You are on page 1of 23

‫أسطورة العولمة‬

‫كامبردج بوك ريفيوز‬


‫يعالج كتاب "أسطورة العولمة" موضوعا قيل وكتب عنه الكثير‪ .‬لكنه كما تدعي الفقرة العلنية‬
‫المطبوعة على غلفه الخير‪" ،‬يقلب الساطير المتداولة عن العولمة رأسا على عقب"‪ .‬ول‬
‫يملك القارئ إزاء مثل هذا الدعاء إل أن يتسلح بكل ما في جعبته من شكوك أمام السؤال الول‬
‫الذي يتبادر إلى ذهنه وهو "ما هي الساطير التي يقلبها الكتاب حقًا‪ ،‬خاصة بعد أن فككت‬
‫العولمة ونقدت عن طريق كثير من الكتب والدراسات خلل السنوات الخيرة الماضية؟"‬
‫وأساطير من تلك التي يحاول الكتاب نقضها؟‬

‫فإذا كانت "الساطير" التي يريد أن يقلبها هي أساطير مديري الشركات التنفيذيين‪ ،‬فإن ذلك‬
‫يعني أنه سيقدم للقارئ "أساطير" المتظاهرين ضد العولمة‪ ،‬والعكس بالعكس‪ .‬وفي كلتا الحالتين‬
‫لن يحصل القارئ على الكثير من الجديد الذي يستحق أن يجمع في كتاب‪.‬‬

‫مثل هذه الخواطر تظل ماثلة حتى بعد أن يعلم القارئ أن الساطير التي يقصدها مؤلف الكتاب‬
‫آلن شيبمان‪ ،‬هي تلك المعادية للعولمة وأن القصد من الكتاب هو تكذيب تلك الساطير‪ .‬في هذا‬
‫الطار يرى الكاتب في الشركات متعددة الجنسيات خير صديق لطفال المكسيك‪ ،‬قبل أن يشرح‬
‫المسوغات والسباب التي يجب أن تدفع الجماهير المسحوقة إلى حب صندوق النقد الدولي‪.‬‬

‫لكن الكاتب فيما خل ذلك يتخلى عن راديكالية العنوان ليقدم تصورا يرى في العولمة إيجابيات‬
‫دون أن يغفل ما فيها من سلبيات‪ ،‬ومثل هذه المعالجة هي أقرب للتقليدية منها إلى "الجذرية"‬
‫التي يوحي بها العنوان في تفكيك أية أساطير‪ .‬لكن هذا ل يعيب الكتاب‪ ،‬بل ربما يكون ميزة له‬
‫إذ تقربه من التوازن والتأمل‪.‬‬

‫على العموم‪ ،‬من السهل ضم آلن شيبمان إلى قائمة كثير من الكتاب والباحثين الذين يتحرشون‬
‫بما هو سائد ويجدون في معاكسته طريقا سهلة لجذب النتباه‪ ،‬خصوصا إذا كانت الفكار‬
‫السائدة التي تتم معاكستها تتعلق بالعولمة‪ ،‬وإذا كان الكتاب الذي يتصدى لها صادرًا عن دار‬
‫"آيكون" التي تروج لمطبوعاتها في أوساط أكاديمية معروفة بتحفظاتها على العولمة والمركة‬
‫وما تجرانه من تنميط‪.‬‬

‫لكن شيبمان ليس من ذلك النوع من الراديكاليين المتعصبين على النحو الذي حاول فريق‬
‫العلقات العامة المروج للكتاب أن يصوره‪ .‬فهو راديكالي بطريقة محدودة وذكية ل تبتعد كثيرا‬
‫عن المشاعر المناوئة للعولمة‪ .‬ومما يؤسف له أن الثوب الذي خلع على كتاب شيبمان سوف‬
‫يبعد عنه الكثير من القراء المحتملين‪.‬‬

‫”‬
‫العولمة الراهنة هي آخر صيغ سلسلة طويلة من "عولمات" سابقة ابتداء من التكامل الطبيعي‬
‫الزلي في النظام الكوني البيئي ومرورا بالمشاريع المبريالية الكبرى‬
‫”‬

‫لكن ما هي أطروحة كتاب "أسطورة العولمة‪ ،‬وما هي أسئلته الساسية؟"‪ .‬ابتداء سنجد أن‬
‫العنوان ل ينطبق على الكتاب‪ ،‬حيث أن اللغط الذي يريد أن يتصدى له المؤلف هو ‪-‬من وجهة‬
‫نظره‪ -‬سوء فهم للعولمة وليس أسطورة تلفق عنها‪ .‬ويعتقد شيبمان أن العولمة كانت موجودة‬
‫على الدوام على نحو ما‪ ،‬ابتداء من التكامل الطبيعي الزلي في النظام الكوني البيئي‪ ،‬ومرورا‬
‫بالمشاريع المبريالية الكبرى للسكندر والملكة فيكتوريا وجوزيف ستالين‪ .‬فقد كانت هناك‬
‫الكثير من "العولمات"‪ ،‬وما العولمة الراهنة التي يكثر الحديث عنها إل آخر صيغ تلك السلسلة‬
‫الطويلة‪.‬‬

‫ومن هنا فإن السطورة التي تخص العولمة ل تتعلق بوجودها نفسه‪ .‬كما أنها ل تتعلق بالدعاء‬
‫الشائع بكون العولمة مضرة لعداد كبيرة من الناس‪.‬‬

‫فشيبمان يقر أن الشركات متعددة الجنسيات وتلك المدفوعة برغبات ومصالح حملة السهم‬
‫مرشحة لستغلل اليدي العاملة الجنبية الرخيصة‪ ،‬وللستغناء عن أعداد كبيرة من العمال‬
‫سواء كانوا من الجانب أو الوطنيين كلما اختلت موازين ربحها‪ .‬لكنه يبدي تفهما غريبا لهذه‬
‫الممارسات‪ ،‬ول يتوقف لحظة للنظر في وسائل أخرى يمكن أن تخفض الكلفة بطريقة أقل‬
‫ضررا مثل تقليل المخصصات السخية التي يتمتع بها مديرو تلك الشركات‪.‬‬
‫وبينما يتفهم ممارسات الشركات يمتنع شيبمان عن أي تفنيد جدي للكثير من الطروحات‬
‫اليسارية بشأن السلوك المؤذي لهذه للشركات‪ .‬لكنه في الوقت ذاته يناقش ما يراه السطورة‬
‫الكبرى وهي العتقاد بأن الشركات متعددة الجنسيات هي مهندسة العولمة التي تعبر عن نفسها‬
‫من خلل تلك الشركات‪.‬‬

‫وهنا تتجلى خصوصية راديكالية شيبمان في ادعائه بأن توسع الشركات إلى ما وراء البحار‬
‫ليس محاولة منهجية لخضاع السواق العالمية‪ ،‬إنما هو محاولة لسناد السواق الداخلية‬
‫الوطنية لتلك الشركات‪.‬‬

‫ويشبه المؤلف الحملت التجارية لتلك الشركات بالحملت العسكرية فيقول "كما يتفق الجنرالت‬
‫المتناحرون على القتال فوق أراضي دول أخرى لتفادي تدمير الثروات التي يقتتلون عليها‪،‬‬
‫كذلك تفعل الشركات المتنافسة حين تنطلق إلى الخارج لكي تجمع لمعركتها الداخلية المزيد من‬
‫الرباح والشخاص والفكار النتاجية"‪.‬‬

‫”‬
‫تقع على عاتق الحكومات مسؤولية إعادة صياغة العولمة بتنظيمها من خلل منظمات مثل‬
‫الثماني الكبار ومنظمة التجارة العالمية‬
‫”‬

‫وتشترك الشركات متعددة الجنسية مع الميركيين رفاقها في تأييد العولمة‪ ،‬بأن كليهما كيانات‬
‫غير امتدادية نشأت على ثقافة النعزال وراء الحدود البحرية‪ .‬لكن الحكومات في رأي شيبمان‪،‬‬
‫هي التي دفعت إلى التوسع الدولي من خلل محاولتها تقليص قوة السوق التي تتمتع بها‬
‫الشركات متعددة الجنسيات في الوطن‪.‬‬

‫وهكذا أرغمت المصالح الشركات الكبرى على البحث عن طرقها الخاصة لحل مشاكل الفائض‬
‫في النتاج والتدني في الستهلك التي سببتها السياسات الحكومية‪ .‬وقد حققت ذلك بأساليب غير‬
‫تنافسية وشبه شيوعية عندما وضعت خططها المركزية على أساس تجاوز السواق التي تنوي‬
‫العمل فيها‪ ،‬أو التحكم في توجهات تلك السواق‪.‬‬

‫وتعود المسؤولية اليوم إلى الحكومات لكي تعيد صياغة العولمة التي خلقتها على نحو يخدم‬
‫جميع الطراف‪ ،‬وعن طريق تنظيم العملية كلها من خلل منظمات مثل الثماني الكبار ومنظمة‬
‫التجارة العالمية‪ .‬ويعتقد شيبمان أن هذه المؤسسات ل تقوض دور الحكومات‪ ،‬بل هي في الواقع‬
‫المل الوحيد الذي تملكه تلك الحكومات للبقاء‪.‬‬

‫المؤلف في جوهره رأسمالي يؤمن بالمكانات العظيمة الخيرة التي يمكن أن تحققها العولمة‪،‬‬
‫وتميزه يعود للطار الرصين الذي يطرح ضمنه آراءه وحججه بعيدا عن اللغة المنمقة التي‬
‫يستخدمها المحافظون الجدد‪.‬‬

‫وهو يرى أن المؤسسات ما فوق الوطنية إذا ما خضعت لتوجيه الدول الوطنية‪ ،‬ستكون قادرة‬
‫على جعل الشركات متعددة الجنسيات أداة لجلب الرخاء إلى الدول الفقيرة في نفس الوقت الذي‬
‫تنقل فيه إلى دولها الثرية أصل المزيد من التحسس بالتنوع العالمي‪ .‬وهو طرح يعترف بالحاجة‬
‫الى التغيير من جانب الشركات‪ ،‬وضرورة إيقاظ الرادة السياسية لدى الحكومات‪ .‬ومن شأن‬
‫طرح كهذا أن يحظى باحترام الكثير من القراء بمن فيهم أولئك الذين يتخذون موقفا مبدئيا‬
‫معارضا للعولمة‪.‬‬

‫أما نقطة الضعف الكبرى في أطروحة شيبمان فتتمثل في درجة الثقة العالية التي يضعها في‬
‫دوافع ونوايا الشركات متعددة الجنسيات‪ .‬حيث ل يملك حتى أشد اليمينيين تعصبا إل أن يشعر‬
‫بالدهشة إزاء إصرار شيبمان على أن جميع الممارسات السيئة التي تصدر عن عالم المصالح‬
‫الكبرى مفروضة عليه بفعل الظروف وسوء إدارة الحكومات الوطنية‪.‬‬

‫لكن كتاب شيبمان رغم هذا النحياز الكامل للرأسمالية‪ ،‬ل يريد أن يكون اعتذاريا عن الشركات‬
‫متعددة الجنسيات‪ .‬إنما هو في الساس مناظرة كلمية ضد المناوئين للعولمة سعى شيبمان من‬
‫خللها إلى تصحيح ما يتداولونه من "أساطير"‪ .‬وفي مقدمة تلك "الساطير" التي اهتم شيبمان‬
‫بتفنيدها الزعم بأن الحكومات باتت خاضعة للشركات متعددة الجنسيات المر الذي جعل منها‬
‫ضحية لتلك الشركات أو شريكا متواطئا معها‪.‬‬

‫”‬
‫يحمل هذا الكتاب أفكارا مثيرة وهو إنجاز ليس بالقليل إذا أخذنا بعين العتبار الكم الهائل من‬
‫الكلم الذي استنفد موضوع العولمة‬
‫”‬
‫يمكن اعتبار كتاب "أسطورة العولمة" تعقيبا ذكيا على ما يدور حول هذا الموضوع الساخن من‬
‫آراء‪ .‬ورغم ابتعاده عن الصيغ التي ابتذلتها كثرة الستعمال‪ ،‬فانه ل يخلو من أصداء العناوين‬
‫الصارخة للصحف الصفراء‪ ،‬والصياغات النفعالية كما في قوله "التركيز على نوع اليمان‬
‫الديني الذي تعتنقه‪ ،‬وتحديد الجهات التي يمكن أن تركن لحيازتها أسلحة الدمار الشامل‪،‬‬
‫والتفكير بالكيفية التي يمكن أن تحمي بها البيئة‪ ،‬وغير ذلك من مظاهر النقسام في الراء‪ ...‬لم‬
‫ينطلق إل من غبار برجي التجارة اللذين تقوضا في نيويورك‪".‬‬

‫ل شك أن القتصاد السياسي الدولي موضوع جاف‪ .‬وبوسع المحاولت التي يبذلها مؤلفو الكتب‬
‫شعبية النتشار لتسويغه أن تحوله إلى مسخرة‪ .‬لكن كتاب "أسطورة العولمة" بكل ما يحويه من‬
‫سخف‪ ،‬قد جاء أيضا بقسط ل بأس به من الفكار المدروسة والطازجة‪.‬‬

‫ويصف آلن شيبمان نفسه بأنه نوع طريف من القتصاديين‪ ،‬وضم كتابه طرحا طريفا للقتصاد‬
‫السياسي الدولي‪ .‬فهو يعبر أحيانا عن تسامح ساذج إزاء جشع المصالح الكبرى‪ ،‬حين يقول "إن‬
‫عملية جني الرباح لم تكن مطلقا الدافع الوحيد للشركات الكبرى"‪.‬‬

‫ولنا أن نفترض أن القارئ كان يمكن أن يبتلع مثل هذا الدعاء المنكر لول كلمة "مطلقا" المثيرة‬
‫للستفزاز‪ .‬لكنه يعود في مواضع أخرى ليؤكد أن "أعداء العولمة يمتلكون كل الحق في اتهام‬
‫اقتصاد السوق بالفراط في استنزاف موارد الكوكب والتقتير فيما يقدمونه للناس‪".‬‬

‫ومن دواعي متعة القارئ أن يتابع الكيفية التي يشق بها شيبمان طريقه الوسط بين هذين‬
‫الولءين المتعارضين‪ .‬قد يكون شيبمان على خطأ‪ ،‬وقد يصبح هذا الكتاب ومؤلفه نسيا منسيا في‬
‫غضون سنوات قليلة‪ .‬ولكن هناك احتمال آخر بأن يتحول كتاب "أسطورة العولمة" إلى واحد‬
‫من الكتب الكلسيكية الباقية‪ .‬وبغض النظر عن الحتمالين‪ ،‬فإن القارئ يجد في هذا الكتاب‬
‫أفكارا طازجة ومثيرة‪ ،‬وهو إنجاز ليس بالقليل إذا أخذنا بعين العتبار الكم الهائل من الكلم‬
‫الذي استنفد موضوع العولمة‪.‬‬

‫ل يوجد حتى الن تعريف دقيق لمفاهيم العالمية والعولمة‪ ،‬وإنما يوجد تعدد آراء وتداخل بين‬
‫المفاهيم‪ ،‬لكن اهتمام المفكرين والباحثين وأصحاب الختصاص يتركز على العولمة بسبب‬
‫ل‪.‬‬
‫انشغال البشرية فيها أكثر‪ ،‬ومن هذا المنطلق سأبدأ بالحديث عن العولمة أو ً‬
‫مفهوم العولمة ‪Globalization‬‬
‫تعرف على أنها مذهب القائلين بأن الرأسمالية هي ديانة النسانية‪ ،‬وأن النسبية الفكرية‬
‫ستكون لها الغلبة على المطلقات اليديولوجية‪ ،‬وأن مبدأ النسبية الثقافية هو المبدأ المعول عليه‪،‬‬
‫وليس مبدأ مركزية الثقافات‪ ،‬وفي رأي القائلين بها إن العالم الن ينتقل من الشمولية والسلطوية‬
‫إلى الديمقراطية والتعددية‪ ،‬من خلل ثورة معلوماتية شاملة تمكن العولمة من إلغاء الحدود‬
‫وحرية انتقال الناس والسلع‪ ،‬بإحلل التفاعل والحوار والمنافسة والمحاكاة‪.‬‬
‫وتأخذ العولمة في إطار هذا التعريف اتجاهين‪ ،‬الول إيديولوجي أمريكي يحاول قولبة أنظمة‬
‫الحياة في العالم على صورة نظامه بل مراعاة لوجود خصوصيات ثقافية قد ل يلئمها نمط‬
‫الحياة المريكي‪ ،‬او تتعارض قيمها ومثلها الجتماعية مع القيم المريكية‪ .‬والثاني يرى أن‬
‫العولمة هي نوع من أنواع انتخاب وانتقاء المثل النسانية العليا في كل الخبرات الحضارية‪،‬‬
‫وترقيتها لتصبح نموذجًا عالميًا يتم التعامل معه كنموذج مثالي تستهدفه المجتمعات العالمية‪،‬‬
‫فتقترب منه بما تسمح به برامج الصلح فيها‪ ،‬وبقدر ما تحمله موازناتها‪ ،‬وهذا التعريف ليس‬
‫سوى محاولة لتيسير التعامل مع الظاهرة‪ ،‬لكن الواقع يشير إلى أن السائد هو النموذج الول‪،‬‬
‫الذي عززه انهيار الكتلة الشتراكية وفتح البواب أمام المهرولين نحو القطب المهيمن‪ ،‬اتقاًء‬
‫لشره‪ ،‬وذوبانًا في ثقافته فالعولمة أمركة‪.‬‬
‫ولقد انتشرت العولمة في كل ما يتصل من تفكير في العلقات الدولية منذ نهاية الحرب‬
‫العالمية الثانية وما هو مؤكد أن التوجه الحضاري النساني في العلقات الدولية الحديثة‬
‫والمعاصرة كان يعرف قبل ظهور مفهوم العولمة بمسميات أخرى مثل الدولية‪ ،‬التدويل‬
‫المبريالية‪ ،‬العالمية‪ ،‬الكونية‪ ،‬نظام الستعمار المباشر القديم‪ ،‬نظام الستعمار غير المباشر‬
‫الجديد‪ ،‬وكل هذا سيشكل ظاهرة يستدل منها على مفهوم علقات بين الحكومات أو بين‬
‫القوميات‪ ،‬أو متعددة الطراف‪ ،‬وهذه العلقات ستكون نتائجها بدون شك للدول الكثر نفوذًا‬
‫وتأثيرًا في نظام العولمة هذا‪ ،‬ومهما تكن العلقات الجارية في مسرح العلقات الدولية‬
‫المعاصرة‪ ،‬والمفاهيم التي تحاول الطاحة بها فهي مصطلحات تفسر نفس الظاهرة‪ ،‬وتمثل‬
‫نزوع الغرب نحو الشمولية والستبداد العالمي أو الدولي‪ ،‬والقاسم المشترك إلى هذا النزوع هو‬
‫السوق الحرة‪ ،‬وما المصطلحات التي تسوقها الوساط الكاديمية والعلمية الغربية سوى‬
‫محض تمويه وخداع وتضليل وأدلجة وتوظيف دعائي سياسي تكتيكي للمفهوم‪ ،‬وستبقى العولمة‬
‫مفهومًا سوسيولوجيًا له أهميته في علم الجتماع العالمي‪ ،‬أو علم العولمة‪ ،‬الذي نرغب فيه أن‬
‫ل عن أي توظيف أيديولوجي‪ ،‬وهذا ما نبغي اختياره‪.‬‬
‫يكون مستق ً‬
‫مفهوم العالمية ‪Cosmopolitanism‬‬

‫إذا كانت العولمة )‪ (1‬تعني وحدة الجنس البشري‪ ،‬باعتبار أن العالم وحدة واحدة‪ ،‬فالعالمية‬
‫ضد العولمة‪ ،‬الول انفتاح على العالم‪ ،‬وإقرار بتباين الثقافات والحضارات‪ ،‬والثانية انفتاح على‬
‫ثقافة واحدة‪ ،‬هي الثقافة المريكية‪ ،‬ورفض لما عداها من ثقافات‪ ،‬وإذا كانت وسيلة العالمية‬
‫النفتاح بين الحضارات؛ فإن وسيلة العولمة الصدام والصراع بين الحضارات‪ ،‬وإذا كانت‬
‫العولمة غزوا ثقافيا‪ ،‬واختراقا لخصوصيات الثقافات القومية والوطنية؛ فإن العالمية إثراء لهذه‬
‫الثقافات‪ ،‬وتلقحها حضاريًا وعلميًا وتقنيًا‪.‬‬
‫وتقوم العالمية على المساواة والّندية بين مختلف الثقافات‪ ،‬بينما تقوم العولمة على التبعية‬
‫والهيمنة والتطبيع والغزو والختراق وإفراغ الثقافة من مضمونها وانتزاع هويتها الخاصة‬
‫والترابط بين الناس برباط عولمي من اللوطنية واللقومية والل دينية واللدولة‪.‬‬
‫إن العالمية تخاطب أعمق مشاعر النسان عمومًا‪ ،‬وأقوى مشاكله‪ ،‬وأخص هواتفه‪ ،‬والعالمي‬
‫في الدب والفن هو الذي يتصيد‪ ،‬ما بين البشرية جمعاء‪ ،‬العواطف المشتركة‪ ،‬وما في وجدانها‬
‫من حقوق موحدة وقيم سامية ومثل عليا على الرغم من اختلف الجناس وتباين الزمان‬
‫والوطان‪ ،‬ويعد الحياة كرامة والحرية حقًا‪ ،‬والعدالة الجتماعية حتمًا والفضيلة جوهرًا‪.‬‬
‫فالعالمية نزعة إنسانية توجه التفاعل بين الحضارات‪ ،‬والتعاون والتساند والتكامل والتعارف‬
‫بين مختلف المم والشعوب‪ ،‬والحضارة العالمية نزوع عالمي يرى التعدد والتنوع والختلف‬
‫القاعدة والقانون‪.‬‬
‫هذا التعريف للعالمية يختلف عن التعريف الغربي في وقتنا الراهن‪ ،‬إذ أن التعريف الغربي‬
‫الن يؤمن بالنزعة المركزية اللصيقة بالنموذج الحضاري الغربي منذ القديم‪ ،‬ولهذا فإن الجديد‬
‫فيه‪ ،‬هو تصاعد في درجة النزعة المركزية‪ ،‬ووحدة التطبيق لها‪ .‬والسبب في ذلك هو التطورات‬
‫الجديدة التي طرأت على العالم‪ ،‬ومن ثم علقة النظام الغربي بالعالم غير الغربي‪ ،‬والذي يطمح‬
‫في صب العالم اقتصاديًا وسياسيًا وقيميًا وثقافيًا وعسكريًا‪ ..‬الخ‪ ،‬داخل قوالب غربية‪.‬‬
‫من هذا المنطلق تتداخل مفاهيم العولمة والعالمية الغربية‪ ،‬لتمثل مرحلة الطوفان )والذي هو‬
‫في مضمون هذه المفاهيم مجموع الدعاوي الغربية( نهاية التاريخ‪ ،‬بحيث من لم يركب سفينة‬
‫نموذجه طوعًا سيركبها مكرهًا‪.‬‬
‫من هنا نقول إن العولمة والعالمية الن زعامة أمريكية‪ ،‬توضحها أساليب الليبرالية المريكية‬
‫المستخدمة‪ ،‬والتي نلحظ آثارها في الفروقات القتصادية الهائلة بين دول الشمال والجنوب‪ ،‬على‬
‫الرغم من فروقات الكثافة السكانية الهائلة بين التجاهين )‪ (2‬كما يوضحها أيضًا تهميش دور‬
‫المنظمات الدولية لحساب مؤسسات الدولة المريكية‪ ،‬فمجلس المن القومي المريكي يكاد يحل‬
‫محل مجلس المن الدولي‪ ،‬والكونغرس المريكي أصبح يشرع للعالم بأسره ويصدر القوانين‬
‫التي تصنف الدول بمارقة وإرهابية‪ ،‬ومحاصرة وغير محاصرة‪ ،‬ودول تفرض عليها المقاطعة‬
‫والعقاب‪ ،‬ودول ل تستحق المقاطعة او العقاب‪ ،‬ودول يستحق إنسانها الحياة والتمتع بحقوق‬
‫النسان‪ ،‬وأخرى ل تستحق‪ ،‬ويصل التشريع المريكي إلى حد إصدار القوانين‪ ،‬واعتماد‬
‫الميزانيات العلنية لتغيير نظم الحكم‪ ،‬هذا بالضافة إلى استخدام القوة العسكرية الغاشمة لمن‬
‫تسول له نفسه بالتمرد والعصيان‪ ،‬فمن لم تردعه التحذيرات والعقوبات‪ ،‬تردعه الصواريخ‬
‫والمقاتلت‪.‬‬
‫النموذج الغربي للعولمة والعالمية‪:‬‬

‫‪ -1‬التحديث ‪ modernity‬والعتماد المتبادل ‪.inter depednce‬‬


‫‪ -2‬عولمة رأس المال‪ ،‬التي وصلت إلى حالة أقرب إلى السوق العالمية الكبيرة بواسطة نمو‬
‫البورصات العالمية‪.‬‬
‫‪ -3‬التطور الهائل في تكنولوجيا التصال والنتقال‪.‬‬
‫‪ -4‬عولمة الثقافة‪ ،‬وتزايد الصلت غير الحكومية‪ ،‬والتنسيق بين المصالح المختلفة للفراد‬
‫والجماعات من خلل الشبكات الدولية ‪ ،networking‬حيث برز التعاون استنادًا إلى المصالح‬
‫المشتركة غير القومية‪ ،‬مما أفرد تحالفات على المستوى الدولي‪ ،‬مثل الحفاظ على البيئة‪ ،‬أو في‬
‫المجالت غير القانونية كتنظيف الموال‪ ،‬والمافية الدولية للسلح‪.‬‬
‫ولتطبيق هذه المسائل نلحظ انطواء العولمة على درجة عالية من العلمنة‪ ،‬التي تغلب المادة‪،‬‬
‫وتتمثل الحياة العاجلة‪ ،‬وتختزل النسان في بعده المادي الستهلكي‪ ،‬وأحيانًا الشهواني‪ ،‬وقد‬
‫عزز هذا التجاه المخادع افتقار وجود وعي عالمي‪ ،‬وتنكر الفراد لهويتهم المحلية لحساب‬
‫هوية عالمية‪.‬‬
‫آثار العولمة‪:‬‬
‫أ ‪ -‬في مجال حقوق النسان‪:‬‬
‫‪ -1‬حقوق النسان في عصر العولمة مهدورة وغير جديدة‪ ،‬لكنها قد أثارت الجدل حول قضية‬
‫مهمة وهي‪ ،‬هل الحقوق عالمية أم خصوصية؟‪ .‬كما أثارت الحوار الخاص بالعلقة بين الحقوق‬
‫السياسية والمدنية‪ ،‬وأيهما له الولوية على الخر؟ بالضافة إلى إثارة التساؤلت حول تطبيق‬
‫هذه الحقوق ومسؤولية المجتمع الدولي عن حمايتها‪.‬‬
‫ومن أهم المسائل الخطيرة التي أثارتها العولمة والمتعلقة بحقوق النسان هي إلى متى سيبقى‬
‫الطار الساسي لتطبيق حقوق النسان داخل سيادة الدولة وخاضعا لها في الطار الدولي؟ وما‬
‫هي آثار ضعف ونهاية الدولة على حماية الحقوق؟ المر الذي يعني أن حقوق النسان تواجه‬
‫وضعًا أكثر صعوبة في عصر العولمة‪.‬‬
‫‪ -2‬اقتصاد السوق في مواجهة حقوق النسان‪ ،‬لن هذا القتصاد يتم من خلل الحدود‬
‫المفتوحة‪ ،‬وحرية تنقل السلع‪ ،‬التي يغيب فيها التركيز على الحقوق الجتماعية والقتصادية‪،‬‬
‫حيث يتم النظر إليها من منطق الربط القسري المستند على التجربة الغربية المرتبط باقتصاد‬
‫السوق الكثر قوة في عصر العولمة‪ ،‬وتصور السوق تصور خادع كلما تعلق المر بحقوق‬
‫النسان‪ ،‬وهو يميل إلى تأكيد وترسيخ الفوارق القتصادية‪ ،‬وعدم التوازن في توزيع القوة‪ ،‬مما‬
‫يؤدي إلى استغلل حقوق الطبقة العاملة‪ ،‬والجماعات الخرى الضعيفة‪.‬‬
‫‪ -3‬تمكن العولمة قوى غير حكومية‪ ،‬وفواعل غير الدولة من القوة والنفوذ المر الذي يشجع‬
‫على انتهاك أو خلق ظروف تصعب معها حماية حقوق النسان‪ ،‬بمعنى أن حرية التعبير‬
‫والتصرف تصبح في قبضة هذه القوى‪.‬‬
‫‪ -4‬لما كانت العولمة تعكس تصورًا إيديولوجيًا هو )نموذج الغرب( وتسّوق ثقافة الستهلك‬
‫والتصدير‪ ،‬فإن ما يمكن الوقوف عليه من نتائج هو تصاعد العشوائية‪ ،‬واللمبالة‪ ،‬وكره‬
‫الجانب‪ ،‬المر الذي يؤدي إلى حالة معقدة بالنسبة لترتيبات حقوق النسان‪.‬‬
‫‪ -5‬إذا كانت ممارسة الديمقراطية وثيقة الصلة بإيديولوجية العولمة‪ ،‬التي تمثل طروحات‬
‫القوياء والغنياء‪ ،‬فإن قيم الديمقراطية وحقوق النسان ستتعرض إلى المتهان والتشويه‬
‫وتصبح ضيقة إن لم تكن معطلة‪.‬‬
‫‪ -6‬لما كانت العولمة مرتبطة بجملة من المتغيرات القتصادية والتقنية والجتماعية‪ ،‬فمن‬
‫المتوقع أن تكون لها اثارها النفسية المؤثرة على صعيد الفرد والمجتمع‪ ،‬بحيث تتيح تقنيات‬
‫التصال‪ ،‬وما يتبعها من مهارات تعزيز الخصوصية والذاتية‪ ،‬المر الذي يساهم في عزلة الفرد‬
‫وانطوائه‪ ،‬فتتضخم فرديته ونرجسيته‪ ،‬مما يؤدي إلى القلق والحذر والشك وعدم المان‪ ،‬كما أن‬
‫التنافس والربح والمغامرة‪ ،‬ووهم الفرص السانحة يصيب بالحباط وخيبة المل والكوارث من‬
‫خلل التجربة والمعاناة‪ ،‬يضاف إلى ذلك ما تسببه الصدمة الثقافية من خلل التقنية والتصالت‬
‫من اهتزاز للقيم والفكار والثوابت‪ ،‬بحيث توجد تناقضًا ل يسهل فهمه أو التعايش معه‪ ،‬وربما‬
‫يقود هذا إلى السلبية والتعصب والتطرف‪ ،‬والى شعور بالنقص والضعف والعجز والكتئاب‪،‬‬
‫وقد تتطور الحالة إلى فقدان السيطرة على التعامل مع السرة والصدقاء والمعارف من خلل‬
‫ازدياد التوتر والضطراب والتغير والتحول‪ ،‬إضافة إلى ما يمكن أن يحدث في ظل العولمة من‬
‫استيراد وتصدير للمراض الجسمية والنفسية والجتماعية‪ ،‬والذي أصبح أكثر شيوعًا بين‬
‫الشعوب من خلل العدوى والتاثر والتقليد‪ ،‬نتيجة تبادل المنتجات المتنوعة‪ ،‬ابتداًء من البشر‬
‫واللت والطعمة‪ ،‬وانتهاء بالكتب والمجلت والفلم‪ ،‬مما يعزز الشعور بعدم المان لدى‬
‫الفرد والمجتمع‪.‬‬
‫ب ‪ -‬في مجال قدرات العولمة القتصادية‪:‬‬
‫لما كانت العولمة عملية معقدة من حيث تدفق التبادلت التجارية‪ ،‬والسرعة المتزايدة للتجارة‬
‫الدولية‪ ،‬وقيمة تبادل البضائع‪ ،‬فقد أثرت على البيئة من خلل الندفاع نحو التخصص‬
‫والستغلل المكثف للعمليات النتاجية‪ ،‬إذ قاد هذا المر إلى حالة من التدهور للمحيط البيئوي‪،‬‬
‫والقضاء على الكائنات الحية التي أصبحت مهددة بالنقراض‪ ،‬كما أن تمييز العولمة بتسريع‬
‫التبادلت المالية وتطوير الستثمارات في الخارج قد أدى إلى تعميق النزلقات المالية والتحكم‬
‫بها‪ ،‬مما جعل البلدان تتساهل بالعباء الجرية وتطبيق الضرائب والقوانين وتتسامح في مجال‬
‫المعايير الجتماعية والبيئة بقصد جذب أكبر عدد ممكن من الستثمارات ورؤوس الموال‬
‫الجنبية‪ ،‬بالضافة إلى إيجاد المرونة في العقوبات‪ ،‬المر الذي أدى إلى إغراء الرساميل‬
‫المتأتية من المؤسسات التي ل يهمها سوى الربح فقط‪ .‬هذا الربح الذي لعب دورًا كبيرًا في‬
‫تحديد نوعية الحكم المستحسنة التي يتم فيها النتقال من عالم دولي إلى عصر العولمة‪ ،‬هذا‬
‫الحكم الذي يعني في أذهان بعضهم حكومة عالمية مكونة من بيروقراطيات مركزية عملقة‬
‫تدوس على حقوق الشعوب والدول وتتحكم بمصير النسانية‪ ،‬معتمدة لتنفيذ سياستها هذه دورًا‬
‫وهميًا للحكومات والمؤسسات العالمية‪ ،‬وهذا ما ينطبق حاليًا على حالة مجلس المن التابع للمم‬
‫المتحدة‪ ،‬وعلى الكثير من حكام الشعوب‪ ،‬وعلى المحافل القتصادية الكبرى‪ .‬بالضافة إلى‬
‫اعتمادها ايضًا على العناصر الفاعلة التي تعد مساهمتها ضرورية في إدارة العولمة‪ ،‬وتشمل‬
‫هذه من جملة ما تشمل منظمات المجتمع المدني‪ ،‬حقوق النسان‪ ،‬القطاع الخاص‪ ،‬البرلمانيين‪،‬‬
‫السلطات المحلية‪ ،‬الرابطات العلمية والمؤسسات التعليمية‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫وتحتل الشركات العالمية مركزًا حيويًا في هذا المجال‪ ،‬لنها هيأت الحيز القتصادي المؤثر‬
‫على مستقبل الشعوب‪ ،‬ل بل على الدول في جميع أنحاء العالم‪ ،‬نتيجة التفاقات الدولية‪،‬‬
‫ل‪ ،‬فإنه‬
‫والسياسات الوطنية وفقًا لمفهوم المواطنة العالمية‪ ،‬وحتى يكون السياق العالمي أكثر تكام ً‬
‫يتطلب درجة عالية من اتساق السياسات وتقوية البنيان المالي الدولي‪ ،‬والنظام التجاري متعدد‬
‫الطراف‪ ،‬ويتطلب أيضًا المزيد من ا لتساوق فيما بين سياسات القتصاد الكلي‪ ،‬والسياسات‬
‫التجارية والسياسات المتعلقة بالموازنة‪ ،‬والسياسات المالية والبيئية‪ ،‬بحيث تدعم جميعها الهدف‬
‫المشترك المتمثل في توسيع نطاق فوائد العولمة‪ ،‬كما أنه من الضروري تحقيق تكامل فعال بين‬
‫المناهج المتبعة في مجالت إتقاء الصراعات وبناء السلم‪.‬‬
‫باختصار أنه من الصعب قيادة دفة التحول إلى عالم أكثر عولمة باستخدام شذرات ناقصة‪،‬‬
‫وغير متجانسة‪ ،‬المر الذي يستدعي تعبئة المهارات‪ ،‬وسائر موارد الجهات الفاعلة العالمية‪،‬‬
‫التي تتطلب إقامة شبكات عالمية فضفاضة مؤقتة‪ ،‬وتأتي في الطليعة المم المتحدة للعب هذا‬
‫الدور‪ ،‬لنها في رأي قادة العولمة مؤهلة له‪ ،‬فباسمها كتب الميثاق وطموحاتها الهدف للقرن‬
‫الواحد والعشرين‪.‬‬
‫مستقبل العولمة‪:‬‬
‫تشير معطيات الواقع على أن العولمة المريكية الحالية أصبحت مهزوزة‪ ،‬والمستقبل‬
‫المنظور يشير أيضًا إلى أننا على أبواب عولمة ل تكون المنظمات الدولية ومؤسساتها‪،‬‬
‫والتجمعات العالمية تحت هيمنة دولة واحدة‪ ،‬والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هل ستقبل الوليات‬
‫المتحدة المريكية بتمرير مثل هذا المر؟ والجواب ل قطعًا‪ ،‬لن النموذج المطروح في الوقت‬
‫الراهن هو الوحيد المناسب للمصالح المريكية‪ ،‬ولذلك علينا أن نتوقع معاداة الوليات المتحدة‬
‫للعولمة المقبلة وتعويقها لها‪ ،‬فيما لو أتخذت مسارا غير المسار الراهن‪ ،‬ومن يدرك مقولة حتمية‬
‫عولمة أو عالمية مقبلة‪ ،‬يدرك بأن الوليات المتحدة المريكية هي التي ستأخذ على عاتقها‬
‫سقوط العولمة الحالية‪ ،‬وتحول العولمة المقبلة لتكون طوع إرادتها كعولمة مستقبلية‪ ،‬وعلينا أن‬
‫ل نستغرب من هذا الطرح ونحن نرى موقف الوليات المتحدة من المم المتحدة والمنظمات‬
‫ل على شل أي قرار تتخذه هذه‬
‫التابعة لها‪ ،‬حيث باتت الوليات المتحدة الدولة الوحيدة القادرة فع ً‬
‫المنظمة‪ ،‬كما أنها تجاوزت كل قوانين المم المتحدة دون أن يجرؤ أحد على محاسبتها‪ ،‬وهذا‬
‫الواقع يعكس رفض الوليات المتحدة لي عولمة تساير مبادئ المم المتحدة في تأمين حقوق‬
‫الدول‪ ،‬واحترام سيادة الشعوب‪ ،‬وإذا ما سقط النموذج المريكي الحالي للعولمة‪ ،‬فإن الوليات‬
‫المتحدة المريكية سترفض كل المحاولت المستقبلية التي تعتمد النسنة‪ ،‬وستسعى لبقاء العالم‬
‫في جو غائم وضبابي يمنعه من إدراك المسافة الفاصلة بين المركة والنسنة‪ ،‬وهذه الضبابية ل‬
‫تكون بالنسبة للنسان العادي فقط‪ ،‬وإنما ستكون للستراتيجيين أيضًا‪ ،‬ولعل هذا المر توضحه‬
‫مليارات الدولرات المنفقة تحت شعار تحصين المن‪ ،‬ومكافحة الرهاب‪ ،‬ليس فقط داخل‬
‫الوليات المتحدة المريكية‪ ،‬وإنما يتعدى ذلك ليشمل الدول الخرى‪ ،‬المر الذي يؤكد قدرة‬
‫المفاهيم الليبرالية المريكية على تمويه حقيقة الواقع‪ ،‬وخلق واقع جديد‪ ،‬من خلل أساليبها‬
‫الملتوية‪.‬‬
‫في كل الحوال فإن النموذج المريكي للعولمة يبدو مكروهًا الن‪ ،‬نتيجة التفرد المريكي‬
‫وأنانيته‪ ،‬وأمريكا تدرك هذا المر‪ ،‬وتلحظه‪ ،‬وهي الن تحاول تلفيه وتجاوزه من خلل قيامها‬
‫بخطوات جديدة نحو إحياء سياسة الحلف‪ ،‬وتحريك رصيدها القديم‪ ،‬والعالم يرى في هذا‬
‫التوجه بداية تحول أمريكي جديد‪ ،‬وربما بدت أمريكا مقتنعة الن بأن السيطرة على الحلف‬
‫أكثر فائدة من السيطرة على السواق‪.‬‬
‫إن المم المتحدة وغالبية دول العالم ومنها النمور السيوية‪ ،‬والدول النامية ودول الزمات‬
‫القتصادية تكتشف الن رداءة النموذج المريكي‪ ،‬الذي روجت له شائعات النظام العالمي‬
‫الجديد‪ ،‬ولحقها نهاية التاريخ‪ ،‬نهاية اليدولوجيا‪ ،‬نهاية القوميات‪ ،‬وغيرها من النهايات التي‬
‫حاولت أن تقنع العالم بأن الزمن قد تجمد فراح الناس يستنسخون النموذج المريكي الذي فضح‬
‫أمره‪ ،‬والذي كان في إطار الوهم أكثر مما هو في إطار الحقائق‪ ،‬وبأنه نموذج أسير مصالحه‪،‬‬
‫وبعيد عن النسانية التي يدعيها‪ ،‬فراحت تنتقده وتبتعد عنه بعد أن ثبت كذبه وادعاؤه‪.‬‬
‫في كل الحوال مازالت العولمة ظاهرة غير واضحة المعالم والهداف‪ ،‬ولهذا يحذر من‬
‫المبالغة بأهمية هذه الظاهرة‪ ،‬التي ما هي سوى برامج أمريكية تبنتها مؤسسات التمويل الدولية‪،‬‬
‫وأكملتها اتفاقات التمويل الثنائية التي تربط أمريكيًا بدول العالم‪ ،‬من أجل قولبة العالم اقتصاديًا‬
‫وثقافيًا على وفق الدارة المريكية‪ ،‬ونمط الحياة المريكي‪ ،‬وهي تمثل تغييرًا لوجه الرأسمالية‪،‬‬
‫وتجديدًا لثواب المبريالية‪ ،‬وقد فرضت وجودها لن العالم قبل بهذا الفرض عنوة أو اختيارًا‪،‬‬
‫ولما كانت العولمة حقيقة ل يمكن إنكارها والواقع العربي والسلمي الن ل يسمح حتى بحرية‬
‫الختيار تجاهها نتيجة التجزئة والضياع الذي يعاني منه‪ ،‬بالضافة إلى التحولت الدولية التي‬
‫ل طاقة للعرب والمسلمين في تعديل اتجاهاتها‪.‬‬
‫ـــــــــــــــ‬
‫* أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق‬
‫‪ -1‬العولمة المريكية تتوافق مع الدعوة الصهيونية التي تطالب لليهود بمواطنة عالمية‪،‬‬
‫وجواز سفر عالمي‪ ،‬وفي اعتقادها أنها ستحكم العالم عندما يعود اليهود إلى أورشليم‪ ،‬إذ بعودتهم‬
‫يعود الرب إلى بيته في بيت المقدس‪ ،‬حيث بيت الرب هو العاصمة العالمية‪.‬‬
‫أما المسيحية فترى بأن أول إنسان عولمي في تاريخ البشرية هو السيد المسيح‪ ،‬والذي أعلن‬
‫أن ما يجب أن يوحد البشرية هو فكرة عليوية تتمثل بالخوة والمساواة الكاملة‪ ،‬وليس النتماء‬
‫لعرق أو لشعب أو لدولة‪ ،‬لكن السيد المسيح لم يكن يقصد أن تحكم حكومة عالمية‪ ،‬وإنما ما‬
‫قصده بالمخلص هو الب السماوي‪.‬‬
‫أما السلم فتقوم عولمته على رد العولمة إلى عالمية الجنس البشري‪ ،‬والقيم السماوية‬
‫المطلقة‪ ،‬واحترام خصوصية وتفرد الشعوب‪ ،‬والثقافات المحلية‪ ،‬عولمة تقوم على الحرية‬
‫والعدالة‪ ،‬وتتجدد في كل زمان ومكان‪.‬‬
‫‪ -2‬أبناء دول الشمال يمثلون ‪ %20‬من سكان المعمورة‪ ،‬ويملكون ويستهلكون ‪ %86‬من‬
‫النتاج العالمي‪ ،‬و ‪ 225‬فردا منهم يملكون قرابة ما يملك نصف البشرية‪ ،‬ل بل فإن ثلثة من‬
‫المريكيين منهم يملكون ثروة تعادل ثروة ‪ 48‬دولة من أعضاء المم المتحدة‪ ،‬كما أن ‪%80‬‬
‫من البشرية قد بلغت ديونهم في سنة ‪ 1997‬مليار دولر‪ ،‬وفوائد هذا المبلغ أربعة أضعاف ما‬
‫تنفقه دول العالم الثالث على الصحة والتعليم مجتمعين‪ ،‬بالضافة إلى أن الشركات المتعددة‬
‫الجنسية تقترض الموال من شركة )وول ستريت( بفوائد قدرها ‪ %6‬ثم تفرضها على دول‬
‫الجنوب بفائدة تتراوح ما بين ‪ %50 - 20‬ولقد حصلت مصر على قرض منها قيمته ‪ 4‬مليين‬
‫دولر وسددته ‪ 25‬مليون دولر لهذه الشركات‪.‬‬

‫كل حرب تبدأ من الكلمة‪ .‬وبالكلمة تنتهي‪ .‬واليوم‪ ،‬حتى الصغير‪ ،‬أصبح يعرف إن‪ :‬الحرب هي‬
‫استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى‪ ...‬واليكم المثال النموذجي والمعروف جدًا والذي يؤكد‬
‫تلك المقولة‪ :‬الحرب الباردة بدأت منذ أن ألقى تشرشل خطابه في فولتون عام ‪ .1946‬وفورا‬
‫"بعد أن انتصرت الوليات المتحدة المريكية وحلفاؤها الغربيون في تلك الحرب الباردة باشر‬
‫هؤلء أنفسهم حربا" جديدة ـ من اجل السيطرة الكاملة على العالم‪ .‬وهذه يمكن تسميتها "حرب‬
‫الكلمات" ذلك أنها بدون إراقة دماء وربما من دون طلقة واحدة قادرة على ابادة الجيوش‬
‫الوطنية وزعزعة الحدود الدولية والقومية‪ ،‬وتقويض استقرار شعوب بأكملها‪ .‬والسلح‬
‫الساسي في هذه الحرب ـ العولمة !!‬

‫لشك إن العولمة ظاهرة متعددة الوجه ومعقدة للغاية‪ .‬ومن المستحيل الخوض في التفاصيل‬
‫من خلل مقال واحد مهما كبر‪ .‬ولكن سنحاول الوقوف على بعض الجوانب الرئيسية‬
‫والمفتاحية‪ ،‬من وجهة نظرنا‪ ،‬والتي ستقدم تصورًا كافيًا عن هذه العملية ككل‪.‬‬
‫مهما بدا ذلك غريبًا فان أفكار العولمة‪ ،‬حقيقة‪ ،‬لم تظهر لول مرة ل في نهاية القرن العشرين‬
‫ول في أمريكا أو أوروبا الغربية‪ .‬وإنما يمكن القول أن أول "إنسان عولمي" في تاريخ البشرية‬
‫حد‬
‫كان‪ ..‬السيد المسيح! هو بالضبط الذي أعلن‪ ،‬ومنذ أكثر من ألفي عام أن ما يجب أن يو ّ‬
‫البشرية ليس النتماء لعرق أو لشعب أو دولة ما‪ ..‬وان ما يوحدها هي "فكرة علوية" حول‬
‫الخوة والمساواة الكاملة‪ .‬لكن قطعًا لم يكن السيد المسيح يقصد أن تحكمنا حكومة عالمية ول‬
‫حتى قداسة البابا في روما‪ ،‬والذي لم يرد ذكره على لسان يسوع‪ ،‬بل ما قصده المخلص هو‬
‫الب السماوي‪.‬‬

‫أفكار العولمة على طريقة " السيد المسيح " كانت تفهم وتطّبق‪ ،‬في القرون الوسطى‪ ،‬من قبل‬
‫شرين بعقيدتهم وبالتالي بإيديولوجيتهم‪ ،‬إن رجالت‬
‫أقوياء العالم بشكل مباشر ووحيد الجانب‪ :‬مب ّ‬
‫الكنيسة كانوا يضطهدون مخالفيهم في الرأي بالحديد الملتهب وحاولوا تصفية أصحاب "الرأي‬
‫الخر" بالحرق أو شنوا الحملت الصليبية ضد "الكافرين“‪ .‬وقد مارس الملوك نفس الشيء‬
‫وبنفس الساليب ولكن بشكل أوسع‪ ..‬إذ لم تتوقف الحروب في أوروبا ـ فعلى امتداد ألفي سنة‬
‫من التاريخ الحديث لم تعرف أوروبا ما مجموعه أكثر من عشرين سنة هدوءًا وبدون‬
‫حروب !!‬

‫ل مع نشوء وتمكن الفكار ما فوق الوطنية لمفكرين اشتراكيين ‪ -‬طوباويين‬


‫لكن المر تغير قلي ً‬
‫من أمثال سان ‪-‬سيمون وفورييه أو من هم اقرب إلينا – الشيوعيون‪ :‬ماركس وانجلس ولينين‪.‬‬
‫حد جامع للعالم‪" ..‬يا عمال‬
‫فبالنسبة لهؤلء حّلت "فخامة البروليتاريا" مكان ال كمركز مو ّ‬
‫العالم اتحدوا" ــ تحت هذا الشعار انطلقت أضخم واغرب تجربة سياسية أممية في التاريخ‪:‬‬
‫بداية في جمهورية فرنسا القرن التاسع عشر‪ ،‬ومن ثم على سدس الكرة الرضية ـ روسيا‬
‫وبعدها كل العالم‪.‬‬

‫ل من الشتراكيين ‪ -‬المميين جاء العولميون ‪ -‬المحدثون من "موجة جديدة"‪ ،‬مع‬


‫واليوم بد ً‬
‫أفكارهم الخاصة حول القتصاد الممي ومع فكرة حكومة عالمية واحدة‪.‬‬

‫الملفت للنظر انه مع كل انقلب سياسي جديد نرى المنتصرين يلجأون فقط إلى تغيير الغطاء‬
‫اليديولوجي للصلحات الجارية‪ .‬في حين إن جوهر هذه الخيرة هو هو ذاته‪ :‬السيطرة "ما‬
‫فوق الحكومية"‪ ،‬و"ما فوق الوطنية"‪ ،‬والكاملة للقلية الشوفينية على شعب بلد معين‪ ،‬ومن ثم‬
‫على شعوب كل العالم‪.‬‬
‫كما قال أحد المفكرين إن السياسة هي تكثيف للقتصاد‪ .‬أما أنا فسأغامر وأضيف لذلك المفكر‬
‫وأقول‪ :‬إن الهرطقة الكلمية لجميع أولئك " الـ‪ ..‬يين" هي مجرد غطاء تكتيكي للوصول إلى‬
‫هدف استراتيجي واحد ‪ -‬أل وهو دومًا السيطرة الكاملة والشاملة‪ ،‬القتصادية في الدرجة‬
‫الولى‪ ،‬على العالم‪ .‬إنما اللحظة التاريخية فقط هي التي تفرض من حين لخر التوجهات‬
‫ل وأخيرًا‪.‬‬
‫السياسية اللزمة لتحقيق ذات الهدف أو ً‬
‫بخلف الشتراكيين ‪-‬المميين السابقين‪ ،‬إن " المميين " )الحاليين ـ العولميون وفي صراعهم‬
‫مع اليديولوجيا الشيوعية( ل يجهدون أنفسهم بتقديم أية أدلة على صحة وجهة نظرهم‪ ،‬ببساطة‬
‫هم اعتبروا آباءهم الروحيين والسابقين لهم‪ ،‬أي الشيوعيين المميين‪" ،‬خارجين عن‬
‫القانون"؛ وان أفكارهم غبية وهّدامة‪ ،‬وفي أفضل الحالت هي أفكار خاطئة وانسدادية الفق أي‬
‫غير قابلة للتطبيق‪.‬‬

‫لكن في الواقع فان أوجه القرب أو التشابه بين هذين التيارين من الممية هو أكثر مما يبدو‬
‫ل هؤلء وأولئك يعتقدون بإمكانية التحكم‬
‫للوهلة الولى‪ .‬التشابه ينبع من وحدة الهدف ‪ .‬مث ً‬
‫بالعالم من خلل القوميسارات أو عملء ّفعالين‪ .‬فمن اجل الستيلء على بقعة أو بلد ما يتوجب‬
‫بداية تأسيس وصياغة ومن ثم زرع الغطاء اليديولوجي اللزم لمثل هكذا "عملية"‪ .‬بالضبط‬
‫لهذا السبب يتم اليوم الستيلء على الصحف وقنوات التلفزة كما كانوا سابقًا يسعون ولو عبر‬
‫المعارك والقتال للسيطرة على محطات القطارات ومراكز البريد والهاتف‪ .‬نظريًا‪ ،‬أكثر أهمية‬
‫فهو أن أية عولمة حالية أو لحقة ل تضع هدفًا لها تحسين مستوى معيشة الغلبية‪ .‬نظريًا‪ ،‬في‬
‫الشعارات ـ نعم ‪ .‬أما على ارض الواقع ـ هراء‪ .‬ففي عصر الشتراكية كان يقدم لتلك الغلبية‬
‫الحد الدنى للمتوسط الضروري ـ في الحقيقة ليس أكثر من مستوى حافة الفقر حيث فعلً لم‬
‫يكن يوجد جائعين بالمعنى الحرفي للكلمة‪ .‬وبما انه من المستحيل أن نصبح جميعًا أغنياء كفاية‬
‫فقد كانت أمام المجتمع مهمة إيديولوجية ترمي لبناء "إنسان واعي فوق العادة“‪ ،‬الذي يجب أن‬
‫تبقى متطلباته المادية في الحدود الدنيا الممكنة للبقاء‪ .‬تذّكروا شعار مرحلة الشيوعية المنتصرة‪:‬‬
‫"من كل حسب استطاعته‪ ،‬ولكل حسب حاجته" ــ شعار بقدر ما هو رنان بقدر ما هو خيالي‪.‬‬
‫الحقيقة هي إن متطلبات الفرد ل حدود لها‪ .‬كلما ازداد تملكه ــ كلما كبرت رغباته وحاجياته‪.‬‬
‫ولن تكون نهاية لتلك الثنائية‪ .‬على كل حال طالما أن الكرة الرضية مصابة بداء الستيطان‬
‫من قبل بني البشر ؟! ‪.‬‬

‫ذات القضايا والشكاليات كانت قائمة في حينه أمام رجالت الكنيسة‪ .‬في البداية‪ ،‬أنكرت‬
‫المسيحية على المؤمن الغنى الشخصي واعتبرت الثروة آفة‪ ،‬بينما صار الفقر يعادل الكبرياء و‬
‫بطاقة مرور إلى جنات السماء‪ .‬خصوصًا لو أصبح المرء فقيرًا بسبب تبرعه بأمواله في سبيل‬
‫قضية إيمانية‪ .‬فقط من يضحي لجل "الهيكل" )أي لجل الفكرة(‪ ،‬والذي ل يملك سوى "ما هو‬
‫ضروري للعيش"‪ ،‬كان لديه المل في دخول الجنة السماوية‪ .‬أما المبشرون الرئيسيون لهذه‬
‫اليديولوجية ـ باباوات الكنيسة في روما ـ فقد أحاطوا أنفسهم بكل أشكال البذخ والثراء لدرجة‬
‫الل معقول‪.‬‬

‫ظر‬
‫لشيء جديد في عالمنا الرضي‪ .‬فكل ما يجري في أيامنا معروف وواضح‪ .‬ومهما ن ّ‬
‫العولميون ـ المميون الحاليون فان العولمة تسبب فرزًا عميقًا في المجتمع وفق درجة التملك‪.‬‬
‫أما المجتمع الديموقراطي‪ ،‬خصوصًا في بلدان الشتراكية سابقًا‪ ،‬فلم يعد له وجود بعد أن‬
‫انقسمت تلك المجتمعات إلى "سوبر أغنياء"‪ ،‬وفقراء بالمعنى البسيط والدقيق للكلمة‪ .‬وحتى في‬
‫الوليات المتحدة المريكية ـ قلعة العولمة ـ فقد انخفضت أجرة العمل حوالي ‪ %10‬من قيمتها‬
‫الفعلية خلل العشر سنوات الخيرة‪ .‬هذا ما يعلنه صراحة معارضو العولمة في أمريكا‪ ،‬بينما‬
‫ينكرونه ويتسترون عليه خبراء القتصاد ـ العباقرة في روسيا ـ أصحاب التوجه الغربي‪.‬‬

‫ومن خصوصيات العولمة الحالية هو حصول تبدلت بنيوية في سوق الستهلك في البلدان‬
‫الغربية المتطورة اقتصاديًا‪ .‬ذلك إن البضائع والخدمات التي كانت متوفرة للغنياء فقط في‬
‫السابق كانت تدريجيًا تصبح في متناول الطبقة الوسطى‪ .‬أما الن يجري تناقص فعلي في‬
‫الموارد والخدمات ذات الطابع الشعبي الواسع‪ ..‬بينما النخبة تسبح في سوق السلع الفخمة‬
‫خرا في مصاف‬
‫والعجائبية‪ .‬وهذا يحصل أبدًا ليس لن المواطن المريكي قد أصبح مؤ ّ‬
‫الثرياء‪ .‬وهنا قد يتبادر للذهن سؤال عن العلقة بين العولمة وبين انخفاض مستوى معيشة‬
‫المريكي أو الروسي أو اللماني‪ ..‬الجواب بسيط للغاية‪ .‬عندما يتحول راس المال الوطني‪ ،‬في‬
‫مثالنا المريكي أو الروسي أو اللماني‪ ،‬إلى راس مال عابر للحدود‪ ،‬حينها فانه يفقد بقايا ما‬
‫يسمى "الوطنية"؛ ذلك أن الشركات الفوق ـ قومية‪ ،‬المريكية وغيرها‪ ،‬وبعد أن تتحرر من‬
‫انتمائها لية دولة‪ ،‬تبني مصانعها ومؤسساتها أينما يحلو لها بمجرد أن تتوفر اليد العاملة والمواد‬
‫الخام الرخيصة‪ .‬بالتالي فان المريكيين وغيرهم‪ ،‬الذين اعتادوا على أجور عمل ممتازة لقاء‬
‫أعمالهم الرفيعة‪ ،‬سيفقدون أماكن العمل وبعدها الجور العالية‪ .‬كما انه‪ ،‬وهذا هو الهم‪ ،‬لن‬
‫يعود هناك مفهوم "خيانة الوطن" بالنسبة لذلك "المواطن العولمي“‪ ،‬طالما أن مفهوم الوطن‬
‫بحدوده المعروفة سابقًا لم يعد له وجود بالنسبة لذاك "المواطن المعولم“‪ .‬بل ينشأ لديه مفهوم‬
‫جديد هو "البيت" الذي يبنيه أو يشتريه حيث يجد الراحة في لحظة ما‪ .‬لهذا بالتحديد لجأ من‬
‫يعرفون اليوم بـ "الروس الجدد" إلى نقل أموالهم‪ ،‬وسوف يقومون بنقل كل ما يستطيعون‬
‫"تحصيله" في روسيا إلى الخارج‪ .‬إن تحويل روسيا إلى مجرد مصدر مواد خام تابع للقتصاد‬
‫الغربي ـ هو في راس أولويات العولمة الحالية‪ .‬وقد سبق واعد نفس المصير لبلدنا منذ أكثر‬
‫من مائة عام من قبل الشيوعيين ـ المميين‪ .‬لقد تم في حينه توظيف الطاقات القتصادية‬
‫والعسكرية لروسيا من اجل إزالة النظام العالمي المبريالي القديم ذو الخصائص القومية وذلك‬
‫من اجل بناء الممية الشيوعية‪ .‬لكن السلطة الروسية حينذاك تمكنت من قلب المعادلة وبعد أن‬
‫تخلصت من أباطيل وأوهام الثورة العالمية قامت بنقل البلد إلى مصاف الدول العظمى في‬
‫ضر نفس المصير لروسيا ـ امتداد من الثروات الطبيعية ملحق باقتصاد أوروبا‬
‫العالم‪ .‬الن يح ّ‬
‫الغربية وأمريكا الشمالية‪ .‬ونحن نسير "بنجاح" في هذه الطريق وبسرعة باهرة جديّ‪ .‬صعد‬
‫عدد السكان حتى الـ ‪ 50‬مليون نسمة "المقررة والمسموح لنا بها‪ ،‬ولذلك نقوم بتهديم كل ما ل‬
‫يتعلق بتامين عمل القطاعات المعتمدة على التصدير؛ وهمنا المحافظة على المستوى المطلوب‬
‫للغرب من إنتاج النفط والغاز‪ .‬أما احتياجات القتصاد الروسي فل تهم أحدا "بشكل جدي"‪.‬‬
‫بالنسبة لهم أوروبا الموحدة‪ ،‬أما نحن " حق القليات والقوميات في تقرير المصير " لدرجة‬
‫الفظاعة والنفخ المتزايد في الصراع المفتعل بين ديانتين تاريخيًا متعايشتين في روسيا‪ :‬المسيحية‬
‫والسلم‪.‬‬

‫خلل شهري حزيران ـ تموز ‪ 2001‬فقط هبطت أسعار النفط والغاز في السواق العالمية‬
‫بنسبة ‪ %15‬وبالنسبة للنفط الروسي ‪ .%20‬إن تلك الواقعة يمكن أن تعني بداية النهاية‬
‫"للعجيبة القتصادية" التي وكأنها تحققت في عهد النظام الجديد لروسيا‪ ،‬ذلك أن المقياس لحياة‬
‫طبيعية في البلد ـ الميزانية ـ ل تزال تبنى ليس على بعث وزيادة النتاج المحلي‪ ،‬وإنما فقط‬
‫على ارتفاع أسعار النفط الخام والغاز المصّدر‪ .‬فإذا ما انخفضت السعار ـ تهتز الميزانية‪ :‬إن‬
‫سياسة العولمة لن تسمح لروسيا أبدًا بالنهوض والوقوف على قدميها‪ .‬بالطبع طالما إن حكومتنا‬
‫الوطنية ستستمر في نهجها الموالي للغرب وبشكل أعمى والذي سيؤدي ل محالة إلى الهلك‬
‫كلنا نعرف كلمة العولمة و لكل شخص منا حكم ايجابي أو سلبي أو هما معا عليها‪ ،‬لكن هل‬
‫نعرف حقيقة العولمة وما هي أسباب ظهورها‪ .‬بسبب ما يسمى بثقافة المنتديات أو اليميل‪،‬‬
‫أصبح لدى العديد منا حكم و معرفة خاطئة بهذه الظاهرة بسبب أشخاص سيطرت العاطفة على‬
‫أحكامهم‪ .‬قليل هم من حاولوا التكلم عنها بشكل موضوعي لكن في أغلب الحيان كان الحكم‬
‫المسبق هو سيد الوضع‪.‬‬
‫اذا تطرقنا للتعريف العلمي لظاهرة العولمة‪ ،‬نجد أن كلمة عولمة أصلها عالم و العولمة تنص‬
‫على توحيد العالم أو العوالم المختلفة لجعلها عالما واحدا‪ .‬العولمة كمصطلح فهو جديد ويعود‬
‫الى التسعينات يحدد اقتصاد عالمي ‪ ،‬تتحرك فيه جميع السلع و البضائع بحرية و دون أي‬
‫عائق‪ ،‬تصبح فيه الدول و الشركات و وحدات النتاج تلحظ تنافسا عالميا و يقاس تطورها و‬
‫نموها بمقياس عالمي‪ .‬فالعولمة هي توحد اقتصادي عالمي ينص على حرية تنقل البضائع و‬
‫السلع ‪ ،‬رؤوس الموال و الخدمات بحرية ودون أي عائق في العالم أجمع أي حرية الستيراد و‬
‫التصدير دون أي نوع من أنواع الرسوم الجمركية على سبيل المثال‪.‬‬
‫تاريخيا ‪ ،‬ارتبط مفهوم العولمة بمفهوم معرفة وادراك تواجد الغير‪ .‬فما ان بداء النسان بادراك‬
‫أنه ليس الوحيد في العالم و بداء في تطوير و سائل التصال مع العالم الخارجي بدأت بوادر‬
‫العولمة الولى بالظهور‪ ،‬و لقد ساهم تطور وسائل النقل بالسراع في حدة تكوين علقات تجارية‬
‫بين مناطق العالم‪ ،‬وكان للعرب دور كبير في ذلك‪.‬‬
‫حاليا ‪ ،‬شبكة النترنت مثلت دور مسرع نفاث لهذه الظاهرة‪ ،‬لنها لغت المسافات‪ ،‬واصبح‬
‫بالمكان التصال بمناطق بعيدة وتحويل رؤوس أموال ضخمة عن طريق الشبكة في لحظات‬
‫قصيرة ودون رقابة وهذا المشكل بالظبط هو ما يهدد مستقبل الستثمارات الخارجية الغير‬
‫مباشرة‪.‬‬
‫العديد منا يتكلم عن العولمة كأنها مؤامرة محبوكة ضد المسلمين و العرب أو دول العالم الثالث‬
‫أجمع‪ ،‬لكن في الحقيقة العولمة حقيقة فرضت نفسها على العالم و مقدر لنا الخوض فيها‪ ،‬لم‬
‫يخترعها أحد و لم تتفق عليها جماعه معينة بل هناك من اتفق معها وهناك من لم يفعل ‪،‬‬
‫ظهورها أمر محتوم للبشرية‪ ،‬انما هناك جهات مستفيدة منها وتطمح الى التسريع في وتيرتها‬
‫‪،‬وجهات متضررة منها تحلم بايقافها و سنتطرق لهذا الموضوع بالتفصيل في موضوع لحق ان‬
‫شاء ال‪.‬‬
‫في الماضي عند بداية استقرار النسان الول و اعتماده على الفلحة عوض الرعي و التجوال‬
‫تكون نظام معين عبارة عن قرى أو مدن لها حكمها الذاتي و جيشها الخاص بها و كان النتاج‬
‫المحلي لتلك التجمعات يسوق داخلها فقط ‪،‬و حتى فائض النتاج رغم قلة حجمه يتم تخزينه ولم‬
‫يكن هناك أي طموح قصد التصدير أو تكوين علقات تجارية مع تجمعات و مدن أخرى‪ .‬وعند‬
‫بداية ظهور مفهوم الدولة تقريبا عرفت تلك المدن انفتاح على المناطق الخرى فتكونت علقات‬
‫تجارية بينها حيث كانت المدن المنتجة بكثرة مهيمنة على السوق‪.‬‬
‫حاليا ‪ ،‬يتوجه العالم نفس التوجه انما بشكل أكبر بكثير‪ ،‬و هذه المرة المنافسة بين الدول‪.‬‬
‫في النصف الول من القرن العشرين كانت الدول رغم انفتاحها على باقي العالم تتحكم بأسواقها‬
‫عن طريق فرض رسوم جمركية و خلق حدود و موانع لتنقل السلع‪.‬‬
‫بالنسبة للرسوم الجمركيةالمفروضة على وارداتها لم يكن الغرض منها هو اغناء الخزينة العامة‬
‫كما هو معروف لكن المقصود هو حماية الصناعة و النتاج المحلي‪ ،‬كمثال على ذلك نفترض‬
‫أن دولة تنتج منتوج معين لكنه غير كافي لتلبية الطلب المحلي ‪ ،‬فتقوم بفتح أسواقها لشركات من‬
‫دول أخرى قدرتها النتاجية كبيرة و كافية لتلبية الطلب‪ ،‬لكن في الغالب ان لم نقل دائما يكون‬
‫ثمن المنتوج المستورد أرخص من ثمن المنتوج المحلي‪ ،‬وهناك نظريات اقتصادية تشرح‬
‫لماذا ‪،‬ل داعي للتطرق اليها حاليا‪ ،‬فتقوم الدولة حينذاك بفرض رسوم جمركية على ذلك‬
‫المنتوج كي يصبح ثمنه يساوي أو أغلى من ثمن المنتوج المحلي ‪ ،‬فيفضل المستهلكون المنتوج‬
‫المحلي لرخص ثمنه ‪ ،‬ويتم بذلك حماية النتاج الوطني‪.‬‬
‫عرفنا سابقا أن العولمة تنص على تحرك السلع و البضائع بدون أي قيود أو حواجز‪ ،‬اذن سيتم‬
‫الغاء الرسوم الجمركية فستختفي وسيلة حماية النتاج المحلي و يصبح تحت رحمة الشركات‬
‫الكبرى المتعددة الجنسيات‪ .‬هذه واحدة من سلبيات العولمة و سنتطرق الى المزيد منها ومن‬
‫اليجابيات كذلك في موضوع قادم ان شاء ال‪.‬‬
‫ظاهرة العولمة لها وجهان أحدهما سلبي و الخر ايجابي‪ .‬ل يمكن تجنبها مهما كان المر‪ .‬هناك‬
‫من المحللين و المفكرين من ربط سقوط النظام الشيوعي الشتراكي بظاهرة العولمة لن ذلك‬
‫النظام كان رمزا للنغلق‪.‬‬
‫الفرق بين نحن العرب و الغرب فيما يخص ظاهرة العولمة هو أن الغرب سارعوا الى التأقلم‬
‫معها و ال استغللها ‪ ،‬فأصبحوا أسياد العالم الجديد ‪ ،‬لكننا نحن العرب فشلنا في ركب التيار و‬
‫صرنا مستهلكين خاضعين للغرب‪ .‬لننا ركبنا التيار بشكل مقلوب الدول الغربية رأت العولمة‬
‫كوسيلة لغزو العالم و نحن العرب رأيناها وسيلة للستهلك العالم و كان هذا من أكبر الخطاء‬
‫اللتي ارتكبناها‪ .‬و أصبحنا بذلك مجتمع استهلكي بامتياز‪ .‬فالذهب السود الذي طالم اعتبر و‬
‫سيلة خلصنا من لقب التخلف أصبح مفتاح دخولنا الى زنزانة التخلف‪ ،‬لن ريعه وفر كميات‬
‫هائلة من النقود مما جعل المواطن العربي و الخليجي خاصة مواطن مدلل بعمل قليل يجني‬
‫الكثير ‪ ،‬وتصرف عليه الدولة مما طمس لديه نزعة الختراع و البداع و النتاج لمدة ل بأس‬
‫بها‪.‬‬
‫منذ دخول اللفية الثالثة نلحظ أن دول الخليج بدأت بتدارك المر ولو أنها متاخرة في ذلك‪،‬‬
‫وبدأت بتشجيع المقاولت الخاصة و أول بوادر صادراتها الى السوق العالمي بمواد غير نفطية‬
‫بدأت بالظهور خاصة دولة المارات العربية المتحدة ‪.‬‬
‫لقد رأينا أن العولمة ظاهرة ل يمكن اجتنابها ‪ ،‬وتنص على خلق عالم موحد تتحرك فيه السلع و‬
‫البضائع ‪ ،‬رؤوس الموال‪ ،‬الخدمات ‪ ،‬الثقافات ‪...‬الخ‪ .‬بشكل حر ودون أي عائق ‪ ،‬لكن ماهو‬
‫تأثيرها على الدول في طور النمو و الدول المتقدمة؟‬
‫و ل تزال العولمة تفعل فعلها اليوم وتثير خلفات عديدة‪ ،‬سواء في العالم الغربي حيث نشأت‪،‬‬
‫أو في بقية بلدان العالم الخرى حيث كثرت النقاشات والراء المتضاربة حولها‪ .‬وتثير النقاشات‬
‫حول العولمة في الساحة الثقافية العربية تحديدات غالبًا ما تفتقر إلى تناول العولمة كمفهوم له‬
‫مركباته ومستوياته وامتداداته‪ ،‬كما تفتقر إلى تناول العولمة من حيث هي ذاتها‪ ،‬إذ تنتقل إلى‬
‫تناول آثارها ونتائجها‪ ،‬بناء على موقف إيديولوجي معارض أو متحمس للعولمة‪ ،‬وفي كلتا‬
‫الحالتين غالبًا ما يتم قسر النقاش في جانب أو مستوى وحيد‪ ،‬دون أخذ الظاهرة في مجمل‬
‫تجلياتها المختلفة‪ .‬وفي معرض تناول العولمة والتحولت المصاحبة لها تحاول مقالت هذا‬
‫الكتاب رصد وفهم بعض التحولت التي تجري في سياق العولمة‪ ،‬وسبل صناعة القوة الذاتية‪.‬‬
‫وقد برزت في العالم معطيات كبيرة على المستوى التكنولوجي مع التحول الذي ظهر في‬
‫التسعينيات من القرن العشرين وتجلى في النتقال من التكنولوجيا الصلبة )‪ (Hardware‬إلى‬
‫التكنولوجيا الرخوة )‪ ،(Software‬وأدى ذلك إلى ثورة في التصالت والمعلومات‬
‫والختراعات‪ ،‬حيث تدفقت المعلومات والصور عبر القاليم الجغرافية والقارات‪ ،‬وازدحم‬
‫الفضاء بالمركبات وبآلف القمار الصطناعية‪ ،‬فأرست بهذا التكنولوجيا سيرورة مطردة ل‬
‫يمكن إيقافها أو حدها بحد معين‪ ،‬ونجم عنها اتصالية على مختلف الصعد‪ ،‬كان لها أثرها الفعال‬
‫في النتاج والستثمار والتسويق والستهلك‪ .‬ول يزال هذا البعد وتموضعاته بعيدًا عن النقاش‬
‫المحتدم في المستويات الخرى‪ ،‬خصوصًا في المستويين القتصادي والثقافي للعولمة‪ ،‬رغم أن‬
‫التحكم في تكنولوجيا المعلومات يحيل إلى تعزيز المصالح الجيوسياسية لقوى الهيمنة العولمية‪،‬‬
‫ويتحكم في مسار العولمة‪.‬‬
‫وإن كانت العولمة‪ ،‬كظاهرة حضارية‪ ،‬لها تجلياها المتعددة‪ ،‬التكنولوجية والقتصادية والسياسية‬
‫والجتماعية والثقافية وغيرها‪ ،‬ولها تأثيراتها الواسعة حتى على مستوى النظمة الفردية‬
‫والفرعية في المجتمعات‪ ،‬مثل العائلة والحياة الخاصة لكل فرد‪ ،‬فإن المؤلف يرى أن العالم اليوم‬
‫يمتلئ باليقينيات على مختلف الصعد‪ ،‬كما يمتلئ بأسئلة الشك على مختلف المستويات‪ .‬لكن مع‬
‫ذلك تغير العولمة مشهد العالم اليوم قصد توحيده بقدر ما تغير العلقة بالشياء والفكار‪ ،‬حيث‬
‫يتشكل واقع جديد‪ ،‬ل مجال الن لرسم حدوده الحاضرة أو المستقبلية بصورة نهائية وحاسمة‪.‬‬
‫وبالتالي فإن ما يجري اليوم‪ ،‬حسبما يقول المؤلف‪ ،‬من أحداث وتطورات مليئة بالدروس‬
‫والعبر‪ ،‬لكن المجتمع الذي ل يعتني العناية الفائقة بأسئلة حاضره وراهنه‪ ،‬فإنه حتمًا سيمنع عن‬
‫نفسه الستفادة من هذه الدروس بما يخدم واقعه ومستقبله‪ .‬فل نستطيع مواكبة العصر‪ ،‬إل‬
‫بالتواصل الفعال مع أسئلة الواقع‪ ،‬والتفكير في بلورة إجابات عليها‪ .‬فالعولمة تنطوي على‬
‫عمليات واسعة‪ ،‬تكرس الل مساواة بين الدول وعدم الستقرار في كثير من المواقع‪.‬‬
‫وعلى المستوى الثقافي برزت مسألة جديدة تمثلت في تحول الثقافة إلى اقتصاد‪ ،‬إذ يتم تحويل‬
‫الثقافة إلى سلعة للستهلك من خلل الصور والعلن والنماذج السلوكية‪ ،‬كما تجري عمليات‬
‫تذويب الفكار والرؤى الخاصة بكل ثقافة‪ ،‬وتختزل اللغات إلى مجرد رموز وأرقام صناعية‪.‬‬
‫وحيث يتحول المجتمع إلى مجتمع المشهد ـ الصورة‪ ،‬فإن العلن يلعب بشكل متزايد دور‬
‫الوسيط بين السلعة والسوق‪ ،‬بل ودورًا مثيرًا في توجيه فعاليات الثقافة المتعددة والشركات أو‬
‫المؤسسات الراعية لها‪ .‬وهكذا تصرف مليين الدولرات على العلنات لفيلم أو مسلسل‬
‫هوليودي بغية تسويقهما‪ ،‬وتوظف الرساميل الكبيرة في العلن كي يلعب دور الوسيط الكامل‬
‫بين الثقافة والقتصاد‪ .‬ول شك أن الحديث اليوم عن تسليع المشاعر والفكار وأنماط السلوك‬
‫الشخصية أخذ يكتسب صحة ومصداقية أكثر من أي يوم مضى‪ ،‬وأخذت تلقي صناعة النجم‬
‫الثقافي والفني والتجاري رواجًا كبيرًا في عالم اليوم‪ .‬ويعتقد المؤلف أن شرط النجاح في‬
‫مشروع العولمة‪ ،‬هو خلخلة البنية الثقافية الذاتية وغرس مفاهيم وقيم ومعايير الثقافة الغربية في‬
‫جسد الشعوب والمجتمعات‪ ،‬لذلك يطرح مقولة المن الثقافي للتحرر من المؤثرات »الخارجية‬
‫الوافدة«‪ ،‬معتبرًا إياه أعلى مظاهر استرداد الهوية‪ ،‬وبالتالي يطالب بالمقاومة الثقافية الذاتية‬
‫لمشروعات الختراق‪ ،‬وهذا يبين مدى خوفه من تأثيرات العولمة على الصعيد الثقافي‪.‬‬
‫ويثير المستوى القتصادي للعولمة مسائل عديدة‪ ،‬بوصفه الموجه الرئيس لسيرورة العولمة‪،‬‬
‫ويتجلى في ظواهر مختلفة‪ ،‬يتداخل فيها بروز الشركات العملقة العابرة للقارات والمتعالية على‬
‫الدول والقوميات مع التوسع الكبير لسواق المال‪ ،‬وارتباط القتصاد النتاجي باقتصاد طفيلي‬
‫يستفيد من المضاربات ومن قوانين التشجيع على الستثمار‪ .‬وتتعقد المسألة القتصادية في‬
‫البلدان السيوية والفريقية ذات القتصاديات الضعيفة والتي تشجع الستثمار‪ ،‬حيث أصبحت‬
‫هذه الدول مرتعًا لرأسمال استثماري‪ ،‬يحتمي فيها من دفع الضرائب‪ ،‬ويستفيد من المتيازات‬
‫التي تمنحها هذه الدول‪ ،‬وتمتّد تدخلته لتطال القرار السياسي للدولة‪ .‬وينظر المؤلف إلى هذا‬
‫المستوى من زاوية تأثيره على العالمين العربي والسلمي‪ ،‬حيث يطالب رجال العمال‬
‫بالتفكير في تحويل بعض المؤسسات القتصادية والتجارية إلى شركات مساهمة‪ ،‬ولكن ل أعتقد‬
‫ل عن أن قوى الهيمنة تحاول فرض شروط‬
‫ل للتخفيف من تحديات العولمة‪ ،‬فض ً‬
‫أن في هذا سبي ً‬
‫اقتصاد السوق الحر على مختلف الدول‪ ،‬ويلعب في هذا المجال رجال العمال أينما كانوا دورًا‬
‫مميزًا يخدم مصالحهم‪ .‬وقد أظهرت مؤخرًا قوى المال المصرفي والستثماري قدرة كبيرة في‬
‫التحكم بالقرار السياسي لبعض الدول‪ ،‬بل وحتى في مصير تلك الدول واستقرارها السياسي‬
‫ل‪ ،‬النمور السيوية بين ليلة وصباحها إلى نمور من ورق نتيجة‬
‫والجتماعي‪ ،‬فقد تحولت‪ ،‬مث ً‬
‫تحويلت فورية لرأس المال العولمي‪.‬‬
‫ويثير المستوى السياسي للعولمة مسألة المركة‪ ،‬أو محاولة الوليات المتحدة الميركية فرض‬
‫هيمنتها على المم ـ الدول الخرى‪ ،‬عبر محاولة تخليق المم ـ الدول حسب مقتضيات‬
‫استراتيجية تبعيتها للمنطق الميركي المالك للقوة العسكرية النووية المدمرة‪ .‬ويصور هذا‬
‫المنطق أميركا بوصفها المالك للحق في إنتاج وبيع أسلحة الدمار الشامل دون سواها‪ ،‬ويعتبر‬
‫مصالحها القومية مصالح كونية وشمولية‪ ،‬كما يسوغ النمط الميركي في الديمقراطية الليبرالية‬
‫ل عن محاولة فرض معيارية حقوق النسان التي يتبجح بها الخطاب‬
‫بوصفه النمط المثال‪ ،‬فض ً‬
‫السياسي الميركي‪ .‬وهكذا فإن استقللية الدولة ـ المة ليس لها مصير‪ ،‬في ظل العولمة‪ ،‬غير‬
‫المزيد من الضمحلل والزوال‪ ،‬حيث تتناقص قدرة الدولة على ممارسة سيادتها في ضبط‬
‫عمليات التدفق المتواصل للمعلومات والفكار والموال والسلع والصور عبر حدودها‪ ،‬وحّدت‬
‫ثورة التصالت والعلم من أهمية الحدود الجغرافية والقليمية‪ .‬لكن المستوى السياسي‬
‫للعولمة ليس هذا فقط‪ ،‬بل يقترن بانتشار الديمقراطية على المستوى الدولي شيئًا فشيئًا‪ ،‬لكن كل‬
‫الحتمالت تبقى مفتوحة نحو سلم عالمي أو نحو استراحة ما بين مرحلتين من الحروب التي‬
‫كثرت في زماننا‪.‬‬
‫كما يؤسس هذا المستوى لمعارضات مختلفة بين الخصائص والتمايزات القومية‪ ،‬وهو ما يفسر‬
‫بروز النزعات القومية والثنية الجديدة وإحيائها في ظل العولمة‪ ،‬وقاد العديد من الباحثين إلى‬
‫اعتبار العولمة ليس مجرد عالمًا أحاديًا‪ ،‬بل متنوعًا من خلل ظهور أقطاب عديدة‪ ،‬مثل اليابان‪،‬‬
‫والتحاد الوربي‪ ،‬والنمور السيوية والصين وسواها‪ .‬من هنا يمكن فهم تأكيد المؤلف على‬
‫الثقافة الوطنية ومسألة الهوية‪ ،‬رغم أن هذا التأكيد ل يجد تحققه إل في المجالين العربي‬
‫والسلمي لديه‪ ،‬فنراه يطالب بالبحث عن أطر مجتمعية لتفعليها وجعلها حاضرة في الحركة‬
‫اليومية‪ .‬كما يعتقد أن استيعاب التقنيات الحديثة ومكاسب العولمة‪ ،‬يشكل الخطوة الولى لتحريك‬
‫عناصر الثقافة الوطنية‪ ،‬وتنشيط أطرها المجتمعية‪.‬‬
‫إن الهم الذي يؤرق المؤلف هو بالدرجة الولى ثقافي‪ ،‬من منطلق الحفاظ على الهوية‪ ،‬وهذا‬
‫السؤال ل يزال ينير عتمة الكتابات العربية منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا‪ ،‬لكنه بقي سؤا ً‬
‫ل‬
‫بفعل التسمية‪ ،‬يستجر مشاريع فاشلة في التحرر والنهوض‪ ،‬ويستدعي كل دعوة تأصيلية‪.‬‬
‫وظلت إشكالية التنمية التي يعلن عنها العنوان الفرعي للكتاب بعيدة عن التناول الفعلي‪ ،‬فليس‬
‫المهم الدخول في التاريخ العالمي‪ ،‬والمشاركة الفعالة في الحضارة النسانية‪ ،‬بل المهم في منطق‬
‫تفكير المؤلف هو التأصيل لمختلف المفاهيم والمعارف الحديثة‪ ،‬مع أنه ل يفهم التأصيل في‬
‫البحث عن دليل شرعي عن واقعة أو ظاهرة اجتماعية‪ ،‬إنما بوصفه جهدًا نظريًا يروم بلورة‬
‫نظرية معرفية متكاملة‪.‬‬
‫لكن كيف يمكن بلورة ذلك؟ ل يجيب المؤلف عن سؤال كهذا‪ ،‬بل يذهب إلى التعميم والختزال‪،‬‬
‫حيث يكفي القول بأن المثاقفة والتواصل المعرفي الجاد مع منجزات النسان الحديث ومكتشفاته‬
‫الجديدة‪ ،‬يشكل جزءًا من مفهومه لعملية التأصيل في العلوم الجتماعية‪ .‬هكذا يفهم المؤلف‬
‫تحديات العولمة‪ ،‬وينظر إلى الواقع العربي والسلمي وفق تعميمات ل تقدم ول تؤخر شيئًا في‬
‫»الخطار الكبرى التي تواجهنا في العالمين العربي والسلمي«‪ ،‬مع أن هذا الجمع بين هذا‬
‫العالمين يشكل بحّد ذاته جمعًا بين بلدان ومجتمعات ل تشترك بذات الهموم والشكاليات إل في‬
‫نطاق تجريدها وعمومياتها‪ ،‬فمجتمع مثل ماليزيا أو تركيا‪ ،‬ل يواجه ذات المشاكل والهموم التي‬
‫يواجهها بلد مثل السعودية أو سوريا أو غيرهما من البلدان العربية والسلمية‪ ،‬لكن في هذا‬
‫التعميم يمكن الكلم عن أي شيء‪ ،‬وهو إجراء يحاول عدد من الكتاب اللجوء إليه وفق منطق‬
‫التعميم‪ ،‬فما يصلح لهذا البلد يصلح للخر‪ ،‬وهكذا يبدأ فعل التسمية فعله‪ ،‬دون التكلف بتسمية‬
‫الشياء بمسمياتها الفعلية‪.‬‬
‫إن مستويات العولمة وفضاءاتها تكشف عن إيهامات عالم أثيري‪ .‬عالم متحرك ومتعال وفوق‬
‫واقعي‪ ،‬يحمل بين طياته نماذج لتعبيرات القوة المختلفة المظاهر‪ ،‬فيها من التشابه والتطابق بقدر‬
‫ما فيها من السطوة والقسر والختزال‪ ،‬وليست تأثيرات عمليات العولمة ذاتها لمختلف بلدان‬
‫العالم‪ ،‬بل تختلف من بلد لخر‪ .‬ولن يذوب الختلف فيها أو يقصى لصالح تكنولوجيا النمذجة‬
‫والتصّنع وإيديولوجيا الهيمنة القائمة على تراتبية القوة وتجسيداتها‪ ،‬وعليه فإن هذا المر‬
‫يستدعي قراءة معطيات الحاضر لكل بلد قراءة جديدة‪ ،‬وضرورة تشكيل استراتيجيات لمواجهة‬
‫سلطة إيديولوجيا الهيمنة وتراتبية القوة التي تتحكم في مسار العولمة ومستوياتها‪ ،‬وتبني ثقافة‬
‫منفتحة تقوم الحوار والتفاعل والتواصل بين مختلف الثقافات والحضارات العالمية مقابل الثقافة‬
‫المنغلقة الحادية والمهيمنة‪ ،‬وكان بودنا أن نقرأ في هذا الكتاب ما وعد به المؤلف في إضاءة‬
‫بعض المور المتعلقة بالتحولت والتطورات التي تجري في بلد معين في سياق عمليات‬
‫العولمة المتسارعة‪.‬‬

You might also like