You are on page 1of 7

‫المقدمة‬

‫ت لَ ُك ْم دِي َن ُك ْم َوَأ ْت َم ْم ُ‬
‫ت َعلَ ْي ُك ْم نِعْ َمتِي‬ ‫﴿ال َي ْو َم َأ ْك َم ْل ُ‬
‫إن هللا تعالى تعبدنا باإلس الم‪ ،‬ولم ي رض ب ه ب ديالً‪ ،‬وال عن ه تح ويالً‪ ،‬ق ال س بحانه‪ْ :‬‬
‫إلث ٍم َفِإنَّ هَّللا َ َغفُ و ٌر َرحِي ٌم﴾‪ .‬وال يقب ل هللا من أح د من المكلفين كائن ا‬ ‫ص ٍة َغي َْر ُم َت َجانِفٍ ْ‬
‫طرَّ فِي َم ْخ َم َ‬‫يت َل ُك ُم اإلسْ ال َم دِي ًنا َف َم ِن اضْ ُ‬
‫َو َرضِ ُ‬
‫ين عِ ْندَ هَّللا ِ اِإْلسْ اَل ُم﴾‪ .‬وجاءت رس الة اإلس الم خاتم ة للرس االت الس ماوية ال تي س بقتها‪،‬‬ ‫من كان دينا غيره كما قال جل ذكره‪ِ﴿ :‬إنَّ ال ِّد َ‬
‫فحوت الخصائص والمميزات التي امتازت بها تلك الرس االت‪ ،‬وأض افت له ا مم يزات آخ رى جعلت منه ا رس الة للن اس كاف ة دون‬
‫الم دِي ًن ا َفلَنْ ُي ْق َب َل ِم ْن ُه َو ُه َو فِي‬ ‫﴿و َمنْ َي ْب َت ِغ َغ ْي َر ْ‬
‫اإلس ِ‬ ‫تمييز بينهم ألي سبب من األسباب‪ ،‬سواء من أمن بها أم لم يؤمن ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫اآلخ َِر ِة م َِن ْال َخاسِ ِر َ‬

‫اص َط َف ْي َنا مِنْ‬ ‫﴿ث َّم َأ ْو َر ْث َن ا ْال ِك َت َ‬


‫اب الَّذ َ‬
‫ِين ْ‬ ‫وقد اصطفى هللا لخير األديان وأكملها خ ير األمم وأكمله ا على تف اوت في خيري ة أفراده ا ُ‬
‫ت بِِإ ْذ ِن هَّللا ِ َذل َِك ه َُو ْال َفضْ ُل ْال َك ِبيرُ﴾‪.‬‬
‫عِ َبا ِد َنا َف ِم ْن ُه ْم َظالِ ٌم لِ َن ْفسِ ِه َو ِم ْن ُه ْم ُم ْق َتصِ ٌد َو ِم ْن ُه ْم َس ِاب ٌق ِب ْال َخي َْرا ِ‬

‫وجاءت اآليات القرآنية واألحاديث النبوية بالتحذير من سلوك الضالين والمغضوب عليهم‪ ،‬وسبيل المبت دعين المغ الين في دين هللا‬
‫ك َواَل َت ْط َغ ْوا ِإ َّن ُه ِب َما َتعْ َمل ُ َ‬
‫ون‬ ‫غير الحق‪ ،‬قال تعالى آمرا رسوله صلى هللا عليه وسلم وأمته من بعده‪َ ﴿ :‬فاسْ َتقِ ْم َك َما ُأمِرْ َ‬
‫ت َو َمنْ َت َ‬
‫اب َم َع َ‬
‫بَصِ ي ٌر ﴾‪.‬‬

‫فاهلل سبحانه وتعالى يأمر باالس تقامة ال تي هي "االعت دال"‪ ،‬ويعقب س بحانه ب النهي عن الطغي ان‪ ،‬مم ا يفي د أن هللا تع الى يري د من ا‬
‫االستقامة‪ ،‬كما هو أمر رس وله ص لى هللا علي ه وس لم ب دون غل و وال مبالغ ة وال تش ديد يحي ل ه ذا ال دين من يس ر إلى عس ر‪ ،‬وهي‬
‫الوسطية التي جاء بها اإلسالم بين الغل و والتفري ط‪ ،‬وال يمكن أن تس ير في ركابه ا إال في إتب اع س بيل الس لف الص الح رض وان هللا‬
‫عليهم‪.‬‬

‫ثم إن اتصاف األمة اإلسالمية بالعدالة والخيرية‪ ،‬يؤهلها ألن تكون أمة القيادة والتوجيه‪ ،‬اللتزامها شرف الكلمة واإلحسان والع دل‪،‬‬
‫والتوازن واالعتدال‪ ،‬ولصواب عقيدتها‪ ،‬وإحكام نظامها وشريعتها ومنهجها‪ ،‬بل موقعها في األرض وتاريخها ومناخها‪ ،‬ولك ون مك ة‬
‫المكرمة في مركز وسط الكرة األرضية للعالم أجم ع‪ ،‬فهي أم ة الخ ير‪ ،‬وتمل ك ناصيـــة الم يزان‪ ،‬ورأيهـــا المعتم د على وحي هللا‬
‫تعالى هو الرأي السديد في معالجة جميع القضايا والشؤون‪.‬‬

‫وقد تضمن كتاب هللا العظيم منهجا كامال وشافيا في الوسطية‪ ،‬والكشف عن معالمه يعد من األمور الض رورية والملح ة‪ ،‬وال س يما‬
‫في الظروف الراهنة التي بلغت خطورة بالغة طالت األم ة اإلس المية والع الم بأس ره‪ ،‬بس بب خ روج بعض الن اس عن منهج الق رآن‬
‫الكريم أو البعد عنه‪ ،‬والتأثر باألفكار المنحرفة والهدامة‪ ،‬والسير وراء كل ناعق‪ ،‬فأفرز ذلك خروج ا عن طاع ة ولي األم ر‪ ،‬وس عيا‬
‫في األرض فس ادا وقت ل النفس المعص ومة‪ ،‬وغ ير ذل ك من التبع ات المخالف ة لمنهج الوس طية منهج الق رآن الك ريم والس نة النبوي ة‬
‫المطهرة‪.‬‬
‫مفهوم الوسطية‬
‫أواًل ‪ :‬المعنى اللغوي‪:‬‬
‫) وسط ) الواو والسين والطاء‪ :‬بناء صحيح يدل‪ ‬على العدل والنصف‪ ،‬وأعدل الشيء‪ :‬أوسطه ووسطه‪ ،‬وسطت القوم أسطهم‪ً  ‬‬
‫وسطا وسطة‪ ،‬أي‪:‬‬
‫توسطتهم وفالن وسيط في قومه إذا‪ ‬كان أوس طهم نس بًا‪ ،‬واألص بع الوس طى‪ ،‬والتوس يط‪ :‬أن تجع ل الش يء‪ ‬في الوس ط‪ ،‬والتوس يط‪ :‬قط ع الش يء‬
‫نصفين‪ ،‬والتوسط بين الناس من‪ ‬الوساطة‪ ،‬والوسط من كل شيء‪ :‬أعدله‪ ،‬ويقال أيضًا‪ :‬ش يء‪ ‬وس ط‪ ،‬أي‪ :‬بين الجي د وال رديء‪ ،‬وعب د وس ط وأم ة‬
‫وسط وشيء‪ ‬أوسط‪ ،‬وللمؤنث وس طى بمعن اه‪ ،‬وواس طة القالدة‪ :‬الج وهر ال ذي في وس طها‪ ،‬وه و أجوده ا‪ ،‬و وس وط الش مس توس طها الس ماء‪،‬‬
‫وجلست وسط القوم بالسكون‪ً  ‬‬
‫وسطا‪ ،‬فهو واسط‪ ،‬والمفعول موسوط‪.‬‬

‫يقال‪ :‬شيء وسط‪ ،‬أي‪  :‬بين الجيد والرديء‪ ،‬واليوم األوسط والليلة الوسطى‪ ،‬ويجمع األوسط على‪ ‬األواس ط مث ل األفض ل واألفاض ل‪ ،‬ويجم ع‬
‫الوسطى على الوسط مثل‪ :‬الفضلى‪ ‬والفضل ‪.‬‬

‫ويالحظ مما سبق أن لفظة (وسط) تأتي على‪ ‬عدة معان منها‪ :‬اس مًا لم ا بين ط رفي الش يء‪ ،‬وبمع نى خي ار‪ ،‬وأفض ل‪ ،‬وأج ود‪ ،‬فأوس ط الش يء‬
‫أفضله‪ ،‬وتأتي بمعنى‪ :‬عدل‪ ‬كما تقدم أن أعدل الشيء أوسطه‪ ،‬وتأتي بمعنى الشيء بين‪ ‬الجيد والرديء‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬المعنى االصطالحي‪:‬‬

‫الوسطية تعني‪ :‬االعتدال والتوازن‪ ،‬ويعنى بها‪ :‬التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين بدون إف راط‪ ‬أو تفري ط‪ ،‬بحيث ال ينف رد أح دهما بالت أثير‬
‫ويطرد الطرف المقابل‪ ،‬وبحيث ال يأخ ذ أح د الط رفين أك ثر من حق ه‪ ،‬ويطغى على‪ ‬مقابل ه ويحي ف علي ه‪ ،‬وه ذه الوس طية هي الع دل والطري ق‬
‫األوسط الذي‪ ‬تجتمع عنده الفضيلة‪.‬‬

‫الوسطية في العرف الشائع في زمننا‪ ،‬تعني االعتدال في االعتق اد والموق ف والس لوك والنظ ام والمعامل ة واألخالق‪ ،‬وه ذا يع ني أن اإلس الم دين‬
‫معتدل غير جانح وال مفرط في شيء من الحقائق‪ ،‬فليس فيه مغاالة في الدين‪ ،‬وال تطرف وال شذوذ في االعتقاد‪ ،‬وال استكبار وال خن وع‪ ،‬وال ذل‬
‫وال استسالم‪ ،‬وال خضوع وعبودية لغير هللا تعالى‪ ،‬وال تش دد أو إح راج‪ ،‬وال ته اون‪ ،‬وال تقص ير‪ ،‬وال تس اهل أو تفري ط في ح ق من حق وق هللا‬
‫تعالى‪ ،‬وال حقوق الناس‪ ،‬وهو معنى الصالح واالستقامة‪.‬‬

‫قال القرطبي‪" :‬وكما أن الكعبة وسط األرض‪ ،‬كذلك جعلناكم أمة وسطا‪ ،‬أي دون األنبياء‪ ،‬وفوق األمم‪ ،‬والوسط" العدل"‪.‬‬

‫وال يصح إطالق مصطلح الوسطية على أمر إال إذا توفرت فيه المالمح التالية‪-:‬‬

‫‪ -1‬الخيرية‪ :‬وهي تحقيق اإليمان الشامل‪ ،‬يحوطه األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬

‫‪ -2‬االستقامة‪ :‬وهي لزوم المنهج المستقيم بال انحراف‪ ،‬فالوسطية ال تعني التنازل أو التميع أبداً‪.‬‬

‫‪ -3‬البينية‪ :‬وذلك واضح في كل أبواب الدين‪ ،‬فالصراط المستقيم بين صراطي المغضوب عليهم والضالين‪.‬‬

‫‪ -4‬اليسر‪ :‬ورفع الحرج‪ :‬وهي سمة الزمة للوسطية‪.‬‬

‫‪ -5‬العدل والحكمة ‪ :‬وقد فسر النبي‪  ‬صلى هللا عليه وسلم‪  ‬الوسط "بالعدل‪ ،‬وذلك هو معنى الخيار؛ وذلك ألن خيار الناس‪ :‬ع دولهم‪ .‬وق د ق ال هللا‬
‫تعالى‪﴿ :‬إنَّ هَّللا َ َيا ً ُم ُر ِب ْال َع ْد ِل َواإلحْ َس ِ‬
‫ان﴾‪.‬‬
‫مظاهر وتطبيقات‬

‫وللوسطية مظاهر وتطبيقات في دين اإلسالم عقيدة وشريعة وأخالقا وأعماال ومعامالت‪ ،‬حتى إنها حازت من كل جانب من هذه‬
‫الجوانب خيره وأفضله وأحسنه‪ ..‬ومن مظاهر الوسطية في اإلسالم‪:‬‬

‫أوال‪ :‬الوسطية في العقيدة‬

‫وأول ما يدخل في هذه الوسطية وسطية العقيدة‪ ،‬والتي قامت أسسها على أمرين‪ :‬اعتبار الفطرة واحترام العقل‪ ،‬واالستنارة بنور‬
‫الوحي‪.‬‬
‫اس َعلَ ْي َه ۚا اَل َت ْبدِي َل ل َِخ ْل ِق هَّللا )(الروم‪:‬‬ ‫ذلك أن هللا فطر الخلق على الحنيفية السمحة كما جاء في كتاب هللا‪( :‬ف ِْط َر َ‬
‫ت هَّللا ِ الَّتِي َف َط َر ال َّن َ‬
‫ت عليهم ما َأحْ لَ ْل ُ‬
‫ت‬ ‫ت عِ َبادِي حُ َن َفا َء ُكلَّ ُه ْم‪ ،‬وإ َّن ُه ْم َأ َت ْت ُه ُم ال َّشيَاطِ ينُ َفاجْ َتالَ ْت ُه ْم عن دِين ِِه ْم‪َ ،‬و َحرَّ َم ْ‬
‫‪ .)30‬وكما في الحديث القدسي ‪ :‬إ ِّني َخلَ ْق ُ‬
‫له ْم‪َ ،‬وَأ َم َر ْت ُه ْم َأنْ ُي ْش ِر ُكوا بي ما لَ ْم ُأ ْن ِز ْل به س ُْل َطا ًنا ) رواه مسلم)‪.‬‬

‫لكن لما كانت هذه الفطرة ال تستقل وحدها بمعرفة الخير والشر‪ ،‬واالطالع على المغيبات‪ ،‬أرسل هللا الرسل وأنزل عليهم الكتب‬
‫وشرع الشرائع لتستقيم الفطر على قانون هللا‪ ،‬ولتبين للناس ما غاب عنهم مما ال تدركه العقول بمفردها‪ ،‬ولذلك قال سبحانه {نور‬
‫على نور} أي نور الوحي مع نور الفطرة‪ ..‬فما ال يستقل العقل بمعرفته أمده الشرع بنور الهداية فيه‪ ،‬وتبيين الصواب من الخطأ‪،‬‬
‫والحق من الباطل حتى تقوم حجة هللا على الناس ويقطع عنهم المعاذير‪ .‬فما بين كون هللا المنظور وكتاب هللا المسطور تستقيم‬
‫الفطرة على هذه الوسطية‪.‬‬

‫ثانيا‪ (:‬الوسطية في الشعائر( التعبدية‬

‫وهو تقوم على مبدأ التالزم بين الظاهر والباطن‪ ،‬فالعبادة فيها حركات من ركوع وسجود‪ ،‬وفيها أعمال قلبية من خشوع واستشعار‬
‫لعظمة هللا‪ ..‬والوسطية تمثل تالزم الظاهر والباطن‪.‬‬

‫ثالثا‪ (:‬الوسطية في السلوك( اإلنساني‬

‫وذلك بالتوفيق بين حظ الدين وحظ الدنيا‪ ،‬وبين حق النفس والعقل والبدن‪ ،‬وبين حق هللا وحقوق العباد‪ ..‬قال تعالى‪َ ( :‬وا ْب َت ِغ فِي َما آ َتا َ‬
‫ك‬
‫ك م َِن ال ُّد ْن َيا)(القصص‪ ،)77:‬وهذا ما عبر عنه الحديث حين قال النبي صلى هللا عليه وسلم لعبد هللا‬ ‫نس َنصِ ي َب َ‬‫ار اآْل خ َِر ۖ َة َواَل َت َ‬
‫هَّللا ُ ال َّد َ‬
‫ك َح ًّقا)‪.‬‬‫ك َعلَ ْي َ‬ ‫ك َح ًّقا‪ ،‬وإنَّ ل َِز ْو ِج َ‬ ‫ْك َح ًّقا‪ ،‬وإنَّ ل َِز ْو ِر َ‬
‫ك َعلَ ْي َ‬ ‫ْك َح ًّقا‪ ،‬وإنَّ ل َِع ْين َ‬
‫ِك َعلَي َ‬ ‫ص ْم وَأ ْفطِ رْ ‪ ،‬فإنَّ ل َِج َسد َ‬
‫ِك َعلَي َ‬ ‫بن عمرو‪( :‬قُ ْم و َن ْم‪ ،‬و ُ‬

‫فاإلنسان عقل وجسد وروح‪ :‬فهو مخلوق من قبضة من طين األرض‪ ،‬ونفخه من روح هللا‪ .‬والبد من التوازن بينها‪:‬‬
‫ففي جانب العقل‪  ‬البد من تغذيته بالعلوم والمعارف الدينية والدنيوية‪ ،‬وأن يفتح له نوافذ الفكر على كل جديد ومفيد‪ ،‬ويقرأ في التاريخ‬
‫الماضي والحاضر‪ ،‬ويأخذ من كل شيء أحسنه وأجمله‪.‬‬
‫وفي جانب الروح‪  ‬البد من التزكية بالعبادات واألذكار واألوراد وما يسمو بالنفس ويرقيها‪.‬‬
‫وأما البدن‪ ‬فمن حقه على صاحبه أن ينظفه إذا اتسخ‪ ،‬وأن يقويه إذا ضعف‪ ،‬وأن يطعمه إذا جاع‪ ،‬وأن يريحه إذا تعب‪ ،‬وأن يبحث له‬
‫عن الدواء إذا مرض‪ ،‬وأن يحفظه من كل ما يؤذي ويضر‪ ،‬فال ضرر وال ضرار‪.‬‬
‫رابعا‪ (:‬الوسطية في الدعوة‬

‫وهي تقوم على مبدأين‪ :‬التيسير في الفتوى‪ ،‬والتبشير في الدعوة‪.‬‬


‫وهذا أصله ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي موسى األشعري رضي هللا عنه)‪ :‬أنَّ ال َّنبيَّ صلَّى هللا ُ عليه وسلَّم ب َعثه ومُعا َذ َ‬
‫بن‬
‫من فقال لهما‪ :‬بشرا وال تنفرا‪ ،‬ويسرا وال تعسرا) صحيح البخاري وصحيح ابن حبان‪.‬‬ ‫جبل إلى ال َي ِ‬ ‫ٍ‬
‫وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد هللا رضي هللا عنه أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ) ‪ :‬إن هللا لم يبعثني مع ِّنتا ً وال متعنتاً‪ ،‬ولكن‬
‫بعثني معلما ً مُيسراً) (رواه مسلم)‪ .‬وقد جاء رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فوضع عن هذه األمة اإلصر واألغالل التي كانت على‬
‫ض ُع َع ْن ُه ْم‬ ‫ت َوي َُحرِّ ُم َعلَي ِْه ُم ْال َخ َب َ‬
‫اِئث َو َي َ‬ ‫األمم السابقة كما في قوله سبحانه ( َيْأ ُم ُرهُم ِب ْال َمعْ رُوفِ َو َي ْن َها ُه ْم َع ِن ْالمُن َك ِر َو ُي ِح ُّل لَ ُه ُم َّ‬
‫الط ِّي َبا ِ‬
‫ت َعلَي ِْه ْم (األعراف‪.157:‬‬ ‫ِإصْ َر ُه ْم َواَأْل ْغاَل َل الَّتِي َكا َن ْ‬

‫خامسا‪ (:‬الوسطية في التجديد واالجتهاد‬

‫وهذه تقوم أيضا على ركنين‪ :‬ارتباط باألصل‪ ،‬واتصال بالعصر‪.‬‬


‫أما االرتباط باألصل فهو االرتباط بهذه المرجعية الشرعية التي تقوم على الثوابت في المقاصد الكبرى‪ :‬وهي الحفاظ على الدين‪،‬‬
‫وعلى النفس‪ ،‬وعلى العقل‪ ،‬والمال‪ ،‬والنسل أو العرض‪ ..‬والمحافظة على قطعيات الشريعة وأحكامها‪ ،‬وعلى الفرائض الركنية وعلى‬
‫القيم الخلقية‪.‬‬
‫ولما كانت الشريعة وسعت األزمان والعصور كان البد أن يمر ذلك عبر آلة االجتهاد والتجديد‪ ،‬فالثبات في المقاصد واألحكام‬
‫القطعية‪ ،‬والمرونة في الوسائل واآلليات‪.‬‬
‫فأصول األحكام تنضوي تحتها تفاصي ُل الوقائع‪ ،‬فيأتي االجتهاد المحكم ليستخرج لكل حادث حكما فال يخلو واقع أو فعل من حكم‬
‫للشرع فيه‪ ..‬وبهذا تستمر مرجعية هذه الشريعة إلى أن يرث هللا األرض ومن عليها‪.‬‬

‫سادسا‪ :‬الوسطية في األحكام‬

‫وهي تقوم على‪ :‬تعظيم األصول وتيسير الفروع؛ ألن تعظيم األصول يدخل في قوله تعالى)‪َ ٰ :‬ذل َِك َو َمن ي َُع ِّظ ْم َش َع َ‬
‫اِئر هَّللا ِ َفِإ َّن َها مِن‬
‫ب((الحج‪ ،)32:‬وهذا يقتضي أن من يتصدر للفتوى في األحكام ينبغي عليه أن يكون متأهال لها‪ ،‬ومن تكلم في األحكام بال‬ ‫َت ْق َوى ْالقُلُو ِ‬
‫رسوخ قدم فقد جازف‪ ،‬وربما أوقع الناس في الفتنة والبلبلة واالضطراب في قضايا األمة العليا ومصالحها الكبرى‪ .‬وهذا من الفتنة‬
‫العظيمة التي ينبغي أن يتصدى لها أولو األمر والعلم حتى ال يسأل إال من كان أهال للسؤال‪ ،‬وال يستفتى إال من كان متأهال لإلفتاء‬
‫ُول َوِإلَ ٰى ُأولِي اَأْلم ِْر ِم ْن ُه ْم لَ َعلِ َم ُه الَّذ َ‬
‫ِين‬ ‫كما قال تعالى‪َ ( :‬فاسْ َألُوا َأهْ َل ِّ‬
‫الذ ْك ِر ِإن ُكن ُت ْم اَل َتعْ لَم َ‬
‫ُون)(النحل‪ ،)43:‬وقال‪َ ( :‬ولَ ْو َر ُّدوهُ ِإلَى الرَّ س ِ‬
‫طو َن ُه ِم ْن ُه ْم)(النساء‪ ،(83:‬وقال‪َ ( :‬فاسْ َأ ْل ِب ِه َخ ِبيرا)(الفرقان‪.)59:‬‬ ‫َيسْ َت ِنب ُ‬

‫سابعا‪ (:‬الوسطية في األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬

‫اس َتْأ ُمر َ‬


‫ُون ِب ْال َمعْ رُوفِ َو َت ْن َه ْو َن َع ِن‬ ‫األمر بالمعروف هو من أسباب خيرية هذه األمة بل هو أساسها‪ُ ( :‬كن ُت ْم َخي َْر ُأ َّم ٍة ُأ ْخ ِر َج ْ‬
‫ت لِل َّن ِ‬
‫ْالمُن َكر)(آل عمران‪.)110:‬‬
‫لكن البد من النظر إلى المآالت واآلثار التي تترتب على األمر والنهي‪ ،‬فإذا كانت المفاسد أكثر من المصالح لم يجز اإلنكار‪ ،‬حتى‬
‫قال بعض األئمة‪" :‬إن النهي عن المنكر هنا هو في ذاته منكر"‪ ،‬وأما إذا كانت المصالح أرجح وجب أن يقوم به من تأهل له‪ .‬ولهذا‬
‫يلزم فيمن ينكر أن يكون عالما بالمفاسد والمصالح‪.‬‬
‫ون هَّللا ِ َف َي ُسبُّوا هَّللا َ‬ ‫والدليل على اعتبار فقه الموازنات هو كتاب هللا وسنة رسوله‪ ،‬فقد قال ربنا سبحانه‪َ ( :‬واَل َت ُسبُّوا الَّذ َ‬
‫ِين َي ْدع َ‬
‫ُون مِن ُد ِ‬
‫َع ْد ًوا ِب َغي ِْر عِ ْل ٍم)(األنعام‪.(108:‬‬
‫ت‬‫ديثو َع ْه ٍد بشِ رْ كٍ ‪ ،‬لَ َه َد ْم ُ‬ ‫ومن السنة ما رواه البخاري ومسلم أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال لعائشة‪( :‬يا عاِئ َش ُة‪ ،‬لَ ْوال أنَّ َق ْومَكِ َح ُ‬
‫ص َر ْتها َحي ُ‬ ‫ْ‬ ‫وج َع ْل ُ‬ ‫ال َكعْ َب َة‪ْ ،‬‬
‫ْث‬ ‫ُع م َِن الحِجْ ِر‪ ،‬فإنَّ ُق َر ْي ًشا ا ْق َت َ‬
‫ت فيها سِ َّت َة أذر ٍ‬ ‫ْن‪ :‬بابًا َشرْ قِ ًّيا‪ ،‬وبابًا َغرْ ِب ًّيا‪ِ ،‬‬
‫وز ْد ُ‬ ‫ت لها با َبي ِ‬ ‫فأل َز ْق ُتها باألرْ ِ‬
‫ض‪َ ،‬‬
‫ت ال َكعْ َب َة)‪ .‬ورغم أن بناء الكعبة على قواعد إبراهيم من المعروف والخير الكثير إال أنه لم يفعل خوف الفتنة على الناس فإنهم‬ ‫َب َن ِ‬
‫كانوا قريبي عهد بشرك وكفر‪ ،‬ونفوسهم ال تطيق مثل هذا‪ ،‬فتركه صلوات هللا عليه وسالمه لهذا االعتبار‪.‬‬
‫التطرف‬

‫ّ‬
‫التطرف تف َّعل‪ ،‬بتشديد العين‪ ،‬من طرف يطرف َط َرفا ً بالتحريك‪ ،‬وهو األخذ بأحد الطرفين والميل لهما ‪ :‬إما الطرف األدنى أو‬
‫األقصى‪.‬‬

‫قال ابن فارس‪" :‬الطاء والراء والفاء أصالن‪ ،‬فاألول يدل على حد الشيء وحرفه‪ ،‬والثاني‪ :‬يدل على حركة فيه"‪ .‬وقال الجصاص‬
‫"طرف الشيء إما أن يكون ابتداءه ونهايته ‪ ،‬ويبعد أن يكون ما قرب من الوسط طرفا"‪ .‬وقال الراغب األصفهاني‪" :‬طرف الشيء‪:‬‬
‫جانبه‪ ،‬ويستعمل في األجسام واألوقات وغيرهما"‪ .‬ومعناه الوقوف في الطرف بعيداً عن الوسط‪ ،‬ويأتي التطرف بمعنى تجاوز الحد‬
‫وعدم التوسط‪ ،‬وعلى ذلك يطلق لفظ التطرف على كل من غالى في األمر وتجاوز حد الوسط فيه‪ ،‬يقال‪ :‬تطرف‪ ،‬أي‪ :‬تجاوز حد‬
‫االعتدال ولم يتوسط‪..‬‬

‫مظاهر التطرف ‪:‬‬


‫‪ -1‬إن أولى مظاهر التطرف هو التعصب للرأي الذي هو أول دالئل التط رف‪ ،‬فالتعص ب لل رأي تعص با ال يع ترف مع ه لآلخ رين‬
‫بوجود‪ .‬وجمود اإلنسان على رأيه وفهمه جح ودا ال يس مح ل ه برؤي ة المص الح وت بين المقاص د واستحض ار ظ روف العص ر وفق ه‬
‫الواقع‪.‬‬

‫‪ -2‬ومن مظاهر التطرف في المجتمعات الحديثة وأبرزها استخدام أساليب العنف بالمجتمعات اإلس المية وظه ور اإلره اب المس لح‬
‫الناتج عن التعصب الفكري‪ ،‬وترويع اآلمنين بدعوى حراسة الدين‪ ،‬و"التعص ب بص فة عام ة ه و حال ة نفس ية غ ير س وية وغش اوة‬
‫فكرية‪.‬‬

‫‪ -3‬من مظاهر التطرف والغلو اإلفراط في التدين إلثبات الذات‪ ،‬وإظهارها بأنها مميزة عن اآلخرين‪ ،‬والتفريط الذي يؤدي إلى الكفر‬
‫واإللح اد‪ ،‬بحيث يلج أ لله روب من الواق ع و يتع اطى المخ درات والمس كرات كعالج له ذا الواق ع المري ر والتعص ب لل رأي وع دم‬
‫االعتراف بالرأي اآلخر‪ ،‬مما يؤدي إلى إلزام الناس بما لم يلزمهم هللا به وقد يؤدي ذلك إلى الغلظة والخشونة وإيذاء اآلخرين‪. ‬‬

‫وباالختصار‪ ،‬فإن من أهم مظاهر التطرف والغلو هو التزام التشدد دائم ا م ع قي ام موجب ات التيس ير‪ ،‬وال تزام اآلخ رين ب ه‪ ،‬وك ذلك‬
‫التعصب للرأي مع عدم االعتراف بوجود اآلخرين‪ .‬باإلضافة إلى الغلظة في التعامل‪ ،‬والخشونة في األسلوب‪ ،‬والفظاظة في الدعوة‪،‬‬
‫أضف إلى ذلك سوء الظن باآلخرين‪ ،‬ولكن أخطر المظاهر هو تكفير اآلخرين‪ ،‬واتهام الناس بالخروج عن اإلسالم ‪.‬‬
‫أسباب التطرف ‪:‬‬
‫يجمع الباحثون في قضية التطرف و أن أسبابه ال تنحصر في الجهل بأحكام الدين‪ ،‬وإنما منها ما هو سياسي‪ ،‬ومنها م ا ه و ترب وي‪،‬‬
‫ومنها ما هو نفسي‪ ،‬ومنها ما هو اقتصادي‪ ،‬ومنها ما هو ثقافي‪ ،‬ومنها ما هو مجتمعي‪.‬‬

‫ويغذي التطرف أحيانا األفراد وأحيانا أخرى الجماع ات‪ ،‬وفي بعض األحي ان مؤسس ات ودول تحت مظل ة النظ ام والق انون‪ ،‬وربم ا‬
‫المحاكم الصورية‪ ،‬ولذا نعالج التطرف والغلو في أهم أسبابه وهي‪:‬‬

‫‪ -1‬الجهل بعدم معرفة حكم هللا تعالى‪:‬‬

‫فكثير ممن يصاب بهذا الداء‪ ،‬ال يعرف الكثير عن اإلسالم تمام المعرفة‪ ،‬فإن من عرف اإلسالم ومزاي اه وخصائص ه وس ماته‪ ،‬وأن ه‬
‫دين الوسطية واالعتدال‪ ،‬وطبَّق ذلك في واقع حياته‪ ،‬فإن هذا يقيه بإذن هللا من الوقوع في الغلو‪.‬‬

‫‪2‬ـ البيئة المغالية‪:‬‬

‫المستخدمة للـشـدة والضغط واإلكراه والتي ينتج عنها ومنه ا‪ :‬التك وين النفس ي والفك ري لبعض المغ الين‪ ،‬والف راغ وع دم البص يرة‬
‫باألولويات‪ ،‬واالعتماد على النفس من أول األمر في تحصيل العلم أو المعرفة‪ ،‬أو التلقي عن الجاهلين‪ ،‬م ع خل و الس احة من العلم اء‬
‫الذين يضبطون الفكر والتصور والسلوك‪ ،‬والتصدر للفتوى واالجتهاد قبل االستواء والنضج‪.‬‬

‫‪ -3‬البعد عن العلماء‪:‬‬

‫وذلك ترك التلقي عنهم والتعصب للرأي‪ ،‬وهذا منذر بخطر عظيم‪ ،‬فإن العلماء هم ورثة األنبياء‪ ،‬وهم منابر النور‪ ،‬وهم مص در تلقي‬
‫العلم الصحيح‪ ،‬وهم أهل الذكر الذين أمرنا هللا تعالى بسؤالهم في حال الجهل‪ ،‬أو الشك‪ ،‬أو االشتباه‪.‬‬

‫‪ -4‬التعصب للرأي أو المذهب‪:‬‬

‫إن التعصب مرض خطير نهى عنه اإلسالم نهيا شديدا سواء أك ان ه ذا التعص ب في مج ال االعتق اد أو في مج ال التح يز لفئ ة على‬
‫حساب أخرى أو في مجال التعصب لرأي النفس أو المذهب‪.‬‬

‫‪ -5‬سوء الفهم عن األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬

‫إن عدم فهم حقيقة األمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدى إلى إشكاالت كبيرة في ساحة العمل اإلسالمي في باكستان‪ ،‬حيث إن فئ ة‬
‫من الذين يسعون إلى تغيير المنكرات في المجتمع عمدوا إلى استخدام القوة في تغيير المنكر‪ ،‬فقاموا باستخدام العنف من قبيل التدمير‬
‫واإلحراق للمباني وقتل األفراد واختطافهم‪ ،‬وظنت هذه الفئة ان الجماعات اإلسالمية لها الحق في إقام ة الح دود واخ ذ الن اس ب القوة‬
‫على األحكام الشرعية‪ ،‬ويوجد لها من الصالحيات الشرعية التي توجد للدول ة اإلس المية‪ ،‬فله ا أن تع اقب المج رمين‪ ،‬وله ا أن يق وم‬
‫بإقفال أو حرق األماكن التجارية التي يتم االستفادة منها في نشاط مشبوه أو غير شرعي‪ ،‬ومن ه ذا القبي ل كس ر أم اكن بي ع أش رطة‬
‫الكاسيت التي بها أغاني وأفالم‪ ،‬أو كس ر المس جالت في الس وق أو كس ر المس جالت في الس يارات ال تي تق وم بتش غيل األغ اني في‬
‫سياراتهم أو يشاهدون األفالم في تلك السيارات‪.‬‬

You might also like