You are on page 1of 18

‫اﻟﻐﺎردﻳﺎن‬

‫اﻟـ "ﻧﻴﻮﻟﻴﱪاﻟﻴﺔ"‬
‫اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ اﺑﺘﻠﻌﺖ اﻟﻌﺎﻢﻟ‬

‫وﺣﺪة اﻟﱰﺟﻤﺔ واﻟﺘﻌﺮﻳﺐ‬

‫ﺗﺮﺟﻤﺔ‪ :‬أﺣﻤﺪ ﻋﻴﺸﺔ‬

‫‪ 23‬ﺗﴩﻳﻦ اﻷول‪ /‬أﻛﺘﻮﺑﺮ ‪2017‬‬


ّ
ً ُ

ّ
ٍ

ّ
ِ
The Neoliberalism: The idea that swallowed the world ‫عنوان املادة األصلي باللغة النكليزية‬

‫ستيفان‬ ‫اسم الكاتب‬

The guardian ،‫الغارديان‬ ‫مصدراملادة األصلي‬

https://www.theguardian.com/news/2017/aug/18/neoliberalism-
‫رابط املادة‬
the-idea-that-changed-the-world?CMP=fb_gu

2017 ‫ أغسطس‬/‫ آب‬18 ‫تاريخ النشر‬

‫أحمد عيشة‬ ‫املترجم‬

1
‫لقد أصبحت الكلمة سالحا بالغيا‪ ،‬ولكنها تسمى بصورة صحيحة أيديولوجية عصرنا الحاكمة التي‬
‫تبشربمنطق السوق‪ ،‬وتكشف عن األشياء التي تجعلنا بشرا‪.‬‬

‫في الصيف املاض ي‪ ،‬أقام باحثون في صندوق النقد الدولي مناقشة طويلة ومرة حول الـ (نيوليبرالية)؛‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫معروفة‬
‫ٍ‬ ‫اعترفوا بوجودها‪ .‬وقد نشر ثالثة من كبار االقتصاديين في صندوق النقد الدولي ‪-‬وهو منظمة غير‬
‫ً‬
‫حد لفكرة َّأن الكلمة ليست أكثر من‬‫بغفلتها‪ -‬ورقة تشكك في فوائد النيوليبرالية‪ .‬وبهذا‪ ،‬ساعدوا في وضع ٍ‬
‫محض افتراء سياس ي أو مصطلح من دون ٍ‬
‫قوة تحليلية‪.‬‬
‫وتحد ْت الورقة بلباقة (أجندة نيوليبرالية) بما يتعلق برفع القيود عن االقتصاد في أنحاء العالم‬‫َّ‬
‫بأن‬‫جميعها‪ ،‬إلجبار األسواق الوطنية على االنفتاح أمام التجا ة ورأس املال‪ ،‬ومطالبة الحكومات نفسها ْ‬
‫ر‬
‫بأدلة إحصائية على انتشار السياسات‬ ‫تنسحب عن طريق التقشف أو الخصخصة‪ .‬واستشهد املؤلفون ٍ‬
‫النيوليبرالية منذ عام ‪ ،1980‬وارتباطها بنمو الضعف‪ ،‬ودورات االزدهار‪ ،‬والكساد‪ ،‬وغياب املساواة‪.‬‬
‫طريقة لوصف سياستنا‬ ‫مصطلح قديم يعود إلى الثالثينيات‪ْ ،‬‬
‫ولكن جرى إحياؤه بوصفه‬ ‫ٌ‬ ‫الـ (نيوليبرالية)‬
‫ٍ‬
‫نحو أدق‪ -‬مجال الفكر الذي تسمح به سياستنا‪ .‬وفي عقب األزمة املالية عام ‪ ،2008‬كانت‬
‫الحالية‪ -‬أو على ٍ‬
‫ً‬
‫مؤسسة‬
‫ٍ‬ ‫حد ذاته‪ ،‬بل إلى‬
‫حزب سياس ي في ِّ‬
‫هذه الطريقة وسيلة إلسناد املسؤولية عن الكارثة‪ ،‬ليس إلى ٍ‬
‫سل ْ‬‫َّ‬
‫مت سلطتها إلى السوق‪.‬‬
‫بالنسبة إلى الديمقراطيين في الواليات املتحدة‪ ،‬وحزب العمال في اململكة املتحدة‪ ،‬جرى تصوير هذا‬
‫ٌ‬
‫االمتياز على َّأنه خيانة غريبة للمبدأ‪ .‬وقيل َّإن بيل كلينتون‪ ،‬وتوني بلير قد تخليا عن االلتزامات التقليدية‬

‫‪2‬‬
‫نخبة مالية عاملية‪ ،‬وملصلحة السياسات التي تخدم مصالحهم الذاتية؛‬ ‫لليسار‪ ،‬وال سيما العمال‪ ،‬ملصلحة ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وبفعل ذلك‪ ،‬قد أتاحا زيادة مقلقة في غياب املساواة‪.‬‬
‫تحولت املناقشات إلى حال بشعة‪ ،‬وأصبحت الكلمة ً‬ ‫َّ‬
‫سالحا‬ ‫في مدى السنوات القليالت املاضيات‪ ،‬حيث‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بمسافة‬
‫ٍ‬ ‫شخص من يسار الوسط لتجريم هؤالء الذين يتموضعون على يمينهم ولو‬ ‫ٍ‬ ‫بالغيا‪ ،‬ووسيلة ألي‬
‫بأن الوسطيين يقولون َّإنها إهانة ال معنى لها‪ :‬ألنهم هم األكثر عرضة لإلهانة منها)‪َّ .‬‬
‫ولكن‬ ‫قصيرة‪( .‬ال عجب َّ‬
‫(النيوليبرالية) أكثر من محض انحراف قويم على نحو مرض‪ .‬بل إنها ‪-‬على طريقتها‪ -‬نظارات ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وضوحا كيف ساعد املفكرون السياسيون‬ ‫ً‬ ‫تمع ْن من خالل عدسة النيوليبرالية‪ ،‬وسترى بصورة أكثر‬
‫كنوع من سو ٍق عاملية (وليس‪ ،‬على سبيل‬ ‫ً‬
‫إعجابا بـ (تاتشر ور ًيغان) في تكوين املثل األعلى للمجتمع ٍ‬ ‫ً‬
‫األكثر‬
‫ونوع من البشر كأدوات حسابية للربح والخسارة (وليسوا‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫املثال‪ ،‬مجاال مدنيا مصقوال‪ ،‬أو نوعا من عائلة)‪ٍ ،‬‬
‫شاكرين للنعمة‪ ،‬أو حقوق وواجبات غير قابلة للتصرف)‪ .‬وبالطبع كان الهدف هو إضعاف دولة الرفاهية‪،‬‬
‫دائما‪ -‬خفض الضرائب‪ ،‬وإلغاء القيود‪ .‬ولكن الـ (نيوليبرالية) تشير إلى ش ٍيء‬ ‫وأي التزام بالعمالة الكاملة‪ ،‬و‪ً -‬‬
‫ٍ‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫أكثر من قائمة رغبات جناح يميني معياري‪ .‬إنها طريقة إلعادة تنظيم الواقع االجتماعي‪ ،‬وإعادة التفكير في‬
‫وضعنا بوصفنا أفر ًادا‪.‬‬
‫مع استمرار التمعن من خالل العدسة‪ ،‬ترى ‪-‬على األقل‪ -‬كيف َّأن دولة الرفاهية والسوق الحرة هما‬
‫اختراع بشري‪ .‬وترى كم نحن مضطرون اآلن إلى التفكير في أنفسنا بوصفنا مالكين مواهبنا ومبادرتنا‪ ،‬ومدى‬
‫العفوية التي نتداولها بأننا نتنافس‪ ،‬ونتكيف‪ .‬ترى املدى الذي كانت اللغة تقتصر فيه ً‬
‫سابقا على تبسيطات‬
‫ُ‬
‫السبورة التي تصف أسواق السلع (املنافسة‪ ،‬ومعلومات مثالية‪ ،‬والسلوك العقالني) وقد طبقت في املجتمع‬
‫ً‬
‫ِّكله‪ ،‬حتى إنها غزت دقائق حياتنا الشخصية‪ ،‬وكيف َّأن موقف الوسيط أصبح مشبوكا في وسائط التعبير‬
‫عن الذات جميعها‪.‬‬
‫اسما للسياسات املوالية للسوق فحسب‪ ،‬أو للتسويات مع الرأسمالية‬ ‫باختصار‪ ،‬الـ (نيوليبرالية) ليست ً‬
‫كل‬ ‫املالية الناجمة عن فشل األحزاب الديمقراطية االجتماعية‪َّ .‬إنها ٌ‬
‫بهدوء لتنظيم ِّ‬
‫ٍ‬ ‫اسم لفرضية‪ ،‬قد أتت‬
‫ما نمارسه ونعتقد به‪ :‬إ َّن املنافسة هي املبدأ التنظيمي الشرعي الوحيد للنشاط البشري‪.‬‬
‫اعتمدت النيوليبرالية بوصفها حقيقية‪ ،‬وفور كشف النفاق العاملي للسوق‪ ،‬وصل الشعبويون‬ ‫عندما ُ‬
‫واالستبداديون إلى السلطة‪ .‬في الواليات املتحدة‪ ،‬خسرت هيالري كلينتون‪ ،‬الشريرة الليبرالية الجديدة‪ ،‬أمام‬
‫بأنه يكره التجارة الحرة‪ .‬هل النظارات اآلن غير مجدية؟ هل يمكنهم فعل‬ ‫تماما للتظاهر َّ‬
‫رجل عرف ما يكفي ً‬
‫ٍ‬
‫كامل في السياسة البريطانية واألميركية؟ وفي مواجهة قوى االندماج‬ ‫أي ش ٍيء ملساعدتنا في فهم ما هو غير ٍ‬
‫العاملي‪ ،‬تجري إعادة تأكيد الهوية الوطنية‪ ،‬وبأقص ى العبارات املمكنة‪ .‬ما الذي يمكن أن تتخذه النزعة‬
‫القتالية املتشددة لبريطانيا الخارجة من االتحاد األوروبي‪ ،‬وأميركا الترامبية مع العقالنية النيوليبرالية؟ ما‬
‫معتوه طليق‪ -‬والنموذج الباهت للكفاية املعروفة بالسوق الحرة؟‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫الصلة املمكنة بين الرئيس ‪-‬وهو‬

‫‪3‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صغيرا من الفائزين‪ ،‬وجيشا هائال من الخاسرين فحسب‪ ،‬والخاسرون‬ ‫ً‬ ‫ليس َّأن السوق الحرة تنتج كاد ًرا‬
‫ً‬
‫يبحثون عن انتقام‪ ،‬تحولوا إلى بريكسيت وترامب‪ .‬كانت هناك منذ البداية عالقة حتمية بين املثل األعلى‬
‫إفصاحا ً‬
‫فريدا عن‬ ‫ً‬ ‫اليوتوبي للسوق الحرة‪ ،‬والحاضر البائس الذي نجد أنفسنا فيه؛ بين السوق بوصفها‬
‫القيمة والوص ي على الحرية‪ ،‬ونسبنا الحالي نحو ما بعد الحقيقة‪ ،‬والالليبرالية أو نقصها‪.‬‬
‫َّإن تحريك املناقشة القديمة حول الليبرالية الجديدة يبدأ ‪-‬في ما أظن‪ -‬مع األخذ بجد ٍية قياس تأثيرها‬
‫واحد منا‪ ،‬بغض النظر عن االنتماء‪ .‬وهذا يتطلب العودة إلى أصولها التي ليس لها عالقة مع‬ ‫كل ٍ‬‫التراكمي في ِّ‬
‫مجموعة من الناس الذين يدعون أنفسهم ليبراليين ً‬ ‫ً‬
‫جددا‪،‬‬ ‫بيل أو هيالري كلينتون‪ .‬كانت هناك ذات مرة‬
‫ً‬
‫وفعلوا ذلك بفخر‪ ،‬وكان طموحهم ثورة كاملة في الفكر‪ .‬وأبرزهم فريدريش هايك؛ لم يكن يظن َّأنه كان‬
‫َّ‬
‫موضع مراقبة من الطيف السياس ي أو يقدم األعذار ملصلحة األغنياء الحمقى‪ ،‬أو يرقع حواف االقتصاد‬
‫الجزئي‪.‬‬
‫يحل مشكلة الحداثة‪ :‬مشكلة املعرفة املوضوعية‪ .‬أما بالنسبة إلى هايك‪ ،‬فإن السوق لم‬ ‫ظن أنه كان ُّ‬
‫ُييسر فقط التجارة في السلع والخدمات؛ بل كشف الحقيقة‪ .‬كيف صار طموحه بخالف ما يريد‪.‬‬
‫ً‬
‫إمكان العصف الذهني أنه‪ ،‬بفضل تبجيلنا األرعن للسوق الحرة‪ ،‬قد تكون الحقيقة مطرودة من الحياة‬
‫العامة ً‬
‫تماما‪.‬‬
‫عندما أتت الفكرة لفريدريش هايك في عام ‪ ،1936‬عرف بثقة (الوميض املفاجئة) أنه قد عثر على ش ٍيء‬
‫جديد‪« .‬كيف يمكن الجمع بين شظايا املعرفة املوجودة في عقو ٍل مختلفة»‪ ،‬وكتب‪« :‬تحقيق النتائج التي ‪-‬‬
‫ً‬
‫لشخص واحد ْأن‬‫ٍ‬ ‫عمدا‪ -‬تتطلب معرفة من جانب العقل املوجه الذي ال يمكن‬ ‫إذا كان سيجري توحيدها ً‬
‫يملكه؟»‪.‬‬
‫نقطة فنية بشأن معدالت الفائدة‪ ،‬أو الركود االنكماش ي‪ .‬لم يكن هذا ٌ‬ ‫ٌ‬
‫جدل رجعي ضد‬ ‫ولم تكن هذه‬
‫ٌ‬
‫الجماعية أو دولة الرفاهية‪ .‬وكانت هذه وسيلة لوالدة عالم جديد‪ .‬وبهذه اإلثارة املتزايدة‪ ،‬فهم هايك أن‬
‫السوق يمكن عده ً‬
‫نوعا من العقل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لقد زودتنا (اليد الخفية) آلدم سميث بالفعل باملفهوم الحديث للسوق بوصفها مجاال مستقال للنشاط‬
‫َّ‬
‫أخالقي‬ ‫ملعرفة علمية‪ .‬ولكن سميث كان‪ ،‬حتى نهاية حياته‪،‬‬ ‫ً‬
‫صالحا‬ ‫ً‬
‫موضوعا‬ ‫البشري‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬قد تكون‬
‫ٍ‬
‫حريصا‬‫ً‬ ‫القرن الثامن عشر‪ .‬وقال َّإنه يرى َّأن السوق ال يمكن تبريرها إال في ضوء الفضيلة الفردية‪ ،‬وكان‬
‫ً‬
‫مجتمعا على اإلطالق‪ .‬النيوليبرالية هي‬ ‫على َّأن املجتمع الذي ال يحكمه سوى املصلحة الذاتية املتعالية ليس‬
‫آدم سميث من دون هلع‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫جد الليبرالية الجديدة ‪-‬أسلوب من التفكير يقلص َّ‬ ‫عد هايك َّ‬
‫إن َّ‬
‫كل ش ٍيء إلى االقتصاد‪ -‬هو سخرية‬
‫اطيا شبه غامض من فيينا فحسب‪ ،‬عندما‬ ‫نظرا إلى َّأنه كان مثل اقتصادي عادي‪ .‬كان ً‬
‫شابا تكنوقر ً‬ ‫قليلة ً‬

‫‪4‬‬
‫ُ‬
‫ق ِّبل في كلية لندن لالقتصاد للتنافس مع النجم الصاعد أو لربما الخافت‪ /‬الغبي؛ جون ماينارد كينز في‬
‫كامبريدج‪.‬‬
‫خلفت الخطة نتائج عكسية‪ ،‬وخسر هايك الجولة أمام كينز‪ .‬وقوبلت نظرية كينز العامة للعمالة‬
‫والفائدة واملال التي نشرت في عام ‪ ،1936‬بوصفها تحفة‪ .‬وقد هيمنت على املناقشة العامة‪ ،‬وبخاصة بين‬
‫االقتصاديين اإلنكليز الشباب تحت التدريب‪ ،‬فكان كينز الرائع األنيق املرتبط اجتماعيا – بالنسبة إليهم‪-‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مثاال جميال ‪ .beau idéal‬وبحلول نهاية الحرب العاملية الثانية‪ ،‬كان عدد من كبار املؤمنين بالسوق الحرة‬
‫بأن الحكومة قد تؤدي دو ًرا في إدارة االقتصاد‬ ‫قد اقتربوا من طريقة كينز في التفكير أو تبنوها‪ ،‬واعترفوا َّ‬
‫الحديث‪ .‬وقد تبددت اإلثارة األولية حول هايك‪ .‬ففكرته الخاصة التي ال تفعل أي ش يء‪ ،‬يمكن ْأن تعالج‬
‫وقت الحق َّأنه تمنى أن ينس ى‬‫ركودا اقتصاديا قد جرى دحضها من الناحية النظرية والعملية‪ .‬واعترف في ٍ‬
‫ً‬
‫ببساطة عمله الذي ينتقد فيه كينز‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫نسيجا‬ ‫انحدر هايك إلى شخصية سخيفة‪ ،‬وهو أستاذ طويل القامة‪ ،‬منتصب عريض املنكبين‪ ،‬يرتدي‬
‫مصر على أن ُينادى (فون هايك) بصورة رسمية‪ ،‬لكنه حمل على ظهره اسم (املتقلب)‪ .‬في‬ ‫ً‬
‫ضخما‪ٌّ ،‬‬ ‫ً‬
‫صوفيا‬
‫مستقبل واضح‪ .‬لكننا نعيش اآلن في عالم هايك‪ ،‬حيث‬ ‫ً‬
‫أكاديميا من دون حقيبة‪ ،‬ومن دون‬ ‫عام ‪ ،1936‬كان‬
‫ٍ‬
‫سابقا في عالم كينز‪ .‬وقال لورانس سمرز‪ ،‬مستشار كلينتون‪ ،‬والرئيس السابق لجامعة هارفارد‪َّ :‬إن‬ ‫عشنا ً‬
‫فكرة ثاقبة‪ ،‬وأصلية مثل االقتصاد الجزئي الذي ُوِّلد في القرن‬ ‫ٌ‬
‫كعقل هو «‬
‫ٍ‬ ‫تصور هايك لنظام السعر‬
‫ً‬
‫العشرين» و«الش يء األكثر أهمية الذي يجب تعلمه من دورة االقتصاد اليوم»‪ .‬وهذا ال يروج لذلك‪ .‬لم‬
‫ملمح من جوانب عالم‬ ‫َّ‬
‫كل ٍ‬ ‫يصنع كينز الحرب الباردة‪ ،‬أو يتوقعها‪ ،‬إال أن تفكيره كان يميل على طريقته إلى ِّ‬
‫جانب من جوانب عالم ما بعد عام ‪.1989‬‬‫الحرب الباردة؛ كذلك نسج فكر هايك ذاته في كل ٍ‬

‫‪5‬‬
‫فريدريش هايك يدرس في كلية لندن لالقتصاد في عام ‪ .1948‬تصوير‪ :‬بول بوبر‪ /‬صور بوبر‪ /‬جيتي‬

‫ً‬
‫كانت نظرة هايك مستقبلية شاملة‪ :‬طريقة لهيكلة الواقع كله على نموذج املنافسة االقتصادية‪ .‬يبدأ‬
‫شكل من أشكال الحساب االقتصادي‪ ،‬ومن ثم‬ ‫بافتراض َّأن النشاط البشري ً‬
‫تقريبا (إن لم يكن كله) هو ٌ‬
‫ٌ‬
‫يمكن استيعابه املفهومات الرئيسة للثروة والقيمة والتبادل والتكلفة وبخاصة السعر‪ .‬فاألسعار وسيلة‬
‫لتوزيع املوارد الشحيحة بكفاية‪ ،‬بحسب الحاجة واملنفعة‪ ،‬اللتين يحكمهما العرض والطلب‪ .‬ولكي يعمل‬
‫َّ ً‬
‫حرة وتنافسية‪ .‬فمنذ َّأن تصور سميث االقتصاد بوصفه‬ ‫نظام األسعار بكفاية‪ ،‬يجب ْأن تكون األسواق‬
‫احتمال َّ‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بأن السوق قد ال تكون محض جزء واحد من املجتمع‪ ،‬بل املجتمع كله‪ .‬وفي‬ ‫مجاال مستقال‪ ،‬هناك‬
‫مثل هذا املجتمع‪ ،‬ال يحتاج الرجال والنساء إال إلى متابعة مصلحتهم الذاتية‪ ،‬والتنافس على املكافآت‬
‫الشحيحة‪ .‬من خالل املنافسة‪« ،‬يصبح من املمكن» ‪-‬بحسب ما كتب عالم االجتماع ويل ديفيز‪« -‬لتمييز من‬
‫له قيمة‪ ،‬وما هي»‪.‬‬
‫شخص متآلف مع التاريخ بوصفه الحواجز الضرورية ضد الطغيان واالستغالل‪ ،‬طبقة‬ ‫ٍ‬ ‫ما يعده أي‬
‫مدنيا؛ ومؤسسات حرة؛ واقتر ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫اعا عاما؛ وحرية الضمير‪ ،‬والتجمع‪ ،‬والدين‪،‬‬ ‫وسطى مزدهرة ومجاال‬
‫مكان خاص في فكر هايك‪ .‬أدخل‬ ‫والصحافة؛ واالعتراف األساس بأن الفرد هو حامل الكرامة‪ ،‬لم يكن لها ٌ‬
‫كل الحماية الالزمة ضد الخطر السياس ي الحقيقي‬ ‫هايك في صلب النيوليبرالية االفتراض َّ‬
‫بأن السوق يوفر َّ‬
‫الوحيد؛ الشمولية‪ .‬وملنع ذلك‪ ،‬ال تحتاج الدولة إال إلى املحافظة على السوق حرة‪.‬‬
‫حر ٍة‪ ،‬وفي‬ ‫ٌ‬
‫تعديل حاسم في االعتقاد القديم في سو ٍق َّ‬ ‫هذا األخير هو ما يجعل النيوليبرالية (جديدة)‪ .‬وهو‬
‫دولة في حدها األدنى‪ ،‬املعروفة باسم (الليبرالية الكالسيكية)‪ .‬في الليبرالية الكالسيكية‪ ،‬طلب التجار‬
‫ٍ‬

‫‪6‬‬
‫ْ‬
‫أدركت النيوليبرالية ْأن الدولة‬ ‫ببساطة من الدولة ْأن «تتركنا وحدنا» ‪ْ -‬أن تدعنا نعمل ‪.laissez-nous faire‬‬ ‫ٍ‬
‫ْ‬
‫يجب أن تكون نشطة في تنظيم اقتصاد السوق‪ .‬يجب أن تتحقق األوضاع التي تسمح بالسوق الحر‬ ‫ْ‬
‫أساس مستمر‪.‬‬ ‫سياسيا‪ ،‬ويجب إعادة هندسة الدولة لدعم السوق َّ‬
‫الحرة على‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫جانب من جوانب السياسة الديمقراطية‪ ،‬من خيارات الناخبين‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫هذا ليس كل ش يء‪ :‬يجب أن يخضع كل ٍ‬
‫املشرع إلى ترك األمور على حالها ‪-‬حتى ال َّ‬
‫يشوه‬ ‫َّ‬ ‫تحليل اقتصادي محض‪ .‬ويضطر‬ ‫وقرارات السياسيين‪ ،‬إلى‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫ومحايدا‬ ‫قانونيا ً‬
‫ثابتا‬ ‫ً‬ ‫اإلجراءات الطبيعية للسوق‪ -‬وهكذا‪َّ ،‬‬
‫فإن الدولة توفر من الناحية املثالية إطا ًرا‬
‫غير مفضل ً‬
‫أبدا لـ (آلية التسوية التلقائية)‬ ‫تلقائيا‪َّ .‬إن التوجه الواعي للحكومة ُ‬
‫ً‬ ‫وعامليا تعمل فيه قوى السوق‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫‪ -‬أي نظام األسعار‪ ،‬الذي ليس فاعال فحسب‪ ،‬بل يزيد من الحرية أو من الفرصة للرجال والنساء التخاذ‬
‫حرة بشأن حياتهم الخاصة ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫ات َّ ٍ‬ ‫خيار ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مؤسسا نظام ما بعد الحرب‪ ،‬جلس هايك عابثا في كامبريدج‪.‬‬ ‫بينما كان كينز يتنقل بين لندن وواشنطن‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫وكان قد أرسل إلى هناك في أثناء عمليات اإلجالء في زمن الحرب؛ واشتكى من َّأنه محاط (باألجانب) و«وجود‬
‫جدا من‬‫عدد قليل ً‬ ‫تقريبا‪ ،‬ولكن ثمة ٌ‬ ‫ً‬ ‫شرقيين من األنواع جميعها» و«أوروبيين من الجنسيات جميعها‬
‫املثقفين الحقيقين»‪.‬‬
‫ً‬
‫تأثير أو احترام‪ ،‬ال يملك سوى فكرته التي تسيطر عليه؛ فكرة كبيرة‬ ‫كان هايك منهمكا في إنكلترا من دون ٍ‬
‫مسموح له ْأن يقرر ما‬
‫ٌ‬ ‫جدا من شأنها ذات يوم ْأن تبدد األرض تحت أقدام كينز‪ ،‬واملثقفين اآلخرين كلهم‪.‬‬ ‫ً‬
‫ُ‬
‫يحسب السوق ما ال‬ ‫تماما أي عقل‪ ،‬ولكن ٌ‬
‫عقل كلي العلم؛‬ ‫يشاء‪ ،‬نظام السعر يعمل كنوع من عقل‪ .‬وليس ً‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫يمكن لألفراد استيعابه‪ .‬كان هايك متواصال مع املثقف ورفيق السالح الصحافي األميركي والتر ليبمان الذي‬
‫ً‬
‫عقل بشري خطة املجتمع برمتها‪ ...‬وفي أفضل األحوال يمكن للعقل ْأن‬ ‫ُّ‬
‫كتب إلى هايك قائال‪« :‬لم يفهم أي ٍ‬
‫ُّ‬
‫صورة‬
‫ٍ‬ ‫كثيرا‪ ،‬الذي يحمل للواقع بعض من هذه العالقة مثل‬ ‫أخف ً‬ ‫يفهم نسخته الخاصة من الخطة‪ ،‬ش ٌيء‬
‫لرجل»‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫إنها دعوى إبستمولوجية كبيرة‪َّ ،‬أن السوق هي وسيلة معرفة‪ ،‬معرفة تتجاوز بصورة جذرية قدرة أي‬
‫ً‬ ‫أقل من كونها اختر ً‬
‫عقل فردي‪ .‬مثل هذه السوق هي ُّ‬
‫اعا بشريا‪ ،‬ليجري التالعب بها مثل أي اختراع آخر‪ ،‬بدال‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫قوة ال بد من دراستها واسترضائها‪ .‬فاالقتصاد يتوقف عن أن يكون تقنية ‪-‬كما يرى كينز‪ -‬لتحقيق‬ ‫من ٍ‬
‫الغايات االجتماعية املرغوبة‪ ،‬مثل النمو أو ثروة مستقرة‪ .‬الغاية االجتماعية الوحيدة هي املحافظة على‬
‫السوق نفسها‪ .‬وتشكل السوق‪ ،‬في معرفتها الالمحدودة‪ ،‬الصورة الشرعية الوحيدة للمعرفة‪ ،‬التي تكون فيها‬
‫ً‬
‫كل‪ ،‬ودافعوا‬ ‫أنماط التفكير األخرى جميعها جزئية‪ ،‬في معنيي الكلمة كليهما‪ :‬فهم فهموا فقط جزءا من ٍ‬
‫قيم شخصية‪ ،‬أو محض آراء؛ وبصورة جماعية‪،‬‬ ‫مصلحة خاصة‪ .‬بصورة فردية‪ ،‬قيمنا هي ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫بالنيابة عن‬
‫أسعار أو حقائق موضوعية‪.‬‬‫ٍ‬ ‫يحولها السوق إلى‬

‫‪7‬‬
‫مدفوع من‬ ‫أبدا ً‬
‫تعيينا ً‬
‫دائما ألنه غير‬ ‫بعد فشله‪ ،‬وطرده من كلية لندن لالقتصاد ‪ ،LSE‬لم يؤم ْن هايك ً‬
‫ٍ‬
‫الشركات الراعية‪ .‬حتى إ َّن زمالءه املحافظين في جامعة شيكاغو ‪-‬املركز العاملي للمعارضين الليبراليين في‬
‫ناطقا باسم الرجعية‪ ،‬فهو (رجل أسهم يميني)‪ ،‬و(راعي أسهم يميني)‪ ،‬بحسب ما‬ ‫الخمسينيات‪ -‬عدوا هايك ً‬
‫ً‬
‫لصديق زيارة هايك‪ ،‬واآلن في سالزبورغ‪ ،‬ليجد رجال‬
‫ٍ‬ ‫وقت متأخر من عام ‪ ،1972‬أمكن‬ ‫وصفه أحدهم‪ .‬وفي ٍ‬
‫ً‬ ‫عجوزا يسجد مع الشفقة‪ً ،‬‬
‫ظاننا َّأن عمل حياته كان عبثا‪ .‬لم يهتم ٌّ‬ ‫ً‬
‫أحد بما كتبه‪.‬‬
‫عالمات أمل؛ كان هايك الفيلسوف السياس ي املفضل لدى باري غولدووتر‪ ،‬وقيل‬ ‫ُ‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬كانت ثمة‬
‫أيضا‪ .‬ومن بعد مارغريت تاتشر‪ ،‬إلى أي شخص سيستمع‪ ،‬رفعت تاتشر هايك‬ ‫مفضل لدى رونالد ريغان ً‬ ‫ٌ‬ ‫إ َّنه‬
‫ً‬
‫واعدة ْ‬
‫بأن تجمع بين فلسفته في السوق الحرة‪ ،‬مع إحياء القيم الفيكتورية‪ :‬العائلة‪،‬‬ ‫إلى مصاف اآللهة‪،‬‬
‫واملجتمع‪ ،‬والعمل الجاد‪.‬‬
‫خاصا مع تاتشر في عام ‪ ،1975‬في اللحظة التي كانت تستعد فيها بعد تعينها زعيمة‬ ‫لقاء ً‬ ‫التقى هايك ً‬
‫ً‬
‫املعارضة في اململكة املتحدة إلنزال فكرته الكبيرة من على الرف‪ ،‬لتدخلها في التاريخ‪ .‬اجتمعوا مدة ‪ 30‬دقيقة‬
‫في شارع اللورد نورث في لندن‪ ،‬في معهد الشؤون االقتصادية‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬سأل موظفو تاتشر هايك عما كان‬
‫ً‬ ‫يراه‪ .‬ماذا يمكنه أن يقول؟ ألول مرة منذ ‪ً 40‬‬
‫عاما‪ ،‬كانت السلطة تنعكس مرة أخرى إلى فريدريش فون هايك‬
‫جل قد هزم كينز‪ ،‬وأعاد تكوين العالم‪.‬‬ ‫في صورة ذاته املعززة‪ ،‬ر ٌ‬

‫فأجاب‪« :‬إنها جميلة جدا« ‪.‬‬


‫فكرة هايك الكبيرة ليست أكثر من فكرة‪ ،‬حتى تقوم بتكبيرها‪ .‬عمليات عضوية‪ ،‬وعفوية‪ ،‬وأنيقة‪ ،‬مثل‬
‫تخطيط مختلف‪ .‬هذا الوصف بتطبيقه‬
‫ٍ‬ ‫مليون إصبع على لوح ويجا (‪ ،Ouija board)1‬تنسق لخلق نتائج بال‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫على السوق الفعلية ‪-‬سوق لبطون لحم الخنزير أو الذرة اآلجلة‪ -‬هو أكثر قليال من بدهية ‪ .truism‬ويمكن‬
‫توسيعها لتبين َّأن األسواق املختلفات في السلع األساسية والعمل‪ ،‬واملال نفسه ً‬
‫أيضا‪ ،‬تكون ذلك الجزء من‬
‫ً‬
‫مجتمع ُيعرف باسم (االقتصاد)‪ .‬هذا هو أقل تفاهة‪ ،‬ولكن ما يزال غير منطقي؛ يقبل الكينزي هذا الوصف‬
‫ً‬
‫واحدة أخرى؟ ماذا لو استطعنا إعادة تخيل املجتمع كله ً‬
‫نوعا من‬ ‫بسعادة‪ .‬ولكن ماذا لو أننا فتتناه خطوة‬
‫سوق؟‪.‬‬
‫فكلما توسعت فكرة هايك‪ ،‬ازدادت ردات الفعل عليها‪ ،‬وتخفت وراء ادعاء الحياد العلمي‪ ،‬بمقدار ما‬
‫سمحت لالقتصاد باالرتباط باالتجاه الفكري الرئيس للغرب منذ القرن السابع عشر‪ .‬أثار ظهور العلم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫إنسانا؟ هل‬ ‫مطيعا بال استثناء للقوانين الطبيعية‪ ،‬ماذا يعني أن تكون‬ ‫الحديث مشكلة‪ ،‬فإذا كان العالم‬

‫(‪ )1‬لوح ويجا (‪ :)Ouija board‬ويعرف أيضا بلوح الروح‪ ،‬وهو لوح مسطح كلمتين‪ ،‬فرنسية (‪ ،)Oui‬وأملانية (‪ ،)ja‬وكلتيهما‬
‫ً‬
‫ووداعا‪ ،‬يحتوي في مركزه على مؤشر‬ ‫بمعنى نعم‪ ،‬إضافة إلى الحروف األبجدية واألرقام من ‪ 0‬إلى ‪ ،9‬وكلمتي ً‬
‫مرحبا‬
‫متحرك‪ ،‬يستخدم لنقل رسالة ما إلى األرواح وتلقي جواب منها‪ ،‬يقوم املشاركون بتحريك املؤشر بأصابعهم‪ ،‬وحيث يقف‪،‬‬
‫هناك رسالة معينة‪ ،‬ويرمز علميا إلى خدع فكرية حركية‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫كائن آخر؟ يبدو أنه ال توجد طريقة الستيعاب التجربة‬
‫كائن في العالم‪ ،‬مثله مثل أي ٍ‬
‫اإلنسان هو محض ٍ‬
‫ً‬
‫اإلنسانية الداخلية الذاتية في الطبيعة ‪-‬كما يتصورها العلم‪ -‬هدفا موضوعيا نكتشف قواعده باملالحظة‪.‬‬
‫يكمن كل ش يء عن الثقافة السياسية ملا بعد الحرب ملصلحة جون ماينارد كينز‪ ،‬ودو ٌر موسع للدولة في‬
‫إدارة االقتصاد‪ .‬ولكن كل ش يء عن الثقافة األكاديمية ملا بعد الحرب يكمن في مصلحة فكرة هايك الكبرى‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لغاية محدودة‪ ،‬لتخصيص‬ ‫قبل الحرب‪ ،‬عد ‪ -‬واالقتصاديون اليمينيون معظمهم أيضا‪ -‬السوق وسيلة ٍ‬
‫ً‬
‫كفاية املوارد الشحيحة‪ .‬من زمن آدم سميث في منتصف القرن الثامن عشر‪ ،‬وصوال إلى األعضاء املؤسسين‬
‫في مدرسة شيكاغو في سنوات ما بعد الحرب‪ ،‬كان من املعتاد افتراض َّأن الغايات النهائية للمجتمع والحياة‬
‫مترسخات في املجال غير االقتصادي‪.‬‬
‫ً‬
‫اقتصاديا‪ ،‬من خالل‬ ‫سياسيا وديمقر ً‬
‫اطيا‪ ،‬وليس‬ ‫ً‬ ‫وتماشيا مع هذا الرأي‪ ،‬يجري حل مسائل القيمة‬ ‫ً‬
‫التأمل األخالقي واملداوالت العامة‪ُ .‬ع ِّثر على التعبير الكالسيكي الحديث املعبر عن هذا االعتقاد في مقال من‬
‫عام ‪ 1922‬بعنوان‪ :‬األخالق والتفسير االقتصادي لـفرانك نايت الذي وصل إلى شيكاغو قبل عقدين من‬
‫وصول هايك‪.‬‬
‫ً‬
‫يقول نايت‪َّ « :‬إن االنتقاد االقتصادي العقالني للقيم ُيعطي نتائج بغيضة للحس العام»‪ .‬ويضيف‪:‬‬
‫ٌ‬
‫«اإلنسان االقتصادي هو هدف أناني‪ ،‬بال رحمة لإلدانة األخالقية‪».‬‬
‫مجتمع‬
‫ٍ‬ ‫وقد كافح االقتصاديون ملدة ‪ 200‬سنة مع مسألة كيفية وضع القيم التي وفقها يجري تنظيم أي‬
‫جنبا إلى جنب مع زميليه هنري‬ ‫تجاري مختلف أبعد من املصلحة الذاتية والحساب فحسب‪ .‬وكان نايت‪ً ،‬‬
‫سيمونز وجاكوب فينر‪ ،‬ضد فرانكلين د‪ .‬روزفلت‪ ،‬وتدخالت السوق في الصفقة الجديدة (‪ ،)2‬وأنشؤوا‬
‫جامعة شيكاغو بوصفها املركز الفكري الصارم القتصاد السوق الحر الذي ما يزال حتى يومنا هذا‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬فإن سيمونز‪ ،‬وفاينر ونايت بدؤوا حياتهم املهنية قبل السمعة التي ال مثيل لها لفيزيائي الذرة التي‬
‫جذبت مبالغ هائلة من املال في النظام الجامعي‪ ،‬وبدأت بالرواج في العلم (الصعب) ملا بعد الحرب‪ .‬لم يعبدوا‬
‫ً‬
‫املعادالت أو النماذج‪ ،‬وكانوا قلقين بشأن األسئلة غير العلمية‪ .‬بصراحة أكثر‪ ،‬كانوا قلقين في مسائل‬
‫ً‬
‫متميزة ً‬
‫تماما من السعر‪.‬‬ ‫القيمة‪ ،‬حيث القيمة كانت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫استعدادا للتسامح مع الدولة بما‬ ‫ولم يكن سيمونز وفاينر ونايت أقل دوغمائية من هايك‪ ،‬أو أكثر‬
‫فكريا‪ .‬لكنهم اعترفوا في مبدأ أولي َّ‬ ‫ً‬
‫متفوقا ً‬
‫بأن املجتمع‬ ‫يخص الضرائب واإلنفاق‪ .‬وليس الحال أن هايك كان‬
‫َّ‬ ‫ليس هو نفسه السوق‪َّ ،‬‬
‫وأن السعر ليس هو القيمة نفسها‪ .‬هذا جعلهم كلهم مبتلعين قبل التاريخ‪.‬‬

‫(‪ )2‬الصفقة الجديدة (‪ :)New Deal‬وهي مجموعة من القوانين والتشريعات األميركية خالل مرحلة رئاسة فرانكلين‬
‫روزفلت في عقب مرحلة الكساد الكبير الذي بدأ في عام ‪ ،1929‬تركزت حول ثالثة قضايا‪ :‬اإلغاثة واإلنعاش واإلصالح‪،‬‬
‫إغاثة الفقراء والعاطلين عن العمل‪ ،‬وإنعاش االقتصاد وإعادته إلى مستواه الطبيعي‪ ،‬وإصالح النظام املالي ً‬
‫منعا لتكرار‬
‫حالة الكساد‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫جون ماينارد كينز‪ ،‬حوالى عام ‪ .1940‬صورة‪ :‬تيم جيدال‪ /‬جيتي‬

‫‪10‬‬
‫موضوعية مهيبة للعلم‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أظهر لنا هايك كيفية الوصول من حال ميؤوس منها من التحيز البشري نحو‬
‫فالفكرة الكبيرة لهايك هي الحلقة املفقودة بين طبيعتنا البشرية الذاتية‪ ،‬والطبيعة نفسها‪ .‬وبذلك‪ ،‬فهو‬
‫قيمة ال يمكن التعبير عنها ً‬
‫سعرا ‪-‬مثل حكم السوق‪ -‬على قدم مساواة غير مؤكدة‪ ،‬بوصفه ال ش يء‬ ‫يضع أي ٍ‬
‫أكثر من رأي أو تفضيل أو فولكلور أو خر ٍ‬
‫افات‪.‬‬
‫ساعد كبير االقتصاديين في مرحلة ما بعد الحرب في شيكاغو ميلتون فريدمان ‪ -‬أكثر من أي شخص‪،‬‬
‫ً‬
‫حتى هايك نفسه‪ -‬في إقناع الحكومات والسياسيين بقوة فكرة هايك الكبرى‪ .‬ولكن أوال انقطع لقرنين عن‬
‫أحكام معيارية»‪ ،‬و«هو‬ ‫ٍ‬ ‫موقف أخالقي معين أو‬ ‫ٍ‬ ‫مبدئي مستقل عن أي‬ ‫العرف‪ ،‬وأعلن َّأن االقتصاد هو « ٌّ‬
‫علم موضوعي)‪ ،‬له على وجه التحديد املعنى نفسه أي من العلوم الفيزيائية»‪ .‬كانت قيم النوع القديم‬ ‫( ٌ‬
‫ً‬
‫العقلي املعياري معيبة‪ ،‬كانت القيم «مختلفة على أي الرجال الذين يمكن ْأن يقاتلوا في النهاية فقط»‪ .‬هناك‬
‫السوق‪ ،‬وبعبار ٍة أخرى‪ ،‬هناك النسبية‪.‬‬
‫صور بشرية من النظم الطبيعية‪ ،‬ومثل الكون نفسه‪ ،‬فإنها قد تكون عديمة السلطة‬ ‫قد تكون األسواق ٌ‬
‫والقيمة‪ .‬ولكن تطبيق فكرة هايك الكبيرة على كل جانب من جوانب حياتنا ينفي ما هو األكثر ً‬
‫تميزا منا‪ .‬أي‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬
‫ً‬ ‫يوكل ما هو ُ‬ ‫إنه ُ‬
‫أكثر إنسانية بما يخص البشر ‪-‬عقولنا وإرادتنا‪ -‬إلى الخوارزميات واألسواق‪ ،‬ما يجعلنا‬
‫مقلدين‪ ،‬مثل الزومبي‪ ،‬التمثل ‪ idealisations‬املقلق للنماذج االقتصادية‪َّ .‬إن تضخيم فكرة هايك‪،‬‬
‫نوع من الوسائل االجتماعية واسعة املعرفة يعني الحد جذرًيا من‬ ‫ً‬
‫واالرتقاء بنظام األسعار ارتقاء جذريا نحو ٍ‬
‫أهمية قدرتنا الفردية على التفكير‪ -‬قدرتنا على تقديم‪ ،‬وتقويم مسوغات أعمالنا ومعتقداتنا‪.‬‬
‫ً‬
‫حججا‪ ،‬وننافس حجج اآلخرين‪ -‬يتوقف عن ْأن‬ ‫ً‬ ‫فإن املجال العام ‪-‬املكان الذي نقدم فيه‬ ‫ونتيجة لذلك‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫انتقائيا عبر نقرات‪( :‬إعجاب‪ /‬اليك‪ ،‬وإعادة تغريد‪ /‬ريتويت)‪ .‬اإلنترنت‬ ‫يكون مجاال للمداوالت‪ ،‬ويصبح سوقا‬
‫ً‬ ‫فضاء شبه عام ُيردد ً‬
‫صوتا داخل رأسنا‪ .‬فبدال من ْأن يكون‬ ‫ٌ‬ ‫مضخم بالخوارزمية‪ .‬وهو‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫تفضيل شخص ي‬ ‫هو‬
‫جهاز للتأكيد‬‫مجتمعا‪ ،‬نحو توافق اآلراء‪ ،‬أصبح هناك اآلن ٌ‬ ‫ً‬ ‫مجال للمناقشة نتحرك فيه بوصفنا‬ ‫ٌ‬ ‫هناك‬
‫ِّ‬
‫امتداد آلرائنا‬ ‫عام وواضح هو محض‬ ‫َّ‬
‫املتبادل يشار إليه بعبارة (سوق األفكار)‪ .‬إن ما يبدو وكأنه ش ٌيء ٌ‬
‫ٍ‬
‫وأحكامنا املسبقة ومعتقداتنا وانحيازاتنا‪ ،‬في حين إ َّن سلطة املؤسسات والخبراء قد تشردت بسبب املنطق‬
‫التجميعي‪ /‬الشمولي للبيانات الضخمة‪ .‬عندما نصل إلى العالم من خالل محرك البحث‪ ،‬يجري ترتيب‬
‫بشكل متكرر)‪ ،‬من مستخدمين فرديين ال نهاية لهم‪ ،‬يعملون كسو ٍق‪،‬‬
‫نتائجه‪ ،‬كما يضعها مؤسس غوغل ( ٍ‬
‫وبصورة مستمرة‪ ،‬وفي الوقت الحقيقي‪.‬‬
‫ً‬
‫مهيمنا على‬ ‫تقليدا ً‬
‫سابقا أكثر إنسانية‪ ،‬كان‬ ‫فإن ً‬
‫جانبا‪َّ ،‬‬
‫إذا وضعنا املرافق الرهيبة للتكنولوجيا الرقمية ً‬
‫مدى قرون‪ ،‬قد َّميز ً‬
‫دائما بين أذواقنا وتفضيالتنا ‪-‬الرغبات التي تجد ً‬
‫تعبيرا عنها في السوق‪ -‬وقدرتنا على‬
‫قيم والتعبير عنها‪.‬‬
‫التفكير في تلك التفضيالت‪ ،‬ما يسمح لنا بتكوين ٍ‬

‫‪11‬‬
‫تقريبا َّ‬
‫وقت سابق‪ُ « :‬يعرف الذوق ً‬
‫بأنه تفضيل ال‬ ‫يقول الفيلسوف واالقتصادي ألبرت أو‪ .‬هيرشمان في ٍ‬
‫ً‬
‫جدل فيه»‪ .‬ويضيف‪« :‬ذوق تجادل فيه مع اآلخرين أو مع نفسك‪ ،‬يتوقف عن كونه ذوقا بحكم الواقع‪،‬‬
‫ويتحول إلى قيمة‪».‬‬
‫وقد رسم هيرشمان ً‬
‫تمييزا بين هذا الجزء من الذات وهو املستهلك‪ ،‬وذاك الجزء من الذات وهو ٌ‬
‫مورد‬
‫للحجج‪ .‬وتعكس السوق ما وصفه هيرشمان باألفضليات التي «كشف عنها الوكالء وهم يشترون السلع‬
‫ُ‬ ‫والخدمات»‪ .‬ولكن‪ ،‬كما يقول‪ ،‬الرجال والنساء ً‬
‫أيضا «لديهم القدرة على التراجع عن (رغباتهم) التي ك ِّشفت‪،‬‬
‫حقا هذه الرغبات‪ ،‬ويفضلون هذه‬ ‫والخيا ات والتفضيالت‪ ،‬لسؤال أنفسهم ما إذا كانوا يريدون ً‬
‫ر‬
‫ُ‬
‫التفضيالت»‪ .‬نحن نكون أنفسنا‪ ،‬وهوياتنا على أساس هذه القدرة على التفكير‪َّ .‬إن استخدام قوى التأمل‬
‫عقل عام؛ بينما استخدام العقل العام‬ ‫الذاتية هو العقل‪ .‬واالستخدام الجماعي لهذه القوى التأملية هو ٌ‬
‫ً‬
‫أسبابا ألفعالنا ومعتقداتنا‪ ،‬فإننا نخلق أنفسنا‪:‬‬ ‫لصنع القانون والسياسة هو الديمقراطية‪ .‬عندما َّ‬
‫نقدم‬
‫فرادى وجماعات‪ ،‬نقرر من نحن‪ ،‬وما نحن عليه‪.‬‬
‫فإن هذه التعبيرات عن الذاتية البشرية ال معنى لها من دون تصديقها‬ ‫ً‬
‫ووفقا ملنطق فكرة هايك الكبيرة‪َّ ،‬‬
‫ات جيدة مثل‬ ‫واعتمادها من السوق‪ ،‬وبحسب ما قال فريدمان‪ ،‬فهي ليست سوى النسبية‪َّ ،‬كلها تعبير ٌ‬
‫بعضها‪ .‬عندما يجري تحديد الحقيقة املوضوعية الوحيدة من السوق‪ ،‬فإن القيم األخرى كلها ال تبقى سوى‬
‫ٌ‬ ‫نسبيا‪َّ .‬‬‫كالم فارغ ً‬ ‫محض آراء؛ كل ش يء آخر هو هر ٌاء أو ٌ‬
‫ولكن (نسبية) فريدمان هي تهمة يمكن قذفها مقابل‬
‫ٌ‬
‫ادعاء قائم على أساس العقل البشري‪َّ .‬إنها إهانة ال معنى لها‪ ،‬إذ إ َّن املساعي اإلنسانية كلها (نسبية)‬‫ٍ‬ ‫أي‬
‫بمعنى أن العلوم ليست نسبية‪ .‬وهي تتعلق بشرط (الخاص) وجود العقل‪ ،‬والحاجة (العامة) إلى العقل‬
‫ُ‬ ‫والتفهم حتى عندما ال نستطيع ْأن نتوقع ً‬
‫بمداوالت في الحجج‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫إثباتا علميا‪ .‬عندما لم تعد مناقشاتنا تحل‬
‫فإن نزوات السلطة ستحدد النتيجة‪.‬‬ ‫َّ‬

‫هذا هو املكان الذي يلتقي فيه انتصار الليبرالية الجديدة مع الكابوس السياس ي الذي نعيشه اآلن‪« .‬كان‬
‫ً‬ ‫لديك ٌ‬
‫عمل واحد»‪ ،‬تمض ي املزحة القديمة‪ ،‬ومشروع هايك الكبير‪ ،‬كما جرى تصوره أصال في الثالثينيات‬
‫بشكل واضح ملنع االنزالق في الفوض ى السياسية والفاشية‪ .‬لكن الفكرة الكبيرة كانت‬ ‫ٌ‬
‫مصمم‬ ‫واألربعينيات‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫دائما هذا االنتظار الفظيع لحدوثها‪ .‬كانت منذ البداية حامال بالش يء الذي قيل أنه يجب ْأن نتفاداه‪ .‬املجتمع‬
‫ً‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫الذي أعيد النظر إليه بوصفه سوقا عمالقة يؤدي إلى الحياة العامة املفقودة بسبب التشاجر على اآلراء‬
‫لحل مشكالته املستعصية املختلفة‪.‬‬ ‫جل قوي‬ ‫ً‬
‫كمالذ أخير ِّ‬
‫ٍ‬ ‫فحسب؛ حتى يقتنع الجمهور‪ ،‬وأخيرا‪ ،‬يرضخ إلى ر ٍ‬
‫اسل أميركي باب هايك البالغ من العمر ‪ً 90‬‬
‫عاما‪ .‬كان يعيش في فرايبورغ بأملانيا‬ ‫في ‪ ،1989‬طرق مر ٌ‬
‫شقة في الطابق الثالث‪ ،‬في منز ٍل يكسوه الجص في شارع أوراشتراس‪ .‬جلس الرجالن في ٍ‬
‫غرفة‬ ‫الغربية‪ ،‬في ٍ‬
‫بطانية ليغطي‬
‫ٍ‬ ‫مشمسة ُّ‬
‫تطل نوافذها على الجبال‪ ،‬وقام هايك الذي كان يتعافى من االلتهاب الرئوي‪ ،‬بسحب‬
‫ساقيه في أثناء حديثهما‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫ً‬
‫يوم متمرغا في هزيمته الخاصة على ِّيد كينز‪ .‬وكانت تاتشر قد كتبت‬ ‫هذا لم يعد الرجل الذي كان ذات ٍ‬
‫ممكنا ما كانت هي وريغان قد أنجزاه «من دون‬ ‫ً‬ ‫لهجة تعبر عن انتصار األلفية‪ .‬لم يكن‬
‫للتو إلى هايك في ٍ‬
‫ً‬
‫مبتهجا‬ ‫القيم واملعتقدات التي تضعنا على الطريق الصحيح‪ ،‬وتوفر املعنى الصحيح لالتجاه»‪ .‬كان هايك‬
‫ً‬
‫لذاته‪ ،‬متفائال بشأن مستقبل الرأسمالية‪ .‬وبحسب ما كتب الصحافي «على وجه الخصوص‪ ،‬يرى هايك‬
‫تقديرا أكبر للسوق بين جيل الشباب‪ .‬ياظاهر اليوم الشباب العاطلين عن العمل في الجزائر‪ ،‬ورانغون‬ ‫ً‬
‫ولكن للحصول على فرصة‪ :‬حرية الشراء والبيع‬ ‫مركزيا‪ْ ،‬‬
‫ً‬ ‫(ميانمار) ليس من أجل دولة الرعاية املخطط لها‬
‫‪-‬الجينز والسيارات وأي ش يء‪ -‬مهما كانت األسعار التي ستفرضها السوق»‪.‬‬
‫جنة ُبنيت من خالل فكرته‬ ‫َّ‬ ‫بعد ثالثين ً‬
‫عاما‪ ،‬يمكن القول إن انتصار هايك ال مثيل له‪ .‬نحن نعيش في ٍ‬
‫شبها بسوق مثالية تحكمها املنافسة الكاملة فحسب‪ ،‬أصبح السلوك‬ ‫الكبيرة‪ .‬وكلما أمكن جعل العالم أكثر ً‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫البشري أكثر شبها بالقانون والسلوك (العلمي) في مجمله‪ .‬كل ٍ‬
‫يوم نحن أنفسنا ‪-‬ال أحد ليخبرنا بعد اآلن! ‪-‬‬
‫ً‬
‫كماال مثل املشترين والبائعين املتناثرين‪ ،‬املنفصلين‪ ،‬واملجهولين؛ َّ‬
‫وكل يوم‬ ‫نسعى جاهدين لنصبح أكثر‬
‫نتعامل مع الرغبة املتبقية لنكون ً‬
‫شيئا أكثر من مستهلك كما الحنين أو النخبوية‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫نظر غير سياسية بإخالص‪ ،‬وقد‬ ‫إن ما بدأ شكال جديدا من أشكال السلطة الفكرية‪ ،‬متأصل في وجهة ٍ‬
‫سياسة رجعية‪ .‬ما ال يمكن قياسه أو إحصاؤه ال يجب ْأن يكون حقيقيا‪ ،‬بحسب ما‬ ‫ٍ‬ ‫اندفع بسهولة نحو‬
‫يقول االقتصادي‪ ،‬وكيف تقيس فوائد األديان األساسية للتنوير‪ -‬أي التفكير النقدي‪ ،‬واالستقاللية‬
‫الشخصية‪ ،‬والحكم الذاتي الديمقراطي؟ عندما تخلينا‪ ،‬بسبب بقاياه املحرجة للموضوعية‪ ،‬عن العقل‬
‫ً‬
‫بوصفه صورة من صور الحقيقة‪ ،‬وجعلنا العلم الحكم الوحيد على ٍ‬
‫كل من الحقيقة والواقع‪ ،‬أنشأنا فراغا‬
‫ً‬
‫كانت العلوم الزائفة سعيدة بملئه‪.‬‬
‫َّإن سلطة األستاذ أو املصلح أو املشرع أو الفقيه ال تنبع من السوق‪ ،‬بل من القيم اإلنسانية مثل‬
‫الحماس العام أو الضمير أو الشوق من أجل العدالة‪ .‬قبل مد ٍة طويلة من إدارة ترامب بدأ تحطيم تلك‬
‫مخطط توضيحي ال يمكن أن يفسرها‪ .‬وبالتأكيد‬ ‫القيم‪ ،‬وقد ُ‬
‫است ِّنزفت هذه الرموز من األهمية من خالل‬
‫ٍ‬
‫نزوة صرف‪ ،‬ور ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫جل ال مبادئ له أو‬ ‫هناك صلة بين غياب أهميتها املتنامي‪ ،‬وانتخاب ترامب‪ ،‬وهو مخلوق من ٍ‬
‫ً‬
‫متماسكا‪ .‬ر ٌ‬
‫جل بال عقل‪ ،‬يمثل الغياب التام للعقل‪ ،‬يدير العالم؛ أو على األقل يدمره‪ .‬كما هم‬ ‫قناعة تجعله‬
‫ً‬
‫متعجرفو سوق مانهاتن للعقارات‪ ،‬ومع َّأن ترامب ‪-‬مهال ‪ -‬يعرف ما يريد‪ ،‬فإن خطاياه لم تعاقب بعد في‬
‫السوق‪.‬‬

‫‪13‬‬

You might also like