،واأليسية والليسية[ ،]8ثم تتطاولون فتقولون :جئنا بالسحر ...هذه كُّلها خرافات وترهات ،ومغالق وشبكات ،وَم ن جاد عقله ،ولطف نظره ،وثقب رأيه ،وأنارت نفسه ،استغنى عن هذا كِّله
بِع َو ض هللا وفضله ،وجودة العقل وحسن التمييز ،ولطف النظر وثقوب الرأي ،وإنارة النفس من منائح هللا الهنية ومواهبه السنية ،يختص بها من يشاء من عباده ،وما أعرف الستطالتكم بالمنطق
وجًه ا ...هل فصلتم بالمنطق بين مختلفين؟ أو رفعتم الخالف بين اثنين؟ أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدت أن هللا ثالث ثالثة؟"[.]9
وبعد أن يذكر ابن تيمية نقد المنطق عند َم ن سبقوه يقول في كتابه (نقض المنطق):
"إننا ال نجد أحًدا من أهل األرض حَّقق علًم ا من العلوم وصار إماًم ا فيه بفضِل المنطق ،ال من العلوم الدينية وال غيرها ،فاألطَّباء والمهندسون وغيرهم يحِّققون ما يحِّققون من علوٍم بغير صناعة
المنطق ،وقد صِّنف في اإلسالم علوم النحو ،والَعروض ،والفقه ،وأصوله ،وغير ذلك ،وليس في أئمة هذه الفنون َم ن كان يلتفت إلى المنطق ،بل عامتهم كانوا قبل أن يعرف المنطق اليوناني"[.]10
ويؤِّك د ابن تيمية أن المنطق اليوناني ال فائدة فيه ،وال يوصل إلى حقيقة" ،فلو كان صحيًح ا يوصل إلى حقيقية يقينية أو يحسم خالًفا ،لما بقي في الناس قضية يختلفون من أجلها ،وال سٌّر إال توصلوا
إلى اكتشافه وفهموه ،ولما شاعت الفرق والمذاهب الفلسفية المتضاربة التي يهدم بعضها بعًض ا"[.]11
وبعد أن يبِّين ابن تيمية عقَم المنطق األرسطي وينقده نقًدا الذًعا ،يخط طريق المعرفة الصحيح الموصل إلى اليقين العلمي.
وهذا الطريق يقوم على التجربة التي يعُّدها ابن تيمية وحدها التي تؤِّدي إلى تكوين الكليات العقلية اليقينية[.]12
/نقد-المنطق-األرسطيhttps://www.alukah.net/culture/0/68679/ 2/5
3/1/24, 7:17 PM نقد المنطق األرسطي
والتجربة تحتاج إلى الحس والعقل لتكوين العلم ،فالحس يدرك أن شرب الماء يؤدي إلى الري ،وقطع العنق يؤدي إلى الموت ،والضرب الشديد يوجب األلم إذا تعلقت بشخص معين.
والعقل يعمم هذه التجربة لتصبح قضية عامة ،ال تخص فرًدا بعينه ،فالقول :كل من يقطع عنقه يموت هي قضية ال تدرك بالحس وحده ،بل بالحس والعقل ،وقد سمى ابن تيمية اشتراك الحس والعقل
بتكوين العلم بقياس الغائب على الشاهد ،وقد اقتبس "جون ستيوارث مل"[ ]13هذه الفكرة من ابن تيمية.
ولم تكن هذه الفكرة هي الوحيدة المقتبسة من ابن تيمية ،بل إن المنهج التجريبي الذي يدعي الغرُب أنه هو الذي استحدثه ،كان من نتاِج الفكر اإلسالمي ،وقد اعترف بهذا المفكر الغربي (بريفولت)
في كتابه( :بناء اإلنسانية)؛ حيث يقول" :إن روجر بيكون -واضع المنهج التجريبي بنظر الغرب -درس اللغة العربية والعلم العربي في مدرسة أكسفورد على خلفاء معِّلميه العرب في األندلس،
وليس لروجر بيكون وال لسمِّيه -فرنسيس بيكون -الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي ،فلم يكن روجر بيكون إال رسوًال من رسل العلم والمنهج اإلسالميين
إلى أوروبا المسيحية ،وهو لم يمَّل قط من التصريح بأن تعُّلم معاصريه للغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة ،والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبي هي
طرف من التحريف الهائل ألصول الحضارة األوروبية.
وقد كان منهج العرِب التجريبي في عصر بيكون قد انتشر انتشاًر ا واسًعا ،وانكَّب الناس في لهٍف على تحصيله في ربوع أوروبا"[.]14
وهو يعترف أن ازدهار أوروبا العلمي كان أصُله الثقافَة اإلسالمية" ،فإنه على الرغم من أنه ليس َثَّم ة ناحية واحدة من نواحي االزدهار األوروبي إال ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة
اإلسالمية بصورة قاطعة ،فإن هذه المؤثرات توجد أوضَح ما تكون وأهَّم ما تكون في نشأة تلك الطاقة التي تكِّو ن ما للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة ،وفي المصدر القوي الزدهاره -أي في
العلوم الطبيعية وفي روح البحث العلمي".
"أما ما ندعوه العلم ،فقد ظهر في أوروبا نتيجًة لروح من البحث جديدة ،ولطرق من االستقصاء مستحدثة لطرق التجربة ،والمالحظة والمقاييس ،ولتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان،
وهذه الروح وتلك المناهج العلمية أدخلها العرب إلى العالم األوروبي"[.]15
"ذلك أن التجربة تحصل بنظره واعتباره وتدبره ،كحصول األثر المعين دائًر ا مع المؤثر المعين دائًم ا ،فيرى ذلك عادة مستمرة ال سيما إن شعر السبب المناسب ،فيضم المناسب إلى الدوران مع
السبر والتقسيم"[ ،]16وعمل السبر والتقسيم -كما يقول ابن تيمية -هو أن ينفي المزاحم أو يبعد العناصر الغريبة من التجربة ،وما يحتج به الفقهاء في إثبات كوِن الوصف عَّلة للحكم من دوران
ومناسبة وغير ذلك ،إنما يفيد المقصود على نفي المزاحم ،وذلك ُيعَلم بالسبر والتقسيم.
فإن كان نفي المزاحم ظنًّيا كان اعتقاد العلية ظنًّيا ،وإن كان قطعًّيا كان االعتقاد قطعًّيا ،إذا كان قاطًعا بأن الحكم ال بد له من علة ،وقاطًعا بأنه ال يصح للعلة إال الوصف الفالني[.]17
أطلق األصوليون اسم السبر والتقسيم على القياس الشرطي المنفصل ،وسماه الجدليون "التقسيم والترديد"[.]18
ومعنى كل ذلك أنه ما من شيٍء إال وله مؤِّثر ال يوجد بدونه ،وله كذلك ضٌّد يعارض وجوده ،ونستطيع االستدالَل على هذا الشيء بثبوِت ملزومه وعلى انتفائه بانتفاء الزمه[.]19
[ ]1انظر :تجديد التفكير الديني في اإلسالم ،محمد إقبال ،ص ،147ترجمة عباس محمود ،ط ،2القاهرة1968 ،م.
[ ]2ارجع إلى كتاب :منطق ابن تيمية ومنهجه الفكري ،للدكتور محمد حسني الزين.
[ ]3ابن تيمية ،لمحمد أبي زهرة ،ص ،244نقًال عن فتاوى ابن الصالح ،ص .435
[ ]7الهلية :نسبة إلى َهل االستفهامية ،واَألْينية :نسبة إلى َأْين التي يكون بها االستفهام عن المكان.
[ ]8األيسية :نسبة إلى أليس ،ويريد بها اإلثبات ،والليسية :نسبة إلى َلْيس ويريد بها النفي.
[ ]13جون ستيوارث مل1873 - 1806 :م ،فيلسوف واقتصادي إنكليزي ،من أتباع المدرسة التجريبية ،له كتاب في المنطق االستداللي واالستنتاجي.
[ ]14انظر كتاب :تجديد التفكير الديني في اإلسالم ،لمحمد إقبال ص .149
/نقد-المنطق-األرسطيhttps://www.alukah.net/culture/0/68679/ 5/5