Professional Documents
Culture Documents
اﻟـ "ﻧﻴﻮﻟﻴﱪاﻟﻴﺔ"
اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ اﺑﺘﻠﻌﺖ اﻟﻌﺎﻢﻟ
ّ
ٍ
ّ
ِ
The Neoliberalism: The idea that swallowed the world عنوان املادة األصلي باللغة النكليزية
https://www.theguardian.com/news/2017/aug/18/neoliberalism-
رابط املادة
the-idea-that-changed-the-world?CMP=fb_gu
1
لقد أصبحت الكلمة سالحا بالغيا ،ولكنها تسمى بصورة صحيحة أيديولوجية عصرنا الحاكمة التي
تبشربمنطق السوق ،وتكشف عن األشياء التي تجعلنا بشرا.
في الصيف املاض ي ،أقام باحثون في صندوق النقد الدولي مناقشة طويلة ومرة حول الـ (نيوليبرالية)؛
ٌ ٌ
معروفة
ٍ اعترفوا بوجودها .وقد نشر ثالثة من كبار االقتصاديين في صندوق النقد الدولي -وهو منظمة غير
ً
حد لفكرة َّأن الكلمة ليست أكثر منبغفلتها -ورقة تشكك في فوائد النيوليبرالية .وبهذا ،ساعدوا في وضع ٍ
محض افتراء سياس ي أو مصطلح من دون ٍ
قوة تحليلية.
وتحد ْت الورقة بلباقة (أجندة نيوليبرالية) بما يتعلق برفع القيود عن االقتصاد في أنحاء العالمَّ
بأنجميعها ،إلجبار األسواق الوطنية على االنفتاح أمام التجا ة ورأس املال ،ومطالبة الحكومات نفسها ْ
ر
بأدلة إحصائية على انتشار السياسات تنسحب عن طريق التقشف أو الخصخصة .واستشهد املؤلفون ٍ
النيوليبرالية منذ عام ،1980وارتباطها بنمو الضعف ،ودورات االزدهار ،والكساد ،وغياب املساواة.
طريقة لوصف سياستنا مصطلح قديم يعود إلى الثالثينياتْ ،
ولكن جرى إحياؤه بوصفه ٌ الـ (نيوليبرالية)
ٍ
نحو أدق -مجال الفكر الذي تسمح به سياستنا .وفي عقب األزمة املالية عام ،2008كانت
الحالية -أو على ٍ
ً
مؤسسة
ٍ حد ذاته ،بل إلى
حزب سياس ي في ِّ
هذه الطريقة وسيلة إلسناد املسؤولية عن الكارثة ،ليس إلى ٍ
سل َّْ
مت سلطتها إلى السوق.
بالنسبة إلى الديمقراطيين في الواليات املتحدة ،وحزب العمال في اململكة املتحدة ،جرى تصوير هذا
ٌ
االمتياز على َّأنه خيانة غريبة للمبدأ .وقيل َّإن بيل كلينتون ،وتوني بلير قد تخليا عن االلتزامات التقليدية
2
نخبة مالية عاملية ،وملصلحة السياسات التي تخدم مصالحهم الذاتية؛ لليسار ،وال سيما العمال ،ملصلحة ٍ
ً ً
وبفعل ذلك ،قد أتاحا زيادة مقلقة في غياب املساواة.
تحولت املناقشات إلى حال بشعة ،وأصبحت الكلمة ً َّ
سالحا في مدى السنوات القليالت املاضيات ،حيث
ً ً
بمسافة
ٍ شخص من يسار الوسط لتجريم هؤالء الذين يتموضعون على يمينهم ولو ٍ بالغيا ،ووسيلة ألي
بأن الوسطيين يقولون َّإنها إهانة ال معنى لها :ألنهم هم األكثر عرضة لإلهانة منها)َّ .
ولكن قصيرة( .ال عجب َّ
(النيوليبرالية) أكثر من محض انحراف قويم على نحو مرض .بل إنها -على طريقتها -نظارات ً
أيضا. ٍ ٍ
وضوحا كيف ساعد املفكرون السياسيون ً تمع ْن من خالل عدسة النيوليبرالية ،وسترى بصورة أكثر
كنوع من سو ٍق عاملية (وليس ،على سبيل ً
إعجابا بـ (تاتشر ور ًيغان) في تكوين املثل األعلى للمجتمع ٍ ً
األكثر
ونوع من البشر كأدوات حسابية للربح والخسارة (وليسوا ً ً
املثال ،مجاال مدنيا مصقوال ،أو نوعا من عائلة)ٍ ،
شاكرين للنعمة ،أو حقوق وواجبات غير قابلة للتصرف) .وبالطبع كان الهدف هو إضعاف دولة الرفاهية،
دائما -خفض الضرائب ،وإلغاء القيود .ولكن الـ (نيوليبرالية) تشير إلى ش ٍيء وأي التزام بالعمالة الكاملة ،وً -
ٍ
ٌ َّ
أكثر من قائمة رغبات جناح يميني معياري .إنها طريقة إلعادة تنظيم الواقع االجتماعي ،وإعادة التفكير في
وضعنا بوصفنا أفر ًادا.
مع استمرار التمعن من خالل العدسة ،ترى -على األقل -كيف َّأن دولة الرفاهية والسوق الحرة هما
اختراع بشري .وترى كم نحن مضطرون اآلن إلى التفكير في أنفسنا بوصفنا مالكين مواهبنا ومبادرتنا ،ومدى
العفوية التي نتداولها بأننا نتنافس ،ونتكيف .ترى املدى الذي كانت اللغة تقتصر فيه ً
سابقا على تبسيطات
ُ
السبورة التي تصف أسواق السلع (املنافسة ،ومعلومات مثالية ،والسلوك العقالني) وقد طبقت في املجتمع
ً
ِّكله ،حتى إنها غزت دقائق حياتنا الشخصية ،وكيف َّأن موقف الوسيط أصبح مشبوكا في وسائط التعبير
عن الذات جميعها.
اسما للسياسات املوالية للسوق فحسب ،أو للتسويات مع الرأسمالية باختصار ،الـ (نيوليبرالية) ليست ً
كل املالية الناجمة عن فشل األحزاب الديمقراطية االجتماعيةَّ .إنها ٌ
بهدوء لتنظيم ِّ
ٍ اسم لفرضية ،قد أتت
ما نمارسه ونعتقد به :إ َّن املنافسة هي املبدأ التنظيمي الشرعي الوحيد للنشاط البشري.
اعتمدت النيوليبرالية بوصفها حقيقية ،وفور كشف النفاق العاملي للسوق ،وصل الشعبويون عندما ُ
واالستبداديون إلى السلطة .في الواليات املتحدة ،خسرت هيالري كلينتون ،الشريرة الليبرالية الجديدة ،أمام
بأنه يكره التجارة الحرة .هل النظارات اآلن غير مجدية؟ هل يمكنهم فعل تماما للتظاهر َّ
رجل عرف ما يكفي ً
ٍ
كامل في السياسة البريطانية واألميركية؟ وفي مواجهة قوى االندماج أي ش ٍيء ملساعدتنا في فهم ما هو غير ٍ
العاملي ،تجري إعادة تأكيد الهوية الوطنية ،وبأقص ى العبارات املمكنة .ما الذي يمكن أن تتخذه النزعة
القتالية املتشددة لبريطانيا الخارجة من االتحاد األوروبي ،وأميركا الترامبية مع العقالنية النيوليبرالية؟ ما
معتوه طليق -والنموذج الباهت للكفاية املعروفة بالسوق الحرة؟. ٌ الصلة املمكنة بين الرئيس -وهو
3
ً ً
صغيرا من الفائزين ،وجيشا هائال من الخاسرين فحسب ،والخاسرون ً ليس َّأن السوق الحرة تنتج كاد ًرا
ً
يبحثون عن انتقام ،تحولوا إلى بريكسيت وترامب .كانت هناك منذ البداية عالقة حتمية بين املثل األعلى
إفصاحا ً
فريدا عن ً اليوتوبي للسوق الحرة ،والحاضر البائس الذي نجد أنفسنا فيه؛ بين السوق بوصفها
القيمة والوص ي على الحرية ،ونسبنا الحالي نحو ما بعد الحقيقة ،والالليبرالية أو نقصها.
َّإن تحريك املناقشة القديمة حول الليبرالية الجديدة يبدأ -في ما أظن -مع األخذ بجد ٍية قياس تأثيرها
واحد منا ،بغض النظر عن االنتماء .وهذا يتطلب العودة إلى أصولها التي ليس لها عالقة مع كل ٍالتراكمي في ِّ
مجموعة من الناس الذين يدعون أنفسهم ليبراليين ً ً
جددا، بيل أو هيالري كلينتون .كانت هناك ذات مرة
ً
وفعلوا ذلك بفخر ،وكان طموحهم ثورة كاملة في الفكر .وأبرزهم فريدريش هايك؛ لم يكن يظن َّأنه كان
َّ
موضع مراقبة من الطيف السياس ي أو يقدم األعذار ملصلحة األغنياء الحمقى ،أو يرقع حواف االقتصاد
الجزئي.
يحل مشكلة الحداثة :مشكلة املعرفة املوضوعية .أما بالنسبة إلى هايك ،فإن السوق لم ظن أنه كان ُّ
ُييسر فقط التجارة في السلع والخدمات؛ بل كشف الحقيقة .كيف صار طموحه بخالف ما يريد.
ً
إمكان العصف الذهني أنه ،بفضل تبجيلنا األرعن للسوق الحرة ،قد تكون الحقيقة مطرودة من الحياة
العامة ً
تماما.
عندما أتت الفكرة لفريدريش هايك في عام ،1936عرف بثقة (الوميض املفاجئة) أنه قد عثر على ش ٍيء
جديد« .كيف يمكن الجمع بين شظايا املعرفة املوجودة في عقو ٍل مختلفة» ،وكتب« :تحقيق النتائج التي -
ً
لشخص واحد ْأنٍ عمدا -تتطلب معرفة من جانب العقل املوجه الذي ال يمكن إذا كان سيجري توحيدها ً
يملكه؟».
نقطة فنية بشأن معدالت الفائدة ،أو الركود االنكماش ي .لم يكن هذا ٌ ٌ
جدل رجعي ضد ولم تكن هذه
ٌ
الجماعية أو دولة الرفاهية .وكانت هذه وسيلة لوالدة عالم جديد .وبهذه اإلثارة املتزايدة ،فهم هايك أن
السوق يمكن عده ً
نوعا من العقل.
ً ً
لقد زودتنا (اليد الخفية) آلدم سميث بالفعل باملفهوم الحديث للسوق بوصفها مجاال مستقال للنشاط
َّ
أخالقي ملعرفة علمية .ولكن سميث كان ،حتى نهاية حياته، ً
صالحا ً
موضوعا البشري ،ومن ثم ،قد تكون
ٍ
حريصاً القرن الثامن عشر .وقال َّإنه يرى َّأن السوق ال يمكن تبريرها إال في ضوء الفضيلة الفردية ،وكان
ً
مجتمعا على اإلطالق .النيوليبرالية هي على َّأن املجتمع الذي ال يحكمه سوى املصلحة الذاتية املتعالية ليس
آدم سميث من دون هلع.
ٌ جد الليبرالية الجديدة -أسلوب من التفكير يقلص َّ عد هايك َّ
إن َّ
كل ش ٍيء إلى االقتصاد -هو سخرية
اطيا شبه غامض من فيينا فحسب ،عندما نظرا إلى َّأنه كان مثل اقتصادي عادي .كان ً
شابا تكنوقر ً قليلة ً
4
ُ
ق ِّبل في كلية لندن لالقتصاد للتنافس مع النجم الصاعد أو لربما الخافت /الغبي؛ جون ماينارد كينز في
كامبريدج.
خلفت الخطة نتائج عكسية ،وخسر هايك الجولة أمام كينز .وقوبلت نظرية كينز العامة للعمالة
والفائدة واملال التي نشرت في عام ،1936بوصفها تحفة .وقد هيمنت على املناقشة العامة ،وبخاصة بين
االقتصاديين اإلنكليز الشباب تحت التدريب ،فكان كينز الرائع األنيق املرتبط اجتماعيا – بالنسبة إليهم-
ً ً
مثاال جميال .beau idéalوبحلول نهاية الحرب العاملية الثانية ،كان عدد من كبار املؤمنين بالسوق الحرة
بأن الحكومة قد تؤدي دو ًرا في إدارة االقتصاد قد اقتربوا من طريقة كينز في التفكير أو تبنوها ،واعترفوا َّ
الحديث .وقد تبددت اإلثارة األولية حول هايك .ففكرته الخاصة التي ال تفعل أي ش يء ،يمكن ْأن تعالج
وقت الحق َّأنه تمنى أن ينس ىركودا اقتصاديا قد جرى دحضها من الناحية النظرية والعملية .واعترف في ٍ
ً
ببساطة عمله الذي ينتقد فيه كينز.
ٍ
ً ٌ
نسيجا انحدر هايك إلى شخصية سخيفة ،وهو أستاذ طويل القامة ،منتصب عريض املنكبين ،يرتدي
مصر على أن ُينادى (فون هايك) بصورة رسمية ،لكنه حمل على ظهره اسم (املتقلب) .في ً
ضخماٌّ ، ً
صوفيا
مستقبل واضح .لكننا نعيش اآلن في عالم هايك ،حيث ً
أكاديميا من دون حقيبة ،ومن دون عام ،1936كان
ٍ
سابقا في عالم كينز .وقال لورانس سمرز ،مستشار كلينتون ،والرئيس السابق لجامعة هارفاردَّ :إن عشنا ً
فكرة ثاقبة ،وأصلية مثل االقتصاد الجزئي الذي ُوِّلد في القرن ٌ
كعقل هو «
ٍ تصور هايك لنظام السعر
ً
العشرين» و«الش يء األكثر أهمية الذي يجب تعلمه من دورة االقتصاد اليوم» .وهذا ال يروج لذلك .لم
ملمح من جوانب عالم َّ
كل ٍ يصنع كينز الحرب الباردة ،أو يتوقعها ،إال أن تفكيره كان يميل على طريقته إلى ِّ
جانب من جوانب عالم ما بعد عام .1989الحرب الباردة؛ كذلك نسج فكر هايك ذاته في كل ٍ
5
فريدريش هايك يدرس في كلية لندن لالقتصاد في عام .1948تصوير :بول بوبر /صور بوبر /جيتي
ً
كانت نظرة هايك مستقبلية شاملة :طريقة لهيكلة الواقع كله على نموذج املنافسة االقتصادية .يبدأ
شكل من أشكال الحساب االقتصادي ،ومن ثم بافتراض َّأن النشاط البشري ً
تقريبا (إن لم يكن كله) هو ٌ
ٌ
يمكن استيعابه املفهومات الرئيسة للثروة والقيمة والتبادل والتكلفة وبخاصة السعر .فاألسعار وسيلة
لتوزيع املوارد الشحيحة بكفاية ،بحسب الحاجة واملنفعة ،اللتين يحكمهما العرض والطلب .ولكي يعمل
َّ ً
حرة وتنافسية .فمنذ َّأن تصور سميث االقتصاد بوصفه نظام األسعار بكفاية ،يجب ْأن تكون األسواق
احتمال َّ
ٌ ً ً
بأن السوق قد ال تكون محض جزء واحد من املجتمع ،بل املجتمع كله .وفي مجاال مستقال ،هناك
مثل هذا املجتمع ،ال يحتاج الرجال والنساء إال إلى متابعة مصلحتهم الذاتية ،والتنافس على املكافآت
الشحيحة .من خالل املنافسة« ،يصبح من املمكن» -بحسب ما كتب عالم االجتماع ويل ديفيز« -لتمييز من
له قيمة ،وما هي».
شخص متآلف مع التاريخ بوصفه الحواجز الضرورية ضد الطغيان واالستغالل ،طبقة ٍ ما يعده أي
مدنيا؛ ومؤسسات حرة؛ واقتر ً ً ً
اعا عاما؛ وحرية الضمير ،والتجمع ،والدين، وسطى مزدهرة ومجاال
مكان خاص في فكر هايك .أدخل والصحافة؛ واالعتراف األساس بأن الفرد هو حامل الكرامة ،لم يكن لها ٌ
كل الحماية الالزمة ضد الخطر السياس ي الحقيقي هايك في صلب النيوليبرالية االفتراض َّ
بأن السوق يوفر َّ
الوحيد؛ الشمولية .وملنع ذلك ،ال تحتاج الدولة إال إلى املحافظة على السوق حرة.
حر ٍة ،وفي ٌ
تعديل حاسم في االعتقاد القديم في سو ٍق َّ هذا األخير هو ما يجعل النيوليبرالية (جديدة) .وهو
دولة في حدها األدنى ،املعروفة باسم (الليبرالية الكالسيكية) .في الليبرالية الكالسيكية ،طلب التجار
ٍ
6
ْ
أدركت النيوليبرالية ْأن الدولة ببساطة من الدولة ْأن «تتركنا وحدنا» ْ -أن تدعنا نعمل .laissez-nous faire ٍ
ْ
يجب أن تكون نشطة في تنظيم اقتصاد السوق .يجب أن تتحقق األوضاع التي تسمح بالسوق الحر ْ
أساس مستمر. سياسيا ،ويجب إعادة هندسة الدولة لدعم السوق َّ
الحرة على ً
ٍ
جانب من جوانب السياسة الديمقراطية ،من خيارات الناخبين َّ ْ
هذا ليس كل ش يء :يجب أن يخضع كل ٍ
املشرع إلى ترك األمور على حالها -حتى ال َّ
يشوه َّ تحليل اقتصادي محض .ويضطر وقرارات السياسيين ،إلى
ٍ
ً
ومحايدا قانونيا ً
ثابتا ً اإلجراءات الطبيعية للسوق -وهكذاَّ ،
فإن الدولة توفر من الناحية املثالية إطا ًرا
غير مفضل ً
أبدا لـ (آلية التسوية التلقائية) تلقائياَّ .إن التوجه الواعي للحكومة ُ
ً وعامليا تعمل فيه قوى السوق ً
ٍ
ً
-أي نظام األسعار ،الذي ليس فاعال فحسب ،بل يزيد من الحرية أو من الفرصة للرجال والنساء التخاذ
حرة بشأن حياتهم الخاصة ً
أيضا. ات َّ ٍ خيار ٍ
ً ً
مؤسسا نظام ما بعد الحرب ،جلس هايك عابثا في كامبريدج. بينما كان كينز يتنقل بين لندن وواشنطن،
ٌ ُ
وكان قد أرسل إلى هناك في أثناء عمليات اإلجالء في زمن الحرب؛ واشتكى من َّأنه محاط (باألجانب) و«وجود
جدا منعدد قليل ً تقريبا ،ولكن ثمة ٌ ً شرقيين من األنواع جميعها» و«أوروبيين من الجنسيات جميعها
املثقفين الحقيقين».
ً
تأثير أو احترام ،ال يملك سوى فكرته التي تسيطر عليه؛ فكرة كبيرة كان هايك منهمكا في إنكلترا من دون ٍ
مسموح له ْأن يقرر ما
ٌ جدا من شأنها ذات يوم ْأن تبدد األرض تحت أقدام كينز ،واملثقفين اآلخرين كلهم. ً
ُ
يحسب السوق ما ال تماما أي عقل ،ولكن ٌ
عقل كلي العلم؛ يشاء ،نظام السعر يعمل كنوع من عقل .وليس ً
ً ٍ
يمكن لألفراد استيعابه .كان هايك متواصال مع املثقف ورفيق السالح الصحافي األميركي والتر ليبمان الذي
ً
عقل بشري خطة املجتمع برمتها ...وفي أفضل األحوال يمكن للعقل ْأن ُّ
كتب إلى هايك قائال« :لم يفهم أي ٍ
ُّ
صورة
ٍ كثيرا ،الذي يحمل للواقع بعض من هذه العالقة مثل أخف ً يفهم نسخته الخاصة من الخطة ،ش ٌيء
لرجل».
ٌ ُ
إنها دعوى إبستمولوجية كبيرةَّ ،أن السوق هي وسيلة معرفة ،معرفة تتجاوز بصورة جذرية قدرة أي
ً أقل من كونها اختر ً
عقل فردي .مثل هذه السوق هي ُّ
اعا بشريا ،ليجري التالعب بها مثل أي اختراع آخر ،بدال ٍ
ً ْ َّ
قوة ال بد من دراستها واسترضائها .فاالقتصاد يتوقف عن أن يكون تقنية -كما يرى كينز -لتحقيق من ٍ
الغايات االجتماعية املرغوبة ،مثل النمو أو ثروة مستقرة .الغاية االجتماعية الوحيدة هي املحافظة على
السوق نفسها .وتشكل السوق ،في معرفتها الالمحدودة ،الصورة الشرعية الوحيدة للمعرفة ،التي تكون فيها
ً
كل ،ودافعوا أنماط التفكير األخرى جميعها جزئية ،في معنيي الكلمة كليهما :فهم فهموا فقط جزءا من ٍ
قيم شخصية ،أو محض آراء؛ وبصورة جماعية، مصلحة خاصة .بصورة فردية ،قيمنا هي ٌ ٍ بالنيابة عن
أسعار أو حقائق موضوعية.ٍ يحولها السوق إلى
7
مدفوع من أبدا ً
تعيينا ً
دائما ألنه غير بعد فشله ،وطرده من كلية لندن لالقتصاد ،LSEلم يؤم ْن هايك ً
ٍ
الشركات الراعية .حتى إ َّن زمالءه املحافظين في جامعة شيكاغو -املركز العاملي للمعارضين الليبراليين في
ناطقا باسم الرجعية ،فهو (رجل أسهم يميني) ،و(راعي أسهم يميني) ،بحسب ما الخمسينيات -عدوا هايك ً
ً
لصديق زيارة هايك ،واآلن في سالزبورغ ،ليجد رجال
ٍ وقت متأخر من عام ،1972أمكن وصفه أحدهم .وفي ٍ
ً عجوزا يسجد مع الشفقةً ،
ظاننا َّأن عمل حياته كان عبثا .لم يهتم ٌّ ً
أحد بما كتبه.
عالمات أمل؛ كان هايك الفيلسوف السياس ي املفضل لدى باري غولدووتر ،وقيل ُ ومع ذلك ،كانت ثمة
أيضا .ومن بعد مارغريت تاتشر ،إلى أي شخص سيستمع ،رفعت تاتشر هايك مفضل لدى رونالد ريغان ً ٌ إ َّنه
ً
واعدة ْ
بأن تجمع بين فلسفته في السوق الحرة ،مع إحياء القيم الفيكتورية :العائلة، إلى مصاف اآللهة،
واملجتمع ،والعمل الجاد.
خاصا مع تاتشر في عام ،1975في اللحظة التي كانت تستعد فيها بعد تعينها زعيمة لقاء ً التقى هايك ً
ً
املعارضة في اململكة املتحدة إلنزال فكرته الكبيرة من على الرف ،لتدخلها في التاريخ .اجتمعوا مدة 30دقيقة
في شارع اللورد نورث في لندن ،في معهد الشؤون االقتصادية .بعد ذلك ،سأل موظفو تاتشر هايك عما كان
ً يراه .ماذا يمكنه أن يقول؟ ألول مرة منذ ً 40
عاما ،كانت السلطة تنعكس مرة أخرى إلى فريدريش فون هايك
جل قد هزم كينز ،وأعاد تكوين العالم. في صورة ذاته املعززة ،ر ٌ
( )1لوح ويجا ( :)Ouija boardويعرف أيضا بلوح الروح ،وهو لوح مسطح كلمتين ،فرنسية ( ،)Ouiوأملانية ( ،)jaوكلتيهما
ً
ووداعا ،يحتوي في مركزه على مؤشر بمعنى نعم ،إضافة إلى الحروف األبجدية واألرقام من 0إلى ،9وكلمتي ً
مرحبا
متحرك ،يستخدم لنقل رسالة ما إلى األرواح وتلقي جواب منها ،يقوم املشاركون بتحريك املؤشر بأصابعهم ،وحيث يقف،
هناك رسالة معينة ،ويرمز علميا إلى خدع فكرية حركية.
8
كائن آخر؟ يبدو أنه ال توجد طريقة الستيعاب التجربة
كائن في العالم ،مثله مثل أي ٍ
اإلنسان هو محض ٍ
ً
اإلنسانية الداخلية الذاتية في الطبيعة -كما يتصورها العلم -هدفا موضوعيا نكتشف قواعده باملالحظة.
يكمن كل ش يء عن الثقافة السياسية ملا بعد الحرب ملصلحة جون ماينارد كينز ،ودو ٌر موسع للدولة في
إدارة االقتصاد .ولكن كل ش يء عن الثقافة األكاديمية ملا بعد الحرب يكمن في مصلحة فكرة هايك الكبرى.
ً ً
لغاية محدودة ،لتخصيص قبل الحرب ،عد -واالقتصاديون اليمينيون معظمهم أيضا -السوق وسيلة ٍ
ً
كفاية املوارد الشحيحة .من زمن آدم سميث في منتصف القرن الثامن عشر ،وصوال إلى األعضاء املؤسسين
في مدرسة شيكاغو في سنوات ما بعد الحرب ،كان من املعتاد افتراض َّأن الغايات النهائية للمجتمع والحياة
مترسخات في املجال غير االقتصادي.
ً
اقتصاديا ،من خالل سياسيا وديمقر ً
اطيا ،وليس ً وتماشيا مع هذا الرأي ،يجري حل مسائل القيمة ً
التأمل األخالقي واملداوالت العامةُ .ع ِّثر على التعبير الكالسيكي الحديث املعبر عن هذا االعتقاد في مقال من
عام 1922بعنوان :األخالق والتفسير االقتصادي لـفرانك نايت الذي وصل إلى شيكاغو قبل عقدين من
وصول هايك.
ً
يقول نايتَّ « :إن االنتقاد االقتصادي العقالني للقيم ُيعطي نتائج بغيضة للحس العام» .ويضيف:
ٌ
«اإلنسان االقتصادي هو هدف أناني ،بال رحمة لإلدانة األخالقية».
مجتمع
ٍ وقد كافح االقتصاديون ملدة 200سنة مع مسألة كيفية وضع القيم التي وفقها يجري تنظيم أي
جنبا إلى جنب مع زميليه هنري تجاري مختلف أبعد من املصلحة الذاتية والحساب فحسب .وكان نايتً ،
سيمونز وجاكوب فينر ،ضد فرانكلين د .روزفلت ،وتدخالت السوق في الصفقة الجديدة ( ،)2وأنشؤوا
جامعة شيكاغو بوصفها املركز الفكري الصارم القتصاد السوق الحر الذي ما يزال حتى يومنا هذا .ومع
ذلك ،فإن سيمونز ،وفاينر ونايت بدؤوا حياتهم املهنية قبل السمعة التي ال مثيل لها لفيزيائي الذرة التي
جذبت مبالغ هائلة من املال في النظام الجامعي ،وبدأت بالرواج في العلم (الصعب) ملا بعد الحرب .لم يعبدوا
ً
املعادالت أو النماذج ،وكانوا قلقين بشأن األسئلة غير العلمية .بصراحة أكثر ،كانوا قلقين في مسائل
ً
متميزة ً
تماما من السعر. القيمة ،حيث القيمة كانت
ً ً
استعدادا للتسامح مع الدولة بما ولم يكن سيمونز وفاينر ونايت أقل دوغمائية من هايك ،أو أكثر
فكريا .لكنهم اعترفوا في مبدأ أولي َّ ً
متفوقا ً
بأن املجتمع يخص الضرائب واإلنفاق .وليس الحال أن هايك كان
َّ ليس هو نفسه السوقَّ ،
وأن السعر ليس هو القيمة نفسها .هذا جعلهم كلهم مبتلعين قبل التاريخ.
( )2الصفقة الجديدة ( :)New Dealوهي مجموعة من القوانين والتشريعات األميركية خالل مرحلة رئاسة فرانكلين
روزفلت في عقب مرحلة الكساد الكبير الذي بدأ في عام ،1929تركزت حول ثالثة قضايا :اإلغاثة واإلنعاش واإلصالح،
إغاثة الفقراء والعاطلين عن العمل ،وإنعاش االقتصاد وإعادته إلى مستواه الطبيعي ،وإصالح النظام املالي ً
منعا لتكرار
حالة الكساد.
9
جون ماينارد كينز ،حوالى عام .1940صورة :تيم جيدال /جيتي
10
موضوعية مهيبة للعلم.
ٍ أظهر لنا هايك كيفية الوصول من حال ميؤوس منها من التحيز البشري نحو
فالفكرة الكبيرة لهايك هي الحلقة املفقودة بين طبيعتنا البشرية الذاتية ،والطبيعة نفسها .وبذلك ،فهو
قيمة ال يمكن التعبير عنها ً
سعرا -مثل حكم السوق -على قدم مساواة غير مؤكدة ،بوصفه ال ش يء يضع أي ٍ
أكثر من رأي أو تفضيل أو فولكلور أو خر ٍ
افات.
ساعد كبير االقتصاديين في مرحلة ما بعد الحرب في شيكاغو ميلتون فريدمان -أكثر من أي شخص،
ً
حتى هايك نفسه -في إقناع الحكومات والسياسيين بقوة فكرة هايك الكبرى .ولكن أوال انقطع لقرنين عن
أحكام معيارية» ،و«هو ٍ موقف أخالقي معين أو ٍ مبدئي مستقل عن أي العرف ،وأعلن َّأن االقتصاد هو « ٌّ
علم موضوعي) ،له على وجه التحديد املعنى نفسه أي من العلوم الفيزيائية» .كانت قيم النوع القديم ( ٌ
ً
العقلي املعياري معيبة ،كانت القيم «مختلفة على أي الرجال الذين يمكن ْأن يقاتلوا في النهاية فقط» .هناك
السوق ،وبعبار ٍة أخرى ،هناك النسبية.
صور بشرية من النظم الطبيعية ،ومثل الكون نفسه ،فإنها قد تكون عديمة السلطة قد تكون األسواق ٌ
والقيمة .ولكن تطبيق فكرة هايك الكبيرة على كل جانب من جوانب حياتنا ينفي ما هو األكثر ً
تميزا منا .أي ٍ ِّ
ً يوكل ما هو ُ إنه ُ
أكثر إنسانية بما يخص البشر -عقولنا وإرادتنا -إلى الخوارزميات واألسواق ،ما يجعلنا
مقلدين ،مثل الزومبي ،التمثل idealisationsاملقلق للنماذج االقتصاديةَّ .إن تضخيم فكرة هايك،
نوع من الوسائل االجتماعية واسعة املعرفة يعني الحد جذرًيا من ً
واالرتقاء بنظام األسعار ارتقاء جذريا نحو ٍ
أهمية قدرتنا الفردية على التفكير -قدرتنا على تقديم ،وتقويم مسوغات أعمالنا ومعتقداتنا.
ً
حججا ،وننافس حجج اآلخرين -يتوقف عن ْأن ً فإن املجال العام -املكان الذي نقدم فيه ونتيجة لذلكَّ ،
ً ً ً
انتقائيا عبر نقرات( :إعجاب /اليك ،وإعادة تغريد /ريتويت) .اإلنترنت يكون مجاال للمداوالت ،ويصبح سوقا
ً فضاء شبه عام ُيردد ً
صوتا داخل رأسنا .فبدال من ْأن يكون ٌ مضخم بالخوارزمية .وهو ٌ ٌ
تفضيل شخص ي هو
جهاز للتأكيدمجتمعا ،نحو توافق اآلراء ،أصبح هناك اآلن ٌ ً مجال للمناقشة نتحرك فيه بوصفنا ٌ هناك
ِّ
امتداد آلرائنا عام وواضح هو محض َّ
املتبادل يشار إليه بعبارة (سوق األفكار) .إن ما يبدو وكأنه ش ٌيء ٌ
ٍ
وأحكامنا املسبقة ومعتقداتنا وانحيازاتنا ،في حين إ َّن سلطة املؤسسات والخبراء قد تشردت بسبب املنطق
التجميعي /الشمولي للبيانات الضخمة .عندما نصل إلى العالم من خالل محرك البحث ،يجري ترتيب
بشكل متكرر) ،من مستخدمين فرديين ال نهاية لهم ،يعملون كسو ٍق،
نتائجه ،كما يضعها مؤسس غوغل ( ٍ
وبصورة مستمرة ،وفي الوقت الحقيقي.
ً
مهيمنا على تقليدا ً
سابقا أكثر إنسانية ،كان فإن ً
جانباَّ ،
إذا وضعنا املرافق الرهيبة للتكنولوجيا الرقمية ً
مدى قرون ،قد َّميز ً
دائما بين أذواقنا وتفضيالتنا -الرغبات التي تجد ً
تعبيرا عنها في السوق -وقدرتنا على
قيم والتعبير عنها.
التفكير في تلك التفضيالت ،ما يسمح لنا بتكوين ٍ
11
تقريبا َّ
وقت سابقُ « :يعرف الذوق ً
بأنه تفضيل ال يقول الفيلسوف واالقتصادي ألبرت أو .هيرشمان في ٍ
ً
جدل فيه» .ويضيف« :ذوق تجادل فيه مع اآلخرين أو مع نفسك ،يتوقف عن كونه ذوقا بحكم الواقع،
ويتحول إلى قيمة».
وقد رسم هيرشمان ً
تمييزا بين هذا الجزء من الذات وهو املستهلك ،وذاك الجزء من الذات وهو ٌ
مورد
للحجج .وتعكس السوق ما وصفه هيرشمان باألفضليات التي «كشف عنها الوكالء وهم يشترون السلع
ُ والخدمات» .ولكن ،كما يقول ،الرجال والنساء ً
أيضا «لديهم القدرة على التراجع عن (رغباتهم) التي ك ِّشفت،
حقا هذه الرغبات ،ويفضلون هذه والخيا ات والتفضيالت ،لسؤال أنفسهم ما إذا كانوا يريدون ً
ر
ُ
التفضيالت» .نحن نكون أنفسنا ،وهوياتنا على أساس هذه القدرة على التفكيرَّ .إن استخدام قوى التأمل
عقل عام؛ بينما استخدام العقل العام الذاتية هو العقل .واالستخدام الجماعي لهذه القوى التأملية هو ٌ
ً
أسبابا ألفعالنا ومعتقداتنا ،فإننا نخلق أنفسنا: لصنع القانون والسياسة هو الديمقراطية .عندما َّ
نقدم
فرادى وجماعات ،نقرر من نحن ،وما نحن عليه.
فإن هذه التعبيرات عن الذاتية البشرية ال معنى لها من دون تصديقها ً
ووفقا ملنطق فكرة هايك الكبيرةَّ ،
ات جيدة مثل واعتمادها من السوق ،وبحسب ما قال فريدمان ،فهي ليست سوى النسبيةَّ ،كلها تعبير ٌ
بعضها .عندما يجري تحديد الحقيقة املوضوعية الوحيدة من السوق ،فإن القيم األخرى كلها ال تبقى سوى
ٌ نسبياَّ .كالم فارغ ً محض آراء؛ كل ش يء آخر هو هر ٌاء أو ٌ
ولكن (نسبية) فريدمان هي تهمة يمكن قذفها مقابل
ٌ
ادعاء قائم على أساس العقل البشريَّ .إنها إهانة ال معنى لها ،إذ إ َّن املساعي اإلنسانية كلها (نسبية)ٍ أي
بمعنى أن العلوم ليست نسبية .وهي تتعلق بشرط (الخاص) وجود العقل ،والحاجة (العامة) إلى العقل
ُ والتفهم حتى عندما ال نستطيع ْأن نتوقع ً
بمداوالت في الحجج،
ٍ إثباتا علميا .عندما لم تعد مناقشاتنا تحل
فإن نزوات السلطة ستحدد النتيجة. َّ
هذا هو املكان الذي يلتقي فيه انتصار الليبرالية الجديدة مع الكابوس السياس ي الذي نعيشه اآلن« .كان
ً لديك ٌ
عمل واحد» ،تمض ي املزحة القديمة ،ومشروع هايك الكبير ،كما جرى تصوره أصال في الثالثينيات
بشكل واضح ملنع االنزالق في الفوض ى السياسية والفاشية .لكن الفكرة الكبيرة كانت ٌ
مصمم واألربعينيات،
ٍ
ً
دائما هذا االنتظار الفظيع لحدوثها .كانت منذ البداية حامال بالش يء الذي قيل أنه يجب ْأن نتفاداه .املجتمع
ً
ً ُ
الذي أعيد النظر إليه بوصفه سوقا عمالقة يؤدي إلى الحياة العامة املفقودة بسبب التشاجر على اآلراء
لحل مشكالته املستعصية املختلفة. جل قوي ً
كمالذ أخير ِّ
ٍ فحسب؛ حتى يقتنع الجمهور ،وأخيرا ،يرضخ إلى ر ٍ
اسل أميركي باب هايك البالغ من العمر ً 90
عاما .كان يعيش في فرايبورغ بأملانيا في ،1989طرق مر ٌ
شقة في الطابق الثالث ،في منز ٍل يكسوه الجص في شارع أوراشتراس .جلس الرجالن في ٍ
غرفة الغربية ،في ٍ
بطانية ليغطي
ٍ مشمسة ُّ
تطل نوافذها على الجبال ،وقام هايك الذي كان يتعافى من االلتهاب الرئوي ،بسحب
ساقيه في أثناء حديثهما.
12
ً
يوم متمرغا في هزيمته الخاصة على ِّيد كينز .وكانت تاتشر قد كتبت هذا لم يعد الرجل الذي كان ذات ٍ
ممكنا ما كانت هي وريغان قد أنجزاه «من دون ً لهجة تعبر عن انتصار األلفية .لم يكن
للتو إلى هايك في ٍ
ً
مبتهجا القيم واملعتقدات التي تضعنا على الطريق الصحيح ،وتوفر املعنى الصحيح لالتجاه» .كان هايك
ً
لذاته ،متفائال بشأن مستقبل الرأسمالية .وبحسب ما كتب الصحافي «على وجه الخصوص ،يرى هايك
تقديرا أكبر للسوق بين جيل الشباب .ياظاهر اليوم الشباب العاطلين عن العمل في الجزائر ،ورانغون ً
ولكن للحصول على فرصة :حرية الشراء والبيع مركزياْ ،
ً (ميانمار) ليس من أجل دولة الرعاية املخطط لها
-الجينز والسيارات وأي ش يء -مهما كانت األسعار التي ستفرضها السوق».
جنة ُبنيت من خالل فكرته َّ بعد ثالثين ً
عاما ،يمكن القول إن انتصار هايك ال مثيل له .نحن نعيش في ٍ
شبها بسوق مثالية تحكمها املنافسة الكاملة فحسب ،أصبح السلوك الكبيرة .وكلما أمكن جعل العالم أكثر ً
ُّ ً
البشري أكثر شبها بالقانون والسلوك (العلمي) في مجمله .كل ٍ
يوم نحن أنفسنا -ال أحد ليخبرنا بعد اآلن! -
ً
كماال مثل املشترين والبائعين املتناثرين ،املنفصلين ،واملجهولين؛ َّ
وكل يوم نسعى جاهدين لنصبح أكثر
نتعامل مع الرغبة املتبقية لنكون ً
شيئا أكثر من مستهلك كما الحنين أو النخبوية.
ٌ ً ً َّ
نظر غير سياسية بإخالص ،وقد إن ما بدأ شكال جديدا من أشكال السلطة الفكرية ،متأصل في وجهة ٍ
سياسة رجعية .ما ال يمكن قياسه أو إحصاؤه ال يجب ْأن يكون حقيقيا ،بحسب ما ٍ اندفع بسهولة نحو
يقول االقتصادي ،وكيف تقيس فوائد األديان األساسية للتنوير -أي التفكير النقدي ،واالستقاللية
الشخصية ،والحكم الذاتي الديمقراطي؟ عندما تخلينا ،بسبب بقاياه املحرجة للموضوعية ،عن العقل
ً
بوصفه صورة من صور الحقيقة ،وجعلنا العلم الحكم الوحيد على ٍ
كل من الحقيقة والواقع ،أنشأنا فراغا
ً
كانت العلوم الزائفة سعيدة بملئه.
َّإن سلطة األستاذ أو املصلح أو املشرع أو الفقيه ال تنبع من السوق ،بل من القيم اإلنسانية مثل
الحماس العام أو الضمير أو الشوق من أجل العدالة .قبل مد ٍة طويلة من إدارة ترامب بدأ تحطيم تلك
مخطط توضيحي ال يمكن أن يفسرها .وبالتأكيد القيم ،وقد ُ
است ِّنزفت هذه الرموز من األهمية من خالل
ٍ
نزوة صرف ،ور ٌ ٌ ٌ
جل ال مبادئ له أو هناك صلة بين غياب أهميتها املتنامي ،وانتخاب ترامب ،وهو مخلوق من ٍ
ً
متماسكا .ر ٌ
جل بال عقل ،يمثل الغياب التام للعقل ،يدير العالم؛ أو على األقل يدمره .كما هم قناعة تجعله
ً
متعجرفو سوق مانهاتن للعقارات ،ومع َّأن ترامب -مهال -يعرف ما يريد ،فإن خطاياه لم تعاقب بعد في
السوق.
13