Professional Documents
Culture Documents
السلمي
في الشمال الفريقي
6
وأفكار العلمانيين الذين يسعون لقلب الحقائق التاريخيّة من أجل
خدمة أهدافهم.
أما خطة الكتاب :فقد قمت بتقسيمه إلى خمسة فصول:
الفصل الول :بناء دولة المرابطين ويشتمل على ستة مباحث:
المبحث الول :الجذور التاريخية للمرابطين.
المبحث الثاني :المير يحيى بن إبراهيم.
المبحث الثالث :أبو عمران الفاسي.
عيم الدينى عبد الله بن ياسين. المبحث الرابع :الَّز ِ
المبحث الخامس :المراحل التى مر بها ابن ياسين لبناء الدولة.
المبحث السادس :مرحلة التَّمكين.
الفصل الثانِي :المرابطون ودفاعاتهم عن مسلمى الَنْدَلُس.
ويشتمل على تسعة مباحث:
المبحث الول :الصراع بين طُلَيْطِلَة وقُْرطُبَة.
َ
سلِمين فى النْدَلُس. م ْالمبحث الثاني :أسباب ضعف ال ُ
المبحث الثالث :العالم زمن ظهور دولة المرابطين.
مع المرابطين. جت َ َ
م ْالمبحث الرابع :أثَُر الحكم بما أنزل الله على ُ
المبحث الخامس :الَنْدَلُس بعد الزلقة.
المبحث السادس :الفتاوى فى جواز ضم الَنْدَلُس.
المبحث السابع :العبور الثالث للمير يوسف بن تاشفين.
المبحث الثامن :الجواز الرابع.
المبحث التَّاسع :آثار البتعاد عن تحكيم شرع الله.
الفصل الثالِث :السياسة الدَّاخليَّة والخارِجيَّة فى دولة
المرابطين.
ويشتمل على ستة مباحث:
المبحث الول :حقوق الرعية الذين يعيشون فى الدولة.
المبحث الثاني :موقف الرعية فى دولة المرابطين.
المبحث الثالث :موقف المرابطين من الخلفة العباسية.
المبحث الرابع :علقة المير يوسف مع بنى حماد.
المبحث الخامس :علقة المرابطين مع ملوك الطوائف.
المبحث السادس :علقة المرابطين مع السبان النصارى.
الفصل الرابع :سياسة المرابطين فى دولتهم المجيدة.
ويشتمل على خمسة مباحث:
المبحث الول :نظام الحكم والدارة.
7
المبحث الثاني :النظام القضائي.
المبحث الثالث :النظام العسكري.
المبحث الرابع :النظام المالي.
الفصل الخامس :أهم أعمال دولة المرابطين الحضارية.
ويشتمل على سبعة مباحث:
المبحث الول :الثار المعمارية فى المغرب والَنْدَلُس.
ميَّة فى دولة المرابطين. المبحث الثاني :الحياة الدبية والعِل ِ
المبحث الثالث :من مشاهير علماء دولة المرابطين.
المبحث الرابع :علوم اللغة فى زمن المرابطين.
المبحث الخامس :علوم التَّارِيخ والجغرافيا.
المبحث السادس :علوم الطب فى عصر المرابطين.
المبحث السابع :أسباب السقوط.
ثم نتائج البحث.
صا لوجهه وأخيًرا ,أرجو من الله تعالى أن يكون عمل ً خال ً
ف كتبتُه ,ويجعله فى ميزان ل حر ٍالكريم وأن يُثيبَنى على ك ِّ
منب إخوانى الذين أعانونى بكل ما يملكون ِ حسناتي ،وأن يثي َ
ل إتمام ِ هذا الكتاب ،سبحانك اللهم وبحمدك ,أشهد ُ أن ل إله إل أج ِ
ب
ِّ ر لله ُ د الحم أن دعوانا ر
ُ وآخ إليك، وأتوب أستغفرك أنت،
العالمين.
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته
ورحمته ورضوانه
على محمدـ محمد الصلبـى
الخوة الكرام ,يسرني أن تصل ملحظاتكم وانطباعاتكم حول
هذا الكتاب وغيره من كتبي من خلل دور النشر ,وأطلب من
إخواني الدعاء بظهر الغيب بالخلص لله رب العالمين ،والصواب
للوصول للحقائق ومواصلة المسيرة في خدمة تاريخ أمتنا.
البريد اللكتروني
E- Mail: abumohamed2@maktoob.com
8
الفصل الول
بناء دولة المرابطين
المبحث الول
الجذور التاريخية للمرابطين
تمهيد :
ل صنهاجة أقوى قبائل البربر وأشدها وأمنعها, تعتبر قبائ ُ
مال َ
ش َ واشتهرت بقُوَّة شكيمتها ,وكثرة رجالها الذين ملوا ال ّ
صا من المغرب الوسط الفريقى وسكنوا جباله ،وسهوله وخصو ً
إلى المغرب القصى.
تض المؤرخين قبائل صنهاجة مثلت شعبًا انضو ْ واعتبَر بع ُ
من أهم هذه القبائل تحت لوائه أكثر من سبعين قبيلة بربرية ،و ِ
وأشهرها لمتونة ،وجدالة ،ولمطة ،ومسوفة ،وهى التى تكوَّنت
سنيَّة .وبعض المؤرخين يجعل القبائل منها دولة المرابطين ال ُّ
َ
الصنهاجية لها أصل من حمير بن سبأ أى :إن أصلهم يمانيِّون.
والبعض الخر يذهب إلى أنهم برابرة ل علقة لهم بالعرب(.)1
-1تسمية الملثمين:
ملَثَّمين ،وأصبحت القبائل الصنهاجية فى التَّارِيخ باسم ال ُ اشتهر ْ
موا بالمرابطين ،ويرى بعض َ اللثام شعاًرا عُرفوا به إلى أن تس ّ
ملَثَّمين ينتسبون إلى قبيلة لمتونة إحدى بطون المؤرخين إن ال ُ
صنهاجة ,وكانت لمتونة تتولى رئاسة سائر قبائل مسوفة،
ومسراته ،ومداسة ,وجدالة ،ولمطة ،وغيرها ،ثم آلت الرئاسة إلى
قبيلة جدالة على عهد المير يحيى بن إبراهيم الجدالي(.)2
صا بقبيلةملَثَّمين فى بدايته كان خا ًّ ويبدو أن إطلق اسم ال ُ
لمتونة ثم توسع وأصبح شعاًرا لكل من حالف لمتونة ودخل تحت
اسم سيادتها.
-2سبب تسميتهم:
وأَّما سبب تسميتهم فقد وردت أقوال كثيرة فى سبب تسميتهم
ميَر كانوا يتلثمون لشدة الحّرِ ،ويذهب
ح ْ
بذلك ،منها :إن أجدادهم ِمن ِ
)(1انظر :دولة المرابطين فى المغرب والندلس ،د .سعدون عباس ص (.)13-12
)(2انظر :تاريخ المغرب والندلس فى عصر المرابطين ،د .حمدي عبد المنعم ،ص (
.)27
9
ن إن أصل قبائل صنهاجة يرجع إلى الهجرات إلى هذا الرأى َمن ظ َّ
القديمة من المشرق لسباب متعددة ،منها اقتصادية ,وسياسية.
ومنها :أنَّهم آمنوا بالرسول × وكانوا قلة فاضطُّروا للهرب لما
َ
موا بقصد التمويه ،وقيل :إن طائفة منهم غلبهم أهل الكفر فتلث ّ ُ
منأغارت على عدو لهم فخالفهم إلى مواطنهم وهى خالية إل ِ
س النساء والطفال والشيوخ ،فأمر الشيو ُ
خ النساءَ بأن يرتدين لبا َ
َ
ن ،ففر العداء وهكذا اتخذوا اللثام سنة يلزمونه الحرب ويتلث ّ َ
م َ
وارتقى عندهم إلى مستوى رفيع فى حياتهم وأعرافهم ومما قيل
فى اللثام:
م
وإن انتموا صنهاجة فه ُ قَوم لهم درك العل فى
م
ه ُ حمير
()1
فتلثَّموا حَراَز ك ُ ّ
لَ حوَوْا إ ْ
لما َ
فضيلة
-3موطن الملثمين:
ملَثَّمون الصحراء الكبرى الممتدة من غدامس شرقًا سكن ال ُ
من جبال درن شمال ً إلى أواسط
ِ و ا،ً غرب الطلسى إلى المحيط
الصحراء الكبرى جنوبًا.
ولم تكن هذه الماكن والمواطن تجرى بها أنهار دائمة ,وكانت
س عنها المطار لسنوات عديدة؛ قليلة المطار وأحيانًا تُحب َ ُ
فيتعرض سكانها للمجاعة فيرتحلون لطلب الماء والكل ،فتفرقوا
حول الواحات الصغيرة فى تلك الصحارى الممتدة الطراف،
وكوَّنوا قرى بدائية تتماشى مع ظروف حياتهم الرعوية(.)2
-4حياتُهم القتصادية:
ملَثَّمون حول الواحات بحثًا عن المياه وعملوا فى
توَّزع ال ُ
صة زراعة الشعير الذى ينبت فى الرض الفقيرة الزراعة وخا َّ
ويكفيه قليل من الماء ،وقد ازدهرت زراعته فى منطقة أزكى
التى تسكنها قبيلة لمتونة.
من أهم أشجارهم ،وكانت مدينة سجلماسة من وكان النخي ُ
ل ِ
َ
ملثمون من ّ َ أهم واحات الصحراء عمرانًا بشجر النخيل ,واستفاد ال ُ
ظل أشجار النخيل؛ فزرعوا البطيخ والقرع والكوسى والقثاء،
وشهدت بعض الواحات زراعة الذرة ،وازدهرت فى واحة
سكَّر .وكانت وسيلة الزراعة سجلماسة زراعة القطن وقصب ال ُّ
فى تلك الواحات الصحراوية المحراث البدائى الذى تجُّره الجمال.
)(1انظر :وفيات العيان (ج .)7/130
)(2انظر :دولة المرابطين فى المغرب والندلس ،ص (.)13
10
وكانت تلك القبائل تهتم بتربية الحيوانات للحصول على قوتهم
موا بهاولكى يستعملوها فى تنقلتهم ،ومن أهم الحيوانات التى اهت َ ُّ
البل ،والتى كانوا يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويستفيدون من
أوبارها وجلودها لصناعة العباءات واللبسة والنعال وأسقف
البيوت الصغيرة.
موا بتربية البغال والحمير لستخدامها فى النقل وكذلك اهت َ ُّ
المحلي(.)1
بقر وغنم وماعز لستعمال ألبانها ٍ منموا بتربية المواشى ِ واهت َ ُّ
موا ُ ولحومها فى غذائهم ,وجلودها وأصوافها فى لباسهم ،واهت َ ّ
د
َ الصي بتربية النحل للحصول على العسل والشمع ,وقد مارسوا
وخاصة صيد البقر الوحشي.
وازدهرت الصناعات المحلية للكتفاء الذاتي ،وتطوَّرت فى
الكم والنوع الصناعات المنزلية ,وكذلك الدوات الحربية التى
ملَثَّمين وجيرانهم
ازدهرت بسبب الحروب المستمَّرة بين ال ُ
موا بصناعة السروج ولجم الخيل، الوثنيين من السودان وغانا ,واهت َ ُّ
وازدهرت الصناعات الغذائية فاستخرجوا الزيت من ثمر الفرتى
سرجوذلك بعصر قشره ،واستعملوه فى طهى الطعام وإنارة ال ُّ
ليلً ،وكانوا يمزجونه بالرمل ويطلون به أسطح المنازل فيخفف
من شدة الحر ،ويمنع تسُّرب الماء ،واشتهرت مدينة تارودانت
بصناعة قصب السكر ،والمنسوجات واللبسة من الصوف
والقطن والوبر ,وكانوا يصنعون من ثمار القرع أوانى يضعون فيها
الملح والبهارات.
ملَثَّمين؛ الملح ويكثر فى أوليل من أهم المعادن فى بلد ال ُ و ِ
وتفاري ،والخيرة تضم معظم مناجمه وهى على شكل ألواح
يُقط ِّعُهَا العبيد وتحملُها الجمال إلى بلد السودان وغانا ،وكان
من الذهب ،أما فى الحمل الواحد يُباع فى أيوالتن بعشرة مثاقيل ِ
مالى فكان يُباع بعشرين مثقالً ،وربما ارتفع إلى الثلثين .كان
للملح أهمية فى حياتهم القتصادية ،إذ كانوا يقطعونه قطعًا
صغيرة يقايضون به كالذهب والفضة ،وكان الفائض من إنتاجهم
الزراعى والصناعى يُصدَّر إلى خارج بلدهم(.)2
-5أهمية موقع الملثمين:
ملَثَّمين الممَّر الوحيد بين الَنْدَلُس وأواسط
كانت بلد ال ُ
إفريقية؛ فكانت تسلكه القوافل على ثلث طرق ،فالطريق الول
16
المبحث الثالث
أبو عمران الفاسي
مهندس الخطوط العريضة
لدولة المرابطين ( 3 6 8هـ 4 3 0 -هـ)
ذكر القاضى عياض فى «ترتيب المدارك وتقريب المسالك
لمعرفة أعلم مذهب مالك» ترجمة أبى عمران الفاسى فقال:
جومي، «هو موسى بن عيسى بن أبى حاج بن وليم بن الخير الغَفَ ُ
جوم فخذ من زناتة من هوارة ,وأصله من فاس ،وبيته بها بيت وغَفَ ُ
مشهور ،يعرفون ببنى أبى حاج ،ولهم عقب ،وفيهم نباهة إلى
الن»(.)1
-1شيوخه:
تفقَّه بالقيروان عند أبى الحسن القابسي ،وسمع بها من أبى
بكر الدويلي ،وعلى بن أحمد اللواتى السوسي ،ورحل إلى
قُْرطُبَة ،فتفقَّه بها عند أبى محمد الصيلي ،وسمع الحديث من أبى
عثمان سعيد بن نصر ،وعبد الوارث بن سفيان ،وأحمد بن قاسم،
وغيرهم ،ثم رحل إلى المشرق ،فحج ودخل العراق ،فسمع من
أبى الفتح ابن أبى الفوارس ،وأبى الحسن على بن إبراهيم
المستملي ،وأبى الحسن الخضر ،وغيرهم من العراقيين( ،)2ودرس
الصول على القاضى أبى بكر الباقلني ،وسمع بالحجاز من أبى
الحسن بن أبى فراس ،وأبى القاسم السقطي ،وبمصر من أبى
الحسن ابن أبى جدار ،وأحمد بن نور القاضي ،ثم رجع إلى
القيروان ،وسكنها ،وأصبح سيدها المطاع ،وأقبل عليه طلب العلم
من كل صوب ،وطارت فتاويه فى المشرق والمغرب ،واعتنى
النَّاس بقوله(.)3
-2أثره وتلميذه:
ابتدأ نشاطه العلمى سنة 402هـ ،حين عاد من المشرق ،فقد
ضا ،وسرعان ما عُرفجلس للطلبة فى المسجد ،وفى داره أي ً
قدره ،واشتهرت إمامته ،وطار ذكره فى الفاق ،وقد خلف المام
القابسى المتوفى سنة 403هـ ،فى نشر علوم السنة فى إفريقية
21
()1
سلِمين العظماء م ْ
فى عداد ال ُ
من أمثال وكم نحن محتاجون إلى شجاعة الدعاة إلى الله َ
الفقيه عبد الله بن ياسين لندك بها الباطل ،ونزِيل بها المنكرات
شبُهات الخادعة بالنورين كتاب الله وسنة الظاهرة ،وندمغَ ال ُّ
رسوله ×.
قال الشاعر:
نت الصفا ِ لك مهربًا وتلق ِ وإذا اضطررت إلى
الجدال ولم تجد
والشرعَ سيفك وابد فى فاجعل كتاب الله درعًا
الميدان سابغًا
واركب جواد العزم فى جنة ُ دونك البيضاء السنة و
الجولن
ق عُدةِ ُ أوث فالصبر واثبت بصبرك تحت ألوية
النسان الهدى
س الطعان ِ الفار ُ
ر ّ د لله ل
َ ّ ُ ك ق
ِّ الح برمح واطعن
()2
معاندٍ
متجردٍ لله غيرِ جبان صدْق واحمل بسيف ال ِّ
حملة مخلص
وكم نحن محتاجون للدعاة الذين يتوغلون فى مواطن القبائل
من جديد إلى التى ابتعدت عن إسلمها ودينها وإيمانها ,ليقودوها ِ
من النصارى ل ِ دعم حركة السلم المعاصرة التى استهدفها ك ٌّ
واليهود والملحدة الحاقدين.
صفَات التى ظهرت لى فى سيرة عبد الله -3المهابة :ومن ال ِّ
َ
بن ياسين أنه كان مهيبًا قويًا شديدًا ،فمن الدلة على قوّته البدنية،
خوضه الحروب بنفسه وتقدُّمه فى ميدان الفروسية بل جعل من
منهجه الذى ربى عليه أصحابه فى هذا الجانب قوله تعالى﴿ :وََأعِدّوا
خ ْيلِ ُترْهِبُو َن بِ ِه عَدُ ّو الِ َوعَدُ ّوكُمْ﴾ [النفال.]60 :
َلهُمْ مّا اسَْتطَعْتُم مّن قُوّ ٍة وَمِن رّبَاطِ اْل َ
سر الرسول × القُوَّة -فى هذه الية بالرمى بقوله« :أل إن وف َّ
ال ُقوّة الرمي»( ،)3والرمية إن لم تخرج من ساعد قوى ومتين فهى ل
ة لقت حظًا تُحقِّقُ الهدف المطلوب ،وفى السنة نجد القُوَّة البدني َّ َ
جع أصحابه على وافًرا ،فالرسول × هو أقوى القوياء ،وكان يُش ِّ
اكتساب هذه الصفة ،بل ُربَّما كان يباريهم ،ويصارعهم ،ويسابقهم،
وكما تحدثنا السيرة عن ذلك ،يروى مرة أنه تسابق × مع عائشة
)(1انظر :الصفات اللزمة للدعاة ،أحمد القطان ،جاسم المهلهل ،ص (.)20
)(2نونية أبي عبد الله القحطاني ،ص (.)39
)(3رواه مسلم رقم (.)910
22
رضى الله عنها فسبقها مَّرة ،ثم سبقته مَّرة ،وكذلك تحدثنا
السيرة عن مصارعته × لحد أصحابه فصرعه.
ومَّر × على صبيان يرمون بالسهام؛ فأخذ يرمى معهم
جاعَة والقُوَّة ،ويقول: ش َ ويشجعهم ويذكى فيهم روح البطولة وال َّ
«ارموا فإن أباكم إسماعيل كان راميًا»(.)1
وهذه الية والحاديث الفعلية كانت منهج عبد الله بن ياسين
وأصحابه ،ولذلك تظهر لنا صلبة وقُوَّة أتباعه فى ميادين القتال.
ن للقُوَّة عام يشمل كل أنوع القُوَّة ،قال ومفهوم القرآ ِ
السعدى – رحمه الله – فى تفسير قوله تعالى﴿ :مّا اسَْتطَ ْعتُم مّن ُقوّةٍ﴾
أي« :كل ما تقدرون عليه ،من القُوَّة العقلية ،والبدنية ،وأنواع
السلحة ,ونحو ذلك».
فدخل فى ذلك أنواع الصناعات التى تعمل فيها أصناف
السلحة واللت ،من المدافع والرشاشات والبنادق ،والطيارات
الجوية ،والمراكب البرية والبحرية ،وال ِقلع ،والخنادق ،وآلت
سلِمون ،ويندفع م ْالدفاع ،والرأى والسياسة ،التى بها يتقدم ال ُ
()2
جاعَة ،والتدبير» . ش َ عنهم بها شُر أعدائهم ،وتعلم الرمى وال َّ
ّ
لقد جمع عبد الله بن ياسين – رحمه الله -من القُوَّة الفكرية
أنواعًا متعددة؛ من قُوَّة الدراك ،وقُوَّة الصبر ،وقُوَّة العلم ،وقُوَّة
التلقي ،وغيرها من القوى.
ومن هنا يتضح لنا حاجة العاملين فى الحركة السلمية إلى
هاتين القُوَّتَيْن ،البدنية والعقلية وجميع أنواع القوى الفكرية
لتوظيفها فى الدعوة إلى الله(.)3
ولقد أشار القرآن الكريم إلى قيمة القُوَّة العقلية الفكرية
وإلى القُوَّة البدنية فى بنيان أمة مجاهدة تحفز للنهوض بعبء
النضال ،فى سبيل عقيدتها وحريتها ،وكان من صفات قائدها أن
ن عليه بهاتين القُوَّتَيْن البدنية والعقلية ،قال الله أعطاه وم َّ
سطَ ًة فِى اْل ِعلْمِ وَاْلجِسْمِ﴾ [البقرة .]247:فبسطة صطَفَا ُه َعلَ ْيكُمْ وَزَادَ ُه بَ ْ
لا ْتعالى﴿:إنّ ا َ
العلم إشارة إلى القُوَّة العقلية ،وبسطة الجسم إشارة إلى القُوَّة
البدنية ،قال الشيخ حسن البنا – رحمه الله – فى الصل الول من
الصول العشرين :إن القُوَّة تشمل قُوَّة النسان التى تجعله قويًا
فى نفسه وبدنه وعقله ،وعليه أن يباشر السباب التى تجعله قويًا،
ما قُوَّة بدنه فبالرياضة والفروسية ما قُوَّة نفسه فباليمان ،وأ َّ أ َّ
-2النظام والدقة:
وظهرت صفة النظام والدقة فى شخصية الفقيه ابن ياسين
عندما تكاثر عدد المريدين فى رباطه الذى اتخذه قريبًا من نهر
السنغال؛ حيث وضع شروطًا فى قبول كل جديد كى يحفظ صفو
ملَثَّمين نف ً
سا وأوفرهم خّرِبين ،فكان ينتقى أطهر ال ُ
م َ
جماعته من ال ُ
من توفرت فيه الشروط قُوَّة وأقدرهم على تحمل المشاق ،و َ
واجتاز التجربة بنجاح يتولى تعليمه وتثقيفه من قرآن وسنة
)(1المصدر السابق ,ص (.)73-72-71
)(2الصفات اللزمة للدعاة إلى الله ،ص (.)73
32
وتفسير وحديث وأحكام الدين(.)1
وأصبح رباطه قمة فى النظام والدقة ,واختار لدارته أحد
المراء ،وفى المور المهمة كان المر شورى بين الجماعة
السلمية المرابطة(.)3
حثَّنا على النظام فى كل شيء ،ومن إن ديننا السلمى َ
التطبيقات العملية على ذلك نأخذ مثال السفر ،حيث أمر السلم
الركب إذا كانوا ثلثة أن يؤمروا عليهم أميًرا ،حتى ل يختلفوا فى
صا أن السفر ,كما قال الرسول الطريق وتتبعثر جهودهم ،خصو ً
َ َ
ك أن ّها × ,قطعة من العذاب ،فعملية التنظيم واختيار المير ،ل ش ّ
عملية تريح المسافرين من أعباء كثيرة ،قال ׫ :إذا خرج ثلثة
فى سفر فليؤمروا أحدهم»( .)2فلبُد َّ إذا ً من تعويد النفس وضبطها
سلِم ل يتربى تربية منظمة ,إل إذا كان فى م ْ
على النظام ،فال ُ
جماعة منظمة ذات ارتباط ونظام ودقة فى كل شيء ,وفى كل
أمر ،كما أن هذه الجماعة لها هدف جماعي ،يتحقق بتعاون الفرد
وانصهاره فى بوتقة الطاعة والنظام(.)3
-3القدرة على التعامل مع الناس:
تميَّزت شخصية الفقيه ابن ياسين بمقدرته فى تعامله مع
أصناف النَّاس من أمراء وعوام وتجار وغيرهم من طبقات
مع الصنهاجي .كان -رحمه الله -رقيق الشعور ،ثائر جت َ َ
م ْ
ال ُ
العاطفة ،يقظ القلب ،بعيد المال ،كبير المطامح فى الصلح،
وكان كل همه أن ينتفع النَّاس بعلمه ودعوته ،ولذلك اختلط
بالنَّاس ودرس أخلقهم وطبيعتهم عن كثب ،وكان فى خطابه
لِلنَّاس متحليًا بمكارم الخلق بعيدًا عن التجريح والساءة.
جا فى أسلوبه ودعوته متمثل ً بقول الله واتخذ من القرآن منه ً
ح ْكمَةِ وَاْلمَ ْو ِع َظةِ اْلحَسَنَةِ َوجَادِْلهُمْ بِالّتِى ِهيَ
ع إِلَى سَبِيلِ َرّبكَ بِاْل ِ
تعالى﴿ :ا ْد ُ
َأحْسَنُ﴾[النحل.]125:
ت َفظّا
ت َلهُمْ وَلَ ْو كُن َ
ل لِن َ
وقد وصف نبيه الكريم × بقولهَ ﴿ :فِبمَا َر ْحمَةٍ مّ َن ا ِ
سلِمم ْ ب لَنفَضّوا مِ ْن حَوِْلكَ﴾ [آل عمران .]159 :فليقتد الداعى ال ُ َغلِيظَ الْ َقلْ ِ
برسول الله × ،وليكن شأنه وديدنه لمن يدعوهم ,ويتحمل صدور
أى أذى منهم.
-4الستعداد للبذل والتضحية بكل شيء:
35
ونستطيع أن نقول:إن هذه المرحلة فى دعوة ابن ياسين كانت
انطلقًا من قوله تعالىَ ﴿:كمَا أَ ْر َسلْنَا فِيكُمْ َرسُولً مّ ْنكُ ْم يَ ْتلُو َعلَ ْيكُمْ آيَاتِنَا وَُي َزكّيكُمْ
ح ْكمَةَ وَيُ َع ّل ُمكُم مّا لَ ْم َتكُونُوا َت ْع َلمُونَ﴾ [البقرة.]151 : وَُي َع ّلمُكُمُ اْلكِتَابَ وَاْل ِ
وهذه الية حدَّد الله بها وظيفة النبى × وواجبه ,وكذلك الدعاة
من أمته من بعده ,حيث نجد الداعية الفقيه ابن ياسين سلك فى
دعوته هذه المور أو الوظائف أو الواجبات وهي:
-1تبليغ وحى الله على النَّاس ،وذلك فى قوله تعالىَ﴿ :ي ْتلُو
َعلَ ْيكُمْ آيَاتِنَا.﴾...
-2تزكية نفوس النَّاس وتطهيرها وتنميتها بالخيرات والبركات
فى الدنيا والخرة ,بحيث يصير النسان فى الدنيا مستحقًا
للوصاف المحمودة ،وفى الخرة الجر والمثوبة وذلك فى
قوله – سبحانه وتعالى﴿ :-وَُي َزكّيكُمْ﴾.
فالداعية إلى الله يطهِّر نفوس النَّاس بوحى الله ،وينمى
أرواحهم وأقوالهم وأبدانهم ،ويرتفع بهم إلى المستوى الذى يليق
ضله على كثير ممن خلق. بكرامة النسان ،الذى كَّرمه ربه وف َّ
-3التعليم ،تعليم النَّاس العلم النافع ،أى القرآن والحكمة،
وذلك فى قوله سبحانه من هذه الية﴿ :وَيُ َع ّل ُمكُمُ اْلكِتَابَ
ح ْكمَةَ﴾.
وَاْل ِ
فهو واجب النبى × ,وواجب الدعاة إلى الله إلى يوم الدين،
و«الكتاب» هو القرآن الكريم ،وهو هديً لِلنَّاس؛ كل النَّاس ,إذ ما
من خير للبشرية فى دينها ودنياها إل أمر به القرآن ،وما من شيء
من هذا وذاك إل اشتمل عليه القرآن﴿ :مّا َفرّ ْطنَا فِى اْلكِتَابِ مِن َشيْءٍ﴾
و﴿تَفْصِيلَ ُكلّ َشيْءٍ﴾ و﴿تِبْيَانًا ّل ُكلّ َشيْءٍ﴾.
سمى القرآن الكريم قرآنًا من بين كتب الله؛ لنَّه جمعوقد ُ
ثمرة هذه الكتب كلها ،بل جمع ثمرة العلوم والمعارف كلها ،إذ
القرآن معناه الجمع والثبات.
والحكمة هي :إصابة الحق بالعلم والعقل ،ولها معان ،فهى
من الله سبحانه :معرفة الشياء وإيجادها ،على غاية ما يكون
الحكام ،ومن النسان :معرفة الموجودات ،والعلم بها ،وفعل
الخيرات .و«الكتاب والكمة» بهذه المعانى هما تنوير الذهان بما
تفتقر إليه من هدايات فى عالمى الغيب والشهادة ،وكم كانت
قبائل صنهاجة محتاجة لهذه الهدايات التى أصلحت اعتقادها
36
وتصورها ومنهجها ،وأصبحت قبائل تحمل أهم رسالة ودعوة ربانية
بفضل الله عليها ثم بجهود المخلصين من أمثال الفقيه ابن
ياسين.
-4واجتهد ابن ياسين – رحمه الله – فى نقل النَّاس من
ضلل الباطل إلى طريق الحق ،ومن ظلم الجهل إلى نور
العلم مسترشدًا بقول الله تعالى﴿ :وَُي َع ّل ُمكُم مّا لَ ْم َتكُونُوا تَ ْع َلمُونَ﴾
صُركم بحاضركم ،ويرسم لكم أسلم طريق أى يُب َ ِّ
لمستقبلكم.
حا فى شخصية ابن ياسين – كان أثر التربية القرآنية واض ً
رحمه الله – حيث نجده فى تبليغ رسالت الله ل يُداهن ول
يُجامل ,بل يأخذ بجميع الخلق الشرعية ،ويتوكل على الله فى
الصدع بكلمة الحق ,وكأن بين عينيه قول الله تعالى﴿ :الّذِي َن يَُبلّغُونَ
ل حَسِيبًا﴾ [الحزاب.]39 : ِرسَا َلتِ الِ وََيخْشَ ْونَهُ َو َل َيخْشَ ْو َن َأحَدًا ِإلّ الَ َو َكفَى بِا ِ
َ وكان يشعُُر فى قرارة نفسه بالثم والمعصية إن قعد وكتم ما
عل ّمه الله –
سبحانه وتعالى-وهذا من أثر القران فى نفسه حيث قال
تعالى﴿:إن الّذِي َن َيكُْتمُونَ مَا أَْنزَلْنَا ِمنَ الْبَيّنَاتِ وَاْلهُدَى مِن َبعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاس فِى اْلكِتَابِ
لعِنُونَ﴾ ك يَل َعُنهُمُ الُ وََي ْلعَُنهُمُ ال ّ أُولَِئ َ
[البقرة.]159:
من عرف الحق ،فقد وجب عليه أن والية واضحة فى بيان أن َ
من لم يفعل فقد أثِم. يُبينه لِلنَّاس ،و َ
إننا محتاجون بأن نتربى على آيات الله ،لنفهمها ثم لننطلق
فى دنيا الناس عاملين بها ابتغاء مرضاة الله ،وطمعًا فى ثوابه
ورغبة فى جنته ،وخوفًا من عقابه وشفقة من ناره.
نعى الله تعالى فى كتابه العزيز على أهل الكتاب عدم بيانهم
ل من متاع الدنيا ,فقال أحكام الله لِلنَّاس وكتمانها مقابل ثمن قلي ٍ
تعالى﴿ :وَِإذْ َأ َخذَ الُ مِيثَاقَ اّلذِينَ أُوتُوا الْ ِكتَابَ َلُتَبّيُننّهُ لِلنّاس وَلَ تَ ْكتُمُوَن ُه َفَنبَذُوهُ َورَاءَ ظُهُو ِر ِهمْ
شتَرُونَ﴾ [آل عمران.]187: وَا ْشتَ َروْا ِبهِ ثَ َمنًا َقلِيلً َفِبئْسَ مَا يَ ْ
وهكذا يا أخى الكريم نجد القرآن الكريم فى تربيته للدعاة إليه
يرغبهم ويرهبهم ،فتنطلق القلوب تسعى للمثوبة والدرجات
العلى؛ لن ما عند الله خير وأبقى.
كما نجد الحاديث النبوية التى تربى عليها ابن ياسين وتلميذه
مشجعة لهم فى السعى الدءوب من أجل إكمال مرحلة التعريف
بنجاح.
37
فإن السنة النبوية المطهرة شارحة القرآن وقد فاضت
بالحاديث فى هذا المجال.
روى المام البخارى بسنده ،عن عبد الله بن عباس –رضى
الله عنهما ,-فى باب :تعريف النبى × وفد عبد القيس على أن
من وراءهم ،قال مالك بن يحفظوا اليمان ،والعلم ،ويخبروا َ
الحويرث -وهو من بنى عبد القيس -قال لنا النبى ׫ :ارجعوا
إلى أهليكم فعلِّموهم».
عن ابن عباس قال« :قال النبى × لما قَدِم إليه ،وفد عبد
من القَوم؟» قالوا :ربيعة ,فقال« :مرحبًا من الوفد ,أو َ القيسَ :
بالقَوم ،أو الوفد ،غير خزايا ول ندامى» ،قالوا :إنا نأتيك من شقة
بعيدة ،وبيننا وبينك هذا الحى من كفار مضر ،ول نستطيع أن نأتيك
من وراءنا ندخل به الجنة، إل فى شهر حرام ،فمرنا بأمر نخبر به َ
فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع :أمرهم باليمان بالله عز وجل
وحده ،قال« :هل تدرون ما اليمان بالله وحده؟» قالوا :الله
ورسوله أعلم.
قال« :شهادة أن ل إله إل الله ،وإن محمدًا رسول الله ،وإقام
الصلة ،وإيتاء الزكاة ،وصوم رمضان ،وتعطوا الخمس من
المغنم».
ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت ،قال شعبة :ربما قال:
من«النقير» وربما قال« :المقير» قال« :احفظوه وأخبروه َ
وراءكم»(.)1
وهذا الحديث النبوى الشريف نهج للقَوم لمعرفة أصول الدعوة
مع ،حيث كانت عادة جت َ َ
م ْ
فى مرحلة التعريف ومعالجة المراض بال ُ
شرب الخمر قد انتشرت فى ربوع هؤلء القَوم انتشار النار فى
الهشيم ،ولذلك نهاهم رسول الله × عن الدباء والحنتم والمزفت
ن لشرب الخمر ،ومن مثل هذا الحديث التى كانت عبارة عن أوا ٍ
يستلهم الدعاة أولويات مرحلة التعريف فى الدعوة إلى الله
تعالى ،وغيره من الحاديث الكثيرة والرشادات النبوية الكريمة.
استمَّر الفقيه ابن ياسين فى تعريف النَّاس بأصول دينهم
وأحكامه والخلق التى تطلبها شريعتهم وحارب التقاليد والعراف
السيئة بكل شجاعة وجرأة.
إل إن الله تعالى ابتله بقَوم غلظ الكباد قساة القلوب
فاصطدمت دعوة المصلح الفقيه بأطماعهم؛ فتعَّرض للتضييق
والشدَّة والعسف من بعض وجهاء قبائل صنهاجة من قبيلة جدالة
وحاولوا قتله إل إن الله نجاه منهم.
)(1مسلم :كتاب اليمان ،باب المر باليمان بالله تعالى ورسوله )1/46( ،رقم (.)17
38
فأشار المير المخلص والتلميذ الوفى يحيى بن إبراهيم على
ابن ياسين أن يذهبوا إلى جزيرة فى حوض السنغال ليتربى التباع
فيها ابتغاء مرضاة الله والدار الخرة.
وقال له :إن الجزيرة إذا حسر البحر دخلنا إليها على أقدامنا
وإذا امتل دخلنا فى الزوارق ،وفيها الحلل المحض الذى ل تشك
فيه من الشجر البري وصيد البر والبحر من أصناف الطير
والوحوش والحوت(.)1
ملَثَّمين
وبذلك يكون ابن ياسين – رحمه الله – ترك ديار ال ُ
واختار جزيرة فى حوض نهر السنغال للمرابطة وتربية المريدين
على كتاب الله وسنة رسوله × ،بعد أن ترك صدى ودويًا لدعوته
ملَثَّمين ،وبذلك قَّرر ابن ياسين أن ينتقل إلى مرحلةفى ديار ال ُ
التكوين مختاًرا مكانًا مناسبًا لهذه المرحلة المهمة فى تاريخ دولة
المرابطين بعد أن نجح فى مرحلة التعريف فى إبلغ الدعوة
والتعريف بها لهم.
ب -مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوية عند الفقيه
ابن ياسين:
تمهيد :اشتهر فى تاريخ المرابطين ما يُسمى برباط ابن
ياسين ،وقبل أن نتعرض لرباط ابن ياسين الذى اتخذه فى مرحلة
التكوين أرى من باب الفائدة للقارئ الكريم أن يأخذ فكرة
مختصرة عن معنى الّرِبَاط فى السلم.
الرباط :حصن حربى يُقام فى الثغور المواجهة للعدو للذود
سلِمين ،وهذه التسمية مقتبسة من القرآن الكريم م ْ
عن ديار ال ُ
والسنة النبوية المطهرة:
أما القرآن الكريم فمن قوله تعالى﴿ :وََأعِدّوا َلهُمْ مّا اسَْت َطعْتُم مّن قُوّةٍ َومِن
رّبَاطِ اْلخَ ْيلِ﴾ [النفال ,]60:ومن قوله تعالى﴿ :يَا أَّيهَا الّذِي َن آمَنُوا اصِْبرُوا َوصَاِبرُوا
ل لَ َع ّلكُ ْم تُ ْف ِلحُونَ﴾ [آل عمران.]200 :
وَرَاِبطُوا وَاتّقُوا ا َ
وفى الحديث النبوى فى البخارى جاء فضل الّرِبَاط فى سبيل
الله تعالى عن سهل بن سعد الساعدى أن رسول الله × قال:
«رباط يوم فى سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ،وموضع سوط
أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها ،والروحة يروحها العبد
فى سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها»(.)2
44
وجعل -سبحانه وتعالى -اتباع النبى × دليل ً على محبة الله
م الُ وََيغْ ِف ْر َلكُمْ ذُنُوَبكُمْ﴾ [آل عمران:
ومغفرتهُ ﴿ :ق ْل إِن كُنْتُ ْم ُتحِبّو َن الَ فَاتّبِعُونِى ُيحْبِ ْبكُ ُ
.]31
وأمرهم باتباعه فيما أمر ونهى﴿ :وَمَا آتَاكُمُ ال ّرسُولُ َفخُذُوهُ وَمَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ
فَانَْتهُوا﴾
[الحشر.]7:
54
غزواته فى سنة (480هـ1087/م)(.)1
قال ابن كثير فى «البداية والنهاية» عنه -أى عن أبى بكر بن
عمر« :-اتفق له من الناموس ما لم تتفق لغيره من ملوك ,كان
يركب معه إذا سار لقتال عدو خمسمائة ألف مقاتل ،كان يعتقد
طاعته ،وكان مع هذا يقيم الحدود ويحفظ محارم السلم ،ويحوط
الدين ويسير فى النَّاس سيرة شرعية ،مع صحة اعتقاده ودينه،
وموالة الدولة العباسية ،أصابته نشابة فى بعض غزواته فى حلقه
فقتلته»(.)2
لقد كان أبو بكر بن عمر من أعظم قادة المرابطين ،وأتقاهم
وأكثرهم ورعًا ودينًا وحبًا للشهادة فى سبيل الله ،وساهم فى
توحيد بلد المغرب ،ونشر السلم فى الصحارى القاحلة وحدود
السنغال والنيجر ،وجاهد القبائل الوثنية حتى خضعت وانقادت
سلِمين ،ودخل من الزنوج أعداد كبيرة فى السلم, م ْ
للسلم وال ُ
وساهموا فى بناء دولة المرابطين الفتية ،وشاركوا فى الجهاد فى
َ
سلِمين فى دولة المرابطين بلد النْدَلُس ,وصنعوا مع إخوانهم ال ُ
م ْ
حضارة متميزة.
هـ -تأملت فى مسيرة ابن ياسين الجهادية:
ملَثَّمين الصنهاجية
لقد سار ابن ياسين فى دعوته لقبائل ال ُ
سيرة حسنة نقية ،وتدَّرج بهم من مرحلة التعريف إلى التكوين ثم
التنفيذ حيث شرع فى قتال القبائل التى لم تحترم أو تُقدِّس
حرمات الله ،وأزال المنكرات ،واعتبر ذلك جهادًا فى سبيل الله.
وقد لحظت أن إعلن الجهاد على القبائل التى تفشت فيها
المنكرات جاء بعد إعداد وشورى من أهل الحل والعقد ،وبعد أن
أصبحت لهم شوكة قوية وإمام مطاع ،ومجلس من العلماء
والفقهاء يقلبون أمور السلم والحرب.
ويكفى هؤلء البطال على صحة جهادهم ما رواه مسلم فى
صحيحه عن النبى × « :ما من نبى بعثه الله فى أمة قبلى إل كان
مته حواريون ،وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ،ثم له من أ َّ
خلوف ،يقولون مال يفعلون ،ويفعلون ما ل إنَّها تخلف من بعدهم ُ
يؤمرون ،فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ،ومن جاهدهم بلسانه فهو
مؤمن ،ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ،وليس وراء ذلك من
ة خردل»(.)3
اليمان حب ُ
إن حركة المرابطين كانت موفقة حيث استطاعت أن تنسق
56
المبحث السادس
مرحلة التمكين والتوسع لدولة المرابطين
القائد الربانى يوسف بن تاشفين
هـ 1 1 0 6 -1 0 0 9 /م 500 - 400
تمهيد:
قد علمت بأهم المراحل فى فقه الدعوة إلى الله التى مَّر بها
ما فى تنفيذ مرحلة حا عظي ً
المام ابن ياسين حيث نجده نجح نجا ً
التعريف واختيار العناصر التي تحمل الدعوة ،ومرحلة المغالبة،
واستشهد فى مرحلة المغالبة وتولى القيادة فى هذه المرحلة أبو
بكر بن عمر الذى سار على نفس المنهج الذى رسمه ابن ياسين.
واستمَّر فى فتح مدن المغرب إل أنه ترك نصف جيش
المرابطين لبن عمه يوسف ،ودخل بالباقى نحو الجنوب داعيًا
حا واستمَّر فى فتوحاته حتى استشهد – رحمه الله ومجاهدًا ومصل ً
َ
– وتول ّى المر بالكلية القائد الربانى ابن تاشفين الذى أنهى مرحلة
المغالبة وانتقل إلى مرحلة التَّمكين.
أ -نسبه:
مه بنتيوسف بن تاشفين بن إبراهيم اللمتونى الصنهاجي ,وأ ُ ُّ
عم أبيه فاطمة بنت سير بن يحيى بن وجاج بن وارتقين ،وكانت
قبيلته قد سيطرت بسيادتها وقيادتها على صنهاجة ،واحتفظت
بالرئاسة منذ أن جعلها المام ابن ياسين فيها بعد وفاة المير
ما فى قَومه.
يحيى ابن إبراهيم الجدالى ،فنما عزيًزا كري ً
خون من أمثال أشياخ« :خلق للزعامة»(.)1 مؤَّرِ ُقال عنه ال ُ
وإن اتهموا صنهاجة ف العلى من حمير شَر ُ ملك له ال َّ
()2
فهم هـــم
كان يوسف أسمر اللون نقيُّه ,معتدل القامة ،نحيف الجسم،
خفيف العارضين،
رقيق الصوت ،أكحل العينين ،أقنى النف ،له وفرة تبلغ شحمة
الذن،
مقرون الحاجبين ,أجعد الشعر(.)3
400هـ 1009 /م بدأ ظهور عصر الطوائف فى الَنْدَلُس ،الذى دام
حتى عام 484هـ1091 /م.
وكان ذلك بسبب سقوط الخلفة الموية التى نخرتها الطماع
ي بعض والحقاد والصراعات الدَّاخليَّة على الحكم ،وسع ُ
الشخصيات للمجد الشخصى متناسيًا فى ذلك مصالح المة
وضرورة وحدتها لتقف صفًا واحدًا أمام أعدائها.
لقد انقسمت الَنْدَلُس إلى دويلت ,واتخذ حكامها ألقابهم تبعًا
ل أو قاض.لحجم دويلتهم فأحدهم :ملك أو أمير ،أو وا ٍ
ونظًرا لختلف القوى والرياسات ،فقد أخذ القوى يبطش
ف يدرأ الخطر بالتحالف مع جاره القوي ،وأحيانًا بالضعف ،والضع ُ
يستنجد بأمراء النصارى مقابل ثمن باهظ.
وتكوَّنت من هذه الدويلت العديدة أربع دِوَل رئيسية:
-1فى جنوب الَنْدَلُس ،حكم الدارسة الفريقيون أو بنو حمود
أصحاب مالقة ،وحالفهم أمير غرناطة وقرمونة ،وألبيرة
وجيان وأستجة ،فضل ً عن حكمهم مليلة وطنجة وسبتة فى
شمال المغرب.
-2بنو عباد أمراء إشبيلية ،أقوى ملوك الطوائف ،ومن حلفائهم
بنو جهور فى قُْرطُبَة ،وبنو الفطس أصحاب بطليوس فى
)(1انظر :فى تاريخ المغرب والندلس ،د .أحمد العبادي ،ص ( 168إلى .)170
63
جنوب وغرب الَنْدَلُس.
-3بنو ذى النون أمراء طُلَيْطِلَة ،الذين حكموا أواسط إسبانيا،
والذين وقفوا فى وجه بنى عباد ،وكلفهم ذلك دفع جزية
سا لعونه ضد خصومهم.لملك قشتالة النصرانى التما ً
-4بنو عامر فى بلنسية ومرسية الذين حكموا فى شرقى
إسبانيا ،وطبقًا لظروفهم ،فقد كانوا يحالفون الدارسة تارة
أو بنى عباد ،أو بنى ذى النون تارة أخرى . . .بسط بنو
بعامر نفوذهم على الثغور الممتدة من مرية حتى مص ِّ
نهر أبرة سنة 1051م (.)1
***
66
وتعهَّد َ بأل يتعرض لمشروع ألفونسو فى افتتاح طُلَيْطِلَة ،وهكذا
سلِمة ،لكى يفوز م ْ سلِمين إسبانيا ال ُ م ْ ضحى ابن عباد بمعقل ال ُ
ببسط سيادته على المارات التى لم تخضع له بعد ،وهى إمارات
غرناطة وبطليوس وسرقسطة(.)1
واستفاد ألفونسو من هذه التفاقية وأعلنها حربًا ل هوادة فيها
على طُلَيْطِلَة التى حمته من مطاردة أخيه سانشو ,ونسى المير
من سع ك َّالطموح للتو ُّ
ل عهوده ومواثيقه ,وشرع فى غدره ب ِ َ
أحسن إليه.
مها إلى سلطانه ض َّ
وتحَّرك المعتمد بن عباد بجيشه نحو غرناطة لي ُ
وكان حاكمها عبد الله بلكين بن باديس ،وكان ابن هود أمير
سرقسطة يرى الخطر يشتد ُّ عليه يوًما فيوًما من شانشو الول ملك
أرجون ،فلم يستطع إنجاد طُلَيْطِلَة سوى أمير بطليوس يحيى بن
ملَقَّب بالمنصور ،فجمع قواته وسار إلى لقاء ألفونسو، الفطس ال ُ
َ َ ُ
ولكن ألفونسو الذى كان قد أثخن فى ولية طليْطِلة ،حتى صيرها
قفًرا بلقعًا ،شعر باقتراب المنصور ،فانسحب ,ولكنَّه كَّرر الرجعة فى
العام التالي؛ فعاث فى بسائط طُلَيْطِلَة وخَّربها مرة أخرى ،وزحف
المعتمد على بطليوس ،وبهذا استطاع أن يُحول دون معاونة بنى
الفطس لطُلَيْطِلَة حيث القادر بن ذى النون ،ولم يستطع أمير
سرقسطة من بنى هود «المؤتمن» معاونة القادر معاونة قوية خشية
أن تقع سرقسطة ذاتها فريسة لبن عباد أو النصارى ،وهو فى جهاد
ضد أرجون وبرشلونة ،واستمَّرت الحرب أعواًما ،وألفونسو يفسد فى
سلِمين «طُلَيْطِلَة» وَمن حولها فسادًا. م ْ
بلد ال ُ
وفى السابع والعشرين من المحرم سنة 478هـ -الخامس
والعشرين من آيار «مايو» سنة 1085م استطاع أن يدخل طُلَيْطِلةَ
«عاصمة القوط القديمة» ودخلت طُلَيْطِلَة بذلك إلى حظيرة
ما،سلِمون ثلثمائة واثنين وسبعين عا ً م ْالنصرانية بعد أن حكمها ال ُ
واتخذها ملك قشتالة حاضرة ملكه من ذلك الحين ،وأصبحت بذلك
عاصمة إسبانيا النصرانية.
وهكذا انتهت دولة ذى النون فى طُلَيْطِلَة لتستمَّر فى
بلنسية(.)2
سلِمون بسقوط طُلَيْطِلَة تأثًُّرا عميقًا على مختلف الساحة م ُْ تأثَّر ال
جرت قريحة الشعراء فى استثارة الهمم السلمية فى الَنْدَلُس ،وتف َّ
والتحريض على الجهاد ،والتحذير من تفاقم الخطر ،ومما قيل فى
ذلك قول عبد الله بن فرج اليحصبى المشهور بابن عسال الطليطلي:
() البخاري ،فتح الباري ،كتاب الرقاق ،باب ( 38رقم .)6501 2
69
الطوائف؛ وفى ذلك مصلحة له ولهم وللَنْدَلُس عامة ،وللسلم
وأهله ،ولكنَّك ل تجنى من الشوك العنب(.)1
َ
مين
سل ِ ِ حك ّام ال ُ
م ْ م الولء والبراء حتى إن بعض ُبل ضعف مفهو ُ
استوزروا وزراء نصارى ويهود يصرفون أمور دولة السلم ،فهل
يؤمن الذئب على الغنم!! (.)2
ثالثًـا :السبب الثالث النغماس فى الشهوات والركون إلى
الدعة والترف وعدم إعداد المة للجهاد ،إن المة التى تركن إلى
الدعة والترف واللهو ،وهى غالبة قاهرة يجب أن تُعد غير مستحقة
للريادة والقيادة ،فما بالك بأمة تغرق فى اللهو والدعة والترف،
وهى ل تدرى إن كان العدو قد كسر حصنها واجتاحها ،أم أنه ل
يزال ينتظر تلك اللحظات؟!.
يقول المؤرخ النصرانى كوندي« :العرب هُزموا عندما نسوا
فضائلهم التى جاءوا بها ،وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى
الخفة والمرح ،والسترسال بالشهوات»(.)3
إن المؤرخين رأوا« :إن الَنْدَلُسيين ألقوا بأنفسهم فى أحضان
النعيم ،ناموا فى ظل ظليل من الغنى الواسع والحياة العابثة
والمجون ،وما يرضى الهواء من ألوان الترف الفاجر ،فذهبت
أخلقهم كما ماتت فيهم حمية آبائهم البواسل ،وغدا التهتك
والخلعة والغراق فى المجون ،واهتمام النساء بمظاهر التبرج
من أبرز المميزات أيام الضمحلل التى والزينة بالذهب والللى ِ
استناموا للشهوات والسهرات الماجنة ،والجوارى الشاديات ،وإن
شعبًا يهوى إلى هذا الدرك من النحلل والميوعة ل يستطيع أن
مد رجاله لحرب أو جهاد»(.)4 يص ُ
َ
مون النْدَلُس وأصبحوا ساداتها عندما كان نشيد سل ِ ُ
م ْ
دخل ال ُ
طارق فى العبور «الله أكبر» وبقوا فيها زمنًا ،حين كان يحكمها
أمثال عبد الرحمن الداخل عندما قُدم إليه الخمر ليشرب فقال:
«إنِّى محتاج لما يزيد فى عقلى ل ما ينقصه»(.)5
يقول الدكتور عبد الرحمن الحجى عن الفاتحين الوائل
للَنْدَلُس« :كانت غيرة هؤلء المجاهدين شديدة على إسلمهم،
فدوه بالنفس وهى عندهم له رخيصة ،فهو أغلى من حياتهم,
حبَّه ،غدا تصورهم وفكرهم ونورهم وربيع أشربت نفوسهم ُ
حياتهم»(.)6
() انظر :تاريخ الندلس ،ص ( ,)390د .عبد الرحمن الحجي. 1
( )3مصرع غرناطة ،ص (.)93 () سقوط الندلس :د .ناصر العمر ،ص (.)24 2
3
( )5سقوط الندلس ،ص ( () المصدر السابق ،ص (.)120 4
.)27 5
70
َ
مين عندما كان نشيد
سل ِ ِ وضاعت ممالك النْدَلُس من يدى ال ُ
م ْ
أحفاد الفاتحين:
راقت الخمرة والورد ووزن العود وهات
صحا القدحا
وعندما قصد الفرنج بلنسية لغزوها عام 456هـ خرج أهلها
للقائهم بثياب الزينة؛ فكانت وقعة بطرنة التى قال فيها الشاعر
أبو إسحاق بن معلي:
ل الحرير عليكم ألوانًا
حلَ َ
ُ لبسوا الحديد إلى
()1
الوغى ولبستم
كانا ما كان أقبحهم
وأحسنكم بها
مون فى الَنْدَلُس وسلب كثير من ديارهم لما سل ِ ُم ْ ضعف ال ُ
حكام من أجل إسعاد زوجاتهم وجواريهم بالباطل. َ ّ تنافس الولة وال ُ
مد مع إحدى زوجاته :اشتهت زوجة معْت َ ِ
وإليك ما فعله ال ُ
مد بن عَبَّاد أن تمشى فى الطين وتحمل القرب ،فأمر معْت َ ِال ُ
مد بن عَب ّاد أن ينشر المسك على الكافور والزعفران وتحمل َ معْت َ ِال ُ
قربًا من طيب المسك وتخوض فيها تحقيقًا لشهواتها!!
مد،معْت َ ِ
ولكن الله المعز المذل أراد أن تنقلب المور على ال ُ
فيؤخذ أسيًرا فى أغمات وتبقى بناته يغزلن للنَّاس يتكسبن ،وفى
مد وهو شاعر مجيد: معْت َ ِذلك يقول ال ُ
فساءك العيد فى أغمات فيما مضى كنت بالعياد
مأسوًرا مسروًرا
يغزلن للناس ما يملكن ترى بناتك فى الطمار
قطميًرا جائعة
أبصارهن حسيرات برزن نحوك للتسليم
مكاسيرا خاشعة
َّ
كأنها لم تطأ مسكًا يطأن فى الطين
وكافورا
ً ()2
والقدام حافية
مغروًرا من بات بعدك فى مُلك َ
سرُّ به
ُي َ
وصدق الحبييب × ,المؤتى جوامع الكلم إذ يقول« :إذا تبايعتم
َ
بالعينة ،وأخذتم أذناب البقر ،ورضيتم بالزرع ،وتركتم الجهاد ،سل ّط
الله عليكم ذ ُلً ،ل ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم»(.)3
() أخرجه أبو داود ،كتاب البيوع( ،باب ،56ت 54 /م). 3
71
رابعا :إلغاء الخلفة الموية وبداية عهد الطوائف:
ً
ك أن بداية النهيار الفعلى فى الَنْدَلُس بزوال الخلفة لش َّ
الموية ,ونشأ على أثر ذلك عهد السنوات الصعاب ،كانت كلمة
المة واحدة وخليفتهم واحدًا فأصبحت المة كما قال الشاعر:
أســـماء معتمد فيها مما يزهدنى فى أرض
ومعتض1ـ)د س أَنْدَل ُ
(
السد ألقاب مملكة فى غير
موضعها
وكما قال الخر:
فيها أمير المؤمنين وتفرَّقوا شيعًا فكل
ومنبر محلة
حكَّام الَنْدَلُس أهل ً لقيادة المة فى عمومهم ،واسمع ُ ولم يكن
حكَّام« :والله لو علموا أن إلى ابن حزم وهو يقول عن هؤلء ال ُ
فى عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها ،فنحن نراهم
مين ،لعن الله سل ِ ِ
م ْ
ال) ُ يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرب
جميعهم وسلط عليهم سيفًا من سيوفه»(. 2
حكَّام« :وهكذا
ويقول الدكتور عبد الرحمن الحجى عن هؤلء ال ُ
وجدت فى الَنْدَلُس أوضاع يحكمها أمراء اتصف عدد منهم بصفات
الثرة والغدر ،هانت لديهم معه مصالح المة ،وتُركت دون
مصالحهم الذاتية ،باعوا أمتهم للعدو المتربص ثمنًا لبقائهم فى
السلطة ،ولقد أصاب المة من الضياع بقدر ما ضيعوا من الحظ ُّ
خلقى المسلم ،انحرف هؤلء المسئولون عن النهج الحنيف، ال ُ
ُ َ
الذى به كانت النْدَلس وحضارته».
خامسًا :الختلف والتفرق بين المسلمين:
كان الختلف والتَّفُّرق سمة من سمات عصر ملوك الطوائف،
وكان بعضهم يستعدى النصارى على إخوانه ويعقدون مع النصارى
من أجل شهوة سلطة عهودًا وأحلفًا ضد إخوانهم فى العقيدة ،و ِ
تُراق على أرض الَنْدَلُس دماء المصلين ،حتى قال ابن المرابط
مين:سل ِ ِ
م ْ
واصفًا حال ال ُ
() التاريخ الندلسي ،د .عبد الرحمن الحجي ،ص (.)325 2
72
فيها وشمل الضد غير مين
سل ِ ِ
م ْ ما بال شمل ال ُ
مبدد مبدَّدٌ
وطريق هذا الغدر غير ماذا اعتذاركم غدًا
ممهَّد
ُ لنبيكم
وتركتموهم للعدو م فَّرطتم فى ن قال ل ِ َ إ ْ
المعتدي متي أ ُ َّ
()1
السيدِ تالله لو إن العقوبة لم
خف تُ َ
ولما سقطت طُلَيْطِلَة كان من العجيب إن بعض ملوك
الطوائف وقفوا جامدين ل يتحركون لنجدة طُلَيْطِلَة ,وكأن المر ل
يعنيهم فاغرين أفواههم جبنًا وغفلة وتفاهة ،بل إن عددًا منهم كان
ضا
يرتمى على أعتاب ألفونسو ملك النصارى طالبًا عونه ,أو عار ً
مسلِمة ،تغافلوا عن أن ألفونسو له الخضوع ،بذلة تأباها النفوس ال ُ
ل يفّرِق
ُ َ
بين طُلَيْطِلة وغيرها من القواعد النْدَلسية ،لكن العجب يزول إذا َ
تذكَّرنا نزعتهم النانية والعصبية(.)2
سادسا :تخلى بعض العلماء عن القيام بواجبهم:
ً
ك أن حياة المة فى حياة علمائها فهم تاجها ومنارتها وهم لش َّ
روحها ومادة حياتها ,فكلما كان علماء المة ربَّانيين كان أمر المة
َ
فى طريقه نحو العزة والّرِفعة والكرامة ،وكل ّما ابتعد العلماء عن
الربَّانية وتثاقلت نفوسهم إلى الرض ,وحرصوا على مصالحهم
ب فى المة الضعف والجهالة. الذاتية ,خبا نور المة ،ود َّ
«فحين كانت المة تغرق فى الَنْدَلُس بسبب الجتياح
ي المتلطم ،انصرف عدد من العلماء إلى العناية المبالغة النصران ِ ّ
()3
بالفقه المذهبى وفروعه ونسوا وتناسوا واقع المة وآلمها» .
وبعض هؤلء هم ممن قال فيهم ابن حزم رحمه الله« :ول
ساق والمنتسبون إلى الفقه ،اللبسون جلود الضأن يغَّرنك الفُ َّ
مزي ِّنون لهل الشّرِ شرهم ،الناصرون لهم السباع ،ال ُ على قلوب
()4
على فسقهم» .
ول ننسى دور العلماء الربَّانيين الذين قاموا بجمع شتات المة
الممزق ,وبذلوا وسعهم فى ذلك من أمثال أبى الوليد الباجي،
مد بن حزم ،وأبى إسحاق اللبيرى وغيرهم ،عليهم رحمة ح َّ م َ
وأبى ُ
الله وبركاته.
سقوط الندلس ،د .ناصر العمر ص (.)33 () 1
73
سابعًا :عدم سماع ملوك الطوائف لنصح العلماء:
لقد بذل مجموعة من العلماء جهدًا مشكوًرا لتوحيد صفوف
مين وتصدَّى أبو الوليد الباجى لهذه المهمة بنفسه بعد سل ِ ِ
م ْ
ال ُ
عودته من المشرق السلمي« ،فرفع صوته بالحتساب ،ومشى
بين ملوك أهل الجزيرة لصلة ما انبت من تلك السباب ،فقام
مقام مؤمن آل فرعون ،ولكنَّه لم يصادف أسماعًا واعية ،لنَّه نفخ
َ
فى عظام نخرة ،وعطف على أطلل داثرة ،بَيْد َ أنه كُل ّما وفد على
ملك منهم فى ظاهر أمره لقيه بالترحيب ،وأجزل حظه فى
التنافس والتقريب ،وهو فى باطن يستجهل نزعته ويستثقل
طلعته ،وما كان أفطن الفقيه -رحمه الله -بأمورهم وأعلمه
()1
بتدبيرهم ،لكنَّه كان يرجو حال ً تثوب ،ومذنبًا يتوب»
حكَّام الَنْدَلُس أهل ً لقيادة المة ،ولم تنفعهم نصائح ولم يكن
َ َ ُ ُ َّ
العلماء حتى حلت بهم مصيبة وكارثة أل وهى سقوط طليْطِلة.
ثامنا :مؤتمرات النصارى ومخططاتهم:
ً
محكمة للقضاء على ملوك استطاع النصارى أن يضعوا برامج ُ
ما ،وكان من أكبر
مين عمو ًسل ِ ِ
م ْ من ث َ َّ
م على ال ُ الطوائف و ِ
َ
خط ّطَات
م َ
ُ ال هذه على أشرف الذى النصارى ملوك من المجرمين
وسهر على تنفيذها فرناندو ملك قشتالة.
تاسعًا :وحدة كلمة النصارى:
مون فى الَنْدَلُس يعانون من
سل ِ ُ
م ْ
فى الوقت الذى كان ال ُ
ً
التَّفُّرق والشتات ،كان النصارى فى وحدة كلمة وتراص صفّ فى
مواجهة أمة السلم فى الَنْدَلُس.
عاشرًا :غدر النصارى ونقضهم للعهود:
لم يكن النصارى عُبَّاد الصليب محل ً للعهود وأهل ً للوفاء إل في
القليل النادر؛ فهم تبع لمصالحهم وأهوائهم ,وهى التى تحكم
وفاءهم ونقضهم(.)2
قال تعالىَ ﴿:ومِنَ الّذِي َن قَالُوا إِنّا نَصَارَى َأخَذْنَا مِيثَا َقهُمْ فَنَسُوا َحظّا ّممّا ُذ ّكرُوا بِهِ
ل ِبمَا كَانُوا يَصَْنعُونَ﴾ [المائدة: ف يُنَبُّئهُمُ ا ُفََأ ْغرَيْنَا بَيَْنهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالَْبغْضَا َء إِلَى يَوْمِ الْ ِقيَا َمةِ َوسَوْ َ
.]14
َ
خا مليئًا بالدماء وهتك لقد سط ّر النصارى فى الَنْدَلُس تاري ً
العراض ،وقتل النفوس وسبى النساء.
() الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة ,الشنتريني ،القسم الثاني ،ص (.)95 1
74
قال تعالىَ ﴿ :ل َيرْ ُقبُونَ فِى مُ ْؤمِ ٍن ِإلّ َو َل ذِمّةً َوأُولَِئكَ هُمُ اْلمُ ْعتَدُونَ﴾ [التوبة.]14:
وقال تعالى﴿:وََل ْن َت ْرضَى عَنكَ اْلَيهُودُ َولَ النّصَارَى حَتّى َتتّبِ َع ِملَّتهُمْ﴾[البقرة.]12:
مين فمارسوا كلسل ِ ِ
م ْ
لقد استمات النصارى فى حربهم لل ُ
جة من أجل تحقيق أهدافهم الشيطانية. الساليب المعو َّ
الحادى عشر :التخاذل عن نصرة من يحتاج إلى نصرة:
َ
معط ّلة كأنَّهم لقد كانت أحاديث الرسول × فى تلك المرحلة ُ
لم يسمعوا قول رسول الله ׫ :المسلم أخو المسلم ل يظلمه
ول يسلمه»( ,)1وقوله ׫ :المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه
ضا»(.)2بع ً
من يستحق النصرة، لقد تخاذل ملوك الطوائف عن نصرة َ
وإليك ما حدث فى طُلَيْطِلَة ،يقول الدكتور عبد الرحمن الحجى
حكَّام الطوائف« :قام حاكم عن سقوط طُلَيْطِلَة وموقف ُ
متَوَ ِكّل على الله مد الفطس الملقب بال ُ ح َّ م َبطليوس عمر بن ُ
ة ملوك َ َ َ َ ُ
ببعض واجبه تجاه طليْطِلة فى محنتها ،التى لو أد ّى بقي ّ ُ
حموا موْها و َ ح َالطوائف ما يجب عليهم لما لقت هذا المصير ،ول َ
أنفسهم ،كان بعضهم ل هم له إل تحقيق مصلحته وإشباع أنانيته,
وكأن الَنْدَلُس وجدت لمنفعته وليتربع على كرسى حكم ،مهما
كان قصير العمر ذليل المكان مهزوز القواعد»(.)3
فهذه مجموعة من السباب التى أدَّت إلى الحالة التعيسة التى
آلت إليها الَنْدَلُس ،وعندى أن من أعظم السباب فى خذلن المة
ابتعادها عن منهج ربها وضياع عقيدتها وتربيتها على الترف
والدعة ،وترك الجهاد فى سبيل الله ،ولذلك عندما تربَّى
المرابطون على معانى الجهاد فى سبيل الله ،ومنهج أهل السنة,
وفقهم الله لقامة دينه وإعزاز سنة نبيه ونصرة إخوانهم فى
الدِّين.
إن الجهاد من أعظم الدروس ,فلما وُجد فى الَنْدَلُس بقيت
مهَابَة ،ولما فُقد أصبحت المة مطمعًا لكل المة فى عزة ومنعة و َ
جبار عنيد أو متكبر ل يؤمن بيوم الحساب .قال رسول الله ×:
صلة وذروة سنامه الجهاد»(.)4 س المر السلم وعموده ال َّ «رأ ُ
وقال ׫ :لغدوةٌ فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما
فيها»(.)5
أخرجه البخاري ،كتاب المظالم ،رقم ( ،)2442مع الفتح (ج .)5/116 () 1
75
***
76
المبحث الثالث
العالم فى زمن ظهور دولة المرابطين
كانت أوروبا يتحكم فيها القطاعيون فى حالة همجية بعيدة
ضر ومعالم الحضارة والمدنية. عن التح ُّ
مجَّزأ عند قيام دولة المرابطين ،فظهر وكان العالم السلمى ُ
ملوك الطوائف فى بلد الَنْدَلُس ،واستطاع السلجقة أن يُط ِّهُروا
ماد فى ح َّ
العراق من بنى بويه ،والعبيديون حكموا مصر ،وبنو َ
المغرب الوسط ،والمعز بن باديس وأحفاده فى المهدية.
وتوسع المرابطون وشملت دولتهم أجزاء شاسعة من شمالى
إفريقية «جزء من الجزائر والريف فى المغرب» ،وضربت جذورها
فى الصحراء حتى نهر النيجر والسنغال ،فرفعوا راية السلم فى
تلك الماكن البعيدة.
وكان المشرق السلمى فى ظروف سياسية حرجة وصعبة
ض للخطر، معََّر ٌ والخليفة ُ قاسية حيث أمُر الخلفة فى بغداد مهتز,
أمر الخلفة شيئًا وإنَما هو رمز تحك َّ
م فيه البويهيون، َ ّ ول يملك من
ما العبيدي ّون فى مصر فتحالفوا مع ُ َ ومن بعدهم السلجقة ,أ ّ
مين فى سل ِ ِ
م ْ الفرنج من أجل مصالحهم وأطماعهم ,فكان أمر ال ُ
غاية الخطورة حتى قيَّض الله لهل المشرق نور الدِّين محمود
وصلح الدِّين اليوبى اللذين قاما بدور عظيم فى القضاء على
النصارى والعبيديين ودحرهم ،وفى هذه الظروف الصعبة
والعصيبة أرادت حكمة الله وقدرته أن تخرج دولة المرابطين
سنيَّة لتكون سدًا منيعًا ضد أطماع النصارى فى الَنْدَلُس، ال ُّ
ولتحمى الشمال الفريقى من غاراتهم وأطماعهم ،إنه تدبير
العزيز العليم.
لقد أكرم الله تعالى المرابطين وجنودهم بالدفاع والذود عن
مين وعن أعراضهم وأموالهم وعقائدهم التى ل سل ِ ِم ْ السلم وال ُ
تقدر بثمن.
وأعّزَ الله المة بهم فى زمن عصيب ورفع الله بهم لواء
السلم فى
ُ َ
المغرب والنْدَلس.
واستطاعوا بجهودهم الجهادية أن ينقذوا إخوانهم فى الدِّين
من ظلم النصارى وحقدهم الدفين ،ويكبدوهم هزائم عسكرية
ر الدهور. سا للمة على مّرِ العصور وم ّ ِ أصبحت نبرا ً
أولً :تكالب النصارى على المسل ِ
مين وأطماع ألفونســو
77
التوسعية:
بعد سقوط طُلَيْطِلَة بيد ألفونسو ،بدا له أن كل شيء ممكن,
وعمل على توحيد جهود النصارى ،واتفقوا على سحق دولة
السلم فى الَنْدَلُس ،معتقدين أن قدرتهم تكفيهم لداء هذا
المهمة المقدسة لديهم.
حدت مدنهم ،وكوَّنوا وترك النصارى خصوماتهم الدَّاخلِيَّة ،وتو َّ
ما ,واحتلوا مدينة«قورية» من بنى الفطس ،ووصلوا شا ضخ ًجي ً
إلى ضواحى إشبيلية ،وأحرقوا قراها وحقولها ،وسارت فرقة من
الفرسان إلى شذونة ،ثم اخترقت جزيرة طريف قرب مضيق جبل
طارق ،كما حاصر القشتاليون -بمعاونة جند من الرجونيين
والقطلونيين الذين وضعهم ألفونسو السادس تحت قيادته -قلعة
سطَة الحصينة التى يضع سقوطها منطقة البير «ابرة» فى سْرقُ ْ
َ
َّ
ة على البحر ما ،وتصبح الشواطئ السبانية المطل ُ ً حت النصارى يد
البيض المتوسط عرضة لغاراتهم ،يقول المؤرخ يوسف أشباخ:
سطَة كلها بالنار والسيف ،ولم سْرقُ ْ «وأثخن النصارى فى ولية َ
يكن يردُّهم فى الحرب أى اعتبار إنسانى ما دام المر متعلقًا
بأعداء الدِّين ،كما يعتقدون ،ولكن الحصون السلميَّة قاومتهم
مقاومة شديدة ،وتلقى المؤتمن بن هود وعدًا لوصول المدد
مين فى جنوب الجزيرة ،بَيْد َ أن النصارى سل ِ ِ م ْ السريع من إخوانه ال ُ
مون سل ِ ُم ْما بعد يوم ،وخشى ال ُ سطة يو ًَ ُ
سْرق ْ شددوا الضعط على َ
سقوط المعقل المنيع ،بعد أن أصبحت قواتهم وأحوالهم فى حالة
ما دون قوى النصارى ،فتطلعوا إلى عون يرثى لها ،فقد كانت حت ً
من الخارج ،فاتجهت أبصارهم إلى قوة المرابطين المجاهدة فى
المغرب القصى»(.)1
مين الكبرى سل ِ ِم ْ وأصبح ألفونسو اللعين يضغط على ممالك ال ُ
ّ
وكِل مت َ َالمجاورة له أى مملكتى بطليوس وإشبيلية؛ فأرسل إلى ال ُ
بن الفطس صاحب بطليوس يطلب منه أن يُسل ِّم إليه القلع
والحصون المجاورة لحدوده مع تأدية الجزية ،وضعُف مسلمو
الَنْدَلُس أمام هذه الضربات الماكرة ،وأصبح سقوط الممالك قاب
حكَّام الممالك منغمسين بملذَّاتهم قوسين أو أدنى ،وظل ُ
وفسادهم ،يحاربون أنفسهم ويحالفون النصارى ضد إخوانهم،
ويؤدُّون لهم الجزية مقابل تركهم على عروشهم التى تزعزعت
أمام ضرباتهم ،واستخدم ملوك الطوائف المرتزقة من النصارى
لحماية أنفسهم بعد أن فقدوا المل فى شعوبهم ورعاياهم بسبب
سفهم ،وجعل الله بين أمراء الطوائف من ظلمهم وجورهم وتع ُّ
التنافس والتدابر والتقاطع والتحاسد والغيرة ما لم يجعله بين
78
الضرائر المترفات والعشائر المتغايرات ,فلم تصل لهم فى الله
يد ،ول نشأ على التعاضد عزم( ،)1لذلك انهارت الروح المعنوية
للشعب الَنْدَلُسى بعدما رأى من أمرائه التخاذل والخيانة ,حتى
كاد هذا الشعب الصابر يفقد القدرة على القتال بما كان يرهقه
َ
صاَرى، حك ّامه من الضرائب للتنعم بالعيش الرغيد ودفع الجزية للن َّ َ ُ
ص ،فقد ارتقى عرش إسبانيا ٍ مترب ٍّ وعدو ز
ّ
ُ ٍمبت حاكم بين وأصبح
النصرانية ألفونسو السادس بن فرديناند الذى كان يرغب فى
احتلل الجزيرة اليبرية ،وعادت حرب السترداد قوية على يده،
وقد بدأ أعماله الحربية بمدينة طُلَيْطِلَة فحاصرها سبع سنوات
حتى سقطت بيده فى 25آيار 1085م مستهل صفر 478هـ ,وقد
أحدث سقوطها دويًا هائل ً فى العالم السلمى الغربي ،وبات
مون فى حال من الضياع التام( )2ل يعرفون كيف يتصرفون, سل ِ ُ م ْ ال ُ
وبدأوا بمغادرة المناطق المتاخمة للفونسو ،وأصبحت مملكة
طُلَيْطِلَة خالية من السكان الذين هجروها إلى بطليوس هربًا من
الضطهاد وحفاظًا على دينهم ،ورأى ألفونسو أن زمام الَنْدَلُس
مدُن
أصبح فى يده ،فضاعف غاراته على جميع البلد؛ وتساقطت ال ُ
متَوَكِّل بن الفطس والقرى بين يدى اللعين الحقود وأرسل إلى ال ُ
وصاحب بطليوس يطلب إليه تسليم بعض الحصون ،والقلع
المتاخمة لحدوده مع تأدية الجزية ،ويتوعده بشر العواقب إذا
وكِّل بشجاعة ونبل معلنًا تحديه ،وفى هذه الرسالة رفض ،فرد َّ ال ُ
مت َ َ
ن عميقة وفهم دقيق للموقف الحرج الذى أصبح فيه معا ٍ
متَوَكِّل..« :ولو علم – أى ألفونسو -أن لله ُ ال قال حيث مون م ْ ُ
ِ ل س ال ُ
مد × وأعزه َ ح ّ
م َ
جنودًا أع ّز بهم كلمة السلم ,وأظهر بهم دين نبينا ُ َ
مين فيما وهَى من أحوالهم سل ِ ِ م ْ على الكافرين ..وأما تعييرك لل ُ
فبالذنوب المركوبة ،ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الملك أى
مصاب أذقناك كما كان أبوك تتجَرعه ...وبالمس كانت قطيعة
المنصور على سلفك أهدى ابنته إليه مع الذخائر التى كانت تفد
كل عام عليه»(.)3
متَوَكِّل قاضيه العالم الفقيه أبا الوليد الباجى ليطوف وأرسل ال ُ
م ِ الشعث وتوحيد الكلمة، ل إلى يدعو س ُ ل د
ْ َ َ
ن ال على حواضر
ّ
ومدافعة العدو ،ولكن مهمة القاضى لم تُكلل بالنجاح لن ضعف
المراء ،وانهيار مقومات الدولة ،وتخاذل الشعب فرضت على
و ِكّل إلى المير يوسف بن ال َ
حك ّام استرضاء العدو ،عندئذٍ كتب ال ُ
مت َ َ ُ
79
تاشفين( ،)1يصور له محنة الَنْدَلُس ويستنصره(« ،)2لما كان نور
الهدى -أيدك الله -دليلك ,وسبيل الخير سبيلك ،ووضحت فى
َ
ح العلم بأن ّكالصلح معالمك ،ووقفت على الجهاد عزائمك ،وص َّ
لدعوة السلم أعُّز ناصر ،وعلى غزو الشرك أقدر قادر ،وجب أن
تستدعى لما عضل الداء ،وتستغاث لما أحاط بالجزيرة من البلء،
ُ
فقد كانت طوائف العدو المطيف بأنحائها عند إفراط تسل ّطها
واعتدائها وشدة كلفها واستشرائها تلطف بالحتيال ،وتستنزل
بالموال ،ويخرج لها عن كل ذخيرة ،وتسترضى بكل خطيرة ،ولم
يزل دأبها التشكك والعناد ،ودأبها الذعان والنقياد حتى نفذ
المطارف والتلد ،وأتى على الظاهر والباطن النفاد ،وأيقنوا الن
بضعف المنن ،وقويت أطماعهم فى افتتاح المدن ،واضطرمت
مين أسنتهم سل ِ ِ
م ْ
ل جهة نارهم ،ورويت من دماء ال ُ فى ك ِّ
وشفارهم ،ومن أخطئ القتل منهم فإنما هم بأيديهم أسارى
وسبايا ،يمتحنونهم بأنواع المحن والبليا ،وقد هموا بما أرادوه من
التوثب ،وأشرفوا على ما أملوه من التغلب ،فيا الله ويا
ك ،ويغلب التوحيدَ الشركُ، مين أيسطو هكذا بالحق الف ُ سل ِ ِ
م ْ
لل ُ
ويظهر على اليمان الكفُر ،ول يكشف هذه البلية النصُر ،أل ناصر
لهذا المهتضم؟ أل حامى لما استبيح من الحرم؟ ،وإنا لله على ما
لحق عرشه من ثل ،وعزه من ذل ،فإنها الرزيَّة التى ليس فيها
عزاء ،والبلية التى ليس مثلها بلء ،ومن قبل هذا ما كنت خاطبتك
– أعَّزك الله – بالنازلة فى مدينة قورية أعادها الله وإنَّها مؤيدة
مين بالجلء ،ثم ما زال من فيها من المسل ِ للجزيرة بالخلء ،و َ
ُ ْ ِ َّ
التخاذل يتزايد ،والتدابر يتساند حتى تخلصت القضية وتضاعفت
صلت فى يد العدو مدينة سرية ،وعليها قلعة تجاوزت حد البلية وتح َّ
القلع فى الحصانة والمتناع.
وهى من المدينة كنقطة دائرية تدركها من جميع نواحيها،
ويستوى فى الرض بها قاصيها ودانيها ،وما هو إل نفس خافت
وزمر داهق استولى عليها عدو مشترك وطاغية منافق ،إن لم
تبادروا بجماعتكم عجالً ,وتتداركها ركبانًا ورجالً ،وتنفروا نحوها
خفافًا وثقالً ،وما أحضكم على الجهاد بما فى كتاب الله فإنَّكم له
أتلى ،ول بما فى حديث رسول الله × فإنكم إلى معرفته أهدى،
صلها ويشُرحها، وكتابى إليكم هذا يحمله الشيخ الفقيه الواعظ يف ِّ
ضحها ،فإنه لما توجه نحوك ومشتمل على نكتة وهو يبينها ويو ِّ
احتسابًا ،وتكلف المشقة إليك طالبًا ثوابًا ،عوَّلت على بيانه,
ووثقت بفصاحة
() تاريخ ابن الكردبوس ص ( ،)88عن كتاب دولة المرابطين ،ص (.)62 1
() د .عدنان ،دولة السلم فى الندلس ودول الطوائف ،ص (.)92-91 2
80
لسانه ,وال َّ
سلم»(.)1
ثانيًا :ألفونسو والمعتمد بن عباد:
مد بن عَبَّاد فى أخطاء كثيرة؛ حيث تعاهد مع معْت َ ِ
لقد وقع ال ُ
مين فى طليْطِلة مقابل أن يسمح له َ َ ُ سل ِ ِ
م ْ
ألفونسو ضد إخوانه ال ُ
ألفونسو بأخذ ممالك ممن حوله إل َّ إن النصارى -كما علمت -ل
عهود لهم ول مواثيق ،فأراد ألفونسو أن يجد مبرًرا لضرب الحصار
مد حصونًا وقرى معْت َ ِ على إشبيلية ,واحتلل قرطبة ،فطلب من ال ُ
مد أنواعًا ت ع
ُ َْ ِ م ال مع ألفونسو ب إليه من تسليمها ,ومارس الموت أح ُّ
مد عن طوره ويلغى التفاقية معْت َ ِ من الذلل والتجنى لتخرج ال ُ
الهزيلة بين الطرفين ويجد ألفونسو والنصارى ما يبّرِر أفعاله
النتقامية والوحشية.
مد أن يسمح لزوجته القمطجية أن معْت َ ِفطلب ألفونسو من ال ُ
تلد فى جامع قرطبة بناءً على نصيحة الساقفة ،لأن الطرف
الغربى كان موقع كنيسة قرطبة القديمة ،وسأله أن تنزل بالزهراء
مدينة الخليفة الناصر ،لتكون ولدتها بين طيب نسيم الزهراء
وفضيلة موضع الكنيسة المزعوم( ،)2وأرسل إليه بعثة من
خمسمائة فارس برئاسة اليهودى ابن ساليب لخذ الجزية ،وتجرأ
ل أدبه إن كان له أدب ،وخرج على العرف السفير وق َّ
مد وقال« :ل تعتقدونى معْت َ ِ
الدبلوماسي ،وأغلظ فى القول لل ُ
بسيطًا لقبل مثل هذه العملة المزيفة ,ل آخذ إل الذهب الصافي،
مد النخوة السلميَّة معْت َ ِ ()3
السنة القادمة ستكون مدنًا» .فأخذت ال ُ
وصلب اليهودي ،وقتل البعثة ،وبذلك يكون ألفونسو قد تحصل
ما وصل خبر على ما يريده ،وكان ألفونسو متجهًا لحصار قرطبة فل َّ
مد فى إشبيلية ،وحَّرك جيوشه معْت َ ِ البعثة أقسم َ بآلهته ليغزون ال ُ
مر كل القرى والتخوم التى فى طريقه نحو نحو غرب النْدَلُس فد َّ
مر ويخّرِب ويقتل إشبيلية ,وخرج فى جيش من طريق آخر يد ِّ
ويحرق ويسفك ويسبي ،حتى وصل إلى جزيرة طريف أقصى
جنوب الَنْدَلُس على المضيق ،وأدخل قوائم فرسه فى البحر قائلً:
«هذا آخر بلد الَنْدَلُس قد وطئته»(.)4
ما بعد ..فل من هنا أرسل إلى المير يوسف بن تاشفين« :أ َّ و ِ
مين بل الملة السلميَّة ،كما سل ُِِ ْ م ال أمير ك َ ّ أن عينين ذى على خفاء
أنا أمير الملة النصرانية ،ولم يخف عليك ما عليه رؤساؤكم
بالَنْدَلُس من التخاذل والتواكل ،والهمال للرعية والخلد إلى
دّيار وأهتك الستار، الراحة ،وأنا أسومهم الخسف ،فأخرب ال ِ
( )2المصدر السابق نفسه. () دولة المرابطين ,ص (.)64-63 1
2
81
وأقتل الشبَّان وآسر الولدان ،ول عذر لك فى التخلف عن نصرتهم
إن أمكنك معرفة هذا ،وأنتم تعتقدون أن الله -تعالى -فرض على
واحد منكم عشرة منا ،وأن قتلكم فى الجنة وقتلنا فى النار،
ونحن نعتقد أن الله أظفرنا بكم وأعاننا عليكم ،ول تقدرون دفاعًا
ول تستطيعون امتناعًا ،وبلغنا عنك وأنَّك فى الحتفال عن نية
الستقبال فل يدرى أكان الجبن بك أم التكذيب بما أنزل عليك،
ي ما عندك من المراكب فإن كنت ل تستطيع الجواز فابعث إل َّ
نجوز إليك ،أناظرك فى أحب البقاع إليك؛ فإن غلبتنى فتلك نعمة
جلبت إليك ،ونعمة شملت بين يديك ،وإن غلبتك كانت لى اليد
العليا عليك ,واستكملت المارة ,والله يتم الرادة»(.)1
فكان رد ُّ يوسف بن تاشفين – رحمه الله – على ظهر الكتاب
ذاته« :ما ترى ل ما تسمع إن شاء الله -تعالى » -وأردف:
()2
العرمرم ول كتب إل المشرفية
والقنا
وعاد ألفونسو المغرور المتكبر إلى إشبيلية حيث التقى بجيشه
مد بن عَبَّاد بضفة النهر ،وحاصر المدينة ثلثة
معْت َ ِالخر أمام قصر ال ُ
مد يسأله أن يرسل إليه مروحة لطرد الذباب، معْت َ ِأيام ،وكتب إلى ال ُ
َ
مد هذه الهانة فرد ّ« :قرأت كتابك وفهمت خيلءك معْت َ ِ
ولم يتحمل ال ُ
وإعجابك ,وسأنظر إليك فى مراوح من الجلود اللمطية تروح منك ول
تروح عليك»(.)3
سطَة وحاصرها ،كانت سْرقُ ْترك ألفونسو إشبيلية وسار نحو َ
شبه ضائعة تنتظر مصيرها المؤلم ,وصاحبها ابن هود ل يستطيع
الدفاع كثيًرا ،ثم أخذ بلنسية ,وأعطاها القادر بن ذى النون صاحب
طُلَيْطِلَة السابق ،وهاجم مملكة المرية ,ووصل القشتاليون إلى
نابار قرب غرناطة ,كان الخطر على الَنْدَلُس شديدًا ،وقلة
الشجاعة وانهيار الروح المعنوية تثبط العزائم ،إذ أن ثمانين
قشتاليًا هزموا أربعمائة من المرية(.)4
ثالثًا :اجتماع علماء قرطبة:
أمام هذا الضياع المفزع الذى وصلت إليه ممالك الَنْدَلُس؛
اجتمع علماء وفقهاء وزعماء قرطبة للتشاور فيما يجب عمله
لنقاذ مدينتهم ،ووصل رأيهم بعد تبادل الراء والفكار إلى
استدعاء المرابطين.
مد أن هذا الرأى فيه صواب ونفاذ بصيرة؛ فجد َّ فى معْت َ ِ
ورأى ال ُ
1
( )4الرياض المعطار ،ص ()80 () تاريخ ابن الكردبوس ,ص (.)91 2
للحميري.
() تاريخ ابن الكردبوس ص ( ،)89نقل ً عن دولة المرابطين ،ص (.)66
3
.
4
82
تقوية جيشه ورمم الحصون والقلع ،وقَّرر أن يطلب النجدة من
مين ،وتشاور فى المر مع ابنه الرشيد وزعماء سل ِ ِ
م ْإخوانه ال ُ
إشبيلية الذين أشاروا عليه بمهادنة ألفونسو والخضوع لشروطه،
مد الذى خل بابنه معْت َ ِولكن هذا الرأى لم يجد هوى فى نفس ال ُ
ُ َ
الرشيد وكان ولى عهده وقال له« :أنا فى هذه النْدَلس غريب
بين بحر مظلم وعدو مجرم ،وليس لنا ولى ول ناصر إل الله ،وإن
جى منهم إخواننا وجيراننا ملوك الَنْدَلُس ليس فيهم نفع ،ول يُر َ
نصرة ،ول حيلة إن نزل بنا مصاب أو نالنا عدو ثقيل وهو اللعين
أذفونش فقد أخذ طُلَيْطِلَة وعادت دار كفر وها هو قد رفع رأسه
إلينا.
وإن نزل علينا طُلَيْطِلَة ما يرفع عنا حتى يأخذ إشبيلية ،ونرى
من الرأى أن نبعث إلى هذه الصحراء وملك العدوة نستدعيه
للجواز إلينا ليدافع عنا الكلب اللعين إذ ل قدرة لنا على ذلك
بأنفسنا ،فقد تلف لجاؤنا وتدبرت بل تبردت أجنادنا ,وبغضتنا
صة( .)1فأجابه الرشيد :يا أبت أتدخل علينا فى أَنْدَلُسنا العامة والخا َّ
من يسلبنا ملكنا ويبدد شملنا؟ فقال :أى بنى والله ل يسمع عنى َ
أبدًا أنى أعدت الَنْدَلُس دار كفر ول تركتها للنصارى فتقوم عل َّ
ي
مين مثل ما قامت على غيري ،والله سل ِ ِ
م ْ اللعنة من على منابر ال ُ
()2
خرز الخنازير» . خرز الجمال عندى خير من ُ ُ
َ
مد بن عَبَّاد فى النْدَلُس حذره ملوك معْت َ ِ
ولما انتشر رأى ال ُ
الطوائف من ذلك وقالوا له« :الملك عقيم والسيفان ل يجتمعان
فى غمد واحد» ،وعارض بشدة طلب العون من المرابطين عبد
الله بن سكوت والى مالقة الذى كان يرى أن المرابطين أشد
-
خطًرا من النصارى ،ويجب العتماد على القوة الذاتية للَنْدَلُسيين
()4 ()3
مد« :رعى الجمال خير من رعى الخنازير» معْت َ ِ
،فأجابهم ال ُ
وأضاف :إن دهينا من مداخلة الضداد لنا فأهون الشَّرين أمر
الملثمين»(.)5
وقال للذين لموه على هذا الرأي :يا قوم إنَّى فى أمرى على
حالين :حالة يقين وحالة شك ،ولبد لى من أحدهما ،أ َّ
ما حالة
الشك فإنِّى إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الذفونش ففى
ي ،ويمكن أن ل يفعل فهذه حالة الممكن أن يفيا لى ويبقيا عل َّ
شك.
ما حالة اليقين فإن ِّى إن استندت إلى ابن تاشفين فإنى وأ َّ
أرضى الله ،وإن استندت إلى الذفونش أسخطت الله تعالى ،فإذا
كانت حالة الشك فيها عارضة فلى شيء أدع ما يرضى الله وآتى
( )3المصدر السابق ،ص (.)68 () دولة المرابطين ،ص (.)68 1
2
83
ما يسخطه؟ حينئذٍ قصر أصحابه عن لومه(.)1
مد
معْت َ ِولما عَزم على طلب النصرة من المرابطين؛ اتصل ال ُ
و ِكّل بن الفطس صاحب بطليوس ،وعبد الله بن بلقين مت َ َ بال ُ
الصنهاجى صاحب غرناطة ،وطلب منهما أن يرسل كل منهما
قاضى مدينته حتى يكونوا وفدًا إلى المرابطين لمقابلة المير
يوسف بن تاشفين ،وتشكَّلت البعثة من قاضى قرطبة ابن أدهم،
وقاضى بطليوس ابن مقانا ,وقاضى غرناطة ابن القليعي ,ومعهم
مد إلى القضاة وعظ معْت َ ِمد أبو بكر بن زيدون ,وأسند ال ُ معْت َ ِ
وزير ال ُ
المير يوسف وترغيبه فى الجهاد ،وأسند إلى وزيره إبرام العقود،
مد إلى المير يوسف معْت َ ِوحملت البعثة معها رسالة مكتوبة من ال ُ
ّ
صها« :بسم الله الرحمن الرحيم ,وصلِى مؤرخة 479هـ ,وهذا ن ُّ
ما ..إلى مد وعلى آله وصحبه وسلم تسلي ً ح َّ
م َ الله على سيدنا ُ
دّين ومحيى دعوة الخليفة، ِ ال وناصر المسلمين أمير حضرة المام
المام أبى يعقوب يوسف بن تاشفين ،القائم بعظيم أكبارها،
شاكر لجللها المعظ ِّم لما عظم الله من كريم مقدارها ،اللئذ ال َّ
مو مجدها ,المستجير بالله وبطولها بحرامها ,المنقطع إلى س ُّ
مد عباد سلم كريم يخص الحضرة المعظمة السامية ورحمة ح َّ م َ ُ
الله تعالى وبركاته.
كتب المنقطع إلى كريم سلطانها من إشبيلية فى غرة جمادى
مين ونصر به سل ِ ِ م ْالولى 479هـ1086 /م وإنَّه أيَّد الله َأمير ال ُ
دّين ،فإنَّا -نحن العرب -فى هذه النْدَلُس قد تلفت قبائلنا، ال ِ
وتفَّرق جمعنا ،وتغي ّرت أنسابنا بقطع المادة عنا من ضيعتنا؛ فصرنا َ
ل نصرنا ،وكثر شعوبًا ل قبائل ,وأشتاتًا ل قرابة ول عشائر ،فق َّ
َ
ماتُنا ،وتول ّى علينا هذا العدو المجرم اللعين ألفونسو وأناخ علينا ش َّ ُ
مين ،وأخذ البلد والقلع سل ِ ِ
م ْ
وأسر ال ُ بطليْطِلة ووطئها بقدمه، َ َ ُ
ُ
والحصون ،ونحن أهل هذه النْدَلس ليس لحد منا طاقة على َ
نصرة جاره ول أخيه ،ولو شاءوا لفعلوا إل أن الهواء والماء منعهم
من ذلك ،وقد ساءت الحوال ،وانقطعت المال ،وأنت أيدك الله
سيد حمير ،ومليكها الكبر ،وأميرها وزعيمها ،نزعت بهمتى إليك
واستنصرت بالله ثم بك ،واستغثت بحرمكم لتجوز بجهاد هذا العدو
مد × ،ولكم ح َّم َ
الكافر وتحيون شريعة السلم وتدينون على دين ُ
عند الله الثواب الكريم على حضرتكم السامية السلم ورحمة الله
وبركاته ول حول ول قوة إل بالله
العلى العظيم»(.)2
ث المير وأرسلت وفود شعبية من الشيوخ والعلماء رسائل تح ُ
() نفح الطيب (.)6/91 1
84
على إنقاذ الَنْدَلُس.
دّين ،وعرض أميرهم مصاب إخوانهم فى ال ِ المرابطون ل ُ وتأثر
ل والعَقْد عنده ،وأجمعوا ُ
قضية مسلمى النْدَلس على أهل الح ِّ َ
على نصرة دينهم وإعزاز كلمة التوحيد ،وكان وزير يوسف
ومستشاره أَنْدَلُسى الصل اسمه عبد الرحمن بن أسبط أو
مد بن عَبَّاد معْت َ ِ أسباط ،فنصحه المستشار بأن يطلب من ال ُ
الجزيرة الخضراء لكى تكون آمنة لعبور الجيش ،ولحماية خطوط
التموين ،وقال له :إن المر لله تعالى ولكم ،وواجب على كل
مسلم إغاثة أخيه المسلم والنتصار له ،واقتنع المير يوسف برأى
وزيره فى طلب الجزيرة الخضراء ليجعل فيها أثقال جيشه
وأجناده ويكون الجواز بيده متى شاء ،وقال المير يوسف لعبد
الرحمن :صدقت يا عبد الرحمن ,لقد نبهتنى على شيء لم يخطر
ببالي ,اكتب إليه بذلك.
مد بن عَبَّاد الكتاب التالى ن ُّ
صه: معْت َ ِ وكتب ابن أسبط إلى ال ُ
مد وآله َ ح ّ
م َ
«بسم الله الرحمن الرحيم ,وصلى الله على سيدنا ُ
وصحبه وسل ِّم.
مين وناصر الدِّين معين دعوة أمير المؤمنين، سل ِ ِ
م ْ من أمير ال ُ
مد على الله أبى معْت َ ِ إلى المير أكرم المؤيد بنصرة الله تعالى ال ُ
مد بن عَبَّاد أدام الله كرامته بتقواه ،ووفقه لما يرضاه، ح َّم َ
القاسم ُ
سلم عليكم ورحمة الله وبركاته ،أما بعد:
فإنه وصل خطابك الكريم ،فوقفنا على ما تضمنه من
استدعائنا لنصرتك ،وما ذكرته من كربتك ،وما كان من قلة حماية
جيرانك ،فنحن يمين لشمالك ومبادرون لنصرتك وحمايتك ،وواجب
شرع ,وفى كتاب الله تعالى ،وإنَّه ل يمكننا الجواز إل علينا فى ال َّ
أن تُسل ِّم لنا الجزيرة الخضراء؛ تكون لنا لكى يكون جوازنا إليك
على أيدينا متى شئنا ،فإن رأيت ذلك فاشهد على نفسك بذلك,
وابعث إلينا بعقودها ونحن فى أثر خطابك إن شاء الله تعالى».
مد ابنه الرشيد على خطاب المير يوسف فقال له: معْت َ ِ اطلع ال ُ
مد :يا بنى هذا قليل معْت َ ِ
يا أبت أل تنظر إلى ما طلب؟ فقال له ال ُ
مد القاضى والفقهاء، معْت َ ِ مين ،ثم جمع ال ُ سل ِ ِ م ْفى حق نصرة ال ُ
وكتب عقد هبة الجزيرة الخضراء للمير يوسف ،وتسليمها له
مد ،فبعث إليه معْت َ ِ بحضورهم ،وكان يحكمها يزيد الراضى بن ال ُ
ً
أمره بإخلئها وتسليمها للمرابطين لتكون رهنا بتصرف المير
مد تجهَّز يوسف لتلبية نداء إخوانه معْت َ ِ
يوسف .وبعد موافقة ال ُ
()1
.)103
85
وكتب أمانًا لهل الَنْدَلُس أل يتعرض لحد منهم فى بلده وقال:
ب لنصرة هذا الدِّين ,ل يتولى المر أحد إل أنا منتَد َ ٍ «أنا أول ُ
بنفسي» وأعلن النفير العام فى قوات المرابطين ،فأقبلت من
مراكش ,ومن الصحراء وبلد الزاب ,ومن مختلف نواحى المغرب
يتوافدون على قيادتهم الربَّانية ،وجهزت السفن لتحمل هذه
القوات ،وكان أول من نفَّذ أمر العبور قائد المرابطين النابغ داود
ابن عائشة ,وتمركز فى الجزيرة الخضراء ،وتتابعت كتائب
المرابطين ،وكانت معهم الجمال الكثيرة ،وقد أثار وجودها دهشة
الَنْدَلُسيين ،لنَّهم لم يكونوا يعرفونها من قبل ،وقد أثَّر وجودها
على الخيل فأخذت تجمح لدى رؤيتها.
ولما تكامل الجيش المرابطى بساحل الجزيرة الخضراء ,ركب
المير يوسف ومعه قادة من خيرة قادة المرابطين وصلحائهم،
ما ركب واستوى على السفينة رفع يديه نحو السماء مناجيًا: ول َّ
مين فسهِّل علينا سل ِ ِ
م ْ
«اللهم إن كنت تعلم أن جوازنا هذا إصلح لل ُ
()1
هذا البحر حتى نعبره ،وإن كان غير ذلك فصعبه حتى ل نجوزه» .
وسهل الله عبورهم ،وكان ذلك يوم الخميس بعد الزوال منتصف
ربيع الول 479هـ حزيران 1086م ،وصلى المير يوسف بالجزيرة
الخضراء صلة الظهر ،وقام أهل الجزيرة بضيافة المرابطين،
وظهر فرحهم وسرورهم على وجوههم ،وبدأ المير يوسف فى
مم أسوارها وما تصدَّع من أبراجها، تحصين الجزيرة الخضراء ،ور َّ
وشحنها بالسلحة والطعمة وكلف مجموعة من جنوده بحراستها
ثم ساروا نحو إشبيلية(.)2
مد مع قادة قومه وشيوخ مدينته وفقهاء بلده معْت َ ِ سارع ال ُ
لستقبال أمير المرابطين ،ولما التقى بيوسف تعانقا طويل ً بمودة
وحب وإخلص وأخوة فى الدِّين ،وتذاكرا نعم الله عليهما ،وتواصيا
مد معْت َ ِمين ،وكان ال ُ سل ِ ِ
م ْ
بالصبر والجهاد فى سبيل نصرة دين ال ُ
مل ً بالهدايا ،وأصدر أوامره لعمال البلد بجلب الرزاق لضيافة مح َّ ُ
ما وجوادًا باذل ً للخير. ً كري مدِ َ تْ ع م
ُ ال وكان المرابطي، الجيش
مد الجيش المرابطى فرأى «عسكًرا نقيًا معْت َ ِ
واستعرض ال ُ
ومنظًرا بهيًا»(.)3
وواصل المير يوسف سيره نحو إشبيلية حيث كان يستقبل
بالترحاب مع جيشه المرابطى على امتداد الطريق حتى وصل
مد:معْت َ ِمد ،فأقام بها ثلثة أيام للستراحة ,ثم قال لل ُ معْت َ ِ
حاضرة ال ُ
( )2انظر :الحلل ,ص (.)79 () دولة المرابطين ،ص (.)75 2
3
86
«إنما جئت ناويًا جهاد العدو حيثما كان توجهت»(.)1
وأثناء مقام المير يوسف فى إشبيلية بعث المير يوسف إلى
ملوك الَنْدَلُس يستنفرهم للجهاد( ،)2فكان أول من لبى الدعوة
عبد الله بن بلقين الصنهاجى صاحب غرناطة الذى خرج إليه
بأمواله ورجاله ،وأخوه تميم صاحب مالقة ،وأرسل ابن صمادح
ابنه معز الدولة فى فرقة من جيشه ,وسار المير الربَّانى والقائد
و ِكّل بن الفطس مت َ َ
الميدانى نحو بطليوس ،فاستقبلهم صاحبها ال ُ
على ثلث مراحل من المدينة( ,)3وقدَّم لهم الهدايا والضيافة
ما عدة حتى وعلف الدواب وظهر منه جود وكرم ،وأقام المير أيا ً
يصل باقى المتطوعين إل أن أكثرهم لم يصل لنشغالهم بمدافعة
َّ
-
ط رحاله عند سهل الّزِلقَة النصارى ،فتابع سيره الجهادى حتى ح
( ,)4وكان يبعد عن بطليوس ثمانية أميال.
شا,ونظَّم يوسف بن تاشفين جيشه ،فجعل الَنْدَلُسيين جي ً
مد بن عَبَّاد الذى تولى معْت َ ِمستقل ً بذاته وأسند قيادته إلى ال ُ
متَوَكِّل بن الفطس ،وجعل أهل المقدمة ،وأسندت الميمنة إلى ال ُ
شرق الَنْدَلُس على الميسرة ،وباقى أهل الَنْدَلُس فى الساقة.
أَّما الجيش المرابطى فتولى داود ابن عائشة قيادة فرسانه ،وأما
سير بن أبى بكر فتولى قيادة الحشم ،وبقية المرابطين مع حرس
المير يوسف بن تاشفين إلى جانب قيادته الجيش السلمي ،وعسكر
المرابطون خلف الَنْدَلُسيين تفصل بينهم ربوة بقصد التمويه ،وكان
()5
تعداد جيش المرابطين والَنْدَلُسيين أكثر من 24ألف جندي
وتضاربت الروايات فى ذلك.
سطَة ,ولما وصله الخبر سْرقُ ْ وكان ألفونسو مشغول ً بمحاصرة َ
السعيد ارتبك وجزع ،وطلب من المستعين بن هود حاكم
سطَة أن يدفع له مال ً مقابل فك الحصار ،فامتنع ابن هود لما سْرقُ ْ َ
َ
مه من وصول المرابطين وق ّرر أل يساعد ألفونسو بأى مال عَل ِ َ
مين.سل ِِ
ُ ْم ال قتال على به يستعين
واضطَّر ألفونسو لرفع الحصار ،ورجع مسرعًا إلى طُلَيْطِلَة ،وأعلن
الستنفار العام ،وحل نزاعه وخلفه مع بعض أمراء النصارى ،وأرسل
إلى َمن وراء جبال ألبرتات فأتته أفواج عديدة من النصارى متطاوعة
مقدَّسة ،وجند الفونسو كل َمن يستطيع حمل من أجل الحرب ال ُ
َ
السلح صغيًرا أو كبيًرا ،ونظ ّم جيشه وقسمه إلى قسمين كبيرين:
( )4مذكرات المير عبد الله بن () دولة المرابطين ،ص (.)79 1
( )6وفيات العيان( ،ج .)5/29 () دولة المرابطين ,ص (.)80 3
4
87
أسند قيادة الجيش الول إلى ابن عمه الكونت غرسيا ورودريك ،وما
لبث غرسيا أن انسحب قبل بدء المعركة أثر خلف مع ألفونسو الذى
أبقى رودريك فى القيادة ،واحتفظ بقيادة الجيش الثانى وعيَّن على
()1 َّ
جناحيه سانتشور أميرز والكونت برنجار ريموند ,وتولى هو القلب ,
«وكان جيش ألفونسو يعتمد على الفرسان كمجموعة ,وكان الفارس
يلبس الزرد والدروع التى تغطيه من الرأس إلى القدم كأنَّه حصن
من الحديد يتحرك لتزداد شجاعته وجرأته».
ولما استعرض جيشه نفخ فيه الشيطان غروره وكبرياءه ،وقال
قولة تدل على تجذر كفره وعتوه وفساد معتقده حيث قال« :بهذا
مد والنس والجن والملئكة»(.)2 ح َّ
م َ ح َّ
مدا وآل ُ م َ
الجيش ألقى ُ
«وكانت جموع الرهبان والقسيسين أمام جيش ألفونسو الملعون
يرفعون النجيل والصلبان لذكاء الحماس الدِّينى فى نفوس الجنود
الذين بلغ عددهم أكثر من ستين ألفًا»(.)3
مد بن معْت َ ِ
وخرج ألفونسو بجيشه نحو بطليوس ،وكتب إلى ال ُ
عَبَّاد كتابًا جاء فيه« :إن صاحبكم يوسف قد تعنَّى من بلده وخاض
البحار ،وأنا أكفيه العناء فيما بقى ,ول أكلفكم تعبًا ،وأمضى إليكم
وألقاكم فى بلدكم رفقًا بكم وتوفيًرا عليكم»(.)4
وقصد ألفونسو بذلك أن تكون المعركة خارج بلده فإذا انهزم
ولحقوا به يكون مسيرهم فى أرضهم ولبد من الستعداد لكتساح
بلده ،وبذلك تنجو من التدمير ،وإذا انتصر حدث ذلك فى أرض
أعدائه.
وصل ألفونسو إلى بطحاء الّزِلقَة وخيم على بعد ثلثة أميال
من الجيش المسلم يفصل بينهما نهر بطليوس يشرب منه
المتحاربون(.)5
جا كبيًرا ,حيث لقد انزعج ألفونسو من مجيء المرابطين انزعا ً
شعر بعودة الروح المعنوية إلى أهالى الَنْدَلُس الذين كان
يسومهم سوء العذاب ،يُقتِّل رجالهم ويسبى نساءهم ،ويأخذ منهم
الجزية ،ويحتقرهم ويزدريهم ،ويتلعب بمصيرهم ,وينتظر الفرصة
لستئصالهم من الَنْدَلُس ،لتعم النصرانية فى سائر البلد ،ويرتفع
الصليب على أعناق العباد ،وإذا بالمرابطين يربكون مخططاته
ص (.)84
88
ويبددون أحلمه.
جه ضربة قاصمة لمن كان السبب لذلك أراد ألفونسو أن يو ِّ
مد بنمعْت َ ِصا للفارس المغوار ال ُ فى استدعاء المرابطين وخصو ً
وكِّل بن الفطس ،وكان يرى أن نصره يعتمد على
َ عَبَّاد وقرينه ال ُ
مت َ َ
تكبيل القوة الدَّاخلِيَّة فى النْدَلُس بالهزائم المتتالية والمتلحقة.
أما المرابطون بعد ذلك سيرجعون إلى وطنهم الصلى
المغرب ،وبالقضاء على الَنْدَلُس يسهل القضاء على المرابطين
بسبب جهلهم بالطبيعة الجغرافية للبلد.
ومما ساعد ألفونسو على أن يعيش فى تلك الحلم فتور
معظم أهل الَنْدَلُس بسبب ترفهم ونعيمهم وجبنهم وحبهم للحياة
وهروبهم من الشهادة ،كما أن أسباب الهزيمة نخرت فى ذلك
المجتمع المتهالك.
وكِّل بن الفطس مد بن عَبَّاد صاحب إشبيلية وال ُ
مت َ َ معْت َ ِأما ال ُ
من ظفر عاش صاحب بطليوس فقد قررا امتشاق الحسام ،ف َ
من مات كان شهيدًا(.)1 سعيدًا و َ
وأما المرابطون الذين تربوا على تعاليم السلم وأصول أهل
جماعَة ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إل بعد تربية عميقة، السنة وال َ
وتكوين فريد وإيمان راسخ ساهم علماء وفقهاء المالكية فى ذلك،
وعلى رأسهم الفقيد الشهيد ابن ياسين ,فقد مروا بمراحل
صقلتهم وحروب زكتهم ،وأصبحوا متشوِّقين إلى الستشهاد
معتمدين على رب العباد ,آخذين بأسباب النصر المعنوية والمادية.
وكان رأى المرابطين إن المعركة فى الَنْدَلُس مصيرية للمة
السلميَّة وبذلك ل يمكن العتماد على شعب مهزوم وقع فى أسر
المعاصى والذنوب.
وكما أن انتصارهم فى الَنْدَلُس يرعب أعداءهم وخصومهم فى
المغرب ويتم بنصرهم إنقاذ السلم والحضارة فى ذلك البلد
البعيد عن العالم السلمي.
مين ،ودعمته سل ِ ِم ْكان ألفونسو يقود حربًا صليبية شرسة ضد ال ُ
الكنيسة فى روما بالجنود والعتاد والموال ،ورغبت بلدان الفرنجة
مين. سل ِ ِ
م ْبالوقوف مع ألفونسو فى حربه المقدسة ضد ال ُ
إن الجانب المادى عند النصارى كان أعلى بكثير مما عند
ن الجانب المعنوى عند المرابطين ل حدود له. المرابطين ،ولك َّ
وأرسل يوسف بن تاشفين إلى ألفونسو كتابًا يعرض عليه
() انظر :دولة المرابطين ،د .سعدون عباس ،ص (.)85 1
89
الدخول فى السلم أو دفع الجزية أو الحرب ،ومما جاء فى كتاب
المير« :بلغنا يا أذفونش أنَّك نحوت الجتماع بنا ,وتمنيَّت أن تكون
ك تعبر البحر عليها إلينا ،فقد جزناه إليك ،وجمع الله فى لك فُل ْ ٌ
هذه العرصة بيننا وبينك ،وترى عاقبة ادعائك (وما دعاء الكافرين
إل فى ضلل)» (.)1
ولما قرأ ألفونسو الكتاب زاد غضبه وذهب بعقله وقال:
«أبمثل هذه المخاطبة يخاطبنى وأنا وأبى نغرم الجزية لهل ملته
منذ ثمانين سنة؟» ( )2وقال لرسول المير يوسف« :قُل للمير ل
-
تتعب نفسك أنا أصل إليك»( ،)3وإنَّنا سنلتقى فى ساحة المعركة
( ،)4ومعنى ذلك أن ألفونسو اختار الحرب ،وحاول ألفونسو حامى
مين ويمكر بهم ،فكتب سل ِ ِ
م ْحمى النصرانية فى إسبانيا أن يخدع ال ُ
إلى المير يوسف فى تحديد يوم المعركة فكتب إليه« :إن بعد غد
الجمعة ل نحب مقابلتكم فيه لنَّه عيدكم ،وبعده السبت يوم عيد
اليهود ،وهم كثير فى محلتنا ،وبعده الحد عيدنا ،فنحترم هذه
العياد ،ويكون اللقاء يوم الثنين» فكان جواب المير يوسف:
()5
مد وقال للميرمعْت َ ِ
«اتركوا اللعين وما أحب» فاعترض ال ُ
يوسف« :إنها حيلة منه وخديعة إنَّما يريد غدرنا فل تطمئن إليه،
وقصده الفتك بنا يوم الجمعة فليكن الناس على استعداد له يوم
الجمعة كل النَّهار»(.)6
مون لرصد تحركات النصارى وكان حدس سل ِ ُ
م ْ واستعد ال ُ
حا ,ورصدوا تحرك العدو نحوهم. مد صائبًا صحي ً معْت َ ِ
ال ُ
وانقض الجيش الذى يقوده رودريك بمنتهى العنف على
مين من الَنْدَلُسيين فتصدَّى فرسان المرابطين سل ِ ِ
م ْ
معسكر ال ُ
الذين يقودهم داود ابن عائشة الذين أرسلهم يوسف ابن تاشفين
على عجل لدعم الَنْدَلُسيين ،وصمد المرابطون أمام هجوم
النصارى ،واضطر النصارى إلى الرتداد إلى خط دفاعهم الثانى
وظهرت من داود ابن عائشة وجنوده كفاءة قتالية لم يعرف لها
مثيل ،واختار الله من المرابطين شهداء ،واحتدم الصراع ،وزحف
ألفونسو ببقية جيشه ،وأقرن زحفه بصياح هائل أفزع قلوب
الَنْدَلُسيين قبل خوضهم المعركة ،ولذوا بالفرار ووجدوا أنفسهم
أمام أسوار بطليوس للحتماء بها ،ولم يصمد منهم إل فارس
90
َ
مد بن عَبَّاد وأهل إشبيلية» وأبلى بل ًء النْدَلُسيين وقومه «ال ُ
معْت َ ِ
ما وعقرت تحته ثلثة أفراس ،وأصيب بجروح بليغة ،واستمرت عظي ً
مد مع داود ابن عائشة حتى فلت معْت َ ِ
المعركة الرهيبة ،وصمد ال ُ
مون فى المعركة صبًرا ل س
ُ ْ ِ ُ مال وصبر الرماح, السيوف ،وتكسرت
ما سجل فى صفحات المجد والعزة والكرامة فى تاريخنا عظي ً
المجيد.
مين تضعف وتتقهقر أمام ضربات النصارى سل ِ ِ
م ْ
وبدأت قوة ال ُ
قدًا إن هذه هى قوة معت
ُ َِ النصر ببلوغ ألفونسو الحاقدة ،وأيقن
مين المقاتلة التى ظهر العياء عليها ،وأخذت موقف سل ِ ِ م ْ ال ُ
ً
المدافعة ،ولم يستغرق ألفونسو طويل فى أحلمه حتى وثب
جيش من المرابطين إلى ميدان المعركة أرسله المير يوسف
بقيادة سير بن أبى بكر على رأس الحشم لمساندة القوات
السلميَّة ،فتقوَّت بذلك معنوياتهم فى معركة مالت إلى هزيمتهم،
وزحف المير يوسف بحرسه المرابطي ،وقام بعملية التفاف
سريعة باغت فيها معسكر العدو من الخلف ،ووصل إلى خيامه
وأحرقها وأباد حراسها ،ولم ينج منهم إل القليل ،وكانت طبول
المرابطين تدق بعنف فترتج منها الرض ،ورغاء الجمال يتصاعد
إلى السماء فبث الذعر فى نفوس العداء وهلعت قلوبهم(.)1
وذهل ألفونسو عندما رأى بعض حرس معسكره فا ّ ِرين ،وأتته
الخبار من داخل المعسكر باستيلء المرابطين عليه ،وأنَّه خسر
حوالى عشرة آلف قتيل( ,)2ووجد ألفونسو نفسه محاصًرا من
مين فاضطر للقتال متقهقًرا نحو معسكره المحروق ،ولكن سل ِ ِ م ْ ال ُ
يوسف لم يترك له الفرصة للتقاط النفاس ،فانق َّ
ض عليه
كالسيل ،وقاتل ألفونسو عند ذلك قتال المستميت ،وكان المير
مين قائلً« :يا معشر سل ِ ِ
م ْيوسف يبث الحماس فى نفوس ال ُ
مين اصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين ,ومن ُرزِق منكم سل ِ ِ م ْ ال ُ
الشهادة فله الجنة ومن سلم فقد فاز بالجر العظيم والغنيمة»،
وكان رحمه الله يقاتل فى مقدمة الصفوف وهو ابن التاسعة
والسبعين ،وكأن العناية اللهية كانت تحميه( ،)3وكان فقهاء
مين وصالحوهم يعظون الجنود ويشجعونهم على مصابرة سل ِ ِ م ْ ال ُ
دّين ،وفى هذا الجو الرهيب من القتال الذى دام بضع ِ ال أعداء
ساعات وسقط فيه آلف القتلى ،وغمر الدم ساحة المعركة
عندما دفع المير حرسه الخاص من السودان إلى القتال ،فترجل
منهم أربعة آلف كانوا مسلحين بدروق اللمط وسيوف الهند
ونزاريق الزان(.)4
( )2ابن الكردبوس ،ص (.)93 () الحلل الموشية ،ص (.)42 1
2
91
اندفعوا إلى المعركة اندفاع السود فحطموا مقاومة
مين سل ِ ِ
م ْ سرت شوكتهم ,وانقض أسد من أسود ال ُ النصرانية ،وتك َّ
على ألفونسو وطعنه فى فخذه ،ولذ النصارى بالفرار ،وتمنى
ألفونسو الموت على العيش ,ولجأ مع خمسمائة فارس من
-
فرسانه إلى تل قريب ينتظر الظلم لينجو من سيوف المرابطين
(.)1
ومنع يوسف جنوده من اللحاق بهم ،وكانت مناسبة للفونسو
ما حزينًا الذى تابع سيره مع الظلم إلى طُلَيْطِلَة ،وصل إليها مغمو ً
حا بعد أن فقد خيرة رجاله وجنوده وقادة جيشه. كسيًرا جري ً
وفقد ألفونسو فى الّزِلقَة القسم العظم من جيشه ،وأمر
مون منها سل ِ ُ
م ْ
يوسف بضم رءوس القتلى من النصارى ،فعمل ال ُ
مآذن يؤذنون عليها ,واستشهد فى تلك المعركة الخالدة جماعة
من العلماء والفقهاء ،قلما يجود الزمان بمثلهم منهم قاضى
مراكش عبد الملك المصمودي ،والفقيه الناسك أبو العبَّاس بن
()2
مون السلب والغنائم التى تركها سل ِ ُ
م ْرميلة القرطبي .وجمع ال ُ
النصارى وراءهم فى ساحة المعركة ،وآثر المير يوسف بها ملوك
الَنْدَلُس ،وقد عَّرفهم أن هدفه الجهاد فى سبيل الله ونصرة
السلم(.)3
وأرسل المير يوسف إلى المغرب أخبار النصر المبين وهذا
نص خطابه« :
فّل بنصر أهل دينه الذى ارتضاه، ما بعد حمدًا لله المتك ِ أ َّ
مد أفضل وأكرم خلقه ،فإن العدو ح َّم َ والصلة والسلم على سيدنا ُ
الطاغية لما قربنا من حماه وتوافقنا بإزائه بلغناه الدعوة ،وخيرناه
بين السلم والجزية والحرب ،فاختار الحرب ،فوقع التفاق بيننا
وبينه على الملقاة يوم الثنين 15رجب وقال :الجمعة عيد
مين ,والسبت عيد اليهود ,وفى عسكرنا منهم خلق كثير، سل ِ ِ م ْال ُ
والحد عيدنا نحن ،فافترقنا على ذلك ،وأضمر اللعين خلف ما
شرطناه وعلمناه أنهم أهل خدع ونقض عهود فأخذنا أهبة الحرب
لهم ،وجعلنا عليهم العيون ليرفعوا إلينا أحوالهم ،فأتتنا النباء فى
سحر يوم الجمعة 12رجب أن العدو قد قصد بجيوشه نحو
مين ،يرى أنه قد اغتنم فرصته فى ذلك الحين ،فنبذت إليه سل ِ ِ م ْال ُ
مين ،وفرسان المجاهدين فتغشته قبل أن يتغشاها، سل ِ ِم ْأبطال ال ُ
مين على جيوشهم سل ِ ِ وتعدَّته قبل أن يتعداها ،وانقضت جيوش ال ُ
م ْ
() ملوك الطوائف ،ص (.)314 1
92
كانقضاض العقاب على عقيرته ،ووثبت عليهم وثوب السد على
فريسته ،وقصدنا برايته السعيدة المنصورة فى سائر المشاهد
ما أبصر مشتهرة ونظروا إلى جيوش لمتونة نحو ألفونسو – فل َّ
النصارى راياتنا المشتهرة المنتشرة ،ونظروا إلى مراكبنا
َ
المنتظمة المظفرة ،وأغشتهم بروق الصفاح ,وأظل ّتهم سحائب
الرماح ,ونزلت بحوافر خيولهم رعود الطبول بذلك الفياح ،فالتحم
مين حملة منكرة؛ سل ِ ِ م ْ
النصارى بطاغيتهم ألفونسو ،وحملوا على ال ُ
فتلقَّاهم المرابطون بنيَّات خالصة وهمم عالية ،فعصفت ريح
الحرب وركبت دائم السيوف والرماح ،بالطعن والضرب ،وطاحت
المهج وأقلبت سيل الدماء فى هرج ,ونزل من سماء الله على
أوليائه النصر العزيز والفرج.
َ
وول ّى ألفونسو مطعونًا فى إحدى ركبتيه طعنة أفقدته إحدى
ساقيه فى 500فارس من ثمانين ألف فارس ومائتى ألف راجل
َ
قادهم الله على المصارع والحتف العاجل ،وتخل ّص إلى جبل
هنالك ,ونظر النهب والنيران فى محلته من كل جانب وهو من
أعلى الجبل ينظرها شذًرا ،ويحيد عنها صبًرا ،ول يستطيع عنها
دفعًا ول لها نصًرا ،فأخذ يدعو بالثبور والويل ،ويرجو النجاة فى
مين يحمد الله؛ قد ثبتت فى وسط سل ِ ِ
م ْ
ظلم الليل ،وأمير ال ُ
المعركة مراكبه المظفرة ،تحت ظلل بنوده المنتشرة منصوًرا
لجهاد مرفوع العداء ،ويشكر الله تعالى على ما منحه من نيل
السؤال والمراد ،فقد سرح الغارات فى محلتهم تهدم بناءها،
وتصطلم ذخائرها وأسبابها ،وتريه رأى العين دمارها ونهبها،
وألفونسو ينظر إليها نظر المغشى عليه ،ويعض غيظًا وأسفًا على
أنامل كفيه ،فتتابعت البهرجة الفرار ،رؤساء الَنْدَلُس المهزومين
نحو بطليوس والفار ،فتراجعوا حذًرا من العار ،ولم يثبت منهم غير
مد بن عَبَّاد ،فأتى أمير زعيم الرؤساء والقوَّاد ،أبو القاسم ال ُ
معْت َ ِ
مين وهو مهيض الجناح ،مريض عنه وجراح ،فهنأه بالفتح سل ِ ِ
م ْ
ال ُ
َ ّ
الجليل ،وتسل َ
ل ألفنش تحت الظلم فاًرا ل يهدى ول ينام ومات
من الخمسمائة فارس الذين كانوا معه بالطريق أربعمائة فلم
يدخل طُلَيْطِلَة إل مائة فارس والحمد لله على ذلك كثيًرا.
وكانت هذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة يوم الجمعة 12
رجب 479هـ 23/شهر أكتوبر 1086م ..العجمي(.)1
ف إليه مد إلى ابنه الرشيد فى إشبيلية يز ُّ معْت َ ِوأرسل ال ُ
البشرى بالنصر ،وكان الناس بانتظار النباء على أحّرِ من الجمر،
وقد حمل الرسالة الحمام الزاجل وهى مقتضبة إذ ل تتعدى
مين بالطاغية سل ِ ِ
م ْ السطرين ،هذا نصها« :اعلم أنه التقت جموع ال ُ
() انظر :الحلل الموشية ،ص (.)47-45 1
93
مين وهزم على أيديهم سل ِ ِ
م ْ
ألفونسو اللعين ففتح الله لل ُ
المشركين والحمد لله رب العالمين ،فأعلم بذلك من قبلك إخواننا
مين والسلم» ،وقرئت الرسالة بمسجد إشبيلية فعمها سل ِ ِ
م ْ
ال ُ
السرور ،ثم توالت الكتب تفيض بأخبار النصر منها إنشاء الكاتب
ابن عبد الله بن عبد البر النمرى وفيه يحدد تاريخ المعركة وسيرها
وما أظهره ألفونسو من الغدر والخرة للصالحين(.)1
وأصبح يوم الّزِلقَة عند المغاربة والَنْدَلُسيين مثل يوم
القادسية واليرموك« :يوم لم يسمع بمثله من القادسية
واليرموك ،فياله من فتح ما كان أعظمه ،يوم كبير ما كان أكرمه،
فيوم الّزِلقَة ثبتت قدم الدِّين بعد زلقها وعادت ظلمة الحق إلى
إشراقها».
نتائج معركة الزلقة:
كانت لمعركة الّزِلقَة نتائج مهمة من أهمها:
َ
-1رفع الروح المعنوية لهل النْدَلُس ,خصو ً
صا بعد أن أنقذ
سطَة من سقوط محتَّم ،وأزاح عن سْرقُ ْ
الله بها سقوط َ
ملوك الطوائف وأمرائها كابوس النصارى ومتطلباتهم التى
ل تنتهى من الجزية وغيرها.
صة أنهم قد -2سقوط هيبة ملوك الطوائف أمام رعاياهم خا َّ
هزموا فى بدء المعركة ولول أن أكرمهم الله بالمرابطين
لضاعت الَنْدَلُس.
-3امتناع الرعية عن دفع الضرائب المخالفة لتعاليم السلم
ُ
وتعل ّقهم بالمرابطين.
-4مهَّدت الّزِلقَة إلى إسقاط دول الطوائف فيما بعد على يد
منقذيهم.
-5ظهور نجم يوسف بن تاشفين والمرابطين فى العالم
أجمع.
-6انصياع قبائل المغرب التى كانت مترددة فى ولئها وتنتظر
فرصة الوثوب على المرابطين ،وبذلك تكون نتيجة معركة
الّزِلقَة أن جعلت تلك القبائل تخلد إلى السكينة وأعلنت
ولءها التام.
-7عمت الفراح أرجاء العالم السلمى فى شرقه وغربه
سَّر العلماء والفقهاء بهذا النبأ السعيد.
وأعتقت الرقاب و ُ
94
-8أصيب نصارى السبان بهزيمة تعيسة أثَّرت فى نفوسهم,
مين فى
سل ِ ِ
م ْ
وتحطمت آمالهم فى الستيلء على أراضى ال ُ
الَنْدَلُس وإبعادهم.
حدون صفوفهم, -9جعلت النصارى يُرتِّبون أمورهم ويو ِّ
ويتنازلون عن صراعاتهم الدَّاخلِيَّة.
وغير ذلك من النتائج المهمة التى غيرت مجرى تاريخ الَنْدَلُس
وبلد المغرب.
بعد أن رتب المير يوسف أموره بعد معركة الّزِلقَة عاد إلى
إشبيلية ،ودعا رؤساء الَنْدَلُس إلى اجتماع عام ،وطلب منهم
التفاق والتحاد ضد عدوهم المشترك الذى نخر فيهم بسبب
اختلفهم؛ فأجابه الجميع بقبول وصيته وتحقيق رغبته ،وترك ثلثة
آلف جندى مرابطى للدفاع عن ثغور الَنْدَلُس بقيادة سير بن أبى
بكر(.)1
رابعا :رجوع المير يوسف إلى المغرب:
ً
لقد عدد المؤرخون أسباب رجوع يوسف إلى المغرب وهو لم
ن ثمرة النتصار بعد إلى أسباب منها:
يج ِ
-1وفاة ابنه المير أبى بكر الذى استخلفه على سبتة وكان
ضا.
مري ً
ماد معح َّ
-2اضطراب الحدود الشرقية بسبب تحالف بنى َ
عرب بنى هلل وحاولوا غزو المناطق الحدودية التابعة
للدولة المرابطية.
-3أراد أن يتفقد الولة وال َ
مدُن والقرى، حك ّام الذين تركهم فى ال ُ
ُ
وينظر فى أمور الرعية.
-4أراد أن يخرج من إلحاح مسلمى الَنْدَلُس الذين طلبوا منه
تعقُّب ألفونسو وجنوده حيث إنه رأى إن قواته ل تستطيع أن
تسيطر على كل الَنْدَلُس لتساع أراضيها.
-5خشى من إبراهيم بن أبى بكر بن عمر الذى زعم أنه له
حق شرعى فى استخلف والده المجاهد الكبير.
ما فى حياةإن نظرتى للتاريخ السلمى تؤكِّد لى معنى عظي ً
أمتنا أل وهو أن المعارك الفاصلة فى تاريخها المجيد ل تكون إل
لقوم أقاموا الشريعة على مستوى الشعب والجيش والقادة ،وهذا
المعنى واضح فى سيرة المرابطين الذين تدَّرجوا فى مراحلهم
95
وأقاموا شرع ربهم على أنفسهم.
ولهذا أرى أن من أقوى السباب على الطلق فى نصر الله
للمرابطين هو تمسكهم وتحكيمهم للقرآن والسنة على مستوى
شعبهم ودولتهم وجيشهم وقائدهم ،ولذلك يهمنا كثيًرا أن نبين أثر
تحكيم شرع الله فى المم والشعوب والجيوش والفراد.
***
96
المبحث الرابع
أثر الحكم بما أنزل الله على مجتمع المرابطين
تمهيد:
مل فى كتاب الله وسنة رسوله × وفى حياة المم إن التأ ُّ
والشعوب تعطى العبد معرفة أصيلة بأثر سنن الله فى النفس
والكون والفاق ,وأوضح مكان لسنن الله وقوانينه كتاب الله
تعالى ,قال تعالىُ﴿ :يرِي ُد الُ ِليُبَيّ َن َلكُمْ وََيهْدَِيكُ ْم سُنَن الّذِي َن مِن قَ ْب ِلكُمْ وَيَتُوبَ َعلَ ْيكُمْ
حكِيمٌ﴾ [النساء.]26: ل َعلِيمٌ َ
وَا ُ
ح عن رسول الله ×وسنن الله تتضح بالدراسة فيما ص َّ
بالمطالعة فى سنته × ،فقد كان يقتنص الفرص والحداث ليدل
أصحابه على شيء من السنن ،ومن ذلك أن
ناقته × «العضباء» كانت ل تُسبق ،فحدث مرة أن سبقها أعرابى
ق ذلك على أصحاب النبى × ،فقال لهم × على قعود له ،فش َّ
كاشفًا عن سنة من سنن الله« :حق على الله أن ل يرتفع شيء
من الدنيا إل وضعه» (.)1
وقد أرشدنا كتاب الله إلى تتبع آثار السنن فى المكنة بالسعى
سيْر ،وفى الزمنة من التَّارِيخ وال ِّ
سير. وال َّ
ف كَانَ عَاقَِبةُ
سيُوا فِى الَ ْرضِ فَاْن ُظرُوا كَ ْي َ
قال تعالى﴿ :قَ ْد َخلَتْ مِن قَ ْب ِلكُ ْم سُنَنٌ فَ ِ
اْل ُمكَذّبِيَ هَذَا َبيَانٌ لّلنّاسِ وَهُدًى َومَ ْو ِعظَ ٌة ّل ْلمُتّ ِقيَ﴾ [آل عمران.]138 ،137:
() أخرجه البخاري ،كتاب الجهاد والسير ،باب ناقة رسول الله × (ج ،)6/86 1
ثالثًا :أنها ماضية ل تتوقف :قال تعالى﴿:قُل ِللّذِينَ َك َفرُوا إِن يَنَتهُوا ُيغَ َفرْ
ت سُنّتُ الوليَ﴾ [النفال.]38:
َلهُمْ مّا قَ ْد َسلَفَ وَإِن َيعُودُوا َفقَدْ مَضَ ْ
سيُوا فِى راب ًعا :أنها ل تُخالف ول تنفع مخالفتها :قال تعالى﴿ :أَ َفلَ ْم يَ ِ
ف كَانَ عَاقَِبةُ الّذِي َن مِن قَ ْب ِلهِ ْم كَانُوا َأكَْثرَ مِ ْنهُمْ وََأشَدّ ُقوّةً وَآثَارًا فِى الَ ْرضِ َفمَا الَ ْرضِ فَيَن ُظرُوا كَ ْي َ
سبُو َن َف َلمّا جَاءَْتهُمْ ُر ُس ُلهُم بِالَْبيّنَاتِ َف ِرحُوا ِبمَا عِنْدَهُم مّنَ الْ ِعلْمِ َوحَاقَ َأغْنَى عَ ْنهُم مّا كَانُوا َيكْ ِ
ِبهِم مّا
ي
ش ِركِ َ سَت ْهزِئُونَ َف َلمّا رََأوْا بَ ْأسَنَا قَالُوا آمَنّا بِالِ َوحْدَهُ َوكَ َفرْنَا ِبمَا ُكنّا ِبهِ مُ ْ كَانُوا بِ ِه يَ ْ
ك
سرَ هُنَاِل َ
ت الِ الّتِى قَ ْد َخلَتْ فِى عِبَادِهِ َوخَ ِ َفلَ ْم َيكُ يَن َف ُعهُمْ ِإيَاُنهُمْ َلمّا رََأوْا بَ ْأسَنَا سُنّ َ
اْلكَا ِفرُونَ﴾ [غافر.]85-82:
خامسا :ل ينتفع بها المعاندون ،ولكن يتعظ بها المتقون﴿:قَ ْد ً
ف كَانَ عَاقَِبةُ اْل ُمكَذّبِيَ هَذَا َبيَانٌ لّلنّاسِ
سيُوا فِى الَ ْرضِ فَاْن ُظرُوا كَ ْي َ
َخلَتْ مِن قَ ْب ِلكُ ْم سُنَنٌ فَ ِ
وَهُدًى َومَ ْو ِعظَ ٌة ّل ْلمُتّقِيَ﴾ [آل عمران.]138 ،137:
سادسًا :أنها تسرى على البر والفاجر ،فالمؤمنون – والنبياء
أعلهم قدًرا – تسرى عليهم سنن الله ,ولله سنن جارية تتعلق
بالثار المترتبة على من امتثل شرع الله أو أعرض عنه ،وبما أن
المرابطين التزموا بشرع الله فى كل شئونهم ومُّروا بمراحل
طبيعية فى حياة الدول فإن أثر حكم الله فيهم واضح وبيِّن.
() لقد استفدت من كتاب الحكم والتحاكم فى خطاب الوحي للشيخ عبد العزيز 1
99
وقد خاطب الله تعالى المؤمنين من هذه المة واعدًا إياهم بما
وعد به المؤمنين قبلهم ،فقال سبحانه فى سورة النُّورَ ﴿:وعَ َد الُ الّذِينَ
خلِفَّنهُمْ فِى الَ ْرضِ﴾ [النور .]55:أى بدل ً عن
آمَنُوا مِ ْنكُمْ َو َع ِملُوا الصّاِلحَاتِ لََيسَْت ْ
خ َلفَ الّذِينَ مِن َق ْب ِلهِمْ﴾ من بنى إسرائيل( ،)1فإذا حقق الكفار ﴿ َكمَا اسَْت ْ
الناس اليمان وتحاكموا إلى شريعة الَّرحمن ،فستأتيهم ثمرة ذلك
وأثره الباقى ﴿وََلُي َمكّنَ ّن َلهُمْ دِيَنهُمُ الّذِى ارْتَضَى َلهُمْ﴾ فتحقيق التحاكم إلى
الدِّين يتحقق به الستخلف ،وتحقيق الحكم به يوصل إلى الدِّين.
سنيَّة التى أقامها
وهذا ما رأيته فى دراستى للدولة ال ُّ
المرابطون.
ثانيا :المن الستقرار:
ً
كانت بلد المغرب قبل وصول المرابطين دويلت متنازعة فيما
بينها ،بل بعض هذه الدويلت لها معتقدات تخرجها عن الملة ،كما
أن قبائل الملثمين كانت متناحرة فيما بينها ،وصراعهم مع الزنوج
َ
لم يستقر مما ول ّد لهم الخوف والزعاج الشديد.
وبعد أن أكرم الله المرابطين بتوحيد قبائل صنهاجة ،وساروا
ُ
حد المغرب القصى كل ّه، فى جهادهم المجيد سيرة حسنة ،وتو َّ
سر الله لهم المن والستقرار فى تلك الربوع التى حكم فيها ي َّ
شرع الله.
حيث نجد أن دولة المرابطين بعد أن استخلفت ومكَّن الله لها,
أعطاها دواعى المن وأسباب الستقرار حتى تُحافظ على
ه لهل اليمان والعمل مكانتها ،وهذه سنة جارية ماضية ضمن الل ُ
بشرعه وحكمه أن ييسر لهم المن الذى ينشدون فى أنفسهم
وواقعهم ,فبيده -سبحانه -مقاليد المور ،وتصريف القدار ،وهو
ب المن المطلق لمن استقام على مقلب القلوب ،والله يَهَ ُ
التوحيد وتطهر من الشرك بأنواعه.
ك َلهُمُ المْنُ وَهُم ّمهْتَدُونَ﴾
قال تعالى﴿:الّذِينَ آ َمنُوا وَلَ ْم َيلْبِسُوا إِيَاَنهُ ْم ِب ُظلْمٍ أُولَِئ َ
[النعام .]82:فنفوسهم فى أمن من المخاوف ومن العذاب
والشقاء ,إذا خلصت لله من الشرك صغيره وكبيره .إن تحكيم
شرع الله فيه راحة للنفوس لكونها تمس عدل الله ورحمته
وحكمته ،إن الله تعالى بعد أن وعد المؤمنين بالستخلف ثم
التمكين لم يحرمهم بعد ذلك من المن والطمأنينة والبعد عن
100
الخوف والفزع ،قال تعالىَ ﴿:وعَ َد الُ الّذِي َن آمَنُوا مِ ْنكُمْ َو َع ِملُوا الصّاِلحَاتِ
خ َلفَ الّذِينَ مِن قَ ْب ِلهِمْ وَلَُي َمكّنَ ّن َلهُ ْم دِيَنهُمُ الّذِى ارْتَضَى َلهُمْ
خ ِلفَّنهُمْ فِى ا َل ْرضِ َكمَا اسَْت ْ لَيَسَْت ْ
ش ِركُو َن بِى شَ ْيئًا﴾[النور .]55:وإن تحقيق وَلَُيبَدّلَّنهُم مّن َبعْ ِد خَوْ ِفهِ ْم أَمْنًا َيعْبُدُوَننِى َل يُ ْ
العبودية لله ونبذ الشرك بأنواعه يحقق المن فى النفوس على
مستوى الفراد والشعوب.
وهذا ما حدث لقيادات المرابطين وشعبهم الذى انقاد لمنهج
رب العالمين.
ثالثًا :النصر والفتح:
إن المرابطين حرصوا على نصرة دين الله بكل ما يملكون،
وتحققت فيهم سنة الله فى نصرته لمن ينصره ,لن الله ضمن
لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعَّزته وقوَّته ،قال
ل لَ َق ِويّ َعزِيزٌ الّذِينَ إِن ّمكّنّاهُمْ فِى الَ ْرضِ َأقَامُوا صرُ ُه إن ا َ
ص َر ّن الُ مَن يَن ُ تعالى﴿ :وََليَن ُ
ل عَاقِبَ ُة الُمُورِ﴾ [الحج.]40،41: صلَةَ وَآتَوُا ال ّزكَاةَ وَأَ َمرُوا بِاْلمَ ْعرُوفِ وََنهَوْا عَنِ اْلمُ ْن َكرِ َو ِ
ال ّ
يقول سيد قطب رحمه الله« :وما حدث قط فى تاريخ
البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إل منحها القوة
والمنعة والسيادة فى نهاية المطاف لعدادها لحمل أمانة الخلفة
فى الرض وتصريف الحياة . .إن الكثيرين ليشفقون من اتباع
شريعة الله والسير على هداه ،يشفقون من عداوة أعداء الله
ُ
ومكرهم ،ويشفقون من تأل ّب الخصوم عليهم ،ويشفقون من
المضايقات القتصادية وغير القتصادية ،وإن هى إل أوهام كأوهام
خطّفْ ِمنْ َأ ْرضِنَا﴾
قريش يوم قالت لرسول الله ×﴿ :إِن نّتّبِعِ اْلهُدَى َم َعكَ ُنَت َ
[القصص.]57:
ما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الرض ومغاربها فل َّ
()1
فى ربع قرن أو أقل من الزمان» .إن الله تعالى أيد المرابطين
ن عليهم بالفتح؛ فتح الراضى وإخضاعها لحكم على العداء وم َّ
الله تعالى ،وفتح القلوب وهدايتها لدين السلم.
إن المرابطين عندما استجابوا وانقادوا لشريعة الله جلبت لهم
الفتح ،واستنزلت لهم نصر الله.
حكَّام والشعوب السلميَّة التى تبتعد عن شريعة الله تذلإن ال ُ
نفسها فى الدنيا والخرة.
101
حكَّام والقضاة والعلماء فى الدعوة إلى إن مسئولية ال ُ
تحكيم شرع الله مسئولية عظيمة يُسألون عنها يوم القيامة
أمام الله ،قال ابن تيمية -رحمه الله« :-إذا حكم ولة المر
بغير ما أنزل الله ،وقع بأسهم بينهم . .وهذا من أعظم
أسباب تغيُّر الدول كما جرى هذا مرة بعد مرة فى زماننا
من أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب وغير زماننا ،و َ
من أيده الله ونصره ،ويجتنب مسلك غيره ،فيسلك مسلك َ
ص َر ّن الُ مَن
من خذله الله وأهانه ،فإن الله يقول فى كتابه﴿ :وََليَن ُ َ
ل عَاقِبَ ُة الُمُورِ﴾ [الحج.]40،41:
ي َعزِيزٌ﴾ إلى ﴿ َو ِ
صرُ ُه إن الَ َلقَ ِو ّ
يَن ُ
فقد وعد الله بنصر من ينصره ،ونصره هو نصر كتابه ودينه
()1
من يحكم بغير ما أنزل الله ويتكلم بما ل يعلم .
ورسوله ،ل نصر َ
رابعًا :العز والشرف:
سط ِّر فى كتبإن عز المرابطين وشرفهم العظيم الذى ُ
من
سكِهم بكتاب الله وسنة رسوله × ،إن َ التَّارِيخ يرجع إلى تم ُّ
يعتز بالنتساب لكتاب الله الذى به تشُرف المة ،وبه يعلو ذكرها
وضع رجله على الطريق الصحيح وأصاب سنة الله الجارية فى
إعزاز وتشريف من يتمسك بكتابه وسنة رسوله × ،قال تعالى﴿ :
ك ُركُمْ َأ َفلَ َتعْ ِقلُونَ﴾ [النبياء.]10 :
لَقَ ْد أَْنزَلْنَا إَِل ْيكُمْ كِتَابًا فِي ِه ِذ ْ
قال ابن عبَّاس – رضى الله عنهما -فى تفسير هذه الية :فيه
شرفكم( ،)2فهذه المة ل تستمد الشرف والعزة إل من
استمساكها بأَحكام السلم ،كما قال عمر بن الخطاب « :tإنَّا كنَّا
أذل قوم ،فأعَّزنا الله بالسلم ،فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا
الله أذلنا الله»( ،)3فعمر tكشف لنا بكلماته عن حقيقة الرتباط
بين حال المة عًزا وذلً ،مع موقفها من الشريعة إقبال ً وإدباًرا ،فما
َ
عَّزت فى يوم بغير دين الله ،ول ذل ّت فى يوم إل بالنحراف عنه.
قال تعالى﴿ :مَن كَا َن ُيرِيدُ الْ ِعزّةَ َف ِللّهِ اْل ِعزّةُ َجمِيعًا﴾ [فاطر ]10:يعنى من
ل(.)4 طلب العزة فليعتز بطاعة الله عَّز وج َّ
[المنافقون: ي َل يَ ْع َلمُونَ﴾
وقال تعالىَ ﴿ :ولِ اْل ِعزّةُ وَِل َرسُولِهِ وَِل ْلمُ ْؤمِنِيَ وََلكِنّ اْلمُنَافِقِ َ
.]8
102
إننى عندما مررت بسيرة المام ابن ياسين ذكرت وصفه بأنَّه
مهَابَة عظيمة فى نفوس أتباعه ,ونال شرفًا وعزة فى قومه.
ذو َ
ت أنه إذا
وعندما مررت بسيرة المام أبى بكر بن عمر ،ذكر ُ
ركب للجهاد ركب معه 500ألف من قومه يجاهدون معه.
وعندما ذكرت سيرة المير يوسف بن تاشفين ذكرت وصفًا له
خلق للزعامة.كأنه ُ
ورأيت فى سيرة هؤلء البطال عًّزا وشرفًا نالوه بالستعلء
على شهوة النفس وبالستعلء على القيد والذُّل ،كان استعلؤهم
حا فى سيرتهم العطرة ،كانت على الخضوع الخانع لغير الله واض ً
حياتهم خضوعا ً لله وخشوعا ،وخشية لله وتقوى ومراقبة لله فى
السراء والضراء ،وهذا هو سُّر عزهم وشرفهم فى تاريخنا
السلمى المجيد.
لقد عاش المرابطون فى بركة من العيش ،ورغد من الحياة
الطيبة التى وصلوا إليها بإقامة دين الله.
سمَاءِ وَالَ ْرضِ
قال تعالى﴿:وََل ْو إن أَ ْهلَ الْ ُقرَى آمَنُوا وَاتّقَوْا َلفََتحْنَا َعلَ ْيهِم َب َركَاتٍ مّنَ ال ّ
وََلكِن كَذّبُوا فََأخَذْنَاهُم ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ﴾ [العراف.]96:
سا :انتشار الفضائل وانزواء الرذائل:
خام ً
لقد انتشرت الفضائل فى عصر المرابطين وانحسرت الرذائل،
فخرج جيل فيه نبل وكرم وشجاعة وعطاء وتضحية من أجل
العقيدة والشريعة ،متطلعًا إلى ما عند الله من الثواب ,يخشى من
حكَّامه إلى
عقاب الله؛ لقد استجاب ذلك المجتمع بشعبه ودولته و ُ
ما يُحييه من اليمان والقرآن وسنة سيد النام عليه أفضل الصلة
والسلم.
إن آثار تحكيم شرع الله فى الشعوب التى نفذت أوامر الله،
ونواهيه ظاهرة بينة لدارس التَّارِيخ ،وإن تلك الثار الطيبة التى
أصابت دولة المرابطين لهى سنن من سنن الله الجارية والماضية
التى ل تستبدل ول تتغير ،فأى شعب يسعى لهذا المطلب الجليل
والعمل العظيم يصل إليه ولو بعد حين ،ويرى آثار ذلك التحكيم
حكَّامه.
على أفراده ودولته و ُ
إن الغرض من البحاث التَّارِيخية السلميَّة الستفادة الجادة
من أولئك الذين سبقونا باليمان؛ فى جهادهم وعلمهم وتربيتهم
وسعيهم الدءوب لتحكيم شرع الله ،وأخذهم بسنن التمكين
103
وفقهه ,ومراعاة التدُّرج والمرحلية ،والنتقاء من الشعب والرتقاء
بهم نحو الكمالت السلميَّة المنشودة.
إن النتصارات العظيمة فى تاريخ أمتنا يجريها الله تعالى
ن أخلص لربه ودينه ،وأقام شرعه ،وزكَّى نفسه، م ْعلى يدى َ
من فراغ ,لقد جاهد المرابطون زِلقَة ِ
ولهذا لم يأت فتح ال ّ
َ
حا مبينًا فى معركة ما وفت ً
را عظي ً فى النْدَلُس وحققوا نص ً
مين.سل ِ ِ
م ْزِلقَة وأنقذ َ الله بهم ال ُ
ال ّ
***
104
المبحث الخامس
الندلـــــس بعد الزلقــــــة
بعد رجوع يوسف بن تاشفين إلى المغرب للسباب التى
ذكرتها تولى قيادة المرابطين القائد الميدانى سير بن أبى بكر,
الذى واصل غاراته الناجحة مع أمير بطليوس على أواسط
ت قواتُه مع قوات البرتغال الحالية مما يلى تاجة ،وقد أثخن ْ
المرابطين فى تلك البقاع.
مد بن عَبَّاد ضربات موفقة بقيادته إلى عدة معْت َ ِ جه ال ُ كما و َّ
مدُن حول طليْطِلة ,ثم اتجه نحو أرض مرسية ،حيث استقَّرت َ َ ُ ُ
جموع الفرسان النصارى بقيادة الكنبيطور فى أحد الحصون
مدُن المسلمين ,خاصة مدينة القريبة التى تشن غاراتها على ُ
مد انهزم واضطَّر أن يلتجئ إلى قلعة لورقة معْت َ ِ المرية ,إل أن ال ُ
ً
مد بن ليون ,ثم توجه نحو قرطبة تاركا مرسية َ ح ّم َ فى كنف واليها ُ
لمصيرها.
مدُن
وبدأت قوات النصارى تتجمع حول ألفونسو الذى أربك ُ
حصن لييط المنيع الواقع على مسيرة شرق الَنْدَلُس ,متخذين من ِ
مين. سل ِ ِ
م ْ
ن الغارات على أراضى ال ُ يوم من لورقة مركًزا لش ِ ّ
فلم يمض عام واحد على هزيمة ألفونسو حتى عاد نشاطه
وجيشه ,ونقل مقر العمليات إلى شرق الَنْدَلُس الذى خيمت عليه
الفرقة السياسية ,بعكس غرب الَنْدَلُس الذى كانت تحكمه
مملكتان قويتان هما مملكة إشبيلية وبطليوس ,تعضدهما فرقة
من المرابطين قوامها ثلثة آلف رجل على رأسها القائد العظيم
سير بن أبى بكر(.)1
تأذى أهل غرب الَنْدَلُس من النصارى الحاقدين فتوافدت
صا أهل بلنسية ومرسية وفودهم على المير يوسف ,وخصو ً
ولورقة ,يصفون للمير يوسف ما نزل بهم على أيدى النصارى
الذى يتحكمون فى حصن لييط.
مد المجاز إلى المغرب وطلب من يوسف العبور، معْت َ ِوعبر ال ُ
م جواز يوسف إلى الجزيرة الخضراء فاستجاب يوسف لرغبته ،ت َّ
فى ربيع الول سنة 481هـ1088 /م ,ومن هناك كتب المير
يوسف إلى جميع أمراء الَنْدَلُس يدعوهم إلى الجهاد ،ثم تحَّرك
المير يوسف إلى مالقة فى صحبة أميرها تميم بن بلقين ،كما
لحق المير عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة ,والمعتصم بن
105
مد بن عَبَّاد ،بالضافة إلى أمراء مرسية معْت َ ِصمادح ،فضل ً عن ال ُ
وشقورة وبسطة وجيان ،ولم يتخلف من ملوك الطوائف سوى
ابن الفطس صاحب بطليوس ،وتوجهت تلك الجموع لضرب
الحصار على حصن لييط الذى كان يسكنه ألف فارس واثنا عشر
ألفًا من المشاة من جنود النصارى الحاقدين أصحاب النزعة
الصليبية النتقامية ،واستبسل النصارى فى الدفاع عن الحصن
مين وإلحاق الخسائر سل ِ ِ
م ْوكانوا يخرجون ليل ً للنقضاض على ال ُ
بهم.
واستمَّر الحصار بدون جدوى وظهرت صراعات ملوك
الطوائف فيما بينهم ووصلت للمير يوسف الذى ساءه ذلك كثيًرا.
مد بن عَبَّاد للمير يوسف خروج ابن رشيق معْت َ ِ
وشكى ال ُ
صاحب مرسية عن الطاعة ودفعه الموال للفونسو السادس
تقربًا إليه ،وظهرت المشاكل بين أبناء بلكين
عبد الله وتميم للمير يوسف ،وكأن ل عمل له إل حل المشاكل
والمنازعات بين
الطراف المتنازعة.
وتضايق المير يوسف من خيانة ابن رشيق الذى دفع أموال ً طائلة
للفونسو ,وعرض المر على الفقهاء والعلماء الذين أفتوا بإزاحته من
مد ،واستغاث ابن رشيق بالمير يوسف الذى معْت َ ِ
وتسليمه لل ُ حكمه
()1
أجابه بأن ّها أحكام الدِّين ول يستطيع مخالفتها . َ َ
مد معْت َ ِوأمر القائد سير بن أبى بكر باعتقاله وتسليمه لل ُ
مشترطًا عليه إبقاءه حيًّا (.)2
وكانت لفتوى الفقهاء عند قادة المرابطين مكانة عظيمة
يضعونها فوق كل اعتبار.
ر جيش ابن رشيق من المعركة ،ومنع الزاد على وف َّ
من معه من النْدَلسيين الذين يحاصرون ُ َ
جيش المرابطين و َ
الحصن ،فارتفعت السعار ،ووقع الغلء واضطربت الحوال،
شا من وعندما علم ألفونسو بالخلفات التى وقعت حشد جي ً
ر المير أجل فك الحصار عن أتباعه فى حصن لييط ،فاضط َّ
يوسف إلى فك الحصار خوفًا من معركة خاسرة غير مأمونة
حكَّام الَنْدَلُس وتآمرهم النتائج خاصة بعد الذى رآه من ُ
واتصالهم بالعدو ،ورجع المير يوسف إلى لورقة وترك أربعة
آلف مرابطى بقيادة داود ابن عائشة للمحافظة على
مد بن ح َّم َ منطقة مرسية وبعث بجنود إلى بلنسية بقيادة ُ
106
تاشفين(.)1
واستطاع ألفونسو الوصول للحصن وأخرج من نجا من الموت،
ورأى أن ل فائدة من الحتفاظ بالحصن ,لنَّه يتطلب حماية كبيرة
معرضة لمصير سابقاتها فقَّرر إخلءه وتدميره ,واسترجع ابن عَبَّاد
الحصن بعد أن أصبح أطللً.
لقد أيقن المير يوسف إن أمراء الَنْدَلُس ل يصلحون للحكم
ول يعتمد عليهم فى جهاد ،وبعد رجوع المير يوسف فى عام
482هـ1089/م عرض المر على الفقهاء والعلماء فأفتوا له بضم
الَنْدَلُس للمغرب.
وكان فقهاء وعلماء الَنْدَلُس يؤيدون ذلك ،وكذلك فقهاء
وعلماء المغرب والمشرق ،وأرسل المام الغزالى وأبو بكر
الطرطوشي( )2فتوى تؤيد عمله الجليل من أجل توحيد صفوف
مين.
سل ِ ِ
م ْال ُ
يقول الغزالي فى شأن أمراء الطوائف :فيجب على المير
وأشياعه قتال هؤلء المتمردة ول سيما وقد استنجددوا
بالنصارى( ،)3فقد أفتاه العلماء بجواز خلعهم وإزاحتهم ،وبأنه فى
حل مما تعهد لهم به من البقاء عليهم في جوازه الول ،لنهم
خانوا الله بمعاهدتهم ألفونس على محاربة المسلمين؛ وبالتالي
فإن عليه أن يبادر إلى خلعهم جميعًا ،فإنك إن تركتهم وأنت قادر
عليهم ،أغاروا بقية بلد المسلمين إلى الروم وكنت أنت المحاسب
بين يدي الله( ،)4وكان ممن استفتى في هذا الموضوع الفقيه
يوسف بن عيسى المعروف بأبي الملجوم(.)5
وطلب القضاة والفقهاء من يوسف أن يرجع ويوحد البلد
بالقوة ،لتدخل تحت الخلفة السلميَّة فى بغداد.
لقد كان ملوك الطوائف يهتمون بمصالحهم الخاصة ل ينظرون
إلى عزة أمتهم حتى وصفهم ابن حزم بقوله« :لو وجدوا فى
اعتناق النصرانية وسيلة لتحقيق أهوائهم ومصالحهم لما ترددوا
»(.)6
مون فى الَنْدَلُس يتمنون أن ينضموا إلى دولة سل ِ ُ
م ْ
وكان ال ُ
المرابطين ,وعبَّر عن ذلك فقهاؤهم وعلماؤهم وبرز الفقيه
ابن خلدون ,العبر( ،ج ،6ص .)187 () 1
رسائل أبي بكر بن العربي ،تحقيق د.عصمت دندش ص .198 () 3
الثر السياسي للعلماء في عصر المرابطين ،محمد بن بيّه ص (.)155 () 5
رسالة ابن حزم ,نقل ًً عن دول الطوائف ,محمد عبد الله عنان ,ص (.)406 () 6
107
القاضى ابن القلعى «قاضى غرناطة» ,الذى توطدت العلقة بينه
وبين يوسف بن تاشفين منذ ذهاب أول بعثة إلى المغرب لطلب
حا
النجدة ،إذ كان أحد أعضائها ,وكان يرى فى المير يوسف صل ً
ما.وعدل ً وحز ً
حاول المير عبد الله ابن ملك غرناطة أن يتخلص منه
فاعتقله ,ثم اضطر
إلى إطلق سراحه ،فهرب إلى قرطبة ،ومن هناك اتصل بالمير
يوسف وأطلعه على خفايا من المور ،وأفتى بخلع ملوك
الطوائف ,وتفاعل مسلمو الَنْدَلُس مع هذه
الفتوى الموفَّقَة(.)1
***
108
المبحث السادس
فتوى فى جواز ضم الندلس بالقوة والقضاء على
ملوك الطوائف
أرسل المام أبو بكر بن العربى المالكى إلى المام الغزالى
كتابًا يشرح فيه موقف ملوك الطوائف بالَنْدَلُس من حركة يوسف
بن تاشفين الجهادية ،ويطلب منه فتيا فى ذلك ،قال المام أبو بكر
بن العربي« :وكان أشهر من لقينا من العلماء فى الفاق ،ومن
سارت بذكره الرفاق ،ولطول باعه فى العلم ورحب ذراعه ،المام
مد الطوسى الغزالي ،فاستدعينا منه فتيا وكتابًا، ح َّ م َ أبو حامد بن ُ
واختصرت لفظ الفتيا لوقت ضاق عن تقييدها لكن أنبه على
معناها وهو :فى علم المام ما ذكر فى وصف خلل أمير
مين وناصر الدِّين أبى يعقوب يوسف بن تاشفين أمير سل ِ ِ م ْال ُ
دّين، ِ ال إعزاز من لديه أوضحت وما والعدوة، س ُ ل د
ْ َ َ
ن ال المغربين
مين ،وهو حميرى النسب ومعه المرابطون ،وقد ِ ِ سلْ م
والذب عن ال ُ
َّ ُ َ
وقفوا أنفسهم على الجهاد ،وقد كانت جزيرة النْدَلس قد تملكها
من تاريخ ابتداء الفتنة سنة أربعمائة ,عدة ثوار تسوروا على البلد،
فضعف أهلها عن مدافعتهم ،وتلقَّبُوا بألقاب الخلفاء وخطبُوا
للنفسهم ،وضربوا النقود بأسمائهم ،وأثاروا الفتنة بينهم لرغبة ك ِّ
ساق فى واحد منهم فى الستيلء على صاحبه ،واستبانوا ال ُف َّ
ضا ،واستنجدوا الرقاء والصنائع الطلقاء فى محاربة بعضهم بع ً
بالنصارى عندما اعتقد كل واحد منهم أنه أحق من صاحبه ،وعند
مين ،وحينما انكشف للنصارى ضعف سل ِ ِم ْ ذهاب شوكة ال ُ
مين ،طلبوا سل ِ ِ م ْ مين ،وعلموا المداخل والمخارج إلى بلد ال ُ سل ِ ِ م ْال ُ
َ
المعاقل وأخذوا بالحرب كثيًرا منها من غير مؤونة ول مشقّة ،ثم
مين إلى المرابطين واستصرخوهم فلباهم سل ِ ِم ْ لجأ الباقى من ال ُ
مسلِمين ووصل إلى البحر ،فاستاء بعض الرؤساء وفاءً أمير ال ُ
مين فى استدعائهم له ،ووصل سل ِ ِ
م ْ
للمشركين ،وحقدًا على ال ُ
المير إلى غرب الَنْدَلُس فمنحه الله نصًرا ،وألجم الكفار السيف،
ثم عاود الجواز فى العام الثالث من هذا الفتح فتهيبه العدو،
صن منه ،ولم يخرج للقائه مع تثاقل الرؤساء عنه ،وعثر وتح َّ
لحدهم على خطاب يشجع العدو على اللقاء ،واستولى على من
قدر عليه من الرؤساء من البلد والمعاقل ،وبقيت طائفة من
رؤساء الثغر الشرقى من جزيرة الَنْدَلُس ،حالفوا النصارى أو
مين إلى الجهاد ،والدخول فى سل ِ ِ
م ْ
صاروا معه إلبًا ،ودعاهم أمير ال ُ
بيعة الجمهور ،فقالوا :ل جهاد إل مع إمام من قريش ،ولست به،
أو مع نائب عن المام ،وما أنت ذلك ،فقال :أنا خادم المام
109
العبَّاسي ،فقالوا له :أظهر لنا تقديمه إليك ،فقال :أو ليست
الخطبة فى جميع بلدى له؟ فقالوا :ذلك احتيال .ومردوا على
النفاق ،فهل يجب قتالهم؟ وإذا ظفر بهم كيف الحكم فى
أموالهم؟ وهل على المسلم حرج فى قتالهم؟ وهل على المام
العبَّاسى أن يبعث بمنشور يتضمن تقديمه له على جهادهم ،فإنهم
إنَّما خرجوا عليه بأن المير خادمه ،وهو يخطب له على أكثر من
ألفى منبر ،وتضرب السكة باسمه إلى غير ذلك ،ومتى وصف
نفسه قال :لست مستبدًّا وإنما خادم أمير المؤمنين المستظهر،
وهذا أشهر أن يؤكد بالتحلية ,وأظهر من أن يجدد بالتزكية.
فللشيخ المام الجل الزاهد والوحد أبى حامد أتم الجر ،وأعم
-
الشكر فى النعام بالمراجعة فى هذا السؤال إن شاء الله تعالى
(.)1
أول :فتوى المام الغزالى فى موقف كل من يوسف بن تاشفين ً
وملوك الطوائف والخلفة العباسية:
فأجاب المام الغزالى رحمه الله« :لقد سمعت من لسانه وهو
الموثوق به الذى يستغنى عن شهادته عن غيره وعن طبقة من
ثقاة المغرب الفقهاء وغيرهم ،من سيرة هذا المير -أكثر الله من
المراء أمثاله -ما أوجب الدعاء لمثاله ،ولقد أصاب الحق فى
إظهار الشعار المامى المستظهرى -حرس الله على
المستظهرين ظلله -وهذا هو الواجب على كل ملك استولى على
مين فى مشارق الرض ومغاربها ،فعليهم سل ِ ِ
م ْ
قطر من أقطار ال ُ
قّ ،وإن لم يكن بلغهم صريح تزيين منابرهم بالدعاء للمام الح ِ
التقليد من المام ،أو تأخر عنهم ذلك لعائق ،وإذا نادى الملك
المستولى بشعار الخلفة العباسية ،وجب على كل الرعايا
والرؤساء الذعان والنقياد ،ولزمهم السمع والطاعة ،وعليهم أن
يعتقدوا أن طاعته هى طاعة المام ،ومخالفته هى مخالفة المام،
وكل من تمرد واستعصى وسل يده عن الطاعة ،فحكمه حكم
ص ِلحُوا بَيَْن ُهمَا فَإِن َبغَتْ
الباغي ،وقد قال تعالى﴿:وَإِن طَائِفَتَا ِن مِنَ اْلمُؤْ ِمنِيَ اقَْتَتلُوا فََأ ْ
ِإحْدَا ُهمَا َعلَى ا ُلخْرَى فَقَاِتلُوا الّتِى تَبْغِى حَتّى تَفِي َء إِلَى أَ ْم ِر الِ﴾ [الحجرات .]9:والفيئة
إلى أمر الله ،الرجوع إلى السلطان العادل المتمسك بولء المام
الحق المنتسب إلى الخلفة العباسية ،فكل متمرد على الحق فإنه
مردود بالسيف إلى الحق ،فيجب على المير وأشياعه قتال هؤلء
المتمردة عن طاعته ،ول سيَّما وقد استنجدوا بالنصارى المشركين
مين الذين هم أولياء سل ِ ِ م ْ وأوليائهم ,وهم أعداء الله فى مقابلة ال ُ
الله ،فمن أعظم القربات قتالهم إلى أن يعودوا إلى طاعة المير
() انظر :دراسات فى تاريخ المغرب ،د .أحمد العبادي ،ص (.)480-479 1
110
العادل المتمسك بطاعة الخلفة العباسية ,ويتركوا المخالفة،
جز أن يُتَتَبَّعَ مدبرهم ،ول أن ف عنهم ،وإذا قاتلوا لم ي َ ُ وجب الك ُّ
يُذَفَّف( )1على جريحهم ,بل متى سقطت شوكتهم وانهزموا ،وجب
مين منهم دون النصارى الذين ل سل ِ ِ
م ْف عنهم ،أعنى عن ال ُ الك ُّ
مين ،وأما ما يظفر به من سل ِ ِ
م ْ
يبقى لهم عهد مع التشاغل بقتال ال ُ
أموالهم فمردود عليهم أو على وريثهم ،وما يؤخذ من نسائهم
وذراريهم فى القتال مهدرة ل ضمان فيها وحكمهم فى الجملة فى
البغى على المير المتمسك بطاعة الخلفة ،والمستولى على
المنابر والبلد بقوة الشوكة حكم الباغى على نائب المام ،فإنه وإن
خر عنه صريح التقليد لعتراض العوائق المانعة من وصول المنشور تأ َّ
بالتقليد فهو نائب بحكم قرينة الحال ،إذ يجب على المام المصر أن
يأذن لكل إمام عادل استولى على قطر من أقطار الرض ،فى أن
يخطب عليه ،وينادى بشعاره ويحمل الخلق على العدل والنصفة ،ول
ينبغى أن يظن بالمام توقف فى الرضا بذلك والذن فيه.
وإن توقَّف فى كتبه المنشور ،فالكتب قد يعوق عن إنشائها
وإيصالها المعاذير ،وأما الذن والرضا بعدما ظهر حال المير فى
سة وابتغاء المصلحة للتفويض والتعيين فل رخصة سيَا َ
العدل وال ِّ
فى تركه ،وقد ظهر حال هذا المير بالستفاضة ظهوًرا ل شك
فيه ،وإن لم يكن عن إيصال الكتاب وإنشائه عائق ،وكانت هذه
الفتنة ل تنطفئ إل بأن يصل إليهم صريح الذن والتقليد بمنشور
مقرون بما جرت العادة بمثله فى تقليد المراء ،فيجب على
حضرة الخلفة بذل ذلك .فإن المام الحق عاقلة أهل السلم ،ول
ل له أن يترك فى أقطار الرض فتنة ثائرة إل ويسعى فى يح ُّ
إطفائها بكل ممكن ،قال عمر « :tلو تركت جرباء على ضفة
الفرات ،لم تطل بالهناء ،فأنا المسئول عنها يوم القيامة» ,قال
ما وقد أحدق به الناس« :قد كثر الناس» سليمان بن عبد الملك يو ً
فقال عمر بن عبد العزيز« :خصماؤك يا أمير المؤمنين» ,يعنى
أنَّك مسئول عن كل واحد منهم إن ضيعت حق الله فيهم أو
أقمته ،فل رخصة فى التوقيف عن إطفاء الفتنة فى قرى تحوى
عشرة ،فكيف فى أقاليم وأقاليم إل أن يعوق عن ذلك عائق،
ويمنع منه مانع ،المواقف القدسية المامية المستظهرية حرس
الله جللها أبصر بها ,ونحن نعلم أن ل نستجيز التوقف عن إطفاء
هذه الفتنة إل لعذر ظاهر وجب على أهل الغرب أن ل يعتقدوا فى
حضرة الخلفة إل ذلك ،فإن المسافة إذا بعدت وتخللها المارقون
عن ربقة الحق ،ولم يبعد أن يقتضى الرأى الشريف صيانة الوامر
منما َالشريفة عن أن تمد إليها أعين الدولة فضل ً عن أيديهم ،وأ َّ
يستجيز التوقُّف فيها من غير عذر عن التقليد لمير قد ظهرت
() ل يذفف :ل يجهز. 1
111
شوكته وعرفت سياسته ،وتناطقت اللسن بعدله ،ولم يعرف فى
ذلك القطر من يجرى مجراه ،ويسد فى هذا الحال مسده ،فهذا
سب إلى اعتقاد فساد فى حضرة الخلفة ,حاشاها من أن تُن َ
قصور ،أو تقتضى فى نصرة أهل العدل المتمسكين بخدمتها،
والمعتصمين بعروتها ،والقائمين فى أقطار الرض بإنفاذ شعائرها
وأوامرها المعلومة بقرائن الحوال ،فهذا حكم كل أمير عادل فى
أقطار الرض ،وحكم من بغى عليه ،والله أعلم(.)1
يتضح لى من فتوى المام الغزالى أن رأيه فى قتال يوسف بن
تاشفين لملوك الطوائف مبنى على كون أولئك الملوك من البُغاة
والخارجين عن سلطة الدولة المرابطية التابعة للخلفة السلميَّة.
وبهذا يتضح أن الفقهاء والعلماء رأوا ضرورة ضم الَنْدَلُس
لقيادة المغرب القصى بعد أن فَّرط أمراء الَنْدَلُس فى أمور
مين. سل ِ ِم ْالشرع ومصالح الرعية ,وحالفوا النصارى ضد إخوانهم ال ُ
ك فى أن ما فعله المير يوسف ضد ملوك الطوائف ول ش َّ
صحيح من الناحية الشرعية والستراتيجية العسكرية والمنطلقات
السياسية.
بل فى رأيى أن وجود ملوك الطوائف مفسدة عظيمة،
والسعى لزالتهم خطوة نحو توحيد الصفوف ،ونجد ك ُ ً
تابا من
مين يصفون ما فعله المير سل ِ ِ الغرب وأذيال ً لهم من أبناء ال ُ
م ْ
يوسف ضد ملوك الطوائف بأنَّه خروج عن النسانية ،ودليل على
الهمجية ،حسب وجهة نظرهم المغشوشة ،وتصوُّرِهم المغلوط،
ما بالنسبة للمؤرخ المسلم فإن ما قام به يوسف يعتبر عملً أ َّ
ُ َ
ما قد ّمه للمة ،وحفظ به السلم فى النْدَلس من انهيار َ عظي ً
محقَّق ،وضبط المور بعزم وحزم بعد فوضى وضياع وخنوع ُ
واستسلم مارسه ملوك الطوائف دون اهتمام بدين أو شعب أو
عقيدة.
لقد تميَّز يوسف بن تاشفين بوفائه التام للعهود ،وابتعاده عن
الطماع الدنيوية ،وحرصه على إعزاز الدِّين ،وإزاحة العوائق التى
مين ،ولذلك أقدم على الخطوة المباركة سل ِ ِ
م ْ تحول دون وحدة َال ُ
من أجل توحيد النْدَلس ،وضمها تحت قبضة دولته الميمونة التابعة ُ
سنيَّة.
للخلفة العباسية ال ُّ
حكَّام المعاصرين المتسترين بالدِّين ،والذين إن كثيًرا من ال ُ
يحالفون النصارى الحاقدين واليهود الماكرين وأشياعهم وأتباعهم
سنيَّة الفتية أن تعمل الكافرين ,واجب على الدولة السلميَّة ال ُّ
مين من قبضتهم وتضمها إليها ،وتسعى من سل ِ ِم ْ
على تخليص ال ُ
() انظر :دراسات فى تاريخ المغرب والندلس ،د .أحمد عبادي ,ص (.)484 1
112
أجل تحقيق ذلك بكل المور الشرعية المعروفة.
سنية لها هموم إسلميَّة وتطلعات شرعية وإذا تعذَّر وجود دولة ُ
حد صفوفها للوصول إلى هذا فعلى الحركات السلميَّة أن تو ِّ
الهدف المنشود ،ومن ثم السعى لتوحيد المة تحت دولة إسلميَّة
تقوم على عقيدة التوحيد ،وتحكمها شريعة الرب المجيد ,وإذا ما
وصلت أى حركة معاصرة إلى ذلك الهدف المذكور تجد نفسها
تحتاج إلى فتاوى شرعية وتجارب لتستأنس بها فى مسيرتها
المباركة ،ولذلك أرى من الفائدة العميمة والخبرة الرشيدة دراسة
الدول السلميَّة التى قامت ،واجتهاداتهم فى الحروب ،وتربيتهم
للشعوب ،لنسترشد بها ولنطورها على حسب متطلبات المرحلة
التى نمُّر بها.
ما عندما تعد طلئع قيادية تهتم ولذلك نجد أن المم عمو ً
بدراسة الشعوب والحركات التحررية ،والثورات النسانية لتكون
رصيدًا لولئك الذين يعدون ويربون على قيادة أمتهم فى
المستقبل المنظور.
سدة القيادة ل إن العقلية الضيقة المتحجرة عندما تكون فى ُ
ما عنيفًاً اصطدا تستطيع أن ترتقى بجنودها ،وتجد نفسها تصطدم
مع مستجدات الحياة ومشاكلها المعقدة.
إن تجارب التَّارِيخ السلمى تُكسب الطلئع القيادية للحركة
ت مهمة فى مجال البناء والحركة السلميَّة المعاصرة خبرا ٍ
والتنظيم والتكوين والتنفيذ والتمكين.
إن دروس التَّارِيخ تعلمنا أن العلماء الربَّانيين ،والفقهاء
َ
مهم، حك ّا ِ
مهَابَة عند ُ
العاملين لهم مكانة فى نفوس شعوبهم ،و َ
حكم والدول والحروب وعزل ن عظيم فى شئون ال ُ ولفتاويهم شأ ٌ
الملوك وتوليةِ غيرهم . . .إلخ.
***
113
المبحث السابع
العبور الثالث للمير يوسف بن تاشفين للندلس
114
لكى يقوم عند الحاجة بإنجاد هذا الجيش أو ذاك(.)1
وسقطت قرطبة فى يد المرابطين فى صفر 484هـ1091/م
مد اللذين قتل «المأمون ويزيد معْت َ ِبعد مقاومة عنيفة من ابنى ال ُ
الراضي» ووصل المرابطون إلى ضواحى طُلَيْطِلَة مهددين ملوك
النصارى ،واستولوا على قلعة رباح التى فتحت الطريق أمامهم
مد بن عَبَّاد الذى أرسل إلى معْت َ ِإلى قشتالة ،واشتد َّ الخوف بال ُ
ألفونسو يستنجده ضد المرابطين ،وعقد الخطر المشترك أواصر
الصداقة بينهم.
وسقطت قومونة بعد حصار قصير فى ربيع الول
484/1091م ،وأصبح أمير إشبيلية فى خطر عظيم ،وجاءته
إمدادات النصارى التى أرسلها ألفونسو بقيادة الكونت جومز،
وعدتها أربعون ألف رجل مرتجل ،وعشرون ألف فارس ،ووصلت
إلى مقربة من قرطبة وتصدَّى لهم القائد الشجاع إبراهيم بن
إسحاق فى جند الشجعان ،ونشبت بين الفريقين معركة حاسمة،
أصاب فيها المرابطون بالرغم من خسائرهم نصًرا كبيًرا مبينًا،
وغدت إشبيلية بعد فرار النصارى تحت رحمة المرابطين ،وكانوا
قد ضربوا حولها الحصار ،وكان سير بن أبى أبكر يقود الجيش
صر ،وفتحت إشبيلية عنوة فى رجب 484هـ1091/م، المحا ِ
ُ
مد بن عَبَّاد مأساة حزينة ،وكانت عبرة لتقل ّب ت ع
ُ ْ َ ِم ال خاتمة وكانت
الدهر ،وذلك أن الرجل الذى لبث زهاء ربع قرن يقبض بيديه على
مصاير إسبانيا ،والذى كان يحكم سواد النصف الجنوبى لشبه
الجزيرة ،والذى يرجع إليه سبب استيلء ألفونسو السادس على
طُلَيْطِلَة ،والذى استدعى المرابطين إلى الَنْدَلُس ،اختتم حياته
الحافلة بالحداث فى غمرة البؤس والحزن فى أغمات المغرب
فقد قبض عليه بعد سقوط إشبيلية ،وعلى نسائه وأبنائه وبناته –
وهم نحو مائة – وأرسلوا إلى مراكش( ،)2وفى طريقه تألم
مد من قيده وضيقه وثقله فقال: معْت َ ِ
ال ُ
بذل الحديد وثقل القيود تبدَّلت من ظل عّزِ
البنودِ
وعضبًا رقيقًا صقيل وكان حديدى سنانًا
الحديد ذليقًا
يعض بساقى عض وقد صار ذلك وذا أدهما
السود
مد
معْت َ ِ ُ ال سيرة فى الدب لقد أطنب الشعراء والمؤرخون وأهل
بن عَبَّاد ،وسبب ذلك أمور كثيرة وأهمها فى نظرى أن قضيته
115
غريبة ،وشخصيته عجيبة ،ومَّر بأمور رهيبة وكانت سيرته مليئة
بالمتناقضات فهو الذى قال« :رعى البل ول رعى الخنازير» وهو
مين،سل ِ ِ
م ْ
الذى استعان بالنصارى ،وأجلب خيلهم ورجالهم ضد ال ُ
وسيرته تبين لنا سنن الله فى إعزاز من يشاء وإذلل من يشاء،
وإعطاء الملك لمن يشاء ونزعه ممن يشاء.
نعُ اْل ُم ْلكَ ِممّ ْن تَشَاءُ وَُت ِعزّ
ك تُؤْتِى اْل ُم ْلكَ مَن تَشَاءُ وََت ِ
قال تعالىُ ﴿:ق ِل ال ّلهُمّ مَاِلكَ اْل ُملْ ِ
ك َعلَى ُكلّ َشيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران.]26 : مَن تَشَا ُء وَتُ ِذلّ مَن تَشَا ُء بِيَدِكَ اْلخَ ْي ُر إِّن َ
مد بن عَبَّاد فى أغمات سنة 488هـ -رحمه الله معْت َ ِ
وتوفى ال ُ
تعالى.-
وفى النادر الغريب أنه نودى فى جنازته بالصلة على الغريب،
من له البقاء والعَّزة
بعد عظم سلطانه وجللة شأنه ،فتبارك َ
والكبرياء(.)1
من شعر المعتمد بن عباد:
دخل عليه ولده أبو هاشم والقيود قد عضت بساقيه فخاطب
قيده فقال:
أبيت أن تشفق أو ترحما قيدي ,أما تعلمنى
ما
مسل ً
ُ
أكلته ول تهشم العظُما ب ،واللحمٌ شرا دمى
قد
فينثني ,والقلب قد يُبصرنى فيك أبو هاشم
هُشما
جّرَعتهن ال ُّ
سم والعَلقما ت له مثله
ارحم أخيا ٍ
وقال ذات مرة بعد أن أحيط به فى إحدى معاركه:
116
ب الصديع
وتَنْهنه القل ُ لما تماسكت الدموع
خضوع
فليبد ُ منك لهم ُ قالوا الخضوعُ سياسة
س ُّ
م النقيع على فمى ال ّ ضوع
خ َ
وألذ من طعم ال ُ
117
دّينصا على سلمة ال ِ وأفتى العلماء بخلع ملوك الطوائف حر ً
والعقيدة؛ قَّرر المير يوسف أن يضع حدًا لمهزلة ملوك الطوائف,
ن -من أجل الشريعة والمصلحة العظمى للمة -لهذه لقد آ َ
الدويلت الهزيلة الضعيفة المتناحرة المتحالف بعضها مع العداء
أن تنتهي ،وكما قال الشاعر محمود غنيم:
َّ
ليديه ,حطــمَ جانب من عالج الباب العصى فلم يلن َ
المصـراع
فقد شغله هؤلء المراء المتفرقون عن الجهاد والفتوحات
والمرابطة فى سبيل الله لضعفهم وفرقتهم ،فلقوا جزاء خيانتهم
وفرقتهم ،وابن تاشفين خص المراء وحدهم بشدة عقابه ,وعفا
عن الشعب المسلم ،لن التناقض جلى بين الشعب الذى تعلق
بالمرابطين وبالمير يوسف لعدله وحزمه وجهاده ،والذى حرص
على رفع المظالم والضرائب والمكوس عن كاهل الشعب الذى
طلب من ملوكه التحاد فى وجه النصارى ،وبين المراء والملوك
حبًّا فى الحكم ،وحفاظًا على الذين آثروا التَّفُّرق والخلفُ ،
مصالحهم الشخصية.
وهذا الذى قام به المير يوسف ،وإزاحة الملوك من أعظم
حسناته ومآثره الخالدة فى تاريخه المجيد الذى تعتز به أمتنا
العريقة.
مدُن والحصون ،وأصبحت وبسقوط إشبيلية تزعزعت باقى ال ُ
غرناطة ومالقة وجيان وقرطبة وإشبيلية والمرية تحت حكم
المرابطين فى وقت لم يتجاوز ثمانية عشر شهًرا.
ت المرية بيد داود ابن عائشة ،هذا القائد المجاهد ولما سقط ْ
المرابط فى سبيل الله ،المنصور بإسلمه ودينه وصفاء عقيدته
وحفظه للعهود ،واصل سيره الموفق مع جنوده البواسل ,وافتتح
مرابيطر وبلنسية وشنتمرية ،ولم تغن أمراءهم معاونة الكمبيادور
وفرسانه ،فبلنسية كان بها يحيى بن ذى النون «القادر» ،وعلى
الرغم من أنه كان منضويًا تحت حماية ملك قشتالة ،وقد خفت
مين من لنجاده فرقة كبيرة منهم ،وقوة من المرتزقة المسل ِ
مرسية بقيادة ابن طاهر على الرغم من كل هذا سقطت بلنسية
بيد المرابطين أصحاب اليادى المتوضئة ،والقلوب الطاهرة،
والضربات الفتاكة لكل جبار عنيد.
مدُن شرق واستمَّر داود ابن عائشة فى فتح حصون وقلع ُ
إسبانية تحفُّه العناية اللهية ،وتنزل عليه الفتوحات الرب ّانية,
َ
خا مجيدًا باقيًا على مر ويخط للمغاربة وللمة السلميَّة تاري ً
العصور والزمان ،واضحة معالم العقيدة واليمان فى نحته
118
وكتبه بماء الذهب الصافي.
ما القائد الربَّانى والفارس الميدانى سير بن أبى بكر فكان أ َّ
ُ
جهاده الميمون فى غرب النْدَلس؛ حيث زحف إلى بطليوس َ
متَوَكِّل» بعد أن فتح إشبيلية مد بن الفطس «ال ُ ح َّ
م َ
وأميرها يومئذٍ ُ
ل بطليوس فى َ كما سلف ،فاستولى على شلب ويابرة ,ثم احت ّ
صفر 487هـ -آذار (مارس) 1094م.
وفى الوقت الذى سقطت فيه بطليوس ،استطاع المرابطون
أن يفتحوا جزر البليار ،التى كان واليها يومئذٍ من بنى شهيد أتباع
أمراء بلنسية ودانية ،وأحسن المرابطون صنعًا بفتح الجزر
الشرقية «بليار» فى الوقت الملئم ،فقد كانت منعزلة تعيش
تحت هيمنة السطول النصراني ،وقد تم الفتح على يد القائد
البحرى ابن تافرطست.
بذلك أصبحت إسبانيا المسلمة تحت قبضة دولة المرابطين الفتية
سطَة التى كان سْرقُ ْ سنة 487هـ 1094/م ،ونستثنى من ذلك ولية َ
واليها أحمد بن هود «المستعين بالله» الذى أبلى بلءً حسنًا فى جهاد
النصارى ,وظهرت فيه شهامة ورجولة أقنعت المير يوسف على
إبقائه فى ُملكِه ،وتحالف ابن هود مع إخوانه فى العقيدة ضد َّ أعدائهم
فى ال ِدّين ،وكان سدًا منيعًا فى الثغور الشمالية وقد كلف النصارى
خسائر هائلة فى الموال والرواح.
ُ
واستطاع النصارى أن يحتل ّوا مدينة «بلنسية» عام 487هـ بقيادة
القائد
النصرانى الكمبيادور الذى أمن قاضيها «ابن جحاف» ثم أحرقه بالنار،
وعمل المرابطون على إرجاع بلنسية والحصون التى وقعت فى يد
النصارى ،وتمكَّنوا من تحرير بلنسية عام 495هـ.
من حولهم الفاتيكان أفتى لهل إسبانيا و َ والجدير بالذكر أن بابا
مين جهاد مقدس, سل ِ ِ ُ َ
م ْ
من الفرنج إن قتالهم فى النْدَلس ضد ال ُ
ولذلك لم يشارك السبان فى حروب النصارى الصليبية فى شرق
العالم السلمى فى هذه الفترة.
مين صليبية سل ِ ِ م ْ لقد كانت سياسة السبان فى حروبهم لل ُ
النزعة ،همجية الخلق ،خالية من الخلق ،ممزوجة بالغدر بعيدة
عن العلم والحضارة.
وكانت سياسة المرابطين فى حروبهم وجهادهم مبنية على
نشر السلم ومكارم الخلق فى أُطُر حضارية نابعة من مشكاة
الوحيين كتاب الله وسنة رسوله × (.)1
119
***
120
المبحث الثامن
الجواز الرابع للمير يوسف فى الندلس
لما أصبحت إسبانيا المسلمة تحت حكم المرابطين بما فى ذلك
سطَة التى حكمها بنو هود ،عبر أبو يعقوب يوسف بن تاشفين سْرقُ ْ
َ
العبور الرابع سنة 496هـ1103 /م بعد استرداد بلنسية بعام واحد،
يبتغى تنظيم شئونها ،وليطلع على حسن سير الدارة ،ودعا القادة
والولة وزعماء الَنْدَلُس ،وشيوخ القبائل المغربية التى تدين بالطاعة
له إلى الجتماع فى قرطبة ،وعيَّن ولده الصغر عليًًّا «أبا الحسن»
وليًّا للعهد؛ فقد ظهرت مواهبه ونجابته ورجاحة عقله ولمس والده
فيه الخصال اللزمة لحكم شعوب وأمم كثيرة(.)1
أول :نص ولية العهد للمير على بن يوسف:
ً
مد بن عبد الغفور ح َّ
م َ
عهد المير يوسف إلى كاتبه الفقيه أبى ُ
أن يكتب نص ولية العهد وكان مشهوًرا ببلغته ،وهذا هو النص:
«الحمد لله الذى رحم عباده بالستخلف ،وجعل المامة سبب
مد نبيه الكريم الذى ألف ح َّ م َالئتلف ،وصلى الله على سيدنا ُ
القلوب المتنافرة ،وأذل لتواضعه عزة الملوك الجبابرة.
مين وناصر الدِّين أبا يعقوب بن سل ِ ِ
م ْ
أما بعد :فإن أمير ال ُ
تاشفين لما استرعاه على كثير من عباده المؤمنين ،خاف أن
يسأله الله غدًا عما استرعاه كيف تركه همل ً لم يستنب فيه
سواه ،وقد أمر الله بالوصية فيما دون هذه العظمة ،وجعلها من
آكد الشياء الكريمة ،كيف فى هذه المور العائدة فى المصلحة
مين بما لزمه من هذه الوظيفة سل ِ ِم ْ
الخاصة والجمهور ،وإن أمير ال ُ
وحضه الله بها من النظر فى المور الدِّينية الشريفة ،قد أعّز الله
رماحه وأحد سلحه ،فوجد ابنه المير الجل أبا الحسن أكثرها
حا إلى المعالى واهتزاًزا ،وأكرمها سجية وأنفسها اعتزاًزا، ارتيا ً
فاستنابه فيما استرعي ،ودعاه لما كان إليه ودعا ،بعد استشارة
أهل الرأى على القرب والنأي ،فرضوه لما رضيه ،واصطفوه لما
اصطفاه ،ورأوه أهل ً أن يسترعى فيما استرعاه ،فأحضره
مشترطًا عليه الشروط الجامعة بينهما وبين المشروط قبل،
وأجاب حين دُعي ،بعد استخارة الله الذى بيده الخيرة والستعانة
بحول الله الذى من آمن به شكره ،وبعد ذلك مواعظ ووصية
بلغت النصيحة مرامى قصية ،يقول فى ختامه شروطها وتوثيق
ربوطها ،كتب شهادته على النائب والمستنيب من رضى إمامتها
ما يقينًا بما وصاه فى هذا الترتيب على البعيد والقريب ،وعلم عل ً
() انظر :معركة الزلقة ،ص (.)71 1
121
وذلك فى عام 495هـ 1101 /م(.)1
أ -وأوصى يوسف بن تاشفين ابنه عليًّا بما يلي:
حكَّام والقضاة فى الوليات والحصون أل يُعَيّن فى مناصب ال ُ
مدُن إل المرابطين من قبيلة لمتونة. وال ُ
َ
وأن يحتفظ فى النْدَلُس بجيش دائم حسن الجر من
المرابطين ،قوامه سبعة عشر ألف فارس ،يطعمون على حساب
سطَة ،وسبعة سْرقُ ْ
الدولة يوزعون كما يأتي :أربعة ألف فى ولية َ
آلف فى إشبيلية ،وثلثة آلف فى غرناطة ،وألف فى قرطبة،
والباقى قدره ألفان يحتلون قلع الحصون كحامية ،ويحسن أن
يعهد إلى مسلمى الَنْدَلُس بحراسة الحدود النصرانية ومحاربة
النصارى ،فهم لهم معرفة أوسع وخبرة أكبر على مقاتلة النصارى
من المغاربة ،وأن يعمل على تشجيع الَنْدَلُسيين على روح الجهاد
وأن يكافئ المتفوقين فى الحرب منهم بالخيل والسلح والثياب
والمال.
َ
صا قرطبة ونصح أبو يعقوب ابنه أن يعامل أهل النْدَلُس وخصو ً
بالرفق واللين ،وأن يقوى علقته الخوية مع بنى هود الذين هم
طليعة الَنْدَلُسيين فى محاربة النصارى.
ولما انتهى يوسف بن تاشفين من تنظيم شئون الَنْدَلُس
وقسمها إلى ست وليات هى إشبيلية ،غرناطة ،قرطبة ،بلنسية،
سطَة ،عاد ابن تاشفين إلى مراكش. سْرقُ ْ
مرسية ،و َ
ب -لقد مرت سياسة المرابطين فى الندلس بمراحل
ثلث:
مين،
سل ِ ِ -1مرحلة التدخل من أجل الجهاد وإنقاذ ال ُ
م ْ
وقد انتهت بانسحاب المرابطين بمجرد انتصار
الّزِلقَة.
-2مرحلة الحذر من ملوك الطوائف ،بعد أن ظل
وضعهم وضع التنافر والتحاسد والتباعد ،ولم يفكروا
فى الندماج فى دولة واحدة ،بل فضل بعضهم
التقرب إلى العداء للكيد ببعضهم.
-3مرحلة ضم الَنْدَلُس إلى المغرب ،فوضعوا حدا
لمهزلة ملوك الطوائف.
122
المبحث التاسع
آثار البتعاد عن تحكيم شرع الله
على ملوك الطوائف
-1إن البتعاد عن تحكيم شرع الله تعالى يجلب للفراد
والمة تعاسة وضنكًا فى الدنيا ،وهلكًا وعذابًا فى الخرة،
وإن آثار البتعاد عن شرع الله لتبدو على الحياة فى وجهتها
دّينية والجتماعية والسياسية والقتصادية. ال ِ
س جميع وإن الفتن تظل تتوالى وتترى على الناس حتى تم َّ
شئون حياتهم ,قال تعالىَ ﴿ :فلَْيحْذَرِ الّذِينَ ُيخَاِلفُو َن عَ ْن أَ ْمرِ ِه أَن تُصِيَبهُمْ ِفتْنَ ٌة َأوْ
يُصِيَبهُ ْم عَذَابٌ َألِيمٌ﴾ [النور.]63:
مارسة ملوك الطوائف للحكم البعيد عن شرع م َ
لقد كانت فى ُ
الله آثار على المة ،فتجد النسان المنغمس فى حياة المادة
لسب ك َّ مصابا ً بالقلق والحيرة والخوف والجبن يح َ والجاهلية ُ
من النصارى ول يستطيع أن يقف أمامهم صيحة عليه ،يخشى ِ
ز وشموخ واستعلء ،وإذا تشجع فى معركة من المعارك وقفة ع ّ ٍ
ضعف قلبه أمام العداء من أثر المعاصى على قلبه ،وأصبح فى
شةً ضَنكًا﴾ [طه.]124:
ضنك من العيش﴿ :وَ َمنْ َأ ْعرَضَ عَن ِذ ْكرِى فَإن َلهُ َمعِي َ
ُ
ما الثار على المة الَنْدَلُسية فقد أصيبت بالتبل ّد وفقد -2أ َّ
الحساس بالذات ومات ضميرها الروحي ،فل أمر بمعروف
تأمر به ،ول نهى عن منكر تنهى عنه ،وأصابهم ما أصاب
بنى إسرائيل عندما تركوا المر بالمعروف والنهى عن
المنكر.
قال تعالىُ﴿:لعِنَ الّذِي َن كَ َفرُوا مِن بَنِى ِإ ْسرَائِيلَ َعلَى لِسَانِ دَا ُودَ َوعِيسَى اْبنِ َمرْيَ َم
ذَِلكَ ِبمَا عَصَوْا َوكَانُوا َيعْتَدُو َن كَانُوا َل يَتَنَاهَ ْو َن عَن مّن َكرٍ فَ َعلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَ ْف َعلُونَ﴾ [المائدة.]79 ،78 :
مة ل تعظ ِّم شرع الله أمًرا ونهيًا فإنها تسقط كما فإن أيَّ أ َّ
مُر َّ
ن سقط بنو إسرائيل ،قال رسول الله ׫ :كل والله لتأ ُ
ن على يد الظالم ولتأطرن ّهَ ن عن المنكر ولتأخذ ُ َّ
بالمعروف ولتنهوُ َّ
على الحق أطًرا ،ولتقصرنه على الحق قصًرا ،أو ليضربن الله
ضا ,ثم ليلعننكم كما لعنهم»(.)1بقلوب بعضكم بع ً
() أبو داود ،كتاب الملحم ،باب المر بالمعروف ,رقم الحديث(.)4670 1
123
-3إن ملوك الَنْدَلُس تحققت فيهم سنة الله الماضية بسبب
تغيُّر النفوس من الطاعة والنقياد إلى المخالفة والتمرد
على أَحكام الله﴿ :ذَِل َ
ك بِإن الَ لَ ْم َيكُ ُمغَّيرًا نّ ْع َمةً أَنْ َع َمهَا َعلَى قَوْ ٍم حَتّى يُغَّيرُوا
سهِمْ﴾ [النفال.]53:مَا بِأَْنفُ ِ
حكَّام الذين تباعدوا عن كما أن المجتمعات التى تخضع تحت ال ُ
من خالف أمر الله وتطلب شرع الله تُذ َل وتهان ,حتى تقوم أمام َ
العون من إخوانهم فى العقيدة ,لرجاع حكم الله فى مجتمعاتهم.
إن ملوك الَنْدَلُس انعكس انحرافهم على شباب الَنْدَلُس كل ِّه،
وفَّرط أهل الَنْدَلُس فى المر بالمعروف والنهى عن المنكر،
َ
ت ،ولذلك وانعكس ذلك فى حركة الفتوحات السلميَّة التى توقّف ْ
حرمت شعوب كثيرة من سعادتها فى الدنيا والخرة بسبب تضييع
دّين ،لقد قست قلوب ملوك المانة والرسالة والدعوة إلى هذا ال ِ
الطوائف وكثير من أتباعهم إل من رحم الله ،وتركوا الحق
وانقادوا للضلل ،وابتلوا بالنفاق وفضحهم الله بذلك ،وحرموا
التوفيق والرجوع للصواب ،وخف دينهم وضعف إيمانهم ،بسبب
بطرهم للحق وغمطهم لحقوق الناس وابتعادهم عن شرع الله
تعالى.
-4لقد كانت ممالك الَنْدَلُس مليئة بالعتداءات على النفس
والموال والعراض ،وتعطلت أَحكام الله فيما بينهم،
َ
ونشبت حروب وفتن وبليا تول ّدت على أثرها عداوة
وبغضاء لم تزل عنها حتى بعد زوالهم.
-5وبسبب البتعاد عن كتاب الله وسنة رسوله × سهلت
مهمة النصارى فى الَنْدَلُس فأصبحت شوكتهم تقوى
وتحصلوا على مكاسب كبيرة ،وغاب نصر الله عن ملوك
الطوائف وأهل الَنْدَلُس ،وحرموا من التمكين ،وأصبحوا
مدُن تبتلى بالجوع
فى خوف وفزع من أعدائهم ،وبعض ال ُ
ل النصارى من بسبب حصار النصارى لهم ,وكم قت َ
مين وكم سبوا من نسائهم.سل ِ ِ
م ْ
ال ُ
-6إن البتعاد عن شرع الله فى الَنْدَلُس ترتب عليه انتقاص
ُ
الرض وضياع الملك ،وتسل ّط الكفار وتوالى المصائب.
-7إن من سنن الله تعالى المستخَرجة من حقائق ال َ ِ
دّين
سل ّط عليهم من يعرفونه َ والتَّارِيخ أنه إذا عُصى الله َ تعالى ِ
م َ
مين
سل ِ ِ
م ْ من ل َيعرفونه ،ولذلك سل ّط الله النصارى على ال ُ َ
فى النْدَلُس ،وعندما تحرك الفقهاء والعلماء وبعض
الملوك واستنصروا إخوانهم فى الدِّين ،والتفوا حول دولة
124
َ
الشريعة نصرهم الله على أعدائهم ،ثم خل ّص الله أهل
الَنْدَلُس من ملوك الطوائف الظالمين وأبدلهم بأمراء
عادلين ،منقادين لشريعة رب العالمين.
-8إن الذنوب التى يهلك الله بها القرون ويعذب بها المم
قسمان:
أولما :معاندة الرسل والكفر بما جاءوا به.
وثانيهما :كفر النعم بالبطر والشر ،وغمط الحق واحتقار الناس
وظلم الضعفاء ومحاباة القوياء ،والسراف فى الفسق
ُ
والفجور ،والغرور بالغنى والثروة ،فهذا كل ّه من الكفر
بنعمة الله ،واستعمالها فى غير ما يرضيه من نفع النَّاس
ل العام ،والنَّوع الثَّانى من الذنوب هو الذى مارسه والعد ِ
ُ َ
ملوك النْدَلس وأمراؤهم وأتقنوه إتقانًا عجيبًا.
***
125
الفصل الثالث
السياسة الداخلية والخارجية فى دولة
المرابطين
المبحث الول
حقوق الرعية فى دولة المرابطين
( )2تفسير الطبري( ،ج () الحكام السلطانية للماوردي ،ص (.)22 1
.)7/70 2
126
جماعَة وتسوَّد وجوه أهل الفرقة والزيغ»( ،)1لقد قامالسنة وال َ
جماعَة بتشجيع َ وال السنة أهل أصول بحماية تاشفين يوسف بن
العلماء والفقهاء وبنشرها وحمل الناس عليها واستخدم فى ذلك
سلطانه وصلحياته الشرعية(.)2
ثانيًا :توحيد المغرب تحت راية الخلفة السلمية:
قام يوسف بن تاشفين بتوحيد المغرب القصى تحت راية
الخلفة السلميَّة ,واستعمل من أجل هذا الهدف كافة السباب
المشروعة سواء بإصلح ذات البين بين القبائل المتناحرة ،أو
من استعصى عن الجابة ،وكان يسعى سعيًا باستعمال القوة مع َ
حثيثًا للقضاء على الشرور فى بلده ،ويعمل على إغلق أبوابها أولً
بأول وسبيله فى ذلك« :تنفيذ الَحكام بين المتشاجرين ،وقطع
م النصفة ،فل يتعدى ظالم ول الخصام بين المتنازعين حتى تع َّ
يضعف مظلوم»(.)3
ثالثًا :العمل على حماية المة من المفسدين والمحاربين:
مين يوسف بن تاشفين أن يؤمن سل ِ ِم ْ حيث استطاع أمير ال ُ
السبل فى بلده ,وأن يبسط المن ,ويقمع الخطار التى هددت
دولته من المارقين ,ونظم طرق السفار ومسارب التجارات.
وقد عد َّ علماء السلم تأمين السبل والطرق حقًّا من حقوق
الرعية التى سيُسأل عنها كل راع ،فذكروا أن المام يلزمه:
حرم ،ليتصرف الناس فى «حماية بيضة السلم ,والذب عن ال ُ
-
معايشهم وينتشروا فى أسفارهم آمنين على أنفسهم وأموالهم»
ك أن تأمين السبل دليل بارٌز على انتصار الدِّين وتمكينه، ( ,)4ول ش َّ
فإنه × لما دَعا عدى بن حاتم إلى السلم ،وعده – إن طالت به
مين آمنة ،وسبلهم محفوظة لما سل ِ ِم ْ الحياة – أن يرى طرق ال ُ
مين بعد ضعفهم ،فقد روى البخارى سل ِ ِ م ْ يؤول إليه المر من قوة ال ُ
فى صحيحه عن عدى بن حاتم قال« :بينما أنا عند النبى × إذا
أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ،ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل،
فقال :يا عدى هل رأيت الحيرة؟ قلت :لم أرها ،وقد أنبئت عنها،
قال :فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى
تطوف بالكعبة ل تخاف أحدًا إل الله »...وفيه أن عديًا tقال
بعدها« :فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة ل
() تفسير ابن كثير( ،ج .)1/369 1
127
تخاف إل الله»(.)1
رابعا :العمل على حماية المة من أعداء الخارج:
ً
قام المير يوسف بن تاشفين – رحمه الله – بأعمال عظيمة
ل عدوٍّ يحاول أن يعتدي ،واتخذ كل حماية لدولته وشعبه من ك ِّ
السباب المتاحة من أجل تحقيق هذا العمل المنشود من تحصين
الثغور بالعُدَّة المانعة والقوة الدافعة حتى ل يظفر العداء بثغرة
ما لمسلم أو معاهد (.)2 ما ,ويسفكون د ً ينتهكون بها محر ً
ل محاولت أعداء دولته من البرغواطيين وقضى على ك ِّ
ماديين الذين حاولوا ضم أراض من دولته ,وقضى ح َّ
والمغاورة وال َ
ماديين احترامه بالقوة.ح َّ
َ ال وألزم واللحاد, الكفر على دويلت
ضعَت الشريعة لجله:
خامسًا :حفظ ما وُ ِ
فقام بإقامة الحدود ،حتى تُصان محارم الله عن النتهاك,
َ
وتحفظ حقوق العباد من أى إتلف أو استهلك ,ونفذ فى رعي ّتِه
ح ُكمُوا بِاْلعَ ْدلِ﴾ [النساء.]58:
س أَن َت ْ
قوله تعالى﴿ :وَِإذَا َحكَمْتُ ْم بَ ْينَ النّا ِ
سادسا :إعداد المة إعدادًا جهاديًّا:
ً
ومسيرة المرابطين منذ خروجهم من رباط عبد الله بن ياسين
ل على أنَّهم قوم مجاهدون ،وقام قادتهم بجهاد الوثنيين, تد ُّ
واستمَّر يوسف بن تاشفين فى قتال أهل الردة ,وغلة المبتدعة,
وتوحيد القبائل الخارجة عن نطاق الدولة ،وقام بواجبه فى جهاد
الكفرة المعاندين للسلم حتى أسلموا أو أدخلوا فى ذمة
ّ ()3
ما بحق الله تعالى فى ظهور دينه على الدِّين كلِه .
مين قيا ًسل ِ ِ
م ْ ال ُ
سابعًا :القيام على تحصيل الصدقات وأموال الزكـــاة
والخراج والفيء:
حيث قام المير يوسف بالشراف على جباية وصرف الزكاة
فى مصارفها الشرعية من غير حيف ول عسف ،فكانت من
مصادر دولة المرابطين الزكاة والخراج والفيء وغيرها ،فكان
س ،بل أسقطها ,وإنَّما يأخذ
المير يوسف ل يأخذ الضرائب والمكو َ
حل ِّه ،ويضعه فى حقه ،ول يمنعه من مستحقِّه .
()4
المال من ِ
() أخرجه البخاري :كتاب المناقب ،باب علمة النبوة( ،ج ،)6/706رقم الحديث ( 1
.)3595
( )2انظر :الحكام السلطانية، () الحكام السلطانية ،لبي يعلي. 2
128
ثامنا :تحرى المانة فى اختيار المناصب:
ً
حرص المير يوسف على أن يختار المناء والكفاء وأسند
إليهم الوليات وقيادات الجنود ومناصب القضاة ،وحرص على أن
من يجده لذلك العمل، ح َمين أصل َ
سل ِ ِ يول ِّى كل عمل من أعمال ال ُ
م ْ
سنيَّة من أجل أن
واختار وانتخب أحسن وأنفع العناصر لدولته ال ُّ
يقوم بواجبه نحو رعيَّتِه.
تاسعًا :الشراف المباشر على شئون الدولة:
اعتاد المير يوسف أن يُشرف بنفسه على أمور رعيَّتِه ،ويتابع
ولته ,ويزورهم فى مواطنهم ,ويستمع للنَّاس ،وما كان يعتمد على
التفويض وحده؛ خوفًا من الله تعالى الذى قال فى كتابه﴿:يَا دَا ُودُ إِنّا
ل الِ﴾ [ص: ض ّلكَ عَن سَبِي ِ
س بِاْلحَقّ َو َل تَتِّبعِ اْلهَوَى فَيُ ِ
جَ َعلْنَا َك َخلِي َفةً فِى الَ ْرضِ فَا ْحكُ ْم بَيْ َن النّا ِ
,]26وقد عد َّ المام الماوردى هذا المر من حقوق الرعية على
الوالي ،وذكر أنه يلزمه« :أن يباشر بنفسه مشارفة المور,
وتصفح الحوال؛ لينهض بسياسة المة وحراسة الملة ،ول يعوِّل
على التفويض تشاغل ً بلذَّة ,أو عبادة؛ فقد يخون المين ,ويغش
الناصح.)1( »...
كان المير يوسف يراقب ولته مراقبة شديدة ,ول يتردد ُ فى
تبديلهم وعزلهم إذا أساءوا ،وكان يضع مصلحة الرعية فى المقام
الول عند تعيين الولة ويوصيهم بها خيًرا ،وقد جاء فى كتابه إلى
عبد الله ابن فاطمة« :فاتخذ الحق إيمانك ،وارفع لدعوة المظلوم
حجابك ،ول تسد فى وجه المضطهد بابك ،ووطن للرعية -أحاطها
الله -أكنافك ،وابذل لها إنصافك ،والحرج من كل ما يَحيف عليها
ويؤذيها ،ومن سدَّد عليها من عمالك زيادة ،أو خرق فى أمرها
ما
ما ظل ً ما ،أو بدَّل حك ً
ما ،أو أخذ لنفسه منها دره ً عادة ،أو غيََّر رس ً
فاعزله من عمله ،وعاقبه فى بدنه ،وألزمه فى ردِّ ما أخذ متعديًا
إلى أهله ،واجعله نكال ً لغيره حتى ل يقدم منهم أحد على مثل
فعله»(.)2
وكان المير يوسف يُخطر أهل الولية بتعيين الوالى
الجديد؛ فكتب إلى أهل سبتة بشأن المير يحيى بن أبى
بكر« :ونحن من وراء اختياره والفحص عن أخباره ،فإذا
وصل إليكم كتابنا؛ فالتزموا له السمع والطاعة ،والنصح
129
والمتابعة جهد الستطاعة»( )1بالضافة إلى ذلك كان المير
يوسف كثير الطواف فى مملكته للشراف على تنفيذ
أوامره وتعليماته من قبل الولة( ,)2والطلع على أحوال
الرعية والنظر فى أمورها.
***
استفدت فى مباحث أثر حكم الله على دولة المرابطين ،وأثر ترك حكم الله
والواجبات السياسية التي قام بها المير يوسف من كتاب الحكم والتحاكم
فى خطاب الوحي ،للمؤلف عبد العزيز مصطفى كامل.
130
المبحث الثاني
موقف الرعية فى دولة المرابطين
ت الرعية فى دولة المرابطين حقوقها الشرعية، لقد استوف ْ
َ
فكان طبيعيًّا جدًّا أن تؤديَ واجباتها إلى ُ
حك ّامها وولتها ,وأهم هذه
الواجبات التى أدتها:
أولً :الطاعة:
كان مسلمو المغرب فى زمن دولة المرابطين يتقربون إلى
الله تعالى بطاعة أميرهم والنقياد له فى كل معروف ،ويرون هذه
حكَّامهم بنص القرآن وصريح السنة وصحيحها. الطاعة حقًا ثابتًا ل ُ
قال تعالى﴿ :يَا أَّيهَا الّذِي َن آمَنُوا أَطِيعُوا الَ وََأطِيعُوا ال ّرسُولَ َوأُولِى ال ْمرِ
مِ ْنكُمْ﴾ [النساء.]59:
وفى مجتمع المرابطين كانت الشريعة فوق الجميع يخضع لها
حكَّام كانت عندهم مقيدة
الحاكم والمحكوم ،ولهذا فإن طاعة ال ُ
ما بطاعة الله ورسوله.
دائ ً
قال ׫ :ل طاعة فى المعصية ،إنما الطاعة فى
المعروف»(.)1
ثانيًا :النصرة:
مون تحت قيادة أمراء المرابطين يعاضدون سل ِ ُ
م ْ كان ال ُ
وينصرون أمراءهم فى أمور دينهم وجهادهم لعدوهم عاملين بقوله
تعالى﴿ :وََتعَاوَنُوا َعلَى اْلبّ وَالتّقْوَى ﴾ [المائدة.]2:
حكَّامهم ،ويدافعون
وكانوا يكرمون من يقيم شرع الله من ُ
وينافحون عنه ويكرمونه ويجلونه لقوله ׫ :إن من إجلل الله
تعالى :إكرام ذى الشيبة المسلم ،وحامل القرآن غير الغالى فيه
والجافى عنه ,وإكرام ذى السلطان المقسط»(.)2
ثالثًا :النصح:
قامت هذه الدولة الميمونة المباركة على النصح المتبادل بين
الحاكم والمحكومين ،ونجد إن أحد الوزراء يطلب من المير
يوسف عدم جواز البحر فى جهاده ضد النصارى حتى يسلم
مد بن عَبَّاد له الجزيرة الخضراء ،فيسمع المير يوسف هذه
معْت َ ِ
ال ُ
() أخرجه البخاري فى كتاب الحكام ،باب السمع والطاعة ،حديث (.)7145 1
() رواه أبو داود ،كتاب الدب ،باب تنزيل الناس منازلهم (/23رقم .)4822 2
131
النصيحة وينفذها فى أرض الواقع ،وامتنع عن جواز البحر حتى
صل على تلك الجزيرة التى أفادته فى جهاده كثيًرا ،لقد كانت تح َّ
قيادات المرابطين تستمع للنصح فى تواضع جم ،واستعداد نفسى
صلوا عليها. رفيع يدل على عمق التربية العميقة التى تح َّ
إن السلم أوجب على الرعية أن تُناصح ولة أمرها ،وقد جاء
المر بذلك فى حديث من جوامع الكلم لرسول الله × إذ يقول:
من يا رسول الله؟ قال: «الدِّين النصيحة – ثلثًا – قال الصحابة :ل ِ َ
()1
مين وعامتهم» . سل ِ ِم ْ لله – عَّز وج َّ
ل -ولكتابه ولرسوله ولئمة ال ُ
ومعنى النصيحة لهم فى هذا الحديث« :معاونتهم على الحق
وطاعتهم فيه وتذكيرهم به وتنبيههم فى رفق ولطف ،ومجانبة
الوثوب عليهم ،والدعاء لهم بالتوفيق»(.)2
وقال ׫ :ثلثة ل يُغل عليهن قلب امرئ مسلم :إخلص
مين ،ولزوم جماعتهم»(.)3 سل ِ ِ
م ْ
العمل لله ،والنصح لئمة ال ُ
حكَّام المرابطين ببطانة آمرة بالمعروف وناهية لقد أكرم الله ُ
عن المنكر ,مرشدة للصواب ،ناصحة للراعى والرعية ل تخشى إل
الله.
رابعا :التقويم:
ً
مون الذين ارتبطوا بدولة المرابطين ل يجدون سل ِ ُ
م ْ
كان ال ُ
جا ول مانعًا فى إيصال ما يرونه من النصح والرشاد وتقويم حر ً
حكام أثناء اجتهاداتهم فى شئون الحياة. َ ّ الخطاء التى يقع فيها ال ُ
وهذا المبدأ قد استقَّر فى مفهوم الصحابة منذ بداية دعوة
السلم ،فهذا
دّيق tعندما تولى الخلفة ،قام فى الصحابة خطيبًا ،فقال: الص ِ
ّ
«أيُّها الناس ,فإنِّى قد ولِيت عليكم ,ولست بخيركم ،فإن أحسنت
فأعيونني ،وإن أسأت فقوِّموني ،الصدق أمانة ،والكذب خيانة،
والضعيف فيكم قوى عندى حتى أرجع عليه حقه -إن شاء الله-
والقوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه -إن شاء الله ،-ل
ل ،ول تشيعيدعُ قوم الجهاد فى سبيل الله إل خذلهم الله بذ ٍّ
مهم الله بالبلء ,أطيعونى ما أطعت الله الفاحشة فى قوم إل ع َّ
ورسوله ،فإذا عصيت الله ورسوله ،فل طاعة لى عليكم ,قوموا
إلى صلتكم يرحمكم الله»(.)4
رواه مسلم ،كتاب اليمان ،باب بيان أن الدين النصيحة/23( ،رقم .)55 () 1
انظر :صحيح ابن ماجه ،للشيخ اللباني رحمه الله (ج 2/182رقم .)248 () 3
132
وكان عمر tل يكتفى بإنصاف الناس من نفسه ،حتى ينصفهم
من عُماله وولته ،يسأل الرعية عمن أساء منهم ،وكان يقول:
«إنِّى لم أبعث عمالى ليضربوا أبشاركم وليشتموا أعراضكم
ويأخذوا أموالكم ،ولكنى استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة
ي ،ليرفعها إل َّ
ي من ظلمه عامله بمظلمة فل إذن له عل َّ نبيكم ،ف َ
()1
حتى أقصه منه» .
إن علقة الحاكم بالمحكوم فى السلم غرضها الول إعلء
عى والرعية ,وثانياً :فهى كلمة الله ,وإعزاز دينه ,ولمصلحة الَّرا ِ
من ل يسألون فيها عما من يجعلون فى مرتبة َ َ بعيدة كل البعد ع َّ
حكامهم بدون وجه حق ،إن ّ من يحقرون ويمتهنون ُ يفعلون ,وبين َ
الحاكم فى السلم له احترامه وحقوقه المستمدة من كتاب الله
وسنة رسوله × ،وكذلك للمحكوم حقوقه المستمدَّة من أصل
عقيدة السلم ،لذلك نجد النصح والنقد والتقويم بين الحاكم
والمحكوم فى تاريخ السلم على مّرِ العصور والزمان ،فإذا
لَ
تأملت فى الدول التى سارت على شرع الله المولى -عَّز وج ّ
-وجدت هذه المعالم واضحة.
َ
وهذا يوسف بن تاشفين عندما دخل فى بلد النْدَلُس للجهاد
فى سبيل الله فأرسل إلى أهل المرية من ممالك الَنْدَلُس ،وذكر
َ
لهم أن جماعة أفتوه بجواز طلب العون اقتداء بعمر بن الخط ّاب t
فرد َّ قاضى المرية «أبو عبد الله بن الفراء» على المير يوسف
ردًّا فيه نقد وتقويم ونصح ،فلم يتعَّرض ذلك القاضى لعقوبة ،بل
استمع إلى نصحه وإرشاده وما رآه ح ًّقا ,وكان هذا القاضى من
ص الجواب الذى أرسله إلى المير الدِّين والورع بمكان ،وهذا ن ُّ
مين من اقتضاء المعونة سل ِ ِ
م ْما بعد ,ما ذكره أمير ال ُ يوسف« :أ َّ
وتأخيرى عن ذلك ،وإن أبا الوليد الباجى وجميع القضاة والفقهاء
بالعُدوة والَنْدَلُس أفتوا بأن عمر ابن الخطاب tاقتضاها ،وكان
صاحب رسول الله × وضجيعه فى قبره ،ول يشك فى عدله،
فليس أمير المسلمين بصاحب رسول الله × ول بضجيعه فى
قبره ،ول من ل يشك فى عدله ،فإن كان الفقهاء والقضاة أنزلوك
بمنزلة فى العدل فالله سائلهم عن تقلدهم فيك ،وما اقتضاها
عمر حتى دخل مسجد رسول الله × وحلف أن ليس عنده درهم
مين ينفقه عليهم ،فلتدخل المسجد سل ِ ِ
م ْ
واحد من بيت مال ال ُ
الجامع هناك بحضرة أهل العلم ،وتحلف أن ليس عندك درهم
واحد ،ول فى بيت مال المسلمين ,وحينئذٍ تستوجب ذلك,
والسلم»(.)2
() الطبقات الكبرى ،محمد بن سعد( ،ج .)8/222 1
133
ومحل الشاهد من هذه الرسالة هو النقد والتقويم المستمُّر
فى حياة المة بين علمائها وأمرائها بدون ظلم وجور واعتداء من
الطرفين على بعضهما البعض ،وبذلك تنطلق حضارة المة بآفاقها
المتنوعة لتحدث تغييًرا حضاريًا فى دنيا الناس ،مبنى على النصح
سنيَّة. والتناصح ،والنقد والتقويم ،كما حدث فى دولة المرابطين ال ُّ
***
134
المبحث الثالث
موقف المرابطين من الخلفة العباسية
135
من كان قبلهم بالمراء ,والخصومات فى دين وأخبرهم إنَّما هلك َ
الله»(.)1
والحاديث فى هذا الشأن كثيرة :فعن ابن عبَّاس – رضى الله
من فارق الجماعة شبًرا عنهما – قال :قال رسول الله ×َ « :
فكأنَّما خلع ربقة السلم من عنقه» .
()2
وعن ابن عمر –رضى الله عنهما – قال :سمعت رسول الله ×
ميتة جاهليَّة» (.)3
من فارق الجماعة ،فإنه يموت ِ يقولَ « :
والمراد بميتة الجاهلية -وهى بكسر الميم -حالة الموت كموت
أهل الجاهلية على ضلل ،وليس له إمام مطاع ،لنَّهم كانوا ل
يعرفون ذلك ،وليس المراد أنه يموت كافًرا ،بل يموت عاصيًا ،لقد
ذهب علماء المرابطين إلى أن الجماعة المقصودة فى الحديث
مين إذا اجتمعوا على أمير ،موافق للكتاب سل ِ ِ
م ْ
جماعة ال ُ
والسنة(.)4
هذا فى نظرى سبب دخول المرابطين تحت الخلفة العباسية،
وأما ما ذكره المؤرخون أن من أسباب ذلك بعدهم عن العبَّاسيين،
صة بعد أن تطَّرق إليهم الفساد ،ود َّ
ب ولذلك كانوا ل يخشونهم خا َّ
الضعف فيهم ،وهى ل تشكل أى خطر عليهم ،فإنِّى استبعد ذلك
حيث إن سياسة قادة المرابطين تقاد بالشرع ،وليس العكس،
فهم إسلميون سياسيون ،وليسوا سياسيين إسلميين فى
علقاتهم الخارجيَّة وشئون دولتهم الدَّاخلِيَّة وارتباطاتهم الدولية.
أولً :الخطاب الذى رفعه الفقيه ابن العربى إلى الخليفة
المستظهر بالله 512-487هـ:
يلتمس فيه تقليدًا يخوِّل يوسف بن تاشفين حكم بلد المغرب
والَنْدَلُس :بسم الله الرحمن الرحيم عليه توكلي:
أسعد الله الدنيا وأهلها بدوام أنوار المواقف المقدسة النبوية
مين أمدهاسل ِ ِ
م ْ
المامية المستظهرية ،وضاعف مددها ،ول أرى ال ُ
بغرائب مجد تبدعها ،وفرائض تشرعها الخلفة ،ومستأنف سعود
تحرص جنابها ،ول زالت اليام التى هى ليامها غرر ،وفى إكليل
الخلفة درر ،وللدهر تمائم ،وفى المحل غنائم ،والحمد لله الذى
جعل المواقف المقدسة النبوية المامية المستظهرية شرائط
صها بالمجد المؤثل المطول بالنتساب ،كابًرا عن كابر السواد ،وخ َّ
انظر :الشيخ اللباني رحمه الله فى السلسلة الصحيحة (ج .)984 / () 3
انظر :وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق ،د .جمال أحمد ،ص (.)97 () 4
136
إلى أعلى خندف( ،)1فهى أعلها عمادًا ,وأوراها فى مواقف الفضل
زنادًا ,أرومة الرسالة وجرثومة الخلفة ،إليها ينزع هاشم ،وعنها
أخذت المكارم ،مفاخر شهد لها الكتاب المنزل ،وعهد بتخليدها
مخبًرا عن الوحى فى آله وعقبه النبى المرسل ،قد آمنت بعصمة
الله من الغير ،وتحققت أواخرها على السنن أولها فى هداية
ن به من توفيقنا البشر بحسن السير ،أوزعنا الله الشكر على ما م َّ
للتمسك بعراها الوثيقة ,والهداء بهداها إلى واضح الطريقة ،فهم
دّين وسليتنا ،استعملنا الله من طاعته دّين أمتنا ,ويوم ال ِ
فى ال ِ
وطاعتهم بما يؤدى إلى مرضاته ومرضاتهم ،إنه الموفِّق الهادى ل
ب غيُره. ر َّ
وإن الخادم بالدعية المتقبلة للمواقف المقدسة النبوية
المامية المستظهرية ،ألهمه الله منها لما يسمع فيرفع بمنه لما
علم بموجب الشرع أن بيعة المام العادل من أركان الديانة ،ومما
يتعين ما يحتمل من رعاية المانة.
هاجر إلى ذلك بنفسه وبابنه المسترق القن من أقصى
المغارب ،معتقدًا أن عمله أفضل القرب والرغائب ،واحتمل برد
الهواء وظمأ الهواجر ،واقتحم دون ذلك مسالك بلغت فيها القلوب
الحناجر ،ولم يثنه بحر يزخر ،ول قفر يذعر ويحتسب فى ذلك
أثره ،ويرجو أن يقبل الله يوم الجزاء عثره ،إلى أن انتهى هو وابنه
إلى مدينة السلم ل زالت محروسة من ِغيَر اليام ،عاصمة لمن
التجأ إليه من مهتضمى النام.
سل بهجرته، ولم يزل الخادم بالدعية المتقبلة بحول الله يتو َّ
ويتقَّرب بخلوص علنيته وسريرته ,ويسأل تشريف رقاعه،
بملحظاتها ،والنَّظر من انقطاعه ،رغبة فى الحظ الجسيم ،إلى أن
وصل إلى المجلس السامى وخدم البساط العالي ،زاده الله
ما وتشريفًا ،وأنهى أغراض وفادته ومقاصد إدارته ,فنفذت تعظي ً
الوامر الشريفة ،أدام الله سموَّها وتشريفها ,واصطفى على
الجميع ستر سلطانها ،وكنف إحسانها بقبول وسائله ،وإلحاح
مطالبه ،وإضافة الحسان عليه.
ل الكرامة ولما بسط له فى المل ،وكان هو وابنه فى مح ِّ
والجذل ،بدأ بعرض ما هو عليه ناصر الدِّين ،وجامع كلمة
مين ،القائم بدعوة مولنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه سل ِ ِ
م ْ ال ُ
وعلى آبائه الطاهرين ،المير أبو يعقوب يوسف بن تاشفين
مين باستئصال فئة العناد، سل ِ ِ
م ْالمتحرك بالجهاد المتجهز إلى ال ُ
ولمة الفساد ،قام بدعوة المامة العباسية والناس أشياع ,وقد
() خندف هي امرأة إلياس بن معز أحد جدود العرب ،وفد عرف بنوه بها :نهاية 1
139
وإلى أداء فروضه مسابقًا ،وكل فعله فيما هو بصدده للتوفيق من
من غدا بالدِّين تمسكه ,وفى الذيادة الولء ،طويل نجاده ,إذ كان َ
عنه مسلكه ،حقيقًا بأن يستتب صلح النظام على يده ،ويستشف
من يليه من الكفار ,وإتيان ما يقضى من يومه حسن العقبى فى َ
عليهم بالجتياح والبوار ،اتباعه لقوله تعالى﴿:قَاِتلُوا الّذِي َن َيلُوَنكُم مّنَ
اْلكُفّارِ﴾ [التوبة.]123 :
فهذا هو الواجب اعتماده الذى يقوم به الشرع ،وأن يؤلف
من فى جملته من النجاد على الطاعة المامية التى هى شمل َ
العروة الوثقى والذخر البقى واستقراه قوله تعالى العمل ،والبدار
إلى التشبتث بسببه﴿ :يَا أَّيهَا الّذِي َن آ َمنُوا أَطِيعُوا الَ وََأطِيعُوا ال ّرسُولَ وَأُولِى ال ْمرِ
مِ ْنكُمْ﴾ [النساء.]59:
وليكن دأبه الجهاد فيما يكسب عند الله الزلفى ,ويمنحه من
ضرًا وَمَا
رضاه القسم الكمل الوفى﴿ :يَوْ َم َتجِ ُد ُكلّ َنفْسٍ مّا َعمِلَتْ ِمنْ خَ ْي ٍر ّمحْ َ
َع ِملَتْ مِن سُوءٍ تَ َودّ لَ ْو أن بَيَْنهَا وَبَيَْن ُه أَمَدًا َبعِيدًا﴾ [آل عمران.]30:
() تاريخ المغرب والندلس ،د .حمدي عبد المنعم ،ص (.)237 2
140
وأنا أميل إلى أن اتصال المرابطين كان قبل ذلك بكثير حيث
إن واضع الخطوط العريضة لدولة المرابطين الفقيه «أبو عمران
ل الفقهاء الذين من من أتباع العباسية ,وك ُّ الفاسى القيرواني» ِ
سنيُّون مالكيُّون ،وبذلك يكون زعماء المرابطين ساروا مدرسته ُ
َ على نفس التعاليم ال ُّ
سني ّة المالكية.
ونجد أن نقود المرابطين قد نقش عليها أسماء الخلفاء
العبَّاسيين منذ عام 450هـ ،أى منذ عهد المير أبى بكر بن
ل اسم الخليفة العبَّاسى يذكر مقرونًا باسم أبى بكر عمران ،وظ َّ
بن عمران إلى أن توفى فى عام 480هـ ،وخلفه يوسف بن
تاشفين فذكر اسمه على السكة مع اسم الخليفة العبَّاسي ،وهذا
يدل على صلة المرابطين بالعبَاسيين قبل الزلقَة ،ول ش َّ
ك أن ِّ ّ
كتابة اسم الخليفة على عملة المرابطين تم بعد اتصالهم بالخليفة
العبَّاسي ،وبعد أن تلقَّوا منه إجابة بقبول طاعتهم ,وتقليدًا
بوليتهم(.)1
***
141
المبحث الرابع
علقة المير يوسف مع بنى حماد
حرص المير يوسف على علقة حسن الجوار مع دولة بنى
ماد الصنهاجية التى تقع فى شرق دولة المرابطين ،وكان ح ََّ
ماديون يتحينون الفرصة لضم أطراف من مملكة المرابطين، ح َّ َ ال
م لهم ذلك عندما عبر المير يوسف الَنْدَلُس عام 479هـ، وت َّ
فتحالفوا مع عرب بنى هلل؛ وغزوا المغرب الوسط ؛وعادوا إلى
بلدهم محملين بالغنائم ،وسكت يوسف عن النتقام منهم,
وصالحهم ،ولم يرغب فى الدخول فى حرب معهم مع وجود
مين وحفظًا لشوكتهم وقوتهم. سل ِ ِ
م ْأسبابها حقنًا لدماء ال ُ
مادى فى عام 481هـ, ح َّوعندما تُوفى الناصر بن علناس ال َ
بعث المير يوسف بكتاب تعزية إلى ولده وخليفته المنصور ،مما
ماد ،واستمَّرت حالة يدل على نيَّات يوسف السلمية تجاه بنى َ
ح َّ
السلم بين الفريقين أكثر من عشر سنوات ,ثم نشب خلف بين
والى تلمسان المرابطى تاشفين بن تنغمير و َ
ح َّ
ماد, حك ّام بنى َ
ُ
صراع َ
فهاجم المير تاشفين بدون إذن من المير يوسف ،واشتد ّ ال ِّ
بين الطرفين ,وتدخل المير يوسف واستطاع بحكمته وسياسته
مين ،وعزل حاكم تلمسان تاشفين وعيَّن سل ِ ِ
م ْ
أن يحقن دماء ال ُ
ُ َ
مكانه المير مزدلي ،وبعد أن ضم المير يوسف النْدَلس أضحت
مملكة بجاية ملذ ًا للفاّرِين من الَنْدَلُس ،ومع ذلك لم يحرك المير
-
ماد ,وبقى المر كذلك حتى وفاته ح َّ يوسف ساكنًا تجاه عمل بنى َ
(.)1
ماديين أثر فى تخفيف ح َّ لقد كان للتوجه السنى فى دولة ال َ
الصراع مع المرابطين ،كما إن لصلة القرابة الصنهاجية سببًا آخر،
ماديين أن تقاوم جيوش المرابطين ح َّوإل ما كانت تستطيع دولة ال َ
ماديين كانت من السباب ح َّ
الفتية ،وفى نظرى إن بقاء دولة ال َ
التى أضعفت الدولة الزيرية والصنهاجية ،وسببت توتًرا وارتباكاً
لدولة المرابطين ،ولو ضمت لدولة المرابطين لكان أفيد للسلم
مين وللمغرب الوسط والقصى. سل ِ ِ
م ْ وال ُ
* **
المبحث الخامس
علقة المرابطين مع ملوك الطوائف
() دولة المرابطين ,ص (.)158 1
142
مَّرت علقة المرابطين مع ملوك الطوائف بمراحل متعددة،
وهي :المسالمة،
التحالف ،القتال.
أولً :مرحلة المسالمة:
ما وصلت دولة المرابطين ذروة قوتها وحطت بجيوشها ل َّ
وأساطيلها على سهل البحر المتوسط ارتعد ملوك الطوائف،
م ،وأصبحوا بين قبضتين قويتين :بين وأصابهم الخوف وركبهم اله ُّ
النصارى الذين يمكن مداراتهم بالموال والتنازل عن بعض
الحصون ,وبين المرابطين الذى عرفوا بجهادهم واستعلئهم على
متاع الدنيا ،وحبِّهم للشهادة ,ورفع المظالم عن العباد ،وقد
وصلهم ظلم ملوك الَنْدَلُس ،وقد اشتهر جنود المرابطين بصيت
عظيم فى تحقيق النصر فى المعارك ،وبأس شديد فى القتال مما
أدخل الرعب فى قلوب ملوك الطوائف ،فعقدوا اجتماعًا للتشاور
فى أمر الخطر القادم من الجنوب ،واستقَّر رأيهم أن يكتبوا للمير
يوسف يسألونه العراض عنهم ,وأنَّهم تحت طاعته ،وهذا نص
الكتاب:
«أما بعد ,فإنَّك إن أعرضت عنا نسبت إلى كرم ,ولم تنسب
إلى عجز ،وإن أجبنا داعيك نسبنا إلى عقل ولم ننسب إلى وهن،
وقد اخترنا لنفسنا أجمل نسبنا فاختر لنفسك أكرم نسبتك ،فإنَّك
بالمحل الذى ل يجب أن تُسبَق فيه إلى مكرمة ،وإن فى استبقائك
ذوى البيوت ما شئت من دوام لمرك وثبوت والسلم»(.)1
وأرسلوا مع حامل الكتاب هدايا وتحفًا نفيسة.
وبعد أن تشاور المير يوسف مع مستشاريه رأى إن يسالمهم
ويرضى بما قدَّموا له من طاعة ,ورد َّ عليهم بهذا الكتاب جاء فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم من يوسف بن تاشفين سلم
عليكم ورحمة الله وبركاته ،تحية من سالمكم وسلم عليكم,
وحكمه التأييد والنصر فيما حكم عليكم ،وإنَّكم مما فى أيديكم من
الملك فى أوسع إباحة مخصوصين منا أكرم إيثار وسماحة،
فاستديموا وفاءنا بوفائكم ,واستصلحوا إخاءنا بإصلح إخائكم،
والله ولى التوفيق لنا ولكم والسلم».
وقد قرن المير يوسف الكتاب بالتحف وبدرق اللمط التى ل
توجد إل فى ديار المرابطين ،ولما وصل كتابه إلى ملوك الطوائف
فرحوا بذلك ،وتقوَّت نفوسهم على قتال السبان ،وأحب أهل
143
حكَّامهم ومحكوميهم(.)1
الَنْدَلُس دولة المرابطين ُ
ثانيًا :مرحلة التحالف:
وبعد سقوط طُلَيْطِلَة فى يد السبان النصارى عام 478هـ
اضطَّر ملوك الطوائف أن يطلبوا النجدة من المير يوسف الذى
لبى نداءهم ،وكان سببًا فى إيقاف زحف النصارى على ممالك
الَنْدَلُس ،وانتصر على ألفونسو فى معركة الّزِلقَة المشهورة.
وبعد أن احتك المير يوسف بملوك الطوائف ,ووقف على
مين انتقلت
سل ِ ِ
م ْ
خيانتهم وتحالفهم مع النصارى ,واتصالهم بأعداء ال ُ
العلقة من التحالف إلى العداوة.
ثالثًا :مرحلة العداوة:
ت نار الحرب بين المرابطين وملوك الطوائف حيث استعر ْ
سطةَ ُ َ
سْرقُ ْ
انتهت بضم كل ممالك النْدَلس لدولة المرابطين إل َ
التى حكمها أحمد بن هود ,والذى كان كالشوكة فى حلق
النصارى ،فقد قاومهم زمنًا طويلً ،وتراجع النصارى أمام صمود
بنى هود البطولي ،وأظهر بنو هود مقدرة فائقة على قتال
النصارى مما جعل المرابطين يحترمونهم ،وتوطَّدت العلقة الودي ّةَ
بين المير يوسف والمير أحمد بن هود الذى كان وفيًا فى عهوده,
متِه ،ورضى المرابطون ببقاء صا على أ َّ صا فى جهاده ,وحري ًومخل ً
ُ َ
ما تابعًا لهم ,بذلك أصبحت النْدَلس ولية تابعة أحمد بن هود حاك ً
لدولة المرابطين ،وتوارت العناصر والزعامات الهزيلة وانهار
سلطان العصبيات الطائفية (.)2
***
144
المبحث السادس
علقة المرابطين مع السبان والنصارى
145
أو غيره(.)2
مين:
ثانيًا :حقوقهم فى دولة المسل ِ
الكف عنهم والحماية لهم ،ليكونوا بالكف آمنين ،وبالحماية
محروسين( .)2روى نافع عن ابن عمر قال« :احفظونى فى
ذمتي»( )3والَحكام فيما يتعلق بأهل الذِّ َّ
مة كثيرة يرجع إليها فى
كتب الفقه المختصة.
***
146
الفصل الرابع
سياسة المرابطين فى دولتهم المجيدة
المبحث الول
نظم الحكم والدارة فى دولة المرابطين
أول :النظام الدارى:
-1نظام إمارة المسلمين:
مين عند المرابطين يعتمد سل ِ ِ
م ْكان النظام السائد فى إمارة ال ُ
على اختيار المير وفق فقه الشورى ،وكانوا حريصين على تطبيق
صلَةَ وَأَ ْمرُهُ ْم شُورَى بَيَْنهُمْ وَ ِممّا
قول الله تعالى﴿ :الّذِينَ اسَْتجَابُوا ِلرَّبهِمْ وََأقَامُوا ال ّ
َرزَقْنَاهُ ْم ُينْ ِفقُونَ﴾ [الشورى.]38 :
وكان زعماء المرابطين يتشاورون فى الوسائل التى تعين
على تمكين الحق وإظهار الصواب ،ونشر الصلح بين العباد،
واقتدوا بالقرآن الكريم فى توجيهه للرسول ×﴿ :فَا ْعفُ عَ ْنهُمْ وَاسَْتغْ ِفرْ
م فِى ال ْمرِ﴾ [آل عمران.]159:
َلهُمْ َوشَاوِرْهُ ْ
«أى ل يصدنك ما كان منهم من خطأ رأيهم فيما بدا منهم يوم
أحد عن أن تستعين برأيهم فى مواقع أخرى ،فإنَّما كان قد حصل
فلتة تُغفر وعثرة تُقال ,وشاورهم فى أمر الحرب وأمثاله مما
يجرى فيه المشاورة»(.)1
وقد دلَّت الية على أن الشورى قد أمر بها الرسول × فى
مهمات المة ومصالحها كالحرب ونحوها ،وذلك فى غير أمر
التشريع ،لن أمر التشريع إن كان فيه وحى فل محيد عنه ،وهى
دّين والدنيا ،وما
توجيه لكل ولة المر بعده أن يشاوروا عن أمر ال ِ
ص واضح ،وهى تشمل هنا المشاورة فى شئون المة ليس فيه ن ٌّ
ومصالحها(.)2
وكان مذهبهم فى الشورى مذهب المالكية وليس الخصوص،
قال ابن خويز منداد« :واجب على الولة مشاورة العلماء فيما ل
دّين ،ووجوه الجيش فيما يتعلق يعلمون ،وفيما يشكل من أمور ال ِ
147
بالحرب ،ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ،ووجوه الكتاب
والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلد وعمارتها»(.)1
وأشار ابن العربى إلى وجوبها بأنها سبب الصواب ,فقال:
«والشورى مسبار العقل وسبب الصواب» ،ويشير إلى أننا
مأمورون بتحرى الصواب فى مصالح المة وما يتوقف عليه
الواجب فهو واجب(.)2
ضا إلى الوجوب ،بل يؤكد هذا الوجوبويذهب ابن عطية أي ً
فيقول« :الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الَحكام ،ومن ل
يستشير أهل العلم فعزله واجب ،وهذا ما ل اختلف فيه»(.)3
لقد كان نظام الشورى هو الساس الذى اعتمده المرابطون
فى نظام حكمهم فى بداية دولة المرابطين قبل يوسف بن
تاشفين ،فقد كان المرابطون يختارون بكامل الحرية رئيسهم
الذى يتم تعيينه بعد عقد مجلس من زعماء القبائل والولة
والعلماء والفقهاء يشارك فيه شيوخ المرابطين وأعيانهم ،بهذه
الطريقة تم اختيار عبد الله بن ياسين ،الذى لم يحرص على
استمرار المارة فى أسرته ،كما أنه لم يباشر أى ضغط على
المرابطين فى اختيار يحيى بن عمر ثم أبى بكر بن عمر ،بل كانت
وصيته الخيرة للمرابطين قوله« :إياكم والمخالفة والتحاسد على
الرياسة ،فإن الله يؤتى ملكه من يشاء ،ويستخلف فى أرضه من
أحب من عباده ،ولقد ذهبت عنكم فانظروا من تقدمونه منكم،
يقوم بأمركم ويقود جيوشكم ،ويغزو عدوكم ،ويقسم بينكم فيئكم،
ويأخذ زكاتكم وأعشاركم»(.)4
ومن هذه الوصية يتبين أن الزعيم الول للمرابطين ،لم يكن
يرى طريقة الحكم الوراثي ،أما يوسف بن تاشفين فقد كان
يخشى أن يعود المر فوضى بعده وأن تنفصم عرى هذه الوحدة،
وتنتهى هذه الدعوة التى عمل جاهدًا على تبيلغها زهاء نصف
قرن ،لذلك رأى يوسف أن يُعَيّن واليًا للعهد يستخلفه بعد موته,
وهكذا حدث انحراف فى اختيار الحاكم عند المرابطين من
الشورى إلى النظام الوراثى منذ أن اختار يوسف بن تاشفين ابنه
عليًا واليًا لولية العهد ،وكان اجتهاد يوسف بن تاشفين فى هذا
التعديل الخطير يعتمد على رأيه أن اجتهاده ذلك يحفظ وحدة
بلده ودولته ،ويقضى على التنافس من أجل الحكم ورأى مصلحة
148
بلده وشعبه تقتضى اختيار ابنه.
كان من الطبيعى أن يمهِّد لفكرته فى اختيار ولى العهد,
من يهمه المر حول هذا الختيار ،ولهذا بادر ولذلك شاور كل َ
بمشاورة الفقهاء والقضاة وزعماء القبائل وأفراد السرة
المرابطية وكبار رجال الدولة فى سنة 495هـ 1101 /م،
وناقشهم فى المبررات التى دفعته إلى اختياره ،فوافقه الجميع
على ما اعتزم عليه ،وعلى أثر ذلك قرئ مرسوم البيعة الذى
يتضمن السباب التى حملته على هذا الختيار ،والشروط الواجب
توافرها فيه ،والمبادئ التى ينبغى أن يسير عليها ،وهذا المرسوم
مد بن عبد الغفور ،وكان من أعلم ح َّ
م َكتبه الوزير الفقيه أبو ُ
()1
البلغة فى ذلك العصر» .
ونستخلص من نص الوثيقة التى ذكرتها فيما مضى :أن يوسف
بن تاشفين اتبع مبدأين فى اختياره ولده أبا الحسن عليًا وليًا
لعهده.
أولهما :مبدأ الختيار:
منفقد أشارت الوثيقة التى ذكرتها إلى أن يوسف قد اختار ِ
من هو أصلح لقيادة تلك الدولة المترامية الطراف: بين أولده َ
حا إلى المعالى
«فوجد ابنه المير الجل أبا الحسن أكثرها ارتيا ً
واهتزاًزا ،وأكرمها سجية وأنفسها اعتزاًزا ،فاستنابه فيما استرعى
ودعاه لما كان إليه دعا»(.)2
ثانيهما :مبدأ الشورى:
سك بما جاء فى القرآن الكريم ,ومافقد أخذ يوسف به ،وتم َّ
جاء على لسان
نبيه × ,وما سار عليه الخلفاء الراشدون« :ودعاه لما كان إليه
دعا ،بعد استشارة أهل الرأى على القرب والنأي»(.)3
كما أشار مرسوم البيعة إلى أنَّها كانت مشروطة ببعض
الشروط اشترطها المير يوسف على ابنه ،وأهم تلك الشروط
التمسك بالمبادئ التى دعا إليها المام عبد الله بن ياسين من
إعلن الجهاد على أعداء السلم ،واحترام الفقهاء والقضاة
والعلماء ،والعمل على إقامة العدل بين الرعية ،بالضافة إلى
بعض المور التى تتعلق بضمان أمن الدولة من وضع سبعة عشر
ألف فارس بالَنْدَلُس موزعة على أقطار معلومة ،يكون منها
149
بإشبيلية سبعة آلف فارس وبقرطبة ألف فارس وباقى العدد على
مين للذَّب والمرابطة فى الحصون المعاينة للعدو(.)1
سل ِ ِ
م ْ
ثغور ال ُ
وفى عام 496هـ دخل يوسف بن تاشفين قرطبة ،وجمع كبار
رجال الدولة وأمراء لمتونة أشياخ البلد ،وقادة الرأى والفقهاء
والعلماء والقضاة ،وتل عليهم عقد البيعة لبنه على الذى سبقت
الشارة إليه ،وضمنه السباب التى حملته على اختياره وليًا للعهد،
ثم أخذ البيعة له من جميع الحاضرين ،وأقسم هؤلء يمين الطاعة
والولء ،ثم وقَّعوا على عقد البيعة ،وقام على أثر ذلك ،فأقسم
سة التى سيَا َ
أمام الحاضرين بالتزام شروط العقد وترسم ال ِّ
رسمها أبوه ،ثم أشهد الكتاب ووقَّع على الوثيقة .
()2
150
خلفاء بنى العبَّاس لكونهم من تلك السللة الكريمة وأنا رجلهم
والقائم بدعوتهم»( ،)1ولكنَّهم قالوا له :إنه لبد له من اسم يمتاز
مين وناصر سل ِ ِم ْ به على سائر المراء واقترحوا عليه لقب أمير ال ُ
الدِّين ،وأصبح العمل جاريًا به عند سائر المرابطين ،وقد صدرت
الكتب تحمل هذا اللقب بعد وفاة أبى بكر بن عمر على القول
الرجح ,وهذا نص الكتاب الذى أرسله إلى الولة والقادة والعلماء:
مد وآله ح َّم َ«بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ُ
مين وناصر الدِّين يوسف بن سل ِ ِ
م ْ
من أمير ال ُ ماِ :وصحبه وسلم تسلي ً
تاشفين إلى الشياخ والعيان والكافة أهل (فلنة) أدام الله
كرامتهم بتقواه ووفقهم لما يرضاه ،سلم عليكم ورحمة الله
ما بعد ,حمدا ً لله أهل الحمد والشكر ،وميسر اليسر وبركاته ،أ َّ
مد المبعوث بنور الفرقان والذكر، َ ح ّ
م َ
وواهب النصر ،والصلة على ُ
وأنا كتبناه إليكم من حضرتنا العلية بمراكش -حرسها الله ،-وأن ّهَ
ن الله علينا بالفتح الجسيم ,وأسبغ علينا من أنعمه الظاهرة م ّ ما َ ل َّ
مد المصطفى نبينا الكريم ح َّ
م َوالباطنة ,وهدانا وهداكم إلى شريعة ُ
صص صلى الله عليه أفضل الصلة وأتم التسليم؛ رأينا أن نُخ ِّ
أنفسنا بهذا السم لنمتاز به على سائر أمراء القبائل ،وهو أمير
مين وناصر الدِّين ،فمن خطب الخطبة العلية السامية سل ِ ِم ْ ال ُ
ي العدل بمنِّه فليخطبها بهذا السم إن شاء الله تعالى ,والله ول ُّ
وكرمه والسلم»(.)2
ويرى بعض المؤرخين من أمثال أبى زرع فى «روض
مين فى يوم
َ
سل ِ ِ م ْ القرطاس» إلى أن المير يوسف تلقَّب بأمير ال ُ
الّزِلقَة ،ولم يكن يُدعى به من قبل ،وأن ملوك وأمراء النْدَلُس
َ
مين سل ِ ِ
م ْ وكانوا ثلثة عشر ملكًا بايعوه وسل ّموا عليه باسم أمير ال ُ
سمى به من ملوك المغرب. وهو أول من ُ
وقد تأثَّر شعب النيجر بشكل خاص بالمرابطين ,وأطلق على
َ
مين ,وكانوا مالكيين فى المذهب ,ويرجع سل ِ ِ
م ْحك ّامه لقب أمير ال ُ ُ
ذلك إلى أن المرابطين هم الذين نشروا السلم فى تلك الربوع
النائية(.)3
ج -نائب المير:
كان اتساع مملكة المرابطين سببًا فى اتخاذ نوَّاب ينوبون عن
أمير المسلمين؛ حيث كان من المستحيل عليه أن يشرف وحده
على تلك الدول المترامية الطراف ،فعيَّن بعض النواب المقَّربين
151
إليه ،فعيَّن نائبًا على شئون الَنْدَلُس ونوَّابًا على إقليم المغرب،
وكان يراعى فى اختيار النائب أن يكون أقرب الناس إلى أمير
مين ،وأن يتوفر فيه حسن الدارة والكفاية العسكرية ويعتبر سل ِ ِ م ْ
ال ُ
مين ,ويستمد نائب المير سلطته من ل
ُ ْ ِ ِس م ال لمير اً أولي ً ممثل
المير شخصيًا ،وكان ولى العهد نائبًا للمير ،وتولى نيابة الَنْدَلُس،
وكانت قرطبة هى المفضلة لقامة ولى العهد لمكانتها السامية
فى نفوس الَنْدَلُسيين ،وأول نائب عيَّنه المير يوسف على
الَنْدَلُس القائد سير بن أبى بكر اللمتوني ،ثم بدَّل به ابنه أبا
الطاهر تميم بن يوسف ،وتلى نيابة الَنْدَلُس من حيث الهمية
نيابة فاس بالمغرب ,وكان النائب يستقر فيها عندما كان المير
يوسف يعود إلى مراكش كى ل تحدث ازدواجية فى السلطة(.)1
كانت مهمة النائب بالدرجة الولى عسكرية ,إذ كان عليه أن
يخوض الحروب ,ويقمع الفتن وحركات التمرد ,يعاونه قادة كبار
من لمتونة(.)2
وكان من سياسة يوسف بن تاشفين مع نوابه مراقبتهم ,ول
يتيح لهم الستقرار فى مناصبهم لعهود طويلة حتى ل يعملوا على
ما معَّرضين للنقل من ولية إلى الستقلل ،فكان النوَّاب دائ ً
أخرى.
مين يتخذ لنفسه كتّابًا يقومون عنه سل ِ ِم ْ وكان نائب أمير ال ُ
من ظهر من م َ
بالمكاتبات ,أو تسند إليهم بعض العمال الدارية ،و ِ
مين على بن يوسف فى الندلس الكاتب سل ِ ِ م ْكتاب نواب أمير ال ُ
مد بن ح َّ
م َ
مد بن أبى الخصال كاتب المير ُ ح َّم َالديب أبو عبد الله ُ
الحاج ،وأبو بكر بن الصائغ كاتب المير أبى بكر بن إبراهيم،
والزبير بن عمر اللمتونى كاتب تاشفين بن علي ،وكانت حياة كل
مصغَّرة من حياة هذا المير مين صورة ُ سل ِ ِم ْ نائب من نواب أمير ال ُ
()3
فكانوا يتخذون القصور والخدم والفقهاء والعوان .
د – تولية الولة:
كان المير يوسف يُعَيِّن الولة على القاليم من لمتونة بشكل
َ
خاص وصنهاجة بشكل عام؛ فول ّى أمراء قومه القاليم ،فقبْل ضم
الَنْدَلُس كان سير بن أبى بكر على مدائن مكناسة وبلد مكللة
َ
وبلد فازاز ،وول ّى عمر بن سليمان المسوفى مدينة فاس
وأحوازها ،وداود ابن عائشة سجلماسة ودرعة ،وتميم بن يوسف
() حركات النظام السياسي والحربي عند المرابطين ،ص (.)65 1
() مجلة كلية الداب ،جامعة القاهرة ،المجلد ( ،11ج ،)2/27تحت عنوان الثغر 2
152
مدينة أغمات ومراكش وبلد السوس وسائر بلد المصامدة وتدل
وتامسنا ,وبعد ضم الَنْدَلُس عين يوسف بن تاشفين القائد سير
َ
ل على كل ما على النْدَلُس ،وفوَّض له تعيين وا ٍبن أبى بكر حاك ً
بلد يفتحه ويكون من لمتونة.
منح الميروكان الولة يخضعون مباشرة لنائب المير ،و ُ
منيوسف سلطات واسعة :منها حق التصرف فى عزل وتعيين َ
من رجال السلطة ،وكذلك من يليهم ِ من الولة المحليين ،و َدونهم ِ
القيام بتحركات عسكرية داخل مناطق نفوذهم ،وكان المير
يوسف وابنه من بعده يراقبون ولتهم مراقبة شديدة ،ويجرى
تبديلهم وعزلهم إذا أساءوا ،وكانوا يضعون مصالح الرعية فى
المقام الول عند تعيين الولة(.)1
هـ -نظام الوزارة:
كان المير يوسف بعيدًا كل البعد عن اتخاذ اللقاب واللفاظ
والهتمام بالمناصب ،فلم يتخذ وزراء بالمعنى المتعارف عليه ،ولم
يمنح لقب وزير لى شخص ,إل أنه اتخذ لنفسه أعوانًا يرجع إلى
مشورتهم ،وكُتَّابًا يشرفون على ديوان الرسائل أو النشاء ،وكانت
لديه هيئة استشارية تشترك فيها طائفة من الفقهاء ،والعيان
والكُتَّاب يلزمونه فى قصره وتنقلته يبدون آراءهم فى المشاكل
ما فى المور المطروحة للبحث ,وتبقى الكلمة الفاصلة للمير ،أ َّ
المهمة فكان يجمع زعماء المرابطين وأبناء عمومته من لمتونة
للتداول واتخاذ الراء ،وكان التصال بالمير عن طريق العوان من
السهولة بمكان ،وساعد على ذلك ما امتاز به المير من ُزهد فى
الدنيا ,وتطلع للخرة ,وحب البساطة ،وميل للتواضع.
ويذهب المير يوسف فى مذهبه إلى أن الشورى معلمة وغير
ملزمة وله فى ذلك أدلة؛ حيث ذهب بعض المفسرين إلى إن
الشورى غير ملزمة مستندين فى ذلك إلى قوله تعالى﴿:فَِإذَا َعزَ ْمتَ
فََت َو ّكلْ َعلَى الِ﴾.
ذهب المام الطبرى إلى القول« :إذا ص َّ
ح عزمك بتثبيتنا إياك
وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك ،فامض لما
أمرناك به ،وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك أو خالفها،
وتوكَّل فيما تأتى من أمورك على ربِّك ،فثق به فى كل ذلك،
وارض بقضائه فى جميعه دون آراء سائر خلقه ومعونتهم»(.)2
ويرى بعض العلماء أن رأى الشورى ولو أنه غير ملزم لكنَّه
153
ينير الطريق
()1
أمام الحاكم .
وأضاف العلمة أبو العلى المودودى فى قضية الشورى هل
هى معلمة أو ملزمة بعدًا آخر وهو طبيعة المجتمع وما يسوده من
ما قاطعًا فى هذا الباب فى أخلق؛ حيث يقول« :ما وجدت حك ً
أحاديث الرسول × ,غير أن العلماء قد استنبطوا من عمل
الصحابة فى عهد الخلفة الراشدة أن رئيس الدولة هو المسئول
الحقيقى عن شئون الدولة ،وعليه أن يُسيِّرها بمشاورة أهل الحل
والعقد ،ولكنَّه ليس مقيدًا بأن
يعمل بما يتفقون عليه كلهم أو أكثرهم من الراء ،وبكلمة أخرى
أنه يتمتع
بحق العتراض على آرائهم.
ولكن هذا الرأى فى صورته المجملة كثيًرا ما يسبب سوء
الفهم بالقياس إلى أحوالهم وأوساطهم الحاضرة ،ول ينظرون إلى
ذلك الزمان ول الوسط الذى قد أخذنا هذا الرأى من أعمال المة
ل والعَقْد فى عهد الخلفة الراشدة ح ِّ
فيه ،فما كان أهل ال ِ
منقسمين إلى أحزاب متفرقة ,بل كانوا كلما دُعوا للمشاورة
يأتون المجلس بقلوب ملؤها الخلص . .ثم يوازن الخليفة بين
الحجج الموافقة والمعارضة ويعرض عليهم ما عنده من الدلئل،
ويبين رأيه ,وكان هذا الرأى فى عامة الحوال رأيًا يسلم به أعضاء
المجلس كلهم » . .ثم قال« :لم نعثر فى تاريخ الخلفة الراشدة
ل وال َعقْد قد تفرقت آرائهم كل ِّه على مثال واحد نرى فيه أهل ال ِ
ح ِّ
حتى آل المر إلى عدد الصوات»( ،)2وهذا تفريق جميل بين
المجتمع السلمى فى حاضرنا وبين المجتمع السلمى القائم
على أسس دولة القرآن التى تربَّى المسلم على خشية الله فل
ينحرف عن الجادَّة.
قّين فى
مح ِوربما كان يوسف بن تاشفين وأمراء المرابطين ُ
أخذهم بالرأى القائل بأن الشورى معلمة للمير وليست ملزمة،
ولهم أدلة كثيرة للتدليل على هذا المبدأ.
إل أننى أرى الفائدة الكبرى والستفادة العظمى فى زمننا هذا
فى الخذ بالرأى القائل بأنها ملزمة ،والقائلون بهذا القول لهم
أدلتهم منها:
إن الشورى ملزمة للحاكم طالما أنَّها مؤيدة بالشرع والعقل،
فيقول ابن تيمية« :وإذا استشارهم فإن بيَّن له بعضهم ما يجب
() د .عبد الحميد متولي ،مبدأ الشورى فى السلم ،ص (.)52 1
() أبو العلى المودودي ،نظرية السلم وهديه فى السياسة والقانون ،ص (273، 2
.)274
154
اتباعه من كتاب أو سنة رسوله أو إجماع
مين ،فعليه اتباع ذلك ،ول طاعة لحد فى خلف ذلك ،وإن سل ِ ِ
م ْ ال ُ
ما فى كان عظي ً
الدِّين والدنيا ،لقوله تعالى﴿ :يَا أَّيهَا الّذِي َن آمَنُوا َأطِيعُوا الَ وَأَطِيعُوا ال ّرسُولَ وَأُولِى
ال ْمرِ مِ ْنكُمْ﴾ [النساء.)1(]59:
ولو كانت الشورى غير ملزمة ،لكان بإمكان النبى × أن
يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التى تعَّرضت لها
فى غزوة أحد – لو أنه قضى برأيه فى خطة المعركة ،مستندًا إلى
رؤياه . .ولم يستشر أصحابه ،أو لو أنه رجع عن الرأى عندما
سنحت له فرصة الرجوع . .ولكنَّه – وهو يقدر النتائج كلها – أنفذ
الشورى . .ثم يجئ المر اللهى له بالشورى – بعد المعركة -تثبيتًا
للمبدأ فى مواجهة نتائجه المريرة »( ،)2وبهذه الدلة التى ذكرتها
نسترشد بهذا المبدأ فى مسيرتنا الحركية والدعوية والتنظيمية
التى تسعى لعادة السلم كنظام شامل يتناول مظاهر الحياة
جميعًا ،ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبًا.
و – ديوان الرسائل والمكاتبات عند المرابطين:
كان المرابطون يهتمون بديوان النشاء ،ولذلك حرصوا على
أن يتوله رجال من أشهر الدباء فى تلك الفترة جلهم أَنْدَلُسيون،
واهتم المير يوسف بجلب الدباء والبلغاء والفقهاء لهذه العمال،
واستفاد من كُتَّاب ملوك الطوائف ,وتوسع ديوان الرسائل مع
ما
امتداد رقعة دولة المرابطين ،وانتفع المرابطون انتفاعًا عظي ً
بخبرة الَنْدَلُسيين أصحاب الحضارة والدب ،وأقبل المغاربة على
ثقافة الَنْدَلُس ينهلون منها فى تواضع المستفيدين ,وحدث تنافس
بين الكُتَّاب ،وحاولوا أن يثبتوا جدارتهم فى هذا الفن ،وأصبح
ديوان المير يوسف متألقًا بالحضارة.
وقام ابنه على بتطوير ديوان الرسائل وجلب له كتابًا فى غاية
البلغة ودقة السلوب ,وجمال التعبير ,ومما دفع المير عليًا إلى
تطوير دولته تربيته الرفيعة وذكاؤه الوقَّاد ,واهتمامه بكتاب ملوك
الطوائف ,وتقريبهم إليه فى زمانه ،فشعر بحاجته إلى طائفة
من أشهر أولئك مثقفة تفهم لغة الوفود ،وتجيد فنون الكتابة ،و ِ
مد بن سليمان الكلعى المتوفى عام ح َّ
م َ
الكتاب والدباء والبلغاءُ ،
508هـ ,وصفه ابن خاقان فى «القلئد» بقوله« :غرة فى جبين
الملك ،ودَّرة ل تصلح إل لذلك السلك ،باهت به اليام ,وتاهت فى
يمينه القلم ،واشتملت عليه الدول اشتمال الكمام على النور،
() السياسة الشرعية ,لبن تيمية ،ص (.)181،182 1
155
وانسربت إليه أمانى انسراب الماء على الغور»(.)1
ويقول عنه ابن الصيرفي« :الوزير الكاتب الناظم الناشر ،القائم
بعمود الكتابة ,والحامل للواء البلغة ،والسابق الذى ل يشق غباره،
ول تخمد أبدًا أنواره ،اجتمع له براعة النشر ،وجزالة النظم ،رقيق
النسيج حصيف المتن رقعته وما شيت فى العين واليد»(.)2
مد عبد المجيد بن ح َّ
م َ
وكذلك انضم إلى البلط المرابطى أبو ُ
ح َّ َ
مد بن عبد الله بن الجد م َمتَوَفّى 520هـ ،وأبو القاسم ُ عبدون ال ُ
الفهرى المتوفى فى عام 515هـ ،وابن أبى الخصال الغافقى
ح َّ َ
مد بن يوسف النصارى متَوَفّى 540هـ ،وأبو زكريا بن ُ
م َ ال ُ
متَوَفّى 570هـ فى غرناطة ،وأحمد بن أبى جعفر بن َ
الغرناطى ال ُ
مد بن عطية القضاعى الذى نكبه عبد المؤمن بن على خليفة ح َّم َ
ُ
َ
حدين ،وغير هؤلء كثير من الدباء والكت ّاب الذين عملوا فى المو ِّ
مين على بن يوسف( ,)3ول سل ِ ِ
م ْ خدمة دولة المرابطين زمن أمير ال ُ
َ
ننسى أن الوزارة فى زمن على بن يوسف تطوّرت تطوًرا
ملحوظًا ,وأصبح الوزير بمنزلة السمع والبصر واللسان والقلب
مين ،وفى المثال :نعم الظهير الوزير. سل ِ ِ
م ْ
بالنسبة لمير ال ُ
كان الحكم فى دولة المرابطين قائما ً على أسس عسكرية،
مين هو قائد الجيش العلى ،ومعاونوه هم قواد سل ِ ِم ْفأمير ال ُ
الجيش ،لهذا كان من الطبيعى أن يتسم منصب الوزير بالطابع
ضا كتابةالعسكرى كذلك ،ولكن لما كان المر يتطلب من الوزير أي ً
جد فى دولة المرابطين الوثائق ،والمراسيم وصياغتها فقد ُو ِ
صنفان من الوزراء.
-1وزراء عسكريون من قادة الجيش ,وهم من قرابة
السلطان عادة أو من قبائل لمتونة وصنهاجة التى قامت
على أكتافهم دولة المرابطين.
-2وزراء كُتَّاب وهم من الفقهاء.
وكان المغاربة يطلقون كلمة فقيه على العالم بالحكام
الشرعية إل أن أهل المشرق أصبح ذلك المصطلح عندهم يطلق
ما من الطلبة.
على دارس الفقه عمو ً
سع المير على بن يوسف فى اتخاذ الوزراء والمستشارين وتو َّ
ص وزرائه الفقيه مالك بن
من الفقهاء وكبار العلماء ،وكان من أخ ِّ
وهيب الشبيلى الذى شارك فى جميع العلوم ،ونظم الشعر،
() قلئد العقيان ،ص (.)104 1
() انظر :تاريخ المغرب والندلس ،للدكتور حمدى عبد المنعم ،ص (.)271 ،270 3
156
وكتب مؤلفات فى الفلسفة والتَّارِيخ ،وهذا الفقيه هو الذى أشار
مد بن تومرت ح َّ
م َعلى سلطان المرابطين على بن يوسف بقتل ُ
حدين فيما بعد ،حيث تفَّرس فيه حدة نفسه وذكاء زعيم دولة المو ِّ
مين بقتله أو ل سم
ُ ْ ِ ِ ال أمير على فأشار عبارته, خاطره ،واتساع
َ
اعتقاله ،قبل أن يستفحل خطره ،لن ّه رجل مفسد ول يسمع كلمه
أحد إل مال إليه ,غير أن على بن يوسف توقف فى قتله واعتقاله،
وأبى ذلك عليه دينه ،لعدم ثبوت التهمة عليه ،وقد ص َّ
ح ما تفَّرسه
مالك بن وهيب ،إذ إنه على يد هذا المدعى المهدية الكذاب ابن
تومرت قامت دولة الموحدين التى قضت على دولة المرابطين
فى المغرب والَنْدَلُس(.)1
***
() انظر :تاريخ المغرب والندلس ،للدكتور حمدى عبد المنعم ،ص (.)368 1
157
المبحث الثاني
النظام القضائى فى دولة المرابطين
تمهيد:
للقضاء مكانة عظيمة ومنزلة شريفة ،وفاصل بين النَّاس فى
خصوماتهم
وحاسم للتداعى وقاطع للتنازع ،وكان العرب فى جاهليتهم
يعرفون منزلة القضاء ,ويختارون له أهله ,ويطلقون عليهم
حكَّام ،واهتم المسلمون بهذا المر ,ومارسه رسول الله × فى ال ُ
زمانه ،وسار الخلفاء من بعده على دربه ،وأصبح القضاء بعد
رسول الله × فى عداد الوظائف الداخلة تحت الخلفة ،وتطور
القضاء مع تطور دولة السلم فكان الخليفة يتخذ قاضيًا فى
حاضرة الخلفة وقضاة آخرين فى الوليات والمصار.
مضافًا إلى الولة حتى كان القضاء فى المصار أول المر ُ
َ
كانت خلفة عمر بن الخطاب فجعله مستقل ً عن نظر الوالي ،عي ّن
من يتفَّرد بالنظر فيه ,ومع استقلل القضاء عن نظر الوالي، له َ
فإن تقليد القضاء فى الوليات كان يتم فى الغالب عن طريق
ما فى العاصمة فكان الخليفة هو الولة بتفويض الخليفة لهم ،أ َّ
َ
الذى يُعي ِّن القاضى إلى أن جاء الخليفة العب ّاسى أبو جعفر
المنصور الذى انحرف بالقضاة نحو مركزية الدولة ،وأخضع
المؤسسات القضائية لرقابته المستمَّرة ،وجعل تقليد القضاة على
قضاء المصار من قبله ،وتابعه على ذلك خلفاء بنى العبَّاس ،إلى
َ
أن استحدث منصب قاضى القضاة فى فترة تالية ،فتول ّى قاضى
القضاة النظر فى مؤهلت المرشحين للقضاء ومراقبة الكفاءة
مت ك ُّ
ل المهنية للقضاة فى عاصمة الخلفة وخارجها ( ،)1واهت َّ
صا الدول التابعة للخلفة بتطوير نظامها القضائى وخصو ً
المرابطين الذين حرصوا على إقامة العدل ونشره فى ربوع
بلدهم ،فكان لمنصب القضاة أهمية كبيرة ،ولذلك حرص أمراء
من برزوا فى العلم والفقه م َّ
المرابطين على تعيين القضاة ِ
وتميزوا بالمقدرة على تولى هذه المناصب فى دولتهم دون
الستناد على العصبية القبلية ،حتى أصبح أكثر القضاة من غير
قبيلة صنهاجة وهى سياسة حكيمة اتبعها المير يوسف رغبة فى
تحقيق العدالة وتطبيق
تعاليم السلم.
() تاريخ الحضارة العربية والسلمية ،د .محمد بطاينة ،ص (.)79 1
158
وقد منحهم رتبة عالية فى الدولة حتى كثرت أموالهم،
واتسعت مكاسبهم ،وكانوا يستمدون نفوذهم من سلطة الدولة
نفسها ،يحكمون وفق المذهب المالكي ،ويقوم بتنفيذ أحكامهم
حكَّام المحليون ،وقد شارك القضاة فى معارك الجهاد الولة وال ُ
فى
الَنْدَلس ،واستشهد بعضهم فى معركة الّزِلقَة منهم القاضى عبد ُ
الملك المصمودى قاضى مراكش(.)1
سلطَةسلطَة القضائية تتمتع باستقلل كبير عن ال ُّ
وكانت ال ُّ
التنفيذية ،وكان تعيين القاضى يصدر بمرسوم عن أمير المسلمين،
وكذلك عزله ،وكان لهل البلدان التابعة لدولة المرابطين حق
من يرونه مناسبًا لمنصب القضاء فى بلدهم. الترشيح ل َ
ض فى بلد معين فعليه أن وإذا أراد أمير المسلمين عزل قا ٍ
يوضح السباب لهل ذلك البلد.
أ -منصب قاضى الجماعة فى الندلس:
يعتبر منصب قاضى الجماعة من أرفع المناصب القضائية فى
الَنْدَلُس ،كان صاحبه يشرف على القضاء فى جميع أنحاء
الَنْدَلُس ،ومن المرجح إن هذا المنصب الخطير كان ل يتوله إل
من يثبت كفاءة عالية فى أمور القضاء ،وكان قاضى الجماعة كل َ
فى النْدَلس يتمتع بسلطات واسعة ،ومنهم أبو القاسم أحمد بن ُ َ
جهه الميرمد بن عبد العزيز التغلبى الذى و َّ ح َّ م َ
مد بن على بن ُ ح َّ
م َ
ُ
يوسف بن تاشفين إلى اتباع الحق فى الحكام دون أن يعرف فى
ل برغم راغم وتشفق من ملمة الله لومة لئم ،فكتب له« :ول تُبا ِ
لئم ،فآس بين النَّاس فى عدلك ومجلسك حتى ل يطمع قوى فى
منحيفك ول ييأس ضعيف فى عدلك ،ول يكن عندك أقوى ِ
من القوى حتى تأخذ الضعيف حتى تأخذ الحق له ،ول أضعف ِ
الحق منه.)2( » . .
َ
من تول ّى منصب قضاء الجماعة فى الَنْدَلُس فى ومن أشهر َ
مد بن أحمد بن رشد ح َّ
م َ ح َّ
مد بن ُ م َعصر على بن يوسف أبو الوليد ُ
مد بن أحمد بن خلف إبراهيم التجيبى ح َّ
م َ
المالكى وأبو عبد الله ُ
المعروف بابن الحاج(.)3
ب -قاضى الجماعة فى المغرب:
كانت رئاسة القضاء فى المغرب فى زمن دولة المرابطين
() دولة المرابطين ،ص (.)166 1
159
تسند إلى قاضى الجماعة بمراكش ،الذى كان يُسمى بقاضى
َ
قضاة المغرب أو بقاضى الحضرة ،وكان على من يتول ّى هذا
من المقربين إلى قلب أمير المسلمين يستفتيه المنصب أن يكون ِ
َ
من تول ّى هذا
َ أشهر ومن شئون، من له فى كل ما يعرض
مد بن إبراهيم بن قاسم بن ح َّ
م َ
مد عبد الله بن ُ ح َّ
م َ
المنصب :أبو ُ
منصور اللخمي ،وأبو الحسن على بن عبد الرحمن المعروف بابن
أبى حقون ،وأبو سعيد خلوف بن خلف الله.
لقد قطع المرابطون فى تنظيم القضاء شوطًا أبعد من مجرد
تقسيم قضاء الَنْدَلُس والمغرب وجعل زعامة القضاء فى كل منهما
لقاضى القضاة ،أحدهما يختص بالَنْدَلُس والخر بالمغرب ،بل إن
سلطَة العليا على قضاء المغرب المرابطين اتخذوا فقيهًا له ال ُّ
والَنْدَلُس على السواء ،ومن المرجح أن زعامة القضاء فى العدوتين
كانت أحيانًا من نصيب قاضى مراكش أو قاضى سبتة أو طنجة،
وأحيانًا أخرى لقاضى الجماعة بقرطبة(.)1
جـ -مجلس الشورى القضائي:
َ
كان للقاضى فى صحبته مجموعة من فقهاء البلد الذى تول ّى
قضاءه ليشاورهم قبل أن يصدر الحكام ،وكان قاضى المدينة
من يُعرفون بالورع م َّ
يتولى اختيار هؤلء الفقهاء من أهل مدينتهِ ،
والتقوى والتبحر فى الفقه والعلوم الدينية ،ويحدد ابن عبدون
هؤلء الفقهاء والمشاورين بأربعة :اثنين يشتركان فى مجلس
القاضي ،واثنين يقعدان فى المسجد الجامع (.)2
د -القضاء العسكري:
عرفت دولة المرابطين ما يمكن تسميته بالقضاء العسكري،
وكان يمارسه قضاة مختصون بحل مشاكل الجند فى مواضع
ث الجند خا َّ
صة بالمعسكرات ،كما كانوا يشتركون فى القتال لح ِّ
وتشجيعهم على القتال ،وكان هؤلء القضاة يسمون بقضاة المحلة
َ
أو قضاة الجند ،وممن ذكرهم التاريخ فيمن تول ّوا منصب القضاء
العسكري :عبد الرحيم بن إسماعيل الذى عُيِّن قاضيًا فى معسكر
أمير المسلمين على بن يوسف بمدينة سل(.)3
هـ -قضاء الذميين فى دولة المرابطين:
أما بالنسبة لهل الذِّمة فى الَنْدَلُس ،فقد كان رجال الدين
النصارى واليهود يتولون القضاء لهم ،دون أن يتدخل فيهم قضاة
160
ذّمة ،وفى
ذّمى القضاء لهل ال ِ
المسلمين ،أجاز الفقهاء تقليد ال ِ
الَنْدَلُس خصص المسلمون لهل الذِّمة قاضيًا يعرف بقاضى
النصارى أو قاضى العجم ،أما إذا كانت الخصومة بين ذمى
ومسلم فإن قضاة المسلمين يتولون الفصل بينهما ،وفى هذا
الصدد يشير أشباخ إلى أن النصارى كانوا «يتمتعون بحرية
الشعائر ويحتفظون ببعض القوانين القوطية ولهم أساقفتهم
وقضاتهم»(.)1
و -شجون وأحزان وآلم وآمال:
إن السعى لقامة دولة السلم فى أى بقعة من بقاع العالم
يحتاج للطلئع
التى تسعى لهذا الهدف العظيم وفقه الخذ بأسباب التمكين فى
جميع الصعدة
ومختلف الميادين.
وإذا نظرنا فى النُّظُم القضائية التى لبد منها فى أى دولة
دينية أو علمانية وسألنا أنفسنا ما حظ الحركات السلمية من هذا
الفقه؟ وما هى الخطط التى وضعت ليجاد هذه النُّظُم القضائية
الشرعية التى لبد منها فى أسلمة الدولة؟ وما هى الوسائل التى
اتخذتها؟ وهل بدأت فى إيجاد الكوادر التى تجمع فقه الشريعة
جا حيًا لقدرةوالنُّظُم المعاصرة بحيث تستطيع أن تقدم نموذ ً
السلم على مواكبة التطور والتقدم بمفهومه الصحيح المنبثق من
عقيدة المة ودينها وشريعتها لكانت الجابة محزنة.
من الجزئيات المطلوبة فى إن السعى لتحقيق هذه الجزئية ِ
ن
من العاملين فى هذه الميادين إلى جهد مض ٍ إقامة الدول يحتاج ِ
وسهر متواصل ،وتصميم أكيد على الوصول للهدف ،وسعى دءوب
ممزوج بالدموع والعرق والدماء ،وهمم ل تعرف الوهن ،وعزائم
تنخر فى هياكل الجاهلية ليدخل من خلل تلك الثقوب نور اليمان
وهدى القرآن لينتشر رويدًا رويدًا؛ زاحفًا على الظلم والضلل
والظلم والكفران ،وإعادة دولة السلم فى أثوابها الزاهية،
وتيجانها الناصعة ،وعدلها المنتظر ،وآفاقها الواسعة ،ووظائفها
المتعددة من إقامة الصلة وإيتاء الزكاة والمر بالمعروف والنهى
عن المنكر ،ونصرة المستضعفين ومقارعة الظالمين ،وفتح أبواب
الجهاد وشراء سلعة الجنة بالمهج والنفس والرواح ثمنًا لها .إن
أصحاب تلك الهداف السامية والنبيلة لبد لهم من أن يتميزوا فى
حياتهم عن غيرهم فإن المال العظيمة ل يصل إليها إل أصحاب
النفوس الكبيرة.
() انظر :تاريخ الندلس ،لشباخ ,ص (.)82 1
161
تعبت من مرادها الجسام وإذا كانت النفوس كبـــاًرا
إن تحديات الحركة السلمية كثيرة جدًا فعليها أن تستعين
منبخالقها على تحقيق أهدافها ,وعليها أن تكثر العمل وتُقل ِّل ِ
الجدل ،وتهتم بالرواحل وتترك المثبطين ،وتصعد بأبنائها على كل
المجالت والصعدة وتهتم بتربيتهم وتزكيتهم وتفجير طاقاتهم
سد َّ الثغرات المتعددة ،وعليها أن تحرص على وتوجيهها حتى ت ُ
أوقات أبنائها وتشغلهم بالنافع المفيد للمة ولهم.
إن تحريك الشعوب السلمية نحو التغيير لقامة شرع الله
مقيد بسنن الله فى المجتمعات والدول والشخاص ،وسنن الله ل
تجامل ول ترحم ول تتغير ول تتبدل ،فعلينا أن نفقه سنن الله
لنحسن التعامل معها ,ونأخذ بها فى خطواتنا لقامة دولة السلم
ونشر شريعة الَّرحمن.
***
162
المبحث الثالث
النظم العســـــكرية
تمهيد:
صفات المجاهدين فى سبيل الله:
إن الجهاد فى سبيل الله عظيم الكلفة والمشقة على النفس
ب َعلَ ْيكُمُ الْقِتَالُ َوهُ َو ُكرْهٌ ّلكُمْ َوعَسَى أَن َت ْكرَهُوا شَيْئًا وَ ُهوَ
البشرية ،قال تعالى﴿ :كُتِ َ
خَ ْيرٌ ّلكُمْ﴾ [البقرة.]216:
ولذلك لم يستطع أن يقوم بالجهاد السلمى على أصوله
الصحيحة إل من رزقه الله صفات تجعله أهل ً للقيام بهذه العبادة
الكريمة.
جاهِدين سواء
م َ
والصل العظيم الذى تنبثق منه كل صفات ال ُ
كانوا قادة أو جنودًا ،أو صفات الجيش كله هو اليمان بالله العلى
جاهِدين ،وبضعفه تضعف تلك م َ
العظيم الذى بقوته تقوى صفات ال ُ
الصفات الرفيعة فى القادة والفراد والجيش على حد سواء ،ولذا
قال ابن تيمية رحمه الله« :وإذا كان أولياء الله هم المؤمنين
المتقين فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون وليته لله تعالى ،فمن
كان أكمل إيمانًا وتقوى ،وكان أكمل ولية لله ،فالنَّاس متفاضلون
فى ولية الله عز وجل بسبب تفاضلهم فى اليمان والتقوى»(.)1
والذى يكون إيمانه أكمل يحقق عبوديته لله أكثر ،فيكون وقته
صا واعتزاًزا ما وتذكًرا وتقوى وإحسانًا وإخل ً كله عبادة وصبًرا وعل ً
بدينه( ،)2قال تعالىَ﴿ :أمّنْ هُ َو قَانِتٌ آنَا َء اللّ ْي ِل سَاجِدًا َوقَاِئمًا َيحْذَ ُر ا َل ِخرَةَ وََي ْرجُو َر ْحمَةَ
ستَوِى الّذِي َن َي ْع َلمُونَ وَالّذِي َن لَ يَ ْع َلمُو َن إِّنمَا َيتَ َذ ّكرُ أُولُو اللْبَابِ ُق ْل يَا عِبَادِ الّذِينَ
رَبّهِ ُقلْ َهلْ يَ ْ
ض الِ وَاسِ َعةٌ إِّنمَا ُيوَفّى الصّاِبرُونَ سنُوا فِى هَذِهِ الدّنْيَا حَسنة وَأَ ْر ُ آمَنُوا اتّقُوا رَّبكُمْ ِللّذِينَ َأحْ َ
ت لنْ َأكُونَ َأ ّولَ خلِصًا لّهُ الدّي َن وَأُ ِم ْر ُ َأ ْجرَهُمْ بِغَ ْي ِر حِسَابٍ ُق ْل إِنّى أُ ِم ْرتُ َأنْ َأعْبُ َد الَ ُم ْ
س ِلمِيَ﴾ [الزمر.]12-9 : اْلمُ ْ
إن زعماء المرابطين فى تاريخهم المجيد حرصوا على تربية
جاهِدم َ
شعبهم ال ُ
جاهِدين سواء على مستوى الفراد أو القادة أو
م َ
على صفات ال ُ
الجيش أو الشعب.
() الفتاوى (ج .)11/175 1
() انظر :الجهاد فى سبيل الله ،د .عبد الله القادري( ،ج .)2/5 2
163
أ -صفات القائد العسكرى عند المرابطين:
جاهِدين فى دولة المرابطين نجد م َ
إذا نظرنا فى سيرة قادة ال ُ
أن خيار قادتهم تميَّزوا بصفات أهَّلَتهم لقيادة الجيوش وتحقيق
شهر أولئك القادة الذينمن أ ْ
النصر وإلحاق الهزائم بالعداء ،و ِ
تميَّزوا بصفاتهم القيادية أبو بكر بن عمر ،ويحيى بن عمر ،ويوسف
مد مزدلي ,وسير بن أبى بكر ،وأبو عبد الله ح َّ
م َ
بن تاشفين ,وأبو ُ
مد بن الحاج ،وداود ابن عائشة ،وعبد الله بن فاطمة وغيرهم ح َّ
م َ
ُ
كثير.
نلحظ أنهم تميَّزوا بأمور أهمها:
من طاعة الله وإعداد النفس لتح ُّ
مل المشاق: -1الكثار ِ
حيث تربَّوا على حسن صلتهم بربهم الذى يمدهم بالعون بقدر
من القرآن والصيام ما يحققون له العبودية؛ فكان لهم حظ ِ
والقيام وحسن الصلة والنفاق فى سبيل الله ،وكان لتربية عبد
الله بن ياسين لهم فى رباطه أثر كبير لزمهم على طول حياتهم،
فكان فى مرحلة التكوين يُربِّى أتباعه على الذكر والتوكُّل على
الله ,والصبر على الذيَّة فى سبيل الله ،وكان يعل ِّمهم أساليب
إتعاب النفس فى ذات الله حتى تستطيع أن تتحمل المشاق فى
سبيله ،وكان منهجه فى ترسيخ هذه المعانى فى نفوس أتباعه
القرآن الكريم:
ل أَ ْو ِزدْ َعلَ ْيهِ وَرَّتلِ الْ ُقرْآنَ صفَ ُه َأوِ انقُصْ ِمنْهُ َقلِي ً
﴿يَا َأّيهَا اْل ُمزّ ّم ُل قُ ِم اللّ ْيلَ ِإلّ َقلِيلً نِ ْ
ل إن َلكَ فِى ل إن نَاشَِئ َة اللّ ْيلِ ِهيَ َأشَدّ وَطئًا وََأقْوَمُ قِي ً ل إِنّا سَُن ْلقِى َعلَ ْيكَ قَوْلً َثقِي ً َترْتِي ً
ش ِرقِ وَا َل ْغ ِربِ لَ إِلَ َه ِإلّ هُوَل َربّ اْلمَ ْ ل وَا ْذ ُك ِر اسْمَ رَّبكَ وَتَبَّت ْل إِلَ ْي ِه تَبْتِي ًالّنهَا ِر سَ ْبحًا طَوِي ً
جرًا َجمِيلً﴾ [المزمل.]10-1: جرْهُمْ َه ْ ل وَاصِْبرْ َعلَى مَا يَقُولُونَ وَا ْه ُ فَاّتخِذْهُ َوكِي ً
يقول سيِّد قطب رحمه الله فى «ظلله» فى ترسيخ هذه
المعانى فى نفوس الدعاة« :إن الذى يعيش لنفسه قد يعيش
حا ولكنَّه يعيش صغيًرا ويموت صغيًرا ،فأ َّ
ما الكبير الذى مستري ً
َ
يحمل العبء فماله والن ّوم ،وماله والراحة ،وماله والفراش
الدافئ ،والعيش الهادئ ،والمتاع المريح ،ولقد عرف رسول الله
× حقيقة المر وقدَّره ،فقال لخديجة –رضى الله عنها -وهى
تدعوه أن يطمئن وينام« :مضى عهد النوم يا خديجة» أجل مضى
عهد النوم ,وما عاد منذ اليوم إل السهر والتعب والجهاد الطويل
الشاق»(.)1
164
لقد كان قادة المرابطين فى تربيتهم الرشيدة جادين بعيدين
عن الهزل واللهو واللعب ,وتميز فيهم أبو بكر بن عمر ,ويوسف
من
بن تاشفين ،فكان لهما السبق على أتباعهما فى كل مجال ِ
المجالت التى تُعتَبر من ضرورات القائد الناجح.
-2القدوة الحسنة للجنود:
حيث نجد أن قادة المرابطين يقودون المعارك بأنفسهم ,فقتل
عبد الله بن ياسين فى ساحات الوغي ،ويحيى بن عمر كذلك ,وأبو
بكر بن عمر فى جهاده فى الصحراء الكبرى ،كما كان يوسف بن
من العداءتاشفين يقود الحرس الخاص الذى أعده لنتزاع النصر ِ
فى الساعات الحرجة ،ويندفع بجواده فى ميادين الجهاد عندما
يشتد ُّ وطيس المعركة ،وضربوا أمثلة رائعة فى إيمانهم وعملهم
الصالح وشجاعتهم وكرمهم الفياض وحزمهم وإيثارهم وإقدامهم.
-3حرصوا على تزكية وتطهير جنودهم والرتقاء بهم
ة لله:
طاع ً
إن بُعد الجنود عن التعليم والتربية والتطهير يكون سببًا فى
من ث َ َّ
م الهزيمة. قسوة قلوبهم وانغماسهم فى الثام والذنوب و ِ
سهِمْ يَ ْتلُو َعلَ ْيهِمْ
ي ِإذْ بَعَثَ فِيهِمْ َرسُولً مّ ْن أَنْ ُف ِ
ل َعلَى اْلمُؤمِنِ َقال تعالى ﴿:لَقَ ْد مِن ا ُ
ضلَلٍ مِّبيٍ﴾ [آل عمران: ح ْكمَةَ وَِإ ْن كَانُوا مِن قَ ْبلُ لَفِى َآيَاتِهِ وَُي َزكّيهِمْ وَُي َع ّلمُهُمُ اْلكِتَابَ وَاْل ِ
.]164
ث فِى الُمّيّيَ َرسُولً مّ ْنهُمْ يَ ْتلُو َعلَ ْيهِ ْم آيَاتِهِ وَُي َزكّيهِمْ وقال تعالى ﴿:هُوَ الّذِى بَعَ َ
ضلَلٍ مّبِيٍ﴾ [الجمعة.]2: ح ْكمَةَ وَإِن كَانُوا ِمنْ قَ ْب ُل لَفِى َ
وَُي َع ّلمُهُمُ اْلكِتَابَ وَاْل ِ
يقول سي ِّد قطب رحمه الله« :ويزكيهم ويطهرهم
ويرفعهم وينقيهم :يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم،
ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلتهم ،ويطهر حياتهم
ومجتمعهم وأنظمتهم ،ويطهرهم من أرجاس الشرك
والوثنية والخرافة والسطورة ,وما تبثه فى الحياة من
مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة بالنسان وبمعنى
إنسانيته ،ويطهرهم من دنس الحياة الجاهلية ,وما تلوث به
المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم»(.)1
-4الخبرة بأمور الحرب والقوَّة فيها:
وظهر ذلك فى قادة المرابطين فى جهادهم من أجل توحيد
() فى ظلل القرآن (ج .)1/507 1
165
المغرب القصى كله ,والقضاء على دولة برغواطة الملحدة ،وما
خاضوه من حروب ومعارك ظهرت فيها خبرتهم الحربية,
ومقدرتهم على تنفيذ أساليب الكر والفر ،وظهرت خبرة القائد
العلى يوسف بن تاشفين فى معركة الّزِلقَة التى أكسبت أركان
الحرب خبرات عميقة؛ ساعدتهم فى جهادهم من أجل ضم
الَنْدَلُس لدولتهم الفتية تحت راية السلم بمنهجه السنى القويم،
والقضاء على الخطر النصرانى فى الَنْدَلُس.
وفى القرآن الكريم نجد إشارة لطيفة تبين صفات القائد
العسكرية وهي :العلم والقوة ،كما قال تعالى﴿:وَقَا َل َلهُمْ َنبِّيهُ ْم إن الَ قَدْ
ث َلكُمْ طَالُوتَ َم ِلكًا قَالُوا أَنّى َيكُو ُن َلهُ اْل ُم ْلكُ َعلَيْنَا وََنحْ ُن َأحَ ّق بِاْل ُم ْلكِ مِنْ ُه وَلَمْ يُ ْؤتَ َسعَةً مِن
بَعَ َ
ل يُؤْتِى ُم ْلكَ ُه مَن يَشَاءُ وَالُ سطَ ًة فِى اْل ِعلْمِ وَاْلجِسْمِ وَا ُ صطَفَا ُه َعلَ ْيكُمْ وَزَادَ ُه بَ ْ
لا ْ
الَالِ قَالَ إن ا َ
وَاسِ ٌع َعلِيمٌ﴾ [البقرة.]247 :
وقد ظهر علمه وخبرته فى اختيار جنده ,ومعرفة الصالح منهم
للجهاد وغير الصالح ،وبرزت قوته فى صموده وصبره ومصابرته
ونجاحه فى جهاده.
قال سيِّد قطب رحمه الله« :وفى ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة
ُ
القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة ،وكل ّها واضحة فى قيادة طالوت،
تبرز فيها خبرته بالنفوس وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة ,وعدم
اكتفائه بالتجربة الولى ،ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة فى
نفوس جنوده قبل المعركة ،وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه،
ثم – وهذا هو الهم – عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد
تجربة ،ولم يثبت معه فى النهاية إل تلك الفئة المختارة ،فخاض بها
المعركة ثقة منه بقوة اليمان الخالص ,ووعد الله الصادق
()1
للمؤمنين».
-5البعد عن طلب القيادة وابتغاء الرئاسة:
جاهِد الزاهد أبى
م َ
وظهر لى هذا المعنى فى شخصية المير ال ُ
بكر بن عمر ،فعندما لمس من ابن عمه مقدرة على القيادة أسند
المر إليه ،ودخل متوغل ً فى الصحراء الكبرى من أجل الدعوة
والجهاد حتى أكرمه الله بالشهادة ،وكان أمراء المرابطين يرون
المارة قربة وعبادة يتقربون بها إلى الله لنصر دينه وتحقيق
ما من جاه أو منصب أو مال. مصالح عباده ,وليست مغن ً
-6إسناد المور إلى أهلها:
() فى ظلل القرآن (ج .)1/263 1
166
وهذه الصفة ظهرت لى فى سيرة يوسف بن تاشفين فى
من ق َّ
صر تعيينه للولة والقادة والفقهاء ،وما كان ليمتنع عن عزل َ
من هو أفضل منه. فى عمله ,ويعين َ
-7تربية الجندى على التسليم المطلق لله ل لشخص
القائد:
وكان أمراء المرابطين يضربون أروع المثلة فى زرع هذه
جاهِدين ،فهذا أمير المسلمين يرفع يديه م َ
المعانى فى نفوس ال ُ
نحو السماء مناجيًا المولى عز وجل« :اللهم إن كنت تعلم أن فى
حا للمسلمين فسهِّل علينا هذا البحر حتى نعبره، جوازنا هذا إصل ً
()1
وإن كان غير ذلك فصعبه حتى ل نجوزه» .
وفى وسط معركة الّزِلقَة وهو يبث الحماس فى نفوس
جاهِدين« :يا معشر المسلمين اصبروا لجهاد أعداء الله م َ
ال ُ
من سلم فقد فاز َ و الجنة، فله الشهادة منكم رزق منَ و الكافرين,
بالجر العظيم والغنيمة»( ،)2وهكذا القائد المسلم هو الذى يربى
جنوده بالمواقف على تحقيق العبودية الخالصة لله.
ولهذا لما قتل عبد الله بن ياسين لم يتأثر المرابطون ,وقتل
يحيى بن عمر ومن بعده أبو بكر بن عمر ،وما زادهم ذلك إل إيمانًا
جاهِدين وتعلقهمم َ
ما ،وهذا يدل على حسن تربيتهم لل ُ وتسلي ً
وتسليمهم لله ل للشخاص ،أما تربية اليوم فى جيوش المسلمين
شبيهة بالفرعونية حيث يربى القائد جنوده على طاعته المطلقة
فى الخير والشر ,كما يربيهم على الخضوع الكامل لشخصه.
ح َّ
مد الغزالى – رحمه الله – هذه التربية م َ
ووصف الشيخ ُ
فقال« :إن الذى يدرس المجتمعات الفاسدة ,ويتغلغل فى بحث
عللها ،والذى يتتبع أعمال الدعياء وطلب الزعامة ،ويستقصى
وسائلهم الملتوية فى تسخير الجماهير للوصول إلى القمة ،والذى
يلحظ النهضات الكبرى وكيف يدركها الفشل فجأة لنهم أصيبوا
برجال يحبون الظهور ،فل يرحبون بالنصر إل إذا جاء عن طريقهم
ما إذا جاء عن طريق غيرهم فهو وحدهم ،أ َّ
()3
البلء المبين» .
وقال سعد جمعة« :والفرق بين السلم والنُّظُم المعاصرة أن
الولء فى السلم هو لله وحده ،بينما الولء فى النُّظُم الخرى
المنعوتة بالتقدمية ،هو للطاغية ،أو الدكتاتور أو الحزب الحاكم أو
167
الجيش العقائدى أو اليديولوجية المتسلطة ،ولذا فهو ولء إكراه
وضغط فكرى وقهر بوليسي ،ل ولء الخير والمحبة والمودة
والتقوى والخوة»(.)1
وكم نحن محتاجون إلى منهج السلم الصحيح فى غرس
الربانية والتسليم المطلق لله ل للشخاص.
-8الحرص على قاعدة الشورى:
س حرب ٌّ
ي كان لمير المسلمين فى دولة المرابطين ونائبه مجل ٌ
يضم قواد الفرق العسكرية المختلفة لدراسة الخطط الحربية،
من القائد العلى ,والتشاور فى أموروتلقى الوامر والتعليمات ِ
الجهاد والبلد والعباد ،واتصف قادة المرابطين بحرصهم على
إقامة مبدأ الشورى فيما بينهم.
فكان قرار الجهاد ضد النصارى فى الَنْدَلُس بعد شورى شارك
فيها الشيوخ والقادة والعلماء والفقهاء ،وكان قرار ضم ممالك
الطوائف بعد شورى كذلك ,واشتهر المير يوسف بمشاورة ذوى
الرأى من علماء الشريعة السلمية وذوى الخبرة فيما يعرض له
من أمور.
-9الحرص على تحقيق الهداف والضبط الدارى وقوة
التأثير:
ظهرت هذه الصفات فى شخصية يوسف بن تاشفين الذى
أظهر مهارة إدارية عندما فتح مدينة سجلماسة ,واستطاع أن
يحقق أهداف المرابطين بعد جهاد دام ربع قرن ،جنى بعدها
المرابطون ثمرة أتعابهم وبسطوا سيطرتهم على المغرب
القصى ،ونُشر المن فى ربوعه ،واستطاع يوسف بحسن سيرته
وعدله أن يؤثِّر بقوَّة الحق الذى التزمه على قبائل المصامدة
وزناتة وغمارة وغيرها.
-1 0الشجاعة والكرم:
وظهرت هاتان الصفتان فى قادة المرابطين فى جهادهم فى
ف المير يوسف وجنوده عن الَنْدَلُس ,فبعد معركة الّزِلقَة ع َّ
من الدماء
الغنائم وتركوها لملوك الطوائف ،مع كونهم بذلوا ِ
والنفوس فى تلك المعركة ما ل يعلمه إل الله ،فدل فعلهم ذلك
على شجاعتهم وكرمهم.
-1 1التصرف الحكيم السريع أمام المفاجآت:
168
من الحدود وظهرت لى هذه الصفة عندما تدخل الحماديون ِ
الشرقية ،واعتدوا على دولة المرابطين من أطرافها ,فجَّرد
شا ,وردوهم إلى حدودهم ,وعقدوا معاهدة أمن المرابطون لهم جي ً
ما على ن هجو ً َ وسلم ،وعندما أخطأ والى تلمسان المرابطى وش ّ
من القيادة العليا عُزل ذلك القائد وعُيِّن مكانهبنى حماد دون إذن ِ
َ
ماد ،وعندما تأك ّد الميرمن هو أفضل منه ,وتراضوا مع بنى ح ََّ
يوسف من خيانة ملوك الطوائف أسَر بعضهم ,وقتل بعضهم،
وضرب الحصار على ممالكهم حتى أسقطها جميعًا ،وساعده على
تحقيق تلك الهداف قادة عظام اتصفوا بصفات عظيمة انعكست
على جنود المرابطين.
هذه بعض الصفات التى حرص المرابطون على غرسها فى
قياداتهم وزعمائهم ،فكانت خيًرا وبركة على تلك الدولة السنية
الفتية.
ب -المنهج التربوى لجيش المرابطين:
اهتم المرابطون بتربية جنودهم تربية جهادية ,اهتموا بجميع
جوانبها الروحية والنفسية والفكرية والجسدية ،وقد تميزت
جاهِد بالجنة والشتياق إليها ،فشهدت
م َتربيتُهم الروحية بربط ال ُ
المعارك التى خاضوها ضد أعدائهم على حبهم للموت كحب
خصومهم النصارى للحياة.
وغرس علماء المرابطين فى نفوس جنودهم عقيدة اليمان
بالقدر ،فأصبح الفارس منهم ينطلق كالسهم فى صفوف العداء
يضرب ذات اليمين وذات الشمال ،ل يخشى إل الله تعالى مؤمنًا
باليات القرآنية والحاديث النبوية التى تدل على تعميق هذا
جاهِدين.م َ
المفهوم فى نفوس ال ُ
سكُ الّتِى قَضَى
س حِيَ مَوِْتهَا وَالّتِى لَ ْم َتمُتْ فِى مَنَا ِمهَا فَُيمْ ِ ل يَتَ َوفّى الَْنفُ َ قال تعالى﴿:ا ُ
سمّى﴾ [الزمر ،]42:وقال تعالى﴿:قُل لّن َعلَ ْيهَا اْلمَ ْوتَ وَُي ْر ِسلُ ا ُل ْخرَى إِلَى َأ َجلٍ مّ َ
كلِ اْلمُ ْؤمِنُونَ﴾ [التوبة.]51: ل َلنَا هُوَ َم ْولَنَا َو َعلَى الِ َفلْيَتَ َو ّ
يّصِيَبنَا ِإلّ مَا َكتَبَ ا ُ
ما
مه أربعين يو ً
وقال ׫ :إن أحدَكم يجمع خلقه فى بطن أ ِّ
نطفة ،ثم يكون علقة مثل ذلك ،ثم يكون مضعة مثل ذلك ،ثم
يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه
وأجله وعمله وشقى أو سعيد.)1( »..
وكانت وسائل المرابطين فى تقوية الجانب الروحى فى
169
جنودهم وشعبهم المقاتل تعتمد على إحياء شعيرة الصلة،
والصيام ،والزكاة ،والحج ،وتلوة القرآن ،والذكر ،وأما وسائلهم
فى التربية النفسية فتعتمد على جهود العلماء والفقهاء الذين
يقومون بتزكيتهم وإيضاح حقيقة النفس والكون والحياة وغرض
النسان وهدفه فى هذه الدنيا.
وكانوا يرون أن أهم أسباب تربية النفوس أن تستعد دائما
للجهاد ،وأن تتربى على خشونة العيش والطعام والشراب ,وقلة
النوم لتنمية فضيلة الصبر فى نفوسهم.
ج -أبرز الجوانب التربوية فى جيش المرابطين:
-1الخوة السلمية:
كانت من أسباب قوة الجيش المرابطى سريان روح الخوة
بين جميع فصائل الجيش ،وامتلت قلوبهم ونفوسهم بهذا
المعنى السامى الذى كان سببًا فى تذويب النعرات القليمية
من الزنوج ،ومن قبائل صنهاجة والعرقية ،وجيوشهم تتكون ِ
المتفّرِقة ,ومن العرب ,ومن مسلمى السبان ،وكل هذه
مة واحدة. الفصائل المتعددة والمتنوعة كوَّنت أ َّ
ل لَ َع ّلكُ ْم ُت ْر َحمُونَ﴾
ص ِلحُوا بَيْ َن َأخَوَْيكُمْ وَاتّقُوا ا َ قال تعالى ﴿:إِّنمَا اْلمُؤْ ِمنُو َن ِإخْوَةٌ فََأ ْ
ل َعلَ ْيكُمْ ِإ ْذ كُنْتُ ْم َأعْدَاءً فَأَّلفَ بَيْنَ
تا ِ [الحجرات ,]10:وقال تعالى﴿:وَا ْذ ُكرُوا نِ ْعمَ َ
ُقلُوِبكُمْ فََأصَْبحْتُ ْم بِِن ْعمَتِ ِه ِإخْوَانًا﴾ [آل عمران.]103:
لقد تحلى جيش المرابطين بهذه الصفة الربانية العظيمة
جاهِدين ,وجعلتهم صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص فقوَّت رابطة ال ُ
م َ
فى مواجهة العداء.
-2التواصى بالحق والتواصى بالصبر:
مل على ح ِ
فعندما أصيب عبد الله بن ياسين بجراح بالغة ,و ُ
َ ّ
إثرها إلى معسكره؛ جمع رؤساء وشيوخ المرابطين وحثهم على
الثبات فى القتال ،وحذَّرهم من عواقب التفرقة والتحاسد فى
طلب الرئاسة وما لبت أن فارق الحياة(.)1
وهكذا جند الله المجاهدون ل يتباطأون فى مناصحة بعضهم
ضا ،لعلمهم أن فى هذا التباطؤ هلكهم جميعًا الذى وصفه لهم بع ً
الرسول × فى حديث النعمان بن بشير -رضى الله عنهما -فقال:
«مثل القائم ف حدود ال والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ,فأصاب بعضهم أعلها,
170
وبعضهم أسفلها ,فكان الذين ف أسفلها إذا استقوا الاء مرّوا على مَن فوقهم فقالوا :لو أنا خرقنا
ف نصيبنا خرقًا ,ول نؤذ مَن فوقنا ,فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جيعًا ,وإن أخذوا على أيديهم
نوا ونوا جيعًا»(.)1
إن مفهوم الجندية السلمية يترعرع فى بيئات التناصح
والتواصى بالحق
والتواصى بالصبر.
-3إصلح ذات البين:
حرص المرابطون على نبذ الشقاق والقضاء على الخلف
وعلى رأب الصدع وإصلح ذات البين؛ لعلمهم أن فساد ذات البين
يقضى على جند الجهاد أكثر مما يقضى عليهم عدوهم الخارجى
مهما قويت شوكته وكثر جنده ،فاتخذوا أسلوب الحكمة واللين
والرفق من أجل تحقيق هذا الهدف المنشود ،وإذا خرجت فئة
تستمرئ الشقاق أو تعمل على إيجاده؛ جَّردوا لها الجيوش
وأخضعوها بالقوة ،وهذا ما قام به المير أبو بكر بن عمر عندما
تمَّردت بعض قبائل الصحراء على مبادئ المرابطين ,واشتبكوا مع
بعض القبائل الخرى فى قتال؛ فخرج إليهم بجيشه الكثيف,
وأصلح ذات البين مستعمل ً فى ذلك القوة ،ومن أجل الضرورة
وإصلح ذات البين أذن النبى × لمن أراد أن يستعمل الكذب الذى
ما ول يحرم حللً ,ل سيما إذا كان من باب التورية ل يحل حرا ً
والتعريض ،كما فى حديث أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول
الله × يقول« :ليس الكذب الذى يصلح بي النّاس فينمى خيًا أو يقول خيًا»(.)2
من الصلة والصيام وجعل النبى × إصلح ذات البين أفضل ِ
والصدقة ,وحذَّر النبى × من فساد ذات البين ،قال رسول الله
׫ :أل أخبكم بأفضل درجة مِن الصيام والصلة والصدقة؟» ،قالوا :بلى يا
رسول الله ،قال« :إصلح ذات البي ،وفساد ذات البي الالقة»(.)3
-4نصر الحق والثبات عليه:
لما أرسل فقهاءُ سجلماسة ودرعة إلى الفقيه ابن ياسين,
من
يرغبون فى الوصول إليهم ليخلص بلدهم مما تعانيه ِ
حكَّام الطغاة الظلمة زناتة المغراويين وأميرهم مسعود بن
ال ُ
وانودين ،فجمع ابن ياسين شيوخ قومه ,وقرأ عليهم رسالة
171
فقهاء سجلماسة؛ فأشاروا عليه بمد يد المعونة لهم ،وقالوا له:
«أيها الشيخ الفقيه هذا ما يلزمنا فسر بنا على بركة الله
تعالى»(.)1
من المرابطين لنصرتهم على
ولما طلب ملوك الطائف العون ِ
صا على
النصارى لبوا نداء الحق ،لقد كان جيش المرابطين حري ً
نصرة الحق وإحقاقه والقتال عليه.
لقد حرص المرابطون على أن يشملهم قول رسول الله ×:
«ل يزال من أمت أمة قائمة بأمر ال ل يضرهم من خذلم ول من خالفهم حت يأتيهم أمر ال وهم
على ذلك»( ،)2وقوله ׫ :مَن ُي ِر ِد ال به خيًا يفقهه ف الدين ,ول تزال عصابة مِن
السلمي يقاتلون على الق ظاهرين على من ناوأهم إل يوم القيامة»(.)3
إن صفة نصر الحق والثبات عليه والقتال عليه ليست دعوة
تقال ،أو شعارا ً يرفع على مستوى الجماعات أو الدول أو
الطوائف ,وإنَّما حقيقة لها دللتها الواقعية فى حياة النَّاس ،وأى
جماعة أو دولة تفقد صفة الفقه فى الدين ونصر الحق أو إحداهما
فليست أهل ً لن تكون هى الطائفة المنصورة.
وأى خلل يقع فى أى جماعة؛ فلبد أن يكون مصدره فقد
-
إحدى الصفتين أو فقدهما معًا أو ضعف فى إحداهما أو فيهما م ًعا
(.)4
إن دولة المرابطين فى جيلها الريادى حققت صفة الفقه فى
الدين متمثل ً فى فقهائها العظام ،فاستحقَّت أن تكون ِ
من الطائفة
المنصورة التى حالفها نصر الله وتوفيقه .وعندما ضعفت تلك
من الوجود.
الصفات آل أمرها إلى طائفة مغلوبة ،بل زالت ِ
د -عناصر جيوش المرابطين:
-1الملثمون أو المرابطون :كانوا هم النواة الولى التى
تكوَّن منها الجيش المرابطي ،وقد قامت الدولة على أكتافهم,
وقد اشتهر هؤلء الملثمون بقوة بأسهم فى الحرب ،وكانوا أثبت
من الجبال الرواسى فى المعارك ،ومهما تفوَّق عليهم عدوُّهم فىِ
العدد فل يتقهقرون ،ولقد حققوا انتصارت رائعة فى معاركهم فى
المغرب القصى أو فى معارك الجهاد فى الَنْدَلُس.
َ
من أهم فرق الجيش -2العرب :وشك ّلوا فرقة أصبحت ِ
() تاريخ المغرب والندلس ،ص (.)42 1
172
المرابطى وشاركوا فى معارك الَنْدَلُس ،وتنتمى بعض العناصر
العربية إلى عرب الَنْدَلُس الذين استقُّروا فى المغرب فى عصر
الدارسة ،ويرجع البعض الخر إلى قبائل بنى هلل التى انخرطت
فى سلك جيش المرابطين ،وشاركوا فى معارك الجهاد ،ومن
أشهر تلك المعارك معركة كنسويجرة ..يقول ابن الكردبوس:
«فجر ابن تاشفين عسكًرا جراًرا من مرابطين وعرب وأَنْدَلُس
ح َّ
مد بن الحاج ،فالتقوا م َ
الشرق والغرب ،وقدم عليهم قائده ُ
بكنثرة فكانت بينهم جولت وحملت إلى أن زلزل الله أقدام
المشركين ,وولوا مدبرين.)1(»...
كما شاركوا فى معركة إقليش ،فيقول ابن القطان:
«واستشهد فى هذه الوقيعة – أى إقليش – المام الجزولي ،وكان
من العيان والعربان.)2(» ..
رجل صدق ,وجماعة ِ
من -3الحرس الخاص :كانت قوى الحرس الخاص تتألف ِ
أشجع الجند من مختلف الوليات ،ويشترط فى قبولهم أن يكونوا
من ذوى القوام الحسن والشجاعة الفائقة والقوة والبراعة ،يقول
أشباخ« :جمع يوسف بن تاشفين من تجار الرقيق من أقليم غانا،
من العبيد واختار منهم أمهرهم وزودهم بالسلحعددًا كبيًرا ِ
والخيل ,ودربهم على جميع فنون القتال ،وأنشأ من حرسه الخاص
من صا ِسا خا ً
من ألفى رجل ،وأنشأ على هذا النمط حر ً السود ِ
من النصارى المعاهدين ،وكان يوسف الَنْدَلُسيين يتألف من فتيان ِ
من امتاز منهم بالخلص يحبوهم بعطفه وصلته ،وينعم على َ
()3
من الخيل والثياب والسلح والعبيد» . والشجاعة بمختلف الهبات ِ
وبين الدكتور سعدون عبَّاس نصر الله أن النصارى فى جيش
المرابطين اعتنقوا السلم( ،)4وأصبح الحرس الخاص ركنًا أساسيًا
م إليه من أركان الجيش المرابطي ،ل سيما أن على بن يوسف ض َّ
الكثير من أسرى الحروب ,وشارك هذا الحرس الخاص فى
-
حدِين موَ ِّ حراسة معاقل المغرب ،بل حتى فى حروب الدولة ضد ال ُ
(.)5
-4الحشم :كانت فرق الحشم من أهم فرق الجيش
المرابطي ,وكانت تتكون من زناتة والمصامدة ،وكانت هذه الفرق
نظم الجمان ،ص ( ،)10-9انظر :الثغر العلى ،الندلس ،ص (.)129 () 2
173
تتقدم عادة الجيوش المرابطية فى القتال(.)6
هـ -فنون القتال:
َ
لما تول ّى المير يوسف مقاليد حكم المرابطين عمد إلى إصلح
نظام تسليح الجيش وطريقة إعداده للقتال ،ففى البدء كانت
أسلحتهم يدوية ويعتمدون على البل ,وهذه السلحة تصلح لحرب
ما حرب المدن والحصون فإنها تتطلب وسائل وأسلحة الصحراء ،أ َّ
تتلءم مع الوضع الجديد الناشيء عن حرب الحصار؛ ولهذا ابتكر
المير يوسف الخطة العسكرية المعروفة بالتقري ،وخطة التقرى
تعتمد على توجيه الجيوش إلى بلد معينة للقتال مع جيوشها فى
معارك فاصلة ل لحصار المدن(.)2
َ
وسل ّح الجيش بكل أنواع السلحة المعروفة من مغربية
َ
من الجيش يتناسب مع وأنْدَلُسية ونصرانية ,وكان سلح كل فرقة ِ
تركيبها ووضعها القتالي :فمشاة الصف الول يتسلحون بالقنا
الطوال وبدروق اللمط.
وكان للمير يوسف الفضل فى تنظيم جيش المرابطين,
ومعرفة الرجال ومواهبهم الفذة الذين أعادوا إلى الذهان تاريخ
الفتوحات الولى لمة السلم ،لقد كانت حركة المرابطين مقنعة
للعالم فى زمانها بأن السلم قادر فى كل زمان ومكان على
إنجاب القادة الفذاذ أمثال سير بن أبى بكر ،وداود ابن عائشة،
وابن فاطمة ,وابن ميمون ومزدلى وغيرهم ،وعلى رأس الجميع
القائد الربانى الذى أنقذ الله به السلم فى الَنْدَلُس والمغرب
يوسف بن تاشفين.
كان المير يوسف أثناء المعارك يرتب جيشه وفق نظام
خماسي؛ المقدمة :ويحتلها الجنود المشاة ووحدة الفرسان
الخفيفة ،والجناحان الميمنة والميسرة :وفيهما حملة القسى
والنبال وأكثرهم من أهل الثغور ،والقلب يتمركز فيه الفرسان
المرابطون المزودون بالسلحة الثقيلة والخفيفة ،والمؤخرة
ويقودها المير بنفسه وتتألف من صفوة الجنود والحرس ،وكان
لكل قسم من هذه القسام قائده الخاص ،ويجتمع قادة الوحدات
قبيل المعركة على شكل مجلس حربى لتلقى الوامر والتعليمات
من القائد العلى يوسف(.)3
ِ
وتطوََّرت فنون القتال عند المرابطين وأهدى ابن الصيرفى
إلى المير تاشفين بن على قصيدة احتوت على فنون الحرب
() المصدر السابق نفسه. 6
174
والقتال فقال:
كانت ملوك الفرس قبلك أهديك من أدب السياسة ما
تولع به
ذكرى تحض المؤمنين وتنفع لنت أدرى بها ولكنها
سيان تتبع ظاهًرا أو تتبع خندق عليك إذا ضربت
محلة
يخشى وهو فى جود كفك حارب من يخشى عقابك
يطمع بالذي
ـا حيث التمكن والمجال قبل التهارش عبئ جيشك
الوسع مفسحـ
والخيل تفحص بالرجال إياك تعبئة الجيوش مضيقًا
وتمزع
واجعل أمامك منهم من حصن حواشيها ولكن فى
يشجع قابها
وأمض كمينك خلفها إذا واحذر كمين الروم عند
تدفع لقائها
تلقى العدو فشُّره متوقع ل تبقين خلفك عندما
()1
يضعضع واصدمه أول وهلة ل ترتدع
ونستطيع أن نستخرج بعض فنون الحرب التى أوصى بها
الشاعر فى قصيدته للمير تاشفين بن علي:
-1ضرورة حفر الخنادق حول المدن لحمايتها من أى خطر
خارجي.
-2ضرورة تعبئة الجيوش وتنظيمها قبل المعركة بوقت كاف
لكى تدخل هذه الجيوش إلى المعركة ،وهى على أهبة
الستعداد ،وحتى ل يأخذها العدو على غرة.
-3ضرورة وضع أقوى الفرق العسكرية فى جناحى
الجيش ،وفى المقدمة ،بينما يقود القائد العام للجيش
المعركة من قلب جنده.
-4ضرورة نصب الكمائن خلف خطوط العدو.
-5عدم القتال وظهورهم إلى الماء ،لن فى ذلك هلكة
لجيوشهم.
175
-6ضرورة إحداث عنصر المفاجأة فى بداية المعركة ،عن
طريق الصدام مع العدو ،مع ضرورة التقدم وعدم
التقهقر.
هذه بعض الفنون العسكرية التى طبقت فى دولة المرابطين.
وكان المرابطون فى بداية أمرهم قليلى الخبرة بفن الحصار
ما للهجوم ،إل أنهم لعتمادهم على قوات الفرسان المستعدة دائ ً
ن الحصار ،وتجلى بعد فترات من جهادهم استطاعوا أن يتقنوا ف َّ
من ُ ّ
ذلك بوضوح خلل حصارهم لقلعة شنتيرين الحصينة ،وتمكنهم ِ
التغلب عليها ،كما ظهرت براعتهم فى هذا الفن أثناء الحصار الذى
من فرضته الجيوش السلمية على مدينة غرناطة ,لحمايتها ِ
الفونسو المحارب خلل غزوته الكبرى للَنْدَلُس ،التى كان يهدف
من ورائها تلبية دعوى النصارى المعاهدين فى مدينة غرناطة إلى
نصرتهم.
وضرب المرابطون الحصار ،وكان موفقًا وحقق نتائجه
المطلوبة.
نضا فى ف ِ ّن ضرب الحصار ،فقد تفوَّقوا أي ً وكما أتقنوا ف َّ
من الحصار الذى من الحصار ،كما حدث فى تخلصهم ِ التخلص ِ
ضربه الموحدون على مراكش عام 524هـ ،ودام ما يقرب من
َ
حدِين هزيمة منكرة عند ما ،ثم تمك ّنوا وأوقعوا بال ُ
موَ ِّ أربعين يو ً
البحيرة(.)1
واهتم المرابطون بجميع السلحة المعروفة فى زمانهم من
نشاب وسهام ورماح وسيوف ودروع ورعادات ومزاريق ودرق
لمطية والطاس.
و – السطول:
سع المرابطين فى المغرب القصى واستيلئهم على ومع تو ُّ
معظم مدنها ولم تبق إل طنحة وسبتة ،شعر المير يوسف بأهمية
السطول البحرى لما وصلت دولته إلى شواطئ البحر البيض،
وبعد القضاء على دولة برغواطة صاحبة السطول البحرى بدأ
يوسف يهتم بتطوير أسطوله ،واستفاد من خبرات أهل الَنْدَلُس
فى ذلك ،وأصبح أسطول المرابطين يتقدم نحو الهيمنة على البحر
المتوسط ،وأثمرت جهود يوسف فى الهتمام بالسطول فى زمن
ابنه علي.
وأصبح أسطول المرابطين بفضل الله تعالى ،ثم قادته الكبار
() تاريخ المغرب والندلس ،ص (.)311 1
176
-وعلى رأسهم أبو
عبد الله بن ميمون -قوة ضاربة هددت النصارى فى جنوب البحر
المتوسط ,ونفَّس الله به كربات مسلمى الشمال الفريقي،
وحقق أسطول المرابطين انتصارات تجاوزت كل
تقدير وحسبان(.)1
ز– استيلء المرابطين على جزر البليار:
جاهِد العامرى صاحب دانية, م َ
كانت جزيرة البليار خاضعة ل ُ
الذى استقل بملكها سنة 405هـ ،وولى عليها بعض الولة ،ولما
َ
جاهِد فى سنة 436هـ تول ّى ابنه على الذى وقع فى أسر م َ
قتل ُ
بنى هود عام 468هـ ومات فى سرقسطة سجينًا عام 474هـ،
وكانت جزيرة ميورقة تابعة لجزر البليار وكان بها مبشر بن
سليمان الذى أعلن استقلله بميورقة ،وأما مدينة دانية فضمها
المقتدر بن هود إلى سرقسطة ،ولما ضم المرابطون ممالك
الطوائف تركوا مبشر بن سليمان صاحب البليار حًرا تقديًرا
دّ النصارى ،وما اشتهر به من غيرة على لجهوده التى بذلها لص ِ
مصالح المسلمين ،وقدرته الفذة فى حماية ملكه من غارات
النصارى المتتابعة فضل ً عن كونه أقَّر العدل ,وأرضى الرعية،
وهكذا أصبح مبشر يحكم الجزائر الشرقية فى عهد يوسف بن
تاشفين ،وفى السنوات الولى من حكم على بن يوسف إلى عام
508هـ.
وعندما تحالف النصارى من أمراء فرنسا والبرتغال وإسبانيا
وقرروا القضاء على جزر مبشر بن سليمان خرجوا له فى
خمسمائة سفينة ,وضربوا على جزيرة ميورقة حصاًرا عنيفًا,
وراسل مبشر أمير المسلمين على بن يوسف لنجدته ونصرة
المسلمين ،وتُوفى مبشر بن سليمان أثناء الحصار وقام بعده
ت ميورقة عام 508هـ, قريبه الربيع بن سليمان بن ليون ,وسقط ْ
من المسلمين ,وسبوا نساء المسلمين ,وعاثوا فى وقتل النصارى ِ
الرض فسادًا ونهبًا وتخريبًا.
وعندما اقترب أسطول المرابطين بقيادة القائد البحرى ابن
«تافرطاست» وجد النصارى قد رحلوا وتركوها كأن لم تكن
بالمس ,وفى الحال شرع ابن «تافرطاست» فى تعمير الجزيرة,
وأعاد إليها الفارين من سكانها ،وكان قد لجأ منهم إلى الجبال
جموع غفيرة ,وبذلك أصبحت تلك الجزر تابعة لدولة المرابطين
الفتية.
177
دّى لطماع وكان لأسطول المرابطين الفضل بعد الله فى التص ِ
النورمنديين فى مدن الشمال الفريقي ،وكان لأسطول
َ
المرابطين جهاد مشكور فى سواحل أوروبا الجنوبية؛ مما ع ّزز من
هيبة المسلمين فى نفوس النصارى الحاقدين ,فأغار على سواحل
جليقية وقطلونية وإيطاليا والمبراطورية البيزنطية(.)1
ومن أشهر قادة السطول المرابطى أبو عبد الله بن ميمون,
وتوارث أبناؤه من بعده قيادة أساطيل المرابطين ,ولعبت أسرة
بنى ميمون دوًرا رياديًا فى حماية ثغور المسلمين ,والذَّود عن
حوزتهم وأعراضهم وأموالهم وعقيدتهم.
ح – موانئ أسطول المرابطين:
كان المرية من أكبر موانئ السطول المرابطى فى
الَنْدَلُس ،وكان بها قسم كبير من أسطول المرابطين بقيادة
مد بن ميمون ،وكان بالمرية دار ح َّ
م َ
أمير البحر أبى عبد الله ُ
صناعة للسفن ،ثم تأتى بعد المرية مدينة دانية التى تعتبر مقر
قيادة السطول المرابطى فى الَنْدَلُس.
وكان موانئ أسطول المرابطين تنتشر على شواطئ سواحل
المغرب والَنْدَلُس ،ومن أشهرها طنجة ،وبجاية وإشبيلية والجزيرة
الخضراء ،وجزر البليار(.)2
سكإن الشمال الفريقى ل عَّزة لشعوبه ول كرامة إل بالتم ُّ
بالمنهج الرباني ،وتربية شعوبه على النقياد لمنهجه الرشيد،
ويحتاج ذلك لعلماء ربانيين وقادة سياسيين يعرفون قيمة
دينهم ،ويؤمنون بمنهج ربهم ،ويستعدُّون لجهاد عدوهم,
ويهتمون بإحياء روح الجهاد ،ويغرسون معانى الشهادة فى
شعوبهم حتى تتدفق دماء السلم من جديد فى شرايينهم،
ليعملوا على إرجاع الَنْدَلُس المفقود ,ويقولون متى هو قل
عسى أن يكون قريبًا.
***
178
المبحث الرابع
النظام المالى فى عصر المرابطين
حرص المرابطون فى دولتهم على إسقاط الضرائب غير
المشروعة عن كاهل شعوبهم التى فرضها الزناتيون فى المغرب
وملوك الطوائف فى الَنْدَلُس ،وكذلك المكوس والرسوم
والضرائب فى جبل طارق ،ولم يفرض المرابطون فى دولتهم
رسم مكس أو معونة خراج ل فى حاضرة ول فى بادية ،واتبعوا
ما ماليًا يقوم على قواعد السلم ،وكان هذا النظام ظاهر نظا ً
المعالم فى زمن المير يوسف بن تاشفين الذى التزم بالكتاب
والسنة فى جمع الموال وتوزيعها ،فاعتمد على الزكاة والعشر
من الموال على الوجه والجزية وأخماس الغنائم ،وجبي بذلك ِ
الشرعى ما لم يجبه أحد ،وترك فى خزائنه مبلغ ثلثة عشر ألف
ما فى سا وأربعين ألفًا من دنانير الذهب( .)1وأ َّ
من الورق ،وخم ًربع ِ
عصر على بن يوسف فاختلف المر ,وفرض الضرائب على بعض
السلع ،وفرض ضريبة جديدة على مدن الَنْدَلُس الهامة ،وكان
صص دخلها لقامة أسوار جديدة وترميم السوار القديمة ،وكان يُخ ِّ
ُ َ
سبب فرض هذه الضريبة دخول ألفونسو المحارب للنْدَلس غازيًا
عام 519هـ؛ فاضطَّر لتحصين المدن وترميم السوار وتقوية
الجيوش؛ ففرض ضرائب تساعده فى تسديد هذه النفقات التى ل
غنى عنها.
العملــــــــة:
كانت العملة الرئيسية لدولة المرابطين هى الدينار الذهبى
َ
الذى كان عماد القتصاد فى الدولة ,وظل ّت هذه العملة المرابطية
الذهبية مستخدمة لعدة قرون ،حتى بعد سقوط الدولة المرابطية،
كما استخدمت العملة الفضية المعروفة بالدرهم الفضي ،لتسهيل
المعاملت التجارية.
وانتشرت دور سك العملة فى مختلف أجزاء الدولة فى
المغرب أو فى الَنْدَلُس مثل أغمات ,تلمسان ،سجلماسة ،فاس،
مراكش ،سبتة ،مكناسة ،طنجة ،شاطبة ،إشبيلية ،دانية ،غرناطة،
قرطبة ،مالقة ،مرسية ،سرقسطة ،وغيرها(.)2
179
الفصل الخامس
أهم أعمال دولة المرابطين الحضارية
المبحث الول
الثار المعمارية فى المغرب والندلس
َ
إن دولة المرابطين تركت آثاًرا معمارية بارزة ظل ّت باقية على
سمو
ِّ ر العصور؛ لترشد الجيال المتعاقبة على مّرِ الدهور وك ّ ِ
حضارة المرابطين المعمارية ،ومن أعظم هذه الثار على
الطلق:
-1جامع القرويين:
من أهم المساجد الجامعة فى بلد المغرب وأكثرها شهرة
لكونه جامعة إسلمية عريقة ضاربة بجذورها فى أعماق التاريخ،
وكانت هذه الجامعة تقارع الزهر الشريف فى العلم وتخريج
الدعاة والعلماء والفقهاء.
ولقد مَّر جامع القرويين بثلثة أدوار:
الول عند تأسيسه سنة 254هـ859/م.
والثانى عند الزيادة فيه سنة 345هـ956/هـ.
والثالث عندما زيدت مساحته فى عصر على بن يوسف سنة
530/1135م.
َ
وتول ّى مشروع زيادة مسجد القرويين وتوسيعه القاضى أبو
مد بن داود بسبب ضيق المسجد بالنَّاس,ح َّ
م َ
عبد الله ُ
واضطرارهم للصلة فى الشوارع والسواق فى يوم الجمعة،
وحرص على أن يكون المال من أوقاف مساجد المسلمين،
وأشرف القاضى
أبو عبد الله بنفسه على هذا المشروع الحضارى العظيم وكان
تمام التوسعة عام 538هـ.
ولقد تخَّرج ْ
ت فى جامع القرويين على مّرِ العصور وكّرِ الدهور
أفواج عديدة من فقهاء المة وعلماء الملة ودعاة الشريعة
جاهِدين البرار والقادة العظام ،وكان لمسجد القرويين عند م َ
وال ُ
المرابطين مكانة عظيمة فى نفوسهم.
وتذكُر كتب التاريخ أن منبر جامع القرويين من أجمل منابر
180
السلم ،وتدل على روعة المغاربة فى اختياراتهم الذوقية
الرفيعة(.)1
-2المسجد الجامع بتلمسان:
وكان مقًرا لنشر علوم السلم وتربية المسلمين على معانى
القرآن ،وتم بناء هذا المسجد عام 530هـ فى إمارة على بن
يوسف ،وكانت هندسته المعمارية فى غاية الجمال ودقة التقان،
ة المعمارية لمسجد تلمسان فيها ورأى بعض المؤرخين إن البني َ
لمسات أَنْدَلُسية ,وفنون معمارية قرطبية ،بل بعضهم يرى أن
َ
عرفاء مسجد تلمسان قل ّدوا جامع قرطبة تقليدًا مباشًرا فى
لوحتى الرخام اللتين تكسوان إزار واجهة المحراب بتلمسان،
وكذلك سقف المسجد الخشبى شبيه بسطح مسجد قرطبة،
ضا.
ه به أي ً
وكذلك البلط شبي ٌ
ت فى بوتقتها حضارة يظهر أن دولة المرابطين انصهر ْ والذى
ُ َ
المغاربة والنْدَلسيين والفارقة ،فتجد تلك المعالم الحضارية
المختلفة فى كافة بقاع دولة المرابطين ،ول ينكر تأثير المعالم
الحضارية المعمارية الَنْدَلُسية فى جميع مدن الدولة.
-3الثاُر الحربية:
اهتم المرابطون بالحصون والقلع؛ ولذلك انتشرت فى المدن
والثغور.
وزاد الاهتمام بالتحصينات العسكرية فى زمن على بن يوسف,
الذى أكثر من السوار والقلع والحصون للدفاع عن دولته فى
المغرب ضد الحركات السياسية والثورات العدائية المناهضة
لدولة المرابطين ،وواصل المير على اهتمامه بهذا المر كذلك
فى الَنْدَلُس.
ومن أروع آثار المرابطين الحضارية الحربية أسوار مراكش
حيث بدأ المير على بن يوسف فى بناء سور المدينة عام 520هـ
مل بناء السور عام 522هـ(.)2 وك َّ
وانتشرت فكرة بناء السوار فى الَنْدَلُس ،وفرضت الدولة
على رعاياها ضريبة تنفق على هذا الهدف الستراتيجى الجهادى
الدفاعي.
من أشهر السوار التى بنيت أو أعيد ترميمها فى الَنْدَلُس، و ِ
أسوار المرية وأسوار قرطبة التى امتازت بأبراجها المستطيلة
181
الضخمة المتقاربة ،وأسوار إشبيلية من جهة نهر الوادى الكبير،
مَرابطون فى المناطق الوعرة حصونًا بالحجر ،وشحنوها وبنى ال ُ
بالجنود والقوات؛ لكى تصمد للحصار مدة طويلة.
وكان عدد جنود الحصون والقلع ما يعادل 200فارس و 500
راكب فى
كل حصن.
ومن أشهر قلع المرابطين فى الَنْدَلُس قلعة منتقوط التى
من أشهر قلع المرابطين فى المغرب تقع على بساتين مرسية ،و ِ
قلعة تاسغيموت التى تقع على بعد ثلثة كيلو مترات جنوب شرق
مراكش ،وعلى بعد نحو عشرة كيلو مترات شرق أغمات على
سطح هضبة أطرافها ذات أجراف وعرة شديدة النحراف ،يصعب
على الغازين ارتقاؤها ،وأسوارها تمتد على حافة الهضبة نفسها.
إن قلع المرابطين وحصونهم تدل على أن ف َّ
ن العمارة فى
ن العمارة الَنْدَلُسي(.)1
زمانهم تأثر بالغ التأثر بف ِ ّ
***
182
المبحث الثاني
الحياة الدبية والعلمية فى دولة المرابطين
-1الحركة الدبية:
ازدهرت الحركة الدبية فى دولة المرابطين فى عهد المير
جع الشعراءعلى بن يوسف الذى اهتم بالشعر والدب ،وش َّ
من الذين مدحوا والدباء؛ فتوافدوا على بلطه من أهل الَنْدَلُس ،و ِ
المير على بن يوسف الشاعر الكبير أبو العبَّاس أحمد بن عبد الله
القيسى المعروف بالعمى التطيلى حيث قال:
وما أنت للملك بالسائس يا على العلء فى كل يوم
من بين مؤتل وموال يا ربيع البلد يا غيمة العالم
يا سليل الذواء والقيال يا قريع اليام عن كل
مسجد
()1
يعقوب ذكر مكارم وفعال لك من تاشفين أو من أبي
وكان الشعراء يقصدون ولى عهد الدولة فى زمن المير على
بن يوسف لمدح ابنه تاشفين ،ومن أشهرهم الشاعر أبو بكر يحيى
مد بن يوسف ،كما حظى الشعراء فى عصر على بن ح َّ
م َ
بن ُ
يوسف بمكانة عظيمة لدى السرة الحاكمة وكبار القادة وعمال
الدولة على القاليم المختلفة.
وكان المير عبد الله بن مزدلى موضع اهتمام الشعراء منهم
ابن عطية الذى
قال فيه:
()2
السلم ضاءت بنور إيابك اليام
ومن قبل مدح الشعراء والده الذى قال فيه أبو عامر بن
أرقم:
وللمسالك يحميها وللدول أنت المير الذى للمجد
همته
مناسب كالضحا والشمس لمزدلى لواء كان يرفعه
فى الحمل
()3
الجلل يا أيها الملك المرهب
صولته
() العمى التطيلي ,الديوان ,ص (.)104 1
183
ووصل المديح إلى الفقهاء والعلماء لمكانتهم العالية فى دولة
المرابطين ،فهذا العمى التطيلى يمدح القاضى الفقيه ابن أحمد
قاضى الجماعة بقوله:
وأن غربت بى عنك إحدى إليك ابن حمدين وإن بَعُد
المغارب المدى
مرور الليالى وازدحام صبابة ود لم يكدر جمامه
الشوائب
ترى على أعقابه كل وذكر عساها أن تكون
شاغب مهزة
()1
بالمتقارب بأيه ما كان الهوى متقاربًا
من الشعراء قاموا بالتندرول ننسى أن أعداء المرابطين ِ
بالمرابطين ،وبفقهاء دولتهم ،وممن اشتهر بالهجاء والتندر فى هذا
العصر الشاعر أبو بكر يحيى بن سهل اليكي ،الذى هجا
المرابطين ,ومن ذلك قوله:
ولو أنه يعلو على كيوان فى كل من ربط اللثام
دناءة
من بطن زانية لظهر ما الفخر عندهم سوى أن
حصان ينقلوا
وضعوا القرون مواضع المنتمون لحمير لكنهم
()2
التيجان
الغدران ل تطلبن مرابطا ذا عفة
من ألوان الشعر أعنى وازدهر فى عصر المرابطين لون آخر ِ
من الشعراء الذينِ كبير الطبيعة ،فقد شهد هذا العصر ظهور عدد
نبغوا فى هذا الفن الشعري ،نذكر منهم ابن سارة الشنتريني،
وابن الزقاق ،وابن خفاجة البلنسي ،وعبد الحق بن عطية ،ومن
ذلك قول الشنترينى الشاعر يصف البركة:
من الزهر أهداب لها وطف لله مسجورة فى شكل
ناظرة
فى مائها ولها من عرمض فيها سلحف ألهانى
لخف تقصمها
برد الشتاء فتستدلى تنافر الشط إل حين
وتنصرف يحضرها
()3
الجحف كأنَّها حين يُبديها تصرفها
184
سا أغر:
وهذا أبو الحسن على بن عطية بن الزقاق يصف فر ً
برقًا إذا جمع العتاق رهان وأغر مصقول الديم تخاله
من فى متنهمن لحظ َ يطأ الثرى متبختًرا فكأنَّه
نشوان
()1
حسنًا وبين جفونه كيوان فكأن بدر التم فوق سراته
وهذا أبو جعفر بن سلم المعافرى يصف فى شعره الثلج:
تقُّر به عين وتشنعه نفس ولم أر مثل الثلج فى
حسن منظر
وقطر بل ماء يقلبه اللمس فنار بل نور يضيء له سنا
()2
كأس ترى الرض منه فى مثال
زجاجة
سا:
ً قو لنا يصف آخر شاعر وهذا
إذا دنا نزعها فالعيش يا رب مائسة العطاف
منتزح مخطفه
كما ترنم نشوان به قزح ل النزع ظلَّت تر ُّ
ن فظ َّ
يعطفها
َ
()3
قزح وقد تأل ّف نصل السهم
مندفعًا
من عاصر المير على بن م َّ
وهذا ابن خفاجة يصف الربيع وهو ِ
يوسف:
المطرب من أشعار أهل المغرب ،لبن دحية ،ص (.)106 () 1
185
فأمزج لجينا منهما بنضار أذن الغمام بديمة وعقار
هزج الندامى مصفح وأربع على حكم الربيع
الطيار بأجرع
منعن صفحة تندى ِ وكمامة حدر الصباح قناعها
الزهار
أخلف ك ِّ
ل غمامة مدرار فى أبطح رضعت ثغور
أقاحه
دور الندى ودارهم النوار نثرت بحجر الروض فيه يد
الصبا
حلى الحباب سوالف وقد ارتدى غصن النقى
َ
النهار وتقل ّدت
جذل وحيث الشطر بدء فحللت حيث الماء صفحة
عذار ضاحك
()1
الشجار والروح تنفض بكرة لمم
الُربا
لقد ازدهَر الشعر والدب فى عصر المير على بن يوسف
ما شهدت بذلك قصائد شعراء المرابطين التى ازدهاًرا عظي ً
سجلت فى ذاكرة التاريخ الخالدة.
وما قيل عن انحطاط الشعر والدب فى عصر المرابطين
أكذوبة استشراقية بان زيفها أمام حقائق التاريخ التى ل تُجامل ول
تعرف التحايل.
ول ننسى شيوع فن الموشحات والزجال فى عصر
ماَ
ن الموشحات« :وأ ّ المرابطين ،يقول ابن خلدون عن نشأة ف ِ ّ
أهل الَنْدَلُس ،فلما كثُر الشعر فى قطرهم ,وتهذَّبت مناحيه
وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية ،استحدث المتأخرون منهم فنًا
يسمونه بالموشح ينظمونه أسماطًا وأغصانًا يكثرون منها ومن
أعاريضها المختلفة ,ويسمون المتعدد منها بيتًا واحدًا ,ويلتزمون
عند قوافى تلك الغصان ,وأوزانها متتالية فيما بعد إلى آخر
ل بيت ُ القطعة ،وأكثر ما تنتهى عندهم إلى سبعة أبيات ،ويشمل ك ّ
على أغصان عددها بحسب الغراض والمذاهب ,وينسبون فيها
ويمدحون كما يفعل فى القصائد ,وتجاوزوا فى ذلك إلى الغاية
واستطرفه النَّاس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله وقرب
طريقه»(.)2
من أشهر وشاحى عصر المرابطين العمى التطيلي ,ومن و ِ
موشحاته:
186
ما اجتمعا إل لمر كبار دمع مسفوح وضلوع
حرار ماء ونار
عمر قصير وعناء طويل بئس لعمرى ما أراد
العذول
()1
مسيل يا زفرات نطقت عن
غليل
وأما نشأة الزجل فقال ابن خلدون عنه« :إنه لما شاع ف ُّ
ن
التوشيح فى أهل الَنْدَلُس ,وأخذ به الجمهور لسلسته وتنميق
كلمه وترصيع أجزائه ،نسجت العامة من أهل المصار على
منواله ،ونظموا فى طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا
فيها إعرابًا ،واستحدثوا فنًا سموه بالزجل ،والتزموا النَّظْم فيه
على مناحيهم إلى هذا العهد ،فجاءوا فيه بالغرائب ,واتسع فيه
للبلغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة»(.)2
ويعتبر أبو بكر بن قزمان القرطبى أول من ابتكر الزجل.
ومن أشهر أزجاله ما كان فى مدح القاضى أحمد بن الحاج
قوله:
وصل المظلوم لحق وانتصف غنى ومسكين يحضر النكار
والقرار ويقع الفصل فالحين اجتمع فيه الثلثة الورع والعلم
والدين فيزول الحق إذا زال ويدوم الحق
إذا دام(.)3
هذه نبذة مختصرة عن بعض فنون الدب التى ازدهرت
ل دولة المرابطين.وترعرعت فى ظ ِّ
***
187
المبحث الثالث
من مشاهير علماء دولة المرابطين
كانت دولة المرابطين مبنية على أسس شرعية ولذلك اهتمت
بالعلماء والفقهاء الذين ل دوام لدولة تريد أن تحكم بشرع الله
حدِّثون والفقهاء ،نذكر منهم:
م َ
بدونهم ,ولذلك كثر ال ُ
أولً :أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد (ت 5 2 0هـ).
هو المام العلمة شيخ المالكية ،قاضى الجماعة بقرطبة أبو
الوليد.
أ -شيوخه:
من أشهر شيوخه الذين تتلمذ عليهم أبو جعفر أحمد بن رزق، ِ
مد بن فرج َ ح ّ
م َ
مد بن خيرة ،و ُ َ ح ّ
م َ
وأبو مروان بن سراج ،و ُ
الطلعي ،والحافظ أبو علي ,وأبو العبَّاس بن دلهات.
ما ،حافظًا للفقه مقد ً
ما قال ابن بشكوال فيه« :كان فقيهًا عال ً
فيه على جميع أهل عصره ،عارفًا بالفتوى ،بصيًرا بأقوال أئمة
المالكية ،نافذ ًا فى علم الفرائض والصول ،من أهل الرياسة فى
العلم ،والبراعة والفهم ،مع الدين والفضل ،والوقار والحلم،
والسمت الحسن ،والهدى الصالح ،ومن تصانيفه كتاب
«المقدمات» لوائل كتب المدونة ،وكتاب «البيان والتحصيل لما
من التوجيه والتعليل» ،واختصار «المبسوطة»، فى المستخرجة ِ
واختصار «مشكل الثار» للطحاوي ،سمعنا عليه بعضها ،وسار فى
القضاء بأحسن سيرة وأقوم طريقة ،ثم استعفى منه ،فأعفي،
ونشر كتبه ،وكان النَّاس يُعوِّلون عليه ويلجأون إليه ،وكان حسن
الخلق ،سهل اللقاء ،كثير النفع لخاصته جميل العشرة لهم ،باًرا
بهم»(.)1
ب -ومن أشهر فتاوى ابن رشد الجد ما أفتاه فى شأن
من النصارى فى بلد الَنْدَلُس بإبعادهم وتغريبهم المعاهدين ِ
لغدرهم بالمسلمين ومساعدتهم للفونسو المحارب( ،)2عاش هذا
ما ,ومات فى ذى القعدة سنة عشرين العالم الجليل سبعين عا ً
وخمسمائة ،وصلى عليه ابنه أبو القاسم ،وروى عنه أبو الوليد بن
الدباغ فقال« :كان أفقه أهل الَنْدَلُس ،وصنَّف شرح العتبية ،فبلغ
فيه الغاية»(.)3
188
ثانيًا :الشهيد القاضى الفقيه أبو على الصدفي:
ح َّ
مد بن م َ
حدِّث الحسين بن ُ
م َ
هو العالم الفقيه القاضى ال ُ
سكرة.
ُ
أ -شيوخه:
جمد بن سعدون القروي ،وح َّ ح َّ
م َروى عن أبى الوليد الباجي ،و ُ
سنة إحدى وثمانين ،ودخل مصر على أبى إسحاق الحبال ،وقد
من التحديث. منعه المستنصر العبيدى الرافضى ِ
قال :فأول ما فاتحته الكلم أجابنى على غير سؤالي ،حذًرا أن
سا عليه ،حتى بسطته وأعلمتُه أنَّنى من أهل الَنْدَلُس أكون مدسو ً
ً
أريد الحج ،فأجاز لى لفظا ،وامتنع من
غير ذلك.
مد بن الفضل ح َّ
م َ
رحل للعراق ،فسمع بالبصرة من جعفر بن ُ
العباداني ،وعبد الملك ابن شغبة ،وبالنبار :الخطيب أبا الحسن
مد القطع ،وببغداد :على ابن الحسن بن ح َّ
م َ
مد بن ُ ح َّ م َ
على بن ُ
قُريش بن الحسن صاحب ابن الصلت الهوازي ،وعاصم بن
الحسن الديب ،وأبا عبد الله الحميدي.
وتفقَّه ببغداد على أبى بكر الشاشي ،وأخذ بالشام عن الفقيه
نصر المقدسي ،ورجع إلى بلده فى سنة تسعين بعلم كثير،
مرسية ،وجلس للسماع بجامعها. وأسانيد شاهقة ،واستوطن ُ
ما بالحديث وطرقه ,عارفًا بعلله ورحل النَّاس إليه ،وكان عال ً
ط ،جيد الضبط ،كثير ّ ورجاله ،بصيًرا بالجرح والتعديل ،مليح الخ ِ
الكتابة ،حافظًا لمصنفات الحديث ,ذاكًرا لمتونها وأسانيدها ،وكان
ما على «الصحيحين» مع «جامع» أبى عيسى الترمذي ،ولى قائ ً
سي ّة ،ثم استعفى منه فأعفي ،وأقبل على نشر العلم َ مر ِقضاء ُ
ما متواضعًا ،وخَّرج ً
حا ديِّنا ،عامل بعلمه ،حلي ً وتأليفه ،وكان صال ً
خا ،وأنَّه
ً شي وستين مائة عن أخذ أنه وذكر شيوخه, القاضى عياض
َ
من الصالحين والفضلء ,وأن ّه أكره على خا ِ
جالس نحو أربعين شي ً
القضاء فوليه ،ثم اختفى حتى أعفى منه.
وتصدَّر فى زمن على بن يوسف فى نشر الكتاب والسنة فى
مرسية بالَنْدَلُس ,وتوافد عليه الطلب من كل حدب وصوب
لينهلوا من علمه الجم الغزير ,ونفع الله به المسلمين فى تلك
القطار.
ب -وفاته:
استشهد أبو على الصدفى فى وقعة قُتُنْدَة بثغر الَنْدَلُس،
189
من أبناء الستين ،وكانت هذه لست بقين من ربيع الول ،وهو ِ
الوقعة على المسلمين ,وكان عيش أبى على من كسب بضاعة
مع ثقات إخوانه(.)1
انظر رحمك الله إلى هذا الطوَّد الشامخ ،والجبل الراسخ،
والبحر الزاخر فى حبه لطلب العلم ونشره ،والدعوة إلى دينه
رباط ،وحرصه على أكل الحلل، والدفاع عنه ،وحبه للجهاد وال ّ ِ
والتحرى فى لقمة العيش ،والستعلء على الدنيا وزخارفها
الكاذبة ،ويا تَُرى كم نفس أحياها خبر استشهاد هذا العالم الفقيه
الزاهد ،وكان – رحمه الله – يتذوَّق الشعر الذى فيه الذَّود عن
سنة سي ِّد المرسلين ,ويكتبه لتلميذه ,منه ما قال أبو عبد الله
مد بن على الصورى لنفسه: ح َّ
م َ
ُ
عائبًا أهله ومن يدعيه قل لمن أنكر الحديث
وأضحى
خلقُُ ُ
أم بجهل فالجهل ُ أبعلم تقول هذا؟ أين لي
السفيه
من الترهات والتمويه؟ أيُعاب الذين هم حفظوا
الدِّين
()2
ل عالم وفقيهراجعٌ ك ُّ وإلى قولهم وما قد َروَوْه
ثالثًا :القاضى الفقيه أبو بكر بن العربي:
من أعظم فقهاء الَنْدَلُس فى عصر المرابطين ،هو القاضى
مد المعافرى الَنْدَلُسي،
ح َّ
م َ ح َّ
مد بن عبد الله ابن ُ م َ
أبو بكر ُ
الشبيلي ,المام العلمة ،المتبحر فى العلوم.
ولد عام 468هـ1076/م وتأدَّب ببلده ،وقرأ القراءات ،ثم
رحل إلى مصر ،والشام وبغداد ومكة وكان يأخذ عن علماء أى بلد
يرحل إليه حتى أتقن الفقه ،والصول وقيد الحديث ،واتسع فى
الرواية ،وأتقن مسائل الخلف ،وتبحر فى التفسير ،وبرع فى
الدب والشعر ،وعاد إلى بلده إشبيلية بعلم كثير ،لم يأت به أحد
من كانت له رحلة إلى المشرق(.)3 م َّ
قبله ِ
أ -مكانته العلمية:
قال الشيخ صديق حسن خان عن ابن العربي« :إمام فى
الصول والفروع ،سمع ودرس الفقه والصول ,وجلس للوعظ
والتفسير ،وصنَّف فى غير ف ٍ ّ
ن ،والتزم المر بالمعروف والنهى عن
190
المنكر حتى أُوذى فى ذلك بذهاب كتبه وماله؛ فأحسن الصبر على
ذلك كله»(.)1
من أخذوا عنه« :استقضى م َّ
قال عنه القاضى عياض ,وهو ِ
ببلده فنفع الله به أهلها لصرامته ،وشدة نفوذ أحكامه ،وكانت له
فى الظالمين سورة مرهوبة ،وتؤثر عنه فى قضائه أحكام غريبة،
ثم صرف عن القضاء ،وأقبل على نشر العلم وبثه»(.)2
مد المقري« :علم العلم ،الطاهر ح َّ
م َ
قال عنه الشيخ أحمد بن ُ
الثواب ،الباهر البواب ،الذى أنسى ذكاء إياس ،وترك التقليد
من
من الصل ،وغدا فى السلم أمضى ِ للقياس ،وأنتج الفرع ِ
النصل»(.)3
ب -مؤلفاته:
للمام القاضى أبى بكر بن العربى مؤلفات كثيرة لم يصلنا
ث ماأغلبها ،وقد قضى أربعين سنة فى الملء والتدريس ،وفى ب ِّ
من العلوم ،وصنَّف -رحمه الله -فى فنون متعددة منها: ح َّ
صله ِ
علوم القرآن ,والحديث ،و«مشكل القرآن والحديث» ،وأصول
الدين ،وكتب الزهد ،وأصول الفقه ،وكتب الفقه ،والجدال
من أشهر المؤلفات التى انتفع والخلف ،واللغة والنحو والتاريخ ،و ِ
من القواصم»« ،عارضة الحوذى فى بها المسلمون «العواصم ِ
شرح الترمذي»« ،أحكام القرآن»« ،القبس فى شرح موطأ ابن
أنس»« ،المسالك على موطأ مالك»« ,النصاف فى مسائل
الخلف»« ،أعيان العيان»« ،المحصول فى أصول الفقه»،
«قانون التأويل»(.)4
كان المام ابن العربى يصول ويجول بفقهه فى بلد الَنْدَلُس
ينور طرق الظلم بعلمه ،ويقضى على الشبهات بحججه ،ويدمغ
البدع المنتشرة بصبره وحلمه ودعوته ،وكان من أعمدة دولة
المرابطين فى نشر الكتاب والسنة وتفقيه النَّاس وتربيتهم على
مبادئ السلم وأخلق اليمان ودرجات الحسان.
جلها فى كتبه وانتفع بها طلب العلم من وله فوائد علمية س َّ
بعده منها:
-1قوله :قال علماء الحديث :ما من رجل يطلب الحديث إل
كان على وجهه نضرة ،لقوله ׫ :نضر ال أمرأ سع مقالت فوعاها فأداها كما
من القواصم.
انظر :ترجمته فى كتاب العواصم ِ () 4
191
سعها.»..
قال :وهذا دعاء منه × لحملة علمه ,لبد بفضل الله تعالى من
نيل بركته.
-2ومنه قوله :كنت بمكة فى سنة 489هـ وكنت أشرب من
َ
ماء زمزم كثيًرا ،وكل ّما شربته نويت العلم واليمان ،فنويت العلم
من واليمان ،ففتح الله لى ببركته فى المقدار الذى ي َّ
سره لى ِ
العلم ،ونسيت أن أشرب للعمل ،ويا ليتنى شربته لهما حتى يفتح
الله لى فيهما ،ولم يقدر فكان صفوى للعلم أكثر منه للعمل(.)1
وفاته:
أتاه أجله «بمغلية» قرب مدينة «فاس» فى ربيع الول سنة
543هـ ،ودفن فى فاس خارج باب المحروف على مسيرة يوم
من فاس غربًا منها(.)2
راب ًعا :القاضى الفقيه عياض:
هو القاضى أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو
بن موسى اليحصبى السبتي ،كان إمام وقته فى الحديث وعلومه
والنحو واللغة وكلم العرب وأيامهم وأنسابهم ،وصنف التصانيف
المفيدة ،ولد فى سبتة فى عام 476هـ ،وتتلمذ على شيوخها ومن
أشهرهم :القاضى أبو عبد الله بن عيسى ،والخطيب أبو القاسم,
والفقيه إسحاق بن الفاسي ،وإبراهيم بن جعفر اللواتي ،وإبراهيم
بن أحمد القيسي ،وأبو بكر القاسم بن عبد الرحمن الكومى
وغيرهم الكثير(.)3
أ -رحلته إلى الندلس:
كان خروجه للَنْدَلُس من بيته يوم الثلثاء منتصف جمادى
من الولى سنة 507هـ ،وكان عمره إذ ذاك واحدًا وثلثين عا ً
ما ،و ِ
مد عبد ح َّم َأشهر شيوخه الذين تتلمذ عليهم فى قرطبة أبو ُ
مد المشهور بابن عتاب القرطبي ,وقاضى الجماعة ح َّ
م َ
الرحمن بن ُ
أبو
عبد الله بن الحاج ،والفقيه أبو جعفر بن رزق ،وأبو مروان عبد
ح َّ
مد عبد الله م َالملك بن سراج ،وأبوَ الوليد بن رشد الجد ،وأبو ُ
بن أحمد بن سعيد النْدَلُسى الشبيلى وأبو علي الصدفي.
صل على علوم غزيرة وتصدَّر للتعليم والتدريس ،وعُين فى وتح َّ
من القواصم ،ص (.)16() انظر :العواصم ِ 1
192
القضاء ،ونبغ فيه ,واشتهر بعلمه وعبادته وعدله وجوده ،وكانت
م فىمؤلفات القاضى عياض أكثرها فى الحديث الشريف ،ث ُ َّ
التاريخ والطبقات ثم فى الفقه ،ثم فى القرآن(.)4
ب -مؤلفاته:
«-1الشفا بتعريف حقوق المصطفى» ،موضوعه فى
السيرة النبوية والعقيدة والصول والتفسير
والحديث.
«-2مشارق النوار على صحيح الثار» وموضوعه
تفسير غريب الحديث فى الصحاح الثلثة« :موطأ
مالك» و «صحيحى البخارى ومسلم» ،فضبط
أسماء الرجال واللفاظ ,ونبَّه على مواضع الوهام
والتصحيفات.
وفى هذا الكتاب قال الشاعر:
ومن عجب كون مشارق أنوار تبدَّت بســـــبتة
المشارق بالمغرب
فأجابه آخر بقوله:
وإل فل فضل لتُرب وما شرف الوطان إل رجالها
على تُرب
-3كتاب «الكمال» ،أكمل به كتاب «المعلم بفوائد
كتاب مسلم» لشيخه المازرى الفقيه المالكى
دّث المتوفى سنة 536هـ.ح ِ
م َ
ال ُ
-4كتاب «منهاج العوارف إلى روح المعارف» وهو فى
شرح مشكل الحديث.
-5كتاب «اللماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد
السماع» فى مصطلح الحديث.
-6كتاب «بغية الرائد فيما فى حديث أم زرع ِ
من
الفوائد».
-7كتاب «التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة»
فى الفقه وجمع فى هذه الكتاب فوائد وغرائب.
-8كتاب «العلم بحدود قواعد السلم» فى العقيدة.
193
-9كتاب «الخطب» يحتوى على خمسين خطبة من
خطب الجمع.
-10كتاب «جامع التاريخ» فى التاريخ والطبقات.
-11كتاب «تاريخ سبتة» وهو مسودة.
«-12ترتيب المدارك وتقريب المسالك فى معرفة
أعلم مذهب المام مالك».
«-13الغنية» وذكر فيه شيوخه وترجم لهم.
«-14المقاصد الحسان فيما يلزم النسان».
«-15غنية الكتاب وبغية الطالب» ،فى الدب والنشاء،
من المخطوطات والكتب التى تدل على وغيرها ِ
سمو منزلته وسلمة منهجه.
عدَِة منها :القضاء والفقه لقد برع القاضى عياض فى أمور ِ
والحديث واللغة والدب ،وكان شاعًرا مجيدًا ,وله موهبة رائعة تدل
على قدرته على نظم الشعر ،ومن أروع ما قاله القاضى عياض
من القصائد تلك التى أنشدها وهو يودِّع قرطبة فى عام 508هـ، ِ
َّ َ
ت له صلت بأهلها بعد أن تلقّى العلم فيها من شيوخها ،وتوطد ْ
ومودة وصداقة وأخوة أكيدة ،فقال مودعًا المدينة الَنْدَلُسية ذات
التاريخ العريق:
مت للفراقحداتى َوُز َُّ أقول وقد جد َّ ارتحالى
ركائبي وغَّردت
وصارت هواء من فؤاد وقد غمضت من كثرة
ترائبي الدمع مقلتي
وداعى للحباب ل للحبائب ولم تبقَ إل وقفة يستحثها
194
كل ذى مكانة وفضل وجاه:
غراءَ جامعة السروْر ن بليلةٍ
ح الزما ُ
م َ
س َ
َ
قَط َ
ف المانى والحبور جناتِها ت أك ُّ
ف ُ أجن ْ
فيما تقدم من دهور ن ختامها ما ف َّ
ض طي ُ
بمثل أشباه البدور دارت على فلك السعود
حاز إرثًا عن أمير ما إن ترى إل أميًرا
وثَوَوْا بها عوض السرير تَخذ ُوا القلوب أسرة
وإن تُدووِلَت المور
()1
فعليهم وقف العلءُ
م المير على بن يوسف بالقاضى عياض لما كان شابا لقد اهت َّ
وظهر ذكاؤه وانتشر صيته ،فأكرمته دولة المرابطين ,وهيأت له
من التحصيل والتفقه فى الدين. الجواء للمزيد ِ
وكان القاضى عياض ل يحب كثرة السفار والرتحال ،ويلحظ
المتتبع لسيرته وحياته أنه كان قليل الرتحال بالقياس إلى
حدِّثين ،وكانت له
م َ
من العلماء والفقهاء وال ُمعاصريه وأترابه ِ
نظرية عجيبة فى ذم السفر وبيان أضراره وعيوبه نظمه فى
من العلماء فى نظرته المتفردة وإليك البيات الشعر ،وخالفه كثير ِ
التى ذكرها فى ذم السفر:
نجاةً ففى السفار سبعُ تقعَّد عن السفار إن كنت
عوائق طالبًا
سكنى ُ صاح يا وأعظمها ة
ٍ أحب ُ د وفق ن
ٍ إخوا ف
تشو ُ
الفنادق
ة سارقل وخيف ُ
ٍ أموا وتبذيُر س
ة مؤن ٍ
ش وقل ُ
وكثرةُ إيحا ٍ
وأعقبه دهر شديد ُ المضايق فقد كان ذا دهًرا تقادم
عهده
()2
الحقائق فهذه مقالى والسلم كما
بدا
وهذه فلسفة غريبة فى السفار أخالف القاضى عياض – رحمه
الله – فيها ،إل أنَّنى أقول إن النسان فى أسفاره العلمية أو
التجارية عندما يقضى مآربه عليه أن ينتقل إلى غيرها ,حتى يحقق
() المصدر السابق ،ص (.)149 1
() انظر :النبوغ المغربي ،عبد الله كنون( ،ج .)3/131 2
195
ما مفيدًا لهله وشعبه,
ما سال ً
أهدافه ويرجع إلى وطنه وقومه غان ً
وقد ذكر العلماء فى السفار فوائد فقال الشافعى رحمه الله:
س
وسافر ففى السفار خم ُ تغرَّب عن الوطان فى
فوائد طلب العلى
()1
ماجدٍ ة
ب معيش ٍ
م ِ واكتسا ُ
تفرج ه ّ
ضا:
وقال المام الشافعى فى الغتراب أي ً
من راحةٍ فَدَِع الوطان ل وذىما فى المقام لذى عَق ِ
بواغتر ِ ب
أد ِ
وانصب فإن لذيد َ العيش ضا عمن تفارقهً عو تجد سافر
فى النصب
يجر
ِ لم وإن طاب إن ساح إنِّ ى رأيت وقوف الماء
ب
لم يط ِ يفسده
س
ِ القو ُ ق راِ ف لول م
والسه ُ والسد ُ لول فراقُ الرض ما
لم يُصب افترست
()2
عرب س لو وقفت فىوالشم ُ
الفلك دائمة
م َّ
من عاصر القاضى عياض العلمة الشيخ يعلى أبو جبل, وكان ِ
وكان له رأى يخالف رأى القاضى عياض فى السفر نظمه فى
هذه البيات:
فَُر َّ
ب فائدةٍ تُلقى مع السفر سافر لتكسب فى السفار
فائدة
حا ولو كنت بين الظل
نص ً ب به
ول تُقم بمكان ل تُصي ُ
والشجر
()3
الخضر فإن «موسى» كليم الله
ه
أعوز ُ
ومن شعره فى الشواق ما نظمه من أبيات واصفًا فيها شوقه
وحنينه لزيارة المدينة المنورة فقال:
196
ت خ َّ
ص باليا ِ هدى النام و ُ يا دار خير المرسلين ومَن
به
وتشوقٌ متوقد ُ الجمرات عندى لجلك لوعة وصابة
وله أبيات يصف فيها نفسه وشوقه إلى وطنه قالها فى مدينة
«داي» ببلد المغرب سنة 541هـ ،وكان قد ناهز الخامسة
ما على البقاء فيها ممنوعًا للرجوع من العمر ،وكان مرغ ً والستين ِ
حدِين. موَ ِّ
ُ ال دولة زمن فى إلى بلده
يعلم الله وأنا أمر على هذه البيات التى فجرت الحزان فى
نفسي ،وألهبت مشاعرى وهيجت الشواق إلى مدينتى «بنغازي»
ومنطقتى «الحدائق» ،وذكرتنى ببلدى العزيزة ليبيا ما تملكت
دموع الشوق إلى مسقط رأسى الذى طالت مدة غيابى عليه أكثر
ما نصفها مسجونًا فى بلدي ,والنصف الخر من أربعة عشر عا ً
قضيتها متنقل ً بين البلدان ،ولم تكن تهمتى التى كلفتنى هذه
العقوبة القاسية التى أحتسبها عند الله إل أن رضيت بالله ربا
مد نبيًا ورسول ً ×. ح َّم َ
وبالسلم دينًا وب ُ
إن أبيات القاضى عياض فى غربته أضفت على وأنا أترجم
سا بالحنين إلىمن السى ,وإحسا ً من الحزن ,ولوعة ِ حياته مسحة ِ
أهلى ووطني ،وأحبتى وإخواني ،فقال القاضى – رحمه الله – وهو
يحاور حمامة مَّرت به:
197
أخا شجى بالنوح أو بغناء أقمرية الدواح بالله
حىطار ِ
تهيج من شوقى ومن فقد أرقتنى من هديلك رنة
بُرحائي
ت
غريب «بداي» قد بُلي َ م فإنني
لعلك مثلى يا حما ُ
بداءِ
خرق بعيد الخافقين قواءِ و َ فكم من فلةٍ بين «داي» و
«سبتة»
كما ض ْعضعتنى زفزةُ ٌ ق خواف للرياح فيه تصفقُ
الصعداء
ت
ت يوم بن ُدموع ًا أريق ْ يذكرنى س ُّ
ح المياه بأرضها
ورائي
خمائل أشجارِ ترف لِرائي َ ويعجبنى فى سهلها وحزنها
()1
تنائي لع َّ
ل الذى كان التفرُّق
ه
حكم ُ
جـ -عياض والقضاء:
م ما أراد من علوم رجع القاضى عياض إلى سبتة بعد أن أت َّ
الَنْدَلُس ,وكان دخوله لمدينته الحبيبة إلى نفسه عام (508هـ)،
وفرح أهل سبتة بابنهم البار ،وتصدَّر للتعليم والتدريس بعد أن
امتحنه علماء مدينة سبتة فى الفقه المالكي ،وأصبح من أهل
مجلس الشورى ،وكان حينئذ فى الثانية والثلثين من عمره أو
يزيد قليلً ،وكانت تلك المرحلة سببًا فى إعداده ليتسنم سدة
القضاة الشريفة الرفيعة فى سبتة(.)2
ولما كان عياض فى التاسعة والثلثين من عمره تولى القضاء،
ل متربعًا على كرسى القضاء فى بلده وكان ذلك عام 515هـ ،وظ َّ
سبتة ستة عشر عاًما ،فسار فيها أحسن سيرة ,وكان محمود
الطريقة مشكور الحالة ،أقام جميع الحدود على ضروبها واختلف
أنواعها ،وبنى الزيادة الغربية فى جامع سبتة التى كمل بها جماله
وترك فى بلده آثاًرا محمودة(.)3
ويبدو أن بعض المراء لم يعجبهم حزم وعدالة القاضى عياض،
كما خافوا من كثرة أتباعه وانتشار صيته ومحبة النَّاس له ،فلذلك
عزموا على نقله إلى غرناطة ,ولم يذكروا سببًا مقنعًا ،مما جعل
ضا فىالفقيه أبا الحسن بن هارون المالقى يمدح القاضى عيا ً
أبيات سجلتها ذاكرة التاريخ:
( )2المصدر السابق نفسه ,ص ( () انظر :المغرب والندلس ,ص (.)150 1
.)150 2
198
م بين العالمينوالظل ُ حل ُ ُ
م ضا وهو ي َ ْ
ظلموا عيا ً
م
قدي ُ عنهم
كى يكتموه فإنَّه معلوم ن الرا ِء عينًا جعلوا مكا َ
فى اسمه
()1
معدوم حت بطائ ُ لوله ما فاح ْ
سبتة
وانتقل القاضى عياض إلى غرناطة ممتثل ً لمر المير فه َّ
ب
أهل غرناطة لستقباله كما يستقبل الفاتحون ،وبالله إنه لحق فاتح
خلُقه
للعقول ,ومنور للقلوب ,ومطهر للنفوس بعلمه الغزير ،و ُ
المتواضع وسيرته العطرة.
وسار فى النَّاس سيرة العدل ،ورفع الظلم ،وإحقاق الحقوق
من تعَّرضت دون خوف من أمير أو وزير ،ونشط وضاق به ذرعًا َ
مصالحه للخطر ،ول يستطيع الحصول عليها إل بالظلم ،وأسفرت
مكايد الشرار فى غرناطة عن عزل القاضى النزيه فى عام
532هـ ,ورجع إلى بلده ليكون بعيدًا عن القضاء قريبًا لطلب
العلم وحلقاته ,وقصده النَّاس وانتفع به العباد ,ونشر نور الكتاب
والسنة فى البلد ،واستمَّر على تلك الحالة الدعوية سبع سنين،
وفى أواخر دولة المرابطين عام 539هـ دعى ليتولَّى قضاء سبتة
خا جليلًمن جديد ،وهو فى الثالثة والستين من عمره ،وكان شي ً
ما ،فابتهج النَّاس لعودته, ما ,وأبًا رحي ًما ،وقاضيًا حكي ً ما عظي ًوعال ً
وسار فيهم سابق سيرته ،وما مضت شهور قليلة حتى سقطت
حدِين البدعية فاضطَّر القاضى موَ ِّ
دولة المرابطين على يد دولة ال ُ
()2
الجليل إلى خوض الحياة السياسية والحربية .
د -معارك السياسة والحرب:
ح َّ
مد بن م َ
حدِين على يد المبتدع الكبير ُ موَ ِّ
إن ظهور دولة ال ُ
تومرت كانت من أسباب سقوط دولة المرابطين ،فطبيعى جدًّا
وتولى قيادة جيوش َّ حدِين،مو ِّ
أن يخوض حربًا ضد دولة ال ُ َ
حدِين عبد المؤمن بن على الذى استطاع بجيشه أن يحتل موَ ِّال ُ
مدن المغرب مثل فاس ومراكش وغيرهما.
ورأى القاضى عياض أن المصلحة العليا لمدينة سبتة وأهلها أن
يبايع عبد المؤمن حفاظًا على العراض والموال ،وتجنيب المدينة
حدِين تلك البيعة الضطرارية، موَ ِّ
من الدمار الشامل ,وقبل أمير ال ُ ِ
حدِين حتى استجاب موَ ِّ
ُ ال على بثورته هود بن َ
مد ح
َ
ُ ّم قام أن وما
أهل سبتة لذلك بزعامة القاضى عياض ،وقام السبتيون بقتل
حدِين وأصحابه ،وسار القاضى عياض إلى يحيى بن موَ ِّ
عامل ال ُ
() انظر :المغرب والندلس ،ص (.)162 1
199
على المسوفى المعروف بابن غانية فى قرطبة وبايعه ،وكان
متمسكًا بدعوة المرابطين ,وطلب منه أن يُعي ِّن واليًا على سبتة
فبعث معه يحيى بن أبى بكر الصحراوى ،وأصبحت بذلك مدينة
حدِين ,وعادت إلى حكم المرابطين. موَ ِّ سبتة خارجة عن دولة ال ُ
حدِين استطاعت إخضاع مدينة سبتة وأهلها, موَ ِّ إل إن جيوش ال ُ
حدِين الذين قبلوا ذلك ,واشترطوا مو ِّ
وأعادوا البيعة من جديد لل ُ َ
إبعاد القاضى عياض عن مدينته إلى مراكش ،وقيل تدل ,إلى أن
توفاه الله تعالى.
ما مع عقيدته وعلمه إن موقف القاضى عياض كان منسج ً
حدِين الذين اعتقدوا عصمة إمامهم موَ ِّ
ودعوته فى محاربته لل ُ
صلهاِّ سنف التى البدعية العقائد من ِ ذلك مد بن تومرت ،وغير ح َّ
م َ
ُ
مو ِّ
حدِين. ُ َ ال عن كلمنا عند تعالى الله بإذن
َ
إن القاضى عياض ليس من أهل السنة وحسب ،ولكن ّه فقيه
أهل السنة آنذاك على الطلق ،وهو كذلك يرى وجوب الوقوف
ُ
أمام دعوة ابن تومرت ،وينبغى التخل ّص منها حتى حانت أول
فرصة ،وإن يكن قد بايع فالبيعة آنذاك كانت حفاظًا على سلمة
بلدته وأهلها ،أما وقد لحت الفرصة بخروج بعض المدن على
حدِين القائم على بدعة المامة المعصومة ،أما وقد موَ ِّ
سلطان ال ُ
من العقل الستسلم ثم جرت الريح بما ل تشتهى السفن؛ فإن ِ
المبايعة وله حكم المضطّرِ فى ذلك.
حدِين عبد المؤمن كان على مقدرة عجيبة ِمن موَ ِّ
وإن سلطان ال ُ
الدهاء والمكر ،ولذلك رأى لمصلحة دولته أن يضع الفقهاء والعلماء
الذين يشك فى ولئهم له فى مراكش ،ومنعهم ِمن العودة إلى
بلدهم ،أو يضعهم فى مدن أخرى ليخدموا مخططات الدولة
الناشئة(.)1
هـ -وفاة القاضى عياض:
توفى رحمه الله فى منفاه بعيدًا عن وطنه فى عام 544هـ
ودفن فى مراكش )2(،فعليه ِ
من الله الرحمة والمغفرة والرضوان
على ما قدَّمه للسلم.
هؤلء بعض العلماء الذين كان لهم سبق ومكانة فى دولة
المرابطين ,وانتفع النَّاس بعلمهم وفقههم ،ترجمت لهم ترجمة
من العلماء
متواضعة ,كما برز فى علوم الفقه والحديث كثير ِ
دّثين فى عصر دولة المرابطين منهم :أبو الحسن ح ِ
م َ
وال ُ
على بن عبد الرحمن المعروف بابن أبى حقون وله مختصر
() سير أعلم النبلء( ،ج .)20/217 1
200
فى أصول الفقه سماه «بالمقتضب الشفى فى أصول
مد عبد الله بن على بن عبد الله ح َّ
م َ
المستصفى» ,ومنهم أبو ُ
بن خلف بن أحمد بن عمر اللخمي ،ويعرف بالرشاطي ،وكانت
له عناية بالحديث والرجال والرواة والتواريخ ،وله كتاب سماه
«اقتباس النوار ،والتماس الزهار فى أنساب الصحابة ورواة
مد بن حسين بن أحمد ح َّ
م َ
ضا أبو عبد الله بن ُالثار» ،ومنهم أي ً
مد النصاري ،وأبو جعفر أحمد بن عبد الصمد بن أبى ح َّ
م َ
بن ُ
مد الخزرجي ،وقد ألف كتابًا فى أحكام الرسول ح َّ م َعبيدة بن ُ
× سماه «آفاق الشموس وأعلق النفوس» ،وكتابًا آخر سماه
مد عبدح َّ
م َ «مقاطع الصلبان ومراتع رياض أهل اليمان» ،وأبو ُ
الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربى وله كتاب
يُسمى «بالوجيز فى التفسير» ,وكذلك برز فى عصر على بن
مد بن ح َّ
م َ
من الفقهاء وعلماء الحديث :أبو عبد الله ُ يوسف ِ
حسين بن أحمد النصارى المعروف بابن أبى أحد عشر ،وأبو
مد بن أحمد بن سعيد بن يربوع بن سليمان ،وأبو ح َّم َ
عبد الله ُ
الوليد يوسف بن عبد العزيز بن يوسف بن عمر المعروف بابن
الدباغ ،وأبو عبد الله
مد بن أحمد بن خلف بن إبراهيم التجيبى المعروف بابن ح َّ
م َ
ُ
الحاج قاضى
الجماعة بقرطبة.
***
201
المبحث الرابع
علوم اللغة فى زمن المرابطين
منونبغ فى علوم اللغة فى عصر على بن يوسف عدد كبير ِ
مد ,عبد ح َّ
م َ
العلماء المبرزين فى النحو وعلوم اللغة نذكر منهم :أبا ُ
مد بن السيِّد البطليوسى النحوى ت 521هـ ،وكان ح َّ
م َ
الله بن ُ
َ
ما متبحًرا فى النحو وعلوم اللغة ،وكان الن ّاس حجة فى علمه عال ً
يجتمعون إليه ويقرأون عليه ،ومن تواليفه كتاب «القتضاب فى
شرح أدب الكتاب» ,وكتاب «التنبيه على السباب الموجبة
َ
لختلف المة» ,وكتاب آخر فى شرح الموط ّأ ,بالضافة إلى ذلك
كان شاعًرا مطبوعًا فمن نظمه قوله:
وأوصاله تحت التراب أخو العلم حي خالد بعد موته
رميم
من الحياء وهو عديم
يظن ِ ش
وذو جهل ميت وهو ما ٍ
على الثرى
ومن أئمة اللغويين وأعلمهم فى عصر على بن يوسف ،أبو
الحسن على بن أحمد بن خلف النصارى النحوي ،وقد كان من
ما فى علم القراءات ،وأبو أهل المعرفة بالداب واللغة ،متقد ً
مد بن أحمد بن عبد الله َ ح ّم َ ح َّ
مد بن أحمد بن عبد الله بن ُ م َ
ُ
ما متبحًرا فى النحو،
ً عال وكان اللجاش، بابن المعروف النحوى
وأبو العبَّاس أحمد بن عبد الجليل ابن عبد الله المعروف
بالتدميرى ت 555هـ ،ومن تواليفه «نظم القرطين وضم أشعار
السقطين» وجمع فيه أشعار «الكامل» للمبرد و «النوادر» لبى
على البغدادي ،كما له كتاب «التوطئة فى العربية» وله شرح على
كتاب الفصيح لثعلب ،وله فى شرح أبيات جمل الزجاجى كتاب
سماه «شفاء الصدور» ،وكتاب «الفوائد والفرائد» ،ومنهم أبو
العبَّاس أحمد بن عبد العزيز بن هشام بن غزوان الفري ،وكان
من أهل المعرفة بالنحو واللغة والعروض ,وله أرجوزة مزدوجة
فى قراءة نافع وثانية فى قراءة ابن كثير ،ومن تواليفه كتاب
()1
«فوائد الفصاح عن شواهد اليضاح»
***
المبحث الخامس
علوم التاريخ والجغرافيا فى عصر المرابطين
() تاريخ المغرب والندلس ،ص (.)400- 398 1
202
ظهر فى عصر المرابطين عدد كبير من أعلم الرواية
والكتابة التاريخية نذكر فى مقدمتهم :أبو زكريا بن يحيى بن
يوسف النصارى الغرناطى المعروف بابن الصيرفى ،كان
من أعلم عصر على بن يوسف فى البلغة والدب والتاريخ،
كتب بغرناطة عن المير تاشفين بن على بن يوسف أيام أن
َ
كان واليًا على الَنْدَلُس ،وأل ّف فى تاريخ الَنْدَلُس فى العصر
المرابطى كتابًا سماه «النوار الجلية فى تاريخ الدولة
المرابطية» ،وكتابًا آخر سماه «قصص النباء وسياسة
الرؤساء» ,وهما مؤلفان لم يصل إلينا مع السف ،ولم يصل
إلينا من مؤلفاته الولى سوى شذور نقلها المتأخرون مثل
ابن الخطيب خاصة روايته عن غزوة ألفونسو المحارب
للَنْدَلُس سنة 519هـ1125/م ،وقد توفى ابن الصيرفى
ضا أبو الحسن على بن بغرناطة فى سنة 570هـ ،وهناك أي ً
بسام الشنترينى (ت 542هـ) صاحب كتاب «الذخيرة فى
محاسن أهل الجزيرة» ,وهذا الكتاب موسوعة أدبية تاريخية
يتضمن تراث القرن الخامس الهجرى /الحادي عشر
مد بن خلف بن الحسن بن ح َّم َ
الميلدي ،وأبو عبد الله ُ
إسماعيل الصدفي ،ويعرف بابن علقمة ,وهو من أهل مدينة
ماه «البيان الواضح فى الملم الفادح» بلنسية وله كتاب س َّ
وتوفى ابن علقمة عام 509هـ1114/م ،وأبو طالب عبد
الجبار عبد الله ابن أحمد بن أصبغ ،وله كتاب يسمى «عيون
مد بن أحمد بن ح َّ
م ََالمامة ونواظر السياسة» ،وأبو عامر ُ
ّ
عامر البلوى المعروف بالسالمي ،وقد ألف كتابًا فى التاريخ
ح َّ
مد م َسماه «درر القلئد وغرر الفوائد» ،وأبو نصر الفتح بن ُ
القيسى الشبيلي ،والمعروف بالفتح بن خاقان ،ومن
تواليفه كتاب «قلئد العقيان فى محاسن العيان» ،وكتاب
«مطمع النفس ومسرح التأنس» ,وكتاب «رواية المحاسن
وغاية المحاسن» ,وأبو القاسم خلف بن عبد الملك ويعرف
بابن بشكوال ،وكان من أعلم المؤرخين فى عصر
المرابطين ،وأشهر تواليفه كتابه المعروف «بالصلة» ،الذى
جعله تتمة لكتاب ابن الفرضى فى تاريخ علماء الَنْدَلُس،
ضا كتاب «الغوامض والمبهمات» فى اثنى ومن تواليفه أي ً
عشر جزءًا ،وكتاب «المحاسن والفضائل فى معرفة العلماء
الفاضل» فى واحد وعشرين جزءًا وقد توفى ابن بشكوال
فى رمضان 578هـ.
وفى مجال الجغرافية نبغ عدد من كبار جغرافى الَنْدَلُس
203
والمغرب فى عصر المرابطين نذكر منهم :الشريف أبو عبد الله
مد الدريسي ,صاحب كتاب «نزهة المشتاق فى اختراق ح َّ
م َ
ُ
َ َ ّ
الفاق» ،وقد ألف الدريسى لرجار الث ّانِى صاحب صقلية ،ولذا
يُعرف هذا الكتاب فى كتب الجغرافية العربية باسم الرجاري.
ومن جغرافيى عصر المرابطين عبد الله بن إبراهيم بن وزمر
الحجارى صاحب كتاب «المسهب فى غرائب المغرب» ،وقد اتخذ
سا لكتابهم المعروف باسم «المغرب فى حلى بنو سعيد كتابه أسا ً
المغرب»(.)1
***
204
المبحث السادس
علوم الطب فى عصر المرابطين
تقدمت العلوم الطبية والصيدلنية فى عصر المرابطين
ما يشهد له السماء والعلم التى تألقت فى حضارة تقد ً
الَنْدَلُس والمغرب ،وأشهرها ابن زهر وهو اسم طبيب
َ
من تركوا بصماتهم م َّ أنْدَلُسى من أعظم أطباء السلمِ ،
واضحة فى تاريخ الحضارة النسانية جمعاء ،وينتسب أبو
مروان عبد الملك بن زهر إلى أسرة أَنْدَلُسية لمعت فى
ميدان الطب والعلوم الطبيعية والكيميائية ,عميدها الكبر هو
مد بن مروان بن الزهر ح َّم َ
أبو مروان عبد الملك ابن الفقيه ُ
اليادى الشبيلي ،وكان والده الفقيه محمد بن مروان من
جلة الفقهاء المتميزين فى علم الحديث فى إشبيلية ،وقد
رحل أبو مروان فى شبابه إلى المشرق وسمع فى القيروان
ومصر ،وتتلمذ علىأيدى علماء المشرق فى الطب ،ورجع
إلى الَنْدَلُس ،وأصبح من أشهر علماء الطب فيها ,وتوفى
فى إشبيلية ،وورثه فى علم الطب ابنه أبو العلء الذى تبوأ
مكانة عظيمة فى دولة المرابطين ،ومن تواليفه «الخواص»
وكتابه «الدوية المفردة» وكتاب «اليضاح بشواهد
الفتضاح» فى الرد على ابن رضوان فيما رده على حنين
بن إسحاق فى كتاب المدخل إلى «الطب» ،وكتاب «النكت
الطبية» ،وكتاب «الطرر» ومقالة فى تركيب الدوية،
وحمل إلى إشبيلية ُ وتوفى أبو العلء فى قرطبة 525هـ,
ودفن بها ،وأمر المير على بن يوسف بجمع كتبه ونسخها،
وتم ذلك عام 526هـ ,وورث ابنه أبو مروان من والده
صناعة علوم الطب ،ونبغ فى هذا المجال ،ولم يكن فى
من يماثله أو ينافسه ،وكان له حظوة لدى المراء زمانه َ
المرابطين ،فقد صنف للمير أبى إسحاق إبراهيم بن يوسف
بن تاشفين كتابًا سماه «القتصاد فى صلح الجساد» ،ومن
ضا كتاب «التيسير فى المداواة والتدبير» وقد ألفه تواليفه أي ً
القاضى أبو الوليد بن رشد وهذا الكتاب يُعد من أعظم
ضا كتاب
مراجع الطب فى العصور الوسطى ،وله أي ً
«الغذية» ،ومقالة فى علل الكلى ،ورسالة فى علتى
البرص والبهق ،وتوفى هذا العالم فى عام 557هـ فى
إشبيلية.
ومن الطباء الذين برعوا فى عصر على بن يوسف :أبو عامر
205
ح َّ
مد بن أحمد بن عامر البلوي ،وله فى الطب كتاب سماه م َ
ُ
«الشفا» ,وأبو الحسن على بن عبد الرحمن بن سعيد السعدى
وغيرهم.
ومما يؤكد اهتمام دولة المرابطين بالطب وجود منصب يعرف
برئيس الصناعة الطبية ,وهو منصب هام يقابل ما نطلق عليه
اليوم اسم وزير الصحة ،إذ كان فيما يبدو المسئول الول أمام
()1
من الدَويَة والعقاقير .
المير فى صناعة الطب ,وما يتعلق بها ِ
***
206
المبحث السابع
أسباب سقوط دولة المرابطين
-1ظهور روح الدعة والنغماس فى الملذَّات والشهوات عند
حكَّام المرابطين وأمرائهم فى أواخر عصر على بن ُ
يوسف ،وكان للمجتمع الَنْدَلُسى تأثير ل ينكر فى قادة
وأمراء وحكام دولة المرابطين الذين استجابوا لنزوات
شهواتهم وانغمسوا فى الحياة الدنيا ،فتحقَّق قول الله
تعالى ﴿:وَِإذَا أَ َردْنَا أَن ّن ْه ِلكَ َقرْيَ ًة َأ َمرْنَا مُ ْترَفِيهَا َففَسَقُوا فِيهَا َفحَ ّق َعلَ ْيهَا اْلقَ ْولُ
فَ َد ّمرْنَاهَا تَ ْد ِميًا﴾ [السراء.)1( ]16:
مة همل أ َّ
يقول سيِّد قطب رحمه الله« :والمترفون فى ك ِّ
طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ،ويجدون الخدم،
ويجدون الراحة ،فينعمون بالدعة والراحة ،وبالسيادة حتى تترهل
نفوسهم وتأسن ،وترتع فى الفسق والمجانة وتستهتر بالقيم
والمقدسات والكرامات ،وتلغ فى الرض والحرمات ،وهم إذا لم
ب على أيديهم عاثوا فى الرض فسادًا ،ونشروا ضرِ ُ
ن يَ ْ
م ْ
يجدوا َ
الفاحشة فى المة وأشاعوها ،وأرخصوا القيم العليا التى ل تعيش
م تتحلل المة وتسترخي ،وتفقد الشعوب إل بها ولها ،ومن ث َ َّ
حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوى صفحتها.»..
من انغمس فى الشهوات، والية تقرر سنة الله هذه فى إهلك َ
من القيم والخلق ولزم الفسق وأسرف فى الملذات ،وتحلل ِ
والنحلل والفساد.
-2ظهور السفور والختلط بين النساء والرجال ،وبدأت دولة
المرابطين فى آخر عهد المير على بن يوسف تفقد
طُهَرها وصفاءَها الذى اتصف به جيلهم الول ،مما جعل
الرعية المسلمة تتذمر من هذا النحراف والفساد،
مد بن تومرت الذى أظهر نفسه ح َّ
م َ
وتستجيب لدعوة ُ
للناس بالزاهد والنَّاسك والمر بالمعروف والناهى عن
المنكر.
-3انحراف نظام الحكم عن نظام الشورى إلى الوراثى الذى
سبب نزاعًا عنيفًا على منصب ولية العهد بين أولد على
من المراء إلى منصب بن يوسف ،كما تطلع مجموعة ِ
المير على ونازعوه فى سلطانه مما سبب تمزقًا داخليًا،
207
ففقدت الدولة المرابطية وحدتها الولى ،وكثرت الجيوب
الداخلية فى كيان الدولة ،وتفجرت ثورات عنيفة فى
قرطبة ،وفى فاس وغيرهما ساهمت فى إضعاف الوحدة
السياسية وإسقاط هيبة الدولة المرابطية.
-4الضيق الفكرى الذى أصاب فقهاء المرابطين وحجرهم
على أفكار النَّاس ,ومحاولة إلزامهم بفروع مذهب المام
مالك وحده ،وعملوا على منع بقية المذاهب السنية تعصبًا
لمذهبهم ،وكان لفقهاء المالكية نفوذ كبير مما جعلهم
يوسعون تعصبهم وتحجرهم الفكري.
ويرى بعض المؤرخين أن التعصب العمى عند فقهاء
المرابطين فى زمن المير على ابن يوسف كان السبب الول فى
سقوط دولة المرابطين( ،)1لقد أسهم فقهاء المالكية فى دولة
المرابطين بقسط وافر فى تذمر الرعايا ،وإضعاف شأن المارة،
لقد استغل بعض الفقهاء نفوذهم من أجل جمع المال وبناء الدور،
وامتلك الرض ،وعاشوا حياة البذخ والرفاهية المفرطة ،وكان
ذلك سببًا فى إيجاد ردة فعل عنيفة عند أفراد المجتمع المرابطي،
وانبرى الشعراء فى تصوير حال الفقهاء فى تلك الفترة ،فقال أبو
ح َّ
مد المعروف بابن البني: م َ
جعفر أحمد بن ُ
كالذئب أدلج فى الظلم أهل الرياء لبستم
العاتم ناموسكم
وقسمتم الموال بابن فملكتم الدنيا بمذهب
القاسم مالك
()2
العالم وركبتم شهب الدواب
بأشهب
-5ومن أهم العوامل التى أسقطت دولة المرابطين :فقدها
لكثير من قياداتها وعلمائها العظام أمثال سير بن أبى بكر،
ح َّ
مد بن الحاج، م َ ح َّ
مد ابن فاطمة ،و ُ م َ
مد بن مزدلي ،و ُح َّ
م َ
و ُ
وأبى إسحاق بن دانية ،وأبى بكر بن واسينو ..فمن لم
يستشهد من كبار رجال الدولة أدركه الموت الطبيعي ،ولم
يستطع ذلك الجيل أن يغرس المبادئ والقيم التى حملها
فى الجيل الذى بعده ،فاختلفت قدرات الجيل الذى بعدهم
واستعداداتهم ،وهذا درس مهم لبناء الحركات السلمية
فى أهمية توريث التجارب والخبرات المتنوعة والمتعددة
للجيال المتلحقة(.)3
() انظر :سقوط دولة الموحدين ,للدكتور مراجع الغناي ،ص (.)31 2
() انظر :سقوط دولة الموحدين ,للدكتور مراجع الغناي ،ص (.)31 3
208
-6ومن أهم العوامل التى أنهكت دولة المرابطين ،أنها مَّرت
بأزمة اقتصادية حادة ،نتيجة لنحباس المطر عدة سنوات،
وحلول الجفاف والقحط بالَنْدَلُس والمغرب ،وزاد من حدة
من الزمة القتصادية أن أسراب الجراد هاجمت ما بقى ِ
الخضر على وجه البلد مما هيأ الظروف لنتشار مختلف
من السكان ،ووقعت هذه الزمة فى الوبئة بين كثير ِ
الفترة الواقعة ما بين أعوام 524هـ530-م .
()1
209
** * * نتائج البحث
-1إن فى معظم قبائل العالم السلمى رجالً لهم عقول
راجحة وبعد نظر وتقدير للمور ،وفى أغلب الحيان
َ
يتولّ َى أمر القبيلة أرجح النَّاس عقل ً وأكثرهم جودًا،
وأعظمهم شجاعة ،وأخلصهم لهله وعشيرته ،وشخصية
المير يحيى بن إبراهيم الجدالى خير دليل على ما قلت،
من الدروس العميقة من هذا البحث هو أهمية ولذلك ِ
دور زعماء القبائل فى دعوة قبائلهم وعشائرهم ،وإيجاد
الحماية اللزمة للدعاة إلى الله فى أوساط القبائل،
فعلى الحركات السلمية العامة أن توثِّق علقتها مع
من المجتمع ،وتحرص على دعوتها هذه الشريحة ِ
للسلم لتنصهر فى الدعوة الربَّانية التى تبذل جهدها
لتحكيم شرع الله تعالى.
-2إن أبا عمران الفاسى العالم الربَّانى والفقيه المالكى
سيِّد الفقهاء فى القيروان فى زمانه يعتبر هو واضع
الخطوط العريضة لدولة المرابطين ،وكان – رحمه الله
– يميز بين العمل العلنى فى الدعوة وفقهها وتعليم
النَّاس ،وبين العمل السرى لقامة دولة سنية ،وكان
رحمه الله على اتصال بفقهاء أهل السنة فى مدن
وقرى الشمال الفريقي ،ولذلك لما تعرَّف أبو عمران
الفاسى على المير الصنهاجى يحيى بن إبراهيم ،وعلم
بأحوال قومه وحاجتهم لمنهج السلم ومن يربيهم على
ذلك ،اتصل بأخيه الشيخ وجاج بن زلوا اللمطى فقيه
حا يقيم
المالكية بالسوس القصى ،وكان فقيهًا صال ً
بمدينة ملكوس ،وأطلعه على المهمة التى جاء من أجلها
المير يحيى ،فاختار لهذه المهمة تلميذه الذكى الفقيه
العابد اللمعى عبد الله بن ياسين الجزولى صاحب
العلوم المتنوعة والشخصية الجذَّابة التى تجرى فى
دمائها صفات الدعاة المتعددة ،وسار -رحمه الله -وفق
خطة محكمة بصبر وحلم وشجاعة فى قبائل الملثمين.
-3كانت مرحلة التعريف التى نفَّذها المام عبد الله بن
ياسين فى قبائل جزولة ولمتونة وغيرهما من أصعب
المراحل ،وكادت تودى بحياته واستطاع أن يحارب
مظاهر الشرك والجهل فى مجتمع صنهاجة الصحراوي،
وأن يتحمل الكثير من أجل تعليمهم السلم وأركان
210
اليمان ومقامات الحسان.
-4وفى مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة اختار
المام عبد الله بن ياسين رباطه على مصبِّ نهر
السنغال بعيدًا عن نفوذ المراء وأصحاب الجاه
والموال ،وشكل نخبة صفوية ألزمها بلوائح تنظيمية
ومبادئ سلوكية ،واجتهد فى تربيتها وشكل منها مجلس
الشورى.
-5وفى مرحلة المغالبة بعد أن أصبحت للمام ابن ياسين
شوكة وقوة ومنعة ,استطاع أن يقضى على قوة الشر
فى قبائل لمتونة وجزولة وغيرها ،وأن يوحِّدَها على
منهج السلم وعقيدة الرحمن ودعوة اليمان.
-6كانت تربية عبد الله بن ياسين لتباعه رفيعة المستوى
غرست فى نفوسهم حب الشهادة ،والتلذُّذ بمتاعب
الجهاد والحرص على هداية النَّاس ,واختار لتباعه اسماً
يدل على الرابطة السامية التى ربطت هذه الجموع
التى كانت متناحرة وأصبحت متآخية متعاونة أل وهى
«المرابطون».
-7أصبح فقهاء المغرب القصى والحرار المتطلعون
لتحكيم شرع الله فى مدنهم يتصلون بالمرابطين،
ويطلبون منهم مساعدتهم لزالة الظُّلم الواقع عليهم
حكَّام زناتة ،وبالفعل لبى المرابطون هذا النداء,
من ُ
وتحركت جيوشهم القوية لزالة المظالم ونشر العدل،
والقضاء على دولة برغواطة الملحدة ،وعلى بقايا
الروافض ،وأصبحت جبهاتهم متعددة نحو السنغال
والنيجر ونحو فاس ومكناسة وطنجة ،وحققوا انتصارات
من الزنوج والوثنيين فى السلم. رفيعة ودخلت أمم ِ
-8استمرَّ المام ابن ياسين يقود معارك التوحيد للمغرب
القصى من أجل إقامة دولة سنية ،واستشهد فى تلك
المعارك بعد أن ترك خلفه رجال ً آمنوا بسمو دعوتهم
وقدسية فكرتهم وروعة أهدافهم.
َ
-9تول ّى قيادة المرابطين بعده المام أبو بكر بن عمر الذى
تميز بزهده وعبادته وبساطته وحبه للجهاد والستشهاد،
منوكان إذا ركب للجهاد ركب معه 500ألف مقاتل ِ
المرابطين ،فوضع هذا القائد الخطوة الولى لدولة
211
المرابطين ,وأناب ابن عمه يوسف ابن تاشفين على
المغرب ،وتحرَّك بجيش عظيم نحو الصحارى القاحلة
لنشر السلم فى النيجر والسنغال ومالي ،وأبلى بلءً
ما ,ودخلت أمم وشعوب وقبائل ل يحصيها إل عظي ً
خالقها فى دين الفطرة ودعوة السلم الخالدة ،ولما
رجع إلى ابن عمه المير يوسف بن تاشفين فى المغرب
وجده قد حقق فتوحات عظيمة ،ووحَّد البلد ,وقضى
على الفساد ،وأزال الظلم ونشر العدل ،فتنازل عن
المارة لبن عمه يوسف بعد أن أوصاه بتقوى الله
وذكَّره قدومه على الله ،ثم ودَّعه ,ودخل فى الصحراء
الكبرى بجيشه الداعى إلى رضوان الله وصراطه
المستقيم وأكرمه الله بالشهادة فى قلب الصحراء
الكبرى.
َ
-10تول ّى أمير المرابطين المير يوسف بن تاشفين؛ فنظم
المدن ,وأرسى نظم الحكم ,وخطَّط للدولة المرابطية،
فشرع فى إنشاء دواوينها ومجالسها وإداراتها وجيوشها,
ووضع المراء والفقهاء والقضاة على المدن والقرى،
وأشرف على تنفيذ أحكام الله ،وأثبتت اليام والحروب
والمحن التى مرَّ بها على أنه قائد عسكرى وسياسى
من الطراز الول ,وأحبه المرابطون والتفوا حولهِ
وتطايرت الركبان فى نشر سيرته وعدله وأحبه
المسلمون.
-11أصاب المسلمين فى الَنْدَلُس أضرار جسيمة بسبب
خنوع ملوك الطوائف للنصارى وضعفهم فى الحكم ،مما
عرض ممالك الَنْدَلُس لطماع النصارى الحاقدين الذين
جاسوا خلل الديار فى الَنْدَلُس يقتلون ويذبحون
ويسبون ,وأصبحت ممالك الَنْدَلُس السلمية تتساقط
فى أيديهم مدينة بعد مدينة ،وقرية إثر قرية ،وحصنًا
خلف حصن ،وركب المسلمين فزع عظيم فاضطرَّ
من المير ملوك الطوائف أن يطلبوا الغوث والنصر ِ
الربانى والقائد الميدانى يوسف بن تاشفين ،وكان قرار
ما وتبَّناه الملك َ َ
حك ّام النْدَلُس فى استدعاء يوسف حكي ً ُ
المعتمد ابن عباد بكل ما يملك من حجة وقوة ،ولما
قالوا للمعتمد سيضم المير يوسف إليه الَنْدَلُس ،فقال
قولته المشهورة التى أصبحت مثل ً رائعًا على مرِّ
العصور وكرِّ الدهور تتعلم منه الجيال الوفاء لدينها
والولء لعقيدتها حيث قال« :رعى البل ول رعى
212
الخنازير» ،وقال المعتمد لبنه :إن استدعاء المير
يوسف أمر يرضى الله تعالى ،ولن أكون أبدًا سببًا فى
ضياع ديار المسلمين.
-12استجاب المير يوسف لدعوة إخوانه فى العقيدة,
وعرض المر على أهل مشورته؛ وتحصل على موافقة
العلماء والفقهاء ورجال الدولة المرابطية ،وحرك كتائب
المرابطين بفرسانها الشجعان وجنودها البطال وعبر
المضيق ،وقاد المير يوسف كتائب المسلمين فى
الَنْدَلُس ،ووضع مع أركان جيشه خطة محكمة للقضاء
على جيش ألفونسو النصراني ،وسطر المرابطون فى
تاريخ أمتنا ملحم العقيدة والفداء فى معركة الّزِلقَة،
وانتصر المسلمون وانهزم النصارى وحفظ الله السلم
فى الَنْدَلُس لقرون بعد تلك المعركة التاريخية ،وبعد
هذا النصر الرائع والنفيس الذى حققه المرابطون
ورفعوا به راية السلم فى سماء الَنْدَلُس رجع المير
يوسف إلى المغرب ,وترك الغنائم لملوك الَنْدَلُس
الذين اختلفوا بعد ذلك وكادوا أن يضيعوا السلم من
من المير جديد فى تلك الديار ،فطلب فقهاء الَنْدَلُس ِ
يوسف ضم الَنْدَلُس لحكم المرابطين ،وشجَّعه علماء
وفقهاء المغرب وتحصل على فتاوى من علماء المشرق
من أمثال أبى بكر الطرطوشى فى مصر ،وأبى حامد
الغزالى فى العراق.
-13استطاع يوسف بن تاشفين أن يفتح مدن الَنْدَلُس،
وأن يضم الممالك إلى دولة المرابطين ،وأسر بعض
ملوك الَنْدَلُس الذين ثبت تعاونهم مع النصارى,
ووضعهم فى المغرب إلى أن توفاهم الله ،وبذلك قضى
على مهزلة ملوك الطوائف.
لطخوا دولة المرابطين,-14حاول المستشرقون أن يُ ِّ
صا المير يوسف إل أنَهم اصطدموا بحقائق وخصو ً
التاريخ الناصعة التى دلَّت على عظمة المير يوسف
ودولته الميمونة ,وحاول المستشرق رينهارت دوزى أن
يشوِّه دولة المرابطين ويصفها بالبربرية والتخلف،
ويصف السلطان على بن يوسف بالرجل التافه ،ويمدح
ملوك الطوائف فى الَنْدَلُس الذين تحالفوا مع النصارى
نَ حملة مسعورة للقضاء على السلم والمسلمين ،وش ّ
على جهاد المرابطين الذين حقَّقوا وحدة صفوف
213
المسلمين ،وهزموا أعداءهم النصارى ،وخلصوا
المسلمين من هؤلء الملوك الضعفاء ،لقد شتم دوزى
المستشرق المير يوسف ,ووصفه هو وابنه بأنَّهم
تافهون ،وأنا ل أستغرب من دوزى المستشرق أن يفقد
توازنه ,ويخرج عن نهج المؤرخين النزيه ،لقد كان
المستشرق دوزى ملحدًا زنديقًا عدوًا للسلم
والمسلمين ،كيف تريده أن يتحمل شعارات المرابطين
الدالة على سمو عقيدتهم وطهارة منهجهم ،وكأنى
بالمستشرق دوزى وهو يقلب الدينار المرابطى
مد رسول ح َّم َ
والمكتوب على وجهيه «ل إله إل الله ُ
الله» ﴿وَمَن يَبْتَ ِغ غَ ْي َر ا ِل ْسلَمِ دِينًا َفلَ ْن ُيقَْبلَ مِ ْنهُ وَ ُهوَ فِى ا َل ِخرَةِ مِن الَا ِسرِينَ﴾,
وقد اشتاط غضبًا وفقد عقله وغرق فى كفره ,فأباح
لنفسه الكذب والفتراء والزور ليهدئ من روعه
وانفعاله ،كيف يكون تافهًا من يوحد المغرب القصى
ويضم إليه الَنْدَلُس ويقضى على ملوك الطوائف؟ لقد
وصف المؤرخون المنصفون المير يوسف بأنه كان
ما ضابطًا للنفس ماضى العزيمة عالى الهمة ،تحركه حاز ً
َ
عقيدته السلمية وشريعته الربانية ،أمّا دولة المرابطين
فقد أثبت التاريخ أنَّها دولة حضارة وعلم وثقافة ،أمَّا ما
قام به أعداؤها فى وصفها بالتخلف الحضارى والتعصب
من عار ِ
ٍ المذهبى فهو قول باطل ل تسعفه الدلة،
حدِين من ال ُ َ ِّ
مو الحقائق ،وما كان دافع خصومهم ِ
والَنْدَلُسيين الذين حملوا عليهم حملة ظالمة إل من باب
التعصب الدينى أو المذهبي ،أو كراهية سياسية أو قومية
حاولوا النيل من دولة المرابطين السنية ،وتابع أولئك
حدثين أمثال م َ القوام الذين مضوا بعض المستشرقين ال ُ
المتعالم الحاقد الهولندى راينهارت دوزى ,وتابعه على
من المعاصرين أمثال ارشيبالد لويس فى كتابه ذلك نفر ِ
«القوى البحرية والتجارية فى حوض البحر المتوسط».
ُ-15يعتبر ضم الَنْدَلُس إلى دولة المرابطين من أعظم
أعمال المير يوسف بن تاشفين الجهادية.
-16كانت نظرة دولة المرابطين إلى الخلفة السلمية
العباسية فى بغداد صائبة صحيحة ,لكونها منبثقة من
منهج أهل السنة والجماعة ,ولذلك بايعوا الخليفة
العبَّاسي ,ورفعوا أعلمه وشعاره ،ودعوا له على
منابرهم.
214
-17كانت علقة الدولة المرابطية بالخلفة العبيدية فى
مصر عدائية لختلف العقائد والمناهج والمذاهب ،ولذلك
حرص المرابطون على اقتلع بقايا الرفض والتشيع من
دولتهم.
-18كانت علقة دولة المرابطين بالدولة الزيرية الصنهاجية
ذات أبعاد استراتيجية تعاونية ،بسبب وحدة المنهج
والمعتقد والمذهب والقرابة التى بين زعماء الدولتين،
ولذلك نجد تنسيقًا فى البحر المتوسط للغارة على
ما اقتصاديًا فى دولة تميم
أساطيل النصارى ،ونجد دع ً
بن المعز الزيرى لدولة المرابطين عندما خاضوا جهادهم
المقدس ضد النصارى.
حماد بالمرابطين فهى محفوفة بالتخوف َّ -19أما علقة بنى
ُ َ
من الطرفين ،حيث نجد أن لبنى حمّاد أطماعًا توسّعية ِ
تستهدف أطرافًا من دولة المرابطين ,كما نجد أن
ُّ
استقروا فى حماية المعارضين الَنْدَلُسيين للمرابطين
بنى حمَّاد ،إل أن سياسة المير يوسف مع بنى حمَّاد
تميَّزت بالحكمة وبعد النظر ,والبتعاد عن الصدام,
مراعيًا فى ذلك أموًرا عديدة :منها قرابتهم ,واتحادهم
فى المنهج والمعتقد والمذهب.
-20كانت علقة المرابطين مع ملوك النصارى عدائية ,أما
مع أهل الذِّمة فكانت محكومة بحكم الشريعة فيهم،
فقامت على العدل والنصاف.
-21كانت الَنْدَلُس مليئة بالشعراء والدباء والفقهاء ,إل إن
الولء والبراء ضاع مفهومه عند كثير من ملوكهم.
-22استطاع الَنْدَلُسيون أن يُثروا دولة المرابطين
بالشعراء والدباء ،وأن يؤِّثروا فى كثير من جوانبها
المعمارية والفنية والثقافية.
-23الحضارة السلمية فى زمن دولة المرابطين امتزجت
بالعناصر الفريقية والعربية والَنْدَلُسية ,مما جعلها
متميزة فى كثير من جوانبها الحضارية.
-24كان فى زمن المرابطين علماء وفقهاء ل زال أثرهم
فى المة ساريًا إلى يومنا هذا ,من أمثال الفقيه القاضى
أبو بكر بن العربي ،والوليد بن رشد ،والقاضى عياض،
215
دّث الفقيه أبو على الصدفي ،وغيرهم كثير.
ح ِ
م َ
وال ُ
-25كان النظام العسكرى والقضائى والدارى والمالى
مواكبًا لعصره ,منضبطًا بأحكام السلم فى دولة
المرابطين.
-26استطاع أسطول المرابطين أن يحقق المن والمان
لمسلمى الشمال الفريقي ،وأن يُكبِّد النصارى فى
جنوب البحر المتوسط خسائر هائلة.
-27إن اهتمام المير على بن يوسف بالزهد والعبادة
وتسليمه لمور الملك فى آخر أيامه للمراء خطأ عظيم
كلَّف دولة المرابطين متاعب عظيمة ،ومن أعظم
الخطاء التى وقع فيها المير على عدم أخذه بنصيحة
وزيره الفقيه مالك بن وهيب الشبيلى الذى أشار على
مد بن تومرت الكذَّاب زعيم ح َّ
م َ
المير على بقتل ُ
حدِين ،وقال للمير« :هذا رجل مفسد ل تؤمن موَ ِّ
ال ُ
غائلته ،ول يسمع كلمه أحد إل مال إليه ،وإن وقع فى
بلد المصامدة ثار علينا منه شر كبير».
إل أن المير على بن يوسف رفض قتله ،فلما يئس مما أراد
من قتل ابن تومرت ،أشار عليه بسجنه حتى يموت ،فقال
أمير المسلمين :نسجنه ,ولم يتعين لنا عليه حق؟ وهل
من البلد,
السجن إل أخو القتل ،ولكن نأمره يخرج عنا ِ
وليتوجه
()1
حيث شاء» .
-28إن من أعظم أسباب سقوط الدول الذنوب
والمعاصي ,وارتكاب الكبائر والمظالم.
-29فى زمن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين كانت
مقومات النصر متجسدة فى دولته ،ومِن أبْيَن وأهم ما ِّ
ظهر لى فى هذا البحث من مقومات النصر من أهمها،
أولً :العداد قبل المعركة ،ثانيًا :معرفة قوة العدو
وإمكاناته ،والتوجيه المعنوي ،والتعمية على العدو،
والتحام القيادة مع الشعب ،ومتانة العقيدة ووضوحها،
القيادة المثلى ،عدم القتال لدنيا ،الحكمة فى اتخاذ
جاهِدين الخلقية والروحية ،مما م َ
القرارات ،صفات ال ُ
مهَّدت لهم طريق النصر.
() موسوعة المغرب العربي( ,ج .)189-2/188 1
216
ُّ
تمر به الدول والحركات عدم قدرتها -30من أخطر ما
على توريث أفكارها ومناهجها وعقيدتها للجيل الذى
بعدها.
تؤدى إلى انهزام المستهزئِّ -31إن الستهانة بالخصوم
وانتصار المستهزأ به.
-32كان لنفوذ المرابطين فى بلد الَنْدَلُس أثر واضح
المعالم فى الحروب الصليبية فى الشام ،إذ أن دخولهم
الَنْدَلُس منع الممالك الصليبية التى كانت تتجه إلى بلد
الشام ،بل إن ظهورهم فى تلك المرحلة التاريخية فى
المغرب والَنْدَلُس قد حال دون اشتراك القوى الوروبية
بكل ثقلها فى الحروب الصليبية فى الشرق ،وبذلك قدم
المرابطون خدمات عظيمة وجليلة للشرق السلمي(.)1
-33كانت حضارة المرابطين فى الَنْدَلُس والمغرب
من الوروبيين الذين توالوا وتوافدوامقصدًا َلبناء العلم ِ
على الأنْدَلُس لتلقى العلوم والصناعات ،بل إن بعض
ملوكهم أرسل بعثات لدراسة نظام الدولة والحكم
وآداب السلوك ،وكل ما يؤدى إلى سير المور فى
الدولة ,والسير بها فى مضمار الحضارة والتقدم.
-34تركت دولة المرابطين التى لم يصل عمرها الزمنى
إلى مائة عام ,وهى فترة قصيرة فى عمر الدول ,آثاًرا
واضحة جلية فى جميع المجالت ,بل إن تلك المآثر
الحضارية تعدَّت حدود دولة المرابطين إلى أرجاء أخرى
من العالم السلمي.
ِ
حدِين وانقضاضها بعنف على دولة -35إن ظهور دولة ال ُ َ
مو ِّ
المرابطين تسبَّب فى ضعف النواحى الحضارية
ما،
والثقافية والسياسية والعسكرية عند المغاربة عمو ً
وفتحت مجال ً لملوك النصارى للقضاء على السلم فى
الَنْدَلُس فيما بعد.
-36إن للفراد آجال ً محدودة ،وكذلك لكل دولة أجل
محدود ,فإذا جاء أجلها ل تستأخر ول تستقدم.
-37سنة الله جارية فى إعزاز من يشاء وإذلل من يشاء،
م َّ
من يشاء وإعطائه لمن يشاء. ونزع الملك ِ
() المصدر السابق نفسه. 1
217
***
218
الفهرس
الموضوع
الصفحة
الهداء 3.......................................... .......................
المقدمة5..................................... ...........................
الفصل الول
بناء دولة المرابطين
المبحث الول :الجذور التاريخيّة للمرابطين9.....................
المبحث الثاني :المير يحيى بن إبراهيم (الزعيم السياسي) 15.
المبحث الثالث :أبو عمران الفاسي (مهندس الخطوط العريضة لدولة
المرابطين)18.......................... ...................................
عيم الدينى لدولة المرابطين عبد الله بن المبحث الرابع :الَّز ِ
ياسين21.................................................................. .
المبحث الخامس :المراحل التى مر بها ابن ياسين لبناء الدولة
36
المبحث السادس :مرحلة التَّمكين والتوسع والقائد الرباني يوسف
بن تاشفين59................................................... ..........
الفصل الثاني
المرابطون ودفاعاتهم عن مسلمى الَنْدَلُس
تمهيد 66............................................................... .. :
المبحث الول :الصراع بين طُلَيْطِلَة وقُْرطُبَة68....................
سلِمين فى الَنْدَلُس وقوة م ْالمبحث الثاني :أسباب ضعف ال ُ
النصارى72............................................. ...................
المبحث الثالث :العالم فى زمن ظهور دولة المرابطين80.......
مع المرابطين جت َ َ
م ْ
ر الحكم بما أنزل الله على ُ المبحث الرابع :أثَ ُ
100
المبحث الخامس :الَنْدَلُس بعد الزلقة108...........................
219
الموضوع
الصفحة
المبحث السادس :فتاوى فى جواز ضم الَنْدَلُس بالقوة والقضاء على
ملوك الطوائف112.......................................................... .....
المبحث السابع :العبور الثالث للمير يوسف بن تاشفين للندلس
117........................................ ..................................
المبحث الثامن :الجواز الرابع للمير يوسف في الندلس123.....
المبحث التاسع :آثار البتعاد عن تحكيم شرع الله على ملوك
الطوائف125.......................... .....................................
الفصل الثالث
والخارجيَّة فى دولة المرابطين ِ السياسة الدَّاخليَّة
المبحث الول :حقوق الرعية فى دولة المرابطين128.............
المبحث الثاني :موقف الرعية فى دولة المرابطين133............
المبحث الثالث :موقف المرابطين من الخلفة العباسية137......
المبحث الرابع :علقة المير يوسف مع بنى حماد144..............
المبحث الخامس :علقة المرابطين مع ملوك الطوائف145......
المبحث السادس :علقة المرابطين مع السبان النصارى147....
الفصل الرابع
سياسة المرابطين فى دولتهم المجيدة
الول :نظم الحكم والدارة في دولة المرابطين149..... المبحث
الثاني :النظام القضائي في دولة المرابطين160......... المبحث
الثالث :النظم العسكرية165................................. المبحث
الرابع :النظام المالي في عصر المرابطين182........... المبحث
الفصل الخامس
أهم أعمال دولة المرابطين الحضارية
المبحث الول :الثار المعمارية فى المغرب والَنْدَلُس183........
ميَّة فى دولة المرابطين186. .المبحث الثاني :الحياة الدبية والعِل ِ
الموضوع
الصفحة
المبحث الثالث :من مشاهير علماء دولة المرابطين191...........
220
المبحث الرابع :علوم اللغة فى زمن المرابطين205................
المبحث الخامس :علوم التَّارِيخ والجغرافيا في عصر المرابطين
206
المبحث السادس :علوم الطب فى عصر المرابطين208..........
المبحث السابع :أسباب سقوط دولة المرابطين210...............
نتائج البحث213........................................... ...................
الفهرس221............................................. ...................
***
221