You are on page 1of 41

‫ﺇﺻﺪﺍﺭﺍﺗﻨﺎ ﺭﻗﻢ ) ‪( 8‬‬

‫اﺎذ اﺎرك   ا  ‪  -‬ا ﺎ ا‬


‫‪1‬‬
3
‫مقدمة‬
‫َ‬
‫جعــل حمــل نظــره القلــوب ال األبــدان‪ ،‬والصــا ُة‬ ‫احلمــدُ هلل الــذي‬
‫والســا ُم األمتَّــان األكمــان عــى نب ِّينــا حممــد س ـ ِّيد ولــد عدنــان‪ ،‬وعــى آلــه‬
‫وصحبــه ذوي التقــى واإليــان‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫يســمعون كلمــ َة‬
‫َ‬ ‫يســبق إىل أذهاهنــم حينــا‬
‫ُ‬ ‫فكثــر أولئــك الذيــن ال‬
‫ٌ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫(االعتــكاف) ســوى اعتــكاف اجلســد يف بيــت مــن بيــوت اهلل‪ ،‬فهــو يف خميلتهــم‬
‫وإن كان ِمــن رشائـ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـط االعتــكاف‬ ‫ـي‪ ،‬وهــذا ْ‬ ‫ـر يف مفهــو ِم االعتــكاف احلـ ِّ‬ ‫منحـ ٌ‬
‫اعتــكاف القلــب‬
‫ُ‬ ‫فــإن مقصــو َده والغايــ َة منــه‪:‬‬ ‫إال أنــه ليــس هــو مقصــو َده‪َّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـم‪َ ،‬و َلكـ ْ‬
‫ـن‬ ‫الــذي هــو موضــع نظــر اهلل‪ :‬إِ َّن اهللَ َل َي ْن ُظـ ُـر إِ َل ُص َو ِر ُكـ ْ‬
‫ـم َو َأ ْم َوال ُكـ ْ‬
‫ِ‬
‫ـم»(((‪.‬‬ ‫ـم َو َأ ْع َمل ُكـ ْ‬
‫َينْ ُظـ ُـر إِ َل ُق ُلوبِ ُكـ ْ‬
‫ِ‬
‫االعتكاف‬ ‫ـل إىل‬ ‫ـت اهلل‪ ،‬لكنــه مل يصـ ْ‬ ‫ـده يف بيـ ِ‬ ‫ـف بجسـ ِ‬ ‫ـد عكـ َ‬ ‫وكــم ِمــن عبـ ٍ‬
‫الــذي أراده اهلل ‪‬؛ وهلــذا ع َّلــق اهللُ ســبحانه اخلــر الــذي ُيؤتيــه عبــدَ ه باخلـ ِ‬
‫ـر‬ ‫َ‬
‫ـده‪ ،‬فقــال ســبحانه‪:‬ﱫ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ‬ ‫ـب عبـ ِ‬
‫الــذي يف قلـ ِ‬
‫ﭡ ﭢ ﭣ ﱪ ا[األنفــال‪.]70:‬‬
‫ـح اهلل وهباتــه عليــه‪،‬‬ ‫فكلــا صــح القلــب وتعــاىل عــى الدنيــا؛ أقبلـ ْ ِ‬
‫ـت منـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ـف يف بيـ ِ‬
‫ـت‬ ‫والعــر األواخــر مــن رمضــان أحــرى األيــام هبــذه املنــح‪ ،‬والعاكـ ُ‬
‫لصدقــه وقربِــه ِمــن اهلل‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ـق بذلــك؛‬
‫ـوف قلــب) حقيـ ٌ‬
‫اهلل (عكـ َ‬
‫االعتــكاف اعتــكاف قلــب ال جســد فقــط‪ ،‬ويتــذوق‬
‫ُ‬ ‫ولكــي يكــون‬
‫ا ُمل ْعتكِــف هــذه العبــادة‪ ،‬وتســتقيم لــه هــذه الطاعــة‪ ،‬ويســروح روحهــا‪،‬‬
‫الســات التاليــة‪:‬‬ ‫ويســتحرض معــاين العبوديــة فيهــا؛ ينبغــي لــه أن يتط َّلـ َ‬
‫ـع إىل ِّ‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ )1986/4‬رقم (‪ )2564‬من حديث أيب هريرة ‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫الس ُ‬
‫ِّمة األوىل‬

‫قط ُع العالئِق عن اخلالئِق‬


‫ِ‬
‫عالئقــه‬ ‫ـع‬ ‫َّ ِ‬
‫س االعتــكاف وغايتــه‪ :‬اخللــو ُة بــاهللِ وتفريــغُ القلــب وقطـ ُ‬ ‫إن َّ‬
‫َّنســك‬‫أن يكــون ُمنهمــكًا يف الت ُّ‬‫الالئــق با ُمل ْعتَكِــف ْ‬
‫ُ‬ ‫باخلالئــق؛ وهلــذا كان‬
‫ـة القلــب هلل‪ ،‬واإلحلــاح يف طلـ ِ‬
‫ـب‬ ‫والعبــادات اخلاصــة‪ ،‬مقبـ ًـا عــى ربــه بتخليـ ِ‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫نيــل مغفرتِــه وعفــوه‪ ،‬كــا قــال عطــاء رمحــه اهلل‪:‬‬ ‫رضــاه‪ ،‬واإلحلــاف((( يف ِ‬
‫ـس عــى بابِــه يقـ ُ‬
‫ـول‪:‬‬ ‫ـل لــه حاجـ ٌة إىل عظيـمٍ‪ ،‬فجلـ َ‬ ‫«م َثــل ا ُمل ْعتَكِــف كمثــل رجـ ٍ‬
‫َ‬
‫ـت اهلل يقــول‪:‬‬ ‫ـي حاجتــي‪ ،‬وكذلــك ا ُملعتَكِــف جيلــس يف بيـ ِ‬ ‫ال َأبــرح حتــى َت ْقـ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ال َأ ْبـ ُ‬
‫ـرح حتــى ُي ْغ َفــر يل»(((‪.‬‬
‫ـون َعزو ًفــا عــن النــاس‪ ،‬جماف ًيــا‬
‫أن يكـ َ‬ ‫للم ْعتَكِــف ْ‬
‫ـروع ُ‬‫ُ‬ ‫وهلــذا كان املـ‬
‫للم ْعتَكِــف‬
‫نــص اإلمــا ُم أمحــد رمحــه اهلل عــى أنــه ينبغــي ُ‬ ‫ملجالســهم‪ ،‬وقــد َّ‬
‫ِ‬

‫خيالــط النــاس حتــى ولــو كان ذلــك لتعليــ ِم علــم أو إقــراء قــرآن‪َّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫َ‬ ‫َّأل‬
‫ـره ودعائِــه(((‪.‬‬ ‫ـل لــه االنفــراد والتخــي ملناجـ ِ‬
‫ـاة ر ِّبــه وذكـ ِ‬ ‫األكمـ َ‬
‫ألن‬ ‫أن عبــاد َة االعتــكاف اقرتنــت بعبـ ِ‬
‫ـادة الصــوم؛ َّ‬ ‫تأمــل‪ ،‬نجــدُ َّ‬ ‫ِ‬
‫وبنظــرة ُّ‬
‫حكم ـ َة مرشوعيتهــا واحــدة‪ ،‬وهــي‪ :‬إصــاح القلــب بتقــوى اهلل‪ ،‬ﱫ ﭣ‬
‫ﭤﭥﭦ ﭧﭨﭩ ﭪ ﭫﭬﭭﭮ ﭯ‬
‫ـم الــذرو َة يف إصــاحِ قلبِــه‬ ‫ﭰ ﭱ ﱪ [البقــرة‪ ،]183:‬ويبلــغُ العبــدُ الصائـ ُ‬
‫منطرحــا يديــه‪،‬‬ ‫حينــا يعتــزل النــاس‪ ،‬ويعتكــف بقلبِــه وجسـ ِ‬
‫ـده‪ ،‬خال ًيــا بر ِّبــه‪،‬‬
‫ً‬
‫وكان ِمــن هــدي النبــي ‪ ‬يف االعتــكاف االنفــرا ُد عــن النــاس‪ ،‬وكان يأمـ ُـر‬

‫(‪ )1‬اإلحلاف‪ :‬شدة اإلحلاح يف املسألة‪ .‬ينظر‪ :‬هتذيب اللغة (‪ ،)46/5‬لسان العرب (‪( )314/9‬حلف)‪.‬‬
‫(‪ )2‬ذكره الرسخيس يف املبسوط (‪ ،)815/3‬وينظر‪ :‬وظائف رمضان ص (‪.)75‬‬
‫(‪ )3‬ينظر‪ :‬مدارج السالكني (‪ ،)263/1‬وظائف رمضان ص (‪.)60‬‬
‫‪5‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫يلزمــه‪ ،‬وخيلــو بر ِّبــه‪ ،‬كــا قالــت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـرب لــه خ َبــاء بــن يف املســجد ُ‬ ‫َ‬ ‫ـأن ُيـ‬
‫بـ ْ‬
‫(((‬

‫اخ ِ ِ‬
‫ــر األَو ِ‬ ‫ــي ‪َ ،‬ي ْعتَكِ ُ‬
‫ــان‪،‬‬
‫ــن َر َم َض َ‬
‫ــر م ْ‬ ‫ــف ِف ال َع ْ ِ َ‬ ‫َان النَّبِ ُّ‬
‫عائشــة ڤ ‪« :‬ك َ‬
‫ـم َيدْ ُخ ُل ـ ُه»(((‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ـت َأ ْ ِ‬
‫ـح ُثـ َّ‬
‫الص ْبـ َ‬
‫ـي ُّ‬‫ـاء َف ُي َصـ ِّ‬‫ض ُب َل ـ ُه خ َبـ ً‬ ‫َف ُكنْـ ُ‬
‫ـف املنفـ ِ‬
‫ـرد اخلايل‬ ‫إن جــل الطاعــات وكثــرا ِمــن العبــادات جتتمــع للعاكـ ِ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َّ ُ‬
‫ـب هــو‬‫وألن القلـ َ‬
‫بر ِّبــه‪ ،‬وأعظــم هــذه العبــادات وأرشفهــا‪ :‬عبــادة القلــب‪َّ ،‬‬
‫يشء‬
‫ـوص بســيد العبــادات‪ :‬اإلخــاص‪ ،‬وليــس ٌ‬ ‫ســيد األعضــاء فإنــه خمصـ ٌ‬
‫ـة العبــد املنكــر املنطــرح‬ ‫ـاالت تزيــدُ اإلخــاص وتُنميــه كــا يف حالـ ِ‬‫ِمــن احلـ ِ‬
‫َ‬
‫بــن يــدي مــواله حــن اخللــوة بــاهلل‪ ،‬والعكــوف عــى طاعتــه؛ وهلــذا فإ َّنــه‬
‫أي مــذاق‪ ،‬وال‬ ‫وطعــا ال ُيســاميه ّ‬
‫ً‬ ‫يتــذوق حــاو َة اإليــان‪ ،‬وجيــد لــه مذا ًقــا‬
‫ﮮ ﱪ [احلديــد‪.]٢١ :‬‬ ‫أي ﱫ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ‬
‫ُيدانيــه ُّ‬

‫(‪ )1‬اخلباء‪ :‬بكرس املعجمة وختفيف املوحدة مع املد هي خيمة من وبر أو صوف‪ ،‬ثم ُأطلقت عىل البيت‬
‫كيف ما كان‪ .‬ينظر‪ :‬النهاية ( ‪ ،) 9/2‬اللسان‪( ) 223 /14 ( ،‬خبا)‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري‪ )48/3( ،‬رقم (‪ ،)2033‬ومسلم (‪ ،)715/2‬رقم (‪.)1172‬‬
‫‪6‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫الس ُ‬
‫ِّمة الثانية‬
‫ُ‬
‫العيش مع القرآن‬
‫مصدرهــا األول‪ :‬كتــاب اهلل‪ ،‬الــذي جعلــه‬ ‫ـب‬ ‫ُلــب العبـ ِ‬
‫ـادة وحيــا ُة القلـ ِ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫ـورا‪ ،‬ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫روحــا وحيــا ًة ونـ ً‬
‫اهلل ً‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﱪ[الشــورى‪.]٥٢ :‬‬
‫ُ‬
‫يتــذوق‬ ‫املؤمــن حيــا َة قلبِــه يف تدبــر القــرآن؛ ألنَّــه‬
‫ُ‬ ‫أن جيــدَ‬
‫وال غــرو ْ‬
‫ُ‬
‫فيعيــش يف آفــاق اآليــات‬ ‫بتالوتِــه املتأنيــة حــاو َة املناجــاة لــكال ِم ر ِّبــه‪،‬‬
‫ـات قلبــه‪ ،‬فيجــد حينهــا لقلبِــه حيــا ًة أخــرى‪،‬‬ ‫التــي يــري روحهــا يف خلجـ ِ‬
‫َْ ُ‬
‫ـذ ًة ال ي ِص ُفهــا لســانُه‪ ،‬وال تُدوهنــا أقالمــه‪ ،‬وذلــك لعظمـ ِ‬
‫ـة اخلطــاب‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ولقراءتــه لـ َّ َ‬
‫نفســه‪ ،‬و َي ُلفهــا‬ ‫املتدبــر ِ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫فــر ُّق ُ‬ ‫عقــل‬ ‫الربــاين وروعــة مجالــه الــذي َيســ ُل ُ‬
‫ب‬
‫ـورا وغي ًثــا ُيضفــي‬
‫ـض نـ ً‬‫ـب ِمــن املعــاين مــا َيفيـ ُ‬ ‫ســكينة وخشــية‪ ،‬فيتجــى للقلـ ِ‬
‫ً‬
‫ومجــال‪.‬‬ ‫ً‬
‫جــال‬ ‫عــى القــارئ‬
‫ِ‬
‫األرض‪ ،‬فكذلــك القــرآن ربيــع أفئــدة أهــل‬ ‫ربيــع‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الغيــث‬ ‫أن‬
‫وكــا َّ‬
‫ـب ِمــن قـ ِ‬
‫ـراءة القــرآن‬ ‫ِ‬
‫لقلوبــم‪ ،‬فــا يشء أنفــع للقلـ ِ‬ ‫اإليــان‪ ،‬وهــو هنــر احليــاة‬
‫بالتدبــر والتفكــر‪ ،‬فهــو ُيــورث املح َّبــة والشــوق واخلــوف والرجــاء‪ ،‬وســائر‬
‫األحــوال التــي هبــا حيــاة القلــب وكاملــه‪ ،‬فلــو علــم النَّــاس مــا يف قــراءة‬
‫كل مــا ســواها‪ ،‬فــإذا قــرأه بتفكــر حتــى‬ ‫ـن ِّ‬‫ال ُقــرآن بالتدبــر الشــتغلوا هبــا عـ ْ‬
‫ـة هــو حمتــاج إليهــا يف شـ ِ‬
‫ـفاء قلبــه‪ ،‬كررهــا ولــو مائــة مــرة ولــو ليلــة‪،‬‬ ‫مــر بآيـ ٍ‬
‫ٌ‬ ‫َ َّ‬
‫فقــراءة آيــة بتفكــر وتفهــم خــر ِمــن قـ ِ‬
‫ـراءة ختمــة بغــر تدبــر وتفهــم‪ ،‬وأنفــع‬ ‫ٌ‬
‫ـول اإليــان وذوق حــاوة القــرآن؛ فقــراءة القــرآن‬ ‫للقلــب‪ ،‬وأدعــى إىل ُح ُصـ ِ‬
‫بالتفكــر هــي أصــل صــاح القلــب(((‪.‬‬
‫(‪ )1‬مفتاح دار السعادة (‪ ،)187/1‬بترصف‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫هــه عنــد التــاوة‬ ‫ِّ‬
‫لــكل قــارئ للقــرآن‪ ،‬بــل ملــن «كان َ ُّ‬ ‫وهــذا ليــس‬
‫يكــن مــراد ُه‪ :‬متــى أختــم‬
‫ْ‬ ‫للســورة إذا افتتحهــا‪ :‬متــى أت َِّع ُ‬
‫ــظ بــا أتلــوه؟ ومل‬
‫الســورة؟‪ ،‬مــراد ُه‪ :‬متــى أعقــل عـ ِ‬
‫ـن اهلل اخلطــاب‪ ،‬متــى أزدجــر‪ ،‬متــى أعتــر؟‬
‫ألن تــاوة القــرآن عبــادة‪ ،‬والعبــادة ال تكــون بغفلــة»(((‪.‬‬
‫َّ‬
‫ومتــى مــا عــاش املعتكــف مــع القــرآن عــى هــذا النحــو فقــد أحــرز‬
‫عكــوف القلــب الــذي هــو ُبغيــة طــاب االعتــكاف احلــق‪.‬‬

‫مفتــاح اســتقامة القلــب‪ ،‬وال يشء‬ ‫ُ‬ ‫العيــش مــع القــرآن وتدبــره‬‫َ‬ ‫إن‬
‫َّ‬
‫ـت القلــب وإرسـ ِ‬
‫ـاء دعائمــه؛ ولــذا أمــر اهلل‬ ‫ـد ُل العيــش مــع القــرآن يف تثبيـ ِ‬
‫يعـ ِ‬
‫َْ‬
‫«بتدبــر كتابــه‪ ،‬والتفكــر يف معانيــه‪ ،‬واالهتــداء بآياتــه‪ ،‬وأثنــى عــى القائمــن‬
‫بذلــك‪ ،‬وجعلهــم يف أعــى املراتــب‪ ،‬ووعدهــم َأ ْس ـنَى املواهــب‪ ،‬فلــو أنفــق‬
‫ـرا يف جنــب مــا هــو‬ ‫العبــدُ جواهــر عمـ ِ ِ‬
‫ـن ذلــك كثـ ً‬‫ـره يف هــذا الفــن‪ ،‬مل يكـ ْ‬ ‫َ ُ ُ‬
‫أفضــل املطالــب‪ ،‬وأعظــم املقاصــد‪ ،‬وأصــل األصــول كلهــا‪ ،‬وقاعــدة أســاس‬
‫الســعادة يف الداريــن‪ ،‬وصــاح أمــور الدِّ يــن والدنيــا واآلخــرة‪ ،‬وبــه يتحقــق‬
‫وييــئ اهلل لــه أطيــب احليــاة‬
‫للعبــد حيــا ٌة زاهــرة باهلــدى واخلــر والرمحــة‪ُ ،‬‬
‫والباقيــات الصاحلــات»(((‪.‬‬

‫التأمــل‬
‫تكمــن يف تد ُّبــره وطــول ُّ‬ ‫إن االنطالقـ َة األوىل للعيـ ِ‬
‫ـش مــع القــرآن ُ‬ ‫ِّ‬
‫يف آياته‪.‬‬
‫يشء أنفــع للعبــد يف معاشــه ومعــاده‪ ،‬وأقــرب إىل نجاتِه‬
‫نعــم إنــه «ليــس ٌ‬
‫وجــ ِع الفكــر عــى معــاين آياتــه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫التأمــل فيــه‪ْ َ ،‬‬
‫مــن تدبــر القــرآن‪ ،‬وإطالــة ُّ‬
‫ـع العبــد عــى معــامل اخلــر والــر بحذافريمهــا‪ ،‬وعــى ُط ُر َق ِ‬
‫اتِــا‪،‬‬ ‫ِ‬
‫فإهنــا ُت ْطلـ ُ‬

‫(‪ )1‬أخالق محلة القرآن ص (‪.)18‬‬


‫(‪ )2‬القواعد احلسان لتفسري القرآن ص (‪.)8 -7‬‬
‫‪8‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫ُــل((( يف يــده مفاتيــح‬ ‫وأســباهبام‪ ،‬وغاياهتــا‪ ،‬وثمراهتــا‪ ،‬ومــآل أهلهــا‪ ،‬و َتت ُّ‬
‫ــت قواعــد اإليــان يف قلبــه‪ ،‬وتشــيد‬ ‫كنــوز الســعادة والعلــوم النافعــة‪ ،‬و ُت َث ِّب ُ‬
‫ـه صــورة الدنيــا واآلخــرة واجلنــة والنــار يف قلبــه‪،‬‬ ‫بنيانــه وتُو ِّطــدُ أركانــه‪ ،‬وت ُِريـ ِ‬
‫َ‬
‫ـر ُه مواقــع العرب‪ ،‬وت ُْشـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُْ ِ‬
‫ـهدُ ُه‬ ‫ـر ُه بــن األمــم‪ ،‬وت ُِريــه أيــام اهلل فيهــم‪ ،‬و ُت َبــ ِّ ُ‬ ‫وتــ ُ‬
‫عــدل اهلل وفضلــه‪ ،‬و ُت َع ِّر ُفـ ُه ذاتــه‪ ،‬وأســاءه وصفاتــه وأفعالــه‪ ،‬ومــا ُيبــه ومــا‬
‫ُيبغضــه‪ ،‬ورصاطــه املوصــل إليــه‪ ،‬ومــا لســالكيه بعــد الوصــول والقــدوم‬
‫عليــه‪ ،‬وقواطــع الطريــق وآفاهتــا‪ ،‬و ُت َع ِّر ُفــ ُه النفــس وصفاهتــا‪ ،‬ومفســدات‬
‫األعــال ومصححاهتــا‪ ،‬وتعرفــه طريــق أهــل اجلنــة وأهــل النــار وأعامهلــم‪،‬‬
‫وأحواهلــم وســيامهم‪ ،‬ومراتــب أهــل الســعادة وأهــل الشــقاوة‪ ،‬وأقســام‬
‫اخللــق‪ ،‬واجتامعهــم فيــا جيتمعــون فيــه‪ ،‬وافرتاقهــم فيــا يفرتقــون فيــه‪.‬‬
‫تأمــل القــرآن وتدبــره‪ ،‬وتفهمــه‪ ،‬أضعــاف أضعــاف مــا ذكرنــا مــن‬ ‫ويف ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـمه((( الغــوص بالفكر‬ ‫احل َكــم والفوائــد‪ .‬وباجلملــة فهــو أعظــم الكنــوز‪ ،‬ط َّل ْسـ ُ‬
‫إىل قــرار معانيــه»(((‪.‬‬
‫ِ‬
‫ومــن أنف ـ ِع الوســائل امل ُعينــة عــى تدبــر القــرآن‪ :‬ترديــد اآليــات‪ ،‬فهــو‬
‫الســبيل إىل اســتدرار كنــوز القــرآن وأرساره‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ــي ‪ ‬بِآ َيــة َحتَّــى َأ ْص َب َ‬
‫ــح؛ ُي َر ِّد ُد َهــا‬ ‫عــن أيب ذر ‪ ‬قــال‪َ « :‬قــا َم النَّبِ ُّ‬
‫َو ْاآل َيــ ُة‪ :‬ﱫ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﱪ‬
‫[املائــدة‪.(((»]118:‬‬
‫ـل)‪ ،‬ويقــال‪َ :‬يتِـ ُّ‬
‫ـل بكــر التــاء‪ :‬ومعنــاه َص َّبــه وألقــاه‪ُ .‬ينظــر‪:‬‬ ‫ـل‪ :‬بضــم التــاء‪ ،‬مــن الفعــل ( َتـ َّ‬
‫(‪َ )1‬ي ُتـ ُّ‬
‫النهايــة يف غريــب احلديــث واألثــر (‪ ،)195/1‬وتــاج العــروس (‪.)138/28‬‬
‫(‪ )2‬الطلســم‪ :‬هــو اســم للــر املكتــوم‪ ،‬واملــراد بذلــك املعــاين الدقيقــة التــي ال تظهــر لغــر املتعمــق يف‬
‫الفهــم والعلــم والتوســم‪ .‬ينظــر‪ :‬تــاج العــروس (‪.)25 ،24/33‬‬
‫(‪ )3‬مدارج السالكني (‪.)451 ،450/1‬‬
‫(‪ )4‬أخرجــه النســائي (‪ )177/2‬رقــم (‪ ،)1010‬وابــن ماجــه (‪ )429/1‬رقــم (‪ ،)1350‬وأمحــد‬
‫(‪ )310 ،309/35‬رقــم (‪ ،)21388‬واحلاكــم (‪ )367/1‬رقــم (‪ ،)879‬وإســناده حســن‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫قــال بِ ْ‬
‫ــر بــن َّ ِ‬
‫الــري‪« :‬إنــا اآليــة مثــل التمــرة؛ كلــا مضغتهــا‬
‫اســتخرجت حالوهتــا»(((‪.‬‬
‫«وإن مل حيصــل التدبــر إال بــرداد اآليــة‪،‬‬ ‫الـــم َو َّفق ابــن قدامــة‪ْ :‬‬‫ُ‬ ‫وقــال‬
‫فلريددهــا»(((‪.‬‬
‫ـم ِعينات عــى تدبــر القــرآن‪ :‬اإلقبــال عليــه‪ ،‬واستشــعار القــارئ‬ ‫ومــن ا ْلــ ُ‬
‫ـإن ذلــك ِمــن دواعــي الفتوحــات فيــه‪.‬‬ ‫ـب بــه‪ ،‬فـ َّ‬ ‫ما َطـ ٌ‬ ‫أنــه ُ َ‬
‫ـعرا مــا أفــاض اهللُ عــى قلبِــه ِمــن‬ ‫قــال شــيخ اإلســام رمحــه اهلل ‪ -‬مستشـ ً‬
‫ـات العظيمــة واالســتنباطات البديعــة‪ ،‬وذلــك يف أثنــاء ســجنه وخلوتــه‬ ‫الفتوحـ ِ‬
‫ـي يف هــذا احلصــن يف هــذه‬ ‫بر ِّبــه‪ ،‬وإقبالــه التــام عــى القــرآن‪« :-‬قــد فتــح اهللُ عـ َّ‬
‫ـر مــن العلــاء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫املــرة مــن معــاين القــرآن‪ ،‬ومــن أصــول العلــم بأشــياء‪ ،‬كان كثـ ٌ‬
‫ـت عــى تضييــع أكثــر أوقــايت يف غــر معــاين القــرآن»(((‪.‬‬ ‫يتمنوهنــا‪ ،‬وندمـ ُ‬
‫ـاع بالقــرآن فامجــع‬ ‫أردت االنتفـ َ‬ ‫َ‬ ‫وقــال تلميــذه ابــن القيــم رمحــه اهلل ‪« :‬إذا‬
‫ـر حضــور َمــن خياطبــه به‬ ‫ـق ســمعك‪ ،‬واحـ ُ‬ ‫قلبــك عنــد تالوتــه وســاعه‪ ،‬وألـ ِ‬
‫ـان رســولِه‪،‬‬ ‫ـاب منــه لــك عــى لسـ ِ‬ ‫ـم بــه ســبحانه منــه إليــه‪ ،‬فإنــه خطـ ٌ‬ ‫َمــن َت َك َّلـ َ‬
‫قــال تعــاىل‪ :‬ﱫ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ‬
‫أن متــا َم التأثــر ََّلــا كان موقو ًفــا عــى ُم َؤ ِّثـ ٍ‬
‫ـر‬ ‫ﭭ ﭮ ﱪ [ق‪ ،]37:‬وذلــك َّ‬
‫ورشط حلصــول األثــر‪ ،‬وانتفــاء املانــع الــذي يمنــع‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫قابــل‪،‬‬ ‫وم ٍّ‬
‫ــل‬ ‫َــض‪َ َ ،‬‬ ‫ُم ْقت ٍ‬
‫وأد ِّلـ ِ‬ ‫منــه؛ تضمنــت اآليــة بيــان ذلــك كلــه بأوجــز لفــظ َ ِ ِ‬
‫ـه عــى املــراد‪.‬‬ ‫وأ ْب َينــه َ َ‬
‫ْــم َؤ ِّثر‪ :‬وهــو القــرآن‪ ،‬واملحــل القابــل‪ :‬وهــو القلــب‬ ‫فــإذا حصــل الـ ُ‬
‫احلــي‪َ ،‬و ُو ِجــدَ الــرط‪ :‬وهــو اإلصغــاء‪ ،‬وانتفــى املانــع‪ :‬وهــو اشــتغال القلــب‬
‫ـل األثــر‪:‬‬ ‫يشء آخــر؛ حصـ َ‬ ‫وذهولــه عــن معنــى اخلطــاب‪ ،‬وانرصافــه عنــه إىل ٍ‬
‫وهــو االنتفــاع والتذكــر»(((‪.‬‬
‫(‪ )1‬الربهان يف علوم القرآن للزركيش (‪..)471/1‬‬
‫(‪ )2‬خمترص منهاج القاصدين ص (‪..)53‬‬
‫(‪ )3‬ذيل طبقات احلنابلة (‪ ،)519/4‬وينظر‪ :‬إحتاف القاري للدهامي ص (‪.)119‬‬
‫خمترصا‪.‬‬
‫ً‬ ‫(‪ )4‬الفوائد ص (‪)3‬‬
‫‪10‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫إن ِمنَّـ َة اهلل علينــا عظيمــة‪ ،‬حــن َأ ِذ َن ملخلوقــات ضعيفــة مثلنــا‪ ،‬أن تناجيــه‬
‫َّ‬
‫مــن خــال كالمــه العظيــم‪ ،‬قــال ابــن الصــاح رمحــه اهلل‪« :‬ورد أن املالئكــة مل‬
‫ـراءة ال ُقــرآن‪ ،‬وهــي حريصــة لذلــك عــى اســتامعه مــن اإلنــس‪،‬‬ ‫ُيع ُطــوا فضيلــة قـ َ‬
‫ـن مــن اجلــن‬‫فــإذن قــراءة ال ُقــرآن كرامــة أكــرم اهلل هبــا اإلنــس‪ ،‬غــر أن ا ُملؤمنـ َ‬
‫بلغنــا أهنــم يقرؤونــه‪ ،‬واهلل أعلــم»(((‪.‬‬
‫ـتحضار عظمــة املتك ِّلــم بالقــرآن‪ ،‬هو‬
‫َ‬ ‫ـتحضار هــذا االصطفــاء‪ ،‬واسـ‬
‫َ‬ ‫إن اسـ‬
‫َّ‬
‫أقــوى وســائل العيــش مــع القــرآن‪ ،‬قــال ابــن اجلــوزي رمحــه اهلل‪« :‬ينبغــي لتــايل‬
‫أن ينظـ َـر كيــف لطــف اهلل تعــاىل بخلقــه يف إيصــال معــاين كالمــه‬ ‫القــرآن العظيــم ْ‬
‫ســتحرض‬
‫َ‬ ‫أن مــا يقــرؤه ليــس ِمــن كال ِم البــر‪ْ ،‬‬
‫وأن َي‬ ‫يعلــم َّ‬
‫َ‬ ‫وأن‬
‫إىل أفهامهــم‪ْ ،‬‬
‫عظمــة املتك ِّلــم ‪ ،‬ويتدبــر كالمــه»(((‪.‬‬
‫ينات عــى تدبــر القــرآن والعيــش معــه‪ :‬الفــرح بــه‪ ،‬وقراءتــه‬ ‫ومــن الـْــم ِع ِ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫فمــن َرا َم َف ْهـ َ‬
‫ـم القــرآن؛ فليقــرأه قــراءة‬ ‫بــروح االستبشــار والشــعور بالفضــل‪َ ،‬‬
‫ـف‬ ‫ـإن ذلــك ِمــن أعظــم دواعــي التدبــر‪ ،‬قــال تعــاىل يف وصـ ِ‬ ‫فــرح واستبشــار؛ فـ َّ‬
‫عبـ ِ‬
‫ـاده املؤمنــن‪ :‬ﱫ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ‬
‫ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﱪ [التوبــة‪.]124:‬‬
‫وقــال تعــاىل‪ :‬ﱫ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ‬
‫ﮌ ﮍﮎﮏ ﮐﮑﮒ ﮓﮔ ﮕﮖﮗ ﮘ‬
‫ﮙ ﮚ ﮛ ﱪ [يونــس‪.]58 ،57:‬‬
‫ِ‬
‫قــال ابــن أيب حاتــم رمحــه اهلل يف تفســر هــذه اآليــة‪« :‬و ُذكـ َـر عـ ْ‬
‫ـن َبق َّيــة‪،‬‬
‫ـمعت َأ ْي َفــع بــن عبــد‬‫ـن صفــوان‪ -‬يعنــي ابــن الوليــد بــن عمــرو‪ -‬قــال‪ :‬سـ ُ‬ ‫عـ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـول لــه‪،‬‬ ‫اج العــراق إىل عمــر ‪ ‬خــرج عمــر ومـ ً‬ ‫الك ََلعــي يقــول‪ََّ :‬لــا َقــد َم َخـ َـر ُ‬

‫(‪ )2‬فتاوى ابن الصالح (‪ ،)234/1‬وينظر‪ :‬اإلتقان يف علوم القرآن (‪.)291/1‬‬


‫(‪ )3‬خمترص منهاج القاصدين ص (‪.)46‬‬
‫‪11‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫فجعــل عمــر َي ُعــدُّ اإلبــل‪ ،‬فــإذا هــو أكثــر ِمــن ذلــك‪ ،‬فجعــل عمــر يقــول‪:‬‬
‫ـل اهلل ورمحتِــه‪.‬‬
‫ـر املؤمنــن‪ ،‬هــذا واهللِ ِمــن فضـ ِ‬
‫احلمــد هلل‪ ،‬ويقــول مــواله‪ :‬يــا أمـ َ‬
‫بــت ليــس هــذا هــو‪ ,‬يقــول اهلل‪:‬ﱫ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬ ‫فقــال عمــر‪ :‬ك ََذ َ‬
‫(((‬
‫ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﱪ [يونــس‪ ،.]58 :‬وهــذا ممــا جيمعــون»‬
‫ـار‬ ‫ٍ‬
‫وقــال أمحــد بــن أيب احلــواري‪« :‬إين ألقــرأ القــرآن فأنظـ ُـر يف آيــة منــه ف َي َحـ ُ‬
‫ِ‬ ‫وأعجـ ِ‬
‫أن‬
‫ـم النــوم‪ ،‬و ُيســيغهم ْ‬ ‫عقــي فيهــا‪ُ َ ْ َ ،‬‬
‫ـب مــن ُح َّفــاظ القــرآن! كيــف َينْيِ ِهـ ُ‬
‫ـيء ِمــن الدنيــا‪ ،‬وهــم يتكلمــون كالم الرمحــن‪َ ،‬أ َمــا لــو فهمــوا مــا‬ ‫يشــتغلوا بـ ٍ‬
‫لذهــب عنهــم‬‫َ‬ ‫واســت َْح َلوا املناجــاة بــه؛‬
‫يتلــون‪ ،‬وعرفــوا حقــه‪ ،‬وتلــذذوا بــه‪ْ ،‬‬
‫ووفقــوا»(((‪.‬‬ ‫فرحــا بــا ُر ِز ُقــوا ُ‬
‫النــوم ً‬
‫وأنشد ذو النون املرصي‪:‬‬
‫ون بِ َل ْيلِ َها َل َ ْت َجع‬
‫ــــل ا ْل ُع ُي ِ‬
‫ُم َق َ‬ ‫يـد ِه‬
‫ـده وو ِع ِ‬ ‫ِ‬
‫ان بِ َو ْع َ َ‬ ‫َــع القــ َُر ُ‬
‫َمن َ‬
‫ـــاب َو َ ْت َض ُع‬ ‫ِ‬ ‫ك ا ْل َعظِيــ ِم ك ََل َم ُه‬
‫َف ِهموا ع ِن ا َْللِ ِ‬
‫ُ‬ ‫َف ْه ًم تَذ ُّل َل ُه ِّ‬
‫الر َق‬ ‫ُ َ‬
‫(((‬

‫ـذ مــن‬‫ـل الليــل يف ليلهــم ألـ ُّ‬ ‫وقــال أبــو ســليامن الــداراين رمحــه اهلل‪« :‬أهـ ُ‬
‫أحببــت البقــاء يف الدنيــا»(((‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أهــل اللهــو يف هلوهــم‪ ،‬ولــوال الليــل مــا‬
‫وقــال بعــض الســلف‪« :‬مســاكني أهــل الدنيــا‪ :‬خرجــوا ِمــن الدنيــا ومــا‬
‫ـب مــا فيهــا‪ .‬قالــوا‪ :‬ومــا أطيــب مــا فيهــا؟ قــال‪ :‬حمبــة اهلل‪ ،‬واألُنــس‬ ‫ذاقــوا أطيـ َ‬
‫ـواه»(((‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بــه‪ ،‬والشــوق إىل لقائــه‪ ،‬واإلقبــال عليــه‪ ،‬واإلعــراض َعـ َّـا سـ َ‬
‫ـش مــع‬ ‫وهــذا الشــوق واألُنــس بــاهلل واإلقبــال عليــه‪ ،‬أعظـ ُ‬
‫ـم بواعثــه العيـ ُ‬
‫القــرآن وتدبــره والتنعــم بتالوتِــه‪.‬‬
‫لقــد فهــم الســلف الصالــح هــذا املعنــى ووعــوه؛ فأثمــر ذلــك لدهيــم‬
‫(‪ )1‬تفسري ابن أيب حاتم (‪.)1960/6‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه السلمي يف طبقات الصوفية (ص‪ ،)94:‬وأبو نعيم يف حلية األولياء (‪.)22/10‬‬
‫(‪ )3‬ينظر‪ :‬حلية األولياء (‪.)369/9‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه أبو نعيم يف احللية (‪ ،)275/9‬وابن عساكر يف تاريخ دمشق (‪.)146/34‬‬
‫(‪ )5‬ذكره ابن القيم يف مدارج السالكني (‪ ،)454/1‬وابن رجب يف جامع العلوم واحلكم (ص‪،)189‬‬
‫وينظر‪ :‬إحتاف القاري للدهامي ص (‪.)130-129‬‬
‫‪12‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫ـرآن يف مواسـ ِم النفحــات‪ ،‬وكان لدهيــم بقراءتــه‬‫ـة الذهــن للقـ ِ‬ ‫ِهــا طاحمـ ًة لتخليـ ِ‬
‫ً‬
‫ي كــدوي النحــل ِمــن التأثــر‪.‬‬
‫عجائــب‪ ،‬وكان ُيســمع هلــم بــه َد ِو ٌّ‬
‫أن العيـ َ‬
‫ـش مــع القــرآن وتدبــره وتفهــم معانيــه‬ ‫ـتيقن َّ‬
‫أن نسـ َ‬
‫إن علينــا مجي ًعــا ْ‬
‫َّ‬
‫والعمــل بــه‪ ،‬هــو مقصــود التــاوة‪ ،‬كــا أدرك ذلــك ســل ُفنا الصالــح‪.‬‬
‫«إن َمــن كان قبلكــم رأوا القــرآن رســائل‬ ‫قــال احلســن البــري رمحــه اهلل‪َّ :‬‬
‫ِ‬
‫مــن رهبــم‪ ،‬فكانــوا يتدبروهنــا يف الليــل‪ ،‬و ُينَ ِّف ُذ َ‬
‫ونَــا يف النهــار»(((‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فأ ْطلِـ ْ‬
‫ب(((مــن رياحــن القــرآن‪،‬‬ ‫وحهــا؛ لت ُع َّ‬ ‫ـق لنفســك ‪-‬أهيــا ا ُملو َّفــق‪ُ -‬ر َ‬
‫ـل ذهنــك للقــرآن؛ كــي تعيــش معــه ُفيفــرف قلبــك يف ِقمــم‬ ‫وأخـ ِ‬‫وفـ ِّـرغ قلبــك‪ْ ،‬‬
‫الســعادة‪ ،‬فتفــوز فــوزًا عظيـ ًـا‪.‬‬

‫(‪ )1‬ذكره الغزايل يف إحياء علوم الدين (‪ ،)275/1‬وينظر‪ :‬التبيان يف آداب محلة القرآن ص (‪.)28‬‬
‫(‪ )2‬العب‪ :‬رشب املاء بعنف وتتابع يف اجلرعات من غري مص وال تنفس‪ .‬ينظر‪ :‬كتاب العني (‪،)93/1‬‬
‫مجهرة اللغة (‪.)73/1‬‬
‫‪13‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫الس ُ‬
‫ِّمة الثالثة‬

‫وص ُ‬
‫دق إقبالِه‬ ‫القلب ِ‬ ‫ُ‬
‫مجعية ِ‬
‫يســتقيم‬
‫ُ‬ ‫والقلــب ال‬
‫ُ‬ ‫إن غايــ َة االعتــكاف ومقصــو َده‪ :‬اســتقام ُة القلــب‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وس ـ َبح‬ ‫ـرف عــن اهلل َ‬ ‫َ‬ ‫رصاط اهلل إال بإقبالِــه ب ُك ِّليتــه عــى اهلل‪ ،‬ومتــى مــا انـ‬ ‫ِ‬ ‫عــى‬
‫ـدة عنــه؛ فقــد فاتــه املقصــو ُد ِمــن االعتــكاف‪ ،‬ولــو كان اجلســدُ‬ ‫ـتات بعيـ ٍ‬ ‫يف أشـ ٍ‬
‫عاك ًفــا‪.‬‬
‫ســره إىل اهلل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫طريــق‬ ‫القلــب واســتقامتُه عــى‬ ‫ِ‬ ‫صــاح‬
‫ُ‬ ‫وهلــذا؛ « َّملــا َ‬
‫كان‬
‫ـة عــى اهللِ تعاىل‪،‬‬ ‫تعــاىل‪ ،‬متو ِّق ًفــا عــى ج ِعيتــه عــى اهلل‪ ،‬و َلـــم َشـعثِه بإقبالِــه بال ُك ِّليـ ِ‬
‫ِّ ْ‬ ‫َ َّ‬
‫ـول الطعــا ِم‬ ‫ـال عــى اهللِ تعــاىل‪ ،‬وكان فضـ ُ‬ ‫ـب ال َي ُل ُّمــه إال اإلقبـ ُ‬ ‫ـعث القلـ ِ‬ ‫ـإن شـ َ‬ ‫فـ َّ‬
‫وفضــول املنــامِ‪ ،‬ممــا‬ ‫ُ‬ ‫وفضــول الــكالمِ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وفضــول خمالطــة األنــامِ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫والــراب‪،‬‬
‫ـن سـ ِ‬ ‫يزيــدُ ه َش ـع ًثا‪ ،‬ويش ـتِّته يف ِّ ٍ‬
‫ـره إىل اهللِ تعــاىل‪ ،‬أو ُيضع ُفــه‬ ‫كل واد‪ ،‬وي ْق َط ُعــه عـ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫رشع هلــم مــن‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اقتضــت رمحــ ُة‬ ‫أو َي ُعو ُقــه ويوق ُفــه؛‬
‫أن َ‬ ‫العزيــز الرحيــم بعبــاده ْ‬ ‫ْ‬
‫ـاط‬ ‫ـب أخـ َ‬ ‫ـراب‪ ،‬ويســتفر ُغ ِمــن القلـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـول الطعــا ِم والـ‬ ‫ـب فضـ َ‬ ‫الصــو ِم مــا ُيذهـ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـره إىل اهللِ تعــاىل‪ ،‬ورشعــه ب ْقـ ِ‬ ‫ـن سـ ِ‬ ‫ِ‬
‫بحيث‬ ‫ُ‬ ‫ـدر املصلحــة‪،‬‬ ‫عوقــة لــه عـ ْ‬ ‫الشــهوات ا ُمل ِّ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫مصاحلــه العاجلــة‬ ‫ـره وال َي ْق َط ُعــه عـ ْ‬
‫ـن‬ ‫ـع بــه العبــدُ يف ُدنيــاه وأخــراه‪ ،‬وال َيـ ُ ُّ‬ ‫ينتفـ ُ‬
‫واآلجلــة‪.‬‬
‫القلــب عــى‬ ‫ِ‬ ‫عكــوف‬
‫ُ‬ ‫وروحــه‬ ‫ُ‬ ‫االعتــكاف الــذي مقصــو ُده‬ ‫َ‬ ‫ورشع هلــم‬
‫عــن االشــتغال باخللــق‪،‬‬ ‫واالنقطــاع ْ‬‫ُ‬ ‫وجعيتُــه عليــه‪ ،‬واخللــو ُة بــه‪،‬‬ ‫اهللِ تعــاىل‪َ ،‬‬
‫ـال عليــه يف‬ ‫وح ُّب ـ ُه‪ ،‬واإلقبـ ُ‬ ‫ـر ذكـ ُـر ُه ُ‬ ‫ـث يصـ ُ‬ ‫ـتغال بــه وحــده ســبحانه بحيـ ُ‬ ‫واالشـ ُ‬
‫ِ‬
‫ـم ك ُّلــه بــه‪،‬‬ ‫ـر َاهلـ ُّ‬ ‫ـل ُهــوم القلــب وخطراتــه‪ ،‬فيســتويل عليــه َبدَ هلــا ‪ ،‬ويصـ ُ‬ ‫َمـ ِّ‬
‫(((‬

‫فيصري‬ ‫ـرب منــه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ـره‪ ،‬والتفكـ ُـر يف حتصيـ ِ‬ ‫ـرات ك ُّلهــا بذكـ ِ‬
‫ُ‬ ‫ـل َم َراضيــه ومــا ُيقـ ُ‬ ‫واخلطـ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـن ُأنســه باخللــق‪ ،‬ف ُيعــدُّ ه بذلــك ألُنســه بــه يــو َم الوحشــة يف‬ ‫ِ‬ ‫ُأنســه بــاهلل بـ ً‬
‫ـدل عـ ْ‬
‫ـكاف‬ ‫القبــور حــن ال َأنيــس لــه‪ ،‬وال مــا يفــرح بــه ســواه‪ ،‬فهــذا مقصــود االعتـ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫األعظ ـمِ»(((‪.‬‬
‫(‪ )1‬أي‪ :‬بدل اهلموم واخلطرات‪.‬‬
‫(‪ )2‬زاد املعاد (‪.)83 ،82/2‬‬
‫‪14‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫الس ُ‬
‫ِّمة الرابعة‬

‫استشعا ُر مَعيَّ ِة اهلل لعب ِده‬

‫قــال تعــاىل‪ :‬ﱫ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﱪ‬


‫ـن اطــاع‬
‫[الشــعراء‪ ]219 ،218 :‬إهنــا آيــة عظيمــة َيســتوحي منهــا العبــدُ املؤمـ ُ‬
‫اهلل عليــه يف كل تقلباتِــه وأحوالِــه وعباداتِــه‪« ،‬أي يــراك يف هــذه العبــادة العظيمــة‬
‫بالذكـ ِ‬
‫ـر‬ ‫وخصهــا ِّ‬‫َّ‬ ‫التــي هــي الصــاة وقــت قيامــك وتقلبــك راك ًعــا وســاجدً ا‪،‬‬
‫خشــع و َذل»(((‪.‬‬
‫َ‬ ‫وألن َمــن اســتحرض فيهــا ُق َ‬
‫ــرب ر ِّبــه‬ ‫لفضلهــا ورشفهــا؛ َّ‬
‫وهــذه اآليـ ُة الكريمــة جــاءت يف آخــر ســورة الشــعراء بعــد ْأمــر النبــي ‪‬‬
‫أن‬‫ـكأن يف هــذا إملاحــة إىل َّ‬ ‫ِ‬
‫والتــوكل عــى اهلل؛ فـ َّ‬ ‫ـق‬‫ـذار والثبــات عــى احلـ ِّ‬ ‫باإلنـ ِ‬
‫لعبــده واطالعــه عليــه حــن القيــام بالعبــادة‪ ،‬هــو زا ٌد‬ ‫ِ‬ ‫اســتحضار َمع َّيــة اهلل‬
‫َ‬
‫ويــي عنــه‬ ‫ــل ســخيمتَه‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬
‫طريقــه إىل اهلل‪ ،‬و َي ُس ُّ‬ ‫قلــب املؤمــن يف‬ ‫ُروحــي ُيســي‬
‫َ‬
‫صخــب احليــاة وكدرهــا وعذاباهتــا‪.‬‬
‫إن اســتحضار هــذه املع َّيــة ومراقبــة اهلل لعبــده وعلمــه بحالــه‪ ،‬وإحاطتــه‬
‫َّ‬
‫ـل بإزالـ ِ‬
‫ـة الغشــاوة عــن القلــب وزوال‬ ‫بــره وعالنيتــه‪ ،‬وقولــه وعملــه؛ هلــو كفيـ ٌ‬
‫غبــار أوضــار الدنيــا؛ ليحــل حملهــا اإلخــاص الــذي يلفــه ســياج الصــدق مــع‬
‫ِ‬
‫الرقابــة‬ ‫فــإن َمــن كان هبــذه املنزلــة يف‬
‫اهلل وابتغــاء ثوابــه وعطائــه األخــروي‪َّ ،‬‬
‫ألن‬
‫الذاتيــة عنــد أداء العبــادة ال تتطلــع مهتــه إال إىل أعــى املنــازل يف اآلخــرة؛ َّ‬
‫ـيم تــذروه الريــاح‪،‬‬
‫ـح هشـ ً‬
‫الدنيــا وحظوظهــا باستشــعار مع َّيــة اهلل ورقابتــه تُصبـ ُ‬
‫وإذا غابــت الرقابــة أو ضعفــت يف قلــب العبــد هجمــت عليــه نــوازع النفــس‬
‫ـته يف يــوم مسـ ٍ‬
‫ـغبة وغيــاب رقيـ ٍ‬
‫ـب‪.‬‬ ‫هجــوم األســد الضــاري عــى فريسـ ِ‬

‫(‪ )1‬تيسري الكريم الرمحن ص(‪.)599‬‬


‫‪15‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫الس ُ‬
‫ِّمة اخلامسة‬ ‫­‬

‫تعظيم اهلل تعاىل‬


‫ُ‬
‫أن تكــون قائمــة عــى توقــره وتعظيمــه‬ ‫َ‬
‫األصــل يف عبوديتنــا هلل ‪ْ ‬‬ ‫إن‬
‫َّ‬
‫بوابــات مباركــ ٌة‬
‫ٌ‬ ‫واالعتــكاف؛‬
‫ُ‬ ‫ــر ُه الفاضــات‪،‬‬ ‫ورمضــان‪ ،‬و َع ْ ُ‬
‫ُ‬ ‫وإجاللِــه‪،‬‬
‫ـات‬‫ورثـ ِ‬
‫لتنميــة هــذا التوقــر والتعظيــم يف قلوبِنــا‪ ،‬وهــذه املناســبات ِمــن أعظـ ِم ُم ِ‬
‫هــذا املطلـ ِ‬
‫ـب اجلليــل‪.‬‬
‫قــال ابــن عبــاس ‪ ‬يف معنــى قولــه تعــاىل‪:‬ﱫ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﱪ‬
‫ـق عظمتــه»(((‪ ،‬فحــق التوقــر‪ :‬التعظيم‬ ‫[نــوح‪« :]13 :‬مــا لكــم ال تَع ِّظمـ َ‬
‫ـون اهلل حـ َّ‬
‫يف القلــب‪ ،‬وحــق التعظيــم بالقلــب‪ :‬الطاعــة باجلــوارح(((‪.‬‬
‫الســنة التــي جــاء فيهــا‬
‫املؤمــن آيــات القــرآن وأحاديــث ُّ‬
‫ُ‬ ‫وكلــا تدبــر‬
‫وتعظيــا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إجــال هلل‬ ‫ذكــر أســاء اهلل احلســنى وعظمتــه وجاللــه؛ انخلــع قل ُبــه‬
‫لــه‪ ،‬يتلــو قــول اهلل ســبحانه‪ :‬ﱫ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ‬
‫ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﱪ [الز َُّمــر‪ ،]67 :‬فتنســاب إىل قلبــه‬
‫ـاعر مــن تعظيــم اهلل وإجاللــه‪ ،‬مشــاعر فياضــة تســتخرج رواســب التعلــق‬
‫مشـ ُ‬
‫ـكن لغــر إجــال اهلل‪.‬‬
‫بالدنيــا واإلخــاد إليهــا‪ ،‬فــا يبقــى يف القلــب سـ ٌ‬
‫يقــرأ قولــه ســبحانه‪ :‬ﱫ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ‬
‫ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ‬
‫ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﱪ[األنعــام‪ ،]59 :‬يتأمـ ُ‬
‫ـل هــذه اآليــة ويقــف‬
‫عنــد معانيهــا فتسـ ُ‬
‫ـتجيش يف قلبــه أطيــاف الشــعور بعظمــة هــذا الــكالم وعظمــة‬
‫املتك ِّلــم بــه ســبحانه‪.‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه الطربي يف جامع البيان (‪.)634/23‬‬
‫(‪ )2‬ينظر‪ :‬روح الصيام ومعانيه‪ ،‬للدكتور‪/‬عبدالعزيز كامل ص (‪.)89‬‬
‫‪16‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫إنــه «كالم اهلل‪ ،‬وقــد َ َتـ َّ‬
‫ـى اهلل فيــه لعبــاده بصفاتــه‪ ،‬فتــارة َيت ََجـ َّ‬
‫ـى يف جلبــاب‬
‫اهليبــة والعظمــة واجلــال‪ ،‬فتخضــع األعنــاق‪ ،‬وتنكــر النفــوس‪ ،‬وختشــع‬
‫ـر كــا يــذوب امللــح يف املــاء‪ ،‬وتــارة َيت ََجـ َّ‬ ‫ِ‬
‫ـى يف صفــات‬ ‫األصــوات‪ ،‬ويــذوب الكـ ْ ُ‬
‫اجلــال والكــال‪ ،‬وهــو كــال األســاء ومجــال الصفــات ومجــال األفعــال الـ ُّ‬
‫ـدال‬
‫عــى كــال الــذات‪ ،‬فيســتنفد ح ُّبــه مــن قلــب العبــد قــو َة احلــب كلهــا بحــب مــا‬
‫عرفــه مــن صفــات مجالــه ونعــوت كاملــه؛ فيصبــح فــؤاد عبــده فار ًغــا إال مــن‬
‫حمبتــه‪ ،‬فــإذا أراد منــه الغــر أن يعلــق تلــك املحبــة بــه أبــى قلبــه وأحشــاؤه ذلــك‬
‫كل اإلبــاء كــا قيــل‪:‬‬
‫ب نِسيا ُنكُم ‪ .........‬وت َْأبى ال ِّطباع ع َل الن ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاق ِل‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُي َرا ُد م َن ا ْل َق ْل ِ ْ َ ْ‬
‫فتبقــى املحبــة لــه طب ًعــا ال تكل ًفــا‪ ،‬وإذا جتــى بصفــات الرمحــة والــر‬
‫واللطــف واإلحســان انبعثــت قــوة الرجــاء مــن العبــد وانبســط أملــه‪ ،‬وقــوي‬
‫طمعــه‪ ،‬وســار إىل ربــه وحــادي الرجــاء حيــدو ركاب ســره‪ ،‬وكلــا قــوي‬
‫الرجــاء جــد يف العمــل‪ ،‬كــا أن البــاذر كلــا قــوي طمعــه يف ا ُملغ ِّ‬
‫َــل((( َغ َّلــق‬
‫أرضــه بالبــذر‪ ،‬وإذا ضعــف رجــاؤه َق َّ‬
‫ــر يف البــذر‪...‬‬
‫وإذا جتــى بصفــات العــز والكربيــاء أعطــت نفســه املطمئنــة مــا وصلــت‬
‫الــذ ِّل لعظمتــه‪ ،‬واالنكســار لعزتــه‪ ،‬واخلضــوع لكربيائــه‪ ،‬وخشــوع‬ ‫إليــه مــن ُّ‬
‫القلــب واجلــوارح لــه‪ ،‬فتعلــوه الســكينة والوقــار يف قلبِــه ولســانه وجوارحــه‬
‫ـمتِ ِه‪ ،‬ويذهــب طيشــه وت َْو ُقــه وحدتــه‪.‬‬
‫وسـ ْ‬
‫َ‬
‫ومجــاع ذلــك أنــه ســبحانه يتعــرف إىل العبــد بصفــات إهليتــه تــارة‪،‬‬
‫وبصفــات ربوبيتــه تــارة‪ ،‬فيوجــب لــه شــهود صفــات اإلهليــة املحبــة اخلاصــة‪،‬‬
‫والشــوق إىل لقائــه‪ ،‬واألُنــس والفــرح بــه واملنافســة يف قربــه‪ ،‬والتــودد إليــه‬

‫ي َّص ُل من الزرع والثمر‪ .‬ينظر‪ :‬النهاية يف غريب احلديث واألثر (‪،)381/3‬‬


‫املغل أو ال َغ َّلة‪ :‬الدَّ ْخل الذي ُ َ‬
‫(‪ُّ )1‬‬
‫ولسان العرب (‪.)504/11‬‬
‫‪17‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫بطاعتــه‪ ،‬واللهــج بذكــره‪ ،‬والفــرار مــن اخللــق إليــه‪ ،‬ويصــر هــو وحــده مهــه‬
‫دون مــا ســواه‪ ،‬و ُيوجــب لــه شــهود صفــات الربوبيــة؛ التــوكل عليــه‪ ،‬واالفتقــار‬
‫إليــه‪ ،‬واالســتعانة بــه‪ ،‬والــذل واخلضــوع واالنكســار لــه»(((‪.‬‬
‫ـث عبــد اهلل بــن عمــرﭭ قــال‪ :‬قــال‬ ‫ـن حديـ َ‬ ‫ـرأ املؤمـ ُ‬‫الســنة الغــراء يقـ ُ‬ ‫ويف ُّ‬
‫ــد ِه‬
‫ــة‪ُ ،‬ثــم ي ْأ ُخ ُذهــن بِي ِ‬
‫ُ َّ َ‬ ‫َّ َ‬
‫ات يــوم ا ْل ِقيام ِ‬
‫ــا َو َ ْ َ َ َ‬
‫ِ‬
‫الس َ‬‫ــوي اهللُ ‪َّ ‬‬ ‫رســول اهلل ﷺ‪َ « :‬ي ْط ِ‬
‫ون‪ُ .‬ث َّ‬
‫ــم‬ ‫َب َ‬
‫ـــم َتك ِّ ُ‬ ‫ون؟ َأ ْي َ‬
‫ــن ا ْل ُ‬ ‫ك‪َ ،‬أ ْي َ‬
‫ــن ا ْل َ‬
‫ـــج َّب ُار َ‬ ‫ـــملِ ُ‬
‫ــول‪َ :‬أنَــا ا ْل َ‬
‫ــم َي ُق ُ‬
‫ا ْل ُي ْمنَــى‪ُ ،‬ث َّ‬
‫ــن‬ ‫ون؟ َأ ْي َ‬ ‫ك َأ ْي َ‬
‫ــن ا ْل َ‬
‫ـــج َّب ُار َ‬ ‫ـــملِ ُ‬
‫ــول‪َ :‬أنَــا ا ْل َ‬
‫ــم َي ُق ُ‬ ‫ــوي ْالَر ِضــن بِ ِش ِ ِ‬
‫ــاله‪ُ ،‬ث َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َي ْط ِ‬
‫ون؟»(((‪ ،‬ف ُي َق ِّلــب الطــرف يف أرسار هــذا احلديــث‪ ،‬و ُيــرح قلبــه يف‬ ‫َب َ‬ ‫ا ْل ُ‬
‫ـــم َتك ِّ ُ‬
‫ظــال معانيــه‪ ،‬ف َيتَم َّلكُــه شــعور باهليبــة واإلجــال لــذي اجلــال ‪ ، ‬إهنــا‬
‫مشــاعر ســمو وعلــو‪ ،‬يرتفــع هبــا القلــب إىل ُذ َرى املقامــات؛ جــراء ســطوة هــذه‬
‫النصــوص التــي تســتفز القلــب؛ فينبعــث منــه تعظيــم اهلل وخشــيته وإجاللــه‪.‬‬
‫ـل يف عــاه؟!‪،‬‬‫فكيــف ال يكــون القلــب عاك ًفــا وقــد امتــأ تعظيـ ًـا هلل جـ َّ‬
‫أن القلــب إذا امتــأ بذلــك توصــل إىل ُلـ ِّ‬
‫ـب االعتــكاف وحقيقتــه‪.‬‬ ‫فــا ريــب َّ‬

‫(‪ )1‬الفوائد البن القيم ص (‪. )70 – 69‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه البخاري (‪ )123/9‬رقم (‪ ،)7412‬ومسلم (‪ )2148/4‬رقم (‪ ،)2788‬واللفظ له‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫الس ُ‬
‫ِّمة السادسة‬

‫افتقا ُر العب ِد إىل ربِّه وشعو ُره باحلاج ِة إليه‬


‫­‬
‫ـوت اهلل‪ ،‬اعتــكاف قلــب‪ ،‬صورة حية ملشــهد‬ ‫ـت ِمــن بيـ ِ‬‫ـكاف يف بيـ ٍ‬
‫إن االعتـ َ‬ ‫َّ‬
‫ـاره ملــواله‪ ،‬وال تتــم العبود َّيــة إال «بتكميـ ِ‬
‫ـل مقــام الــذل واالنقياد‪،‬‬ ‫ُذ ِّل العبـ ِ‬
‫ـد وافتقـ ِ‬
‫ذل هلل وانقيــا ًدا وطاعــة‪ ،‬والعبــد ذليـ ٌ‬
‫ـل ملــواله‬ ‫ـل اخللــق عبودي ـ ًة أكم ُلهــم ًّ‬
‫وأكمـ ُ‬
‫ـكل وجــه ِمــن وجــوه الــذل‪ ،‬فهــو ذليــل لعــزه‪ ،‬وذليــل لقهــره‪ ،‬وذليــل‬ ‫احلــق بِـ ِّ‬
‫لربوبيتــه فيــه وترصفــه‪ ،‬وذليــل إلحســانِه إليــه وإنعامــه عليــه»(((‪.‬‬
‫ومــن رمحتــه‬ ‫إن العبــدَ كلــا انكــر بــن يــدي مــواله كان قريبــا ِمــن اهلل‪ِ ،‬‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫أقــرب اجلــر ِمــن‬
‫َ‬ ‫ويديــه وجيــر كــر قلبــه «فــا‬ ‫ونــره وعطايــاه‪ُ ،‬يوفقــه َ‬
‫القلــب املكســور! ومــا أدنــى النــر والرمحــة والــرزق منــه! ومــا أنفــع‬ ‫ِ‬ ‫هــذا‬
‫ـب إىل اهللِ ِمــن‬
‫ـس منــه أحـ ُّ‬
‫ِ‬
‫هــذا املشــهد لــه وأجــداه عليــه! و َذر ٌة مــن هــذا و َن َفـ ٌ‬
‫ِ‬
‫وأحواهلــم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وعلومهــم‬ ‫ِ‬
‫بأعامهلــم‬ ‫ـات أمثــال اجلبــال ِمــن ا ُمل ِد ِّلــن((( ا ُملعجبــن‬‫طاعـ ٍ‬
‫ـب قــد متكنــت منــه هــذه الكــرة‪ ،‬وملكتــه‬ ‫ـب القلـ ِ‬
‫ـوب إىل اهلل ســبحانه قلـ ٌ‬ ‫وأحـ ُّ‬
‫ـاء‬
‫رأســه إليــه حيـ ً‬
‫ـع َ‬ ‫ـس الـ ِ‬
‫ـرأس بــن يــدي ر ِّبــه‪ ،‬ال يرفـ ُ‬ ‫هــذه الذلــة‪ ،‬فهــو ناكـ ُ‬
‫وخجــا ِمــن اهلل»(((‪.‬‬
‫ً‬
‫مالزمــا‬ ‫منكــرا بــن يديــه‪،‬‬ ‫يكــون‬
‫َ‬ ‫أن‬ ‫ِ‬
‫عبــده ْ‬ ‫إن اهلل ســبحانه ُيــب ِمــن‬ ‫َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تســتقيم لــه حــال إال‬ ‫القلــب ال‬ ‫إن‬
‫دومــا إليــه‪ ،‬بــل َّ‬ ‫ِ‬
‫حلالــة ُّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫مفتقــرا ً‬
‫ً‬ ‫الــذل لــه‪،‬‬
‫«فالقلــب ال يصلــح وال‬
‫ُ‬ ‫وروحهــا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ــب العبوديــة‬ ‫ِ‬
‫باالفتقــار إىل اهلل الــذي هــو ُل ُّ‬
‫يفلــح‪ ،‬وال َيلتــذ‪ ،‬وال ُيــر‪ ،‬وال يطيــب‪ ،‬وال يســكن‪ ،‬وال يطمئــن إال بعبــادة‬
‫ربــه‪ ،‬وحبــه واإلنابــة إليــه‪ ،‬ولــو حصــل لــه كل مــا يلتــذ بــه ِمــن املخلوقــات مل‬
‫(‪ )1‬مفتاح دار السعادة (‪.)289/1‬‬
‫املن بالعطاء‪ .‬ينظر‪ :‬هتذيب اللغة (‪ ،)48/14‬لسان العرب (‪.)248/11‬‬
‫(‪ )2‬اإلدالل‪ُّ :‬‬
‫(‪ )3‬مدارج السالكني (‪.)428/1‬‬
‫‪19‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫يطمئــن‪ ،‬ومل يســكن‪ ،‬إذ فيــه فقــر ذايت إىل ر ِّبــه‪ِ ،‬مــن حيــث هــو معبــوده‪ ،‬وحمبوبه‪،‬‬
‫ومطلوبــه»(((‪.‬‬
‫وكلــا تعمــق شــعور العبــد بحاجتِــه إىل اهلل‪ ،‬دفعــه إىل اإلنابــة‪ ،‬واســتكانة‬
‫القلــب‪ ،‬وعكوفــه عــى حمبــة اهلل وكثــرة ذكــره وشــكره ومحــده ومتجيــده والثنــاء‬
‫عليــه‪ ،‬وهــذه ســمة املؤمــن يف حياتــه‪ ،‬ويف ســائر أوقاتــه‪ ،‬وحــال بيعــه ورشائــه‪،‬‬
‫ومــع أهلــه وخالنــه‪ ،‬فكيــف بــه وهــو يف صلــب ميــدان املنافســة‪ ،‬ويف ليــايل‬
‫الرمحــات‪ ،‬وتنــزل اهلبــات‪ ،‬وهــو عاكــف بقلبــه وجســده عــى طاعــة ربــه‪،‬‬
‫حينــا يصــل إىل «صفــاء العبوديــة‪ ،‬وعــارة الــر بينــه وبــن اهلل‪ ،‬وخلــوص‬
‫ـع‬ ‫ـم لــه غــر ربــه‪ ،‬فقــد ق َطــع ُّ‬
‫مهــه بر ِّبــه عنــه مجيـ َ‬ ‫الــود؛ ف ُيصبــح و ُيمــي وال َهـ َّ‬
‫اهلمــوم‪ ،‬وعطلــت إراداتــه مجيــع اإلرادات‪ ،‬ونســخت حمبتــه لــه مــن قلبــه كل‬
‫حمبــة لســواه»(((‪.‬‬
‫ـن حينــا يتيقــن حاجتــه إىل ربــه‪ ،‬ويستشــعر أهنا أهــم الرضوريات‪،‬‬
‫إن املؤمـ َ‬
‫َّ‬
‫ـاء العبوديــة‪ ،‬وإىل ِ‬
‫لذة اخللــوة باهلل‪.‬‬ ‫يصــل إىل نقـ ِ‬
‫ـل بــن يديــه‪،‬‬ ‫ـة إىل التذلـ ِ‬‫إنــه حينــا يستشــعر فقــره إىل اهلل‪ ،‬ومســيس احلاجـ ِ‬
‫ـة قلــب؛ ســيجد عا ًملــا آخــر ِمــن نعيــم األرواح‪،‬‬ ‫ـدق ومجعيـ ِ‬
‫ويندفــع إىل ذلــك بصـ ٍ‬
‫ولــذة النفــس‪ ،‬و ُقــرة العــن‪ ،‬نعيـ ًـا للعبــادة «ال ينا ُلــه الوصــف‪ ،‬وال يدر ُكــه َمـ ْ‬
‫ـن‬
‫ِ‬
‫االلتــذاذ بــه‬ ‫ــن كان بــه أقــوم كان نصي ُبــه ِمــن‬ ‫َصيــب منــه‪ُّ ،‬‬
‫وكل َم ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ليــس لــه ن‬
‫يكــن عنــده‬‫ْ‬ ‫«والقلــب إذا ذاق طعــم عبــادة اهلل واإلخــاص لــه‪ ،‬مل‬
‫ُ‬ ‫أعظــم»(((‪،‬‬
‫يشء قــط أحــى ِمــن ذلــك وال ألــذ وال أطيــب»(((‪.‬‬
‫ِ‬
‫ـر االعتــكاف لــزوم االفتقــار واالنكســار والتذلــل هلل‪ ،‬واالنطــراح‬ ‫إذن َفـ ُّ‬
‫عــى عتبــات عبوديتــه ســبحانه‪.‬‬
‫(‪ )1‬جمموع الفتاوى (‪.)194/10‬‬
‫(‪ )2‬طريق اهلجرتني ص (‪.)17‬‬
‫(‪ )3‬طريق اهلجرتني ص (‪.)59‬‬
‫(‪ )4‬جمموع الفتاوى (‪.)187/10‬‬
‫‪20‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫الس ُ‬
‫ِّمة السابعة‬

‫استحضا ُر مِنَّة اهلل وفضله‬


‫ِمــن روائــع الرتبيــة القرآنيــة يف أوائــل الدعــوة النبويــة مــا جــاء يف مطلــع‬
‫ســورة ا ُملدَّ ثــر‪ ،‬عندمــا أمــر اهلل نبيــه ‪ ‬بالنــذارة والدعــوة ثــم قــال لــه‪ :‬ﱫ ﯜ‬
‫ﯝ ﯞ ﯟ ﱪ [املدَّ ثــر‪.]6 :‬‬
‫إهنــا الوصيــة الربانيــة التــي جتــرد العبــد مــن االســتعالء بالعمــل‪ ،‬ومتــأ‬
‫ـتحضارا ملشــاهد ِمننــه التــي غمــرت حيــاة العبــد‪،‬‬
‫ً‬ ‫قلبــه مهابـ ًة وإجـ ً‬
‫ـال هلل‪ ،‬واسـ‬
‫ـم‪ ،‬ال َيعدُّ هــا عــاد‪ ،‬وال ُيصيهــا كتــاب‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫فــا مــن سـ ٍ‬
‫ـبيل إال وهلل عــى عبــده ن َعـ ٌ‬
‫ـن احلــق هــو َمــن ُيديــم اســتحضار مشــاهد ِمنَـ ِ‬
‫ـن ربــه عليــه؛ ألهنــا‬ ‫إن املؤمـ َ‬
‫َّ‬
‫قــد طوقــت املؤمــن طو ًقــا يمــأ األرض والســاء‪ ،‬فهــو الــذي أفــاض عليــه نِعـ ًـا‬
‫أعالهــا نعمــة اهلدايــة التــي يعجــز اللســان عــن الوفــاء بقدرهــا‪ ،‬حيــث أخرجــه‬
‫ــة الغــي إىل رحــاب‬ ‫ومــن ُل ِ‬
‫لمــة الضــال إىل نــور اهلدايــة‪ِ ،‬‬ ‫ربــه هبــا ِمــن ُظ ِ‬
‫ُّ‬
‫ـال إِ َّل مــن هدَ ي ُت ـه‪َ ،‬فاس ـتَهدُ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون َأ ْهد ُكـ ْ‬
‫ـم»(((‪.‬‬ ‫َ ْ َ ْ ُ ْ ْ‬ ‫ـم َضـ ٌّ‬
‫اإليــان‪َ « ،‬يــا ع َبــادي ُك ُّل ُكـ ْ‬
‫لــذا عتــب اهلل عــى َمــن غفــل عــن مشــاهدة ِمننــه‪ ،‬فقــال‪ :‬ﱫ ﯳ ﯴ ﯵ‬
‫ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﱪ [احلجــرات‪.]١٧ :‬‬
‫إهنــا تربيــة القــرآن التــي تُطهــر القلــب مــن االســتعالء‪ ،‬ومتحــو عنــه‬
‫ومنَّتِ ِ‬
‫ــه‪ ،‬كــا فقــه‬ ‫إجــال هلل واعرتا ًفــا بفضلــه ِ‬
‫ً‬ ‫مســارب((( اإلدالل(((‪ ،‬ومتلــؤه‬
‫ذلــك أولــو الفضــل مــن أمثــال عمــر ‪ ‬حينــا ُطعــن وقــال لــه عبــداهلل ابــن‬
‫اك‪َ ،‬ل َقــدْ ص ِ‬
‫َان َذ َ‬ ‫ِ‬ ‫عبــاس ‪ ‬مواس ـيا‪« :‬يـــــا َأ ِمــر الــ ِ ِ‬
‫ـت‬
‫ح ْبـ َ‬ ‫َ‬ ‫ني‪َ ،‬و َلئـ ْ‬
‫ـن ك َ‬ ‫ـم ْؤمن َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً َ‬

‫(‪ )1‬قطعة من حديث قديس أخرجه مسلم (‪ )1994/4‬رقم (‪.)2577‬‬


‫(‪ )2‬املسارب‪ :‬املراعي التي ترعى فيها الدواب ‪ .‬ينظر‪ :‬العني (‪.)249/7‬‬
‫املن بالعطاء‪ .‬ينظر‪ :‬هتذيب اللغة (‪ ،)48/14‬لسان العرب (‪.)248/11‬‬
‫(‪ )3‬اإلدالل‪ُّ :‬‬
‫‪21‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫اض‪ُ ،‬ثــم ص ِ‬ ‫ـول اهلل ‪َ ‬ف َأ ْح َسـن َ‬
‫ـت‬ ‫ح ْبـ َ‬ ‫ـك َر ٍ َّ َ‬ ‫ـو َعنْـ َ‬ ‫ـم َف َار ْق َتـ ُه َو ُهـ َ‬ ‫ْت ُص ْح َب َتـ ُه‪ُ ،‬ثـ َّ‬ ‫َر ُسـ َ‬
‫اض‪ُ ،‬ثــم ص ِ‬ ‫ْــك َر ٍ‬ ‫ْــر َف َأ ْح َســن َ‬ ‫َأ َبــا َبك ٍ‬
‫ــت‬ ‫ح ْب َ‬ ‫َّ َ‬ ‫ــو َعن َ‬ ‫ــم َف َار ْقتَــ ُه َو ُه َ‬ ‫ْت ُص ْح َبتَــ ُه‪ُ ،‬ث َّ‬
‫ــم َل ُت َف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــم َف َأ ْح َســن َ‬
‫ــم َعن َ‬
‫ْــك‬ ‫ــم َو ُه ْ‬ ‫ار َقن َُّه ْ‬ ‫ــن َف َار ْقت َُه ْ‬ ‫ــم‪َ ،‬و َلئ ْ‬ ‫ْت ُص ْح َبت َُه ْ‬ ‫َص َح َبت َُه ْ‬
‫ـول اهلل ‪َ ‬و ِر َضــا ُه‪َ ،‬فإِ َّنـ َـا َذ َ‬ ‫ـة رسـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـال‪َ :‬‬ ‫ـون‪َ ،‬قـ َ‬
‫اك‬ ‫ـن ُص ْح َبـ َ ُ‬ ‫«أ َّمــا َمــا َذ َكـ ْـر َت مـ ْ‬ ‫اضـ َ‬ ‫َر ُ‬
‫ـر َو ِر َضــا ُه‪،‬‬ ‫ـي‪ ،‬و َأمــا مــا َذ َكــر َت ِمــن صحبـ ِ‬
‫ـة َأ ِب َب ْكـ ٍ‬ ‫ـال مـ ِ‬ ‫مـ ِ‬
‫ْ ُ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ـن بِــه َعـ َ َّ َ َّ َ‬ ‫ـن اهلل َت َعـ َ َ َّ‬ ‫ـن مـ َ‬ ‫َ ٌّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـل ِذ ْكــره مـ ِ‬ ‫اك مـ ِ‬
‫ـن َجزَعــي َف ُهـ َ‬
‫ـو‬ ‫ـي‪َ ،‬و َأ َّمــا َمــا َتـ َـرى مـ ْ‬ ‫ـن بِــه َعـ َ َّ‬ ‫ُ ُ َ َّ‬ ‫ـن اهلل َجـ َّ‬ ‫ـن مـ َ‬ ‫َفإِ َّنـ َـا َذ َ َ ٌّ‬
‫ـت‬ ‫ض((( َذ َه ًبــا لَ ْفتَدَ ْيـ ُ‬ ‫ـو َأ َّن ِل طِـ َـا َع األَ ْر ِ‬ ‫ـك‪َ ،‬واهلل َلـ ْ‬ ‫ـل َأ ْص َحابِـ َ‬ ‫ـك َو َأ ْجـ ِ‬ ‫ـن َأ ْجلِـ َ‬ ‫مـ ْ‬
‫ِ‬
‫ـل َأ ْن َأ َرا ُه»(((‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫اب اهلل ‪َ ،‬ق ْبـ َ‬ ‫ـذ ِ‬ ‫ـن َعـ َ‬ ‫بِــه مـ ْ‬
‫ـب منابــت ال ُعجب‪ ،‬ويغســله‬ ‫ـل ِمــن القلـ ِ‬ ‫ـتحضار مشــهد ِمنَّــة اهلل ُيزيـ ُ‬ ‫َ‬ ‫إن اسـ‬ ‫َّ‬
‫ـاء نظي ًفــا يتزكــى باإليــان‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مــن درن اإلدالل‪ ،‬و ُيطهــره مــن الدنــس ليكــون وعـ ً‬
‫ويرتفــع بأعــال القلــوب‪ ،‬وينتفــع بأعــال اجلــوارح‪ ،‬أمــا إذا ُوجــدت هــذه‬
‫ـب صاحبهــا‬ ‫ـحق قلـ َ‬
‫األعــال مــع شــوائب ال ُعجــب واإلدالل بالعمــل‪ ،‬فإهنــا ت َْسـ ُ‬
‫ـم قــال اهلل ملــن َّ‬
‫أدل بعملــه‪َ « ،‬قــدْ‬ ‫ِ‬
‫ـن َثـ َّ‬
‫ـرا وال تــذر‪ ،‬ومـ ْ‬ ‫ســح ًقا‪ ،‬فــا تُبقــي فيــه خـ ً‬
‫ـت َع َم َلـ َ‬
‫ـك»(((‪.‬‬ ‫َغ َفـ ْـر ُت لِ ُفـ ٍ‬
‫ـان‪َ ،‬و َأ ْح َب ْطـ ُ‬
‫إعجــاب املــرء بعملــه وإداللــه بــه ســقطة ِمــن أشــنع الســقطات‬ ‫َ‬ ‫إن‬
‫َّ‬
‫ــت للرذائــل وشــتى األدواء واآلفــات‪.‬‬ ‫ومنْبِ ٌ‬
‫وأقبحهــا‪ ،‬إنــه حمرقــ ٌة للطاعــات‪َ ،‬‬
‫ـلف حيــاذرون ال ُعجــب ويفــرون منــه‪ ،‬قــال مطــرف بــن عبــداهلل‬ ‫وكان السـ ُ‬
‫ـت قائـ ًـا‬ ‫ـب إيل ِمــن ْ‬
‫أن أبيـ َ‬ ‫نادمــا‪ ،‬أحـ ُّ‬
‫ـح ً‬ ‫ـت نائــا ُ‬
‫وأصبـ َ‬ ‫ً‬ ‫«ألن أبيـ َ‬
‫بــن الشــخري‪ْ :‬‬
‫ُفأصبــح ُمعج ًبــا»(((‪.‬‬
‫ـت قائـ ًـا وتُصبــح‬ ‫نادمــا‪ ،‬خــر ِمــن ْ‬
‫أن تبيـ َ‬ ‫ـت نائـ ًـا وتُصبــح ً‬
‫أن تبيـ َ‬
‫«إنــك ْ‬
‫ض‪ :‬ملؤها‪ .‬ينظر‪ :‬مجهرة اللغة (‪ ،)915/2‬والصحاح (‪.)1254/3‬‬ ‫(‪ )1‬طِ َل ُع األَ ْر ِ‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري (‪ )12/5‬رقم (‪.)3692‬‬
‫(‪ )3‬حديث قديس أخرجه مسلم (‪ )2023/4‬رقم (‪ ،)2621‬من حديث جندب ‪ ،‬عن النبي ﷺ‪ ،‬عن ربه‪.‬‬
‫(‪ )4‬أخرجــه ابــن املبــارك يف الزهــد (‪ )151/1‬رقــم (‪ ،)448‬وأمحــد يف الزهــد ص (‪ )195‬رقــم (‪،)1342‬‬
‫وأبــو نعيــم يف احلليــة (‪.)200/2‬‬
‫‪22‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫أن تضحــك وأنــت‬ ‫فــإن ا ُملعجــب ال يصعــد لــه عمــل‪ ،‬وإنــك ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُمعج ًبــا‪،‬‬
‫ـد ٌّل‪ ،‬وأنــن املذنبــن أحــب إىل اهلل ِمــن‬
‫أن تبكــي وأنــت مـ ِ‬
‫ُ‬ ‫معــرف‪ ،‬خــر ِمــن ْ‬
‫زجل(((املســبحني املدلــن»(((‪.‬‬
‫وقـــدْ أهيــا ا ُمل ْعتكِف يف ذهنــك رشارة الشعور بمنة اهلل وتزكيته لك‪،‬‬
‫َفأ ِ‬

‫ﱫ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ‬
‫ﭵ ﭶ ﭷ ﱪ[النــور‪.]٢١ :‬‬

‫سمعت ز ََجل القوم أي أصواهتم‪ .‬واملراد تسبيح املسبحني‪ .‬ينظر‪ :‬البارع يف اللغة (ص‪)637 :‬‬
‫ُ‬ ‫(‪ )1‬يقال‪:‬‬
‫(‪ )2‬مدارج السالكني (‪.)195/1‬‬
‫‪23‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫الس ُ‬
‫ِّمة الثامنة‬

‫ُ‬
‫االعرتاف بالذن ِب والتقصري‬

‫ً‬
‫وتأمــا رسي ًعــا يف ابتهــاالت األنبيــاء والصاحلــن‬ ‫إن ملحــ ًة خاطفــ ًة‪،‬‬
‫َّ‬
‫رسا يكتنفهــا‪ ،‬أال وهــو اشــتامهلا عــى‬ ‫ُ‬
‫يكشــف لــك ًّ‬ ‫ومناجاهتــم وأدعيتهــم‪،‬‬
‫ـجل وصفحـ ٍ‬
‫ـات مرشقـ ًة مــن اعرتافهــم‬ ‫ـراف بالذنــب والظلــم‪ ،‬وإليــك ِسـ ًّ‬
‫االعـ ِ‬
‫بالذنــب والظلــم‪:‬‬
‫فهــذا آدم وحــواء يدعــوان‪ :‬ﱫ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬
‫ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﱪ [األعــراف‪.]٢٣ :‬‬
‫وهـــذا موسى ‪- ‬وهـــو ِمـــن ُأويل العــزم ِمن الرســـل‪ -‬يدعـو‪:‬‬
‫ﱫ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﱪ‬
‫[القصــص‪ ،]١٦ :‬وهــذا يونــس ‪ ‬يبتهــل إىل ر ِّبــه و ُيناجيــه معرت ًفــا بذنبــه‬
‫بــل بكونــه ِمــن الظاملــن‪ ،‬ﱫ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬
‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﱪ [األنبيــاء‪.]٨٧ :‬‬
‫وحينــا اسرتشــد الصديــق ‪ ‬النبــي ﷺ وقــال لــه‪ :‬علمنــي دعــاء أدعــو‬
‫ـرا‪َ ،‬و َل َيغ ِْفـ ُـر‬ ‫ِ‬ ‫بــه يف صــايت‪ ،‬قــال‪ُ « :‬قــل‪ :‬ال َّلهــم إِن َظ َلمـــ ُ ِ‬
‫ـت َن ْفســـــي ُظ ْلـ ًـا كَثـ ً‬ ‫ْ‬ ‫ُ َّ ِّ‬
‫ْــت‬ ‫حنِــي إِن َ‬
‫َّــك َأن َ‬ ‫ْــت‪َ ،‬فا ْغ ِفــر ِل مغ ِْفــر ًة ِم ِ ِ‬
‫ــن عنْــد َك‪َ ،‬و ْار َ ْ‬
‫ْ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫ُــوب إِ َّل َأن َ‬
‫الذن َ‬‫ُّ‬
‫يــم»(((‪.‬‬ ‫ال َغ ُفــور ِ‬
‫الرح ُ‬‫ُ َّ‬
‫إهنــا الرتبيــة النبويــة التــي حتــدُّ ِمــن اســتعالء العبــد‪ ،‬وجتعلــه دائــم‬
‫ـتحرضا ذنوبــه بــن عينيــه‪ ،‬وإذا‬
‫ً‬ ‫االفتقــار لربــه‪ ،‬دائــم االنكســار بــن يديــه مسـ‬
‫ـن هــو فضـ ًـا وإمامـ ًة‬
‫كانــت هــذه هــي وصيــة النبــي ﷺ أليب بكــر ‪ ‬وهــو َمـ ْ‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري (‪ )166/1‬رقم (‪ ،)834‬ومسلم (‪ )2078/4‬رقم (‪ )2705‬من حديث أيب بكر‬
‫الصديق ‪. ‬‬
‫‪24‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫وجاللــة ونــر ًة لدينــه وذ ًّبــا عــن نبيــه؛ فكيــف يكــون حالنــا ونحــن املذنبــون‬
‫املفرطــون؟!‬
‫ـا عــى ربــك‪،‬‬ ‫فالــز ْم أهيــا ا ُمل ْعتَكِــف هــذا املشــهد‪ ،‬معرت ًفــا بذنبــك‪ ،‬مقبـ ً‬
‫متيقنًــا مــن قلبــك أ َّنــك ِمــن الظاملــن‪ ،‬واجعــل هــذه الدعــوات املباركــة عــى‬
‫ــس((( هبــا بشــفتيك‪ ،‬وقل ُبــك ِمــن‬‫واحــذر أن َتنْبِ َ‬
‫ْ‬ ‫لســانِك يف ِّ‬
‫كل أحوالــك‪،‬‬
‫القلــب مــا جيــري بــه‬
‫ُ‬ ‫أن ُيواطِــئ‬
‫فــإن حقيقــ َة الصــدق ْ‬ ‫ٍ‬
‫خــال‪َّ ،‬‬ ‫االعــراف هبــا‬
‫اللســان‪.‬‬

‫ــس َن ْب ًســا‪ ،‬أي‪ :‬تكلــم وحــرك شــفتيه‪ ،‬وتكلــم بأقــل الــكالم ‪ .‬ينظــر‪ :‬املحكــم واملحيــط‬
‫(‪ )1‬يقــال‪َ :‬ن َب َ‬
‫(‪ ،)530/8‬لســان العــرب (‪.)225/6‬‬
‫‪25‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫الس ُ‬
‫ِّمة التاسعة‬

‫اإلقبال على اهللِ ُبداوم ِة ِّ‬


‫الذكر‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫والثنــاء عليــه مشــهدٌ مــن مشــاهد‬ ‫ِ‬
‫واســتغفاره‬ ‫ِ‬
‫ذكــر اهلل‬ ‫إن اســتدام َة‬‫َّ‬
‫عكــوف القلــب وصحتــه وصفائــه وبلوغــه معــايل الدرجــات اإليامنيــة‬ ‫ِ‬
‫ﱫ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﱪ‬
‫[الرعــد‪.]28 :‬‬
‫القلــب‬
‫َ‬ ‫إن‬
‫ورسورا‪ ،‬بــل َّ‬
‫ً‬ ‫نــورا‬
‫ــر القلــب ويملــؤه ً‬‫عم ُ‬
‫إن ذكــر اهلل تعــاىل َي ُ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫القلــب خلــة وفاقــة ال يســدها يشء‬ ‫بفقــده يكــون يف ظــا ٍم و ُظلمــة؛ َّ‬
‫ألن «يف‬
‫ال َب َّتــة إال ذكــر اهلل ‪ ، ‬فــإذا صــار شــعار القلــب‪ ،‬بحيــث يكــون هــو الذاكــر‬
‫بطريــق األصالــة واللســان تبــع لــه‪ ،‬فهــذا هــو ِّ‬
‫الذكــر الــذي يســد اخللــة ويفنــي‬
‫الفاقــة‪ ،‬فيكــون صاحبــه غن ًّيــا بــا مــال‪ ،‬عزيـزًا بــا عشــرة‪ ،‬مهي ًبــا بــا ســلطان‪،‬‬
‫ـن ِذكــر اهلل ‪ ‬فهــو بضــد ذلــك‪ ،‬فقــر مــع كثــرة ِجدَ تِــه‪،‬‬ ‫فــإذا كان غافـ ًـا عـ ْ‬
‫ذليــل مــع ســلطانه‪ ،‬حقــر مــع كثــرة عشــرته»(((‪.‬‬
‫نســا إال بذكر‬ ‫ـكن وال يلتــذ وال جيــد للحيــاة مذا ًقــا ُ‬
‫وأ ً‬ ‫ـب املؤمــن ال يسـ ُ‬
‫وقلـ ُ‬
‫اهلل‪ ،‬ولقــد وصــف اهلل أهــل اإليــان وأويل األلبــاب بأهنــم‪ :‬ﱫ ﮖ ﮗ ﮘ‬
‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﱪ [آل عمــران‪.]191:‬‬
‫رياهــم‪ :‬اللهــج بذكــر اهلل وهــم قيــام‪ ،‬واللهــج بذكــره وهــم‬ ‫ِ‬
‫فهــذا ه ِّج ُ‬
‫قعــود‪ ،‬واللهــج بذكــره وهــم عــى فرشــهم وعــى جنوهبــم‪ ،‬تعلقــت قلوهبــم‬
‫بــاهلل فاســتداموا الذكــر يف مجيــع األحــوال‪.‬‬
‫يــا اهلل‪ ،‬كــم هــي لفتــة قرآنيــة مؤثــرة!! ﱫﮚ ﮛ ﱪ؛ فهــم ِمــن شــدة‬
‫تعلقهــم بــاهلل يذكرونــه يف هــذه احلــال التــي هــي َمظِنَّــة رشود أو غفلــة أو ن ََصب‪،‬‬
‫(‪ )1‬الوابل الصيب ص (‪.)140 -139‬‬
‫‪26‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫ـن هــؤالء قــو ٌم وصــل هبــم التعلــق الشــديد بــاهلل ســبحانه َّأل ينســوه يف هــذه‬
‫لكـ ْ‬
‫احلــال التــي يســتحكم فيهــا الذهــول غال ًبــا‪.‬‬
‫إنــه قلــب رســخ فيــه اإليــان واســتمكن‪ ،‬فأحــدث ذلــك أثـ ًـرا يف اللســان‬
‫الذكــر‪ ،‬حــن القيــام‪ ،‬واالضطجــاع‪ ،‬والقعــود‪ ،‬وحــن الدخول‬ ‫بحركــة دائبــة يف ِّ‬
‫واخلــروج‪ ،‬وحــن األكل والــرب‪ ،‬وحــن اليقظــة وعنــد النــوم‪ ،‬ويف احلــر‬
‫والســفر‪ ،‬ويف الليــل والنهــار‪ ،‬فهــو دائــم االفتقــار إىل اهلل والتعلــق بــه ال يغفــل‬
‫ـعورا‬‫ـا يف النفس‪ ،‬وشـ ً‬ ‫ـإن غفــل أو توانــى َو َجــدَ ثقـ ً‬ ‫ســاعة وال أدنــى مــن ذلــك‪ ،‬فـ ْ‬
‫ـن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بالنقــص ال َيســدُّ ه إال مراجعــة املســار‪ ،‬وعــود القلــب إىل َمعينــه ونَعيمــه‪ ،‬ومـ ْ‬
‫ـم تســطع أنــواره‪ ،‬وتتهلــل ســبحات وجهــه‪.‬‬ ‫َثـ َّ‬
‫قــال النبــي ‪« :‬يــا َأيــا النَّــاس تُوبــوا إِ َل اهللِ‪َ ،‬فـإِن َأ ُتــوب ِف ا ْليــو ِم إِ َليـ ِ‬
‫ـه‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ ُّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِما َئـ َة َمـ َّـر ٍة»(((‪ ،‬ويف روايــة‪« :‬إِ َّنـ ُه َل ُي َغـ ُ‬
‫ـو ِم‬ ‫ـى َق ْلبِــي‪َ ،‬وإِ ِّن َل ْسـ َتغْف ُر اهللَ‪ِ ،‬ف ا ْل َيـ ْ‬ ‫ـان((( َعـ َ‬
‫ِما َئـ َة َمـ َّـر ٍة»(((‪.‬‬
‫ــن‬ ‫ــه ِف اليــو ِم َأ ْك َث ِ‬ ‫وقـــــال ‪« :‬واهلل إِن َلَســ َتغ ِْفر اهلل و َأتُــوب إِ َلي ِ‬
‫ــر م ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ ْ‬ ‫َ‬
‫ــرةً»(((‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ني َم َّ‬ ‫َســ ْبع َ‬
‫ـأ ُله َخ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اد ًمــا‪،‬‬ ‫ـي ‪ ‬ت َْسـ َ ُ‬ ‫وعــن عــي بــن أيب طالــب ‪َ ‬أ َّن َفاط َمـ َة ڤ َأ َتــت النَّبِـ َّ‬
‫ـك َث َل ًثــا‬ ‫حني اهلل ِعنْــدَ من َِامـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫«أ َل ُأ ْخـ ِ ِ‬
‫ـال‪َ :‬‬ ‫َف َقـ َ‬
‫َ‬ ‫ـر َلــك منْ ـ ُه؟ ت َُس ـ ِّب َ‬ ‫ـو َخـ ْ ٌ‬ ‫ـرك َمــا ُهـ َ‬‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ــال‬‫ــن»‪َ ،‬ق َ‬ ‫يــن اهلل َأ ْر َب ًعــا َو َث َلث َ‬‫َب َ‬ ‫ــن‪َ ،‬و ُتك ِّ ِ‬‫يــن اهلل َث َل ًثــا َو َث َلث َ‬ ‫ــن‪َ ،‬و َ ْت َمد َ‬
‫َو َث َلث َ‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ )2075/4‬رقم (‪ )42( )2702‬من حديث األغر املزين ‪.‬‬
‫(‪ )2‬قــال النــووي يف رشحــه عــى صحيــح مســلم (‪« :)24-23/17‬قولــه ‪« :‬إنــه ليغــان عــى قلبــي»‬
‫قــال أهــل اللغــة‪ :‬الغــن ‪-‬بالغــن املعجمــة‪ -‬والغيــم بمعنــى‪ ،‬واملــراد هنــا‪ :‬مــا يتغشــى القلــب‪ ،‬قــال‬
‫القــايض‪ :‬قيــل‪ :‬املــراد الفــرات والغفــات عــن الذكــر الــذي كان شــأنه الــدوام عليــه‪ ،‬فــإذا فــر عنــه‬
‫أو غفــل عــدَّ ذلــك ذن ًبــا واســتغفر منــه‪ ،‬قــال‪ :‬وقيــل هــو مهــه بســبب أمتــه ومــا اطلــع عليــه مــن‬
‫أحواهلــا بعــده فيســتغفر هلــم‪ ،‬وقيــل‪ :‬ســببه اشــتغاله بالنظــر يف مصالــح أمتــه وأمورهــم وحماربــة العــدو‬
‫ومداراتــه وتأليــف املؤلفــة ونحــو ذلــك‪ ،‬فيشــتغل بذلــك مــن عظيــم مقامــه فــراه ذنبــا بالنســبة إىل‬
‫عظيــم منزلتــه‪.» ...‬‬
‫أيضا (‪ )2075/4‬رقم (‪.)41( )2702‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجها مسلم ً‬
‫(‪ )4‬أخرجه البخاري (‪ )67/8‬رقم (‪ )6307‬من حديث أيب هريرة ‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫ِ‬ ‫ـي ‪ِ ،‬قيـ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـن؟ َقـ َ‬
‫ـال‪:‬‬ ‫ـل َلـ ُه‪َ :‬و َل َل ْي َلـ َة ص ِّفـ َ‬ ‫ـن النَّبِـ ِّ‬ ‫«مــا ت ََر ْك ُتـ ُه ُمنْـ ُ‬
‫ـذ َســم ْع ُت ُه مـ َ‬ ‫ـي‪َ :‬‬ ‫َعـ ٌّ‬
‫ِ‬
‫ـن»(((‪.‬‬ ‫َو َل َل ْي َل ـ َة ص ِّفـ َ‬
‫ـر َة َمـ َّـر ًة َأ ْلـ َ‬
‫ـف‬ ‫ـي َعـ ْ َ‬ ‫وعــن أيب هريــرة ‪ ،‬قــال‪« :‬إِ ِّن َلُ َسـ ِّب ُح ك َُّل َيـ ْ‬
‫ـو ٍم ا ْثنَ َتـ ْ‬
‫يح ٍة‪َ ،‬قــدْ َر ِد َيتِــي»(((‪.‬‬ ‫ت َْسـبِ َ‬
‫وذكــر احلافــظ عبــد الغنــي يف «الكــال» يف ترمجــة أيب الــدرداء ‪ ،‬أنــه كان‬
‫ُيســبح يف اليــوم مائــة ألــف تســبيحة(((‪.‬‬
‫ِ‬
‫باإلكثــار‬ ‫يأمــر أهــل اإليــان ِّ‬
‫بالذكــر فحســب‪ ،‬بــل أمرهــم‬ ‫ْ‬ ‫إن اهلل ‪ ‬مل‬
‫َّ‬
‫منــه‪ ،‬قــال تعــاىل‪:‬ﱫ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ‬
‫ﰄ ﱪ [األحــزاب‪ ،]٤٢ ،٤١ :‬وقــال ‪ :‬ﱫ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ‬
‫أن املكثريــن ِمــن ِذكـ ِ‬
‫ـر اهلل هــم أســبق‬ ‫ﭷ ﱪ [اجلمعــة‪ ،]١٠ :‬وأبــان النَّبـ ُّ‬
‫ـي ‪َّ ‬‬
‫ون َيــا‬ ‫ون» َقا ُلــوا‪َ :‬و َمــا ا ْلــ ُ‬
‫ـم َف ِّر ُد َ‬ ‫«س ـ َب َق ا ْلــ ُ‬
‫ـم َف ِّر ُد َ‬ ‫النــاس إىل األجــور‪ ،‬فقــال ‪َ :‬‬
‫ون اهللَ كَثِــرا‪ ،‬و َّ ِ‬ ‫ــال‪ِ َّ :‬‬
‫فــر ُدون مجــع‪:‬‬ ‫ات» ‪ ،‬وا ُمل ِّ‬ ‫ــر ُ‬ ‫الذاك َ‬ ‫ً َ‬ ‫ــر َ‬
‫«الذاك ُ‬ ‫ــول اهللِ؟ َق َ‬
‫َر ُس َ‬
‫(((‬

‫ُمفـ ِّـرد‪ ،‬واملــراد بــه املنفــرد واملنقطــع إىل اهلل بقلبــه ولســانه لكثــرة ذكــره‪.‬‬
‫روح األعــال وأكربهــا كــا قال‬
‫الذكــر وعظيــم أثــره‪ ،‬كان َ‬ ‫وجلاللــة منزلــة ِّ‬
‫تعــاىل‪:‬ﱫ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﱪ [العنكبــوت‪.(((]٤٥ :‬‬
‫ـان و ُيرطبــه‪ ،‬و َيصقــل اإليــان و َيرفعــه؛ كذكر اهلل ‪،‬‬‫وال يشء ُي َذ ِّلــل اللسـ َ‬
‫أوراد ِمــن األذكار َي ْع ُمــر هبــا اللحظــات‪ُ ،‬‬
‫وييــي هبــا‬ ‫ٍ‬ ‫وال ِســيام َمــن َحا َفـ َ‬
‫ـظ عــى‬
‫أن ذلــك هــو ســاح املؤمــن‬ ‫القلــب‪ ،‬وقــد تــوارد الصاحلــون وتوافقــوا عــى َّ‬
‫الــذي َيــرق ُح ُجــب الغفلــة‪ ،‬ويفتــح أقفــال القلــب يف كل عــر‪ ،‬فكيــف‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري (‪ )65/7‬رقم (‪ ،)5362‬ومسلم (‪ )2091/4‬رقم (‪.)2727‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه ابن أيب شيبة يف مصنفه (‪ )345/5‬رقم (‪ ،)26733‬وأبو نعيم يف معرفة الصحابة (‪،)1891/4‬‬
‫رقم (‪.)4762‬‬
‫(‪ )3‬ينظر‪ :‬احلاوي للفتاوي للسيوطي (‪ ،)5/2‬وشذرات الذهب (‪.)118/2‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه مسلم (‪ ،)2062/4‬رقم (‪ )2676‬من حديث أيب هريرة ‪.‬‬
‫(‪ )5‬عىل خالف بني املفرسين يف معنى اآلية‪ ،‬ولكن هذا أحد األقوال‪.‬‬
‫‪28‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫بعـ ٍ‬
‫ـر تشــابكت فيــه عاديــات الزمــان وصــوراف األيــام؟!‪.‬‬
‫تلــوح يف ليــايل العــر ‪-‬عــر نســات األســحار‪ ،‬وعبــق االســتغفار‪-‬‬
‫ُ‬
‫والسكينــــة وحلظــات‬ ‫فرصــ ٌة ثمينـــ ٌة إلصـــــاحِ القلـــب‪ :‬حيـــث َّ‬
‫الصفـــاء َّ‬
‫التنـــزل اإلهلــي‪.‬‬
‫إن هــذا الصفــاء كــا ُيــدد اإليــان‪ ،‬فإ َّنــه ُيــد ُد الــراء َة ِمــن النفــاق‪ ،‬فأهـ ُ‬
‫ـل‬ ‫َّ‬
‫النِّفــاق هــم أكثــر النــاس غفلـ ًة وأقلهــم ِذكـ ًـرا هلل‪ ،‬ﱫ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ‬
‫ـب‬
‫ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﱪ[النســاء‪ ،]١٤٢ :‬والواجـ ُ‬
‫«مــن أكثر‬ ‫ِ‬ ‫أن خيالـ َ‬
‫ـف املنافقــن بكثــرة ذكــر اهلل‪ ،‬قــال أبــو هريــرة ‪َ :‬‬ ‫عــى املؤمــن ْ‬
‫ِمــن ذكــر اهلل؛ َبـ ِ‬
‫ـرئ مــن النِّ َفــاق»(((‪.‬‬
‫ـب لســانَك –أهيــا ا ُملبــارك‪ -‬بذكــر اهلل‪ ،‬فــا يشء أصلــح للقلــب مــن‬‫فر ِّطـ ْ‬
‫ذلــك‪ ،‬وال يشء ُيث ِّقــل امليــزان يــوم القيامــة ِّ‬
‫كالذكــر‪.‬‬

‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬لسان امليزان (‪.)1955‬‬


‫‪29‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫الس ُ‬
‫ِّمة العاشر‬

‫اإلقبال على اهللِ بكثرةِ ُّ‬


‫الدعاء‬ ‫ُ‬
‫إن ِمــن َأ َج ِّ‬
‫ــل العبــادات التــي يظهــر فيهــا ُذ ُّل العبــد بــن يــدي ر ِّبــه‪:‬‬ ‫َّ‬
‫الدعــاء‪ ،‬قــال اهلل تعــاىل‪ :‬ﱫ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﱪ [األعــراف‪،]55 :‬‬
‫وقــال‪:‬ﱫ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ‬
‫ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﱪ [األنبيــاء‪.]90:‬‬
‫العــر األخــر ِمــن رمضــان حينــا يكــون العبــد‬
‫ِ‬ ‫إن عبــاد َة الدعــاء يف‬
‫َّ‬
‫عاك ًفــا‪ ،‬هلــا مــذاق يعرفــه املترضعــون املنكــرون بــن يــدي اهلل‪ ،‬الباكُــون‬
‫املتباكــون‪ ،‬حيــث يستشــعرون القــرب ِمــن موالهــم والوعــد باإلجابــة‪،‬‬
‫ﱫﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ‬
‫ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﱪ [البقــرة‪ ،]١٨٦ :‬ويف جمــيء هــذه اآليــة‬
‫الكريمــة يف ســياق الصيــام ُمتَخَ ِّللــة بينــه وبــن ذكــر االعتــكاف‪ ،‬لفتــة عظيمــة‬
‫إىل بيــان منزلــة عبــادة الدعــاء حينــا يكــون العبــد صائـ ًـا عاك ًفــا‪.‬‬
‫إهنــا عبــادة تتألــق يف هــذه الليــايل التــي ينكــر فيهــا العبــد‪ ،‬فـ َ ِ‬
‫ـر ُّق القلــب‪،‬‬
‫ف الــروح‪ ،‬فتجــف الشــهوات وتنكــر النفــس‪ ،‬ويكون ذلــك تأهيـ ًـا للعبد‬ ‫و َتـ ِ‬
‫ـر ُّ‬
‫ألن يكــون ُمســتجي ًبا هلل‪ ،‬ﱫ ﯵ ﯶ ﯷﱪ فيســتجيب اهلل لــه‪ ،‬فإجابــة‬
‫وت ُّر ِرهــا مــن ضغــوط‬
‫الدعــاء تقــرن دائـ ًـا بانكســار القلــب وضعــف النفــس َ َ‬
‫الشــهوات‪ ،‬وهــذا ال يتوافــر يف حــال ِمــن أحــوال اإلنســان بقــدر توافــره يف حــال‬
‫الصيــام واالعتــكاف(((‪.‬‬
‫ســتحب فيهــا اســتكانة العبــد‬
‫ُ‬ ‫وهــذا املوطــن كبقيــة املواطــن التــي ُي‬
‫وانكســاره بــن يــدي ربــه‪ ،‬أخــرج الطــراين ِمــن حديــث ابــن عبــاس ‪ ‬قــال‪:‬‬
‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬روح الصيام ومعانيه ص (‪. )116‬‬
‫‪30‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫ني»(((‪.‬‬ ‫َاســتِ ْط َعا ِم ا ْل ِ ْســكِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـول اهلل ﷺ َيدْ ُعــو بِ َع َر َفـ َة‪َ ،‬و َيــدَ ا ُه إِ َل َصدْ ِره ك ْ‬ ‫«ر َأ ْيـ ُ‬
‫ـت َر ُسـ َ‬ ‫َ‬
‫طر ًقــا ِ‬
‫برأســه‪َ ،‬ي ُمــدُّ‬ ‫وقــد كان بعــض الصاحلــن جيلــس بالليــل ســاكنًا ُم ِ‬
‫ـال الســائل‪ ،‬وهــذه مــن أكمــل هيئــات الــذل والســكينة‪ ،‬واالفتقــار‬ ‫يديــه كحـ ِ‬
‫إىل اهلل‪.‬‬
‫وافتقــار القلــب يف الدعــاء‪ ،‬وانكســاره هلل ‪ ، ‬واستشــعاره شــدة الفاقــة‬
‫إليـــــه واحلاجــــــة لديـــــه مظنــة إجابـــــة‪ ،‬وعلــــى قــــدر هــذه احلرقـــــة‬
‫والفاقـــــة تكــون اإلجابــة‪.‬‬
‫يب‬‫َج ُ‬ ‫جــاء يف «جامــع الرتمــذي» وغريه عن النبــي ﷺ قــال‪« :‬إِ َّن اهلل َل َي ْسـت ِ‬
‫ـل َل ٍه»(((‪.‬‬ ‫ب َغافِـ ٍ‬ ‫ـن َق ْل ٍ‬ ‫ـاء مـ ْ‬
‫دعـ ِ‬
‫َُ ً‬
‫ـذل باللســان يف نفــس الســؤال مــع‬ ‫ـل أحــوال الدعــاء‪ :‬إظهــار الـ ُّ‬ ‫ومــن مجيـ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـاء ْ ِ‬‫ـل الدُّ عـ ِ‬ ‫ـال َأ ْف َضـ ُ‬
‫ـى اهلل‬ ‫ـاح َعـ َ‬‫ال َْلـ ُ‬ ‫َ‬ ‫اإلحلــاح فيــه‪ ،‬قــال األوزاعــي رمحــه اهلل‪ُ « :‬ي َقـ ُ‬
‫ـرع إِ َليـ ِ‬
‫ـه»(((‪.‬‬ ‫َوال َّتـ َ ُّ ُ ْ‬
‫أن النبــي ‪ ‬دعــا‬ ‫ـند فيــه اختــاف عــن ابــن عبــاس ‪َّ ‬‬ ‫وعنــد الطــراين بسـ ٍ‬
‫َان‪ ،‬و َتع َلـ ِ‬ ‫ِ‬
‫سي‬ ‫ـم ِّ‬ ‫ـم ُع ك ََلمــي‪َ ،‬و َتـ َـرى َم ـك ِ َ ْ ُ‬ ‫ـك ت َْسـ َ‬ ‫ـم إِ َّنـ َ‬‫يــوم عرفــة فقــال‪« :‬ال َّل ُهـ َّ‬
‫يث‬ ‫ـم ْست َِغ ُ‬ ‫ـر ا ْلــ ُ‬
‫ِ‬
‫ـس ا ْل َفقـ ُ‬
‫ِ‬
‫ـري‪َ ،‬أ َنــا ا ْل َبائـ ُ‬ ‫ـن َأ ْمـ ِ‬ ‫ـك َ ِ‬
‫ش ٌء مـ ْ‬ ‫ي َفــى َع َل ْيـ َ ْ‬ ‫َو َع َلنِ َيتِــي‪َ ،‬ل َ ْ‬
‫ني‪،‬‬ ‫ـأ َل َة ا ْل ِ ْسكِ ِ‬
‫ك َم ْسـ َ‬ ‫ف بِ َذ ْنبِ ِه‪َ ،‬أ ْسـ َ‬
‫ـأ ُل َ‬ ‫ـم ْع َ ِت ُ‬ ‫َجري ا ْلو ِج ُل ا ْلـــم ْش ِف ُق ا ْلــ ِ‬
‫ـمق ُّر ا ْلــ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ـم ْست ِ ُ َ‬ ‫ا ْلــ ُ‬
‫ـوك دعاء ا ْلـــخَ ائِ ِ‬ ‫الذلِيـ ِ‬ ‫ـم ْذنِ ِ‬ ‫ـك ا ْبتِ َهـ َ‬
‫ـر‪َ ،‬م ْن‬ ‫الضيـ ِ‬
‫ف َّ ِ‬ ‫ـل‪َ ،‬و َأ ْد ُعـ َ ُ َ َ‬ ‫ب َّ‬ ‫ـال الـْـ ُ‬ ‫ـل إِ َل ْيـ َ‬ ‫َو َأ ْبت َِهـ ُ‬
‫ـك‪،‬‬ ‫ـم َأ ْن ُفـ ُه َلـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ـك َع ْينَــا ُه‪َ ،‬و َذ َّل َلـ َ‬ ‫ـت َلـ َ‬ ‫ـك َر َق َب ُتـ ُه‪َ ،‬و َف َ‬ ‫ت َلـ َ‬ ‫َخ َشـ َع ْ‬
‫ـك َج َســدُ ُه َو َرغـ َ‬ ‫اضـ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـم َل َ ْت َع ْلنِــي بِدُ َعائِـ َ‬
‫ني‬
‫ـم ْسئُول َ‬ ‫ـر الـْـ َ‬‫ـن ِب َر ُءو ًفــا َرحيـ ًـا‪َ ،‬يــا َخـ ْ َ‬ ‫ـك َشــق ًّيا‪َ ،‬و ُكـ ْ‬ ‫ال َّل ُهـ َّ‬
‫ني»(((‪.‬‬ ‫ويا َخــر ا ْلــ ِ‬
‫ـم ْعط َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫ََ‬
‫(‪ )1‬أخرجه الطرباين يف املعجم األوسط (‪ )189/3‬رقم (‪ ،)2892‬وأبو نعيم يف حلية األولياء (‪،)213/8‬‬
‫والبيهقي يف السنن الكربى (‪ ،)190/5‬وإسناده ضعيف‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجـه الرتمـذي (‪ )394/5‬رقم (‪ ،)3479‬والطرباين يف األوسط (‪ )211/5‬رقم (‪ ،)5109‬واحلاكم‬
‫يف املستدرك (‪ )670/1‬رقم (‪ )1817‬من حديث أيب هريرة ‪ ، ‬قال الرتمذي‪« :‬حديث غريب»‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه البيهقي يف شعب اإليامن (‪ ،)364/2‬وينظر‪ :‬التمهيد البن عبد الرب (‪.)346/5‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه الطرباين يف الكبري (‪ )174/11‬رقم (‪ ،)11405‬ويف الدعاء ص (‪ )274‬رقم (‪ ،)877‬ويف إسناده ضعف‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫العبــادة؛ ملــا ينطــوي عليــه ِمــن‬
‫إذن فالدعــاء هــو ُلــب التَّعبــد‪ ،‬وخالــص ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ـذل بــن يديــه‪ ،‬وهــو أنفــع عبوديــات القلــب وأكثرهــا‬ ‫االفتقــار التــام هلل‪ ،‬والـ ُّ‬
‫ـرا فيــه‪ ،‬وال ســيام إذا حــر قلــب الداعــي‪ ،‬واســتحرض معــاين مــا يدعــو‬ ‫تأثـ ً‬
‫بــه‪ ،‬فــإذا كانــت تلــك الدعــوات واالبتهــاالت ممــا أخــر اهلل ‪ ‬بــه ِمــن أدعيـ ِ‬
‫ـة‬
‫يشء للقلــب؛ ملــا تشــتمل عليــه ِمــن جمامــع الدعــاء‪،‬‬
‫ـوة خلقــه كانــت أنجــع ٍ‬
‫صفـ ِ‬
‫وصــدق التذلــل‪ ،‬واســتحضار معــاين الربوبيــة؛ وهلــذا كان األنبيــاء ُيصــدِّ رون‬
‫أدعيتَهــم ِ‬
‫بقوهلــم‪« :‬ر َّبنــا»‪.‬‬
‫وأكثــر أدعيــة القــرآن كذلــك‪ ،‬تــأيت ُمصــدَّ رة بالتوســل إىل اهلل بربوبيتــه‪،‬‬
‫والدَّ اعــي حينــا يدعــو اهلل ُمتوسـ ًـا بربوبيتــه َيســن لــه اســتحضار معنــى تربيــة‬
‫اهلل العامــة‪ ،‬وهــي‪ :‬اخللــق والتدبــر‪ ،‬ومعنــى الرتبيــة اخلاصــة‪ ،‬وهــي‪ :‬واليتــه‬
‫خليــار خلقــه‪ ،‬ولطفــه هبــم وإصالحــه لدينهــم ودنياهــم‪ ،‬وذلــك إلقباهلــم عــى‬
‫رهبــم‪ ،‬ورضاعتهــم بــن يديــه‪.‬‬
‫ِ‬
‫ـن‬ ‫أن يدعــو بأدعيــة األنبيــاء؛ فإهنــا أدعي ـ ٌة جامع ـ ٌة‪ْ َ ،‬‬
‫ويسـ ُ‬ ‫ـتحب لــه ْ‬
‫و ُيسـ ُّ‬
‫أن يدعــو بدعــاء الراســخني يف العلــم؛ ألنــه ســبحانه حينــا أثنــى‬ ‫بالداعــي ْ‬
‫عليهــم ذكــر دعوهتــم‪ :‬ﱫ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ‬
‫ﯹ ﯺ ﯻ ﱪ [آل عمــران‪. ]8 :‬‬
‫يمنحهــم اســتقامة القلــوب وثباهتــا عــى‬
‫أن َ‬ ‫فتوســلوا إىل اهلل بربوبيتــه ْ‬
‫مــرايض اهلل‪ ،‬وحفظهــا ِمــن الزيــغ‪ ،‬والنكــوص عــن اهلدايــة(((‪.‬‬

‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬املواهب الربانية من اآليات القرآنية للسعدي ص (‪.)58-56‬‬


‫‪32‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫الس ُ‬
‫ِّمة احلادية عشرة‬

‫ُ‬
‫اإلخبات واخلشوع(((‬

‫ـدح يف كتابِــه ا ُملخبتــن لــه‪ ،‬واملنكرسيــن لعظمتــه‪ ،‬واخلاضعني‬


‫إن اهلل ‪ ‬مـ َ‬
‫َّ‬
‫لكربيائــه‪ ،‬فقــال ســبحانه‪:‬ﱫ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﱪ‬
‫[احلــج‪ ،]35 ،34 :‬وقــال تعــاىل‪ :‬ﱫ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ‬
‫ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﱪ [األنبيــاء‪.]90:‬‬
‫أن قــال‪ :‬ﱫ ﯛ ﯜ ﯝ‬
‫وقــال تعــاىل‪ :‬ﱫ ﮭ ﮮ ﱪ إىل ْ‬
‫ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﱪ[األحــزاب‪.]35 :‬‬
‫َ‬
‫ووصــف املؤمنــن باخلشــوع لــه يف أرشف عباداهتــم التــي هــم عليهــا‬
‫حيافظــون‪ ،‬فقــال تعــاىل‪ :‬ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﱪ‬
‫[املؤمنــون‪.]2 -1 :‬‬
‫وأثنى ‪ ‬عىل أهل اخلشية املشفقني من عذاب اهلل فقال ‪: ‬‬
‫ﱫ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﱪ [املؤمنون‪ ،]57 :‬وقال ‪:‬‬
‫ﱫ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﱪ [األنبياء‪.]49 :‬‬
‫ِ‬
‫ُــوع‬
‫ـم ُرك ُ‬ ‫ــر َعن ُْه ُم َو ُه ُ‬ ‫ــم كَا َبــدُ وه ‪َ .............‬ف ُي ْسف ُ‬ ‫ـــل َأ ْظ َل َ‬
‫إِ َذا َما ال َّل ْي ُ‬
‫ف ن َْو َم ُه ْم َو َق ُامـوا ‪َ .............‬و َأ ْه ُل األَ ْم ِن ِف الدُّ ْن َيا ُه ُج ُ‬
‫ـوع‬ ‫َأطــ ََار ْ‬
‫الـ َْو ُ‬
‫‪..........................................................‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َما ُف ْر ُش ُه ْم إِال َأ َيام ُن ُأز ِْره ْم ‪َ .............‬و َمـا ُو ْسدُ ُه ْم إِال ُم ٌ‬
‫ــالء َو َأ ْذ ُر ُع‬
‫ــر َّو ُع‬
‫اش ُم َ‬ ‫ـه ْم إِال ِع َش ٌ‬ ‫َـو ٌب ‪َ .............‬و َما ن َْو ُم ُ‬‫يه َّن إِال َتــ ُّ‬ ‫َو َما َل ْي ُل ُه ْم فِ ِ‬
‫س ُم ْش َب ُع‬ ‫وه ُه ْم ‪َ .............‬ع َل ْي َها ِج َسا ٌد ِه َّي بِا ْل َو ْر ِ‬ ‫َو َأ ْل َو ُانُ ْم ُص ْف ٌر ك ََأ َّن ُو ُج َ‬
‫(‪ )1‬رجب ص (‪.)28-11‬‬
‫‪33‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫ـل اخلشــوع‪ :‬لــن القلــب ورقتــه وســكونه وخضوعــه‪ ،‬فــإذا خشــع‬ ‫وأصـ ُ‬
‫القلــب تبعــه خشــوع مجيــع اجلــوارح واألعضــاء؛ ألهنــا تابعــة لــه‪ ،‬كــا قــال ‪:‬‬
‫ـج َسدُ ُك ُّلـ ُه‪َ ،‬وإِ َذا َف َســدَ ْت‪،‬‬ ‫ـت‪َ ،‬ص َلـ َ‬
‫ـح الـْـ َ‬ ‫ـج َس ِد ُم ْض َغـ ًة‪ ،‬إِ َذا َص َل َحـ ْ‬ ‫«أ َل َوإِ َّن ِف ا ْلــ َ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ـب»(((‪.‬‬ ‫ـج َسدُ ُك ُّلـ ُه‪َ ،‬أ َل َوهـ َ‬
‫ـي ا ْل َق ْلـ ُ‬ ‫َف َســدَ الـْـ َ‬
‫ـع الســمع والبــر والوجــه وســائر األعضــاء‪،‬‬ ‫ـب خشـ َ‬ ‫ـع القلـ ُ‬‫فــإذا خشـ َ‬
‫ومــا ينشــأ منهــا حتــى الــكالم‪ ،‬وهلــذا كان النبــي ‪ ‬يقــول يف ركوعــه يف الصالة‪:‬‬
‫مــي‪َ ،‬و َع ْظ ِمــي‪َ ،‬و َع َصبِــي»(((‪.‬‬
‫ـري‪َ ،‬و ُ ِّ‬‫ـم ِعي‪َ ،‬و َبـ َ ِ‬ ‫ـع َلـ َ‬
‫ـك َسـ ْ‬ ‫«خ َشـ َ‬
‫َ‬
‫ورأى بعــض الســلف رجـ ًـا يعبــث بيــده يف الصــاة‪ ،‬فقــال‪َ « :‬لـ ْ‬
‫ـو َخ َشـ َ‬
‫ـع‬
‫ت َج َو ِار ُح ـ ُه»(((‪.‬‬‫ـذا؛ َل َش ـ َع ْ‬
‫ـب َهـ َ‬‫َق ْلـ ُ‬
‫وقد وصف اهلل تعاىل يف كتابه الكريم األرض باخلشوع فقال‪:‬‬
‫ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﱪ [ ُف ِّص َلــت‪،]39 :‬‬
‫ـوع‬
‫أن اخلشـ َ‬ ‫ـى َّ‬ ‫ور ُب ُّوهــا ‪-‬وهــو ارتفاعهــا‪ -‬مزيــل خلشــوعها‪ ،‬فـ َّ‬
‫ـدل َعـ َ‬ ‫فاهتزازهــا ُ‬
‫وانخفاضهــا‪ ،‬فكذلــك القلــب إذا خشــع‬ ‫ُ‬ ‫ــذي كانــت عليــه هــو ســكوهنا‬ ‫ا َّل ِ‬
‫فإنــه تســكن خواطــره وإراداتــه الرديئــة‪ ،‬التــي تنشــأ مــن اتبــاع اهلــوى فينكــر‬
‫وخيضــع هلل ‪. ‬‬
‫ــأو((( والرتفــع والتكــر والتعاظــم‪،‬‬ ‫فيــزول بذلــك مــا كان فيــه مــن ال َب ْ‬
‫ومتــى حصــل ذلــك يف القلــب خشــعت األعضــاء واجلــوارح واحلــركات‬
‫كلهــا حتــى الصــوت‪ ،‬وقــد وصــف اهلل تعــاىل األصــوات باخلشــوع يف قولــه‪:‬‬
‫ﱫ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﱪ [طــه‪ ،]108 :‬وخشــوع‬
‫األصــوات هــو ســكوهنا وانخفاضهــا بعــد ارتفاعهــا‪.‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري (‪ )20/1‬رقم (‪ ،)52‬ومسلم (‪ )1219/3‬رقم (‪ )1599‬من حديث النعامن بن بشري ‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه مسلم (‪ )534/1‬رقم (‪ )771‬من حديث عيل بن أيب طالب ‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجــــه ابـــــن أيب شــيبة يف مصنفــــه (‪ )86/2‬رقــــم (‪ ،)6787‬وابن املبـــارك يف الزهد (‪)419/1‬‬
‫رقــم (‪ ،)1188‬وعبــد الــرزاق يف مصنفــه (‪ )266/2‬رقــم (‪ )3308‬مــن قــول ســعيد بــن املســيب ‪.‬‬
‫(‪ )4‬ال َبـ ْ‬
‫ـأو‪ :‬املــراد بــه الفخــر‪ .‬ينظــر‪ :‬الصحــاح (‪ ،)2278/6‬مقاييــس اللغــة (‪ ،)328/1‬النهايــة يف غريــب‬
‫احلديــث (‪( )96/1‬بــأو)‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫اخلشــوع حقيقــ ًة ال تكل ًفــا‪ ،‬ومتــى تك َّلــف اإلنســان‬ ‫ُ‬ ‫يكــون‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫وينبغــي ْ‬
‫ـوه‬ ‫ـي اخلشــوع يف جوارحــه وأطرافــه ‪-‬مــع فــراغ قلبــه ِمــن اخلشــوع ُ‬
‫وخلـ ِّ‬
‫ِ‬
‫تعاطـ َ‬
‫ـذي كان الســلف يســتعيذون منــه كــا‬ ‫ـاق‪ ،‬وهــو ا َّلـ ِ‬‫ـوع نفـ ٍ‬‫منــه‪ -‬كان ذلــك خشـ َ‬
‫ــن ُخ ُشــو ِع النِّ َف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ــاق‪َ .‬قا ُلــوا‪َ :‬و َمــا ُخ ُش ُ‬
‫ــوع‬ ‫«اســتَع ُيذوا بِــاهللِ م ْ‬
‫قــال بعضهــم‪ْ :‬‬
‫اشــعا وا ْل َق ْلــب َليــس بِخَ ِ‬ ‫الســدَ َخ ِ‬ ‫النِّ َف ِ‬
‫اشــعٍ»(((‪.‬‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫ً َ‬ ‫َــرى َْ َ‬ ‫ــال‪َ :‬أ ْن ت َ‬
‫ــاق؟ َق َ‬
‫ـرا‪ ،‬ورقــة يف القلــب‪ ،‬كــا ذكــر‬ ‫ـدث أثـ ًـرا وتأثـ ً‬ ‫ـوع احلــق هــو مــا أحـ َ‬ ‫واخلشـ ُ‬
‫ـل الكتــاب قبلنــا‪ ،‬فقــال ســبحانه‪ :‬ﱫ ﭭ ﭮ ﭯ‬ ‫اهلل يف وصــف ال ُع َلـ َـاء ِمــن أهـ ِ‬
‫ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﱪ [اإلرساء‪.]109-107 :‬‬
‫ســاع آيــات اهلل‬
‫ُ‬ ‫أوجــب هلــم‬
‫َ‬ ‫وهــذه اآليــات تضمنــت امتــداح َمــن‬
‫ـكاء‪ ،‬وبالضــد مــن ذلــك توعــد ســبحانه قســاة القلــوب‪،‬‬
‫تأثـ ًـرا وخشــو ًعا وبـ ً‬
‫فقــال ‪:‬ﱫ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ‬
‫ﭪﭫﭬ ﭭﭮﭯﭰ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ‬
‫ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﱪ [الز َُّمــر‪ ،]23 -22 :‬ولــن القلــوب هــو زوال‬
‫قســوهتا حلــدوث اخلشــوع فيهــا والرقــة‪.‬‬
‫وقــد عاتــب اهلل َمــن ال خيشــع قلبــه لســاع كتابــه‪ ،‬فقــال تعــاىل‪ :‬ﱫ ﮮ ﮯ‬
‫ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯘ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯠﯡ‬
‫ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﱪ [احلديــد‪.]16 :‬‬
‫ـذ ِه‬
‫ـا ِمنَا وبــن َأ ْن عا َتبنَــا اهللُ ِبـ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ َْ‬ ‫ـن إِ ْسـ َ‬
‫َان َبـ ْ َ‬‫«مــا ك َ‬
‫قــال ابــن مســعود ‪َ : ‬‬
‫ش ٍء‬‫ي ْ َ‬‫ــض‪َ :‬أ ُّ‬
‫ــى َب ْع ٍ‬ ‫ني»(((‪ ،‬ويف روايــة‪َ « :‬ف َأ ْق َب َ‬
‫ــل َب ْع ُضنَــا َع َ‬
‫ــة إِ َّل َأرب ِ ِ‬
‫ــع ســن َ‬
‫َْ ُ‬
‫ْالي ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫بعضــا‪.‬‬‫عض ُهــم ً‬ ‫شء َصنَ ْعنَــا؟!» أي‪ :‬جعــل ُي َعاتــب َب ُ‬
‫(((‬
‫ي َ ْ‬‫َأ ْحدَ ْثنَــا؟! َأ ُّ‬
‫(‪ )1‬أخرجــه ابــن املبــارك يف الزهــد (‪ )46/1‬رقــم (‪ ،)143‬وابــن أيب شــيبة يف املصنــف (‪ )243/7‬رقــم‬
‫(‪ ،)35711‬واإلمــام أمحــد يف الزهــد ص (‪ )117‬رقــم (‪ ،)762‬والبيهقــي يف شــعب اإليــان (‪)220/9‬‬
‫رقــم (‪ )6567‬موقو ًفــا عــى أيب الــدرداء ‪.‬‬
‫وأخرجه البيهقي يف الشعب (‪ )220/9‬رقم (‪ )6568‬من حديث أيب بكر ‪ ‬مرفو ًعا‪ ،‬وإسناده ضعيف‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه مسلم (‪ )2319/4‬رقم (‪.)3027‬‬
‫(‪ )3‬أخرجها أبو يعىل يف مسنده (‪ )167/9‬رقم (‪ ،)5256‬وهي زيادة ضعيفة‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫فيشء قد شهد‬
‫ٌ‬ ‫َأ َّما عظمة القرآن وسطوة أثره عىل نفوس املؤمنني اخلاشعني‬
‫ف إلينا ر ُّبنا يف‬‫ص َ‬
‫السلف رحهم الله‪ ،‬قال أبو عمران اجلوين رمحه اهلل‪« :‬واهلل لقد َ َّ‬ ‫ُ‬ ‫به‬
‫صفه إِ َل اجلبال ملحاها وحناها»(((‪.‬‬ ‫هذا القرآن ما لو َ َّ‬
‫وكان مالــك بــن دينــار رمحــه اهلل يقــرأ هــذه اآليــة ثــم يقــول‪ِ ُ :‬‬
‫ـم َل ُكـ ْ‬
‫ـم‬ ‫«أ ْقسـ ُ‬
‫آن إِ َّل صـ ِ‬
‫ـذا ا ْل ُقـ ْـر ِ‬‫ـن َع ْبــدٌ ِ َبـ َ‬ ‫ِ‬
‫ـد َع َق ْل ُبـ ُه»(((‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َل ُي ْؤمـ ُ‬
‫وروي عــن احلســن رمحــه اهلل أنــه قــال‪« :‬يــا ابــن آدم إذا وســوس لــك‬ ‫ُ‬
‫محلــك اهلل‬ ‫نفســك‪ ،‬فاذكــر عنــد ذلــك مــا َّ‬ ‫الشــيطان بخطيئــة‪ ،‬أو َحدَّ ْثــت هبــا َ‬
‫ح َلتــه اجلبــال الــروايس خلشــعت وتصدعــت‪ ،‬أمــا ســمعته‬
‫مــن كتابــه‪ ،‬ممــا لــو َ َ‬
‫يقــول‪ :‬ﱫ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ‬
‫ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﱪ [احلــر‪.(((»]21 :‬‬
‫واهلل ســبحانه إ َّنــا رضب لــك األمثــال لتتفكــر فيهــا‪ ،‬وتعتــر هبــا وتزدجــر‬
‫محلــك ِمن‬ ‫ـر اهلل‪ ،‬ومــا َّ‬ ‫ـع لذكـ ِ‬‫أن ختشـ َ‬ ‫عــن معاصيــه ‪ ، ‬وأنــت يــا ابــن آدم أحــق ْ‬
‫ألن عليــك احلســاب ولــك اجلنَّــة أو النــار‪.‬‬ ‫كتابِــه وآتــاك ِمــن حكمــة؛ َّ‬
‫قلــب ال خيشــع‪ ،‬كــا يف حديــث‬ ‫ٍ‬ ‫يســتعيذ بــاهللِ ِمــن‬
‫ُ‬ ‫النبــي ‪‬‬
‫ُّ‬ ‫وقــد كان‬
‫ــم إِ ِّن َأ ُعــو ُذ بِ َ‬
‫ــك‬ ‫«الله َّ‬
‫زيــد بــن أرقــم ‪ ‬قــال‪ :‬كان رســول اهلل ‪ ‬يقــول‪ُ :‬‬
‫ـو ٍة َل‬
‫ـن َد ْعـ َ‬
‫ِ‬ ‫ـن َن ْفـ ٍ‬
‫ـس َل ت َْشـ َب ُع‪َ ،‬ومـ ْ‬
‫ِ‬
‫ـع‪َ ،‬ومـ ْ‬ ‫ـن َق ْلـ ٍ‬
‫ـب َل َ ْ‬
‫ي َشـ ُ‬
‫ِ‬
‫ـع‪َ ،‬ومـ ْ‬
‫ِمـ ِ‬
‫ـن ع ْلـ ٍم َل َينْ َفـ ُ‬
‫ْ‬
‫اب َلــا»(((‪.‬‬ ‫ُي ْســت ََج ُ‬
‫ـاده ِمــن أنــواع العبــادات مــا َيظهــر فيه خشــوع‬ ‫ولذلــك رشع اهلل تعــاىل لعبـ ِ‬
‫األبــدان‪ ،‬الناشــئ عــن خشــو ِع القلــب وذلــه وانكســاره‪ ،‬ومــن أعظــم مــا يظهــر‬
‫فيــه خشــوع األبــدان هلل تعــاىل ِمــن العبــادات الصــاة‪ ،‬وقــد مــدح اهلل تعــاىل‬

‫(‪ )1‬أخرجه أبو نعيم يف احللية (‪ ،)311/2‬وينظر‪ :‬اخلشوع يف الصالة البن رجب ص (‪.)19‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه اإلمام أمحد يف الزهد ص (‪ )258‬رقم (‪ ،)1859‬وأبو نعيم يف حلية األولياء (‪.)378/2‬‬
‫(‪ )3‬ينظر‪ :‬اخلشوع يف الصالة البن رجب ص (‪.)19‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه مسلم (‪ )2088/4‬رقم (‪.)2722‬‬
‫‪36‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫اخلاشــعني فيهــا بقولــه ‪ :‬ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﱪ‬
‫[املؤمنــون‪.]2 ،1 :‬‬
‫ِ‬
‫ومــن مواضــع اخلشــوع‪ :‬الســجود‪ ،‬وهــو أعظــم مــا َيظهــر فيــه ُذ ُّل العبــد‬
‫لر ِّبــه ‪ ،‬حيــث جيعــل العبــد أرشف مــا لــه ِمــن األعضــاء‪ ،‬وأعزهــا عليــه‬
‫وأعالهــا أوضــع مــا يمكنــه‪ ،‬فيضعــه يف الــراب ُم َت َع ِّفـ ًـرا‪ ،‬ويتبــع ذلــك انكســار‬
‫القلــب وتواضعــه وخشــوعه هلل ‪.‬‬
‫ــه‪ ،‬قــال اهلل‬‫وهلــذا كان جــزاء املؤمــن إذا فعــل ذلــك أن يقربــه اهلل ‪ ‬إِ َلي ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫تعــاىل‪ :‬ﱫ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﱪ [العلــق‪ ،]19 :‬وقــال ‪َ :‬‬
‫«أ ْقـ َـر ُب َمــا َي ُكـ ُ‬
‫ـون‬
‫ـو َسـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـاجدٌ »(((‪.‬‬ ‫ا ْل َع ْبــدُ مـ ْ‬
‫ـن َر ِّبــه َو ُهـ َ‬
‫ـادة اهلل ‪،‬‬‫والســجود كان ممــا يأنــف منــه املرشكــون املســتكربون عــن ِعبـ ِ‬
‫ـذ‬‫بعضهــم يأخـ ُ‬ ‫أن أســجدَ فتعلــوين اســتي‪ ،‬وكان ُ‬ ‫بعضهــم يقــول‪ :‬أكــره ْ‬ ‫وكان ُ‬
‫ِ‬
‫ـن الســجود(((()‪.‬‬ ‫ك ًّفــا مــن حــى‪ ،‬فريفعــه إىل وجهــه‪ ،‬ويكتفــي بذلــك عـ ْ‬
‫وإبليــس إِ َّنــا طــرده اهلل ملــا اســتكرب عــن الســجود َل ِــن أمــره اهلل بالسـ ِ‬
‫ـجود‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫لــه؛ وهلــذا يبكــي إذا ســجدَ املؤمــن ويقــول‪ُ :‬أ ِمـ َـر ابــن آدم بالســجود ففعــل فلــه‬
‫ـت فــي النــار(((‪.‬‬
‫ـرت بالســجود فعصيـ ُ‬
‫وأمـ ُ‬ ‫اجلنــة‪ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫ركوعــه وســجوده‪ ،‬أنــه‬ ‫ِ‬
‫ومــن متــا ِم خشــوع العبــد هلل ‪ ‬وتواضعــه لــه يف‬
‫ـف ربــه حينئــذ بصفــات ِ‬
‫الع ـ ِّز والكربيــاء‬ ‫إذا َذ َّل لر ِّبــه بالركــوع والســجود وصـ َ َ َّ‬
‫والعظمــة والعلــو‪ ،‬فكأنــه يقــول‪ :‬الـ ُّ‬
‫ـذل والتواضــع وصفــي‪ ،‬والعلــو والعظمــة‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ )350/1‬رقم (‪ )482‬من حديث أيب هريرة ‪‬‬
‫(‪ )2‬أخــرج البخــاري (‪ ،)40/2‬رقــم (‪ ،)1067‬ومســلم (‪ )405/1‬رقــم (‪ )576‬مــن حديــث عبــداهلل‬
‫بــن مســعود ‪ ،‬عــن النبــي ‪ ‬أنــه قــرأ ﴿والنجــم﴾ فســجد فيهــا‪ ،‬وســجد مــن كان معــه‪ ،‬غــر أن‬
‫شــيخا أخــذ كفــا مــن حــى أو تــراب فرفعــه إىل جبهتــه‪ ،‬وقــال‪ :‬يكفينــي هــذا‪ ،‬قــال عبــد اهلل‪« :‬لقــد‬
‫رأيتــه بعــدُ ُقتِــل كافــرا»‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجــه مســلم (‪ )87/1‬رقــم (‪ ،)81‬مــن حديــث أيب هريــرة ‪ ‬قــال‪ :‬قــال رســول اهلل ﷺ‪« :‬إذا قــرأ‬
‫ـجود َفســجد‬ ‫ـيطان يبكــي‪ ،‬يقــول‪ :‬يــا ويــي‪ُ ،‬أمــر ابــن آد َم بِ ُّ‬
‫السـ ُ‬ ‫ـزل الشـ ُ‬ ‫ـن آدم الســجدة فســجد اعتـ َ‬ ‫ابـ ُ‬
‫ـار»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ـ‬ ‫الن‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـت‬
‫ُ‬ ‫ـ‬ ‫فأبي‬ ‫ـجود‬ ‫ـ‬ ‫بالس‬ ‫ـرت‬
‫ُ‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ُ‬
‫وأ‬ ‫ـة‪،‬‬‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬
‫ال‬ ‫ه‬‫فلـ ُ‬
‫َ‬
‫‪37‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫أن يقــول‪ :‬ســبحان ريب‬ ‫ِ‬
‫ركوعــه ْ‬ ‫والكربيــاء وصفــك‪ ،‬فلهــذا ُشع للعبــد يف‬
‫العظيــم‪ ،‬ويف سـ ِ‬
‫ـجوده‪ :‬ســبحان ريب األعــى‪.‬‬
‫ـارا‪ ،‬وصـ َ‬
‫ـل‬ ‫ِ‬ ‫فمتــى امتـ َ‬
‫ـب العبــد خشــو ًعا وإخبا ًتــا‪ ،‬وخضو ًعــا وانكسـ ً‬
‫أ قلـ ُ‬
‫ـال غايتهــا‪.‬‬‫ـب العبــادة‪ ،‬وحقــق مقصودهــا‪ ،‬ونـ َ‬ ‫إىل ُلـ ِّ‬

‫‪38‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫وختاما‪:‬‬
‫ً‬
‫فهــذه إحــدى عــرة ِســمة‪ِ ،‬مــن خالهلــا يتوصــل ا ُملوفــق إىل روح‬
‫ـت يف االعتـ ِ‬
‫ـكاف فحســب‪ ،‬بــل‬ ‫االعتــكاف و ُلبــه ومقصـ ِ‬
‫ـوده‪ ،‬وهــذه الغايــة ليسـ ْ‬ ‫ِّ‬
‫ِ‬
‫العبــادات أمجــع‪.‬‬ ‫يف‬
‫عــي وعليــك بلــزوم االفتقــار‬
‫وامتــن َّ‬
‫َّ‬ ‫وهبنــي اهلل وإيــاك دوام الصــدق‪،‬‬
‫ـوب واإلقبـ ِ‬
‫ـال عليــه‪،‬‬ ‫إليــه‪ ،‬واالنكســار بــن يديــه‪ ،‬ووفقنــا لــدوا ِم عكـ ِ‬
‫ـوف القلـ ِ‬ ‫ُ‬
‫ومــن االلتجـ ِ‬
‫ـاء إال‬ ‫ـار إال بــن يديــه‪ِ ،‬‬ ‫ـذل إال لــه‪ِ ،‬‬
‫ومــن االنكسـ ِ‬ ‫نعــو ُذ بــاهللِ ِمــن الـ ِّ‬
‫إليــه‪ ،‬ﱫ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﱪ [هــود‪.]٨٨ :‬‬

‫د‪ /‬عبدالرمحن بن عبدالعزيز العقل‬


‫بريدة – القصيم ‪1435/9/5 -‬هـ‬
‫للتواصل‪:‬‬
‫جوال‪0535600013 - 0591100113 – 0504883988 :‬‬
‫بريد إلكرتوين‪al.agal@hotmail.com al_khaleefa@hotmail.com:‬‬

‫‪39‬‬
‫االنتقال إلى الفهرس‬
‫فهرس املوضوعات‬

‫‪4‬‬ ‫مقدمة‪.‬‬

‫‪5‬‬ ‫الس ُ‬
‫ِّمة األوىل‪ :‬قط ُع العالئِق عن اخلالئِق‪.‬‬

‫‪7‬‬ ‫ُ‬
‫العيش مع القرآن‪.‬‬ ‫الس ُ‬
‫ِّمة الثانية‪:‬‬

‫‪14‬‬ ‫ُ‬
‫وصدق إقبالِه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫مجعية القل ِب‬ ‫الس ُ‬
‫ِّمة الثالثة‪:‬‬

‫‪15‬‬ ‫الس ُ‬
‫ِّمة الرابعة‪ :‬استشعا ُر مَعيَّة اهلل لعب ِده‪.‬‬

‫‪16‬‬ ‫تعظيم اهلل تعاىل‪.‬‬


‫ُ‬ ‫الس ُ‬
‫ِّمة اخلامسة‪:‬‬
‫‪19‬‬ ‫الس ُ‬
‫ِّمة السادسة‪ :‬افتقا ُر العبد إىل ربِّه وشعور ُه باحلاجة إليه‪.‬‬

‫‪21‬‬ ‫الس ُ‬
‫ِّمة السابعة‪ :‬استحضا ُر مِنة اهلل وفضله‪.‬‬

‫‪24‬‬ ‫بالذنب والتقصري‪.‬‬


‫ِ‬ ‫ُ‬
‫االعرتاف‬ ‫الس ُ‬
‫ِّمة الثامنة‪:‬‬

‫‪26‬‬ ‫اإلقبال على اهللِ مبُداومة ِّ‬


‫الذكر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الس ُ‬
‫ِّمة التاسعة‪:‬‬
‫‪30‬‬ ‫اإلقبال على اهللِ بكثرةِ ُّ‬
‫الدعاء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الس ُ‬
‫ِّمة العاشرة‪:‬‬
‫‪33‬‬ ‫ُ‬
‫اإلخبات واخلشوع‪.‬‬ ‫الس ُ‬
‫ِّمة احلادية عشرة‪:‬‬
‫‪39‬‬ ‫خامتة ‪.‬‬

‫‪40‬‬
41

You might also like