Professional Documents
Culture Documents
حينما يعتكف القلب
حينما يعتكف القلب
خيالــط النــاس حتــى ولــو كان ذلــك لتعليــ ِم علــم أو إقــراء قــرآنَّ ،
وأن َ َّأل
ـره ودعائِــه(((. ـل لــه االنفــراد والتخــي ملناجـ ِ
ـاة ر ِّبــه وذكـ ِ األكمـ َ
ألن أن عبــاد َة االعتــكاف اقرتنــت بعبـ ِ
ـادة الصــوم؛ َّ تأمــل ،نجــدُ َّ ِ
وبنظــرة ُّ
حكم ـ َة مرشوعيتهــا واحــدة ،وهــي :إصــاح القلــب بتقــوى اهلل ،ﱫ ﭣ
ﭤﭥﭦ ﭧﭨﭩ ﭪ ﭫﭬﭭﭮ ﭯ
ـم الــذرو َة يف إصــاحِ قلبِــه ﭰ ﭱ ﱪ [البقــرة ،]183:ويبلــغُ العبــدُ الصائـ ُ
منطرحــا يديــه، حينــا يعتــزل النــاس ،ويعتكــف بقلبِــه وجسـ ِ
ـده ،خال ًيــا بر ِّبــه،
ً
وكان ِمــن هــدي النبــي يف االعتــكاف االنفــرا ُد عــن النــاس ،وكان يأمـ ُـر
( )1اإلحلاف :شدة اإلحلاح يف املسألة .ينظر :هتذيب اللغة ( ،)46/5لسان العرب (( )314/9حلف).
( )2ذكره الرسخيس يف املبسوط ( ،)815/3وينظر :وظائف رمضان ص (.)75
( )3ينظر :مدارج السالكني ( ،)263/1وظائف رمضان ص (.)60
5
االنتقال إلى الفهرس
يلزمــه ،وخيلــو بر ِّبــه ،كــا قالــت ِ ِ
ـرب لــه خ َبــاء بــن يف املســجد ُ َ ـأن ُيـ
بـ ْ
(((
اخ ِ ِ
ــر األَو ِ ــي َ ،ي ْعتَكِ ُ
ــان،
ــن َر َم َض َ
ــر م ْ ــف ِف ال َع ْ ِ َ َان النَّبِ ُّ
عائشــة ڤ « :ك َ
ـم َيدْ ُخ ُل ـ ُه»(((. ِ ـت َأ ْ ِ
ـح ُثـ َّ
الص ْبـ َ
ـي ُّـاء َف ُي َصـ ِّض ُب َل ـ ُه خ َبـ ً َف ُكنْـ ُ
ـف املنفـ ِ
ـرد اخلايل إن جــل الطاعــات وكثــرا ِمــن العبــادات جتتمــع للعاكـ ِ
ُ ً َّ ُ
ـب هــووألن القلـ َ
بر ِّبــه ،وأعظــم هــذه العبــادات وأرشفهــا :عبــادة القلــبَّ ،
يشء
ـوص بســيد العبــادات :اإلخــاص ،وليــس ٌ ســيد األعضــاء فإنــه خمصـ ٌ
ـة العبــد املنكــر املنطــرح ـاالت تزيــدُ اإلخــاص وتُنميــه كــا يف حالـ ِِمــن احلـ ِ
َ
بــن يــدي مــواله حــن اخللــوة بــاهلل ،والعكــوف عــى طاعتــه؛ وهلــذا فإ َّنــه
أي مــذاق ،وال وطعــا ال ُيســاميه ّ
ً يتــذوق حــاو َة اإليــان ،وجيــد لــه مذا ًقــا
ﮮ ﱪ [احلديــد.]٢١ : أي ﱫ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ
ُيدانيــه ُّ
( )1اخلباء :بكرس املعجمة وختفيف املوحدة مع املد هي خيمة من وبر أو صوف ،ثم ُأطلقت عىل البيت
كيف ما كان .ينظر :النهاية ( ،) 9/2اللسان( ) 223 /14 ( ،خبا).
( )2أخرجه البخاري )48/3( ،رقم ( ،)2033ومسلم ( ،)715/2رقم (.)1172
6
االنتقال إلى الفهرس
الس ُ
ِّمة الثانية
ُ
العيش مع القرآن
مصدرهــا األول :كتــاب اهلل ،الــذي جعلــه ـب ُلــب العبـ ِ
ـادة وحيــا ُة القلـ ِ
ُ ُّ
ـورا ،ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ
روحــا وحيــا ًة ونـ ً
اهلل ً
ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﱪ[الشــورى.]٥٢ :
ُ
يتــذوق املؤمــن حيــا َة قلبِــه يف تدبــر القــرآن؛ ألنَّــه
ُ أن جيــدَ
وال غــرو ْ
ُ
فيعيــش يف آفــاق اآليــات بتالوتِــه املتأنيــة حــاو َة املناجــاة لــكال ِم ر ِّبــه،
ـات قلبــه ،فيجــد حينهــا لقلبِــه حيــا ًة أخــرى، التــي يــري روحهــا يف خلجـ ِ
َْ ُ
ـذ ًة ال ي ِص ُفهــا لســانُه ،وال تُدوهنــا أقالمــه ،وذلــك لعظمـ ِ
ـة اخلطــاب ُ ِّ ولقراءتــه لـ َّ َ
نفســه ،و َي ُلفهــا املتدبــر ِ
ِ َ ِ
فــر ُّق ُ عقــل الربــاين وروعــة مجالــه الــذي َيســ ُل ُ
ب
ـورا وغي ًثــا ُيضفــي
ـض نـ ًـب ِمــن املعــاين مــا َيفيـ ُ ســكينة وخشــية ،فيتجــى للقلـ ِ
ً
ومجــال. ً
جــال عــى القــارئ
ِ
األرض ،فكذلــك القــرآن ربيــع أفئــدة أهــل ربيــع
ُ َ
الغيــث أن
وكــا َّ
ـب ِمــن قـ ِ
ـراءة القــرآن ِ
لقلوبــم ،فــا يشء أنفــع للقلـ ِ اإليــان ،وهــو هنــر احليــاة
بالتدبــر والتفكــر ،فهــو ُيــورث املح َّبــة والشــوق واخلــوف والرجــاء ،وســائر
األحــوال التــي هبــا حيــاة القلــب وكاملــه ،فلــو علــم النَّــاس مــا يف قــراءة
كل مــا ســواها ،فــإذا قــرأه بتفكــر حتــى ـن ِّال ُقــرآن بالتدبــر الشــتغلوا هبــا عـ ْ
ـة هــو حمتــاج إليهــا يف شـ ِ
ـفاء قلبــه ،كررهــا ولــو مائــة مــرة ولــو ليلــة، مــر بآيـ ٍ
ٌ َ َّ
فقــراءة آيــة بتفكــر وتفهــم خــر ِمــن قـ ِ
ـراءة ختمــة بغــر تدبــر وتفهــم ،وأنفــع ٌ
ـول اإليــان وذوق حــاوة القــرآن؛ فقــراءة القــرآن للقلــب ،وأدعــى إىل ُح ُصـ ِ
بالتفكــر هــي أصــل صــاح القلــب(((.
( )1مفتاح دار السعادة ( ،)187/1بترصف.
7
االنتقال إلى الفهرس
هــه عنــد التــاوة ِّ
لــكل قــارئ للقــرآن ،بــل ملــن «كان َ ُّ وهــذا ليــس
يكــن مــراد ُه :متــى أختــم
ْ للســورة إذا افتتحهــا :متــى أت َِّع ُ
ــظ بــا أتلــوه؟ ومل
الســورة؟ ،مــراد ُه :متــى أعقــل عـ ِ
ـن اهلل اخلطــاب ،متــى أزدجــر ،متــى أعتــر؟
ألن تــاوة القــرآن عبــادة ،والعبــادة ال تكــون بغفلــة»(((.
َّ
ومتــى مــا عــاش املعتكــف مــع القــرآن عــى هــذا النحــو فقــد أحــرز
عكــوف القلــب الــذي هــو ُبغيــة طــاب االعتــكاف احلــق.
مفتــاح اســتقامة القلــب ،وال يشء ُ العيــش مــع القــرآن وتدبــرهَ إن
َّ
ـت القلــب وإرسـ ِ
ـاء دعائمــه؛ ولــذا أمــر اهلل ـد ُل العيــش مــع القــرآن يف تثبيـ ِ
يعـ ِ
َْ
«بتدبــر كتابــه ،والتفكــر يف معانيــه ،واالهتــداء بآياتــه ،وأثنــى عــى القائمــن
بذلــك ،وجعلهــم يف أعــى املراتــب ،ووعدهــم َأ ْس ـنَى املواهــب ،فلــو أنفــق
ـرا يف جنــب مــا هــو العبــدُ جواهــر عمـ ِ ِ
ـن ذلــك كثـ ًـره يف هــذا الفــن ،مل يكـ ْ َ ُ ُ
أفضــل املطالــب ،وأعظــم املقاصــد ،وأصــل األصــول كلهــا ،وقاعــدة أســاس
الســعادة يف الداريــن ،وصــاح أمــور الدِّ يــن والدنيــا واآلخــرة ،وبــه يتحقــق
وييــئ اهلل لــه أطيــب احليــاة
للعبــد حيــا ٌة زاهــرة باهلــدى واخلــر والرمحــةُ ،
والباقيــات الصاحلــات»(((.
التأمــل
تكمــن يف تد ُّبــره وطــول ُّ إن االنطالقـ َة األوىل للعيـ ِ
ـش مــع القــرآن ُ ِّ
يف آياته.
يشء أنفــع للعبــد يف معاشــه ومعــاده ،وأقــرب إىل نجاتِه
نعــم إنــه «ليــس ٌ
وجــ ِع الفكــر عــى معــاين آياتــه، ِ
التأمــل فيــهْ َ ،
مــن تدبــر القــرآن ،وإطالــة ُّ
ـع العبــد عــى معــامل اخلــر والــر بحذافريمهــا ،وعــى ُط ُر َق ِ
اتِــا، ِ
فإهنــا ُت ْطلـ ُ
ـذ مــنـل الليــل يف ليلهــم ألـ ُّ وقــال أبــو ســليامن الــداراين رمحــه اهلل« :أهـ ُ
أحببــت البقــاء يف الدنيــا»(((.
ُ أهــل اللهــو يف هلوهــم ،ولــوال الليــل مــا
وقــال بعــض الســلف« :مســاكني أهــل الدنيــا :خرجــوا ِمــن الدنيــا ومــا
ـب مــا فيهــا .قالــوا :ومــا أطيــب مــا فيهــا؟ قــال :حمبــة اهلل ،واألُنــس ذاقــوا أطيـ َ
ـواه»(((. ِ
بــه ،والشــوق إىل لقائــه ،واإلقبــال عليــه ،واإلعــراض َعـ َّـا سـ َ
ـش مــع وهــذا الشــوق واألُنــس بــاهلل واإلقبــال عليــه ،أعظـ ُ
ـم بواعثــه العيـ ُ
القــرآن وتدبــره والتنعــم بتالوتِــه.
لقــد فهــم الســلف الصالــح هــذا املعنــى ووعــوه؛ فأثمــر ذلــك لدهيــم
( )1تفسري ابن أيب حاتم (.)1960/6
( )2أخرجه السلمي يف طبقات الصوفية (ص ،)94:وأبو نعيم يف حلية األولياء (.)22/10
( )3ينظر :حلية األولياء (.)369/9
( )4أخرجه أبو نعيم يف احللية ( ،)275/9وابن عساكر يف تاريخ دمشق (.)146/34
( )5ذكره ابن القيم يف مدارج السالكني ( ،)454/1وابن رجب يف جامع العلوم واحلكم (ص،)189
وينظر :إحتاف القاري للدهامي ص (.)130-129
12
االنتقال إلى الفهرس
ـرآن يف مواسـ ِم النفحــات ،وكان لدهيــم بقراءتــهـة الذهــن للقـ ِ ِهــا طاحمـ ًة لتخليـ ِ
ً
ي كــدوي النحــل ِمــن التأثــر.
عجائــب ،وكان ُيســمع هلــم بــه َد ِو ٌّ
أن العيـ َ
ـش مــع القــرآن وتدبــره وتفهــم معانيــه ـتيقن َّ
أن نسـ َ
إن علينــا مجي ًعــا ْ
َّ
والعمــل بــه ،هــو مقصــود التــاوة ،كــا أدرك ذلــك ســل ُفنا الصالــح.
«إن َمــن كان قبلكــم رأوا القــرآن رســائل قــال احلســن البــري رمحــه اهللَّ :
ِ
مــن رهبــم ،فكانــوا يتدبروهنــا يف الليــل ،و ُينَ ِّف ُذ َ
ونَــا يف النهــار»(((.
ِ ِ فأ ْطلِـ ْ
ب(((مــن رياحــن القــرآن، وحهــا؛ لت ُع َّ ـق لنفســك -أهيــا ا ُملو َّفــقُ -ر َ
ـل ذهنــك للقــرآن؛ كــي تعيــش معــه ُفيفــرف قلبــك يف ِقمــم وأخـ ِوفـ ِّـرغ قلبــكْ ،
الســعادة ،فتفــوز فــوزًا عظيـ ًـا.
( )1ذكره الغزايل يف إحياء علوم الدين ( ،)275/1وينظر :التبيان يف آداب محلة القرآن ص (.)28
( )2العب :رشب املاء بعنف وتتابع يف اجلرعات من غري مص وال تنفس .ينظر :كتاب العني (،)93/1
مجهرة اللغة (.)73/1
13
االنتقال إلى الفهرس
الس ُ
ِّمة الثالثة
وص ُ
دق إقبالِه القلب ِ ُ
مجعية ِ
يســتقيم
ُ والقلــب ال
ُ إن غايــ َة االعتــكاف ومقصــو َده :اســتقام ُة القلــب، َّ
وس ـ َبح ـرف عــن اهلل َ َ رصاط اهلل إال بإقبالِــه ب ُك ِّليتــه عــى اهلل ،ومتــى مــا انـ ِ عــى
ـدة عنــه؛ فقــد فاتــه املقصــو ُد ِمــن االعتــكاف ،ولــو كان اجلســدُ ـتات بعيـ ٍ يف أشـ ٍ
عاك ًفــا.
ســره إىل اهلل ِ ِ
طريــق القلــب واســتقامتُه عــى ِ صــاح
ُ وهلــذا؛ « َّملــا َ
كان
ـة عــى اهللِ تعاىل، تعــاىل ،متو ِّق ًفــا عــى ج ِعيتــه عــى اهلل ،و َلـــم َشـعثِه بإقبالِــه بال ُك ِّليـ ِ
ِّ ْ َ َّ
ـول الطعــا ِم ـال عــى اهللِ تعــاىل ،وكان فضـ ُ ـب ال َي ُل ُّمــه إال اإلقبـ ُ ـعث القلـ ِ ـإن شـ َ فـ َّ
وفضــول املنــامِ ،ممــا ُ وفضــول الــكالمِ، ُ وفضــول خمالطــة األنــامِ، ُ ِ
والــراب،
ـن سـ ِ يزيــدُ ه َش ـع ًثا ،ويش ـتِّته يف ِّ ٍ
ـره إىل اهللِ تعــاىل ،أو ُيضع ُفــه كل واد ،وي ْق َط ُعــه عـ ْ ُ ُ ُ َ
رشع هلــم مــنِ ِ ِ اقتضــت رمحــ ُة أو َي ُعو ُقــه ويوق ُفــه؛
أن َ العزيــز الرحيــم بعبــاده ْ ْ
ـاط ـب أخـ َ ـراب ،ويســتفر ُغ ِمــن القلـ ِ ِ ـول الطعــا ِم والـ ـب فضـ َ الصــو ِم مــا ُيذهـ ُ
ِ ِ ِ
ـره إىل اهللِ تعــاىل ،ورشعــه ب ْقـ ِ ـن سـ ِ ِ
بحيث ُ ـدر املصلحــة، عوقــة لــه عـ ْ الشــهوات ا ُمل ِّ
ِ ُ
مصاحلــه العاجلــة ـره وال َي ْق َط ُعــه عـ ْ
ـن ـع بــه العبــدُ يف ُدنيــاه وأخــراه ،وال َيـ ُ ُّ ينتفـ ُ
واآلجلــة.
القلــب عــى ِ عكــوف
ُ وروحــه ُ االعتــكاف الــذي مقصــو ُده َ ورشع هلــم
عــن االشــتغال باخللــق، واالنقطــاع ُْ وجعيتُــه عليــه ،واخللــو ُة بــه، اهللِ تعــاىلَ ،
ـال عليــه يف وح ُّب ـ ُه ،واإلقبـ ُ ـر ذكـ ُـر ُه ُ ـث يصـ ُ ـتغال بــه وحــده ســبحانه بحيـ ُ واالشـ ُ
ِ
ـم ك ُّلــه بــه، ـر َاهلـ ُّ ـل ُهــوم القلــب وخطراتــه ،فيســتويل عليــه َبدَ هلــا ،ويصـ ُ َمـ ِّ
(((
فيصري ـرب منــه، ِ ـره ،والتفكـ ُـر يف حتصيـ ِ ـرات ك ُّلهــا بذكـ ِ
ُ ـل َم َراضيــه ومــا ُيقـ ُ واخلطـ ُ
ِ ِ
ـن ُأنســه باخللــق ،ف ُيعــدُّ ه بذلــك ألُنســه بــه يــو َم الوحشــة يف ِ ُأنســه بــاهلل بـ ً
ـدل عـ ْ
ـكاف القبــور حــن ال َأنيــس لــه ،وال مــا يفــرح بــه ســواه ،فهــذا مقصــود االعتـ ِ
ُ َ ُ َ
األعظ ـمِ»(((.
( )1أي :بدل اهلموم واخلطرات.
( )2زاد املعاد (.)83 ،82/2
14
االنتقال إلى الفهرس
الس ُ
ِّمة الرابعة
ﱫ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ
ﭵ ﭶ ﭷ ﱪ[النــور.]٢١ :
سمعت ز ََجل القوم أي أصواهتم .واملراد تسبيح املسبحني .ينظر :البارع يف اللغة (ص)637 :
ُ ( )1يقال:
( )2مدارج السالكني (.)195/1
23
االنتقال إلى الفهرس
الس ُ
ِّمة الثامنة
ُ
االعرتاف بالذن ِب والتقصري
ً
وتأمــا رسي ًعــا يف ابتهــاالت األنبيــاء والصاحلــن إن ملحــ ًة خاطفــ ًة،
َّ
رسا يكتنفهــا ،أال وهــو اشــتامهلا عــى ُ
يكشــف لــك ًّ ومناجاهتــم وأدعيتهــم،
ـجل وصفحـ ٍ
ـات مرشقـ ًة مــن اعرتافهــم ـراف بالذنــب والظلــم ،وإليــك ِسـ ًّ
االعـ ِ
بالذنــب والظلــم:
فهــذا آدم وحــواء يدعــوان :ﱫ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ
ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﱪ [األعــراف.]٢٣ :
وهـــذا موسى - وهـــو ِمـــن ُأويل العــزم ِمن الرســـل -يدعـو:
ﱫ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﱪ
[القصــص ،]١٦ :وهــذا يونــس يبتهــل إىل ر ِّبــه و ُيناجيــه معرت ًفــا بذنبــه
بــل بكونــه ِمــن الظاملــن ،ﱫ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﱪ [األنبيــاء.]٨٧ :
وحينــا اسرتشــد الصديــق النبــي ﷺ وقــال لــه :علمنــي دعــاء أدعــو
ـراَ ،و َل َيغ ِْفـ ُـر ِ بــه يف صــايت ،قــالُ « :قــل :ال َّلهــم إِن َظ َلمـــ ُ ِ
ـت َن ْفســـــي ُظ ْلـ ًـا كَثـ ً ْ ُ َّ ِّ
ْــت حنِــي إِن َ
َّــك َأن َ ْــتَ ،فا ْغ ِفــر ِل مغ ِْفــر ًة ِم ِ ِ
ــن عنْــد َكَ ،و ْار َ ْ
ْ ْ َ َ ُــوب إِ َّل َأن َ
الذن َُّ
يــم»(((. ال َغ ُفــور ِ
الرح ُُ َّ
إهنــا الرتبيــة النبويــة التــي حتــدُّ ِمــن اســتعالء العبــد ،وجتعلــه دائــم
ـتحرضا ذنوبــه بــن عينيــه ،وإذا
ً االفتقــار لربــه ،دائــم االنكســار بــن يديــه مسـ
ـن هــو فضـ ًـا وإمامـ ًة
كانــت هــذه هــي وصيــة النبــي ﷺ أليب بكــر وهــو َمـ ْ
( )1أخرجه البخاري ( )166/1رقم ( ،)834ومسلم ( )2078/4رقم ( )2705من حديث أيب بكر
الصديق .
24
االنتقال إلى الفهرس
وجاللــة ونــر ًة لدينــه وذ ًّبــا عــن نبيــه؛ فكيــف يكــون حالنــا ونحــن املذنبــون
املفرطــون؟!
ـا عــى ربــك، فالــز ْم أهيــا ا ُمل ْعتَكِــف هــذا املشــهد ،معرت ًفــا بذنبــك ،مقبـ ً
متيقنًــا مــن قلبــك أ َّنــك ِمــن الظاملــن ،واجعــل هــذه الدعــوات املباركــة عــى
ــس((( هبــا بشــفتيك ،وقل ُبــك ِمــنواحــذر أن َتنْبِ َ
ْ لســانِك يف ِّ
كل أحوالــك،
القلــب مــا جيــري بــه
ُ أن ُيواطِــئ
فــإن حقيقــ َة الصــدق ْ ٍ
خــالَّ ، االعــراف هبــا
اللســان.
ــس َن ْب ًســا ،أي :تكلــم وحــرك شــفتيه ،وتكلــم بأقــل الــكالم .ينظــر :املحكــم واملحيــط
( )1يقــالَ :ن َب َ
( ،)530/8لســان العــرب (.)225/6
25
االنتقال إلى الفهرس
الس ُ
ِّمة التاسعة
ُمفـ ِّـرد ،واملــراد بــه املنفــرد واملنقطــع إىل اهلل بقلبــه ولســانه لكثــرة ذكــره.
روح األعــال وأكربهــا كــا قال
الذكــر وعظيــم أثــره ،كان َ وجلاللــة منزلــة ِّ
تعــاىل:ﱫ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﱪ [العنكبــوت.(((]٤٥ :
ـان و ُيرطبــه ،و َيصقــل اإليــان و َيرفعــه؛ كذكر اهلل ،وال يشء ُي َذ ِّلــل اللسـ َ
أوراد ِمــن األذكار َي ْع ُمــر هبــا اللحظــاتُ ،
وييــي هبــا ٍ وال ِســيام َمــن َحا َفـ َ
ـظ عــى
أن ذلــك هــو ســاح املؤمــن القلــب ،وقــد تــوارد الصاحلــون وتوافقــوا عــى َّ
الــذي َيــرق ُح ُجــب الغفلــة ،ويفتــح أقفــال القلــب يف كل عــر ،فكيــف
31
االنتقال إلى الفهرس
العبــادة؛ ملــا ينطــوي عليــه ِمــن
إذن فالدعــاء هــو ُلــب التَّعبــد ،وخالــص ِ
ُ ْ
ـذل بــن يديــه ،وهــو أنفــع عبوديــات القلــب وأكثرهــا االفتقــار التــام هلل ،والـ ُّ
ـرا فيــه ،وال ســيام إذا حــر قلــب الداعــي ،واســتحرض معــاين مــا يدعــو تأثـ ً
بــه ،فــإذا كانــت تلــك الدعــوات واالبتهــاالت ممــا أخــر اهلل بــه ِمــن أدعيـ ِ
ـة
يشء للقلــب؛ ملــا تشــتمل عليــه ِمــن جمامــع الدعــاء،
ـوة خلقــه كانــت أنجــع ٍ
صفـ ِ
وصــدق التذلــل ،واســتحضار معــاين الربوبيــة؛ وهلــذا كان األنبيــاء ُيصــدِّ رون
أدعيتَهــم ِ
بقوهلــم« :ر َّبنــا».
وأكثــر أدعيــة القــرآن كذلــك ،تــأيت ُمصــدَّ رة بالتوســل إىل اهلل بربوبيتــه،
والدَّ اعــي حينــا يدعــو اهلل ُمتوسـ ًـا بربوبيتــه َيســن لــه اســتحضار معنــى تربيــة
اهلل العامــة ،وهــي :اخللــق والتدبــر ،ومعنــى الرتبيــة اخلاصــة ،وهــي :واليتــه
خليــار خلقــه ،ولطفــه هبــم وإصالحــه لدينهــم ودنياهــم ،وذلــك إلقباهلــم عــى
رهبــم ،ورضاعتهــم بــن يديــه.
ِ
ـن أن يدعــو بأدعيــة األنبيــاء؛ فإهنــا أدعي ـ ٌة جامع ـ ٌةْ َ ،
ويسـ ُ ـتحب لــه ْ
و ُيسـ ُّ
أن يدعــو بدعــاء الراســخني يف العلــم؛ ألنــه ســبحانه حينــا أثنــى بالداعــي ْ
عليهــم ذكــر دعوهتــم :ﱫ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ
ﯹ ﯺ ﯻ ﱪ [آل عمــران. ]8 :
يمنحهــم اســتقامة القلــوب وثباهتــا عــى
أن َ فتوســلوا إىل اهلل بربوبيتــه ْ
مــرايض اهلل ،وحفظهــا ِمــن الزيــغ ،والنكــوص عــن اهلدايــة(((.
ُ
اإلخبات واخلشوع(((
( )1أخرجه أبو نعيم يف احللية ( ،)311/2وينظر :اخلشوع يف الصالة البن رجب ص (.)19
( )2أخرجه اإلمام أمحد يف الزهد ص ( )258رقم ( ،)1859وأبو نعيم يف حلية األولياء (.)378/2
( )3ينظر :اخلشوع يف الصالة البن رجب ص (.)19
( )4أخرجه مسلم ( )2088/4رقم (.)2722
36
االنتقال إلى الفهرس
اخلاشــعني فيهــا بقولــه :ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﱪ
[املؤمنــون.]2 ،1 :
ِ
ومــن مواضــع اخلشــوع :الســجود ،وهــو أعظــم مــا َيظهــر فيــه ُذ ُّل العبــد
لر ِّبــه ،حيــث جيعــل العبــد أرشف مــا لــه ِمــن األعضــاء ،وأعزهــا عليــه
وأعالهــا أوضــع مــا يمكنــه ،فيضعــه يف الــراب ُم َت َع ِّفـ ًـرا ،ويتبــع ذلــك انكســار
القلــب وتواضعــه وخشــوعه هلل .
ــه ،قــال اهللوهلــذا كان جــزاء املؤمــن إذا فعــل ذلــك أن يقربــه اهلل إِ َلي ِ
ْ ُ
تعــاىل :ﱫ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﱪ [العلــق ،]19 :وقــال َ :
«أ ْقـ َـر ُب َمــا َي ُكـ ُ
ـون
ـو َسـ ِ ِ ِ
ـاجدٌ »(((. ا ْل َع ْبــدُ مـ ْ
ـن َر ِّبــه َو ُهـ َ
ـادة اهلل ،والســجود كان ممــا يأنــف منــه املرشكــون املســتكربون عــن ِعبـ ِ
ـذبعضهــم يأخـ ُ أن أســجدَ فتعلــوين اســتي ،وكان ُ بعضهــم يقــول :أكــره ْ وكان ُ
ِ
ـن الســجود((((). ك ًّفــا مــن حــى ،فريفعــه إىل وجهــه ،ويكتفــي بذلــك عـ ْ
وإبليــس إِ َّنــا طــرده اهلل ملــا اســتكرب عــن الســجود َل ِــن أمــره اهلل بالسـ ِ
ـجود ْ َ َ ُ َ
لــه؛ وهلــذا يبكــي إذا ســجدَ املؤمــن ويقــولُ :أ ِمـ َـر ابــن آدم بالســجود ففعــل فلــه
ـت فــي النــار(((.
ـرت بالســجود فعصيـ ُ
وأمـ ُ اجلنــةُ ،
ِ
ركوعــه وســجوده ،أنــه ِ
ومــن متــا ِم خشــوع العبــد هلل وتواضعــه لــه يف
ـف ربــه حينئــذ بصفــات ِ
الع ـ ِّز والكربيــاء إذا َذ َّل لر ِّبــه بالركــوع والســجود وصـ َ َ َّ
والعظمــة والعلــو ،فكأنــه يقــول :الـ ُّ
ـذل والتواضــع وصفــي ،والعلــو والعظمــة
( )1أخرجه مسلم ( )350/1رقم ( )482من حديث أيب هريرة
( )2أخــرج البخــاري ( ،)40/2رقــم ( ،)1067ومســلم ( )405/1رقــم ( )576مــن حديــث عبــداهلل
بــن مســعود ،عــن النبــي أنــه قــرأ ﴿والنجــم﴾ فســجد فيهــا ،وســجد مــن كان معــه ،غــر أن
شــيخا أخــذ كفــا مــن حــى أو تــراب فرفعــه إىل جبهتــه ،وقــال :يكفينــي هــذا ،قــال عبــد اهلل« :لقــد
رأيتــه بعــدُ ُقتِــل كافــرا».
( )3أخرجــه مســلم ( )87/1رقــم ( ،)81مــن حديــث أيب هريــرة قــال :قــال رســول اهلل ﷺ« :إذا قــرأ
ـجود َفســجد ـيطان يبكــي ،يقــول :يــا ويــيُ ،أمــر ابــن آد َم بِ ُّ
السـ ُ ـزل الشـ ُ ـن آدم الســجدة فســجد اعتـ َ ابـ ُ
ـار».
ُ ـ الن ـي ـ ف ـت
ُ ـ فأبي ـجود ـ بالس ـرت
ُ ـ م ُ
وأ ـة،ـ ن ْ
ال هفلـ ُ
َ
37
االنتقال إلى الفهرس
أن يقــول :ســبحان ريب ِ
ركوعــه ْ والكربيــاء وصفــك ،فلهــذا ُشع للعبــد يف
العظيــم ،ويف سـ ِ
ـجوده :ســبحان ريب األعــى.
ـارا ،وصـ َ
ـل ِ فمتــى امتـ َ
ـب العبــد خشــو ًعا وإخبا ًتــا ،وخضو ًعــا وانكسـ ً
أ قلـ ُ
ـال غايتهــا.ـب العبــادة ،وحقــق مقصودهــا ،ونـ َ إىل ُلـ ِّ
38
االنتقال إلى الفهرس
وختاما:
ً
فهــذه إحــدى عــرة ِســمةِ ،مــن خالهلــا يتوصــل ا ُملوفــق إىل روح
ـت يف االعتـ ِ
ـكاف فحســب ،بــل االعتــكاف و ُلبــه ومقصـ ِ
ـوده ،وهــذه الغايــة ليسـ ْ ِّ
ِ
العبــادات أمجــع. يف
عــي وعليــك بلــزوم االفتقــار
وامتــن َّ
َّ وهبنــي اهلل وإيــاك دوام الصــدق،
ـوب واإلقبـ ِ
ـال عليــه، إليــه ،واالنكســار بــن يديــه ،ووفقنــا لــدوا ِم عكـ ِ
ـوف القلـ ِ ُ
ومــن االلتجـ ِ
ـاء إال ـار إال بــن يديــهِ ، ـذل إال لــهِ ،
ومــن االنكسـ ِ نعــو ُذ بــاهللِ ِمــن الـ ِّ
إليــه ،ﱫ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﱪ [هــود.]٨٨ :
39
االنتقال إلى الفهرس
فهرس املوضوعات
4 مقدمة.
5 الس ُ
ِّمة األوىل :قط ُع العالئِق عن اخلالئِق.
7 ُ
العيش مع القرآن. الس ُ
ِّمة الثانية:
14 ُ
وصدق إقبالِه. ُ
مجعية القل ِب الس ُ
ِّمة الثالثة:
15 الس ُ
ِّمة الرابعة :استشعا ُر مَعيَّة اهلل لعب ِده.
21 الس ُ
ِّمة السابعة :استحضا ُر مِنة اهلل وفضله.
40
41