You are on page 1of 29

‫جميع الحقوق محفوظة‬

‫الطبعة الولى‬
‫‪1 4 2 8‬هـ ‪2 0 0 7 -‬م‬

‫رقم اليداع‪2 0 4 2 / 2 0 0 7 :‬م‬

‫الترقيم الدولي‪I.S.B.N :‬‬


‫‪4 – 011 – 441 – 977‬‬

‫مؤسسة اقرأ‬
‫للنشر والتوزيع والترجمة‬
‫ش أحمد عمارة ‪ -‬بجوار حديقة الفسطاط‬ ‫‪10‬‬
‫القاهرة ت‪5326610 :‬‬
‫محمول‪:‬‬
‫‪0101175447 -0102327302‬‬
‫‪www.iqraakotob.com‬‬
‫‪E-mail:info@iqraakotob.com‬‬
‫البتــلء‬
‫وكيف تستفيد منه‬
‫الدعوات؟!‬
‫كِثيًا [النساء‪.]19 :‬‬
‫جعَلَ الُ فِي ِه خَيْرًا َ‬
‫فَ َعسَى أَن َتكْرَهُوا شَيْئًا َويَ ْ‬

‫تأليف‬
‫مجـــــدي الهللــــــــي‬
‫‪www.ALEMANAWALAN.com‬‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬ ‫‪4‬‬

‫رب يسر وأعن يا كريم‬


‫بسم الله والحمد لله والصلة والسلم‬
‫على رسول الله ‪ ،‬وبعد‪:‬‬
‫فكلما وقع ابتلء جديد للدعوة فإن‬
‫المتبادر إلى الذهن عند الكثير من أبنائها أن‬
‫السبب في هذا البتلء هو طبيعة الصراع بين‬
‫الحق والباطل‪ ،‬فالباطل يكره الدعوة‪ ،‬ويتمنى‬
‫زوالها‪ ،‬ويسعى للقضاء عليها أو تحجيمها‪،‬‬
‫م يتحيَّن أي فرصة مواتية لتكييل‬
‫ومن ث َّ‬
‫ما كل ما يمكن‬‫الضربات لها مستخد ً‬
‫استخدامه من أدوات التنكيل والتشويه‬
‫المختلفة‪.‬‬
‫سنة الدعوات‪:‬‬
‫ضا أن البتلء سنة‬ ‫ويتبادر إلى الذهن أي ً‬
‫ثابتة من سنن الدعوات‪ ،‬وأنه من علمات‬
‫الصدق‪ ،‬والسير في التجاه الصحيح نحو‬
‫تحقيق الهداف‪ ،‬وكيف ل والتاريخ يؤيد هذه‬
‫الحقيقة‪ ،‬والقرآن يؤكدها وَلَنَ ْبلُوَّنكُ ْم حَتّى نَ ْعلَمَ‬
‫اْل ُمجَاهِدِينَ ِم ْنكُمْ وَالصّاِبرِينَ وَنَ ْب ُلوَ َأخْبَا َركُمْ [محمد‪.]31 :‬‬
‫س أَن يُ ْت َركُوا أَن َيقُولُوا آ َمنّا وَهُ ْم لَ ُيفْتَنُو َن وََلقَدْ فَتَنّا‬ ‫َأحَسِبَ النّا ُ‬
‫الّذِي َن مِن قَ ْب ِلهِمْ َفلََي ْع َلمَنّ الُ الّذِي َن صَدَقُوا وَلََي ْع َلمَنّ اْلكَاذِبِيَ‬
‫‪5‬‬ ‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬

‫[الروم‪.]3 -2 :‬‬
‫ومما ل شك فيه أن هذا التحليل الجيد‬
‫لحدث البتلء له فوائده العظيمة في طمأنة‬
‫القلوب بأن الدعوة تسير في المسار‬
‫م فهو يصرف عن نفوس‬ ‫الصحيح‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫أبنائها كل مسببات الوهن والتيئيس والتخذيل‬
‫التي يحلو لبعض أصحاب الشهوات والشبهات‬
‫أن يروجوا لها مع كل ابتلء جديد يصيب‬
‫الدعوة‪.‬‬
‫النظرة المتكاملة‪:‬‬
‫ومع هذا التحليل الذي ينبغي أل يفارق‬
‫الذهان‪ ،‬إل أنه وحده ل يكفي إذا ما أردنا أن‬
‫تصبح الصورة مكتملة‪ ،‬والرؤية شاملة من كل‬
‫سن استفادة الدعوة من‬ ‫الجوانب‪ ،‬وبالتالي تح ُ‬
‫حدث البتلء‪ ،‬ويكون بمثابة فرصة عظيمة‬
‫لضبط إيقاع الحركة‪ ،‬والنطلق بقوة إلى‬
‫المام نحو تحقيق أمل المة جميعها‪.‬‬
‫وإذا ما أردنا الستفادة من حدث البتلء‬
‫لمصلحة الدعوة‪ ،‬فإن هناك بعض النقاط التي‬
‫لبد من وضعها في العتبارـ بالضافة إلى ما‬
‫يراه أهل الختصاص والقائمون على الدعوة‬
‫مما يفتح الله به عليهم‪.‬‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬ ‫‪6‬‬

‫أولى هذه النقاط‪:‬‬


‫ضرورة التحليل العميق والمتكامل‬
‫لحدث البتلء‬
‫البتلء حدث من الحداث غير السارة‬
‫التي تمر بالدعوة‪ ،‬فل يوجد من يتمنى‬
‫وقوعه‪ ،‬وكيف ل يكون المر كذلك والكل‬
‫يعلم الثار التي يخلفها هذا الحدث من‬
‫اضطراب ولو وقتي في الحركة‪ ،‬وتعطيل‬
‫تنفيذ بعض العمال‪ ،‬وحرمان الدعوة من‬
‫كفاءات تحتاجها‪ ،‬بل إنه في بعض الحيان‬
‫يعود بالدعوة إلى الوراء‪.‬‬
‫معنى ذلك أن حدث‬
‫البتلء ل ينبغي أن يمر‬
‫بسهولة على أهل الدعوة‪،‬‬
‫بل لبد أن يتم تحليله من‬
‫كل جوانبه‪ ،‬ومعرفة‬
‫أسبابه الحقيقية وليست‬
‫الشكلية ومن ثم‬
‫الستفادة القصوى منه‪.‬‬
‫وإننا حين نفعل ذلك فإنما نهتدي بهدي‬
‫القرآن‪ ،‬الذي نجده يقف وقفة طويلة مع أحد‬
‫البتلءات التي مرت بها الدعوة في الجيل‬
‫‪7‬‬ ‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬

‫الول‪ ،‬ذلكم هو انتصار ثم انكسار المسلمين‬


‫وهزيمتهم في أحد‪.‬‬
‫فالمتأمل لليات التي تتحدث عن هذه‬
‫الغزوة في سورة آل عمران يجدها آيات‬
‫كثيرة تناولت الحدث من كل جوانبه‪ ،‬وحللت‬
‫السباب‪ ،‬وكشفت مواضع الضعف التي‬
‫ظهرت في الصف المسلم‪..‬‬
‫ما يقرب من ستين آية تتحدث عن الغزوة‬
‫في أطول حديث عن غزوة في القرآن بدءًا‬
‫ك تُبَ ّوئُ اْلمُ ْؤمِنِيَ‬
‫من قوله تعالى‪ :‬وَِإ ْذ غَدَ ْوتَ مِ ْن أَ ْه ِل َ‬
‫َمقَاعِدَ ِل ْلقِتَالِ [آل عمران‪.]121 :‬‬
‫ل لِيَ َذرَ اْلمُؤْمِِنيَ‬
‫وانتهاء بقوله سبحانه‪ :‬مَا كَا َن ا ُ‬
‫ث مِنَ الطّيّبِ َومَا كَانَ الُ‬ ‫َعلَى مَا أَْنتُمْ َعلَ ْي ِه حَتّى َيمِيزَ اْلخَبِي َ‬
‫سلِهِ مَن َيشَاءُ [آل‬ ‫ل َيجْتَبِي مِن ّر ُ‬
‫لُِي ْطلِ َعكُ ْم َعلَى اْلغَيْبِ وََلكِ ّن ا َ‬
‫عمران‪.]179 :‬‬
‫ثانيًا‪ :‬البتلء من عند الله‬
‫وهذه حقيقة يقينية ينبغي أن نعتقدها‪،‬‬
‫ونتذكرها‪ ،‬ونستحضرها في كل أمور حياتنا‪،‬‬
‫فالله عز وجل هو المعطي والمانع‪ ،‬وهو‬
‫المقدم والمؤخر‪ ،‬وهو الباسط والقابض‪ ،‬وهو‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬ ‫‪8‬‬
‫الرافع والخافض‪ ..‬ما شاء كان وما لم يشأ لم‬
‫يكن‪.‬‬
‫فحقيقة البتلء أنه من عند الله َومَا َأصَاَبكُ ْم‬
‫جمْعَانِ فَبِِإ ْذنِ الِ [آل عمران‪ .]166 :‬وعندما‬ ‫يَوْمَ الَْتقَى اْل َ‬
‫يتحدث القرآن عن البتلء الشديد لبني‬
‫إسرائيل على يد فرعون فإنه يذكرنا بأن‬
‫جوهر هذا البتلء أنه من عند الله عن طريق‬
‫فرعون وَِإذْ َنجّ ْينَاكُم مّ ْن آلِ ِف ْرعَ ْو َن يَسُومُوَنكُ ْم سُوءَ اْلعَذَابِ‬
‫سَتحْيُو َن نِسَا َءكُمْ وَفِي ذَِلكُمْ بَل ٌء مّن رّّبكُمْ‬
‫يُذَّبحُو َن أَبْنَا َءكُمْ وَيَ ْ‬
‫َعظِيمٌ [البقرة‪.]49 :‬‬
‫أرأيت بماذا ختمت الية وَفِي ذَِلكُ ْم بَلءٌ مّن‬
‫رّّبكُ ْم َعظِيمٌ وليس من فرعون‪ ،‬وإن كان هذا ل‬
‫يعفي فرعون من المسئولية‪ ،‬فهو بالفعل‬
‫يريد التنكيل بالفئة المؤمنة‪ ،‬وطالما تربص‬
‫بها‪ ،‬وكاد لها وخطط لزوالها‪ ،‬ولكن الذي مكنه‬
‫من ذلك هو الله عز وجل‪.‬‬
‫فجوهر وحقيقة البتلء أنه من عند الله عز‬
‫وجل‪ ،‬وإذا شاء سبحانه أل يقع لما وقع‪ ،‬ولو‬
‫اجتمعت كلمة الجميع على ضرورة وقوعه‬
‫وَلَ ْو شَاءَ رَّبكَ مَا َف َعلُوهُ [النعام‪ ،]112 :‬فكم من‬
‫‪9‬‬ ‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬

‫خطط ومكائد كادها أعداء الدعوة لها‬


‫ل َعلَ ْيكُمْ‬
‫تا ِ‬‫وأفشلها الله يَا أَّيهَا الّذِي َن آمَنُوا ا ْذ ُكرُوا نِ ْعمَ َ‬
‫ف أَيْدَِيهُ ْم عَنكُمْ‬
‫سطُوا إِلَ ْيكُمْ أَيْدَِيهُمْ َفكَ ّ‬
‫ِإذْ هَمّ قَوْ ٌم أَن يَبْ ُ‬
‫[المائدة‪.]11 :‬‬
‫وكم من المرات تهيأ فيها أعداء الدعوة‬
‫للنيل منها‪ ،‬وكانوا قاب قوسين أو أدنى من‬
‫تحقيق أهدفهم ولكن الله لم يأذن لهم بذلك‬
‫وصرفهم عنها خائبين مدحورين وَ َر ّد الُ الّذِينَ‬
‫كَ َفرُوا ِبغَ ْي ِظهِمْ لَمْ َينَالُوا خَ ْيرًا َوكَفَى الُ اْلمُؤْ ِمنِيَ الْ ِقتَالَ َوكَا َن الُ‬
‫قَوِيّا َعزِيزًا [الحزاب‪.]25 :‬‬
‫وانطلقًا من هذه‬
‫الحقيقة فإن الواجب‬
‫يحتم علينا عند وقوع‬
‫حدث البتلء أن نبحث‬
‫‪-‬بقدر استطاعتنا‪ -‬عن‬
‫السباب التي جعلت الله‬
‫عز وجل يصيب الدعوة‬
‫به‪.‬‬
‫وليس من الضروري أن نتوقف كثيًرا أمام‬
‫الطرف المقابل للدعوة فعداوته معروفة‪،‬‬
‫وأمانيه معلومة‪ ،‬وخططه جاهزة‪ ،‬ولكنه ل‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬ ‫‪10‬‬
‫يستطيع أن يفعل شيئًا منها بدون إرادة الله‬
‫وإذنه ومشيئته وَمَا هُم بِضَارّي َن بِ ِه مِ ْن َأحَدٍ ِإ ّل بِِإ ْذ ِن الِ‬
‫[البقرة‪ ]102 :‬وَِإذْ َي ْم ُكرُ ِبكَ الّذِي َن َك َفرُوا لِيُ ْثبِتُو َك َأوْ َيقُْتلُوكَ‬
‫ل خَ ْيرُ ا ْلمَاكِرِينَ [النفال‪:‬‬ ‫خ ِرجُوكَ وََي ْم ُكرُونَ وََي ْم ُكرُ الُ وَا ُ‬
‫أَ ْو ُي ْ‬
‫‪.]30‬‬
‫ثالثًَا‪ :‬على قدر المنزلة تكون المسئولية‬
‫ما‬‫ينبغي على أهل الدعوة أن يتذكروا دو ً‬
‫بأنه على قدر المنزلة تكون المسئولية‪،‬‬
‫بمعنى أن الله عز وجل اختارهم على علم‬
‫للقيام بأشرف مهمة أل وهي مهمة إيقاظ‬
‫المة وإقامة المشروع السلمي‪ ،‬فهم‬
‫منتدبون ومكلفون من الله عز وجل لدائها‪،‬‬
‫فل بد وأن يكونوا على مستوى تلك‬
‫المسئولية من عمل متواصل‪ ،‬وجهاد دائم‪،‬‬
‫وأي تهاون أو تكاسل أو تفريط لن يمر‬
‫بسهولة‪ ،‬وستدفع الدعوة ثمنه باهظًا وَإِن تََتوَلّوْا‬
‫ل َيكُونُوا َأمْثَاَلكُمْ [محمد‪.]38 :‬‬
‫يَسْتَبْ ِدلْ َقوْمًا غَ ْي َركُمْ ثُ ّم َ‬
‫إن نعمة الختيار للقيام بالدعوة لبد أن‬
‫حسن أدائها‪ ..‬قال ‪« :‬إن ل تعال أقوامًا‬
‫يقابله ُ‬
‫يتصهم بالنعم لنافع العباد ويقرهم فيها ما بذلوها‪ ،‬فإذا منعوها‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟! ‪11‬‬
‫(‪)1‬‬
‫نزعها منهم فحولا إل غيهم»‪.‬‬
‫تأمل معي ما خاطب الله عز وجل به‬
‫الصحابة رضوان الله عليهم عندما تباطأ‬
‫بعضهم عن الخروج لغزوة تبوك بسبب الحر‬
‫الشديد اللهب‪ ،‬وبسبب قرب نضج ثمار‬
‫التمر‪ ،‬الذي كان يعد بمثابة المحصول الول‬
‫لهم وقوام حياتهم‪ ،‬ورغم أنهم لم يطلبوا‬
‫سوى تأجيل الخروج لبعض الوقت حتى‬
‫ينكسر الحر‪ ،‬ويجمعوا التمر‪.‬‬
‫يَا أَّيهَا الّذِي َن آمَنُوا مَا َلكُ ْم ِإذَا قِيلَ َلكُمُ اْن ِفرُوا فِي سَبِيلِ ا ِ‬
‫ل‬
‫اثّا َقلْتُ ْم إِلَى الَ ْرضِ َأ َرضِيتُ ْم بِاْلحَيَاةِ الدّنْيَا مِ َن ا َلخِرَةِ َفمَا مَتَاعُ اْلحَيَاةِ‬
‫ستَبْ ِدلْ‬
‫الدّنْيَا فِي ا َل ِخرَةِ ِإلّ َقلِي ٌل ِإلّ تَن ِفرُوا ُيعَذّْبكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَ ْ‬
‫ضرّو ُه شَيْئًا وَالُ َعلَى ُك ّل َشيْءٍ‬ ‫قَ ْومًا غَ ْي َركُمْ َو َل تَ ُ‬
‫قَدِيرٌ [التوبة‪.]39 ،38 :‬‬
‫مع العلم بأن هؤلء الفذاذ كانت لهم‬
‫سابقة طويلة من الجهاد والتضحية والبذل‬
‫بصورة لم يسبق لها مثيل‪ ،‬ولكن – كما أشرنا‬
‫– على قدر المنزلة تكون المسئولية‪.‬‬

‫() صحيح الامع الصغي‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬ ‫‪12‬‬

‫رابعًا‪ :‬سبب البتلء قد يكون من جانب‬


‫أبناء الدعوة‬
‫كان عدد الجيش في غزوة أحد سبعمائة‬
‫فرد وكان على رأسهم الرسول ‪ ،‬وكبار‬
‫الصحابة‪ ،‬وبدأت المعركة وحقق الجيش‬
‫المسلم انتصاًرا باهًرا بعون من الله عز وجل‪،‬‬
‫ثم حدث من الرماة ما حدث من مخالفة أمر‬
‫الرسول بعدم مغادرة أماكنهم أعلى الجبل‬
‫‪-‬مهما حدث‪ -‬إل بإذنه‪..‬‬
‫هنا تحولت الريح لتكون مع الكافرين‪،‬‬
‫وأذن الله لهم أن يهزموا المسلمين ويقتلوا‬
‫منهم سبعين رجلً‪ ،‬وكان من بينهم أسد الله‬
‫حمزة بن عبد المطلب‪ ،‬ومصعب بن عمير‪،‬‬
‫وعبد الله ابن جحش‪ ،‬وسعد بن الربيع‪ ،‬وأنس‬
‫بن النضر‪ ،‬وغيرهم من كبار الصحابة ‪ -‬رضي‬
‫الله عنهم أجمعين‪ -‬وفوق هذا كله أصيب‬
‫الرسول إصابات بالغة ‪ ..‬كل ذلك لم يكن‬
‫بسبب قوة الكفار‪ ،‬ولكن بسبب مخالفة‬
‫الرماة لمر من أوامر الرسول ‪.‬‬
‫ولكن كم كانت تبلغ نسبة الرماة الذين‬
‫غادروا أماكنهم بالمقارنة بعدد الجيش حتى‬
‫تكون مخالفتهم هي السبب في هذه المصيبة‬
‫العظيمة التي وقعت؟‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟! ‪13‬‬
‫لقد كان عدد الذين خالفوا من الرماة‬
‫أربعين رجلً‪ ،‬وكان إجمالي عدد الجيش‬
‫سبعمائة‪ ،‬أي أن نسبتهم لم تتجاوز ستة‬
‫بالمائة من إجمالي العدد!!‬
‫ولكن أل توافقني – أخي القارئ – أنها‬
‫نسبة ضئيلة مقارنة بالغالبية الملتزمة‬
‫بالوامر؟!‬
‫‪ ..‬نعم‪ ،‬هي كذلك ولكن المر عند الله ل‬
‫يقاس بهذه الطريقة وخاصة فيما يتعلق‬
‫بأصحاب الدعوات‪.‬‬
‫وبعد انتهاء المعركة بدأت التساؤلت‬
‫تسري بين الصحابة عن أسباب هذا النكسار‬
‫وهذه المصيبة التي لم يعهدوها من قبل‪،‬‬
‫فكان الرد القرآني الحاسم بأن السبب الذي‬
‫استدعى هذا كله هو‪ :‬من عند أنفسكم َأوَ َلمّا‬
‫َأصَابَ ْتكُم مّصِيَبةٌ قَ ْد َأصَبْتُم مّ ْثلَ ْيهَا ُقلْتُ ْم أَنّى هَذَا ُقلْ هُوَ ِم ْن عِنْدِ‬
‫ل َعلَى ُكلّ َشيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران‪.]165 :‬‬ ‫سكُ ْم ِإ ّن ا َ‬
‫أَنْفُ ِ‬
‫فتعلم الجميع الدرس‪ ،‬وتعاملوا مع‬
‫الحداث بعد ذلك من هذا المنطلق‪ ،‬فها هو‬
‫عمر بن الخطاب يودع سعد بن أبى وقاص‬
‫رضي الله عنهما قبل سفر الجيش لملقاة‬
‫الفرس في القادسية فكان مما قاله له‪:‬‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬ ‫‪14‬‬
‫«وآمرك ومن معك من الجناد بتقوى الله‬
‫على كل حال‪ ،‬فإن تقوى الله أفضل العدة‬
‫على العدو‪ ،‬وأقوى المكيدة في الحرب‪،‬‬
‫سا‬
‫وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احترا ً‬
‫منكم من عدوكم‪ ،‬فإن ذنوب الجيش أخوف‬
‫عليكم من عدوكم»‪.‬‬
‫اتهام النفس أولً‪:‬‬
‫من هنا يتأكد لنا بأن‬
‫أهم سبب لوقوع البتلء‬
‫هو الذنوب والتقصير‬
‫والمخالفات من جانب‬
‫أبناء الدعوة وإن كانت‬
‫قليلة إلى المجموع‪.‬‬
‫‪..‬لبد أن تكون هذه الحقيقة من البدهيات‬
‫التي ينبغي أن ترسخ في أذهاننا وتُستدَعى‬
‫سريعًا وقت حدوث البتلء‪.‬‬
‫ولنا في رسول الله أفضل السوة‬
‫في ذلك‪ ،‬فبعد خروجه من الطائف‪،‬‬
‫وابتلئه الشديد فيها بصورة لم يسبق لها‬
‫مثيل‪ ،‬فإن أول ما تبادر لذهنه بأن‬
‫يكون قد حدث منه شيء استدعى غضب‬
‫الله فتمثل في هذا البتلء‪ ..‬تأمل معي ما‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟! ‪15‬‬
‫ناجى به ربه وهو في طريق عودته من‬
‫الطائف‪« :‬إن ل يكن بك غضب عليّ فل أبال‪ ،‬لكن‬
‫عافيتك هي أوسع ل‪ ،‬أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له‬
‫الظلمات‪ ،‬وصلح عليه أمر الدنيا والخرة أن ينل ب‬
‫غضبك‪ ،‬أو يل عليّ سخطك‪ ،‬لك العتب حت ترضى ول‬
‫حول ول قوة إل بك»‪.‬‬
‫سا‪ :‬أأنا السبب؟!‬
‫خام ً‬
‫وبناء على ما سبق‪ ،‬فعلى كل منا أن يرفع‬
‫شعار (هل أنا السبب؟) عند حدوث أي ابتلء‬
‫للدعوة‪ ،‬وأن يوجه المرآة إلى نفسه‪ ،‬ويفتش‬
‫في أموره كلها باحثًا عن مخالفة خالفها‪ ،‬أو‬
‫تقصير قصره‪ ،‬أو ذنب اقترفه ولم يتب منه‪،‬‬
‫فلعل هذه المور هي التي تسببت في‬
‫استدعاء البتلء من الله عز وجل‪.‬‬
‫ول ينبغي أن يستهين‬
‫الواحد منا بذنب صغير‪،‬‬
‫أو تقصير يقع فيه‪،‬‬
‫فيستبعد أن يكون ذلك‬
‫هو السبب فيما حدث‪.‬‬
‫فلربما كان البتلء بسبب تهاون البعض‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬ ‫‪16‬‬
‫في أداء الصلة في أول وقتها بالمسجد‪،‬‬
‫وكيف ل يكون ذلك‪ ،‬والمسجد هو بيت كل‬
‫تقي‪ ،‬والصلة في أول وقتها من أحب‬
‫العمال إلى الله‪ ،‬وعندما يهجر البعض‬
‫المساجد‪ ،‬ويؤخر الصلة عن أول وقتها فإن‬
‫ذلك بل شك ل يرضي الله عز وجل‪ ،‬وخاصة‬
‫لو كان المر يخص الفئة المصطفاة‬
‫والمختارة للقيام بأعظم مهمة‪ ...‬مهمة إيقاظ‬
‫المة‪.‬‬
‫‪ ..‬ولربما كان البتلء بسبب تساهل‬
‫البعض فيما ل ينبغي التساهل فيه‪ ،‬والتوسع‬
‫في دائرة المباحات‪ ،‬والوقوع في دائرة‬
‫الشبهات بل والمحرمات َفلَْيحْذَرِ الّذِي َن ُيخَالِفُو َن عَنْ‬
‫أَ ْمرِ ِه أَن تُصِيَبهُمْ ِفتْنَ ٌة َأوْ يُصِيَبهُ ْم عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور‪.]63 :‬‬

‫‪ ..‬ولربما كان البتلء بسبب التنازع‬


‫شلُوا‬
‫والخلفات وتبادل التهامات َولَ تَنَا َزعُوا فََتفْ َ‬
‫وَتَذْ َهبَ ِر ُيكُمْ‬
‫[النفال‪.]46 :‬‬
‫‪ ..‬ولربما كان البتلء بسبب انشغال‬
‫البعض عن الدعوة وانصرافه عنها‪ ،‬والتفرغ‬
‫للدنيا والنغماس في ملهياتها ُقلْ إِن كَانَ آبَا ُؤكُمْ‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟! ‪17‬‬

‫شيَتُكُمْ وََأمْوَالٌ اقَْترَ ْفُتمُوهَا‬


‫وَأَبْنَا ُؤكُمْ وَِإخْوَاُنكُمْ وََأزْوَا ُجكُمْ َوعَ ِ‬
‫ب إِلَ ْيكُم مّ َن الِ‬ ‫وَِتجَارَ ٌة َتخْشَ ْو َن كَسَادَهَا َومَسَاكِ ُن َت ْرضَوَْنهَا َأحَ ّ‬
‫ل لَ َيهْدِي‬
‫وَ َرسُولِهِ َو ِجهَادٍ فِي سَبِي ِلهِ فََترَبّصُوا حَتّى يَأِْت َي الُ بِأَ ْمرِهِ وَا ُ‬
‫الْ َقوْمَ الْفَاسِ ِقيَ [التوبة‪.]24 :‬‬
‫‪ ..‬ولربما كان البتلء بسبب اعتداد‬
‫البعض برأيه‪ ،‬وإعجابه بنفسه‪ ،‬واستعلئه على‬
‫الخرين كما قال ‪« :‬فأما الهلكات‪ :‬فشح مطاع‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وهوى متبع وإعجاب الرء بنفسه»‪.‬‬
‫‪ ..‬ولربما كان البتلء بسبب عدم القيام‬
‫بواجب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫فيما بيننا‪.‬‬
‫قال مالك بن دينار‪ :‬كان حبر من أحبار‬
‫بنى إسرائيل يغشى الرجال والنساء منزله‬
‫يعظهم ويذكرهم بأيام الله عز وجل‪ ،‬فرأى‬
‫ما وقد غمز بعض النساء‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫بعض بنيه يو ً‬
‫مهل ً يا بنى مهل‪ ،‬فسقط من سريره فانقطع‬
‫ً‬
‫نخاعه‪ ،‬وأسقطت امرأته‪ ،‬وقتل بنوه في‬
‫الجيش‪ ،‬فأوحى الله تعالى إلى نبى زمانه‪ :‬أن‬

‫() صحيح الامع الصغي‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬ ‫‪18‬‬
‫أخبر فلنا الحبر أني ل أخرج من صلبك صديقا‬
‫أبدًا‪ ،‬أما كان من غضبك لي إل أن قلت‪ :‬مهل‬
‫يا بنى مهل(‪.)1‬‬
‫‪...‬ولربما كان البتلء بسبب تغير‬
‫الهتمامات والنشغال بغير المهمة المنوطة‬
‫بأصحاب الدعوة‪ ،‬وإليك أخي القارئ هذه‬
‫القصة التي تؤكد هذا المعنى‪ :‬حمل رجل من‬
‫المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو‬
‫حتى فرقه‪ ،‬ومعنا أبو أيوب النصاري‪ ،‬فقال‬
‫الناس‪ :‬ألقى بنفسه إلى التهلكة‪ ،‬فقال أبو‬
‫أيوب‪ :‬نحن أعلم بهذه الية منكم‪ ،‬إنما نزلت‬
‫فينا‪ ،‬صحبنا رسول الله ‪ ،‬وشهدنا معه‬
‫المشاهد‪ ،‬ونصرناه‪ ،‬فلما فشا السلم وظهر‬
‫اجتمعنا معشر النصار تحبُّبًا‪ ،‬فقلنا‪ :‬قد أكرمنا‬
‫الله بصحبة نبيه ونصره‪ ،‬حتى فشا السلم‬
‫وكثر أهله‪ ،‬وكنا قد آثرناه على الهلين‬
‫والموال والولد‪ ،‬وقد وضعت الحرب أوزارها‬
‫فنرجع إلى أهلينا وأولدنا فنقيم فيهما‪ ،‬فنزل‬
‫فينا‪ :‬وَأَْنفِقُوا فِي سَبِيلِ الِ َو َل ُتلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى الّت ْه ُلكَةِ‬
‫[البقرة‪ ،]195 :‬فكانت التهلكة في القامة في‬

‫() إحياء علوم الدين ‪ -2/311‬دار العرفة‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟! ‪19‬‬

‫الهل والمال وترك الجهاد(‪.)2‬‬


‫‪ ...‬ولربما كان البتلء بسبب التقصير‬
‫في أمر آخر غير ما ذكر‪ ،‬فاللبيب تكفيه‬
‫الشارة‪ ،‬وكل منا يعلم ماله وما عليه‪،‬‬
‫والمقصد من هذه الكلمات هو المسارعة إلى‬
‫محاسبة النفس وعدم إحسان الظن بها‪ ،‬بل‬
‫اتهامها بأنها السبب فيما حدث للدعوة حتى‬
‫يثبت العكس‪.‬‬
‫سا‪ :‬البتلء قد يكون منحة ربانية‬
‫ساد ً‬
‫ومع كل ما قيل عن أسباب البتلء إل أن‬
‫الحقيقة التي ل مرية فيها أن البتلء مظهر‬
‫عظيم من مظاهر حب الله ولطفه وعنايته‬
‫بالدعوة ورعايته لصحابها‪ ،‬فكما قيل‪:‬‬
‫لعلك عَتْبك محمود عواقبه‬
‫وربما صحت الجساد‬
‫بالعلل‬

‫فالبتلء رسالة من‬


‫الله للدعاة بأن عليهم‬
‫أن يراجعوا أنفسهم‬

‫() رواه أبو داود والترمذي والنسائي‪.‬‬ ‫‪2‬‬


‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬ ‫‪20‬‬

‫ويفتشوا عن مواضع‬
‫الضعف والتقصير‬
‫ليتداركوها‪ ،‬فيستكملوا‬
‫بذلك السباب المؤدية‬
‫إلى استجلب النصر‪.‬‬
‫حسن الفهم عن الله والقراءة‬ ‫المهم هو ُ‬
‫الصحيحة لحدث البتلء‪ ،‬والنظرة المتكاملة‬
‫الشاملة له‪ ،‬والبدء باتهام النفس أول ً حتى تحسن‬
‫استفادتنا من هذا الحدث ويصبح منحة‪ ،‬ووقودًا‬
‫جديدًا للدعوة تنطلق به إلى المام راشدة‪ ،‬ويدفع‬
‫أبناءها إلى مزيد من البذل واستشعار المسئولية‪،‬‬
‫وإدراك طبيعة المعركة‪ ،‬والخروج من روتين‬
‫الحياة‪ ،‬وحالة السترخاء أَلَ ْم يَ ْأنِ ِللّذِي َن آمَنُوا أَن َتخْشَعَ‬
‫ل وَمَا َن َزلَ مِنَ اْلحَقّ َو َل َيكُونُوا كَالّذِينَ أُوتُوا‬ ‫ُقلُوُبهُ ْم لِ ِذ ْكرِ ا ِ‬
‫د فَقَسَتْ ُقلُوُبهُمْ [الحديد‪:‬‬ ‫اْلكِتَابَ مِن قَ ْبلُ َفطَا َل َعلَ ْيهِمُ المَ ُ‬
‫‪.]16‬‬
‫من حكم التمحيص قبل التمكين‪:‬‬
‫ولنعلم جميعًا بأن الله عز وجل يغار على‬
‫دعوته‪ ،‬ويحب أولياءه العاملين له‪ ،‬لذلك فهو‬
‫يسوق لهم البتلء بين يدي رحمته‪ ،‬وقبل‬
‫تمكينهم في الرض ليذوقوا القهر فل يقهروا‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟! ‪21‬‬
‫مكنوا‪ ،‬ويذوقوا تحكُّم الخصم فيهم‬‫الناس إذا ُ‬
‫مكنوا ذكروا ماضيهم‬ ‫واستبداده بهم‪ ،‬فإذا ما ُ‬
‫المرير فل يوقعون بالناس مثله أبدا‪ ،‬وحينئذ‬
‫تكون المحنة في حقهم اليوم وقاية من‬
‫الضياع غدًا‪ ،‬وهو ضياع لصفقة الخرة والبد‪.‬‬
‫ولماذا يبتلى النبياء؟!‬
‫قد يتبادر للذهن تساؤل يقول‪ :‬ولماذا‬
‫يبتلى النبياء وهم خيرة الخلق وأحباء الله‬
‫وأصفياؤه؟!‬
‫يجيب عن هذا السؤال القاضي عياض في‬
‫كتابه‪ :‬الشفا بتعريف حقوق المصطفى ‪،‬‬
‫فيقول‪:‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما الحكمة في إجراء المراض‬
‫وشدّتها‬
‫وعلى غيره من النبياء على جميعهم‬ ‫عليه‬
‫السلم؟ وما الوجه فيما ابتلهم الله به من‬
‫البلء‪ ،‬وامتحانهم بما امتُحنوا به‪ ،‬كأيوب‬
‫ويعقوب ودانيال‪ ،‬ويحيى‪ ،‬وزكريا‪ ،‬وإبراهيم‪،‬‬
‫ويوسف‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬صلوات الله عليهم‪ ،‬وهم‬
‫خيرته من خلقه وأحباؤه وأصفياؤه‪.‬‬
‫‪ ...‬فاعلم – وفقنا الله وإياك‪ -‬أن أفعال‬
‫الله تعالى كلها عدل‪ ،‬وكلماته جميعها صدق‪،‬‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬ ‫‪22‬‬
‫ل مبدل لكلماته‪ ،‬يبتلي عباده كما قال تعالى‬
‫لهم‪ :‬لِنَن ُظ َر كَ ْيفَ َت ْع َملُونَ [يونس‪.]14 :‬‬
‫فامتحانه إياهم بضروب المحن زيادة‬
‫في مكانتهم‪ ،‬ورفعة في درجاتهم‪ ،‬وأسباب‬
‫لستخراج حالت الصبر والرضا‪ ،‬والشكر‬
‫والتسليم‪ ،‬والتوكل‪ ،‬والتفويض‪ ،‬والدعاء‪،‬‬
‫والتضرع منهم‪ ،‬وتأكيد لبصائرهم في رحمة‬
‫الممتحنين‪ ،‬والشفقة على المبتلين‪ ،‬وتذكرة‬
‫سوا في‬‫لغيرهم‪ ،‬وموعظة لسواهم ليتأ َّ‬
‫البلء بهم‪ ،‬فيتسلوا في المحن بما جرى‬
‫عليهم‪ ،‬ويقتدوا بهم في الصبر‪ ،‬ومحوٌ لَهنَّا ٍ‬
‫ت‬
‫فرطت منهم‪ ،‬أو غفلت سلفت لهم‪ ،‬ليلقوا‬
‫مهذ ّبين‪ ،‬وليكون أجرهم أكمل‪،‬‬ ‫الله طيبين ُ‬
‫جزل(‪.)1‬‬ ‫أوفر وأ َ‬ ‫وثوابهم‬
‫ْ‬
‫نموذج عملي لكيفية تحليل حدث‬
‫البتلء‪:‬‬
‫جا‬
‫وأخيًرا نسوق إليك أخي القارئ نموذ ً‬
‫عمليًا لكيفية تحليل حدث البتلء ننقله لك‬
‫باختصار من كتاب زاد المعاد في هدى خير‬
‫العباد للمام ابن القيم‪ ،‬وذلك في معرض‬

‫() الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض‬ ‫‪1‬‬


‫‪.2/178‬‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟! ‪23‬‬
‫حديثه عن «الحكم والغايات المحمودة التي‬
‫كانت في وقعة أحد»‪.‬‬
‫يقول رحمه الله‪ :‬وقد أشار الله سبحانه‬
‫وتعالى إلى أمهات «تلك الحكم» وأصولها في‬
‫سورة (آل عمران) حيث افتتح القصة بقوله‪:‬‬
‫ك تُبَ ّوئُ ا ْلمُ ْؤمِنِيَ َمقَاعِدَ ِللْقِتَالِ [آل‬
‫وَِإ ْذ غَدَ ْوتَ مِ ْن أَ ْه ِل َ‬
‫عمران‪ ،]121 :‬إلى تمام ستين آية‪.‬‬
‫فمنها‪ ..‬تعريفهم سوء عاقبة المعصية‬
‫والفشل‪ ،‬والتنازع‪ ،‬وأن الذي أصابهم‬
‫إنما هو بشؤم ذلك‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫وَلَقَ ْد صَدَ َقكُ ُم الُ َوعْدَهُ ِإ ْذ َتحُسّوَنهُ ْم بِِإذْنِ ِه حَتّى ِإذَا‬
‫شلْتُمْ وَتَنَا َزعْتُمْ فِي ال ْمرِ َوعَصَيْتُم مّن َبعْدِ مَا َأرَاكُم‬ ‫فَ ِ‬
‫مّا ُتحِبّونَ مِ ْنكُم مّن ُيرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مّن ُيرِي ُد ا َلخِرَةَ‬
‫د َعفَا عَنكُمْ [آل‬ ‫صرَ َفكُمْ عَ ْنهُ ْم لَِيبَْتلَِيكُمْ وَلَقَ ْ‬
‫ثُ ّم َ‬
‫عمران‪ .]152 :‬فلما ذاقوا عاقبة‬
‫معصيتهم للرسول وتنازعهم‪،‬‬
‫وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذًرا‬
‫ويقظة‪ ،‬وتحرًزا من أسباب الخذلن‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن حكمة الله وسنته في رسله‪،‬‬
‫وأتباعهم‪ ،‬جرت بأن يُدالوا مرة‪،‬‬
‫ويُدال عليهم أخرى‪ ،‬لكن تكون لهم‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬ ‫‪24‬‬
‫ما‪،‬‬
‫العاقبة‪ ،‬فإنهم لو انتصروا دائ ً‬
‫دخل معهم المؤمنون وغيرهم‪ ،‬ولم‬
‫يتميز الصادق من غيره‪ ،‬ولو انتُصر‬
‫ما لم يحصل المقصود من‬ ‫عليهم دائ ً‬
‫البعثة والرسالة‪ ،‬فاقتضت حكمة الله‬
‫أن جمع لهم بين المرين ليتميز من‬
‫يتبعهم ويطيعهم للحق‪ ،‬وما جاؤوا‬
‫به‪ ،‬ممن يتبعهم على الظهور والغلبة‬
‫خاصة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬استخراج عبودية أوليائه وحزبه في‬
‫السراء والضراء‪ ،‬وفيما يحبون وما‬
‫يكرهون‪ ،‬وفي حال ظفرهم وظفر‬
‫أعدائهم بهم‪ ،‬فإذا ثبتوا على الطاعة‬
‫والعبودية فيما يحبون ويكرهون‪،‬‬
‫فهم عبيده حقًا‪ ،‬وليسوا كمن يعبد‬
‫الله على حرف واحد في السراء‬
‫والنعمة والعافية‪..‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه سبحانه لو نصرهم دائ ً‬
‫ما‬
‫وأظفرهم بعدوهم في كل موضع‪،‬‬
‫وجعل لهم التمكين والقهر لعدائهم‬
‫أبدًا لطغت نفوسهم‪ ،‬وشمخت‬
‫وارتفعت‪ ،‬فل يُصلح عباده إل السراء‬
‫والضراء‪ ،‬والشدة والرخاء‪ ،‬والقبض‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟! ‪25‬‬
‫والبسط‪ ،‬فهو المدبر لمر عباده كما‬
‫يليق بحكمته‪ ،‬إنه بهم خبير بصير‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة‬
‫والهزيمة‪ ،‬ذلوا وانكسروا‪ ،‬وخضعوا‪،‬‬
‫فاستوجبوا منه العز والنصر‪ ،‬فإن‬
‫خلعة النصر إنما تكون مع ولية الذل‬
‫ص َركُمُ الُ‬
‫والنكسار قال تعالى‪ :‬وََلقَدْ نَ َ‬
‫ِببَدْرٍ وَأَْنتُمْ َأذِلّةٌ [آل عمران‪.]123 :‬‬
‫فهو سبحانه إذا أراد أنه يعز عبده ويجبره‬
‫وينصره‪ ،‬أذاقه مس الحاجة إليه‪ ،‬وضرورة‬
‫الفتقار إليه‪ ،‬حتى يستشعر من أعماق نفسه‬
‫ضرورة التوكل عليه‪ ،‬وأنه ل ملجأ منه إل إليه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين‪،‬‬
‫منازل في دار كرامته‪ ،‬لم تبلغها‬
‫أعمالهم‪ ،‬ولم يكونوا بالغيها إل بالبلء‬
‫والمحنة‪ ،‬فقيَّض لهم السباب التي‬
‫توصلهم إليها من ابتلئه وامتحانه‬
‫كما وفقهم للعمال الصالحة‪ ،‬والتي‬
‫هي من جملة أسباب وصولهم إليها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن النفوس تكتسب من العافية‬
‫الدائمة والنصر والغنى طغيانًا وركونًا‬
‫إلى العاجلة‪ ،‬و ذلك مرض يعوقها‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬ ‫‪26‬‬
‫عن جدَّها في سيرها إلى الله والدار‬
‫الخرة‪ ،‬فإذا أراد بها ربها ومالكها‬
‫وراحمها كرامته‪ ،‬قيَّض لها من‬
‫البتلء والمتحان ما يكون دواءً لذلك‬
‫المرض العائق عن السير الحثيث‬
‫إليه‪ ،‬فيكون ذلك البلء والمحنة‬
‫بمنزلة الطبيب يسقى العليل الدواء‬
‫الكريه‪ ،‬ولو تركه لغلبته الدواء حتى‬
‫يكون فيها هلكه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الشهادة عنده من أعلى مراتب‬
‫أوليائه‪ ،‬والشهداء هم خواصه‬
‫والمقربون من عباده‪ ،‬وليس بعد‬
‫صدَّيقيَّة إل الشهادة‪ ،‬وهو‬
‫درجة ال َّ‬
‫سبحانه يحب أن يتخذ من عباده‬
‫شهداء‪ ،‬تُراق دماؤهم في محبته‪،‬‬
‫ومرضاته‪ ،‬ويؤثرون رضاه ومحابه‬
‫على نفوسهم‪ ،‬ول سبيل لنيل هذه‬
‫الدرجة إل بتقدير السباب المفضية‬
‫إليه من تسليط العدو‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الله سبحانه إذا أراد أن يُهلك‬
‫أعداءه ويمحقهم‪ ،‬استدرجهم لما فيه‬
‫عقوبتهم وهلكهم ومحقهم‪ ،‬ومن‬
‫أعظمها بعد كفرهم‪ :‬بغيهم‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟! ‪27‬‬
‫وطغيانهم ومبالغتهم في أذى عباده‪،‬‬
‫ومحاربتهم‪ ،‬وقتالهم‪ ،‬والتسلط‬
‫عليهم‪ ،‬فيتمحص بذلك أولياؤه من‬
‫ذنوبهم وعيوبهم‪ ،‬ويزداد أعداؤه من‬
‫أسباب محقهم وهلكهم‪ ،‬وقد ذكر‬
‫سبحانه ذلك في قوله َو َل َتهِنُوا َولَ‬
‫سكُمْ‬ ‫ي إِن َيمْسَ ْ‬ ‫حزَنُوا وَأَنْتُ ُم ا َل ْعلَ ْونَ ِإ ْن كُ ْنتُم مّ ْؤمِنِ َ‬
‫َت ْ‬
‫َقرْحٌ فَقَ ْد مَسّ الْقَوْ َم َقرْحٌ مّ ْث ُلهُ وَِت ْلكَ اليّا ُم نُدَاوُِلهَا بَ ْينَ‬
‫النّاسِ وَلَِي ْعلَ َم الُ الّذِي َن آمَنُوا وَيَّتخِذَ مِ ْنكُ ْم ُشهَدَاءَ وَالُ‬
‫َل ُيحِبّ الظّاِلمِيَ وَِلُي َمحّصَ الُ الّذِي َن آ َمنُوا وََي ْمحَقَ‬
‫اْلكَا ِفرِينَ [آل عمران‪.]140 ،139 :‬‬

‫فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم‬


‫وتقوية نفوسهم‪ ،‬وإحياء عزائمهم وهممهم ‪،‬‬
‫حكم الباهرة التي‬
‫حسن التسلية‪ ،‬وذكر ال ِ‬‫وبين ُ‬
‫اقتضت إدالة الكفار عليهم ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫وفي النهاية‪:‬‬
‫أخي القارئ‪ :‬إن الدهر يومان‪ ،‬يوم لك‬
‫ويوم عليك‪ ،‬ولقد من الله علينا بنعم كثيرة‬

‫() زاد العاد ف هدى خي العباد لبن القيم ‪ 222 -3/218‬باختصار وتصرف‬ ‫‪1‬‬
‫يسي‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟!‬ ‫‪28‬‬
‫وفيوض غزيرة‪ ،‬ومن سنته أن يبتلي عباده‬
‫تذكيًرا أو تحذيًرا أو تطهيًرا‪ ،‬والسعيد من‬
‫حدَث البتلء بما يحقق‬ ‫أحسن التعامل مع َ‬
‫مصلحة دينه ودعوته‪.‬‬
‫والحمد لله رب العالمين‬
‫ل اللهم على سيدنا محمد‬‫وص َّ‬
‫وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫***‬
‫البتلء وكيف تستفيد منه الدعوات؟! ‪29‬‬

‫الفهـــــرس‬

‫‪5‬‬ ‫سنة الدعوات‪...............................‬‬


‫‪6‬‬ ‫النظرة المتكاملة‪..........................‬‬
‫أولى هذه النقاط‪ :‬ضرورة التحليــــــــل‬
‫العميق والمتكامل لحدث البتلء‪7 ........‬‬
‫ثانيًا‪ :‬البتلء من عند الله‪8 .................‬‬
‫‪11‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬على قدرة المنزلة تكون‬
‫المسئولية‪...................................‬‬
‫رابعً ـا‪ :‬ســبب البتلء قــد يكون مــن جانــب ‪13‬‬
‫أبناء الدعوة‪.....................................‬‬
‫‪16‬‬ ‫سا‪ :‬أأنا السبب؟!‪.........................‬‬ ‫خام ً‬
‫سا‪ :‬البتلء قد يكون منحة ربانية‪20 . .‬‬ ‫ساد ً‬
‫من حكم التمحيص قبل التمكين‪22 ........‬‬
‫ولماذا يبتلى النبياء؟!‪22 .....................‬‬
‫نموذج عملي لكيفيـــــة تحليـــــل حدث ‪24‬‬
‫البتلء‪........................................‬‬

‫***‬

You might also like