You are on page 1of 9

‫الحياة بعد الموت‬

‫الحياة بعد الموت هي الفقرة الثانيّة من كتاب "فلسفة تعاليم السلم" للمام المهدي والمسيح الموعود‬
‫عليه السلم‪ ,‬وأصل هذا الكتاب القيم محاضرة من تأليفه ألقاها أحد صحابته حضرة عبد الكريم‬
‫السيالكوتي رضي الله عنه في مؤتمر للديان بلهور الهند بتاريخ ‪ 28-26‬ديسمبر ‪.1896‬‬

‫وكان على جميع المتكلمين الممثلين عن ديانات شتى أن يستعينوا بكتبهم المقدسة للجابة‬
‫علي السئلة الخمسة التالية‪:‬‬

‫•حالت النسان الطبعّية‪ ,‬الخلقيّة والروحانيّة‬


‫•حالة النسان بعد الموت‬
‫•الغاية الحقيقية من الحياة الدنيوية للنسان‪ ,‬ووسائل تحقيقها‬
‫•تأثير العمال على حياة النسان في الدنيا والخرة‬
‫•وسائل العلم‪ ..‬أي المعرفة الحقيقة‬

‫ن‬
‫لقد ألف المام المهدي هذه المحاضرة بتأييد إلهي خاص‪ ,‬وأعلن أ ّ‬
‫الله تعالى بشره بالوحي أن محاضرته هذه ستكون الغالبة على جميع المحاضرات والمقالت التي‬
‫سوف يقدمها ممثلوا الديان المختلفة‪.‬‬

‫فقام حضرته بنشر هذا النبأ اللهي العظيم على نطاق واسع في كل أرجاء الهند‪ ...‬فنشرت إعلنات في‬
‫مة بلهور حثا ً للناس على حضور‬
‫الجرائد ووزعت منشورات وألصقت لفتات في كثير من الماكن العا ّ‬
‫المؤتمر لسماع محاضرته‪.‬‬

‫ما الصحف والمجلت العالميّة فقد نشرت تعليقاتها القيمة حول هذا الكتاب‪ ,‬نذكر منها مايلي‪:‬‬
‫أ ّ‬

‫•كتبت جريدة ( برستل تايمز آند ميرور ‪:)Bristol Times and Mirror‬‬
‫لجرم أن الذي يخاطب أهل أوروبا وأمريكا بهذا السلوب ليس إنسانا عاديا‪.‬‬

‫•وقالت جريدة ( سبريتشوال جورنال ‪ ) spiritual Jornal‬من بوستن‪:‬‬


‫إن هذا الكتاب لبشارة عظيمة للنسانية‬

‫•وجاء في ( ثيوسوفيكال بك نوتس ‪:) Theosophical Book Notes‬‬


‫هذا الكتاب يقدم دين محمد بأفضل وأروع صورة‬

‫•وعلقت مجلة (مسلم ريفيو ‪ )Moslem Review‬بقولها‪:‬‬


‫سوف يجد القارئ في هذا الكتاب أفكارا ً صادقة‪ ,‬وحقائق دقيقة تغذي الروح‪.‬‬

‫كيف تكون حالة النسان بعد الموت؟‬


‫حقيقة نعيم الجنة‬
‫المعارف القرآنية الثلث عن عالم المعاد‬
‫المعرفة الولى‬
‫ثلثة أقسام للعلم‬
‫العوالم الثلثة‬
‫عالم البرزخ‬
‫ل بد للروح من جسم‬
‫تجربة ذاتية‬
‫عالم البعث‬
‫إزالة سوء فهم‬
‫المعرفة الثانية‬
‫ظل ذو ثلثة فروع‬
‫وصف تمثيلي لنِعَم الجنة‬
‫المعرفة الثالثة‬

‫كيف تكون حالة النسان بعد الموت؟‬


‫ة جديدة‪ ،‬بل إن حالة‬
‫أقول في جواب هذا السؤال إن حالة النسان بعد الموت ليست في الحقيقة حال ً‬
‫الدنيوية نفسها هي التي تنكشف يومئذ بجلء أكثر‪ .‬إن كيفيات العقائد والعمال ‪ -‬صالحة كانت أم طالحة‬
‫ماً؛ وأما في‬
‫ة في باطن النسان في هذا العالم‪ ،‬تبعث في كيانه تأثيرا ً خفيا ً ناجعا ً أو سا ّ‬
‫‪ -‬تكون كامن ً‬
‫العالم الخروي فلن يظل المر هكذا‪ ،‬بل إن كل هذه الحوال سوف تنكشف انكشافا واضحا‪ .‬ونجد مثال‬
‫سمة‪ .‬فمثل‬‫ذلك في عالم الرؤيا‪ ،‬فإن الحالة الغالبة على الجسم تتراءى في عالم المنام في صورة مج ّ‬
‫كثيرا ً ما يرى المريض في منامه النار ولهيبها قبيل إصابته بالحمى‪ ،‬ويرى المصاب بالنفلونزا والزكام‬
‫والرشح أنه في الماء‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن حالة المرض التي يدخل فيها الجسم تتمثل كيفياتها في عالم المنام‪.‬‬

‫حقيقة نعيم الجنة‬


‫فبالتدبر في عالم المنام يستطيع كل إنسان أن يدرك أن هذه السنّة جارية أيضا في الخرة‪ .‬فكما أن‬
‫المنام يحدث فينا تغييرا ً معيناً‪ ..‬ويرينا الحالة الروحية في صورة مجسمة‪ ..‬كذلك يحدث في ذلك العالم‪،‬‬
‫فتتمثل يومئذ أعمالُنا ونتائجها في صور محسوسة‪ ،‬ويلوح على وجوهنا بوضوح ك ُّ‬
‫ل ما نكون قد‬
‫استصحبناه من هذا العالم في صورة خفيّة‪ .‬وكما أن النائم يوقن فيما يراه من تمثلت شتى بأنها أمور‬
‫حقيقية‪ ،‬ول يتوهم أبدا ً أنها تمثلت‪ ،‬كذلك يحدث في ذلك العالم‪ ،‬بل الواقع أن الله سوف يظهر قدرته‬
‫ت‪ ،‬بل‬
‫م ِ تلك المور تمثل ٍ‬
‫الجديدة يومئذ بواسطة التمثلت‪ ..‬لنه تعالى هو القدرة الكاملة‪ .‬إذن فلو لم نُس ّ‬
‫م بقدرته سبحانه وتعالى‪ ..‬لكان هذا القول هو الصح والحق والواقع‪ .‬يقول سبحانه‬ ‫قلنا إنها خلق جديد ت َّ‬
‫س صالحةٍ‬‫وتعالى‪{ :‬فل تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} (السجدة‪ ..)18 :‬يعني ل تدري أية نف ٍ‬
‫م الذي أُخفي لها في عالم الخرة‪ .‬لقد وصف الله جميع نعم الخرة بأنها مخفي‍‍ّة عنا‪ ..‬ل مثال لها‬
‫النعي َ‬
‫في النعم الدنيوية‪ .‬والواضح أن نعم الدنيا غير خفية علينا‪ ،‬فإننا نعرف اللبن والُّرمان والعنب ونأكل منها‬
‫دوماً‪ .‬فيتبين من ذلك أن نعم العالم الثاني هي غيُر ما في هذا العالم‪ ،‬وإنما تشترك مع هذه في السم‬
‫فقط‪ .‬فمن ظن أن الجنَّة عبارة عن موجودات هذه الدنيا فلم يفهم من القرآن حرفاً‪.‬‬

‫يقول سيدنا ومولنا ونبينا في شرح الية المذكورة‪ ..‬وهو يصف الجنة ونعيمها‪" :‬أعد ّ الله لعباده الصالحين‬
‫ت‪ ،‬ول خطَر على قلب بَشر"‪ ..‬مع أننا نرى نِعم الدنيا بأعيننا‪ ،‬ونسمع عنها‬
‫ن سمع ْ‬
‫ت‪ ،‬ول أذ ٌ‬
‫ن رأ ْ‬
‫ما ل عي ٌ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بآذاننا‪ ،‬وهي تمر بخواطرنا‪ .‬فما دام الله ورسوله يصفان نعيم الفردوس بكونه شيئا غريبا‪ ..‬فنكون إذن‬
‫قد انحرفنا عن القرآن انحرافا ً كبيرا ً لو ظننَّا أن في الجنَّة أيضا ً لبنا ً ماديا كهذا الذي يُحلب من البقر‬
‫والجاموس‪ ..‬وكأنما يكون فيها قطعان من حيوانات حلوبة! وكأن النحل تكون قد بنت هنالك في الشجار‬
‫كثيرا من الخليا‪ ،‬والملئكة يبحثون عنها ويشتارون منها العسل ويصبونه في النهار! هل هناك أية علقة‬
‫بين أفكار كهذه وبين ذلك التعليم السامي الذي ينطوي على آيات عديدة تقول إن الدنيا لم تر تلك‬
‫صوِّرت‬
‫ة بالله‪ ،‬وأنها أغذية روحانية‪ .‬هذه الغذية ‪ -‬وإن كانت قد ُ‬
‫الشياءَ أبدا‪ ،‬وأنها تنير الروح وتزيد معرف ً‬
‫لنا بصورة مادية ‪ -‬إل أن الله قد نبَّه أيضا أن منبعها هو الروح والصدق‪.‬‬

‫ويجب أل ّ ينخدع أحد بقوله تعالى في القرآن المجيد‪:‬‬


‫{وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها النهار كلما رزقوا منها من ثمرة‬
‫رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها} (البقرة‪ ..)26 :‬أي ب ّ ِ‬
‫شر المؤمنين الذين يقومون‬
‫بأعمال صالحة‪ ،‬ول يوجد فيهم ذرة من الفساد‪ ..‬أنهم ورثة الجنة التي تجري خللها النهار‪ .‬إنهم كلما‬
‫ينالون من ثمار تلك الشجار التي قد نالوا منها في الدنيا أيضا‪ ..‬يقولون إنها نفس الثمار التي قد أوتيناها‬
‫ة بالثمار الولى‪.‬‬
‫من قبل‪ ،‬لنهم سيجدون هذه الثمار شبيه ً‬

‫فلو ظن أحد ٌ أن الثمار الولى تعني نِعما ً مادية من هذه الدنيا فل شك أن هذا خطأ فاحش‪ ..‬وأنه مخالف‬
‫تماما لمفهوم الية ومغاير لمعناها البديهي‪ .‬وإنما المراد اللهي من الية أن الذين آمنوا وعملوا‬
‫ة‪ ..‬أشجاُرها اليمان‪ ..‬وأنهاُرها العمال الصالحة‪ ،‬وسيأكلون من ثمار‬‫الصالحات‪ ..‬قد غرسوا بأيديهم جن ً‬
‫هذه الجنَّة نفسها في الخرة‪ ،‬وتكون ثمارها يومئذ أبرَز صورة ً وأحلى طعما‪ .‬وبما أنهم يكونون قد أكلوا‬
‫ً‬
‫من هذه الثمار من قبل في الدنيا بصورة روحانية‪ ،‬لذلك سوف يعرفون تلك الثمرات في الدار الخرة‪،‬‬
‫ويقولون‪ :‬يبدو أنها نفس الثمار التي سبق أن أكلناها‪ ،‬حيث يجدونها مشابهة لغذائهم الول‪.‬‬

‫فالية المذكورة تبين بصراحة أن الذين كانوا في الحياة الدنيا يتغذون بغذاء المحبة اللهية‪ ..‬سيُْرزقون‬
‫هذا الغذاء يوم الخرة رزقا ً مجسماً‪ .‬وبما أنهم يكونون قد ذاقوا لذة الحب والوداد‪ ..‬وعرفوا كيفيتها‪،‬‬
‫لذلك تتذكر أرواحهم ذلك الزمن الذي كانوا يناجون فيه حبيبَهم الحقيقي بحب ووَلَه‪ ،‬وكانوا يستمتعون‬
‫بذكراه‪ ،‬منفردين في الزوايا والخلوات وظلمات الليل‪ .‬فل ذكر هنا للغذية المادية أبدا‪.‬‬

‫وإن خطر ببال أحد أنه ما دام العارفون قد ُرزقوا من هذا الغذاء الروحاني في الدنيا وكانوا يعرفونه‪..‬‬
‫ف نعيم الخرة بأنه ما لم يَره أحد أو لم يسمع عنه أحد أو ما مّر بقلب إنسان‪ ..‬فذلك‬ ‫فكيف يصح وص ُ‬
‫يستلزم تناقضا ً ظاهرا ً بين اليتين المذكورتين؟‬

‫م‬
‫م الدنيا‪ ،‬ولكن ليس المراد هنا نعي َ‬
‫فالجواب‪ :‬إنما يتحقق التناقض إذا كان المقصود من كلمات الية نعي َ‬
‫الدنيا‪ ..‬فكل ما يتلقاه العارف هنا بطريق العرفان إنما هو في الحقيقة من النعيم الخروي‪ ،‬الذي يوهب‬
‫له منه شيء ههنا على سبيل العيِّنة ترغيبا ً وتشويقاً‪.‬‬

‫اعلموا أن النسان الرباني ليس من هذه الدنيا‪ ،‬ومن أجل ذلك تمقته الدنيا؛ ولكنه من السماء‪ ..‬فلذلك‬
‫ة السماوية‪ .‬النسان الدنيوي ينال نعم الدنيا‪ ،‬والنسان السماوي يظفر بالنعم السماوية‪.‬‬
‫يُعطى النعم َ‬
‫ُ‬
‫فالحق كل الحق‪ ..‬أن النعيم السماوي قد أخفي تماما عن أسماع الدنيا وأبصارها وقلوبها‪ ..‬ولكن الذي‬
‫س التي سوف يُسقاها في الخرة‬
‫سقِي بالطريقة الروحانية تلك الكأ َ‬
‫طرأ الموت على حياته الدنيا‪ ..‬و ُ‬
‫شربه الول عندما تقدم له نفس الكأس‪ .‬ومن الحق أيضا أنه سوف يجد أن‬ ‫بصورة جسمانية‪ ،‬سيتذكر ُ‬
‫ن لم يكن منها‪،‬‬
‫صرة الدنيا وسامعتَها كانتا في غفلة عن ذلك النعيم‪ ،‬ولكن بما أنه كان في الدنيا‪ ،‬وإ ْ‬
‫با ِ‬
‫لذلك سوف يشهد أن النعيم الخروي ليس من نعم الدنيا‪ ،‬ولم تر عينُه في الدنيا مثل هذه النعمة‪ ،‬ولم‬
‫ج تلك النعمة‪ ،‬ولكنها ما كانت من هذه الدنيا‪ ،‬وإنما‬
‫تطرق سمعه‪ ،‬ولم تخطر على قلبه‪ ،‬وإنما رأى نماذ َ‬
‫ت إلى الخرة ل إلى الدنيا‪.‬‬ ‫كانت بمثابة بشير بالعالم الخروي‪ ،‬وكانت تم ُّ‬

‫المعارف القرآنية الثلث عن عالم المعاد‬


‫ولنتذكر أيضا كقاعدة أن القرآن المجيد قد جعل للحالت التي سوف نمر بها بعد الموت ثلث فترات‪،‬‬
‫صل كل واحدة منها على حدة فيما يلي‪:‬‬
‫وهي معارف ثلث قرآنية عن عالم المعاد‪ ..‬نف ِّ‬
‫المعرفة الولى‬
‫يقول القرآن الكريم مرة بعد أخرى‪ ..‬أن عالم الخرة ليس شيئًا جديدًا‪ ..‬بل إن جميعَ مظاهره هي آثار‬
‫هذه الحياة الدنيا وظللُها كما يقول الله تعالى‪{ :‬وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم‬
‫القيامة كتابا يلقاه منشورا} (السراء‪ ..)14 :‬أي أننا ربطنا برقبة ك ِّ‬
‫ل إنسان آثاَر أعماله‪ ،‬وأننا سوف نُظهر‬
‫له هذه الثار الخفية يوم القيامة‪ ،‬وسوف نريه إياها في شكل كتاب مفتوح‪.‬‬

‫وليكن معلوما عن كلمة "الطائر" الواردة في الية أن معناها الصلي هو الطير‪ ،‬ثم استُعيَرت لمعنى‬
‫ضا‪ ..‬ذلك لن العمل‪ ،‬خيرا ً كان أو شراً‪ ،‬يطير ويختفي بعد وقوعه كمثل الطير‪ ..‬وتنعدم مشقته‬
‫العمل أي ً‬
‫أو لذته بعد قليل‪ ،‬ويخلف في القلب أثََره لطيفا أو كثيفا‪.‬‬
‫ل عمل يترك أثرا خفيّا ً في نفس عامله‪ ،‬وأن الله يقابل بعمل منه هذا العم َ‬
‫ل‪،‬‬ ‫يؤكد القرآن المجيد أن ك َّ‬
‫سم آثاُره على القلب والوجه والعيون واليدي‬ ‫سواء كان خيرا ً أو شراً‪ ،‬فل يَدَع ذلك العم َ‬
‫ل ليضيع‪ ،‬بل تُر َ‬
‫والرجل‪ .‬وهذه الرسوم هي صحيفة العمال الخفية التي تنكشف جليًّا في الحياة الثانية‪.‬‬

‫ويخبر الله سبحانه وتعالى عن أهل الجنَّة في موضع آخر بقوله‪{ :‬يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى‬
‫ي سوف‬
‫نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} (الحديد‪..)13 :‬أي أن نور إيمانهم الذي يحظون به في شكل خف ٍ ّ‬
‫يُرى يوم الخرة وهو يسعى أمامهم وعلى يمينهم‪.‬‬

‫وفي موضع آخر يخاطب الله الف َّ‬


‫جاَر يقوله‪:‬‬

‫(التكاثر)‬

‫أي أن كثرة الهواء المادية والرغبات الدنيوية قد شغلتكم عن ابتغاء الحياة الخرة‪ ،‬حتى وقعتم في‬
‫ب الدنيا‪ ،‬فسوف تعلمون أنه ل خير في حب الدنيا‪ .‬وأؤكد لكم أن ل خير في حبها‪ .‬ولو‬ ‫ح َّ‬
‫القبور‪ .‬فإيَّاكم و ُ‬
‫م في هذه الدنيا نفسها‪ .‬ثم إنكم سوف ترونها رؤية اليقين في عالم‬ ‫م اليقين لرأيتم الجحي َ‬‫أنكم علمتم عل َ‬
‫شر الجساد تعلمونها حق اليقين‪ ..‬ل بالمشاهدة فقط‪ ،‬بل بالحال الواقع‪ ،‬إذ‬ ‫البرزخ‪ .‬ثم إنكم يوم ح ْ‬
‫خذون بشدة‪ ،‬ويغشاكم العذاب كاملً‪.‬‬ ‫تؤا َ‬

‫ثلثة أقسام للعلم‬


‫لقد أخبر الله تعالى في هذه اليات بصراحة أن الحياة الجهنّمية موجودة للف َّ‬
‫جار في هذا العالم نفسه‬
‫وجودا ً خفيا‪ ،‬ولو أنهم فكروا لبصروا جحيمهم ههنا‪.‬‬

‫م هنا ثلث درجات‪ :‬علم اليقين‪ ،‬وعين اليقين‪ ،‬وحق اليقين‪ .‬ولكي يفهم عامة الناس‬ ‫وقد ق َّ‬
‫سم الله العل َ‬
‫هذه المراتب العلمية‪ ..‬أضرب ثلثة أمثلة‪ :‬إذا رأى النسان دخانا ً كثيفا ً عن بُعد‪ ،‬وانتقل ذهنه من الدخان‬
‫المتصاعد إلى النار المشتعلة‪ ،‬واستيقن وجودها هنالك قِياسا ً على ما يوجد بين الدخان والنار من تلزم‬
‫مى علم اليقين‪.‬‬ ‫تام وعلقة غير منفَكّة‪ ،‬إذ ل بد أن تكون النار حيث يوجد الدخان‪ ..‬فمث ُ‬
‫ل هذا العلم يس ّ‬
‫ن اليقين‪ .‬وإذا دخل بنفسه في النار كان علمه هذا حق‬
‫مى هذا العلم بالرؤية عي َ‬
‫س ّ‬
‫ب النار ُ‬
‫ثم إذا رأى له َ‬
‫اليقين‪.‬‬

‫م اليقين وهو في هذه‬


‫فالله تعالى يقول هنا‪ :‬إنه فيما يتعلق بالجحيم فإن النسان يستطيع أن يعلمها عل َ‬
‫س هذا العلم إلى درجة كاملة هي حق‬ ‫ن اليقين في عالم البرزخ‪ ،‬ثم يصل نف ُ‬
‫الدنيا‪ ،‬ثم إنه سيعلمها عي َ‬
‫اليقين في عالم حشر الجساد‪.‬‬

‫العوالم الثلثة‬
‫وليكن واضحا هنا أن القرآن الحميد يخبرنا بوجود ثلثة عوالم‪.‬‬
‫ن الخير أو الشر‪.‬‬
‫مى داَر الكسب والنشأة الولى‪ ،‬حيث يكتسب النسا ُ‬
‫العالم الول هو الدنيا التي تس ّ‬
‫صحيح أن للبرار في عالم البعث مجال ً للرقي‪ ،‬إل أن ذلك الرقي سيتيسر لهم بمحض فضل الله‪ ،‬ول‬
‫دخل فيه لكسب النسان أبدا‪.‬‬

‫عالم البرزخ‬
‫والعالم الثاني هو البرزخ‪ .‬وكلمة "البرزخ" في اللغة العربية تعني أصل ً الحاجز بين الشيئين‪ ،‬وقد س ِّ‬
‫مي‬
‫العالم الثاني بالبرزخ لوقوعه بين النشأة الولى وبين عالم البعث‪ .‬وهذه الكلمة تطلق على العالم‬
‫خلقت الدنيا‪ .‬لذلك فهذه الكلمة بذاتها تتضمن شهادة عظيمة على وجود‬
‫قدم‪ ،‬بل منذ أن ُ‬
‫الوسط منذ ال ِ‬
‫منَن الرحمن) أن الكلمات العربية هي كلمات الله التي فاضت‬
‫العالم المتوسط‪ .‬وقد أثبتنا في كتابنا ( ِ‬
‫من فم الله سبحانه وتعالى‪ ،‬وأن العربية هي اللغة الوحيدة في الدنيا التي هي لغة الله القدوس‪ ،‬وأنها‬
‫خر للوحي الرباني‪.‬‬
‫أقدم اللغات‪ ،‬ومنبع جميع العلوم‪ ،‬وأم اللسنة كلها‪ ،‬وأنها العرش الول والعرش ال ِ‬
‫م الله الذي لم يزل منذ القديم معه تعالى‪ ،‬ثم نزل‬
‫ش الول للوحي الرباني فلنها كانت كل َ‬ ‫أما كونها العر َ‬
‫ش الخير لوحي الله فلن كتاب الله‬‫هذا الكلم في الدنيا‪ ،‬واتخذ أهلها منه لغاتهم‪ .‬وأما كونُها العر َ‬
‫الخير‪ ..‬القرآن المجيد‪ ..‬نزل بالعربية‪.‬‬

‫خ"‪ ،‬ومعناها أنه قد انسد طريق كسب العمال وبات في‬ ‫فالبرزخ كلمة عربية‪ ،‬وهي مركَّبة من "بّر" و "ز ّ‬
‫حالة الخفاء‪ .‬والحالة البرزخية هي حالة ينح ّ‬
‫ل فيها هذا التركيب النساني الفاني‪ ،‬ويتم انفصال بين الروح‬
‫وهذا الجسد‪ .‬وكما نرى أن الجسم يُلقى في حفرة‪ ،‬كذلك الروح تقع في حالة تشبه الحفرة‪ ..‬كما تدل‬
‫على ذلك كلمة "زخ"‪ ..‬لن الروح وحدها ل تقدر على فعل الخير والشر الذي كانت قادرة عليه من قبل‬
‫وقتما كانت متصلة بالجسد‪ .‬والواضح أن صحة الروح تتوقف على صحة البدن‪ ،‬فبإصابة واحدة في جزء‬
‫معين من أجزاء الدماغ تزول الذاكرة‪ ،‬وبإصابة أخرى في جزء آخر منه تزول القوة الفكرية ويتلشى‬
‫الوعي والحواس‪ .‬ولئن أصيب الدماغ بنوع من التشنج أو الورم‪ ،‬أو حصل به انسداد الدم أو أية مادة‬
‫قدم لتدل‬
‫أخرى انسداد تاما أو جزئيا‪ ..‬فإنه يصاب فورا بالغماء أو الصرع‪ .‬فإن تجاربنا المتكررة منذ ال ِ‬
‫حنا عاطلة تماما بغير اتصالها بالجسم‪.‬‬
‫على أن رو َ‬
‫ل بد للروح من جسم‬
‫إذن فإنه لزعم باطل تماما أن نقول بأن الروح ‪ -‬مجردةً عن الجسم ‪ -‬ستحظى بالسعادة يوما ً ما‪ .‬يمكن‬
‫أن نقبل هذا الزعم كخرافة‪ ..‬إل أنه ل يؤيده برهان معقول‪ .‬إننا ل نستطيع أن نتصور مطلقا ً كيف تبقى‬
‫حرمت تماما ً من علقات جسمانية‪ ..‬مع أنها ‪ -‬على ما نعلم عنها ‪ -‬تتعطل‬
‫الروح على حالتها الكاملة إذا ُ‬
‫ة اليومية أن صحة الجسم ضرورية‬
‫عند كل خلل ولو بسيط يطرأ على الجسد‪ .‬أفل توضح لنا التجرب ُ‬
‫لصحة الروح؟ عندما يصبح النسان شيخا فانيا‪ ..‬تشيخ روحه أيضا وتهرم‪ ..‬ويختلس سارقُ الشيخوخة‬
‫ة علمه‪ ..‬كما يقول الله تعالى‪{ :‬لكيل يعلم من بعد علم شيئا} (الحج‪ ..)6 :‬أي عندما يصير‬
‫منه بضاع َ‬
‫ما يبدو ‪ -‬رغم دراسته وقراءته ‪ -‬كأنه صار جاهل‪.‬‬
‫النسان شيخا هرِ ً‬

‫لذلك فمشاهدتنا تشكل دليل قاطعا على أن الروح ل شيء بدون الجسم‪ .‬ثم إنه لما يهدي النسان إلى‬
‫الحقيقة أيضا أنه لو كانت الروح تستطيع القيام بذاتها مستقلة عن الجسم‪ ..‬فلماذا ربطها الله ‪ -‬عبثا‬
‫ودونما سبب ‪ -‬بالجسم الفاني‪ .‬كما إنه جدير بالعتبار أن الله خلق البشر لرقي غير محدود‪ ،‬فما دام‬
‫النسان ل يستطيع أن يحرز بغير معونة الجسم رقيًّا في هذه الحياة القصيرة‪ ..‬فكيف يتصور أنه‬
‫سيتمكن من إحراز تلك الترقيات التي ل نهاية لها بغير مرافقة الجسم؟‬

‫إذن فإن هذه الدلة كلها تبين ‪ -‬وفقًا للتعليم السلمي ‪ -‬أنه ل بد ّ للروح من مصاحبة جسم على الدوام‬
‫لداء واجباتها حق الداء‪ .‬صحيح أن هذا الجسم الفاني يفارق الروح عند الموت‪ ..‬ولكنها في عالم البرزخ‬
‫تُعَوَّ ُ‬
‫ض عنه بجسم آخر‪ ..‬لتذوق به جزا َء أعمالها إلى حدِّ ما‪ .‬ول يكون ذلك الجسم من نوع هذه‬
‫الجسام‪ ..‬وإنما يتكون من ظلمةٍ أو من نورٍ‪ ،‬بحسب نوعية أعمال النسان في هذه الدنيا‪ ،‬وكأن أعمال‬
‫النسان هي التي تقوم مقام الجسام في ذلك العالم‪ .‬هكذا جاء في كلم الله مرارا ً وتكرارا ً حيث اعتبر‬
‫بعض هذه الجسام نورانية وبعضها ظلماتية‪ ،‬تكتسب نورها أو ظلمتها من العمال‪.‬‬

‫ن كان في غاية العمق‪ ،‬إل أنه ليس مما يرفضه العقل‪ .‬فيمكن للنسان الكامل أن ينال‬ ‫إ َّ‬
‫ن هذا السر‪ ،‬وإ ْ‬
‫في نفس هذه الحياة كيانا ً نورانيًا غيَر هذا الكيان الجسماني‪ .‬وفي عالم الكشوف أمثلة كثيرة من هذا‬
‫القبيل‪ .‬إنه من الصعب إيضاح هذا المر لذي عقل محدود؛ ولكن الذي نال نصيبا من عالم الكشف لن‬
‫ب‪ ،‬بل سوف يجد فيه متعة ولذة‪.‬‬ ‫ينظر إلى حقيقةِ تكوُّ ِ‬
‫ن جسم ٍ من العمال نظرة َ استبعاد ٍ وعج ٍ‬
‫تجربة ذاتية‬
‫وملخص القول‪ :‬إن ذلك الجسم الذي يتكوّن بحسب نوعية أعمال النسان‪ ..‬هو الذي يصير في عالم‬
‫البرزخ واسطة لمجازاة الصالح والفاجر‪ ،‬وإني لصاحب تجربة في هذا المر‪ .‬لقد حصل لي مرارا ً ‪ -‬في‬
‫ت بعض الموتى كشفًا‪ ،‬ومنهم بعض الفاسقين والضالين‪ ..‬فرأيت أن أبدانهم كانت‬
‫حالة اليقظة أن لقي ُ‬
‫مسوَدَّة وكأنها خلقت من الدخان‪ .‬والخلصة أن لي معرفة شخصية بهذا الطريق‪ .‬وأقول بكل قوة ووثوق‬ ‫ُ‬
‫أن كل واحد يُعطى بعد الموت ‪ -‬يقينا كما قال الله ‪ -‬جسما نورانيًا أو ظلماتيًا‪.‬‬

‫ت هذه المعارف الدقيقة للغاية بالعقل المجرد‪ .‬فيجب أن نعرف أنه‬ ‫ومن الخطأ أن يحاول النسان إثبا َ‬
‫كما ل يمكن للعين أن تخبر عن مذاق الشياء الحلوة‪ ،‬ول يمكن للسان أن يرى الشياءَ‪ ..‬كذلك تماما ل‬
‫صل إل بالمكاشفات القدسية‪ .‬إن الله‬ ‫يمكن للعقل وحدة أن يح َّ‬
‫ل عقدة َ تلك العلوم الخروية‪ ..‬التي ل تح َّ‬
‫مسوا كل شيء بوسيلته الخاصة‬ ‫تعالى قد جعل في هذه الدنيا وسائل مختلفة لمعرفة المجهول‪ ،‬فالت ِ‬
‫تجدوه‪.‬‬

‫مى في كلمه الفُ َّ‬


‫جاَر الغواة َ باسم الموتى‪ ،‬ووصف البرار‬ ‫ومما هو جدير بالذكر أيضا أن الله تعالى قد س ّ‬
‫ب الحياة بالنسبة‬
‫بأنهم أحياء‪ .‬والسر في ذلك هو أن الذين يموتون غافلين عن الله تعالى‪ ..‬تكون أسبا ُ‬
‫ل وشرب قد انقطعت عند الموت‪ ،‬ول يكون لهم نصيب من الغذاء الروحاني‪ ،‬فهم قد ماتوا‬ ‫لهم من أك ٍ‬
‫في الحقيقة‪ ،‬ول يعودون للحياة إل ليذوقوا العذاب‪ .‬وإلى هذا السر أشار الله في قوله‪{ :‬إنه من يأتي‬
‫ربه مجرما فإن له جهنم ل يموت فيها ول يحيا} (طه‪ ،)75 :‬وأما الذين يحبون الله تعالى فهُم ل يموتون‬
‫بهذا الموت‪ ،‬لن معهم خبزهم وماءهم‪.‬‬

‫عالم البعث‬
‫ل روح جسما ً محسوسا ً بيناً‪ ،‬صالحة كانت تلك‬‫مى عالم البعث‪ ،‬تتلقى فيه ك ُّ‬
‫ثم بعد البرزخ يأتي زمن يس ّ‬
‫ل إنسان‬‫ُ‬ ‫الروح أم طالحة‪ .‬وقد قُدِّر يوم ذلك المحشر للتجليات الربانية الكاملة‪ ،‬التي بفضلها يعرف ك ّ‬
‫رب َّه حق العرفان‪ ،‬ويبلغ ك ُّ‬
‫ل واحد عندئذ الذروة َ من جزائه‪.‬‬

‫ويجب أل يستغرب أحد كيف يستطيع الله فِعل ذلك! إنه سبحانه القدرة كلها‪ ،‬ويفعل ما يريد‪ ،‬كما يقول‬
‫سبحانه‪:‬‬
‫(يس‪)84-78 :‬‬

‫أي ألم ير النسان أننا خلقناه من قطرة ماء تُلقى في الرحم‪ ،‬ثم صار شخصا كثير الخصومة‪ ،‬وبدأ‬
‫خلق هو‪ ،‬وبدأ يقول‪ :‬كيف يمكن أن يحيا النسان مرة أخرى بعد‬ ‫يتحدث عنا بأنواع الحديث‪ ،‬ونسي كيف ُ‬
‫أن تصير هذه العظام بالية؟ من ذا الذي يملك القدرة على إحيائه؟ قل لهم‪ :‬سوف يحييه الذي خلقه في‬
‫المرة الولى‪ ،‬فهو يعلم كيف يحيي وبأي طريقة يحيي‪ ....‬إنما أمره أنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له "كُن"‬
‫فيتكون هذا الشيء إنه منزه عن كل عيب‪ ..‬ذلك الذي له الملك على كل شيء‪ ،‬والكل سوف يُرجعون‬
‫إليه‪.‬‬

‫فالله جل شأنه قد صرح في هذه اليات أن ل شيء مستحيل عنده‪ ،‬فالذي خلق النسان من قطرة‬
‫حقيرة‪ ..‬هل يعجز عن بعثه مرة ثانية؟‬

‫إزالة سوء فهم‬


‫ربما يقول الذين ل يعلمون أنه ما دام ثالث العوالم‪ ..‬أي عالم البعث‪ ..‬سوف يأتي بعد زمن طويل‪..‬‬
‫فصار عالم البرزخ إذن بمثابة سجن يُعتقل فيه الصالح والفاسق طوال تلك المدة‪ ..‬المر الذي يبدو‬
‫محض عبث‪.‬‬

‫فالجواب أن مثل هذه الفكرة خطأ تماماً‪ ،‬ومنشؤها الجهل المطلق! إن كتاب الله يذكر مقامين لجزاء‬
‫البار والفاجر‪ ،‬أحدهما عالم البرزخ الذي يلقي فيه ك ُّ‬
‫ل إنسان جزاءه لقاء مخفيًّا‪ ..‬فإن الشرار يدخلون‬
‫معًا بعد الموت في الجحيم‪ ،‬وإن الخيار كذلك بعد الموت مباشرة ينالون الراحة في الجنَّة‪ .‬وهناك في‬
‫القرآن المجيد آيات كثيرة تبين أن كل إنسان يرى بعد الموت مباشرة ً جزاءَ أعماله‪ .‬فمثل يخبرنا الله‬
‫عن رجل من أهل الجنة بقوله‪{ :‬قيل ادخل الجنة} (يس‪ ،)27 :‬ويحكي سبحانه عن رجل آخر من أصحاب‬
‫النار بقوله‪{ :‬فرآه في سواء الجحيم} (الصافات‪ ..)56 :‬أي أنه كان لرجل من أصحاب الجنة زميل‪ ،‬فلما‬
‫ماتا افتقد صاحب الجنة زميله‪ ،‬فكشف الله له عنه فوجده في قعر جهنم‪.‬‬

‫إذن فعملية الجزاء والعقاب تبدأ فورا ً بعد الموت‪ ،‬ويدخل أصحاب النارِ النار‪ ..‬وأصحاب الجنةِ الجن َ‬
‫ة‪.‬‬
‫ل أعظم‪ .‬إن الله عز وجل خلق‬ ‫ولكن هنالك بعده يوما ً آخر‪ ..‬اقتضت حكمة الله البالغة ان يظهر فيه بتج ٍّ‬
‫النسان ليعرفه بخالقيته‪ ،‬ثم إنه سوف يهلكهم أجمعين ليعرفوه بقهاريته‪ ،‬ثم يحييهم حياة كاملة‬
‫ويحشرهم في ميدان واحد ليعرفوه سبحانه بقدرته الكاملة‪ .‬هذه هي المعرفة الولى من المعارف‬
‫الثلث المشار إليها سابقاً‪.‬‬

‫المعرفة الثانية‬
‫وأما المعرفة الثانية‪ ..‬التي ذكرها القرآن الكريم تبيانًا لعالم المعاد‪ ..‬فهي أن جميع المور الروحانية في‬
‫سمة‪ ،‬سواء أكان عالم المعاد في طور البرزخ أم في طور‬ ‫الحياة الدنيا ستتمثل في عالم المعاد مج َّ‬
‫البعث والنشور‪ .‬ومما قال الله في هذا الصدد‪{ :‬ومن كان في هذه أعمى فهو في الخرة أعمى وأضل‬
‫سبيل} (السراء‪ ..)73 :‬والمراد أن العماية الروحانية التي يصاب بها أحد في الدنيا‪ ..‬تتجسم في عالم‬
‫المعاد محسوسة مشهودة‪.‬‬

‫كذلك يقول سبحانه وتعالى في آية أخرى‪:‬‬

‫(الحاقة‪)33-31 :‬‬

‫أي خذوا هذا الجهنمي‪ ،‬وضعوا الغُ َّ‬


‫ل في عنقه‪ ،‬ثم أحرقوه في الجحيم‪ ،‬ثم صفِّدوه في إحدى السلسل‬
‫التي طولها سبعون ذراعا‪.‬‬

‫فاليات تبين أن عذاب الدنيا الروحاني سوف يتجسد في عالم المعاد‪ .‬فطوْقُ الشهوات الدنيوية الذي‬
‫ل الشواغل‬‫ل يُطَوِّق العنق؛ وسلس ُ‬
‫كان قد أخضع رأس النسان إلى الرض سوف يتراءى في صورة غ ُ ٍّ‬
‫ً‬
‫الدنية ستظهر في صورة أصفاد تقيد الرجل‪ ،‬ولوعات الماني المادية سوف تُرى يومئذ نارا ملتهبة‬
‫ظاهرة‪.‬‬
‫إن النسان الفاسق في الحياة الدنيا ليحمل في داخله جحيما ً من الشهوات والهواء‪ ،‬ويشعر بحرقة هذه‬
‫الجحيم عند الخيبة والخسران؛ ولذلك فإنه عندما يُقذف بعيدًا عن شهواته الفانية‪ ،‬ويغشاه القنوط‬
‫سمة‪ ،‬كما يقول سبحانه وتعالى‪{ :‬وحيل‬ ‫ج ّ‬
‫البدي‪ ..‬سوف يكشف الله له تلك الحسرات في صورة نار م َ‬
‫بينهم وبين ما يشتهون} (سبأ‪ ..)55 :‬أي سوف يوضع حاجز بينهم وبين شهواتهم‪ ،‬وهذه الحيلولة هي‬
‫نفسها أصل عذابهم‪.‬‬

‫وأما قوله تعالى‪{ :‬ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه} (الحاقة‪ ..)33 :‬فهو إشارة إلى أن‬
‫مر سبعين سنة‪ ،‬بل كثيرا ما يُرزق عمرا أطول من ذلك للعيش في هذه‬ ‫الفاسق في أحيان كثيرة يع َّ‬
‫الدنيا‪ ،‬بحيث يتاح له ‪ -‬باستثناء أيام الصبا والهرم ‪ -‬سبعون عاما من حياة خالصة صافية‪ ،‬يستطيع أن‬
‫ل بحزم‪ ،‬ولكن ذلك الشقي يضيع هذه السنين من حياته الثمينة في النهماك في‬ ‫يقضيها في جدٍّ وعم ٍ‬
‫مشاغل الدنيا‪ ..‬ول يريد أن يتحرر من قيودها‪ .‬لذلك يقول الله تعالى أن السنين السبعين التي قضاها‬
‫في قيود الشهوات الدنيوية‪ ..‬سوف تتمثل يوم المعاد في شكل سلسلة طولها سبعون ذراعاً‪ ،‬كل ذراع‬
‫سني حياته‪.‬‬
‫سنة من ِ‬ ‫بإزاء َ‬
‫ظل ذو ثلثة فروع‬
‫ب من عنده على النسان أيَّ مصيبة‪ ..‬وإنما يعرض عليه ما‬ ‫ويجب أن نتذكر هنا أن الله تعالى ل يص ّ‬
‫سنة نفسها يقول الله في موضع آخر‪{ :‬انطلقوا إلى ظل‬ ‫ُ‬ ‫سه من السيئات‪ ..‬وتبيانا لهذه ال ّ‬
‫ارتكب هو نف ُ‬
‫ذي ثلث شعب * ل ظليل ول يغني من اللهب} (المرسلت‪ ..)32-31 :‬أي أيها الفجار الغواة امشوا إلى‬
‫ظل ذي ثلثة فروع‪ ،‬ل يهييء لكم ظل ًّ ول يحميكم من الحر‪.‬‬

‫والمقصود بالفروع الثلثة هنا هو القسام الثلثة من قوى النفس‪ :‬وهي القوى السبعية‪ ،‬والقوى البهيمية‪،‬‬
‫والقوى الواهمة‪ .‬فالذين ل يُعدِّلون هذه القوى‪ ،‬ول يصبغونها بالصبغة الخلقية‪ ..‬يبرزها الله لهم يوم‬
‫القيامة وكأنها ثلثة فروع قائمة بل ورق‪ ..‬ل تحمي من الحر‪ ،‬ومن ثم سوف يحترقون منه‪.‬‬

‫سن َّة اللهية المذكورة‪{ :‬يوم ترى‬


‫وكذلك يقول الله سبحانه وتعالى في أصحاب الجنة ‪ -‬إظهاًرا لل ُ‬
‫المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} (آل عمران‪ ..)107 :‬أي يومئذ سوف تصبح بعض‬
‫الوجوه سودا َء بعضها بيضاءَ نورانية‪.‬‬

‫ويقول في مكان آخر‪{ :‬مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم‬
‫يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} (محمد‪ ..)16 :‬أي أن مثال الجنة‬
‫ن ل يتغير طعمه أبدا‪ ،‬ومن‬ ‫التي ستوهب للمتقين كمثال بستان فيه أنهار من ماءٍ ل يتعفن أبدا‪ ،‬ومن لب ٍ‬
‫ف للغاية ل كثافة فيه‪.‬‬‫ل صا ٍ‬
‫سكر‪ ،‬ومن عس ٍ‬ ‫خمرٍ تجلب المتعة واللذة بدون أن تصيب شاربها بال ُّ‬
‫عم الجنة‬
‫وصف تمثيلي لن ِ َ‬
‫لقد بي َّن الله هنا بصراحة أن الجنة يمكن أن تفهموها ‪ -‬على سبيل التمثيل ‪ -‬أن فيها أنهاًرا ل حد لها من‬
‫تلك النعم‪ .‬ففيها أنهاٌر ظاهرة من ماء الحياة الروحاني الذي كان العارف يشربه في الدنيا شربا ً روحانيًا؛‬
‫وأنهار ظاهرة من اللبن الروحاني الذي كان يتغذى به كالطفل الرضيع في الدنيا غذاء روحانيا؛ وأنهاٌر من‬
‫رأي‬
‫َ‬ ‫ة أمامه‬ ‫خمر المحبة اللهية التي كان بسببها في نشوة روحانية دائمة في الدنيا‪ ..‬يراها يومئذ ماثل ً‬
‫العين؛ وأنهاٌر ظاهرة محسوسة من عسل الحلوة اليمانية الذي كان يدخل في فمه بصورة روحانية في‬
‫الدنيا‪ .‬وسوف يكتشف كل واحد من أهل الجنة مستوى حالته الروحانية عن طريق أنهاره وبساتينه‪.‬‬
‫وأيضا سوف يَبرز الله تعالى لهل الجنة من وراء الحجب‪.‬‬

‫فالخلصة أنه لن تبقى الحالت الروحانية عندئذ على ما هي عليه اليوم من الخفاء‪ ،‬وسوف تظهر أشكالً‬
‫مجسمة‪.‬‬

‫المعرفة الثالثة‬
‫والمعرفة الثالثة هي أن سلسلة الرتقاء في عالم المعاد بدون نهاية‪ ،‬يقول الله تعالى‪:‬‬

‫(التحريم‪)9 :‬‬

‫فقوله عن الذين آمنوا أنهم لن ينفكوا يدعون ربهم أن يتم لهم نورهم‪ ..‬إنما هو إشارة إلى ترقيات غير‬
‫ة أخرى منه‪ ،‬فيرون كمالهم‬‫ة من درجات النور‪ ..‬تراءت لهم درج ٌ‬‫متناهية‪ ،‬بمعنى أنهم كلما استكملوا درج ً‬
‫صا بالنسبة إلى الكمال الثاني‪ ..‬فيلتمسون من الله إحراَز تلك الدرجة‪ ،‬فإذا أحرزوها‪ ..‬تراءت‬
‫الحاصل نق ً‬
‫لهم درجة ثالثة منه‪ ،‬فيعتبرون الكمالت الولى ناقصة‪ ،‬ويطمعون في هذه الخيرة‪ .‬إن هذا النزوع‬
‫م"‪.‬‬
‫م ْ‬
‫المستمر للرقي يعبر عنه قولهم‪" :‬أت ِ‬

‫إذن فهكذا سوف تستمر حلقات من سلسلة غير متناهية من الرتقاء‪ ،‬ولن يصيبهم النحطاط أبدا‪ ،‬كما‬
‫أنهم لن يخَرجوا من جنتهم‪ ،‬بل سيقدمون يوما فيوما ول يتراجعون‪.‬‬

‫وأما قولهم "واغفرنا" فينشأ عنه سؤال‪ :‬ما داموا قد دخلوا الجنة‪ ..‬فهل لم يغفرِ الله لهم؟ وما داموا قد‬
‫ستر الحالت‬ ‫غُفر لهم‪ ..‬فما الحاجة إلى الستغفار بعد ذلك؟ فالجواب أن المغفرة معناها في الصل َ‬
‫الناقصة غير الملئمة‪ ..‬وتغطيتها‪ .‬فالمراد أن أصحاب الجنَّة سيطمعون أن ينالوا الكمال التام‪ ،‬وأن‬
‫ة عند رؤيتهم الدرجة التالية من‬ ‫ة في النور‪ .‬إنهم باستمرار يجدون حالتهم الولى ناقص ً‬ ‫يغرقوا كلّي ً‬
‫الكمال‪ ،‬فيودون تغطية حالتهم الولى‪ .‬ثم إذا رأوا درجة الكمال الثالثة تمنّوا تغطية حالتهم الثانية‪ ..‬أي‬
‫أن تُستر حالتهم الناقصة تلك وتُخفى‪ .‬وهكذا سوف يظل أصحاب الجنَّة يتمنون المغفرة غير المتناهية‬
‫بعد كل مرحلة‪.‬‬

‫إن كلمة الستغفار أو الغفران هي نفس الكلمة التي يطعن بها بعض الجاهلين في نبينا (‪ .‬ولعلكم ‪ -‬أيها‬
‫المستمعون الكرام ‪ -‬قد أدركتم مما سلف أن الرغبة في الستغفار إنما هي مفخرة للنسان‪ .‬فمن كان‬
‫مولودًا من بطن امرأة‪ ..‬ومع ذلك ل يتخذ الستغفاَر ديْدنًا في كل حال‪ ..‬فهو دودة وليس إنسانا‪ ،‬وأعمى‬
‫س غير طيب‪.‬‬‫وليس بصيرا‪ ،‬ونج ٌ‬

‫فخلصة القول إن الجنة والجحيم‪ ،‬بحسب تعليم القرآن الكريم‪ ،‬ليستا شيئًا ماديًّا جديدًا يأتي من‬
‫الخارج‪ ..‬وإنما هما في الحقيقة آثار الحياة البشرية وظللُها‪ .‬إنه لحق أن كل واحدة منهما ستتمثل عندئذ‬
‫مجسمة‪ ..‬ولكنها ل تكون في الحقيقة إل آثار الحالت الروحانية وأظللها‪ .‬إننا ل نؤمن بجنة هي عبارة‬
‫سا ظاهريًّا‪ ،‬ول نؤمن بجحيم فيها أحجار من كبريت مادي‪ ،‬بل الجنة والجحيم ‪-‬‬ ‫عن أشجار مغروسة غر ً‬
‫طبقًا للعقيدة السلمية ‪ -‬إنما هما انعكاسات للعمال التي يعملها النسان في الحياة الدنيا‬

You might also like