Professional Documents
Culture Documents
الحياة بعد الموت هي الفقرة الثانيّة من كتاب "فلسفة تعاليم السلم" للمام المهدي والمسيح الموعود
عليه السلم ,وأصل هذا الكتاب القيم محاضرة من تأليفه ألقاها أحد صحابته حضرة عبد الكريم
السيالكوتي رضي الله عنه في مؤتمر للديان بلهور الهند بتاريخ 28-26ديسمبر .1896
وكان على جميع المتكلمين الممثلين عن ديانات شتى أن يستعينوا بكتبهم المقدسة للجابة
علي السئلة الخمسة التالية:
ن
لقد ألف المام المهدي هذه المحاضرة بتأييد إلهي خاص ,وأعلن أ ّ
الله تعالى بشره بالوحي أن محاضرته هذه ستكون الغالبة على جميع المحاضرات والمقالت التي
سوف يقدمها ممثلوا الديان المختلفة.
فقام حضرته بنشر هذا النبأ اللهي العظيم على نطاق واسع في كل أرجاء الهند ...فنشرت إعلنات في
مة بلهور حثا ً للناس على حضور
الجرائد ووزعت منشورات وألصقت لفتات في كثير من الماكن العا ّ
المؤتمر لسماع محاضرته.
ما الصحف والمجلت العالميّة فقد نشرت تعليقاتها القيمة حول هذا الكتاب ,نذكر منها مايلي:
أ ّ
•كتبت جريدة ( برستل تايمز آند ميرور :)Bristol Times and Mirror
لجرم أن الذي يخاطب أهل أوروبا وأمريكا بهذا السلوب ليس إنسانا عاديا.
يقول سيدنا ومولنا ونبينا في شرح الية المذكورة ..وهو يصف الجنة ونعيمها" :أعد ّ الله لعباده الصالحين
ت ،ول خطَر على قلب بَشر" ..مع أننا نرى نِعم الدنيا بأعيننا ،ونسمع عنها
ن سمع ْ
ت ،ول أذ ٌ
ن رأ ْ
ما ل عي ٌ
ً ً
بآذاننا ،وهي تمر بخواطرنا .فما دام الله ورسوله يصفان نعيم الفردوس بكونه شيئا غريبا ..فنكون إذن
قد انحرفنا عن القرآن انحرافا ً كبيرا ً لو ظننَّا أن في الجنَّة أيضا ً لبنا ً ماديا كهذا الذي يُحلب من البقر
والجاموس ..وكأنما يكون فيها قطعان من حيوانات حلوبة! وكأن النحل تكون قد بنت هنالك في الشجار
كثيرا من الخليا ،والملئكة يبحثون عنها ويشتارون منها العسل ويصبونه في النهار! هل هناك أية علقة
بين أفكار كهذه وبين ذلك التعليم السامي الذي ينطوي على آيات عديدة تقول إن الدنيا لم تر تلك
صوِّرت
ة بالله ،وأنها أغذية روحانية .هذه الغذية -وإن كانت قد ُ
الشياءَ أبدا ،وأنها تنير الروح وتزيد معرف ً
لنا بصورة مادية -إل أن الله قد نبَّه أيضا أن منبعها هو الروح والصدق.
فلو ظن أحد ٌ أن الثمار الولى تعني نِعما ً مادية من هذه الدنيا فل شك أن هذا خطأ فاحش ..وأنه مخالف
تماما لمفهوم الية ومغاير لمعناها البديهي .وإنما المراد اللهي من الية أن الذين آمنوا وعملوا
ة ..أشجاُرها اليمان ..وأنهاُرها العمال الصالحة ،وسيأكلون من ثمارالصالحات ..قد غرسوا بأيديهم جن ً
هذه الجنَّة نفسها في الخرة ،وتكون ثمارها يومئذ أبرَز صورة ً وأحلى طعما .وبما أنهم يكونون قد أكلوا
ً
من هذه الثمار من قبل في الدنيا بصورة روحانية ،لذلك سوف يعرفون تلك الثمرات في الدار الخرة،
ويقولون :يبدو أنها نفس الثمار التي سبق أن أكلناها ،حيث يجدونها مشابهة لغذائهم الول.
فالية المذكورة تبين بصراحة أن الذين كانوا في الحياة الدنيا يتغذون بغذاء المحبة اللهية ..سيُْرزقون
هذا الغذاء يوم الخرة رزقا ً مجسماً .وبما أنهم يكونون قد ذاقوا لذة الحب والوداد ..وعرفوا كيفيتها،
لذلك تتذكر أرواحهم ذلك الزمن الذي كانوا يناجون فيه حبيبَهم الحقيقي بحب ووَلَه ،وكانوا يستمتعون
بذكراه ،منفردين في الزوايا والخلوات وظلمات الليل .فل ذكر هنا للغذية المادية أبدا.
وإن خطر ببال أحد أنه ما دام العارفون قد ُرزقوا من هذا الغذاء الروحاني في الدنيا وكانوا يعرفونه..
ف نعيم الخرة بأنه ما لم يَره أحد أو لم يسمع عنه أحد أو ما مّر بقلب إنسان ..فذلك فكيف يصح وص ُ
يستلزم تناقضا ً ظاهرا ً بين اليتين المذكورتين؟
م
م الدنيا ،ولكن ليس المراد هنا نعي َ
فالجواب :إنما يتحقق التناقض إذا كان المقصود من كلمات الية نعي َ
الدنيا ..فكل ما يتلقاه العارف هنا بطريق العرفان إنما هو في الحقيقة من النعيم الخروي ،الذي يوهب
له منه شيء ههنا على سبيل العيِّنة ترغيبا ً وتشويقاً.
اعلموا أن النسان الرباني ليس من هذه الدنيا ،ومن أجل ذلك تمقته الدنيا؛ ولكنه من السماء ..فلذلك
ة السماوية .النسان الدنيوي ينال نعم الدنيا ،والنسان السماوي يظفر بالنعم السماوية.
يُعطى النعم َ
ُ
فالحق كل الحق ..أن النعيم السماوي قد أخفي تماما عن أسماع الدنيا وأبصارها وقلوبها ..ولكن الذي
س التي سوف يُسقاها في الخرة
سقِي بالطريقة الروحانية تلك الكأ َ
طرأ الموت على حياته الدنيا ..و ُ
شربه الول عندما تقدم له نفس الكأس .ومن الحق أيضا أنه سوف يجد أن بصورة جسمانية ،سيتذكر ُ
ن لم يكن منها،
صرة الدنيا وسامعتَها كانتا في غفلة عن ذلك النعيم ،ولكن بما أنه كان في الدنيا ،وإ ْ
با ِ
لذلك سوف يشهد أن النعيم الخروي ليس من نعم الدنيا ،ولم تر عينُه في الدنيا مثل هذه النعمة ،ولم
ج تلك النعمة ،ولكنها ما كانت من هذه الدنيا ،وإنما
تطرق سمعه ،ولم تخطر على قلبه ،وإنما رأى نماذ َ
ت إلى الخرة ل إلى الدنيا. كانت بمثابة بشير بالعالم الخروي ،وكانت تم ُّ
وليكن معلوما عن كلمة "الطائر" الواردة في الية أن معناها الصلي هو الطير ،ثم استُعيَرت لمعنى
ضا ..ذلك لن العمل ،خيرا ً كان أو شراً ،يطير ويختفي بعد وقوعه كمثل الطير ..وتنعدم مشقته
العمل أي ً
أو لذته بعد قليل ،ويخلف في القلب أثََره لطيفا أو كثيفا.
ل عمل يترك أثرا خفيّا ً في نفس عامله ،وأن الله يقابل بعمل منه هذا العم َ
ل، يؤكد القرآن المجيد أن ك َّ
سم آثاُره على القلب والوجه والعيون واليدي سواء كان خيرا ً أو شراً ،فل يَدَع ذلك العم َ
ل ليضيع ،بل تُر َ
والرجل .وهذه الرسوم هي صحيفة العمال الخفية التي تنكشف جليًّا في الحياة الثانية.
ويخبر الله سبحانه وتعالى عن أهل الجنَّة في موضع آخر بقوله{ :يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى
ي سوف
نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} (الحديد..)13 :أي أن نور إيمانهم الذي يحظون به في شكل خف ٍ ّ
يُرى يوم الخرة وهو يسعى أمامهم وعلى يمينهم.
(التكاثر)
أي أن كثرة الهواء المادية والرغبات الدنيوية قد شغلتكم عن ابتغاء الحياة الخرة ،حتى وقعتم في
ب الدنيا ،فسوف تعلمون أنه ل خير في حب الدنيا .وأؤكد لكم أن ل خير في حبها .ولو ح َّ
القبور .فإيَّاكم و ُ
م في هذه الدنيا نفسها .ثم إنكم سوف ترونها رؤية اليقين في عالم م اليقين لرأيتم الجحي َأنكم علمتم عل َ
شر الجساد تعلمونها حق اليقين ..ل بالمشاهدة فقط ،بل بالحال الواقع ،إذ البرزخ .ثم إنكم يوم ح ْ
خذون بشدة ،ويغشاكم العذاب كاملً. تؤا َ
م هنا ثلث درجات :علم اليقين ،وعين اليقين ،وحق اليقين .ولكي يفهم عامة الناس وقد ق َّ
سم الله العل َ
هذه المراتب العلمية ..أضرب ثلثة أمثلة :إذا رأى النسان دخانا ً كثيفا ً عن بُعد ،وانتقل ذهنه من الدخان
المتصاعد إلى النار المشتعلة ،واستيقن وجودها هنالك قِياسا ً على ما يوجد بين الدخان والنار من تلزم
مى علم اليقين. تام وعلقة غير منفَكّة ،إذ ل بد أن تكون النار حيث يوجد الدخان ..فمث ُ
ل هذا العلم يس ّ
ن اليقين .وإذا دخل بنفسه في النار كان علمه هذا حق
مى هذا العلم بالرؤية عي َ
س ّ
ب النار ُ
ثم إذا رأى له َ
اليقين.
العوالم الثلثة
وليكن واضحا هنا أن القرآن الحميد يخبرنا بوجود ثلثة عوالم.
ن الخير أو الشر.
مى داَر الكسب والنشأة الولى ،حيث يكتسب النسا ُ
العالم الول هو الدنيا التي تس ّ
صحيح أن للبرار في عالم البعث مجال ً للرقي ،إل أن ذلك الرقي سيتيسر لهم بمحض فضل الله ،ول
دخل فيه لكسب النسان أبدا.
عالم البرزخ
والعالم الثاني هو البرزخ .وكلمة "البرزخ" في اللغة العربية تعني أصل ً الحاجز بين الشيئين ،وقد س ِّ
مي
العالم الثاني بالبرزخ لوقوعه بين النشأة الولى وبين عالم البعث .وهذه الكلمة تطلق على العالم
خلقت الدنيا .لذلك فهذه الكلمة بذاتها تتضمن شهادة عظيمة على وجود
قدم ،بل منذ أن ُ
الوسط منذ ال ِ
منَن الرحمن) أن الكلمات العربية هي كلمات الله التي فاضت
العالم المتوسط .وقد أثبتنا في كتابنا ( ِ
من فم الله سبحانه وتعالى ،وأن العربية هي اللغة الوحيدة في الدنيا التي هي لغة الله القدوس ،وأنها
خر للوحي الرباني.
أقدم اللغات ،ومنبع جميع العلوم ،وأم اللسنة كلها ،وأنها العرش الول والعرش ال ِ
م الله الذي لم يزل منذ القديم معه تعالى ،ثم نزل
ش الول للوحي الرباني فلنها كانت كل َ أما كونها العر َ
ش الخير لوحي الله فلن كتاب اللههذا الكلم في الدنيا ،واتخذ أهلها منه لغاتهم .وأما كونُها العر َ
الخير ..القرآن المجيد ..نزل بالعربية.
خ" ،ومعناها أنه قد انسد طريق كسب العمال وبات في فالبرزخ كلمة عربية ،وهي مركَّبة من "بّر" و "ز ّ
حالة الخفاء .والحالة البرزخية هي حالة ينح ّ
ل فيها هذا التركيب النساني الفاني ،ويتم انفصال بين الروح
وهذا الجسد .وكما نرى أن الجسم يُلقى في حفرة ،كذلك الروح تقع في حالة تشبه الحفرة ..كما تدل
على ذلك كلمة "زخ" ..لن الروح وحدها ل تقدر على فعل الخير والشر الذي كانت قادرة عليه من قبل
وقتما كانت متصلة بالجسد .والواضح أن صحة الروح تتوقف على صحة البدن ،فبإصابة واحدة في جزء
معين من أجزاء الدماغ تزول الذاكرة ،وبإصابة أخرى في جزء آخر منه تزول القوة الفكرية ويتلشى
الوعي والحواس .ولئن أصيب الدماغ بنوع من التشنج أو الورم ،أو حصل به انسداد الدم أو أية مادة
قدم لتدل
أخرى انسداد تاما أو جزئيا ..فإنه يصاب فورا بالغماء أو الصرع .فإن تجاربنا المتكررة منذ ال ِ
حنا عاطلة تماما بغير اتصالها بالجسم.
على أن رو َ
ل بد للروح من جسم
إذن فإنه لزعم باطل تماما أن نقول بأن الروح -مجردةً عن الجسم -ستحظى بالسعادة يوما ً ما .يمكن
أن نقبل هذا الزعم كخرافة ..إل أنه ل يؤيده برهان معقول .إننا ل نستطيع أن نتصور مطلقا ً كيف تبقى
حرمت تماما ً من علقات جسمانية ..مع أنها -على ما نعلم عنها -تتعطل
الروح على حالتها الكاملة إذا ُ
ة اليومية أن صحة الجسم ضرورية
عند كل خلل ولو بسيط يطرأ على الجسد .أفل توضح لنا التجرب ُ
لصحة الروح؟ عندما يصبح النسان شيخا فانيا ..تشيخ روحه أيضا وتهرم ..ويختلس سارقُ الشيخوخة
ة علمه ..كما يقول الله تعالى{ :لكيل يعلم من بعد علم شيئا} (الحج ..)6 :أي عندما يصير
منه بضاع َ
ما يبدو -رغم دراسته وقراءته -كأنه صار جاهل.
النسان شيخا هرِ ً
لذلك فمشاهدتنا تشكل دليل قاطعا على أن الروح ل شيء بدون الجسم .ثم إنه لما يهدي النسان إلى
الحقيقة أيضا أنه لو كانت الروح تستطيع القيام بذاتها مستقلة عن الجسم ..فلماذا ربطها الله -عبثا
ودونما سبب -بالجسم الفاني .كما إنه جدير بالعتبار أن الله خلق البشر لرقي غير محدود ،فما دام
النسان ل يستطيع أن يحرز بغير معونة الجسم رقيًّا في هذه الحياة القصيرة ..فكيف يتصور أنه
سيتمكن من إحراز تلك الترقيات التي ل نهاية لها بغير مرافقة الجسم؟
إذن فإن هذه الدلة كلها تبين -وفقًا للتعليم السلمي -أنه ل بد ّ للروح من مصاحبة جسم على الدوام
لداء واجباتها حق الداء .صحيح أن هذا الجسم الفاني يفارق الروح عند الموت ..ولكنها في عالم البرزخ
تُعَوَّ ُ
ض عنه بجسم آخر ..لتذوق به جزا َء أعمالها إلى حدِّ ما .ول يكون ذلك الجسم من نوع هذه
الجسام ..وإنما يتكون من ظلمةٍ أو من نورٍ ،بحسب نوعية أعمال النسان في هذه الدنيا ،وكأن أعمال
النسان هي التي تقوم مقام الجسام في ذلك العالم .هكذا جاء في كلم الله مرارا ً وتكرارا ً حيث اعتبر
بعض هذه الجسام نورانية وبعضها ظلماتية ،تكتسب نورها أو ظلمتها من العمال.
ن كان في غاية العمق ،إل أنه ليس مما يرفضه العقل .فيمكن للنسان الكامل أن ينال إ َّ
ن هذا السر ،وإ ْ
في نفس هذه الحياة كيانا ً نورانيًا غيَر هذا الكيان الجسماني .وفي عالم الكشوف أمثلة كثيرة من هذا
القبيل .إنه من الصعب إيضاح هذا المر لذي عقل محدود؛ ولكن الذي نال نصيبا من عالم الكشف لن
ب ،بل سوف يجد فيه متعة ولذة. ينظر إلى حقيقةِ تكوُّ ِ
ن جسم ٍ من العمال نظرة َ استبعاد ٍ وعج ٍ
تجربة ذاتية
وملخص القول :إن ذلك الجسم الذي يتكوّن بحسب نوعية أعمال النسان ..هو الذي يصير في عالم
البرزخ واسطة لمجازاة الصالح والفاجر ،وإني لصاحب تجربة في هذا المر .لقد حصل لي مرارا ً -في
ت بعض الموتى كشفًا ،ومنهم بعض الفاسقين والضالين ..فرأيت أن أبدانهم كانت
حالة اليقظة أن لقي ُ
مسوَدَّة وكأنها خلقت من الدخان .والخلصة أن لي معرفة شخصية بهذا الطريق .وأقول بكل قوة ووثوق ُ
أن كل واحد يُعطى بعد الموت -يقينا كما قال الله -جسما نورانيًا أو ظلماتيًا.
ت هذه المعارف الدقيقة للغاية بالعقل المجرد .فيجب أن نعرف أنه ومن الخطأ أن يحاول النسان إثبا َ
كما ل يمكن للعين أن تخبر عن مذاق الشياء الحلوة ،ول يمكن للسان أن يرى الشياءَ ..كذلك تماما ل
صل إل بالمكاشفات القدسية .إن الله يمكن للعقل وحدة أن يح َّ
ل عقدة َ تلك العلوم الخروية ..التي ل تح َّ
مسوا كل شيء بوسيلته الخاصة تعالى قد جعل في هذه الدنيا وسائل مختلفة لمعرفة المجهول ،فالت ِ
تجدوه.
عالم البعث
ل روح جسما ً محسوسا ً بيناً ،صالحة كانت تلكمى عالم البعث ،تتلقى فيه ك ُّ
ثم بعد البرزخ يأتي زمن يس ّ
ل إنسانُ الروح أم طالحة .وقد قُدِّر يوم ذلك المحشر للتجليات الربانية الكاملة ،التي بفضلها يعرف ك ّ
رب َّه حق العرفان ،ويبلغ ك ُّ
ل واحد عندئذ الذروة َ من جزائه.
ويجب أل يستغرب أحد كيف يستطيع الله فِعل ذلك! إنه سبحانه القدرة كلها ،ويفعل ما يريد ،كما يقول
سبحانه:
(يس)84-78 :
أي ألم ير النسان أننا خلقناه من قطرة ماء تُلقى في الرحم ،ثم صار شخصا كثير الخصومة ،وبدأ
خلق هو ،وبدأ يقول :كيف يمكن أن يحيا النسان مرة أخرى بعد يتحدث عنا بأنواع الحديث ،ونسي كيف ُ
أن تصير هذه العظام بالية؟ من ذا الذي يملك القدرة على إحيائه؟ قل لهم :سوف يحييه الذي خلقه في
المرة الولى ،فهو يعلم كيف يحيي وبأي طريقة يحيي ....إنما أمره أنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له "كُن"
فيتكون هذا الشيء إنه منزه عن كل عيب ..ذلك الذي له الملك على كل شيء ،والكل سوف يُرجعون
إليه.
فالله جل شأنه قد صرح في هذه اليات أن ل شيء مستحيل عنده ،فالذي خلق النسان من قطرة
حقيرة ..هل يعجز عن بعثه مرة ثانية؟
فالجواب أن مثل هذه الفكرة خطأ تماماً ،ومنشؤها الجهل المطلق! إن كتاب الله يذكر مقامين لجزاء
البار والفاجر ،أحدهما عالم البرزخ الذي يلقي فيه ك ُّ
ل إنسان جزاءه لقاء مخفيًّا ..فإن الشرار يدخلون
معًا بعد الموت في الجحيم ،وإن الخيار كذلك بعد الموت مباشرة ينالون الراحة في الجنَّة .وهناك في
القرآن المجيد آيات كثيرة تبين أن كل إنسان يرى بعد الموت مباشرة ً جزاءَ أعماله .فمثل يخبرنا الله
عن رجل من أهل الجنة بقوله{ :قيل ادخل الجنة} (يس ،)27 :ويحكي سبحانه عن رجل آخر من أصحاب
النار بقوله{ :فرآه في سواء الجحيم} (الصافات ..)56 :أي أنه كان لرجل من أصحاب الجنة زميل ،فلما
ماتا افتقد صاحب الجنة زميله ،فكشف الله له عنه فوجده في قعر جهنم.
إذن فعملية الجزاء والعقاب تبدأ فورا ً بعد الموت ،ويدخل أصحاب النارِ النار ..وأصحاب الجنةِ الجن َ
ة.
ل أعظم .إن الله عز وجل خلق ولكن هنالك بعده يوما ً آخر ..اقتضت حكمة الله البالغة ان يظهر فيه بتج ٍّ
النسان ليعرفه بخالقيته ،ثم إنه سوف يهلكهم أجمعين ليعرفوه بقهاريته ،ثم يحييهم حياة كاملة
ويحشرهم في ميدان واحد ليعرفوه سبحانه بقدرته الكاملة .هذه هي المعرفة الولى من المعارف
الثلث المشار إليها سابقاً.
المعرفة الثانية
وأما المعرفة الثانية ..التي ذكرها القرآن الكريم تبيانًا لعالم المعاد ..فهي أن جميع المور الروحانية في
سمة ،سواء أكان عالم المعاد في طور البرزخ أم في طور الحياة الدنيا ستتمثل في عالم المعاد مج َّ
البعث والنشور .ومما قال الله في هذا الصدد{ :ومن كان في هذه أعمى فهو في الخرة أعمى وأضل
سبيل} (السراء ..)73 :والمراد أن العماية الروحانية التي يصاب بها أحد في الدنيا ..تتجسم في عالم
المعاد محسوسة مشهودة.
(الحاقة)33-31 :
فاليات تبين أن عذاب الدنيا الروحاني سوف يتجسد في عالم المعاد .فطوْقُ الشهوات الدنيوية الذي
ل الشواغلل يُطَوِّق العنق؛ وسلس ُ
كان قد أخضع رأس النسان إلى الرض سوف يتراءى في صورة غ ُ ٍّ
ً
الدنية ستظهر في صورة أصفاد تقيد الرجل ،ولوعات الماني المادية سوف تُرى يومئذ نارا ملتهبة
ظاهرة.
إن النسان الفاسق في الحياة الدنيا ليحمل في داخله جحيما ً من الشهوات والهواء ،ويشعر بحرقة هذه
الجحيم عند الخيبة والخسران؛ ولذلك فإنه عندما يُقذف بعيدًا عن شهواته الفانية ،ويغشاه القنوط
سمة ،كما يقول سبحانه وتعالى{ :وحيل ج ّ
البدي ..سوف يكشف الله له تلك الحسرات في صورة نار م َ
بينهم وبين ما يشتهون} (سبأ ..)55 :أي سوف يوضع حاجز بينهم وبين شهواتهم ،وهذه الحيلولة هي
نفسها أصل عذابهم.
وأما قوله تعالى{ :ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه} (الحاقة ..)33 :فهو إشارة إلى أن
مر سبعين سنة ،بل كثيرا ما يُرزق عمرا أطول من ذلك للعيش في هذه الفاسق في أحيان كثيرة يع َّ
الدنيا ،بحيث يتاح له -باستثناء أيام الصبا والهرم -سبعون عاما من حياة خالصة صافية ،يستطيع أن
ل بحزم ،ولكن ذلك الشقي يضيع هذه السنين من حياته الثمينة في النهماك في يقضيها في جدٍّ وعم ٍ
مشاغل الدنيا ..ول يريد أن يتحرر من قيودها .لذلك يقول الله تعالى أن السنين السبعين التي قضاها
في قيود الشهوات الدنيوية ..سوف تتمثل يوم المعاد في شكل سلسلة طولها سبعون ذراعاً ،كل ذراع
سني حياته.
سنة من ِ بإزاء َ
ظل ذو ثلثة فروع
ب من عنده على النسان أيَّ مصيبة ..وإنما يعرض عليه ما ويجب أن نتذكر هنا أن الله تعالى ل يص ّ
سنة نفسها يقول الله في موضع آخر{ :انطلقوا إلى ظل ُ سه من السيئات ..وتبيانا لهذه ال ّ
ارتكب هو نف ُ
ذي ثلث شعب * ل ظليل ول يغني من اللهب} (المرسلت ..)32-31 :أي أيها الفجار الغواة امشوا إلى
ظل ذي ثلثة فروع ،ل يهييء لكم ظل ًّ ول يحميكم من الحر.
والمقصود بالفروع الثلثة هنا هو القسام الثلثة من قوى النفس :وهي القوى السبعية ،والقوى البهيمية،
والقوى الواهمة .فالذين ل يُعدِّلون هذه القوى ،ول يصبغونها بالصبغة الخلقية ..يبرزها الله لهم يوم
القيامة وكأنها ثلثة فروع قائمة بل ورق ..ل تحمي من الحر ،ومن ثم سوف يحترقون منه.
ويقول في مكان آخر{ :مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم
يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} (محمد ..)16 :أي أن مثال الجنة
ن ل يتغير طعمه أبدا ،ومن التي ستوهب للمتقين كمثال بستان فيه أنهار من ماءٍ ل يتعفن أبدا ،ومن لب ٍ
ف للغاية ل كثافة فيه.ل صا ٍ
سكر ،ومن عس ٍ خمرٍ تجلب المتعة واللذة بدون أن تصيب شاربها بال ُّ
عم الجنة
وصف تمثيلي لن ِ َ
لقد بي َّن الله هنا بصراحة أن الجنة يمكن أن تفهموها -على سبيل التمثيل -أن فيها أنهاًرا ل حد لها من
تلك النعم .ففيها أنهاٌر ظاهرة من ماء الحياة الروحاني الذي كان العارف يشربه في الدنيا شربا ً روحانيًا؛
وأنهار ظاهرة من اللبن الروحاني الذي كان يتغذى به كالطفل الرضيع في الدنيا غذاء روحانيا؛ وأنهاٌر من
رأي
َ ة أمامه خمر المحبة اللهية التي كان بسببها في نشوة روحانية دائمة في الدنيا ..يراها يومئذ ماثل ً
العين؛ وأنهاٌر ظاهرة محسوسة من عسل الحلوة اليمانية الذي كان يدخل في فمه بصورة روحانية في
الدنيا .وسوف يكتشف كل واحد من أهل الجنة مستوى حالته الروحانية عن طريق أنهاره وبساتينه.
وأيضا سوف يَبرز الله تعالى لهل الجنة من وراء الحجب.
فالخلصة أنه لن تبقى الحالت الروحانية عندئذ على ما هي عليه اليوم من الخفاء ،وسوف تظهر أشكالً
مجسمة.
المعرفة الثالثة
والمعرفة الثالثة هي أن سلسلة الرتقاء في عالم المعاد بدون نهاية ،يقول الله تعالى:
(التحريم)9 :
فقوله عن الذين آمنوا أنهم لن ينفكوا يدعون ربهم أن يتم لهم نورهم ..إنما هو إشارة إلى ترقيات غير
ة أخرى منه ،فيرون كمالهمة من درجات النور ..تراءت لهم درج ٌمتناهية ،بمعنى أنهم كلما استكملوا درج ً
صا بالنسبة إلى الكمال الثاني ..فيلتمسون من الله إحراَز تلك الدرجة ،فإذا أحرزوها ..تراءت
الحاصل نق ً
لهم درجة ثالثة منه ،فيعتبرون الكمالت الولى ناقصة ،ويطمعون في هذه الخيرة .إن هذا النزوع
م".
م ْ
المستمر للرقي يعبر عنه قولهم" :أت ِ
إذن فهكذا سوف تستمر حلقات من سلسلة غير متناهية من الرتقاء ،ولن يصيبهم النحطاط أبدا ،كما
أنهم لن يخَرجوا من جنتهم ،بل سيقدمون يوما فيوما ول يتراجعون.
وأما قولهم "واغفرنا" فينشأ عنه سؤال :ما داموا قد دخلوا الجنة ..فهل لم يغفرِ الله لهم؟ وما داموا قد
ستر الحالت غُفر لهم ..فما الحاجة إلى الستغفار بعد ذلك؟ فالجواب أن المغفرة معناها في الصل َ
الناقصة غير الملئمة ..وتغطيتها .فالمراد أن أصحاب الجنَّة سيطمعون أن ينالوا الكمال التام ،وأن
ة عند رؤيتهم الدرجة التالية من ة في النور .إنهم باستمرار يجدون حالتهم الولى ناقص ً يغرقوا كلّي ً
الكمال ،فيودون تغطية حالتهم الولى .ثم إذا رأوا درجة الكمال الثالثة تمنّوا تغطية حالتهم الثانية ..أي
أن تُستر حالتهم الناقصة تلك وتُخفى .وهكذا سوف يظل أصحاب الجنَّة يتمنون المغفرة غير المتناهية
بعد كل مرحلة.
إن كلمة الستغفار أو الغفران هي نفس الكلمة التي يطعن بها بعض الجاهلين في نبينا ( .ولعلكم -أيها
المستمعون الكرام -قد أدركتم مما سلف أن الرغبة في الستغفار إنما هي مفخرة للنسان .فمن كان
مولودًا من بطن امرأة ..ومع ذلك ل يتخذ الستغفاَر ديْدنًا في كل حال ..فهو دودة وليس إنسانا ،وأعمى
س غير طيب.وليس بصيرا ،ونج ٌ
فخلصة القول إن الجنة والجحيم ،بحسب تعليم القرآن الكريم ،ليستا شيئًا ماديًّا جديدًا يأتي من
الخارج ..وإنما هما في الحقيقة آثار الحياة البشرية وظللُها .إنه لحق أن كل واحدة منهما ستتمثل عندئذ
مجسمة ..ولكنها ل تكون في الحقيقة إل آثار الحالت الروحانية وأظللها .إننا ل نؤمن بجنة هي عبارة
سا ظاهريًّا ،ول نؤمن بجحيم فيها أحجار من كبريت مادي ،بل الجنة والجحيم - عن أشجار مغروسة غر ً
طبقًا للعقيدة السلمية -إنما هما انعكاسات للعمال التي يعملها النسان في الحياة الدنيا