Professional Documents
Culture Documents
التربية على القيم 2
التربية على القيم 2
في الح رمين ،والرسالة هي أبي ات من الش عر ت بين اختي ار ابن املب ارك لقيم ة الجه اد في املي دان ،على قيم ة العب ادة في
الحرمين التي اختارها ابن عياض.
وثمة حاالت كثيرة يظهر فيها التزاحم في قيمتين كالهما خير ،ويلزم تقديم أحدهما ،أو في قيمتين كالهما شر ،ويلزم
دف ع أح دهما ،فال ب د من مرجعي ة لالختي ار ،وفي ه ذا يق ول ابن تيمي ة" :ف إَّن الش ريعة مبناه ا على تحص يل املص الح
وتكميلها ،وتعطيل املفاسد وتقليلها بحسب اإلمكان ،ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين حتى ُي قدَم عند التزاحم خيَر
الخيرين وُي دفَع شَّر الشَّر ْي ن"[.]26
كم ا تظه ر الحاج ة إلى مرجعي ة القيم في أداء س ائر تكاليف الش ريعة ،املبني ة على تحقي ق املقاص د ،وفق الت درج في
ْل
أولوية هذه املقاصد .وفي هذا يقول الشاطبي" :تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخ ق ،وهذه املقاصد ال
تع دو ثالث ة أقس ام :أح دها أن تكون ض رورية ،والث اني أن تكون حاِج َّي ة ،والث الث أن تكون تحسينية"[ .]27والتن وع في
املقاص د عن د الش اطبي ه و تعب ير عن التن وع والتع دد القيمي؛ حيث يؤكد أَّن "املقاص د الش رعية ض ربان :مقاص د
أص لية ...تق وم بمص الح عام ة مطلق ة ،ال تختص بح ال دون ح ال ،وال بص ورة دون ص ورة ،وال ب وقت دون وقت،
َّل
وتنقسم إلى ضرورية عينية ،وإلى ضرورة كفائية ...ومقاصد تابعة ،تختص بَح ِّظ املك ف ،لتحصيل له ما ُج ِب ل عليه
َن
من ْي ل الشهوات واالستمتاع باملباحات"[.]28
قيم ة للقيم ة وال حاج ة له ا .ومن هن ا ت أتي ص فة النسبية امللتص قة بالقيم ة عن دما ننظ ر إليه ا متحقق ة في الواق ع
ًا
املحس وس .وعن دما يق رر هللا س بحانه أَّن أْم ر م ا "خ يٌر " من أْم ٍر آخ ر ،ف إن حقيق ة القيم ة إنم ا يكون في وزنه ا عن د
التط بيق ،وعن دما يق َّد ُر وزُن ه ا في ض وء تع دد املس تويات ال تي تتحق ق فيه ا ،فثم ة مس توى "خ ير" من مس توى آخ ر.
ًا
فالصدقة خير ال شك فيه ،لكن الصدقة التي يتبعها نوع من األذى ليست خير ،بل كلمة املعروف والدعاء خير من
تلك الصدقة.
أما القيمة املطلقة الالمتناهية بدون حدود ،فهي ليس لعالم البشر في الدنيا ،وإنما هي هلل سبحانه :فهو الذي جعلها
قيمة ،وبأس مائه وصفاته سبحانه ،نس تطيع أن نحكم لها باإلطالق غير املحدود؛ فالكمال ل ه وحده .وسعُي اإلنسان
للتحُّق ق به ا ق در اس تطاعته ،إنم ا ه و س لوك الس الكين إلي ه واملسترشدين بهدايت ه .فإقام ة الع دل املطل ق ال تكون في
الدنيا بل تكون في اآلخرة ،حيث يقول هللا تعالىَ﴿ :و َن َض ُع اَمْلَو ا يَن اْل ْس َط َي ْو اْل َي اَم َف ال ُت ْظَل ُم َنْف ٌس َش ْي ئًا َو ْن َك اَن
ِإ ِل ِم ِق ِة ِز ِق
َك َأ َت َخ ْثَق
ِم اَل َح َّب ٍة ِم ْن ْر َد ٍل ْي َن ا ِب َه ا َو َف ى ِب َن ا َح اِس ِب يَن ﴾ [األنبياء.]47:
فه ذا الجم ع التكاملي بين املطل ق والنس بي في وصف القيم في اإلس الم ه و تعب ير عن ص فة اإلس الم نفس ه ،فه و ليس
معتقدات نظرية مطلقة وحسب ،وإنما هو "نظام اعتقاد ،ونظام معرفة ،ونظام قيم" ،تتحقق في الواقع االجتماعي
لإلنس ان ،وإذا قلن ا إَّن اإلس الم عقي دة وشريعة كم ا يق ول الش يخ محم ود ش لتوت[ ]35ف إَّن العقي دة هي املب ادئ
التص ورية لإليم ان ،والش ريعة هي األحكام والنظم ال تي ش رعها هللا لض بط س لوك املؤمن ،وعالقت ه بربه ،وبأخي ه
اإلنسان ،وبالكون والحياة .ومن هنا يأتي التكامل كذلك بين البحث النظري املعرفي من جهة ،وما يرتبط به من قواعد
السلوك العملي ،من جهة أخرى ،وهو تكامل بين اإليمان والعمل ،وتكامل بين الفكر والتطبيق.
السياسية في مسألة القيم ،أخذ ينقل بؤرة االهتمام من التربية على القيم وترسيخها في سلوك األف راد واملجتمعات
إلى ميدان الدفاع عما تبقى من مظاهر حضور القيم ومقاومة الغزو املسلح بأدوات الضغط السياسي واالقتصادي
واالجتماعي.
لقد رأينا أن التوحيد والتزكية والعم ران هي منظومة من ثالث قيم عليا تتكامل فيما بينها ،دون ت زاحم أو تدافع ،ال في
ًا
فهمنا ملوقع كل منها في حال اجتماعها ،وال في النظر إليها منفردة ،وذلك نظر ملا هو قائم فيها وفيما بينها من توازن
وتكامل .ومع ذلك فإن فكرة املطلق والنسبي في هذه القيم إنما يعتمد على الطريقة التي يختارها الفرد عند التطبيق
ًا ًا
واملمارسة .ف الغنى والتجارة الرابح ة في أش ياء ال دنيا والحركة واالنتق ال واالختالط بالناس َس َف ر وبْي ع وشراًء ،يرتبط
بإسهام الفرد في إغناء قيمة العمران وتكريسها.
ًا ًا ًا
لكن شخص م ا يمكن أن يخت ار نوع من التزكي ة على ن وع من العم ران ،اختي ار تفض يليا ،مثلم ا حص ل م ع ش قيق
البلخي وإبراهيم بن أدهم في القصة الذائعة الصيت ،التي نختم بها هذه املداخلة .والقصة يرويها الدينوري في "كتاب
املجالسة وجواهر العلم" ،وفيها:
َق َل ْل َتَق ْب َر ُم ْب ُن َأ ْد َه َم َو َش ٌق َم َّك َة َح َّد َث َن َأ ْح َم ُد ْب ُن ُم َح َّم ْل َو ُّي ّد ْب ُن ُخ َبْي َع ْن َخ َل ْب َت
، ِب ي ِق ي ِه ا ِإ ى ا : ا ؛ ي
ِف ِن ٍم
ِم ٍق ، ٍد ا اِس ِط ،ح ثنا ا ا
ْل ْك َط َأ َف َل ْل َق َف َذ َّلَغ َّل َأ َش َف َق
اَل ِإ ْب َر اِه يُم ِل ِق يٍق َ :م ا َب ْد ُو ْم ِرَك ا ِذ ي َب َك َه ا؟ اَل ِ :س ْر ُت ِف ي َب ْع ِض ا َف َو اِت َ ،ر ْي ُت ْي ًر ا َم ُس وَر ا َج َن اَح ْي ِن ِف ي
ٌة َف ْنَق َف َذ َأ َن َط َق َأ ْق َذ َأ ْز َذ َف َق َف ْل ْن ُظ َأل َف
الٍة ِم َن ا ْر ِض ُ ،ق ُت :أ ر ِم ْن ْي َن ِر ُق َه اَ .ع ْد ُت ِب ِح اِئ ِه ؛ ِإ ا ا ِب ْي ٍر ْد َب َل ِف ي ِم اِرِه َج َر اَد َ ،و َض َع َه ا ِف ي
ْنَق ا الَّط ْي اَمْلْك ُس و اْل َج َن اَح ْي َ ،ف ُق ْل ُت َنْف يَ :ي ا َنْف ُس ! اَّل ي َق َّيَض َه َذ َّط ْي َر َّص َح َه َذ َّط ْي َمْلْك ُس ْل َج َن َح ْي
ا ال ال ِح ي ِل ا ال ِر ا وِر ا ا ِن ِذ ِل ِس ِن ِر ِم ِر ِر
َش َل َق َف ْل ْل َتَغ ْش َك ْك َت َف ُك ُث َق َأ َق َأل َف
ِف ي الٍة ِم َن ا ْر ِض ُه َو اِد ٌر ْن َي ْر ُز ِن ي َح ْي َم ا ْنُت َ ،ر ُت الَّت ُّس َب َو ا ُت ِب ا ِع َب اَد ِة ،اَل ُه ِإ ْب َر اِه يُم َ :ي ا ِق يُق !
َو َم ال َت ُك وُن َأ ْنَت الَّط ْي َر الَّص يَح اَّل ِذ ي َأ ْط َعَم اْل َع ي َل َح َّت ى َت ُك وَن َأ ْف َض َل ْن ُه ؟ َأ َم ا َس ْع َت َع الَّن َص َّل ى الَّل ُه َع َل ْي
ِه ِن ِب ِّي ِم ِم ِل ِح ِل
ُل ُأ َل َأ ْطُل َأ
َو َس َّل َم « :ا َي ُد ا ُع َي ا َخ ْي ٌر َن ا َي الُّس ْف ى؟!» َو ْن َع الَم اُمْلْؤ ْن َي َب ْع ى ال َّد َر َج َت ْي ي ُم و ُك َه ا َح َّت ى َيْب َغ َم َن ا َل َل ْل ْل ْل ْل
ِز ِر ِه ِّل ِن ِف ِة ِم ِن ِم ِد ِم
َق َأ َن ُذ َت ُأ ْنَت َأ َل َق َل َق َف َألْب َر َق َل َف َأ َخ َذ
ْس ا ا َي ا َب ا ِإ ْس َح ا "[.]48 َي َد ِإ ْب َر اِه يَم َّ ،ب َه ا َو اَل :
ُه ا اِر .ا :
ًا ًا
إن مفه وم الت دافع القيمي ربم ا يكون مفهوم مناس ب للح ديث عن االس تيراد والتص دير ،واألخ ذ والعط اء ،واإلق راض
واالقتراض ،أو ما شئت من عبارات تدل على فرص التكافؤ في األخذ والعطاء ،وهو أمر احتاجت إليه البشرية في كل
ًا ًا
تاريخها وال تزال ،وتحَّد ث عنه فالسفة االجتماع .لكنه في الفعل السياسي ربما يكون أمر غائب في بعض األحيان ،فمن
ًا
يملكون القوة السياسية والعسكرية يضعون أنفسهم دوم في موضع املتعالي في ِق َي ِم ِه ،ويفترضون أن حركة القيم تتم
على طريقة األواني املستطرقة ،فاألعلى يعطي األدنى .ومن يعترفون بعجزهم وضعفهم في القوة السياسية والعسكرية
ًال ًا
ال يجدون ملج أو مغارات أو م ّد خ ،غيَر طلب الحماي ة من األقوياء ،والخضوع للضغوط واإلمالءات حتى في ميدان
القيم ،وهذا نوع من االستالب الذي يكرس شعور القوي باالستعالء ،وشعور الضعيف باإلذالل!
صحيح أن ه ذه الظ اهرة معروف ة ومألوفة ،وقد ع بر عنه ا ابن خل دون بعبارته املش هورة" :إن املغل وب مولع بتقلي د
ًا
الغ الب ".لكن أي ة أم ة ل و وقفت موقف الكرام ة اآلدمي ة لجعلت عملي ة الت دافع أخ ذ وعط اًء ليس في مي دان الق وة
ًال
املادية وحسب ،وإنما حتى في العناصر املكونة ملنظومتها القيمية .فقضية الحرية السياسية مث تتضمن آليات وأدوات
عملي ة لتحقيقه ا ،تعم ل على من ع وقوع الفس اد واالستبداد السياسي ،وهذه األدوات هي خ برة عملي ة في التنظيم
واإلدارة ،ويمكن النظ ر إليه ا بوصفها خ برة بش رية يس تطيع أي مجتم ع أن ي دخلها في أدوات ه التنظيمي ة م ع االحتف اظ
بتميزه القيمي.