You are on page 1of 206

‫محاضرات في القانون الجنائي العام‬

‫األحكام العامة لقانون العقوبات والنظرية العامة للجريمة‬

‫مقدمــــــة‬
‫ي عد قانون العقوبات من أهم القوانين التي تستعين بها الدولة في فرض االنضباط واألمن داخل المجتمع‪،‬‬
‫على اعتباره القانون المتضمن ألشد أنواع الجزاءات القانونية وأكثرها لتحقيق فكرة الدرع العام قبل الردع الخاص‪.‬‬
‫وكانت لهذا القانون ذات األهمية حتى قبل ظهور الدولة‪ ،‬باعتباره من أقدم فروع القانون والذي وجد مع وجود‬
‫الجماعات البشرية األولى‪ ،‬وصاحب مختلف مراحل تطورها‪ ،‬وبذلك اتسم في كل مرة بسمات المرحلة التي تطبع النظام‬
‫المتبع في المجتمع‪ ،‬بجوانبه االجتماعية والثقافية واالقتصادية والسياسية‪ ،‬حيث في كل مرة كانت تجد فيه الجماعات‬
‫المكلفة بالحكم – أيا كان نوعها‪ -‬الوسيلة المثلى لفرض سياستها وأهدافها‪ ،‬وكذا الحفاظ على مصالحها‪ .‬والسبب الذي‬
‫جعل هذا الفرع القانوني الهام يحتل مثل هذه المكانة‪ ،‬ومثل هذه الدرجة من األهمية‪ ،‬راجع باألساس إلى الجزاء الذي‬
‫تتضمنه قواعده‪ ،‬باعتبارها جزاءات تصيب الشخص المكلف في حياته أو حريته‪ ،‬وأقلها أن تصيبه في ماله‪ ،‬وبذلك‬
‫كانت عبارة عن وسائل قهر وإلزام وردع‪ ،‬ووسيلة في يد السلطة الحاكمة في فرض رؤاها في كيفية سير األفراد‬
‫والجماعات‪ .‬وعلى إثر ذلك ضم هذا الفرع القانوني في ثناياه نوعين من األحكام‪ ،‬أحكام تجريمية وأخرى عقابية‪ ،‬وأن‬
‫دراسته دراسة وافية تقتضي اإللمام بهما معا‪ ،‬بالنظر للتالزم الموجود بين النوعين أو الشقين من األحكام‪ .‬وبهذا فإنه‬
‫من البديهي أن دراسة القانون الجنائي العام‪ ،‬تقتضي دراسة النظرية العامة للتجريم‪ ،‬والنظرية العامة للجزاء‬
‫( الجريمة والجزاء)‪ ،‬وهي المسألة األولى التي تعطي لقانون العقوبات خاصته األولى المتمثلة في تضمنه لعلمين‪ ،‬هما‬
‫علم اإلجرام وعلم العقاب‪ ،‬الذي يستدعي في كرة مرة اإللمام بالعلوم الجنائية لفهم أبعاد القانون الجنائي‪ .‬هذا من جهة‪.‬‬
‫ومن جهة ثانية‪ ،‬تطبيق القانون الجنائي يستدعي نوعا آخر مخالف تماما للقواعد السابقة‪ ،‬التي تعد في جوهرها‬
‫قواعد موضوعية‪ ،‬وهذا النوع اآلخر هو القواعد اإلجرائية‪ ،‬والتي تشكل في ذاتها فرعا قانونيا آخرا‪ ،‬وهو قانون‬
‫اإلجراءات الجنائية مع ما يتسم به من خصوصيات‪ ،‬وما يحكمه من مبادئ‪ ،‬والذي يعد وسيلة تفعيل وتطبيق القانون‬
‫الجنائي بشقيه العام والخاص‪ ،‬والذي بدونه ال مجال للحديث عن دور وأهمية القسم العام‪ ،‬وهذا األمر يجعلنا أمام مشكلة‬
‫أخرى‪ ،‬وهي أن دراسة هذا الفرع القانوني في قسمه العام يقود بداهة لدراسة جوانبه اإلجرائية‪ ،‬األمر الذي يزيد‬
‫دراستنا تشعبا وتوسعا‪ .‬ويجعل الدارس والمدرس لهذا الفرع القانوني أمام ثالثة فروع قانونية‪ ،‬النظرية العامة للجريمة‪،‬‬
‫النظرية العامة للجزاء‪ ،‬وقانون اإلجراءات الجزائية‪ .‬واألكثر من ذلك‪ ،‬الفروع الثالثة السابقة تستعدي أيضا اإلحاطة‬
‫بفرع قانوني آخر يتعلق بنظرية تنفيذ الجزاء‪ ،‬وهو المحكوم في الجزائر بقانون تنظيم السجون وإعادة اإلدماج‬
‫االجتماعي للمساجين‪ ،‬والموضع السليم لدرسته هو النظرية العامة للجزاء الجنائي‪.‬‬
‫والغريب في األمر أن دراسة هذه الفروع في مجملها مقررة لطلبة السنة الثانية‪ ،‬في حين القسم الخاص للقانون‬
‫الجنائي – وفي جزء منه فقط‪ -‬مقرر لطلبة السنة الثالثة‪ ،‬وهي مسألة نرى وجوب إعادة النظر فيها‪ .‬غير أن ذلك ال‬
‫يمنعنا من محاولة تقديم هذه المحاضرات بنوع من الشرح والتفصيل‪ ،‬معتمدين أسلوبا نتجنب من خالله التفصيل الممل‬
‫وكذا اال ختصار المخل‪ ،‬خدمة وإعانة للطالب في استيعابه لمضامين وأبعاد هذا الفرع القانوني الهام من فروع القانون‪،‬‬
‫ونخصص هذه المطبوعة أوال للنظرية العامة للجريمة والتي ال غنى فيها عن تناول األحكام العامة لقانون العقوبات‬
‫ذاته‪ ،‬لنتبعها – بعون هللا‪ -‬بمطبوعة أخرى نخصصها للنظرية العامة للجزاء الجنائي‪ ،‬وثالثة نخصصها للشرح أحكام‬
‫قانون اإلجراءات الجزائية‪ ،‬علها تكون عونا مفيدا لطالب السنة الثانية حقوق‪.‬‬
‫هذا وننبه مسبقا‪ ،‬بأننا سنعمد وفي كثير من األحيان‪ ،‬إلى اإلشارة للخالف الفقهي الذي قد يشوب فكرة من أفكار‬
‫هذا القانون في هوامش هذه الدراسة‪ ،‬والتي ننصح في كل مرة االطالع عليها وأخذ فكرة عنها‪ ،‬على اعتبار متن‬
‫الموضوع يخصص فقط لما استقر عليه الفقه في الغالب‪ ،‬أو لما تبناه التشريع المعاصر‪ ،‬مركزين على القانون‬
‫الجزائري واإلشارة في كل مرة تقضي فيه المسألة ذلكن إلى القانون المقارن‪ .‬كما نشير في آخر الدراسة إلى أهم‬
‫المراجع المعتمد عليها في إعداد هذه المحاضرات‪ ،‬دون إدراجها في موضعها على النحو الذي يقتضيه إعداد البحوث‬

‫]‪[1‬‬
‫األكاديمية‪ ،‬وذلك تقتضيه ظروف أخرى متعلقة بحقوق التأليف‪ ،‬ال إهماال للجوانب المنهجية والشكلية في إعداد البحوث‬
‫والدراسات‪.‬‬
‫وسنتناول هذه الدراسة من خالل بابين أساسيين‪ ،‬نتناول في األول النظرية العامة للجريمة‪ ،‬لنتناول في الثاني‬
‫النظرية العامة للمسؤولية الجنائية‪ ،‬على أن نسبق كل ذلك بباب تمهيدي نتناول فيه األحكام العامة لقانون العقوبات ذاته‪،‬‬
‫ونعنونه بمعالم قانون العقوبات‪ .‬وننبه مسبقا بأن قد يكون هناك اختالل في توازن البابين‪ ،‬على أساس أننا فضلنا‬
‫تخصيص مطبوعة لنظرية الجزاء‪ ،‬في حين غالبية الفقه يتناولها في إطار نظرية المسؤولية الجنائية‪ ،‬لكن الفائدة‬
‫الموضوعية المتوخاة من إعداد هذه المطبوعة‪ ،‬تتجاوز بكثير الفائدة المحققة من مراعاة الجوانب الشكلية‪ .‬هذا وال يفوتنا‬
‫أن نتمنى أن تكون هذه المطبوعة عونا علميا لطلبتنا األعزاء في دراستهم للمادة خالل هذه السنة‪ ،‬وعونا مفيدا في‬
‫مشاريعهم العلمية المستقبلية‪.‬‬

‫]‪[2‬‬
‫باب تمهيدي‬
‫معالم قانـون العقوبات‬

‫قانون العقوبات يشمل نوعين من األحكام الموضوعية‪ ،‬النوع األول عبارة عن المبادئ واألحكام العامة‬
‫الحاكمة للتجريم والعقاب‪ ،‬والتي تعد بلورة للنظريات الجنائية التي تبلورت فقهيا وقانونيا على مر عصور طويلة من‬
‫الزمن‪ ،‬سيما وأن هذا القانون‪ ،‬من أقدم القوانين على وجه األرض‪ ،‬بل يمكن رده إلى ما قبل ذلك‪ ،‬عند بدأ الخليقة[‪.]1‬‬
‫وهو النوع من األحكام الذي يطبق على كل الجرائم أيا كان نوعها – على أساس أن قانون العقوبات يعرف التقسيم‬
‫الثالثي للجرائم‪ ،‬حيث يقسمها إلى جنايات وجنح ومخالفات‪ ،-‬وأيا كان مرتكبها – حيث أن الجريمة قد تكون مشروعا‬
‫فرديا يسهر على اقترافه فاعل واحد‪ ،‬أو عدة فاعلين‪ ،‬وهو ما يعرف بالمسؤولية الجنائية أو االشتراك‪ -‬سواء كان وطنيا‬
‫أو أجنبيا – تعبيرا عن مبدأ سيادة قانون العقوبات على إقليم الدولة‪ ،‬حيث يطبق على الوطنيين واألجانب على حد سواء‪-‬‬
‫‪ ،‬ويسمى هذا القسم عادة بالنظرية العامة للجريمة‪ ،‬كما يشمل أيضا على األحكام العامة والمبادئ التي تحكم الجزاء‪،‬‬
‫ويسمى هذا الجزء بالنظرية العامة للجزاء الجنائي‪ .‬وكال الشقين يكونان ما يسمى بالقسم العام لقانون العقوبات‪ ،‬الذي‬
‫يعد من المقررات لبرنامج السنة الثانية في دراستهم لقانون العقوبات‪.‬‬

‫كما يشتمل على أحك ام خاصة‪ ،‬تبين الجرائم بمفرداتها وأركان وظروف وعناصر كل منها‪ ،‬والعقوبة المقررة‬
‫لها‪ ،‬ويسمى هذا الشق‪ ،‬بقانون العقوبات الخاص‪ ،‬أو القسم الخاص لقانون العقوبات‪ ،‬الذي يعد مقررا على طلبة السنة‬
‫ثالثة حقوق‪ .‬على اعتبار أن هذا القسم ما هو إال تطبيق للنظرية العامة لكل من الجريمة والجزاء‪ .‬وعلى العموم‪،‬‬
‫الموضوع الرئيسي للقانون الجنائي أو قانون العقوبات‪ ،‬وإن كان الظاهر منه أنه دراسة للنظرية العامة للجريمة‪ ،‬فهو‬
‫يبحث أساسا على المسؤولية الجنائية على اعتبار الجريمة سلوك يرتكبه شخص يجب أن يكون مسؤوال عن فعله حتى‬
‫يوقع عليه العقاب ‪ .‬وفي معالجة هذا الموضوع‪ ،‬ظهر خالف فقهي كبير في الفقه القانوني الجنائي‪ ،‬حيث نجد المدرسة‬
‫األلمانية اتجهت اتجاها فلسفيا في دراسة الموضوع‪ ،‬حيث يحللون الموضوع على خمسة عناصر أساسية‪ ،‬هي الفعل‬
‫المتمثل في السلوك‪ ،‬النموذج وهو الوصف القانوني المجرد للتجريم‪ ،‬ال قانونية الفعل وهي مطابقة الفعل للنموذج ومن‬
‫ثم تقرير الطبيعة الالمشروعة لهذا الفعل‪ ،‬اإلثم وهو العالقة ما بين الفعل والموقف النفسي اآلثم‪ ،‬وأخيرا العقاب وهو‬
‫الثر أو النتيجة أو ثمرة العوامل األربعة األولى‪ .‬أما الفقه الفرنسي ومعه الفقه العربي‪ ،‬له تحليل أكثر بساطة للموضوع‪،‬‬
‫حيث يبدأ تحليل المسؤولية الجنائية من الجريمة إلى المجرم‪ ،‬ومن الشروط الموضوعية للجريمة إلى الشروط الشخصية‬
‫للجاني‪ ،‬ولكن في األخير يلتقون مع التحليل األلماني حيث يلتقون في فكرة الجريمة‪ ،‬اإلثم‪ ،‬األهلية للعقاب – أي‬
‫المسؤولية الجنائية‪ -‬ثم العقاب نفسه]‪ .[2‬لكن قبل كل ذلك‪ ،‬وفي البحث عن تحديد معالم قانون العقوبات‪ ،‬شاب الخالف‬
‫الفقهي الطويل الذي يطبع هذا الفرع القانوني الهام‪ ،‬حول تسمية القانون في حد ذاته وتحديد مضامينه وأبعاده‪ ،‬وكذا‬
‫تناول تطوراته وتحديد طبيعته وعالقته بمختلف فروع القانون األخرى‪ .‬لذا فإن دراسة معالم قانون العقوبات‪ ،‬تقتضي‬
‫منا التعريف به أوال‪ ،‬وتناول محتواه وتحديد طبيعة قواعده‪ ،‬وكذا إبراز عالقته مع مختلف القوانين األخرى‪ ،‬وتبيان‬
‫أهدافه‪ .‬وذلك في فصل أول‪ ،‬نعنونه بماهية قانون العقوبات‪ ،‬لنتناول في فصل ثاني‪ ،‬نشأة وتطور قانون العقوبات‪ ،‬وذلك‬
‫بتناول تطور الفكر الجنائي بصفة عامة‪ ،‬وقانون العقوبات الجزائري بصفة خاصة‪.‬‬

‫]‪[3‬‬
‫الفصل األول‬
‫ماهيـــة قانون العقوبات‬

‫ق انون العقوبات من القوانين التي تجسد بها الدول الحماية القانونية لمصالحها ومصالح المجتمع‬
‫األساسية والجوهرية‪ ،‬والتي تكفل األمن والسكينة واالستقرار لكافة أفراد هذا المجتمع‪ ،‬وإقامة العدل بين أفراده‪ ،‬وهو‬
‫بذلك ضرورة وحتمية لكل مجتمع أيا كان توجهه وطرق حكمه وتسييره‪ ،‬على اعتبار الجريمة سلوك إنساني مالزم‬
‫للمجتمعات في كل مكان وفي كل زمان‪ ،‬لذا نجد قانون العقوبات الزم التطور البشري‪ ،‬وعايش تحوالته الفكرية‬
‫واالقتصادية واالجتماعية والعلمية‪ ،‬األمر الذي انعكس على تسميته وتحديد معناه وتبيان محتواه‪ ،‬وحصر العالقة‬
‫الموجودة بينه وبين مختلف الفروع القانونية األخرى‪ ،‬تبعا للتطورات التي عرفها هذا القانون‪ ،‬وهو ما يقتضي منا تناول‬
‫هذا الفصل ضمن مبحثين‪ ،‬نخصص األول لمفهوم قانون العقوبات‪ ،‬أين نتناول تحديد معنى مسمياته المختلفة‪ ،‬وحصر‬
‫مضمونه وتبيان أقسامه‪ ،‬لنخصص الثاني للبحث في طبيعة هذا القانون‪.‬‬

‫]‪[4‬‬
‫المبحث األول‬
‫مفهوم قانــون العقوبات‬
‫يتفق الفقه الجنائي حول مضمون قواعد قانون العقوبات وخصائصه وأهدافه‪ ،‬والتي نتناولها ضمن المبحث‬
‫الثاني من هذه الدراسة‪ ،‬غير أنه يختلف حول تسميته وتعريفه وعالقته بمختلف الفروع القانونية األخرى‪ ،‬وتبعا لذلك‬
‫حول تحديد طبيعته– وهو موضوع المبحث الثاني‪ ،-‬غير أننا سنقتصر دراستنا في هذا المبحث على مطلبين‪ ،‬خصص‬
‫األول لتعريف قانون العقوبات‪ ،‬والثاني لمحتوى هذا القانون‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫تعريف قانـــون العقوبات‬
‫قبل التطرق للتعاريف التي أعطيت لقانون العقوبات‪ ،‬واالختالف الفقهي الكبير في ذلك‪ ،‬نشير بأن‬
‫الخالف انصب أوال حول تحديد تسمية هذا القانون‪ .‬لكن دون أن ينعكس ذلك على تحديد محتوى ومضمون هذا القانون‪،‬‬
‫وهو األمر الذي نتبينه من خالل الفروع التالية‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫في تسمية قانون العقوبات‬
‫تطلق في العادة تسمية "قانون العقوبات " على هذا الفرع من فروع القانون]‪ ،[3‬والذي يضم في‬
‫حقيقته كل من الجرائم والعقوبات المقررة لها‪ ،‬وذلك من قبل تسمية الكل باسم الجزء‪ ،‬أو مثلما نرى‪ ،‬من قبيل تسمية‬
‫التابع للمتبوع‪ ،‬على اعتبار أن الجريمة سابقة في الوجود على ارتكاب الجريمة‪ ،‬كما أن ارتكاب هذه الجريمة ال يعني‬
‫بالضرورة توقيع عقوبة‪ ،‬فقد يوقع على شخص تدبير أمني أو احترازي‪ ،‬أو قد ال يطبق الجزاء أصال‪ ،‬سواء تمثل في‬
‫عقوبة أو في تدبير أمني‪ ،‬في الحاالت التي قد يتوفر فيها للشخص مانع من موانع العقاب‪ ،‬أو سبب من أسباب اإلباحة‪،‬‬
‫أو حتى في الحاالت التي ال يعرف فيها مرتكب الجريمة أو ال تتمكن فيه النيابة العامة من إثباتها عليه‪ ،‬وهنا تكون‬
‫الجريمة أمر واقع‪ ،‬في حين شق العقوبة لم يطبق‪ .‬األمر الذي يجعلنا نرى بأتن تسمية هذا القانون‪ ،‬بقانون العقوبات‬
‫تسمية قاصرة على أن تستوعب مضامينه وخصوصياته‪ .‬خاصة وأنها ركزت على شق العقاب دون شق التجريم‪ ،‬وفي‬
‫جزء منه دون اآلخر – كون الجزاء يشمل العقوبات والتدابير‪ ،‬على نحو ما سنرى‪ .-‬وهنا جاء اتجاه فقهي‪ ،‬ينادي‬
‫بإطالق تسمية " القانون الجزائي" على هذا القانون‪ ،‬ليصبح يشمل شق الجزاء بنوعيه العقوبات والتدابير‪ ،‬لكنه يظل‬
‫قاصر على أن يشتمل شق التجريم‪ ،‬وهو األهم في نظرنا‪ .‬وتبقى تسمية قاصرة عن استيعاب المضمون الكلي لهذا‬
‫القانون ومحتوياته‪ ،‬لذا يفضل بعض الفقه‪ ،‬تسمية " القانون الجنائي" باعتباره قانون الجرائم‪ ،‬وأن هذا النوع –‬
‫الجنايات‪ -‬أهم وأخطر األنواع‪ ،‬مقارنة بالجنح والمخالفات‪ ،‬غير أننا نرى بأن هذه التسمية تعد أيضا تسمية للكل باسم‬
‫الجزء‪ ،‬حيث أنها ركزت على جانب التجريم – في حين األولى ركزت على جانب العقاب‪ -‬وفي نوع واحد فقط من بين‬
‫ثالثة أنواع من الجرائم‪ ،‬وهي الجنايات‪ ،‬مثلما ركزت التسمية األولى على نوع فقط من أنواع الجزاء‪ ،‬وهي العقوبة‪،‬‬
‫وبالتالي التسمية قاصرة جدا‪ ،‬كونها أهملت نوعين من الجرائم‪ ،‬زيادة على إهمالها لشق العقاب برمته‪.‬‬
‫غير أن هذه االنتقادات الموجهة لكل تسمية من التسميات الثالث السابقة‪ ،‬لم تمنع الفقه في عمومه‪ ،‬من‬
‫استعمالها تبعا لتوجه المشرع في بلده‪ ،‬ووفقا لما ألفه في استعمال المصطلحات‪ ،‬غير أن اإلشكال في رأينا يكمن في‬
‫موقف المشرع نفسه‪ ،‬فإن كان من الجائز أن نستعمل مصطلح من المصطلحات الثالثة السابقة‪ ،‬فعل األقل أن يعممه‬
‫المشرع‪ ،‬غير أننا نرى بأن غالبية التشريعات‪ ،‬بما فيها التشريع الجزائري‪ ،‬تسمي القانون الموضوعي‪ ،‬بقانون‬
‫العقوبات‪ ،‬بينما تميل لشق الجزاء بخصوص اإلجراءات‪ ،‬حيث نجد المشرع الجزائري‪ ،‬يطلق تسمية " قانون العقوبات"‬
‫على القانون موضوع دراستنا في هذا السداسي‪ ،‬ومصطلح " قانون اإلجراءات الجزائية" بخصوص الشق اإلجرائي‬
‫موضوع دراستنا في السداسي الثاني من السنة الجامعية‪ ،‬وهنا يثار التساؤل عن المغزى من عدم توحيد المصطلحات‪،‬‬
‫وإن كانت بعض التشريعات تطلق عليه مصطلح " اإلجراءات الجنائية" نسبة للجنايات‪.‬‬

‫]‪[5‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫تعريف قانون العقوبات‬

‫يعرفه البعض]‪ ، [4‬بأنه‪ " :‬مجموعة القواعد القانونية التي تبين الجرائم وما يقرر لها من أو يقابلها من عقوبات‬
‫أو تدابير أمن‪ ،‬إلى جانب القواعد األساسية والمبادئ العامة التي تحكم هذه الجرائم والعقوبات والتدابير"‪ ،‬بينما يرى‬
‫البعض]‪ ،[5‬أنه ‪ ":‬مجموعة القواعد القانونية التي تحدد رد الفعل االجتماعي ضد الجرائم‪ ،‬وتترجم مجموعة الحلول‬
‫الوضعية للظاهرة اإلجرامية"‪ .‬في حين يرى آخرون‪ ،‬أن قانون العقوبات يمعناه الواسع‪ ،‬مجموعة القواعد التي تحدد‬
‫التنظيم القانوني للفعل المجرم ورد فعل المجتمع إزاء مرتكب هذا الفعل‪ ،‬سواء بتطبيق عقوبة أو تدبير أمن‪ ،‬كما يشمل‬
‫أيضا القواعد اإلجرائية التي تنظم الدعوى الجنائية‪ .‬وبذلك يشمل المعنى الواسع كل من القواعد الموضوعية التي تجرم‬
‫وتعاقب على األفعال‪ ،‬سواء تمثلت في قانون العقوبات أو في القوانين المكملة له‪ ،‬وكذا القواعد اإلجرائية المتمثلة في‬
‫مجموعة القواعد الواجب اتخاذها بخصوص الدعوى العمومية‪ ،‬وصدور األحكام والطعن فيها‪ ،‬وحتى تنفيذ العقوبة التي‬
‫ينظمها قانون تنظيم السجون وإعادة اإلدماج االجتماعي للمحبوسين]‪ .[6‬بينما المعنى الضيق لقانون العقوبات‪ ،‬فيطلق‬
‫مرادفا لتقنين العقوبات أو مجموعة القواعد الموضوعية فقط الخاصة بالتجريم والعقاب‪ .‬والتي تعني فقط الدور المزدوج‬
‫لهذا لقواعد هذا الشق‪ ،‬حيث تبين من جهة‪ ،‬األفعال والتصرفات المجرمة‪ ،‬ومن جهة ثانية‪ ،‬ردة الفعل االجتماعي إزاءها‬
‫أو في مواجهتها‪ ،‬سواء كان ذلك بعقوبة أو تدبير من تدابير األمن أو التدابير االحترازية]‪.[7‬‬
‫و يرى البعض‪ ،‬بأن الدور المزدوج لقواعد قانون العقوبات‪ ،‬هي التي تبين االختالف الفقهي والتشريعي‬
‫الحاصل حول تسمية هذا القانون‪ ،‬وهي التسميات التي تعبر فعال عن ماهية هذا القانون‪ ،‬حيث يمكن القول بأن الجريمة‬
‫أيا كان نوعها والجزاء أيا كان نوعه‪ ،‬وجهان لعملة واحدة‪ ،‬فالتعبير بالجريمة يعني أنه هناك جزاء مقابل‪ ،‬والتعبير‬
‫بالجزاء يعني أن هناك جريمة قد وقعت‪ ،‬حيث ال جريمة دون جزاء‪ ،‬وال جزاء دون وقوع جريمة‪ ،‬من حيث المبدأ‪.‬‬
‫غير أننا نفضل تسمية القانون الجنائي – والدليل على ذلك تسمية المادة التي نحن بصدد دراستها – على تسمية قانون‬
‫العقوبات‪ ،‬حيث بإمكان التسمية األولى أن تشمل الشق اإلجرائي باإلضافة إلى الشق الموضوعي‪ ،‬في حين أن تسمية‬
‫قانون العقوبات‪ ،‬في رأينا تشمل الشق الموضوعي فقط دون الشق اإلجرائي‪ .‬وبالتالي يمكننا القول بأن مسألة التسمية‬
‫تقودنا لدراسة محتوى هذا القانون‪ ،‬وهو موضوع دراستنا في الفرع الموالي‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫محتوى القانون الجنائي‬
‫ي جمع الفقه في عمومه‪ ،‬على أنه لقانون العقوبات نوعين من المحتوى‪ ،‬محتوى قانوني وهو أساس‬
‫والهدف المباشر لهذا الفرع القانوني‪ ،‬ومحتوى علمي وهو محتوى غير مباشر منه تستمد القواعد القانونية المنظمة‬
‫لشقي التجريم والعقاب‪ .‬وهو ما نبينه باختصار في الفرعين التاليتين‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫المحتوى القانوني للقانون الجنائي‬

‫تكمن مهمة قانون العقوبات بالدرجة األولى‪ ،‬في تبيان األفعال التي يرى المشرع أنها تضر بالمصلحة‬
‫العامة وبالنظام العام القائم]‪ ،[8‬ويضع قائمة بها‪ ،‬وهي التي تشكل بذاتها فرعا من فروع القانون الجنائي‪ ،‬ويسمى ب‪":‬‬
‫القانون الجنائي الخاص"‪ ،‬أو القسم الخاص من القانون الجنائي أو قانون العقوبات‪ ،‬وهي القسم الذي يبين كل جريمة‬
‫على حدا وما يميزها من أركان وظروف وعناصر‪ ،‬وما يتقرر لها من عقوبات‬
‫أو تدابير احترازية أو أمنية‪ .‬وإلى جانب القواعد السابقة‪ ،‬هناك مجموعة أخرى من القواعد التي تحدد القواعد والمبادئ‬
‫العامة التي تحكم القانون الجنائي في مجمله‪ ،‬من أركان عامة للجريمة‪ ،‬وقواعد المسؤولية الجنائية وموانعها‪ ،‬وتصنيف‬
‫الجرائم‪ ،‬وأسباب اإلباح ة‪ ،‬وموانع العقاب‪ ...‬وهي مجموعة القواعد التي تشكل فرع من فروع القانون الجنائي‪ ،‬المسمى‬

‫]‪[6‬‬
‫بالقسم العام‪ ،‬أو القانون الجنائي العام‪ ،‬الذي يعد موضوع دراستنا في هذا البحث‪ .‬غير أن تطبيق الفرعين السابقين من‬
‫فروع القانون الجنائي‪ ،‬يقتضي إجراءات معينة بموجبها تتدخل الدولة عن طريق أجهزتها من وقت ارتكاب الجريمة‬
‫لغاية توقيع العقوبة على مقترفها‪ ،‬وتبين ماهية هذه األجهزة‪ ،‬وطرق تدخلها وكيفيات ذلك‪ ،‬وهو القسم المسمى بقانون‬
‫اإلجراءات الجزائية]‪.[9‬‬
‫وبالتالي يتحدد المحتوى القانوني للقانون الجنائي‪ ،‬أو قانون العقوبات‪ ،‬بثالثة فروع قانونية فرعية‬
‫يتضمنها هذا القانون‪ ،‬وهي القسم العام‪ ،‬أو القانون الجنائي العام]‪ ،[10‬والقانون الجنائي الخاص]‪ – [11‬المقرر في‬
‫برنامج السنة الثالثة حقوق إلى جانب علم اإلجرام‪ -‬وقانون اإلجراءات الجزائية أو الجنائية]‪ ،[12‬المقرر في السداسي‬
‫الثاني من السنة الثانية حقوق‪ .‬وهي أقسام وفروع تتكامل فيما بينها‪ ،‬لتشكل في األخير الجزء الكبير من السياسة الجنائية‬
‫والعقابية للدولة‪ ،‬من حيث تبيانها للتجريم وما قرر من عقوبات‪ ،‬واألحكام والمبادئ العامة التي تحكم العمليتين –‬
‫التجريم والعقاب‪ ،-‬باإلضافة إلى قواعد إجرائية تنقل الشق السابق من حالة السكون إلى حالة الحركة‪ ،‬أو من الحالة‬
‫النظرية المجردة‪ ،‬إلى الحالة الواقعية العملية‪ .‬هذا من ناحية‪.‬‬
‫و من ناحية ثانية‪ ،‬يتحدد المضمون القانوني لقانون العقوبات‪ ،‬في كونه وباإلضافة إلى احتواءه لقسم عام‬
‫وآخر خاص‪ ،‬أنه هناك قوانين عقوبات تكميلية وأخرى خاصة‪.‬‬
‫فقانون العقوبات التكميلي‪ ،‬يجد علته في كون القسم الخاص من قانون العقوبات ال يتضمن كل الجرائم التي‬
‫قررها المشرع‪ ،‬فهناك عدد كبير من الجرائم نصت عليها قوانين أخرى مستقلة‪ ،‬مثل قانون المنافسة واألسعار وقانون‬
‫الصحة والقانون الجمركي ‪...‬وهي مجموعة القوانين التي يطلق عليها مصطلح قانون العقوبات التكميلي أو القوانين‬
‫الملحقة بقانون العقوبات‪ ،‬مما يستتبع بالضرورة خضوعها لألحكام العامة المتضمنة بالقسم العام لقانون العقوبات‪.‬‬
‫ولجوء المشرع إلى هذه الطريقة المتمثلة في التجريم والعقاب بموجب نصوص قانونية مستقلة‪ ،‬يجد أساسه في عدم‬
‫قدرته على حصر كل الجرائم في موضوع واحد هو قانون العقوبات‪ ،‬خاصة إذا كانت هذه الجرائم تحمي مصالح‬
‫متغيرة أو طارئة تخضع للتعديل والتغيير كلما دعت الضرورة لذلك‪ ،‬في حين أن قانون العقوبات يتسم باالستقرار‬
‫النسبي‪ ،‬لذا فهو يجرم في العادة األفعال الشائنة والمستهجنة في المجتمع في كل وقت من األوقات وال يتدخل إال في‬
‫حال تغيرات اقتصادية‬
‫أو اجتماعية أو علمية حديثة توجب إلغاء بعض الجرائم أو إدراج البعض اآلخر‪.‬‬
‫وأما قوانين العقوبات الخاصة‪ ،‬فهي حسب الفقه طائفة ثالثة من الجرائم‪ ،‬التي يتم النص عليها في‬
‫قوانين خاصة‪ ،‬اصطلح على تسميتها بقوانين العقوبات الخاصة‪ ،‬منها قانون العقوبات العسكري وقانون العقوبات‬
‫االقتصادي وقانون العقوبات التجاري‪ .‬وأصبحنا نسمع بقانون العقوبات اإلداري وقانون الجنائي الدستوري‪ ،...‬وهي‬
‫كلها قوانين تحمي مصالح تتميز بطابع خاص يبرر إخضاعها لقواعد قانونية خاصة‪ ،‬سواء من الناحية الموضوعية أو‬
‫من الناحية اإلجرائية‪ ،‬كونها تخضع لبعض األحكام التي قد تختلف كلية‬
‫أو جزئيا عن األحكام العامة الموضوعية واإلجرائية‪ ،‬لكن العالقة بينهما تظل قائمة ويجب الرجوع لألحكام العامة في‬
‫كل حالة لم يرد بشأنها نص في هذه القوانين الجنائية الخاصة‪ ،‬تطبيقا لقاعدة الخاص يقيد العام‪ .‬ولتجنب الخلط بين‬
‫القوانين الجنائية الخاصة والقوانين التكميلية لقانون العقوبات العام‪ ،‬يدرج الفقه الفرقين األساسيين التاليين‪:‬‬
‫‪ -1‬القوانين المكملة لقانون العقوبات‪ ،‬تحمي مصالح من ذات نوع وطبيعة المصالح المحمية بموجب القسم‬
‫الخاص من قانون العقوبات‪ ،‬مما ال يجيز الخروج بشأنها عن األحكام العامة المنصوص عليها بالقسم العام لقانون‬
‫العقوبات‪ ،‬في حين تحمي قوانين العقوبات الخاصة مصالح وحقوق تتميز بطبيعة خاصة تستوجب الخروج نوعا ما (‬
‫بصفة كلية أو بصفة جزئية) عن األحكام العامة لقانون العقوبات سواء في قسمه الموضوعي أو في قسمه اإلجرائي ‪.‬‬
‫‪ -2‬الجرائم الم نصوص عليها في قوانين العقوبات التكميلية‪ ،‬تخضع بحسب األصل لألحكام العامة الواردة‬
‫بالقسم العام لقانون العقوبات‪ ،‬إال إذا نص فيها على ما يخالف ذلك‪ ،‬أما قوانين العقوبات الخاصة فتضم أحكامها‬
‫الموضوعية واإلجرائية الخاصة بها‪ ،‬وال يرجع فيها إلى األحكام العامة إال في الحاالت التي ال يرد فيها نص خاص‪.‬‬

‫]‪[7‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫المحتوى العلمي للقانون الجنائي‬
‫حتى يستطيع القانون الجنائي أن يحقق أهدافه على أتم وجه‪ ،‬يجب أن يستعين بالعلوم الحديثة وما تقدمه‬
‫له من مساعدة مبنية أساسا على معطيات علمية‪ ،‬من أهم هذه العلوم المسماة بالعلوم الجنائية المساعدة‪ ،‬علم التحقيق‬
‫الجنائي وعلم اإلجرام‪ ،‬اللذان يعدان ركائز العلوم الجنائية أو السياسة الجنائية بصفة عامة‪ .‬وإن كان يستفيد القانون‬
‫الجنائي أيضا ببعض العلوم ا ألخرى حتى وإن كانت من طبيعة غير جنائية‪ ،‬كعلم النفس وعلم االجتماع‪ ،‬والعلوم‬
‫االقتصادية وغيرها من العلوم اإلنسانية‪ ،‬خاصة وأن الجريمة بدورها ظاهرة إنسانية‪ ،‬فهمها يقتضي فهم السلوك‬
‫اإلنساني ككل‪ ،‬وذلك ال يتسنى إال باالستعانة بكل هذه العلوم في رسم السياسة الجنائية‪ .‬وهو ما نبينه باختصار في النقاط‬
‫التالية‪ .‬والتي ال نقصد بها عالقة قانون العقوبات بباقي فروع القانون األخرى‪ ،‬التي سنتناولها في نقطة مستقلة‪ ،‬وإنما‬
‫هي علوم متضمنة بطريقة غير مباشرة في إطار هذا القانون ذاته‪ .‬والمسماة بالعلوم الجنائية نسبة لهذا الفرع القانوني‪،‬‬
‫ويقصد بها تلك العلوم التي تبحث في الجريمة والمجرم‪ ،‬من حيث تحديد أسباب اإلجرام وصفات المجرم ووسائل‬
‫معالجته وتقويمه‪ ،‬وأهداف العقوبة وأغراضها‪ ،‬وبالتالي نقطة االشتراك بينها وبين القانون الجنائي‪ ،‬هي االهتمام‬
‫المشترك بالجريمة والمجرم والعقوبة‪ ،‬واألهم مكافحة الجريمة‪ ،‬وهي المحاور األساسية للقانون الجنائي وسبب وجوده‪.‬‬
‫غير أن وسيلة القانون الجنائي في مكافحة الجريمة‪ ،‬هي تحديد األعمال المجرمة وتقدير الجزاء المناسب لها‪ ،‬بينما‬
‫وسيلة العلوم الجنائية‪ ،‬هي البحث العلمي القائم على الدراسات التجريبية القائمة على المالحظة واستخالص النظريات‬
‫والقوانين العلمية التي تحكمها‪ ،‬والتي تجعل من المشرع الجنائي يضع النصوص القانونية وفق سياسة جنائية معينة التي‬
‫تعد محصلة النتائج العلمية التي توصلت إليها العلوم الجنائية]‪ .[13‬وسنبين أهم هذه العلوم في النقاط الثالث التالية‪.‬‬
‫أوال‪ :‬علـــم اإلجرام‬
‫علم اإلجرام‪ ،‬هو العلم الذي يدرس الجريمة كظاهرة اجتماعية‪ ،‬ويتناول بالتحليل والبحث أسباب‬
‫الجريمة ودوافعها المختلفة‪ ،‬والذي يشمل أيضا ثالثة فروع من العلوم‪ ،‬هي علم طبائع المجرم‪ ،‬ويتناول بالدراسة‬
‫أسباب الجريمة الكامنة في تكوين الجاني الخلقي والجسدي‪ ،‬وعلم النفس الجنائي‪ ،‬وهو العلم الذي يهتم بالبحث في‬
‫األسباب النفسية الدافعة الرتكاب الجرائم‪ ،‬وتطور الفكرة اإلجرامية في نفسية الجاني‪ ،‬باإلضافة إلى علم االجتماع‬
‫الجنائي ‪ ،‬وهو العلم الذي يركز على أسباب الجريمة الراجعة إلى المجتمع والظروف االجتماعية المحيطة بالجاني‪،‬‬
‫باإلضافة إلى علم آخر تفرع عن علم اإلجرام‪ ،‬وهو علم اإلجرام اإلكلينيكي‪ ،‬الذي يركز على دراسة كيفية فحص‬
‫الجاني جسديا ونفسيا وعقليا‪ ،‬للتعرف على أسباب انحرافه]‪ .[14‬خاصة وأن علماء اإلجرام لهم معاييرهم الكتشاف‬
‫تصرفات وسلوكات األفراد‪ ،‬ودراسة الجريمة دراسة علمية من حيث أسبابها وطرق مكافحتها‪ ،‬ومن هنا كانت العالقة‬
‫واالستفادة بين القانون الجنائي وعلم اإلجرام عالقة تعاونية أو تبادلية‪ ،‬حيث أن المعطيات األولية‪ ،‬من تعريف للجريمة‪،‬‬
‫وتقديم المادة البشرية األساسية موضوع الدراسة والبحث والتحليل‪ ،‬ورسم القيود والحدود التي يتعين على علم اإلجرام‬
‫عدم تعديها في دراسته للمجرم‪ ،‬ومنعهم من التدخل في الشؤون القانونية وخاصة الجنائية]‪.[15‬‬
‫ثانيا‪ :‬علــــم العقاب‬
‫ع لم العقاب‪ ،‬هو العلم الذي يهتم بدراسة أهداف العقوبة والتدابير وتحديد أغراضها االجتماعية‪ ،‬ودراسة‬
‫القواعد واألساليب الكفيلة بتحقيق أغراضها‪ ،‬ودراسة أساليب تقويم الجناة أثناء فترة تنفيذ العقوبة‬
‫أو التدبير‪ ،‬كما وهو العلم الذي يعني مجموعة القواعد التي تحدد األساليب التي تتبع في تنفيذ العقوبات والتدابير‬
‫االحترازية‪ ،‬حتى تحقق الغرض الذي يستهدفه المجتمع منها‪ ،‬في إطار الفلسفة التي يتبناها ويعمل في إطارها‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬علــم (التحقيق الجنائي) البوليس الفني‬
‫وهو العلم الذي يهتم بدراسة تحديد الجاني والتعرف على مرتكب الجريمة وكيفية وقوعها‪ ،‬بدءا من‬
‫دراسة البصمات‪ ،‬وكيفية رفع آثار الجريمة‪ ،‬وفحصها وتحليلها‪ ...‬وهو علم شهد تطورات مذهلة في السنوات‬

‫]‪[8‬‬
‫األخيرة]‪ ، [16‬حيث استفاد كثيرا بالتطورات العلمية والتكنولوجية التي وفرتها للبحث الجنائي‪ ،‬سواء فيما يتعلق بدراسة‬
‫مسرح الجريمة‪ ،‬أو التعرف على الجناة‪ ،‬من وجود لفكرة البصمات الوراثية‪ ،‬واألدلة اإللكترونية والمعلوماتية‬
‫والبيولوجية‪...‬وعلم التحقيق الجنائي يضم في الواقع العديد من التخصصات التي تتعاون في مجملها ألجل اكتشاف‬
‫الجريمة ومرتكبيها‪ ،‬ففي إطار هذا العلم‪ ،‬هناك " الطب الشرعي" الذي ساعد على اكتشاف أسباب الوفاة مثال ووقتها‪،‬‬
‫ومدى وقوع االعتداء من عدمه‪ ،‬وطريقة هذا االعتداء وما إن كان عن طريق العنف أو غيره‪ ،‬وأي وسيلة كانت سببا‬
‫في إحداث الجريمة‪ ،‬والتعرف حتى على المجني عليهم والجناة على حد سواء‪ ،‬سيما في ظل استفادة هذا العلم من‬
‫التطورات العلمية الحاصلة في الثورة البيولوجية والمعلوماتية‪ .‬كما يوجد " علم السموم" الذي يساعد على التحقق من‬
‫أن مادة معينة أو مخدر ما كان السبب في حد وث الجريمة‪ ،‬وتحليل المواد المخدرة في جرائم المخدرات‪ ،‬كما يوجد ما‬
‫يسمى بعلم البصمات]‪ ،[17‬وما يسمى " بالشرطة العلمية" وهي كلها علوم تسهل من مهام رجال البحث والتحري‪،‬‬
‫والقاضي في إصدار حكمه‪ .‬كما يستعين القانون الجنائي بالكثير من العلوم األخرى‪ ،‬مثل علم االجتماع القانوني‪ ،‬الذي‬
‫يهدف إلى دراسة الواقع االجتماعي للقانون منذ نشأته مرورا بمختلف مراحل تطوره‪ ،‬وكذا العوامل والظروف المحيطة‬
‫بإصدار التشريعات العقابية ودراسة آثارها االجتماعية‪ ،‬والعوامل االجتماعية التي تؤثر في إصدار القوانين وعمل‬
‫أجهزة العدالة‪ ،‬وهو بذلك يلعب دورا بارزا في تقديم الحقائق االجتماعية بطريقة موضوعية للمشرع لكي يصدر بناء‬
‫عليها قوانينه‪ ،‬مما يكفل عالقة الصلة بين القانون والمجتمع الذي نشأ لتنظيمه‪ ،‬وكذا علم اإلحصاء‪ ،‬الذي يعتني بإعطاء‬
‫حقائق رقمية للمتخصصين في التشريع حتى يكنوا على دراية واقعية بكل ما يتصل بالجريمة والمجرمين‪ ،‬من عدد‬
‫الجرائم والمجرمين أو دراسة نوعية معينة منهم‪ ،‬ومدى انتشار الجريمة في زمان ما أو مكان ما ‪ ...‬خاصة وأن‬
‫الدراسات اإلحصائية من أفضل السبل للحكم على نجاح السياسة الجنائية‪.‬‬

‫]‪[9‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫الطبيعة القانونية لقانون العقوبات‬
‫المقصود من تحديد طبيعة قانون العقوبات‪ ،‬البحث فيما إذا كان يعد فرعا من فروع القانون العام أو‬
‫فرعا من فروع القانون الخاص‪ ،‬وعموما‪ ،‬البحث في موقع هذا الفرع الهام من فروع القانون بين فروع القانون األخرى‬
‫التي تشكل النظام القانوني ألي دولة؟ خاصة إن كنا نعلم‪ ،‬أن النظام القانوني‪ ،‬هو مجموعة من القواعد القانونية التي‬
‫تنظم مجموعة من المصالح‪ ،‬هذه األخيرة التي قد تكون عامة كما قد تكون خاصة‪ ،‬ووفقا لذلك ينقسم القانون إلى قانون‬
‫عام وقانون خاص‪ ،‬فإذا كانت المصلحة التي تحميها القاعدة القانونية مصلحة عامة‪ ،‬كنا بصدد فرع قانوني عام‪ ،‬وإن‬
‫كانت المصلحة المراد حمايتها مصلحة خاصة أو فردية‪ ،‬كنا بصدد فرع قانوني خاص‪ ،‬وبذلك يكون القانون العام عبارة‬
‫عن مجموعة القواعد القانونية التي تحمي المصالح العامة وتنظم العالقات العامة‪ ،‬كالقانون الدستور‪ ،‬والقانون اإلداري‪،‬‬
‫والقانون المالي أو الجبائي أو الضريبي‪ ،‬والقانون الدولي العام‪ ،‬بينما القانون الخاص‪ ،‬هو مجموعة الفروع أو القواعد‬
‫القانونية التي تنظم العالقات فيما بين األفراد‪ ،‬وتحمي مصالحهم‪ ،‬كالقانون المدني‪ ،‬والقانون التجاري الذي يهدف إلى‬
‫تنظيم طائفة من أفراد المجتمع وهم التجار‪ ،‬ونوع محدد من األعمال وهي األعمال التجارية‪ ،‬وقانون األسرة الذي يهتم‬
‫بشؤون هذه األخيرة‪ ...‬وبالتالي السؤال السابق‪ ،‬وإن طرحناه بصيغة أخرى‪ ،‬ما موقع القانون الجنائي من تقسيمات‬
‫القانون‪ ،‬فهل قواعد قانون العقوبات تحمي مصالح عامة‪ ،‬وبالتالي هو فرع من فروع القانون العام‪ ،‬أم يقتصر دوره‬
‫على حماية مصالح فردية خاصة‪ ،‬وبالتالي هو فرع من فروع القانون الخاص؟ وهو السؤال الذي نرى بأن اإلجابة عليه‬
‫تكون بتناول عالقة قانون العقوبات بكل فروع القانون‪ ،‬سواء الخاصة‬
‫أو العامة منها‪ ،‬لنحكم بعدها عن طبيعة قواعده وموقعها من هذا التقسيم‪ ،‬أم تتنوع أصال بذاتية واستقاللية تميزها عن‬
‫سائر القواعد القانونية األخرى‪ .‬أم مجرد قانون مكمل لباقي فروع القانون األخرى وال يمكنه أن يتدخل ويلقى مجاال‬
‫للتطبيق إال عند عجز هذه القوانين عن كفالة حماية قانونية فعالة لقواعدها وأحكامها‪ .‬وذلك من خالل مطلبين‪ ،‬نتناول في‬
‫األول‪ ،‬عالقة قانون العقوبات بفروع القانون األخرى بمختلف تقسيماتها‪ ،‬وفي الثاني تحديد مكانة هذا القانون في النظام‬
‫القانوني للدولة‪ .‬على أن نخصص الثالث‪ ،‬وعلى غير العادة‪ ،‬لخصائص هذا القانون وأهدافه‪ ،‬ونقول على غير العادة‪،‬‬
‫كونه جرت العادة على أن يتم تناول الخصائص ضمن المفهوم‪ .‬لكن لطبيعة هذا القانون تركنا تناول الخصائص إلى ما‬
‫بعد تحديد طبيعة هذا القانون التي بإمكانها أن توضح بذاتها العديد من خصائص هذا القانون وكذا أهدافه المرتبطة بهذه‬
‫الخصائص‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫عالقة قانون العقوبات بفروع القانون األخرى‬
‫سنحاول من خالل هذا الفرع‪ ،‬وباختصار‪ ،‬أن نحدد عالقة قانون العقوبات بكل فروع القانون األخرى‪،‬‬
‫سواء كانت عامة أو خاصة‪ ،‬ومن خالل ذلك يمكننا الحكم عن طبيعته وما إن كان قانونا عاما‬
‫أو خاصا‪ ،‬أو له ذاتية واستقاللية تميزه عن سائر الفروع األخرى‪ .‬وذلك من خالل الفروع التالية‪ .‬أين نتناول عالقة‬
‫قانون العقوبات بفروع القانون العام‪ ،‬في فرع‪ ،‬وفي آخر‪ ،‬عالقته بفروع القانون الخاص‪ ،‬وما دمنا بصدد تحديد‬
‫العالقات‪ ،‬فإننا نخصص فرعا لعالقة قانون العقوبات بقواعد الدين واألخالق‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫عالقة قانون العقوبات بفروع القانون العام‬
‫باالطالع على محتوى غالبية الفروع القانونية التي تعد من القانون العام‪ ،‬نجد بأن لقانون العقوبات‬
‫عالقة مباشرة ووطيدة بمختلف هذه الفروع‪ ،‬حيث أنه وباالطالع على القانون الدستوري – كأهم القوانين العامة في‬
‫الدولة‪ -‬نجد بأن القانون الجنائي هو المخول للحماية أهم المبادئ واألحكام التي يتضمنها القانون الدستوري‪ ،‬سواء تعلق‬
‫األمر بالحقوق والحريات‪ ،‬حيث أن القانون العقوبات يجرم كل األفعال والسلوكات التي تمثل اعتداء على هذه‬
‫األخيرة]‪ ،[18‬وسواء تعلق األمر بحق الدولة في االحتفاظ بشكل الحكم‪ ،‬حيث يعاقب قانون العقوبات على جرائم الخيانة‬

‫]‪[10‬‬
‫والتجسس وكل أنواع االعتداءات التي تمس بأمن الدولة سواء من جهة الداخل أو من جهة الخارج]‪ ،[19‬كما يجرم كل‬
‫االعتداءات الواقعة على االقتصاد والدفاع الوطنيين]‪ ،[20‬وتجريم كل االعتداءات والمؤامرات ضد سلطة الدولة‬
‫وسالمة أرض الوطن]‪ ....[21‬وهي أمور تبين بكل وضوح العالقة الوطيدة بين القانونيين الجنائي والدستوري‪ ،‬الذي‬
‫يعد أهم القوانين العامة في الدولة أيا كان شكل الحكم فيها‪ ،‬ومثل هذه العالقة الوطيدة جعلت الفقه ينظر لفرع قانوني‬
‫جديد سماه ب ‪ ":‬القانون الجنائي الدستوري"]‪.[22‬‬
‫أما بخصوص القانو ن اإلداري‪ ،‬الذي يعد من أهم القوانين العامة للدولة‪ ،‬والذي عن طريقه تسير الدولة‬
‫مصالحها ومرافقها‪ ،‬نجد لقانون العقوبات عالقة جد وطيدة به‪ ،‬باعتباره يجسد حماية جد فعالة من االعتداءات التي‬
‫تكون السلطة اإلدارية أو اإلدارة العامة عرضة لها‪ ،‬بدءا من ضمان سير المرافق العامة وتنظيم ممارسة السلطة‬
‫اإلدارية في الدولة والرقابة على الموظفين وضمان احترامهم لحقوق وحريات األفراد‪ ،‬ضمن ما سماه المشرع الجزائي‬
‫ب‪ ":‬تواطؤ الموظفين" ( المواد من ‪ 112‬حتى ‪ ،)115‬والرقابة على السلطات اإلدارية والقضائية وحدود ممارستهما‬
‫لسلطاتهما ( المواد من ‪ 116‬حتى ‪ ،)118‬االختالس والغدر]‪ ،[23‬الرشوة واستغالل النفوذ باعتباره من جرائم‬
‫الموظفين‪ ،‬إساءة استعمال السلطة ضد األفراد واألشياء العمومية ( المواد من ‪ 135‬حتى ‪ ،)142‬وهي كلها تهدف إلى‬
‫ضمان احترام السلطات لمهامها‪ ،‬وفي المقابل هناك جرائم من خالقها يحمي قانون العقوبات الموظف‪ ،‬ويجعله يؤدي‬
‫مهامه في ظل من الحماية الفعالة‪ ،‬كحمايته من أفعال اإلهانة والتعدي ( المواد من ‪ 144‬حتى ‪ ،)148‬حماية أختام الدولة‬
‫( المادة ‪ 155‬وما بعدها)‪ ،‬وهي كلها أمور تبين لنا العالقة الوطيدة بين القانون اإلداري القانون الجنائي‪ ،‬للدرجة التي بدأ‬
‫فيها البعض أيضا ينظر لقانون عقوبات إداري‪.‬‬
‫وعلى العموم لقانون العقوبات عالقة وطيدة بمختلف فروع القانون العام‪ ،‬سواء تعلق األمر بالقانون‬
‫الضريبي أو الجبائي وما قرره من تجريم ألفعال التهرب والغش الضريبي‪ ،‬والقانون المالي وما يقرره من تجريم‬
‫لالعتداءات ا لواقعة على هذا المال‪ ،‬كما تظهر عالقته الوطيدة بالقانون الدولي العام‪ ،‬وذلك من خالل فرعين قانونيين‬
‫هامين‪ ،‬هما القانون الجنائي الدولي‪ ،‬الذي ينظم العالقات الجنائية فيما بين الدول‪ ،‬خاصة في مجال تسليم المجرمين‬
‫وطرد األجانب والتعاون الدولي لمكافحة الجرائم‪ ...‬وفرع قانوني آخر حديث نسبيا‪ ،‬وهو القانون الدولي الجنائي‪،‬‬
‫الذي ينظم جملة من األفعال التي تشكل جرائم ماسة بكل الدول‪ ،‬والتي تسعى لمكافحتها على النطاق العالمي الواسع في‬
‫إطار نوع من التنسيق والتعاون‪ ،‬مثل جرائم الحرب والجرائم ضد اإلنسانية‪ ،‬وجرائم المخدرات بمختلف أنواعها‪،‬‬
‫واالتجار بالرقيق‪ ،‬وعموما كل أنواع اإلجرام الدولي المنظم]‪.[24‬‬
‫و بالتالي يمكن القول مما سبق‪ ،‬بأنه للقانون الجنائي عالقة جد وطيدة مع كل فروع القانون العام في‬
‫الدولة‪ ،‬األمر الذي جعل الرأي الفقيه الجنائي الغالب يستقر عليه‪ ،‬ودون البحث في عالقة قانون العقوبات بفروع القانون‬
‫الخاصة‪ ،‬معتبرا هذا القانون جزء من النظام القانوني العام للدولة‪ ،‬وهو النظام الذي تتضامن قواعده فيما بينها لتنظيم‬
‫المجتمع‪ ،‬وحماية المصالح االجتماعية العامة‪ ،‬وتنظيم عالقات ذات طبيعة عامة‪ ،‬سواء كانت بين مؤسسات الدولة فيما‬
‫بينها‪ ،‬أو بين ه ذه المؤسسات واألفراد‪ ،‬وبالتالي القانون الجنائي‪ ،‬شأنه شأن القانون الدستوري والقانون الدولي العام‪،‬‬
‫والقانون اإلداري والقانون المالي‪ ،‬من فروع القانون العام‪ .‬غير أننا سنحاول رغم ذلك محاولة استقراء عالقة قانون‬
‫العقوبات بفروع القانون الخاصة‪ ،‬حتى ال يفهم من الكالم السابق أن هذه العالقة منعدمة‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫عالقة قانون العقوبات بفروع القانون الخاص‬
‫من أهم فروع القانون الخاص في كل النظم القانونية‪ ،‬نجد القانون المدني الذي يعد الشريعة العامة‬
‫للقوانين الخاصة‪ ،‬والذي تفرعت عنه باقي القوانين األخرى‪ ،‬ومنها القانون التجاري وقانون األحوال الشخصية‪ ،‬وهي‬
‫الفروع التي تقتصر دراستنا عليها في تبيان عالقتها بقانون العقوبات‪ .‬فبخصوص القانون المدني وما ينظمه من حقوق‬
‫مثل الملكية والحيازة والعقود‪ ،‬نجد بأن قانون العقوبات يوفر حماية لكل هذه المواضيع التي تعد من صمم اهتمامات‬
‫القانون ا لمدني‪ ،‬فهو يحمي الملكية سواء المنقولة منها أو العقارية من أفعال السرقة والنهب والنصب وخيانة األمانة‬

‫]‪[11‬‬
‫واإلتالف والحرق ومن كل أشكال التعدي األخرى‪ ،‬ويحمي العقود من التزوير‪ ...‬وبالتالي قانون العقوبات هو الموفر‬
‫للحماية القانونية الفعالة للنظم المقررة في التقنين المدني‪ ،‬وبالتالي العالقة بينهما جد ظاهرة‪.‬‬
‫وبخصوص القانون التجاري المنظم لفئة التجار وأعمالهم التجارية ووسائل قيامهم بمهاهم المتمثلة في‬
‫األوراق التجارية‪ ،‬نجد بأن قانون العقوبات يحمي هذه األوراق من التزوير‪ ،‬ومن كل أفعال تنال من الثقة المفروضة‬
‫فيها‪ ،‬ك ما يحمي العالمات التجارية والمنافسة‪ ،‬ويعاقب على انعدام الفواتير ومخالفة األسعار‪ ...‬األمر الذي يبين أيضا‬
‫العالقة المتينة بين القانونين‪.‬‬
‫وبخصوص قانون األحوال الشخصية‪ ،‬نجد بأن قانون العقوبات هو المقرر للحماية الجنائية لألسرة من‬
‫خالل تجريم االعتداءات التي تشكل تهديدا لها‪ ،‬مثل تجريمه لألفعال التي تشكل هتكا لعرض األسرة‪ ،‬كجريمة الزنا‬
‫وهتك العرض‪ ،‬ويحمي البناء من خالل تجريمة لفعلي اإلهمال والترك وعدم دفع النفقة المقررة‪ ،‬وتعريض حياة القصر‬
‫للضياع‪ ...‬بل نجد قانون العقوبات قد خصص فصال كامال للجنايات والجنح التي ترتكب ضد األسرة في المواد من‬
‫‪ 304‬إلى ‪ 309‬منه‪ .‬وتبرز هنا أيضا العالقة الظاهرة بينه وبين قانون األسرة‪.‬‬
‫و بالتالي نتوصل إلى القول بأنه لقانون العقوبات عالقة بسائر فروع القانون الخاص‪ ،‬مثلما وجدنا بأنه له‬
‫عالقة مع سائر فروع القانون العام‪ ،‬األمر الذي ال يمكننا حتى هذه اللحظة من الحكم على طبيعة هذا القانون وما إن‬
‫كان فرعا قانونيا عاما أم فرعا قانونيا خاصا؟ وهو السؤال الذي يقودنا لنقطة ثانية نبحث من خاللها عن مكانة قانون‬
‫العقوبات في النظام القانوني للدولة‪ .‬وهو موضوع دراستنا في المطلب الثاني‪ ،‬غير أننا ما دمنا بصدد تحديد عالقة‬
‫قانون العقوبات بمختلف فروع القانون‪ ،‬فإننا ال تود أن نفوت عالقته بقواعد الدين واألخالق‪.‬‬
‫الفرع الثالث‬
‫عالقة قانون العقوبات بالدين واألخالق‬
‫تفرض كل من قواعد الدين واألخالق‪ ،‬مجموعة من الواجبات وااللتزامات على الفرد نحو ربه ونحو‬
‫غيره من األفراد‪ ،‬ونحو نفسه أيضا‪ ،‬وعادة ما تقوم مثل هذه االلتزامات والواجبات على أساس مبادئ البر واإلحسان‬
‫والخير والعدالة‪ ،‬وكل ما يهدف إلى سمو النفس البشرية‪ ،‬وذلك تحت التهديد بمجموعة من الجزاءات غير القانونية‪ ،‬منها‬
‫الجزاءات الدينية‪ ،‬أو في استهجان الرأي العام أو حتى ذاتية‪ ،‬تتمثل في وخز الضمير‪ ،‬لذا فعالقة قواعد الدين واألخالق‬
‫تأثير كبير ال ينكر على قواعد قانون العقوبات‪ ،‬حيث كثيرا ما يستلهم منها المشرع الجنائي بعض قواعد التجريم‬
‫والعقاب‪ ،‬كما أنه بها يستهدي القاضي ويسترشد عند تقييمه للمسؤولية وتقديره للعقاب‪ ،‬وعليه فعالقة االلتقاء بين الدين‬
‫واألخالق وقانون العقوبات أيضا وثيقة في مجال عالقة الفرد بغيره من األفراد‪ ،‬وإن كان لكل من القواعد مجاله‬
‫ونطاقه‪ .‬بالرغم من وجود عالقة تعارض بينهما أحيانا‪ ،‬حيث قد يهتم قانون العقوبات ببعض المجاالت التي ال تهتم بها‬
‫قواعد الدين واألخالق‪ ،‬مثل قواعد المرور‪ ،‬كما قد تهتم قواعد الدين واألخالق ببعض المجاالت التي ال يهتم بها قانون‬
‫العقوبات‪ ،‬مثلما هو الشأن بالنسبة لجريمة الزنا إال في بعض الجوانب الوضعية المبتدعة‪ .‬وهو ما جعل بعض الفقه‪،‬‬
‫يرى أن دائرة قانون العقوبات ال تتطابق مع دائرة قواعد األخالق‪ ،‬فهي أضيق منها من وجه‪ ،‬وأوسع منها من وجه‬
‫آخر‪ ،‬وإن كان هناك منطقة تؤثر فيها قواعد الدين واألخالق على قواعد قانون العقوبات‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫مكانة قانون العقوبات في النظام القانوني للدولة‬
‫بعد إجرائنا للعالقة الموجودة بين القانون الجنائي ومختلف فروع القانون األخرى‪ ،‬سواء كانت عامة أو‬
‫خاصة‪ ،‬تبين لنا أن عالقته موجودة بكل فرع القانون هذه أيا كانت طبيعتها‪ ،‬مما يجعلنا لم نجب بدقة عن السؤال ولم‬
‫نحدد طبيعته‪ .‬وهو ما أثار جدال فقهيا واسعا بين اتجاهين‪ ،‬يرى أحدهما بأن قانون العقوبات ما هو إال فرع من فروع‬
‫القانون العام‪ ،‬والثاني‪ ،‬يرى أنه فرع من فروع القانون الخاص‪ ،‬ولكل من االتجاهين حججه‪ ،‬وهو الخالف الذي نتناوله‬
‫باختصار في فرع‪ ،‬لنتناول في آخر االتجاه الغالب في الفقه‪.‬‬

‫الفرع األول‬

‫]‪[12‬‬
‫الخالف حول مكانة قانون العقوبات‬
‫انقسم الفقه بخصوص مكانة قانون العقوبات بين قائل بأنه فرع من فروع القانون العام‪ ،‬وآخر قائل بأنه‬
‫فرع من فروع القانون الخاص‪ ،‬ولكل اتجاه حججه وأسانيده‪ ،‬والتي نحاول تناولها باختصار في النقطتين التاليتين]‪.[25‬‬
‫أوال‪ :‬قانون العقوبات فرع من فروع القانون العام‬
‫يرى أنصار هذا االتجاه‪ ،‬أن قانون العقوبات حتى وإن كانت له عالقة بفروع القانون الخاص‪ ،‬ألنه تطبيقه يمس‬
‫العالقة بين الفرد والدولة وأن المتهم في الدعاوى الجزائية يحاكم باسم الشعب‪ ،‬وأنه غالبية األفعال التي يعاقب عليها‬
‫موجهة ضد مصالح المجتمع‪ ،‬كجرائم أمن الدولة‪ ،‬وجرائم اختالس المال العام ورشوة الموظفين‪ ،‬وهي المواضيع التي‬
‫ال جدل حول اعتبارها مواضيع من القانون العام‪ ،‬وأن الجرائم التي يظهر أنها تمثل مصلحة لألفراد‪ ،‬كالقتل والضرب‬
‫والسرقة‪ ،‬فهي جرائم تمس بطريق غير مباشر مصلحة المجتمع أيضا‪ ،‬كون هذه األخيرة تقتضي تأمين حقوق أفراده‬
‫األساسية مثل حقهم في الحياة والسالمة الجسدية والملكية‪ ،‬وأن تأمين هذه الحقوق الخاصة تشكل في مجموعها تأمين‬
‫مصالح المجتمع األساسية‪ .‬وبالتالي‪ ،‬تكون المصالح التي يحميها قانون العقوبات دوما مصالح اجتماعية عامة‪ ،‬حتى وإن‬
‫تضمنت بالتبعية حماية حقوق يظهر أنها خاصة‪ .‬كما يعد القانون الجنائي من فروع القانون العام‪ ،‬بالنظر لزاوية‬
‫العالقات التي ينشئها بعد وقوع الجريمة‪ ،‬والتي ترتب قيام حق الدولة كممثلة للمجتمع في متابعة مرتكب الجريمة‬
‫ومعاقبته‪ ،‬عن طريق جهاز عام وهو جهاز النيابة العامة‪ ،‬مما يجعل قانون العقوبات بكل قواعده فرع من فروع القانون‬
‫العـــــام‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬قانون العقوبات فرع من فروع القانون الخاص‬
‫على عكس االتجاه األول‪ ،‬يرى أنصار هذا االتجاه‪ ،‬بأن قانون العقوبات أقرب للقوانين الخاصة‪ ،‬سيما‬
‫إذا نظرنا للتالزم الدائم بين الدعوى العمومية والدعوى المدنية التبعية‪ ،‬وأن معظم نصوصه تجرم وتعاقب حقوقا خاصة‬
‫باألفراد وتتدخل كلما عجزت القوانين الخاصة عن فرض الحماية الكافية ألحكامها‪ ،‬وبالتالي الجدل الفقهي لم يفصل في‬
‫طبيعة قانون العقوبات‪ ،‬هنا ظهر اتجاه غالب في الفقه‪ ،‬رأى أنه لقانون العقوبات ذاتية واستقاللية عن كل فروع‬
‫القوانين‪ ،‬سواء كانت خاصة أو عامة‪ .‬وهي المسألة التي نتناولها في الفرع الموالي‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫ذاتية قانــــون العقوبات‬
‫يرى غالبية الفقه فصال للجدل السابق‪ ،‬أن قانون العقوبات وبالرغم من عالقته بكامل فروع القانون‬
‫الخاص‪ ،‬إال أنه فرع من فروع القانون العام في الدولة‪ ،‬غير أنه يختلف عنها باستقالله عنها‪ ،‬وبذاتية تميزه عن غيره‬
‫من فروع القانون العام األخرى‪ ،‬وليس مجرد حارس للقوانين األخرى سواء كانت عامـــــة أو خاصة‪ .‬فوظيفة القانون‬
‫الجنائي داخل النظام القانوني للدولة‪ ،‬ليست مجرد وظيفة احتياطية باعتباره يتضمن قواعد جزائية تتدخل في حالة عجز‬
‫القوانين األخرى على بسط حماية لنفسها‪ ،‬فيتدخل لفرض االحترام لهذه القواعد‪ ،‬مما يجعله قانون تابع لغيره ذو طبيعة‬
‫احتياطية تدخله مرهون بعجز القواعد األخرى‪ ،‬األمر الذي يجعله مجرد حارس أو شرطي للقوانين األخرى‪ ،‬يتم‬
‫االستنجاد به فقط في حالة عجز القواعد األخرى]‪ .[26‬وإن كان هذا القول يعد جزءا من الحقيقة‪ ،‬غير أنه ليس الحقيقة‬
‫كلها‪ ،‬كون القانون الجنائي يشكل وحدة قانونية تتشكل من مجموعة من القواعد القانونية ذات الطبيعة الخاصة‪ ،‬التي ال‬
‫تشبه أي فرع قانوني آخر‪ ،‬خاصة وأنه يتميز ببعض القواعد التي لم يسبق لباقي القوانين أن عرفتها‪ ،‬ويرتب التزامات‬
‫تجهلها ه ذه القوانين‪ ،‬كااللتزام باحترام اآلخرين ومساعدتهم‪ ،‬وفكرة الشروع التي في حقيقتها ال تعد اعتداء على أي حق‬
‫من الحقوق أيا كانت طبيعتها‪ ،‬ويتطلب العمد كقاعدة والخطأ كاستثناء‪ ،‬ويركز في الكثير من األحيان على بعض‬
‫الظروف األخرى‪ ،‬مثل شخصية الجاني والمجني عليه‪ ،‬وزمان ومكان ارتكاب الجريمة‪ ،‬ووسيلة ارتكاب الجريمة‪،‬‬
‫ومثل هذه المسائل ليست ذات أهمية في فروع القانون األخرى‪ ،‬كما أن القانون الجنائي وإن استعار مفهوما أو فكرة من‬
‫فرع قانوني آخر‪ ،‬فإنه ال يتقيد بالمفهوم المعطى لها في هذا الفرع من فروع القانون‪ ،‬بل قد يوسع أو يضيق منه بحسب‬
‫هدفه في حد ذاته بعيدا عن هدف القانون اآلخر‪ ،‬كمدلول الملكية والحيازة والشيك والموظف العام‪ ،‬واهتمامه بفكرة‬
‫الخطورة اإلجرامية‪ ،‬وهي كلها أفكار تميزه وتجعل له ذاتية مستقلة عن سائر فروع القانون األخرى سواء كانت عامة‬
‫أو خاصة‪ .‬وإن كان فعال من القانون العام كون ه يهدف بالدرجة األولى لحماية النظام العام والمصلحة العامة‪ ،‬وهو األمر‬

‫]‪[13‬‬
‫الذي انعكس بوضوح على خصائص هذا القانون وأهدافه‪ ،‬التي ال يتميز بها أي قانون آخر سواه‪ ،‬وهي الخصائص التي‬
‫سنتناولها في الفرع الموالي‪ ،‬مع أهداف هذا القانون‪ ،‬مذكرين بأننا تعمدنا ترك الخصائص لما بعد تحديد الطبيعة وذلك‬
‫على غير العادة – حيث في الغالب ما تعالج الخصائص مع التعريف ضمن المفهوم‪.-‬‬
‫المطلب الثالث‬
‫خصائص وأهداف قانون العقوبات‬
‫ن ظرا لطبيعة قواعد قانون العقوبات وما تميز به محتوى وذاتية واستقاللية‪ ،‬جعلته يتميز بجملة من‬
‫الخصائص التي تعطي لهذا القانون نوع من التميز عن باقي فروع القانون األخرى‪ ،‬وتؤكد فعال فكرة ذاتيته واستقالليته‬
‫التي توصلنا إليها في النقطة السابقة‪ ،‬وتجعله يحقق أهداف مغايرة تماما لألهداف المتوخاة من باقي فروع النظام‬
‫القانوني في الدولة‪ ،‬لذا سنحاول أن نتناول هذا الفرع من خالل فرعين‪ ،‬نخصص األول لخصائص قانون العقوبات‪،‬‬
‫والثاني ألهدافه‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫خصائص قانون العقوبات‬
‫يتميز قانون العقوبات بجملة من الخصائص التي تميزه عن باقي فروع القانون األخرى‪ ،‬وتؤكد‬
‫استقالليته عنها وتمتعه بذاتية‪ ،‬ومن أهمها‪ ،‬أنه قانون ذو طابع سيادي أحادي المصدر متصف بنوع من الثبات‬
‫واالستقرار والتعقيد‪ ،‬وهو ما نفصله في النقاط التالية‪.‬‬
‫أوال‪ :‬قانون العقوبات ذو طابع سيادي‬
‫م ن أهم الخصائص التي ينفرد بها قانون العقوبات عن سائر الفروع القانونية األخرى‪ ،‬هو طابعه‬
‫السيادي الذي من خالله تعبر الدولة عن سيادته على إقليمها وبسط نفوذها عليه‪ ،‬من خالل مبدأ اإلقليمية الحاكم لتطبيق‬
‫هذا القانون كقاعدة – على نحو ما سنراه‪ -‬ومن خالله تعبر الدولة عن سيادتها على األفراد أيا كانت جنسيتهم وتفرض‬
‫عليهم السلوكات التي تتماشى وأهدافها‪ ،‬وعن طريقه تفرض النظام واالستقرار واألمن داخل المجتمع‪ ،‬كما أنه القانون‬
‫الوحيد الذي يطبقه القاضي الوطني الذي يمتنع عليه كقاعدة تطبيق قوانين العقوبات األجنبية‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬قانون العقوبات أحادي المصدر‬
‫ن ظرا الرتباط قانون العقوبات بسيادة الدولة‪ ،‬وبناءه على مبدأ فريد من نوعه هو " مبدأ شرعية الجرائم‬
‫والعقوبات" الذي يقضي بأنه ال جريمة وال عقوبة إال بنص صريح في القانون وأن يكون هذا األخير صادر عن سلطة‬
‫مختصة بإصداره وفقا للدستور‪ ،‬ووفقا إلجراءات محددة ومبينة دستوريا مخافتها يترتب عليه بطالن النص‪ .‬مما يجعل‬
‫منه قانوني أحادي المصدر‪ ،‬على عكس القانون المدني الذي تقضي المادة األولى منه بتعدد مصادره‪ ،‬وهي الخاصية‬
‫التي جعلت من قانون العقوبات يتميز بأخرى ناجمة عنها‪ ،‬وهي أنه قانون جامد‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬قانون العقوبات قانون جامد‬
‫م ن الخاصية السابقة التي تحصر مصدر قانون العقوبات في النص التشريعي المكتوب‪ ،‬فإن التجريم‬
‫وال عقاب والتعديل والتغيير في أحكامه‪ ،‬يتطلب المرور بمراحل معقدة وطويلة وتتطلب فترة زمنية أطول مما تتطلبه‬
‫باقي فروع القانون األخرى‪ ،‬مما يجعله قانون يتميز بالجمود والثبات واالستقرار النسبي‪ .‬خاصة وأن تجريم فعل جديد‬
‫أو إلغاء جريمة موجودة يتطلب فترة زمنية طويلة ال نظير لها مع أي قانون آخر‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬قانون العقوبات ذو طابع إجرائي معقد‬


‫ق انون العقوبات مرتبط ارتباطا وثيقا بقانون اإلجراءات الجزائية‪ ،‬وآخر يتعلق بتنفيذ الجزاء المحكوم به‪،‬‬
‫وأنه دون هذه القوانين اإلجرائية ال يمكن أن يلقى قانون العقوبات التطبيق‪ ،‬حيث ال براءة وال إدانة إال بالمرور بمراحل‬
‫إجرائية طويلة ومعقدة‪ ،‬وأن هذا القانون اإلجرائي متعلق فقط بقانون العقوبات‪ ،‬عكس القانون اإلجرائي في القوانين‬
‫الخاصة الذي يحكم كل فروع القانون الموضوعية الخاصة وحتى العامة مثل القانون اإلداري – يحكمها جميعا قانون‬
‫اإلجراءات المدنية واإلدارية‪ -‬وهي قوانين ال تحتاج في تطبيقها لهذه القوانين اإلجرائية إال إذا ثار نزاع‪ ،‬عكس قانون‬
‫العقوبات الذي يوجب اقترانه بالقانون اإلجرائي في أي إجراء‪.‬‬

‫]‪[14‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫أهداف قانون العقوبات‬
‫بالنظر للذاتية الخاصة التي يتمتع بها قانون العقوبات وطبيعته السيادية‪ ،‬ووضعه الخاص في النظام‬
‫القانوني للدولة‪ ،‬فإننا نجده يهدف إلى تحقيق مرامي سامية ورئيسية‪ ،‬يمكن لنا أن نوجزها في حماية مصالح المجتمع‬
‫وتحقيق األمن والطمأنينة ألفراده‪ ،‬وتحقيق العدالة‪ ،‬كل ذلك عن طريق فكرتي الردع العام والخاص‪ ،‬وهو ما نبينه‬
‫باختصار في النقاط األربعة التالية]‪.[27‬‬
‫أوال‪ :‬حماية المصالح االجتماعية المشتركة‬
‫ي هدف قانون العقوبات أساسا إلى حماية المصالح االجتماعية المشتركة لجموع األفراد الذين ينتمون‬
‫للمجتمع‪ ،‬سواء كانت هذه المصالح جسدية‪ ،‬كالحق في الحياة وسالمة البدن من جرائم القتل والضرب والجرح وكل‬
‫أشكال اإليذاء األخرى‪ ،‬أو مادية اقتصادية‪ ،‬كحماية األموال وكل أنواع الملكية والحيازة من السرقة والنصب واالحتيال‬
‫واإلتالف‪ ...‬أو أدبية معنوية‪ ،‬كحماية الشرف واالعتبار من جرائم القذف والسب والشتم والتحقير‪...‬‬
‫ثانيا‪ :‬تحقيـق العدالة‬
‫قواعد قانون العقوبات قواعد عامة ومجردة‪ ،‬كونها تهدف إلى تجريم السلوكات التي يرى المشرع أنها‬
‫ضارة بمصالح المجتمع‪ ،‬دون أن يميز في ذلك بين األفراد الذين يرتكبونها‪ ،‬مقرا عقوبة واحدة للجميع‪ ،‬ومبينا أحكام‬
‫تدرج المسؤولية بصفة موضوعية ومجردة‪ ،‬ومراعيا ألوضاع الجناة والمجني عليهم وموازاة ذلك مع مصالح المجتمع‪،‬‬
‫مبنيا على العديد من األفكار القانونية التي تعد تجسيدا لفكرة العدالة في معناها الواسع‪ ،‬كمبدأ الشرعية ومبدأ مادية‬
‫الجريمة‪ ،‬وفكرة الذنب أو اإلثم‪ ،‬وشخصية المسؤولية والعقوبة‪ ...‬وهو في ذلك يرمي لتحقيق المساواة والعدالة داخل‬
‫المجت مع‪ ،‬وهي الهدف الذي يقود لهدف آخر ال يقل أهمية وهو توفير األمن والطمأنينة لألفراد‪ ،‬الذي نتناوله في النقطة‬
‫الموالية‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬توفير الطمأنينة لألفراد‬
‫يعد قانون العقوبات صدرا لتحقيق األمن والطمأنينة للمخاطبين بأحكامه‪ ،‬بالنظر لما تتضمنه قواعده من‬
‫تحديد مسبق لما هو محظور على األفراد إتيانه‪ ،‬وبناءه على مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات‪ ،‬وهو المبدأ الذي يوفر‬
‫األمان لألفراد من تعسف وتحكم السلطة التنفيذية والقضائية‪ ،‬وبناء عليه قررت العديد من المبادئ األخرى التي تعد‬
‫مصدرا لالستقرار النفسي لألفراد أهمها تقادم الجرائم والعقوبات‪ ،‬عدم رجعية نصوص القانون العقوبات للماضي‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬تحقيق الردع العام والردع الخاص‬
‫الردع العام يتحقق بما تلحقه أحكام قانون العقوبات من تخويف وترهيب ألفراد المجتمع بما تتضمنه من‬
‫عقوبات‪ ،‬ومن رؤيتهم إنزال هذه العقوبات على الجناة‪ ،‬أما الردع الخاص‪ ،‬فيتحقق بإنزال الجزاء على مقترفي الجرائم‬
‫كنتيجة لعدم امتثالهم ألوامر ونواهي قانون العقوبات‪ ،‬لتكون مانعا لهم من معاودة اإلجرام]‪.[28‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫تطور قانون العقوبات‬
‫مــر قانون العقوبات في تطوره بالعديد من المراحل‪ ،‬وهي التي ميزت تطور المجتمعات البشرية‪،‬‬
‫وعرف الكثير من التطورات واالنقالبات‪ ،‬غير أننا سنركز دراستنا فقط على أهم المراحل التي تساعدنا على فهم مبادئه‬
‫ومضامينه التي ترسخت اليوم كنظريات‪ .‬وفي تمييز مراحل تطور قانون العقوبات يمكن القول بأنها ثالث مراحل‬
‫أساسية‪ ،‬هي مرحلة المجتمعات القديمة ما قبل ظهور وقيام الدولة‪ ،‬وبعدها مرحلة ظهور هذه األخيرة وقيامها –الدولة‪،‬‬
‫ثم مرحلة ظهور المدارس الفقهية وأثرها على تطور قانون العقوبات‪ ،‬غير أننا سنحاول أن نتناول هذا التطور ضمن‬

‫]‪[15‬‬
‫مبحثين أساسيين‪ ،‬نخصص األول لمحلة ما قبل ظهور المدارس الفقهية‪ ،‬والثاني لتطور قانون العقوبات مع ظهور‬
‫المدارس الفقهية‪ ،‬كون األخيرة هي التي ساهمت في تطوره ووصله للشكل الذي هو عليه حاليا‪.‬‬

‫]‪[16‬‬
‫المبحث األول‬
‫قانون العقوبات في المجتمعات القديمة‬
‫يقصد بالمجتمعات القديمة‪ ،‬تلك المراحل الزمنية الطويلة التي مرت بها المجتمعات البشرية قبل أن‬
‫تنتظم في شكل دول‪ ،‬وفي هذا الوقت أكد الباحثين أن البشرية عرفت أربعة نظم أساسية‪ ،‬هي نظام األسرة‪ ،‬نظام‬
‫العشيرة‪ ،‬نظام القبيلة‪ ،‬ثم فكرة المدينة التي كانت أساسا لقيام الدول‪ .‬ورغم بساطة تكوين هذه الجماعات البشرية‬
‫الصغيرة وطريقة عيشها التقليدية‪ ،‬إال أنها عرفت الجريمة ورد الفعل المقابل ضدها‪ ،‬وهو ما أكدته الكتب السماوية منها‬
‫الشريعة اإلسالمية الغراء‪ ،‬حيث بينت أن أول فعل بشري مثير على وجه األرض كانت جريمة قتل‪ ،‬حيث قال عز وجل‬
‫في اآلية ‪ 29‬من سورة المائدة‪ ":،‬فطوعت له نفسه قتل أخيه فأصبح من الخاسرين" في إشارة إلى قتل ابن آدم " قابيل"‬
‫ألخيه هابيل‪ .‬واالهتمام بالجريمة ورد الفعل المقابل‪ ،‬أي الجزاء‪ ،‬كانت النواة األولى لالهتمام بقانون العقوبات‪ ،‬مثلما هو‬
‫األمر عليه اليوم‪ ،‬حيث أن أساس قواعد قانون العقوبات " الجريمة والجزاء" المشكلة للشق الموضوعي للقاعدة‬
‫الجزائية‪ .‬وسنحاول تقسيم تطور قانون العقوبات في المجتمعات القديمة إلى مرحلتين أساسيتين‪ ،‬هما مرحلة ما قبل‬
‫ظهور الدولة‪ ،‬ومرحلة ظهورها‪ ،‬وذلك في المطلبين التاليين‪ ،‬مركزين فقط أهم التطورات التي شكلت مالمح القوانين‬
‫العقابية المعروفة في العصر الحديث‪ ،‬دون تلك التفاصيل التي انفردت بها هذه المجتمعات ولم يبق لها اثر اليوم‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫قانون العقوبات في فترة ما قبل ظهور الدولة‬
‫قبل ظهور الدول‪ ،‬عرفت المجتمعات البدائية التقليدية األولى نظم اجتماعية بسيطة‪ ،‬تمثلت في األسرة‪،‬‬
‫القبيلة‪ ،‬ثم العشيرة‪ .‬والتي عرفت بعض النظم واألفكار التي انعكست على مبادئ ونظريات قانون العقوبات‪ ،‬وطورت‬
‫في مراحل تطوره الالحقة‪ .‬وهو ما نحاول اإلشارة إليه باختصار وبتناول أهم األفكار التي جاءت بها هذه التطورات‪،‬‬
‫وذلك في الفرعين التاليين‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫مجتمع األسرة وقانون العقوبات‬
‫كانت بداية االهتمام بقانون العقوبات‪ ،‬وتشكل نواته األولى‪ ،‬عن طريق األعراف التي تشكلت‬
‫بخصوص فكرة " العدوان" ‪ ،‬حيث كان كل اعتداء على فرد من أفراد األسرة يعد كاعتداء على سائر أفرادها‪ ،‬سواء‬
‫كان ا عتداءا داخليا أو خارجيا من فرد أو أفراد من أسر أخرى‪ ،‬في الحالة األولى يقرر رب األسرة الجزاء المقرر على‬
‫الفرد مقابل اعتداءه على أسرته‪ ،‬والذي قد يصل حد النفي من األسرة أو القتل‪ ،‬وفي حالة االعتداء الخارجي كان الجزاء‬
‫عبارة عن ثأر جماعي]‪ .[29‬وما يمكن قوله عن هذه الفترة من حياة البشرية‪ ،‬أن الجرائم كانت قليلة وعادة ما تنحصر‬
‫في جرائم األشخاص فقط‪ ،‬وعلى الخصوص جريمة القتل‪ ،‬وذلك راجع لبساطة الحياة في تلك المجتمعات وقلة األموال‬
‫التي يحتمل االعتداء عليها‪ ،‬مما انعدم معه جرائم األموال‪ ،‬وكان رد الفعل على الجرائم التي كانت موجودة غريزيا‬
‫يتمثل في انتقام المجني عليه أو أهله‪ ،‬على الجاني أو أهله‪ ،‬وهو االنتقام الذي يساوي أو يفوق – في غالب األحيان‪-‬‬
‫الضرر الذي لحق بهم‪ ،‬مما جعل من حلقات االنتقام تتسلسل وتتاولى حيث كل انتقام يعقبه انتقام مضاد وهكذا‪ ،‬األمر‬
‫الذي يترك بصمة واضحة وكبيرة في مجال تطور قانون العقوبات‪..‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫مجتمع العشيرة وقانون العقوبات‬
‫بالنظر لكون العشيرة عبارة عن انضمام بعض األسر لبعضها البعض]‪ ،[30‬خاصة تلك التي تربط‬
‫بينها روابط النسب‪ ،‬ورثت العشيرة النظام العقابي الذي كان سائدا في مرحلة األسرة‪ ،‬وطورته نوعا ما بما يالءم‬
‫مصالح العشائر الجديدة‪ ،‬خاصة وأن سلطات رب األسرة في توقيع الجزاء‪ ،‬انتقلت إلى رئيس العشيرة في حال ما إن‬
‫كان الجاني ينتمي لهذه العشيرة‪ ،‬وحلت فكرة االنتقام الجماعي" بين أسر العشيرة الواحدة‪ ،‬مما هدد أمن العشائر وأحلوا‬
‫محله فكرة الطرد من العشيرة حتى ال يعرض وحدتها للخطر‪ ،‬واهتدوا أيضا لفكرة نظام القصاص الذي كان له تأثير‬
‫كبير في الحد من شهوة االنتقام الفردي والمبالغة في الثأر‪ .‬غير أنه في حاالت االعتداءات الخارجية بقيت الحروب بين‬
‫العشائر وسيلة لتوقيع الجزاء واالنتقام من جناة العشائر األخرى‪ ،‬وتفكيرا في الحد من ويالت هذه الحروب اهتدت‬

‫]‪[17‬‬
‫العشائر لفكرة الدية والصلح‪ ،‬الدية وهي مبلغ من المال تدفعه عشيرة المعتدي لعشيرة المعتدى عليه نظير تنازلها عن‬
‫الثأر‪ ،‬مما قلل من الحروب التي كانت تثار من حين آلخر بين هذه العشائر‪ ،‬وقربت بينها‪ ،‬األمر الذي جعلها تتحد في‬
‫نظم اجتماعية أوسع هي نظم القبيلة والمدن]‪ .[31‬سيما بظهور الديانات التي ساهمت في هذا التوحد واالندماج‪ ،‬وقوت‬
‫من سلطات الحكام التي اصطبغت بصبغة دينية‪ ،‬األمر الذي جعل من الجرائم التي يقرها تصطبغ بصبغة دينية أيضا‪،‬‬
‫وتجعل من العقوبة التي تنزل بالجاني‪ ،‬إرضاء لآللهة قبل أن تكون انتقاما أو ثأرا‪ .‬مما مكن الكهنة ورجال الدين في‬
‫التجريم والعقاب‪ .‬ويمكن القول أن هذا التطور يسمح لنا القول بأن سلطات التجريم والعقاب انتقلت من رب األسرة إلى‬
‫رب العشيرة إلى رجل الدين أو الكاهن‪ ،‬وأن العقوبة إرضاء لآللهة قبل أن تكون عبارة عن انتقام أو ثأر من الجاني‪.‬‬
‫ومع ظهور الدول عملت على تعديل مضامين التجريم والعقاب بما يبسط هيبتها ويؤكد هيمنها ويفرض سادتها‬
‫وسلطانها‪ ،‬وكانت وسيلتها الوحيدة في ذلك قانون العقوبات‪ ،‬وقد كان لها ذلك فعال‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫قانون العقوبات ومرحلة ظهور الدولة‬
‫مع البدايات األولى لظهور الدولة‪ ،‬عملت األخيرة على اإلبقاء على نظامي الصلح والدية‪ ،‬وتعديلها بما‬
‫يخدم أهدافها ويحافظ على مصالحها‪ ،‬لذا أول ما قامت به أن جعلت منهما نظامين إجباريين‪ ،‬بعدما كانا في المجتمعات‬
‫القديمة نظامين اختياريين‪ ،‬وفي شق التجريم عملت على التوسع في الجرائم العامة على حساب الجرائم الخاصة‪ ،‬مما‬
‫مكنها من القضاء على سلطات رؤساء العشائر والقبائل‪ ،‬وقامت من جديد بتعديل النظم التجريمية والعقابية بما يخدم‬
‫مصالحها اآلنية‪ ،‬ويقوي نفوذها ويحقق أهدافها‪ .‬وعكس المجتمعات القديمة أين كان االهتمام بالعقوبة أكثر من االهتمام‬
‫بالجريمة ‪ ،‬فإنه مع ظهور الدولة انعكس الوضع‪ ،‬وبدأ االهتمام بالجريمة أكثر من العقاب‪ ،‬فبعدما عملت على إحداث‬
‫الجرائم العامة الماسة بنظام الدولة‪ ،‬ووسعت من نطاقها على حساب الجرائم الخاصة‪ ،‬ربطت الجريمة بنظام وأمن‬
‫المجتمع – وهي الفكرة السائدة في النظام الجنائية الحديثة‪ -‬وبما أن الجريمة مساس وتعريض لمصالح الدولة وسيادتها‬
‫للخطر‪ ،‬فإن رد الفعل عليها حق للدولة فقط‪ ،‬لها أن تقرر نوعه ومقداره‪ ،‬وبالتالي أصبح النظام العقابي شأن من شؤون‬
‫السلطة وحدها دون غيرها‪ .‬كما ظهرت فكرة الردع ووقاية المجتمع من اإلجرام‪ ،‬كأهداف للجزاء الجنائي عوض‬
‫ا النتقام والثأر‪ ،‬والردع قد يكون خاص يتمثل في تكفير الجاني عن إثمه‪ ،‬أو عام يتمثل في تخويف وترهيب باقي أفراد‬
‫المجتمع‪ ،‬ليتأكد بذلك الدفاع عن أمن وسالمة المجتمع‪ ،‬غير أن هذه األهداف جعلت الدول القديمة تبالغ في قسوة‬
‫العقوبات‪ ،‬وهنا ظهرت عقوبات اإلعدام بكثرة‪ ،‬مع عقوبات أخرى كثيرة تنطوي على الكثير من صنوف التعذيب‪ ،‬مثل‬
‫اإلحراق وتمزيق األطراف والتغليل بالسالسل‪ .‬األمر الذي جعل القرون الوسطى‪ ،‬التي شهدت نشأة وظهور الدول تمر‬
‫بمرحلة سواد حالك في المجال العقابي‪ ،‬في الغالب ما يتجاوزه الشراح األوروبيين‪ ،‬إلخفاء حقيقة الوضع المأساوي في‬
‫المجتمعات األوروبية‪ ،‬من جهة‪ ،‬ولتغطية أفضال الشريعة اإلسالمية على المجتمعات من جهة ثانية‪ .‬خاصة وأنها‬
‫الشريعة التي أنارت هذه الحقبة التاريخية وطورتها وأرست حضارة ظاهرة ال تخفى معالمها‪ .‬وهو ما يقدونا إلى تناول‬
‫فكرة أثر الدين على تطوير قانون العقوبات]‪ ،[32‬من خالل فرعين‪ ،‬نتناول في األول قانون العقوبات والديانة‬
‫المسيحية‪ ،‬وفي الثاني الشريعة اإلسالمية وأثرها في تطوير قانون العقوبات‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫قانون العقوبات والديانة المسيحية‬
‫ورثت الدول األوروبية القوانين الجزائية المصبوغة بصبغة دينية‪ ،‬نتيجة انتشار الديانة المسيحية‪ ،‬وهو‬
‫الوضع الذي استغلته الكنيسة وحاولت اإلبقاء عليه وتدعيمه‪ ،‬ومحاولتها السيطرة على أجهزة العدالة بالنظر لكونها‬
‫صاحبة االختصاص‪ ،‬باعتبار الجرائم اصطبغت بصبغة دينية‪ ،‬الوضع الذي جعل الكنيسة تنازع الدولة في مسألة‬
‫االختصاص القضائي‪ ،‬والتجريم والعقاب‪ ،‬وهنا انقسم قطاع العدالة إلى قسمين‪ ،‬عدالة كنسية يرعاها رجال الدين‪،‬‬
‫وعدالة دنيوية ترعاها الدولة‪ ،‬ونتج عن ذلك صراع طويل ومرير انتهى في نهاية المطاف إلى تغليب دور المحاكم‬
‫الدنيوية على حساب المحاكم الكنسية‪ ،‬مما زد من تعسف وتحكم أهواء الحكام‪ ،‬وظلت العقوبات تتصف بالقسوة‪ ،‬ابتلى‬
‫فيها الناس بعدالة ال ترحم‪ ،‬هدفها وهمها الوحيد ردع الشعوب وتخويفهم وبث الرعب فيهم حفاظا على كيان الدولة‪،‬‬
‫ورغم ذلك بقيت الجرائم والعقوبات تتسم بصبغة دينية‪ ،‬وساد اعتقاد في أوروبا أن أي كارثة أو مشكلة تحل بالمجتمع‬

‫]‪[18‬‬
‫سببها غضب اآللهة عن الجريمة التي أغضبتها‪ ،‬لذا يجب إنزال أشد العقوبات على من يغضب اآللهة‪ ،‬واعتبرت العقوبة‬
‫في القانون الكنسي تكفير عن ذنوب الجاني وإرضاء لآللهة‪ .‬ومما زاد األوضاع تعقيدا‪ ،‬مبالغة القضاة في إرضاء‬
‫الحكام‪ ،‬وتكريس الطبقية بين الناس وسيادة الالمساواة‪ ،‬ومما أزم األوضاع أكثر اعتبار الحكام أنفسهم مفوضون في‬
‫األرض للحكم باسم اآللهة‪ ،‬فكانت هذه الفترة في أوروبا في الحقيقة من أسوأ الفترات التي عرفتها العدالة الجنائية‬
‫وقانون العقوبات على اإلطالق‪ ،‬امتدت لنهاية القرون الوسطى‪ ،‬وبالضبط إلى ما قبل الثورة الفرنسية سنة ‪ .1789‬غير‬
‫أن األمر اختلف في الناحية الثانية من العالم بإطالل فجر الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫أثر الشريعة اإلسالمية في تطوير قانون العقوبات‬
‫على عكس الجانب المظلم للعدالة الجنائية وقانون العقوبات السائد في أوروبا في القرون الوسطى‪ ،‬فإن‬
‫الجهة األخرى المقابلة كانت تنعم بتطبيق أكثر النظم القانونية الجنائية إحكاما‪ ،‬حيث كانت تطبق الشريعة اإلسالمية‪،‬‬
‫التي نرى أنها على عكس التطورات السابقة‪ ،‬اهتمت بالجريمة قبل اهتمامها بالعقوبة‪ ،‬حيث قسمت الجريمة شرعا إلى‬
‫ثالثة أقسام مختلفة لكل منها قواعدها وأحكامها‪ ،‬ولكل نوع منها عقوباتها الخاصة‪ ،‬وأصناف الجرائم في الشريعة‬
‫اإلسالمية هي‪ :‬جرائم الحدود التي حددت على سبيل الحصر في القرآن الكريم‪ ،‬ويعاقب عليها بعقوبة تسمى الحد المقرر‬
‫كحق هلل عز وجل‪ ،‬وهي جرائم قررت لحفظ النفس والنسل والعرض والمال والعقل والدين‪ ،‬لذا قابلتها جرائم‪ :‬السرقة‪،‬‬
‫الزنا‪ ،‬القذف‪ ،‬شرب الخمر‪ ،‬الردة‪ ،‬البغي والحرابة‪ .‬والنوع الثاني من الجرائم‪ ،‬هي جرائم القصاص والدية وهي جرائم‬
‫قررت حفاظا على مصالح األفراد‪ ،‬والنوع الثالث‪ ،‬وهو الجرائم التعزيرية التي تعني تأديب على الذنوب التي لم يأتي‬
‫فيها حد من الحدود‪ ،‬أو القصاص والدية‪ .‬كما اهتمت الشريعة اإلسالمية بفكرة المسؤولية الجنائية وطرق اإلثبات‬
‫وغيرها من األفكار التي لم تكن معروفة في القانون العقابي في الشق اآلخر من العالم‪.‬‬
‫وما يمكننا قوله عن دور الشريعة اإلسالمية‪ ،‬نبرزه باختصار فيما قاله العالمة أحمد عبد الرزاق السنهوري ‪":‬‬
‫لو وطئت أكنافها وعبدت سبلها لكان لنا في هذا التراث الجليل ما ينفخ روح االستقالل في فقهنا وفي قضائنا وفي‬
‫تشريعاتنا‪ ،‬ثم ألشرفنا نطالع العالم بهذا النور الجديد فنضيء به جانبا من جوانب الثقافة العالية في القانون "‪ ،‬وهي‬
‫حقيقة لم يقف عندها فقهاء الشريعة اإلسالمية فقط وإنما حتى الفقه األوروبي المقارن‪ ،‬خاصة في المؤتمر الذي عقدته‬
‫شعبة الحقوق الشرعية من المجتمع الدولي للحقوق المقارنة في كلية الحقوق جامعة باريس في ‪ 2‬جويلية ‪ 1951‬بعنوان‪:‬‬
‫" أسبوع الفقه اإلسالمي "‪ ،‬حيث تم التأكيد على أن مبادئ الفقه اإلسالمي لها قيمة حقوقية تشريعية ال يمارى فيها‪ ،‬كما‬
‫أن اختالف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات ومن‬
‫األصول الحقوقية التي هي مناط اإلعجاب‪ ،‬والتي بها يستطيع الفقه اإلسالمي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة‬
‫والتوفيق بين حاجاتها وفي أثناء مناقشات هذا المؤتمر أبدى نقيب المحامين في باريس آنذاك دهشته بقولــه ‪ " :‬أنا ال‬
‫أعرف كيف أوفق بين ما كان يحكى لنا عن جمود الفقه اإلسالمي وعدم صالحيته كأساس تشريعي يفي بحاجات‬
‫المجتمع الحضري المتطور‪ ،‬وبين ما نسمعه اآلن في محاضرات ومناقشات‪ ،‬مما يثبت خالف ذلك تماما ببراهين‬
‫النصوص والمبادئ"‬
‫هذا‪ ،‬ويمكننا أن ننبه طلبتنا األعزاء‪ ،‬أن االهتمام في هذه المراحل كان منصبا باألساس على فكرة‬
‫العقوبة والجزاء‪ ،‬وهو أمر تبينه غالبية الدراسات‪ ،‬في حين أننا نرى األهم أن يتم التركيز على جانب الجريمة وهو ما‬
‫أهمل تماما‪ ،‬لكن بدراستنا لمختلف التطورات أمكننا أن نستنتج المالحظات التالية بخصوص تطور نظرية الجريمة‪ ،‬في‬
‫مقابل تطور نظرية الجزاء السابقة‪ ،‬فالجرائم في المجتمعات البشرية القيديمة‪ ،‬وبالنظر لبساطة طرق عيشها‪،‬لم تكن‬
‫متعددة بالشكل الحالي‪ ،‬حيث أهم ما عرفته المجتمعات البشرية قديما خاصة في مرحلة األسرة وبداية تشكل العشائر‪،‬‬
‫هو الجرائم الواقعة على األشخاص وأهمها جريمة القتل‪ ،‬ثم مع القوة التي بدأت تتخذها المكونات القديمة وتقوية طرق‬
‫عيشها ووسائل تبادلها‪ ،‬بدأت تظهر الجرائم المالية‪ ،‬وبظهور الدين ظهرت الجرائم التي تشكل اعتداء على الديانات‪،‬‬
‫أما من حيث تكوين البنيان القانوني‬ ‫وبظهور الدولة ونظم الحكم المختلفة ظهر ما يعرف اليوم بالجرائم السياسية‪.‬‬
‫للجريمة‪ ،‬فلم يكن ينظر في المجتمعات القديمة للجانب النفسي للجريمة أو لمرتكبها‪ ،‬وبمعنى قانوني أدق‪ ،‬لم يكن ينظر‬
‫للركن المعنوي للجريمة‪ ،‬حيث كانت مجرد فعل مادي يسأل من صدر عنه دون اعتداء بإرادته أو قصده‪ ،‬فالجريمة وفق‬

‫]‪[19‬‬
‫هذه المجتمعات كانت تتكون من ركن واحد هو ركن مادي‪ .‬أما بداية بروز الركن المعنوي للجريمة واتخاذه مكانته‬
‫كركن أساسي في الجريمة‪ ،‬كان مع ظهور القانون الروماني القديم‪ ،‬لكن دوره كان مقتصرا على تحديد المسؤولية‬
‫وتقدير العقاب ال كركن بالمعنى القانوني الدقيق‪ ،‬بناء عليه يكتمل البنيان القانوني للجريمة‪ .‬غير أن هذا الركن اتخذ‬
‫مكانته الطبيعية إلى جانب الركن المادي‪ ،‬بظهور الديانة المسيحية‪ ،‬حيث تعد الجريمة في نظر الفقه الكنسي أن يكون‬
‫الجاني أراد الخطيئة واتجهت نيته إليه ا‪ ،‬لكن مع الشريعة اإلسالمية تبلور بطريقة واضحة‪ ،‬ومن بعده المسؤولية الجنائية‬
‫وموانعها وأسباب اإلباحــــة‪.‬‬
‫أما النقطة الثانية التي من خاللها يمكننا التطرق لتطور قانون العقوبات‪ ،‬هي فكرة مبدأ الشرعية‬
‫أو على األقل مبدأ التجريم والعقاب‪ ،‬حيث أنه في المجتمعات القديمة لم يكن المبدأ معروفا وبالتالي كان التعسف ومبدأ‬
‫الالمساواة‪ ،‬وكان األفراد يفاجئون بجرائم لم يكن أمرها مجرما من قبل وتوقع عليهم عقوبات لم ينذروا بها من قبل‬
‫وعدم المساواة بن الجناة حيث كانت تتحكم في ذلك وضعهم االجتماعي والطبقي‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫قانون العقوبات وظهور المدارس الفقهية‬
‫بالرغم من أن ظهور الدولة لم يأتي بالكثير من الجديد لتطور القانون العقابي‪ ،‬إال أن الوضع المظلم‬
‫والحالك الذي عرفته أوروبا في القرون الوسطى‪ ،‬عرف ظهور العديد من التيارات الفكرية الجنائية المنادية لإلصالح‪،‬‬
‫وهي التيارات التي تولدت عنها العديد من المدارس الفقهية الجنائية التي الزال فكرها يدرس لغاية اليوم‪ ،‬وتركت‬

‫]‪[20‬‬
‫بصماتها الراسخة على قانون العقوبات‪ ،‬بالرغم من أن كل مدرسة من هذه المدارس قامت على أسس فلسفية تختلف‬
‫تمام على المدارس األخرى‪ ،‬ورغم هذا االختالف‪ ،‬إال أنها ساهمت في إصالح تشوه واعوجاج العدالة الجنائية‬
‫األوروبية‪ ،‬وأنقذتها من غرقها في الظلمة والفساد الذي كانت تعرفه‪ ،‬وخلصتها من القوانين العرفية والمنشورات الملكية‬
‫التي كانت تكرس التعسف والتحكم والحكم وفق أهواء الحكام والملوك‪ ،‬وتقنن الالمساواة والطبقية‪ ،‬وكان ذلك نتيجة‬
‫إلشعال مشاعر الفالسفة والمفكرين التي حركت أقالمهم لتشعل كتاباتهم بوادر الثورة على األوضاع‪ ،‬والمناداة بقانون‬
‫أكثر إنسانية ينبذ عم المساواة والتفرقة وتحكم القضاة واستبداد الحكام‪ ،‬سيما في ظل تشبع المجتمعات األوروبية آنذاك‬
‫بفلسفة العقد االجتماعي‪ ،‬للفقيه جون جاك روسو التي أوضح مضامينها في كتابه العقد االجتماعي‪ ،‬وفلسفة الفقيه‬
‫مونتسكيو بظهور كتابه روح القوانين سنة ‪ 1748‬الذي أول ما أكد فيه هو نسبية قانون العقوبات وضرورة اختالفه‬
‫باختالف المجتمعات والعصور‪ ،‬كما هاجم بشدة النتائج المترتبة عن االنتقام الجماعي وبصفة خاصة قسوة العقوبات‪،‬‬
‫األمر الذي شجع على إيجاد مناخ فكري جنائي نادى بقانون عقوبات يراعي روح العصر ورغبة المجتمعات في التغيير‬
‫والتجديد واإلصالح‪ ،‬وكثرت التيارات الفكرية في أهم الدول األوروبية‪ ،‬وأهمها إيطاليا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا‪ ،‬التي‬
‫شكلت العديد م ن المدارس الفقهية‪ ،‬التي ساهمت بصفة مباشرة في بلورة القانون الجنائي كنظام متكامل‪ ،‬وأهم هذه‬
‫المدارس‪ ،‬المدرسة التقليدية األولى ( المدرسة الكالسيكية)‪ ،‬والمدرسة التقليدية الحديثة‪ ،‬والمدرسة الوضعية‪ ،‬والعديد من‬
‫المدارس الوسطية أو التوفيقية‪ ،‬وأخيرا ظهور مدرسة الدفاع االجتماعي‪ ،‬وعموما يمكن تلخيص هذه االتجاهات في‬
‫المدارس التقليدية‪ ،‬ونقيضتها المدرسة الوضعية‪ ،‬وبينما المدارس التوفيقية‪ ،‬وهو األمر الذي نعالجه من خالل المطالب‬
‫الثالثة التالية‪..‬‬
‫المطلب األول‬
‫المدارس التقليدية‬
‫المدرسة التقليدية من أهم وأولى المدارس الفقهية التي اهتمت بقانون العقوبات وساهمت في تطويره‬
‫بشكل كبير‪ ،‬خاصة وأنها شهدت العديد من التطورات في حد ذاتها‪ ،‬وهي التطورات التي أسفرت عن ظهور مدرستين‬
‫تقليديتين‪ ،‬سميت األولى بالكالسيكية أو بالتقليدية األولى أو القديمة‪ ،‬وسميت الثانية بالمدرسة التقليدية الحديثة‪ ،‬وكانت‬
‫هناك محاوالت إلنشاء مدرسة تقليدية ثالثة‪ ،‬غير أن دراستنا ستتركز على المدرستين األوليتين‪ ،‬في الفرعين التاليين‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫المدرسة التقليدية األولى (المدرسة الكالسيكية)‬
‫نشأت هذه المدرسة في منتصف القرن الثامن عشر]‪ ،[33‬بعد صدور كتاب " الجرائم والعقوبات"‬
‫للمفكر اإليطالي بيكاريا سنة ‪ ،1764‬الذي ألفه في مجتمع اتسم بقسوة العقوبات والتجريم على األهواء وانتفاء المساواة‬
‫في التطبيق تبعا الختالف الطبقات‪ ،‬حيث نادى في كتابه بوجوب المساواة والقضاء على الطبقية‪ ،‬واإلقالل من قسوة‬
‫العقوبات‪ ،‬ونادى بمبدأ قانونية الجرائم والعقوبات‪ ،‬وهي األفكار التي اتبعها في إيطاليا فيال تيجري‪ ،‬وفي ألمانيا‬
‫فويرباخ‪ ،‬وفي إنجلترا بنتام‪ ،‬الذي أدخل فكرة المنفعة كأساس لتقدير العقوبة‪ ،‬وأن تكون العقوبة بقدر من اإليذاء واأللم‬
‫للمجرم بقدر يفوق اللذة التي حصل عليها من ارتكاب جريمته‪ ،‬كما ركز على األثر الرادع للعقوبة‪ ،‬خاصة الردع العام‬
‫الذي يعد أساس إحجام الناس على ارتكاب الجرائم‪ ،‬وعموما يمكن تلخيص األسس الفلسفية التي قام عليها فكر المدرسة‬
‫التقليدية على المبادئ التالية التي كان لها أثر في قانون العقوبات الفرنسي الصادر سنة ‪:1910‬‬
‫‪ -1‬إقرار مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات‪ ،‬وإبطال سلطة القاضي في خلق الجرائم‪ ،‬والتقليل من سلطته التقديرية‬
‫في تحديد العقوبات‪.‬‬
‫‪ -2‬أساس المسؤو لية الجنائية حرية االختيار‪ ،‬حيث توجه أوامر ونواهي قانون العقوبات للشخص المميز‬
‫المدرك لتصرفاته‪.‬‬
‫‪ -3‬الحد من قسوة العقوبات‪ ،‬ورأى بيكاريا الذي يعد أول من وضع أسس في فلسفة العقاب ووضع نظرية‬
‫متكاملة تحدد أساس حق الدولة في العقاب‪ ،‬وانتقد قسوة العقوبات التي رأى أنه ال فائدة منها حيث يعمل الجناة على‬
‫اإلفالت منها‪ ،‬بل فكر في أن العقوبة يجب أن تكون بقدر يفوق ما يحصل عليه الجاني من جريمته‪ ،‬حيث إذا فكر في‬
‫ارتكاب جريمة وازن بين ما يعود عليه من نفع جراء ارتكابه هذه الجريمة‪ ،‬وما ينزل عليه من عقاب‪ ،‬حيث إن وجد‬

‫]‪[21‬‬
‫األلم الذي ينزل به جراء العقوبة يفوق النفع الذي يحصل عليه من اقتراف الجريمة امتنع عن ارتكابها‪ ،‬بينما جاك‬
‫روسو وفي كتابه العقد االجتماعي‪ ،‬فيرى رد العقوبة إلى أدنى الحدود‪ ،‬حيث أن الشخص لما تنازل عن حريته للجماعة‪،‬‬
‫لم يتنازل إال عن القدر الالزم لحماية هذه الحرية‪ ،‬وتبنى جيريمي بنتام فكرة المنفعة االجتماعية أيضا‪ ،‬التي نادى بها‬
‫بيكاريا‪ ،‬حيث رأى أنه ال فائدة من قسوة العقوبات ما لم تكن تنطوي على مصلحة‪ ،‬وبالتالي نادى هؤالء‪ ،‬بالمساواة بين‬
‫الناس في العقاب‪ ،‬والتقليل من قسوة العقوبات واألخذ بفكرة حرية االختيار كأساس للمسؤولية الجنائية‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫المدرسة التقليدية الحديثة‬
‫وهي المدرسة التي قامت على أفكار الفيلسوف األلماني إيمانويل كانت‪ ،‬والتي كان لها أثر كبير على‬
‫الفكر القانوني الجنائي‪ ،‬حيث نادى بفكرة العدالة المطلقة‪ ،‬وأسس العقوبة على اعتبارات إرضاء الشعور بالعدالة‪ ،‬حيث‬
‫أن الجاني أنزل شرا بالمجتمع‪ ،‬وإرضاء شعور هذا المجتمع بالعدالة يجب أن يقابله إنزال شر بالجاني‪ ،‬حتى ولم لم‬
‫تتحقق مصلحة للمجتمع في ذلك‪ ،‬وقد صاغ في ذلك مثاال شهيرا‪ ،‬هو أنه المجتمع الذي يهجر فرد أو يعدمه وبالرغم من‬
‫أنه افتقد لهذا العضو ولم ينل أية فائدة من ذلك‪ ،‬إال أن تنفيذ العقوبة تنزل رضاء بالعدالة بهذا المجتمع‪ .‬وقد تأثر بأفكار‬
‫هذا المفكر‪ ،‬روسيه وأرتوال ومولي ه في فرنسا‪ ،‬وكيرار وكرمينيان في إيطاليا‪ ،‬وهوس في بلجيكا‪ ،‬وميترماير في ألمانيا‪،‬‬
‫وتكونت من أفكار الجميع المدرسة التقليدية الحديثة‪ ،‬وجمعوا بين فكرة العدالة التي نادى بها كانت‪ ،‬وفكرة المنعة التي‬
‫نادى بها بنتام‪ ،‬وأسسوا العقوبة على فكرة العدالة التي تحقق منفعة للمجتمع‪ ،‬حيث ال يعاقب الجاني بعقوبة تتجاوز‬
‫الحدود التي تتطلبها مصلحة المجتمع‪ ،‬كما انتقد رواد هذه المدرسة فكرة المساواة المطلقة التي ال تأخذ بعين االعتبار‬
‫شخصية الجاني وظروفه الشخصية‪ ،‬حيث أدخلوا فكرة الظروف المخففة ونادوا تبعا لذلك بالتوسع بعض الشيء في‬
‫السلطة التقديرية للقاضي حتى يراعي الظروف الشخصية للجاني]‪.[34‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫المدرسة الوضعية ( أو اإليطالية)‬
‫المدرسة الوضعية نشأت بإيطاليا مع صدور كتاب " اإلنسان المجرم" للطبيب اإليطالي لمبروزو سنة‬
‫‪ ،1876‬وتبعه القاضي جارو فالو الذي ألف كتابا عن علم اإلجرام‪ ،‬وفيري الذي وضع مبادئ نظريته في رسالة تخرجه‬
‫من كلية الحقوق‪ ،‬بعنوان " آفاق جديدة في قانون العقوبات"‪ ،‬وكونت آراء الثالثة المدرسة الوضعية‪ ،‬التي تعد أول‬
‫محطة حولت األنظار من االهتمام بالجريمة كفعل ضار وقع في المجتمع‪ ،‬إلى شخص المجرم باعتباره محدث هذا الفعل‬
‫ال ضار‪ ،‬ومصدر الخطورة في العودة مستقبال لإلجرام‪ ،‬وإحداث المزيد من الوقائع الضارة األخرى بالمجتمع‪ ،‬وبالتالي‬
‫وجوب أن يهدف رد فعل المجتمع هذه الخطورة اإلجرامية‪ ،‬وذلك بتطبيق التدابير االحترازية للقضاء على الخطورة‬
‫الكامنة لدى المجرم‪ .‬خاصة وأنها المدرسة التي نفت بداية " حرية االختيار" عن الجاني‪ ،‬فهو مدفوعا دائما بعوامل‬
‫داخلية دفعته الرتكاب الجرائم‪ ،‬سواء كانت هذه العوامل الداخلية‪ ،‬ذات أصل وراثي أو جثماني أو اجتماعي‪ ،‬والتي‬
‫تدفعه جبرا إلى ارتكاب الجرائم‪ ،‬وبالتالي العقوبة سوف لن يكون لها أثرا رادعا ويجب أن يتجرد مضمونها من فكرة‬
‫الردع‪ ،‬كون الردع يستلزم التسليم بحرية اإلرادة]‪ ،[35‬والجاني ليس حرا بل مدفوعا‪ ،‬بمعنى ليس مخيرا بل مسيرا‪.‬‬
‫وأن الخطورة اإلجرامية هذه يجب أن تواجه بتدابير احترازية كفيلة بالقضاء عليها‪ ،‬وإصالح الجاني أو إقصائه من‬
‫المجتمع إن تعذر إصالحه‪ ،‬لذا تمحورت أفكار هذه المدرسة حول المبادئ التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬ضرورة قيام قانون العقوبات على أسس شخصية‪ ،‬حيث يجب أن يأخذ بعين االعتبار شخصية الجاني وليس‬
‫ماديات الجريمة‪ ،‬فالجريمة ليست عبارة عن مظهر مادي خارجي‪ ،‬وإنما انعكاس لخطورة إجرامية كامنة لدى الجاني‪.‬‬
‫‪ -2‬إنكار حرية االختيار‪ ،‬والقول بأن المجرم مسير وليس مخير‪ ،‬فهو مدفوع الرتكاب الجرائم نتيجة خطورته‬
‫اإلجرامية‪ ،‬لذا فمسؤوليته ال تقوم على أساس حرية االختيار‪ ،‬وإنما على فكرة الخطورة اإلجرامية‪ .‬حيث يرى أنصار‬
‫هذه المدرسة أنه هناك خطرون وليس مذنبون‪ ،‬والخطر يجب أن يوضع في مكان ال يمكنه من االعتداء على غيره‪ ،‬لذا‬
‫يجب تقرير التدابير االحترازية عوض العقوبات‪.‬‬
‫‪ -3‬تصنيف المجرمين تبعا لعوامل الخطورة اإلجرامية لديهم‪ ،‬وتقرير تدابير احترازية خاصة بكل طائفة من‬
‫هذه الطوائف‪ ،‬فالمجرمين يصنفون إلى مجرم بالطبيعة‪ ،‬ومجرم معتاد‪ ،‬ومجرم بالعاطفة‪ ،‬ومجرم بالمصادفة‪ ،‬فالمجرم‬

‫]‪[22‬‬
‫بالطبيعة والمجرم باالعتياد مدفوعين إلى ارتكاب الجرائم بعوامل تكوينية‪ ،‬يستحيل شفائها‪ ،‬يتعين اتخاذ تدابير اإلبعاد‬
‫من المجتمع ضدهم‪ ،‬والمجرم المجنون فهو مدفوع إلى اإلجرام نتيجة مرض عقلي‪ ،‬يتعين إيداعه إحدى دور األمراض‬
‫العقلية‪ ،‬والمجرم بالعاطفة هو المجرم الذي يندفع إلى ارتكاب الجريمة نتيجة عدم توازن في حالته العاطفية‪ ،‬يتعين أن‬
‫يعوض أضرار الجريمة زيادة على توقيع تدابير احترازية عليه‪ ،‬والمجرم صدفة‪ ،‬وهو الذي دفعته الرتكاب الجريمة‬
‫عوامل وظروف اجتماعية طارئة‪ ،‬وبالتالي يمكن إصالحه بتدبير احترازي يعالج الظروف االجتماعية التي دفعته‬
‫الرتكاب الجريمة‪.‬‬
‫‪ -4‬رد فعل المجتمع يجب أن يكون عبارة عن تدبير احترازي هدفه إما اإلصالح أو اإلقصاء من المجتمع‪ ،‬ال‬
‫على العقوبة الهادفة إلى الردع والقائمة على اعتبارات العدالة‪.‬‬
‫وإن كانت أفكار المدرسة الوضعية لم تطبق بالكامل في القوانين والنظم الجنائية‪ ،‬إال أن بعض أفكارها‬
‫كانت أساس للعديد من األفكار القانونية‪ ،‬مثل منح القاضي السلطة التقديرية في تقدير العقوبة المالئمة لشخصية الجاني‪،‬‬
‫وهو ما يسمى مبدأ تفريد العقاب الذي يعد من أهم المبادئ الجنائية المطبقة في كل التشريعات الجزائية الحديثة‪ ،‬وفكرة‬
‫غرض العقوبة اإلصالحي والعالجي التي أصبحت محور لسياسات تنفيذ العقوبات في التشريعات الوضعية‪.‬‬
‫المطلب الثالث‬
‫المدارس التوفيـــقية‬
‫أسفر الجدل الذي حصل بين المدرستين التقليدية والوضعية‪ ،‬إلى ظهور مدارس وسطية أو توفيقية‪،‬‬
‫حاولت التوفيق بين آراء المدرستين‪ ،‬متفادية إسراف المدرسة الوضعية في دراسة المجرم على حساب الجريمة‪ ،‬وإنكار‬
‫حرية اختياره تماما‪ ،‬وإفراغ العقوبة من معاني الردع تماما وتوجهها نوح اإلصالح والعالج وحتى اإلقصاء‪ ،‬وعلى‬
‫النقيض من ذلك‪ ،‬مغاالة المدرسة التقليدية في االهتمام بالجريمة دون المجرم‪ ،‬أي االهتمام بالفعل دون الفاعل‪ ،‬وحرية‬
‫إرادته‪ ،‬وإفراغ العقوبة من كل معاني اإلصالح والعالج والتهذيب‪ ،‬وتوجهها فقط نحو تحقيق العدالة والمساواة والمنفعة‬
‫االجتماعية‪.‬‬
‫وكانت من أهم المدارس التوفيقية‪ ،‬المدرسة الثالثة التي أنشأها في إيطاليا كارنفالي وأليمينا‪ ،‬واالتحاد‬
‫الدولي لقانون العقوبات الذي أسسه فان هامل برنس وفون ليست‪ ،‬ونقطة االشتراك بين هذه المدارس‪ ،‬هي االعتراف‬
‫بحرية اإلرادة لدى الجاني وإقامة المسؤولية الجنائية على أفكار التمييز واإلدراك‪ ،‬وأن أهداف العقوبة متعددة‪ ،‬فهي‬
‫تهدف إلى تحقيق الردع‪ ،‬كما تسعى إلى إصالح الجاني وتهذيبه وعالجه أيضا‪ ،‬لذا يمكن إقرار التدابير االحترازية إلى‬
‫جانب العقوبات التقليدية‪ ،‬وبذلك أصبحت الغلبة ألفكار المدارس التوفيقية في التشريعات العقابية الحديثة]‪ ،[36‬بما فيها‬
‫المشرع الجزائري‪ ،‬الذي أسس المسؤولية الجنائية على حرية اإلرادة والتمييز واإلدراك‪ ،‬حيث ال تقوم هذه المسؤولية‬
‫في حالة صغر السن والجنون واإلكراه ( المواد من ‪ 47‬إلى ‪ 51‬من تقنين العقوبات الجزائري)‪ ،‬وإلقراره للتدابير‬
‫األمنية إلى جانب العقوبات ( المواد ‪ 22-19‬من تقنين العقوبات الجزائري)‪ .‬ومن بين أعهم المدارس التوفيقية‪ ،‬نجد‬
‫مدرسة ا لدفاع االجتماعي‪ ،‬ومدرسة االتحاد الدولي لقانون العقوبات‪ ،‬الذين سنتناولهما من خالل الفرعين التاليين‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫مدرسة الدفاع االجتماعي‬
‫االهتمام بالشخص الجاني عوض الجريمة‬
‫و هي المدرسة التي تأسست على يد الفقيه اإليطالي جراماتيكا بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬حيث أنشا‬
‫مركزا للدراسات التي تتمحور حول فكرة أو نظرية " الدفاع االجتماعي"‪ ،‬وأسس مجلة سميت ب " مجلة مؤتمرات‬
‫الدفاع االجتماعي" في إيطاليا سنة ‪ ،1947‬وفي بلجيكا سنة ‪ ،1949‬و‪ ،1954‬ونشرت سنة ‪ 1955‬برنامجا تضمن الحد‬
‫األدنى لسياستها‪ .‬وهي المدرسة التي تقوم أساسا حول األفكار التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬يجب أن يكون هدف قانون العقوبات‪ ،‬حماية المجتمع من مخاطر السلوكات المجرمة‪ ،‬وال أن تكون وظيفته‬
‫مجرد القصاص من الجاني وتخويفه وترهيبه بالعقوبات‪ ،‬لذا يجب أن يتم إقرار وسائل أخرى إلى جانب العقوبات‬
‫التقليدية‪ ،‬وهي تدابير الدفاع االجتماعي‪ ،‬لتصبح العقوبة تدبيرا للدفاع االجتماعي‪ ،‬وقانون العقوبات قانونا للدفاع‬

‫]‪[23‬‬
‫االجتماعي‪ .‬وهي بذلك تدافع عن أفراد المجتمع كافة‪ ،‬بما فيهم الجناة ذاتهم‪ ،‬وال تهتم كثيرا بالبحث في األساس الفلسفي‬
‫لمسؤولية الجاني‪.‬‬
‫‪ -2‬تتقرر تدابير الدفاع االجتماعي بدراسة علمية دقيقة تكشف أسباب انحراف الجاني الختيار التدبير المالئم‬
‫للتطبيق عليه‪.‬‬
‫‪ -3‬إيالء أهمية كبيرة لمتابعة الجاني ومساعدته بعد إخضاعه لتدابير الدفاع االجتماعي‪ ،‬وذلك بتقديم الرعاية‬
‫والمساعدة له للتغلب على األسباب التي أدت به إلى االنحراف‪ ،‬وبذلك يمكن إعادة اإلدماج االجتماعي للمجرمين‬
‫كأعضاء صالحين فيه‪.‬‬
‫‪ -4‬كما يمكن تطبيق تدابير الدفاع االجتماعي حتى قبل إقدام الشخص على ارتكاب الجريمة‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫الكشف المبكر عن األشخاص الذين تتوفر لديهم نفسيا واجتماعيا عناصر يترجح معها ارتكابهم جرائم في المستقبل‪ .‬بل‬
‫األكثر من ذلك‪ ،‬نادى جراماتيكا بالعديد من الوسائل التي يجب أن تبنى عليها السياسة الجنائية‪ ،‬لدرجة أنه انتقدت من‬
‫زميله مارك آنسل الذي ظل فترة طويلة سكرتيرا عاما للحركة‪ ،‬واعتبر آراء جراماتيكا آراء شخصية متطرفة خاصة‬
‫وأن األول نادى بإلغاء قانون العقوبات‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫مدرسة االتحاد الدولي لقانون العقوبات‬
‫وهو االتحاد الذي تأسس سنة ‪ 1880‬من قبل مجموعة من الفقهاء أهمهم‪ :‬أدولف برنز‪ ،‬فون ليست‪ ،‬فان‬
‫هامل‪ ،‬وأخذوا بأهم األفكار التوفيقية بين المدارس السابقة‪ ،‬وتركزت فلسفته على دعامتين أساسيتين‪ ،‬هي أن مهمة قانون‬
‫العقوبات الكفاح ضد الجريمة باعتبارها ظاهرة اجتماعية‪ ،‬وأن يراعي القانون الجنائي النتائج التي تسفر عنها الدراسات‬
‫األنثروبولوجية واالجتماعية‪ ،‬وهو ما يدل على االتجاه العلمي لالتحاد الدولي ورفضهم التام لفكرة التسليم بالحتمية‪،‬‬
‫وطالب هؤالء الفقهاء رجال القانون بضرورة أال يغرقوا في األفكار الفلسفية‪ ،‬بل وجوب التفكير في الشعور الداخلي‬
‫للفرد بحريته‪ ،‬وهي األفكار التي أثرت في بعض التشريعات أهمها قانون الدفاع االجتماعي البلجيكي الصادر سنة‬
‫‪ ،1930‬الخاص بالمجرمين الشواذ والعائدين‪ ،‬كما ظهرت حركات فقهية حديثة نتيجة أفكار هذا االتحاد‪ ،‬أهمها الحركة‬
‫التي ظهرت في إسبانيا باسم علم اإلجرام الحديث‪.‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫تطور قانون العقوبات الجزائري‬
‫الجزائر من بين الدول التي عرفت تطورات كبيرة على مستوى قانون العقوبات‪ ،‬خاصة وأنها من‬
‫الدول اإلسالمية التي طبقت أحكام الشريعة اإلسالمية في مرحلة معينة من تاريخها‪ ،‬كما عرفت بعض التطورات في‬
‫الفكر الجنائي نتيجة استعمارها من قبل االحتالل الفرنسي ولفترة طويلة من الزمن‪ ،‬لتكون أهم المراحل المميزة لتطور‬
‫قانون العقوبات في الجزائر‪ ،‬ثالث مراحل‪ ،‬مرحلة تطبيق أحكام الشريعة اإلسالمية‪ ،‬مرحلة تطبيق القانون الفرنسي‪،‬‬
‫ومرحلة االستقالل التي شهدت تطبيق قانون عقوبات وطني‪ ،‬وهو ما نتناوله في المطلب الثالثة التالية‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫مرحلة تطبيق أحكام الشريعة اإلسالمية‬
‫ع رفت الجزائر تطبيق أحكام الشريعة اإلسالمية في الفترة التي أعقبت الفتوحات اإلسالمية لشمال‬
‫إفريقيا‪ ،‬حيث طبقت الشريعة على كل المجاالت بما فيها المجال الجزائي‪ ،‬بما فيها شقي التجريم والعقاب‪ ،‬حيث عرفت‬
‫تقسيم الجرائم وفقا للتقسيم الشرعي لهان جرائم الحدود‪ ،‬جرائم القصاص‪ ،‬والجرائم التعزيرية‪ ،‬وهو ما نبينه في الفروع‬
‫الثالثة التالية‪.‬‬
‫الفرع األول‬

‫]‪[24‬‬
‫جرائــــم الحدود‬
‫جرائم الحدود جرائم محدودو ومبينة على سبيل الحصر بالكتاب ( القرآن الكريم)‪ ،‬والتي يعاقب عليها‬
‫بعقوبة تسمى " الحد" الذي يعني لغة المنع‪ ،‬أي منع الجاني من معاودة ارتكاب الجريمة‪ ،‬والحد عقوبة قررها الخالق‬
‫نتيجة الجريمة التي تشكل اعتداء على حق هلل عز وجل‪ ،‬سيما وأنه باالطالع على هذا النوع من الحدود يبين أنها تهدف‬
‫لحفظ النفس والنسل والعرض والمال والعقل وحفظ الدين‪ .‬واألصل أن الحد مقرر كقاعدة بموجب نص قرآني‪ ،‬واستثناء‬
‫بموجب السنة النبوية الشريفة مثلما هو الشأن بالنسبة لجريمة شرب الخمر‪ ،‬وجريمة الردة‪ ،‬حيث تكفل النص القرآني‬
‫بتبيان شق التجريم‪ ،‬بينما تكفلت السنة بتبيان الحد المقرر لها كعقوبة‪ .‬وعقوبة الحد ال تقبل العفو أو التنازل عنها كونها‬
‫حق مقرر هلل عز وجل‪ ،‬وهي مقررة لجرائم تامة ال لمجرد الشروع فيها أو المحاولة‪ ،‬فإن توقفت عند حد الشروع‬
‫اعتبرت معصية توجب عقوبة تعزيرية ال تطبيق الحد‪ ،‬وما يميز هذا النوع من العقوبات أنها ذات حد واحد ال حدين‪،‬‬
‫كما هو الحال في التشريعات الوضعية الحديثة‪ ،‬وبالتالي فال سلطة تقديرية للولي في تطبيقها‪ ،‬وباختصار جرائم الحدود‬
‫سبعة‪ ،‬هي‪ :‬حد الزنا]‪ ،[37‬حد السرقة]‪ ،[38‬حد القذف]‪ ،[39‬حد البغي]‪ ،[40‬حد الحرابة]‪ ،[41‬حد الردة]‪ ،[42‬حد‬
‫شرب الخمر]‪ ،[43‬وبالتالي الحدود في الشريعة اإلسالمية هي الجلد والقتل والقطع‪ .‬الجلد في مائة جلدة في الزنا‪،‬‬
‫وثمانون في القذف‪ ،‬وبين األربعين والثمانين في شرب الخمر‪ ،‬والقطع في السرقة‪ ،‬والقطع على خالف والصلب في‬
‫الحرابة‪ ،‬والقتل في الردة‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫جرائم القصاص والدية‬
‫وهي جرائم تقع على نفس اإلنسان أو ذاته‪ ،‬وبالتالي هي اعتداءات واقعة على األفراد ويجوز التنازل أو‬
‫العفو عنها من المجني عليه أو من ذويه عكس جرائم الحدود التي ال يقبل فيها العفو والتنازل‪ ،‬غير أن العفو عنها ال‬
‫يمنع ولي األمر ال عقاب عليها بعقوبة تعزيرية إذا رأى أنه من شأنها تؤدي إلى إفساد في األرض]‪ ،[44‬وجرائم‬
‫القصاص والدية هي ‪ :‬القتل العمد‪ ،‬الجناية شبه العمد‪ ،‬القتل الخطأ‪ ،‬الجناية على ما دون النفس عمدا‪ ،‬الجناية على ما‬
‫دون النفس خطأ‪ ،‬وعقوبتها القصاص أي عقاب الجانب بنفس فعلته‪ ،‬والدية هي دفع مقابل مالي يمثل بدل النفس أو‬
‫العضو يدفع من الجاني أو ذويه عوضا عن دمه أو عضوه ( طرفه) وتختلف الدية بختالف المجني عليه قدرا وجنسا‬
‫كما هناك ما يشبه اليوم العقوبات التبعية وهي الكفارة والحرمان من الوصية أو الميراث‪ ،‬وعموما يمكن القول أن‬
‫القصاص عقوبة مقررة للجرائم العمدية أما الدية فهي عقوبة مقررة جرائم الخطأ‪.‬‬

‫الفرع الثالث‬
‫الجرائم التـــعزيرية‬
‫التعزير هو تأديب عن ذنوب لم يشرع فيها حد من الحدود‪ ،‬وال هي من جرائم القصاص والدية‪ ،‬ولم‬
‫يرد بخصوصها نص ال في القرآن وال في السنة يقررها كجريمة قائمة أصال‪ ،‬غير أنه هناك نصوص في القرآن تبين‬
‫بعض أنواع الجرائم التعزيرية‪ ،‬مثل الرشوة وخيانة األمانة والسب والربا ودخول البيوت والمساكن‪....‬ولكن بصيغة‬
‫النهي عن مثل هذه األفعال كونها إفساد في األرض أو من شانها ن تؤدي إليه‪ ،‬وهي جرائم عكس النوعين السابقين‬
‫واردة على سبيل المثال ال الحصر‪ ،‬حتى يمكن ترك أمر التجريم عن التعازير لولي األمر وفق تطورات الحياة‬
‫االجتماعية وما يراه مناسبا ألمنها ونظامها وسكينتها‪ ،‬ووفقا الختالف األزمنة واألمكنة والمصالح‪ ،‬لكن بالخضوع‬
‫للمبادئ واألحكام العامة للشريعة اإلسالمية وعدم الخروج عنها‪ .‬وطبقت أألحكام السابقة في الجزائر منذ الفتوحات‬
‫اإلسالمية للبالد لغاية دخول المحتل سنة ‪ 1830‬حيث ساد تطبيق قانون عقوبات المستعمر‪ ،‬وبطريقة تختلف حتى عن‬
‫القانون المطبق في فرنسا‪ ،‬وهو ما نبنه باختصار في المطلب الثاني‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫مرحلة تطبيق القانون الفرنسي‬
‫بدخول االستعمار الفرنسي للبالد واحتاللها سنة ‪ ،1830‬شرع في تطبيق تشريعاته ومنها قانون‬
‫العقوبات الفرنسي‪ ،‬وتكرس ذلك فعليا مع صدور أمر سنة ‪ 1841‬يقضي بتطبيق قانون العقبات الفرنسي على المسائل‬

‫]‪[25‬‬
‫الجزائي في الجزائر‪ ،‬غير أن هذا التطبيق لم يكن بالطريقة التي يطبق بها في فرنسا‪ ،‬حيث عمد المحتل على إحداث‬
‫أحكام تمييزية وبعض الجرائم الخاصة الذي ال يعرفها القانون الفرنسي نفسه‪ ،‬وهي جرائم جاءت بصيغة عامة وهادفة‬
‫لمحاربة حركات التحرر ومعاداة االستعمار وعنونت ب‪ ":‬األفعال المعادية للوجود الفرنسي في الجزائر" ‪ ،‬وعرف‬
‫تطبيق فكرة المسؤو لية الجماعية المنافية لقواعد قانون العقوبات‪ ،‬حيث كانت تعاقب العروش بأكملها بغرامات جماعية‬
‫عن كل فعل يمس باالحتالل أو يعارض وجوده‪.‬‬
‫ثم تراجع المستعمر عن هذا التمييز سنة ‪ 1944‬وألغى القوانين التميزية واالستثنائية وأخضع‬
‫الجزائريين ( األهالي) لقانون العقوبات وقانون اإلجراءات الجزائية الفرنسيين‪ ،‬غير أنه مع اندالع الحرب التحريرية‪،‬‬
‫تراجع عن ذلك وظهرت من جديد القوانين االستثنائية والقواعد التمييزية والعنصرية‪ ،‬وعرفت الجزائر عقوبات‬
‫االعتقال اإلداري والمراقبة البوليسية والعقوبات الجماعية وإقامة المحاكم االستثنائية وتوسيع اختصاص المحاكم‬
‫العسكرية بشكل ليس معموال به في قانون اإلجراءات الجزائية الفرنسي‪.‬‬
‫المطلب الثالث‬
‫مرحـــلة االستقالل‬
‫باستقالل الجزائر سنة ‪ 1962‬عملت الجزائر على سن تشريعات مستقلة‪ ،‬غير أن المسألة استغرقت وقتا‬
‫بالنظر للوضع الخاص الذي تمر به الدول المستقلة حديثا‪ ،‬حث لم يصدر قانون العقوبات الجزائري إال سنة‬
‫‪ ،[45]1966‬لذا استمر العمل بالقانون الفرنسي ما عدا ما تعارض منه مع السيادة الوطنية‪ ،‬بموجب القانون ‪157-62‬‬
‫المؤرخ في ‪ ( 1962-12-31‬المادة األولى منه)‪ ،‬في الفترة الممتدة من ‪ 1962-07-05‬لغاية ‪ 15‬يونيو ‪ 1966‬تاريخ‬
‫دخول تقنين العقوبات الجزائري حيز التنفيذ‪ .‬لكن دون أن يمنعه ذلك من إصدار بعض التشريعات التي واجه بها بعض‬
‫األوضاع الخاصة‪ ،‬كإصداره المرسوم ‪ 85-63‬المؤرخ في ‪ 193-03-16‬المتضمن قمع الجرائم المرتكبة ضد التشريع‬
‫المتعلق باقتناء وحيازة وصنع األسلحة والذخائر والمتفجرات‪ ،‬والكثير من المراسيم األخرى التي هدف منها المشرع‬
‫الحفاظ على األمن في هذه الفترة الحساسة من تاريخ البالد]‪ .[46‬ومع سنة ‪ 1966‬أصدرت الجزائر قانون العقوبات‬
‫وقانون اإلجراءات الجزائية]‪ ،[47‬وإن كان المشرع قد استمد غالبية أحكامهما من القانون الفرنسي‪ ،‬مع تضمينه‬
‫خصوصيات المجتمع الجزائري ومراعاة اعتبارات إتباع الدين اإلسالمي في البالد‪ ،‬وحتى في بعض القواعد‬
‫الموضوعية األخرى مثل مسؤولية الشخص المعوي وقواعد االشتراك والشروع في الجريمة‪ ....‬وقد عدل قانون‬
‫العقوبات الجزائري منذ صدوره لغاية سنة ‪ 2006‬سبعة عشر (‪ )17‬مرة]‪ .[48‬وما زلنا نسمع بأنه في طور المراجعة‬
‫لغاية اليوم‪ .‬هذا وبعد تناولنا في الباب التمهيدي السابق تحديد أهم معالم قانون العقوبات‪ ،‬سنشرع في دراسة الباب األول‬
‫من هذه الدراسة‪،‬والمتعلق بالنظرية العامة للجريمة باعتبارها تمثل شق التكليف في القاعدة الجزائية‪ ،‬على أن نتبعه بباب‬
‫ثاني نخصصه لنظرية المسؤولية الجنائية‪ .‬تاركين موضوع النظرية العامة للجزاء الجنائي ليكون موضوع لمطبوعة‬
‫أخرى مستقلة‪ ،‬شأنه شأن مطبوعة قانون اإلجراءات الجزائية‪.‬‬

‫]‪ - [1‬حيث يمكننا القول بأن نهي هللا عز وجل آلدم وزوجه عن التقرب للشجرة بمثابة سلوك مجرم‪ ،‬وأن عدم االلتزام‬
‫من قبليهما بهذا النهي ارتكاب لهذه الجريمة‪ ،‬وإنزالهما لألرض عقوبة لهذا الفعل‪ ،‬وأن قتل قابيل ألخيه هابيل جريمة‪ ،‬وعقابه كان‬
‫أنه لم يدر كيف يواري سوءة أخيه‪ ،‬ونشير بأن هذا وجه للتشبيه فقط مع الوضع الحالي لقانون العقوبات‪ ،‬بعيدا عن األبعاد الدينية‬
‫لهذه الوقائع‪.‬‬
‫]‪ - [2‬المراد قوله‪ ،‬أن الجريمة فعل وأن مقترفها شخص فاعل‪ ،‬وهناك خالف فقهي بخصوص أي من العنصرين‬
‫السابقين له األولوية على اآلخر‪ ،‬فهل يجب التركيز على الفعل‪ ،‬أم على الفاعل‪ ،‬وهنا ظهرت نظريتين أساسيتين‪ ،‬النظرية‬
‫الشخصية المركزة على الشخص الفاعل‪ ،‬والنظرية الموضوعية المركزة على الفعل ( الجريمة)‪ ،‬ولكل منهما بصماته في كل‬
‫من أفكار القانون الجنائي‪ ،‬الذي أصبح يتأرجح بين الشخصية والموضوعية‪ ،‬وأحيانا يرجح الجانب الموضوعي وفي‬ ‫فكرة‬
‫أحيان أخرى يركز على الجانب الشخصي‪.‬‬

‫]‪[26‬‬
‫]‪ - [3‬وهي التسمية المفضلة من قبل الفقه والتشريع الجزائري‪ ،‬سيما في شق القواعد الموضوعية‪ ،‬غير أنها ليست‬
‫بالتسمية المعتمدة في لشق اإلجرائي‪ ،‬المسمى قانون اإلجراءات الجزائية‪.‬‬
‫وأطلق على هذا الفرع من فروع القانون تسميات متعددة‪ ،‬نذكر منها قانون العقوبات ‪ droit pénal‬والقانون الجنائي‬
‫‪ droit criminel‬والقانون الجزائي ‪ ،droit sanctionnaire‬وكل من هذه التسميات قد ترتكز على أحد التقسيمات المهمة‬
‫لقانون العقوبات‪ ،‬أو على أحد اآلثار المترتبة عليه وأهمها الجزاء أو العقوبة‪ ،‬وبالتالي كل تسمية قاصرة على اإلحاطة بكل‬
‫محتويات هذا الفرع من فروع القانون‪ ،‬فضال على أنها تسميات تهمل تماما فكرة الجريمة‪ ،‬وإن لم تهملها مثل تسمية القانون‬
‫الجنائي المستمدة من فكرة " الجناية " فإنها تهمل نوعين آخرين من أنواع الجرائم وهي الجنح والمخالفات‬
‫]‪ - [4‬كما عرف بأنه ‪ ":‬مجموعة من القواعد القانونية تحدد صور السلوك التي تعد جرائم وتبين العقوبات أو التدابير‬
‫االحترازية أو الوقائية المقررة إزاءها"‪.‬‬
‫]‪- [5‬وهو تعريف ركز على أن دور قانون العقوبات يضع حلوال للظاهرة اإلجرامية‪ ،‬غير أنه وإن كان وسيلة لمكافحة‬
‫الجريمة غير أنه لم يضع حلوال لها‪ ،‬كون المسألة في العادة من صميم اهتمامات علم اإلجرام وعلم العقاب‪ ،‬بينما قانون العقوبات‬
‫يجازي الخروج عن أوامره ونواهيه‪ ،‬التي حتى وإن كانت تهدف إلى ردع الناس عن ارتكاب الجرائم‪ ،‬غير أنه ال يضع حل‬
‫للظاهرة اإلجرامية‪ .‬خاصة وأن أصحاب التعريف ذاتهم‪ ،‬وفي شرحهم لهذا التعريف‪ ،‬يركزون على شق التجريم والعقاب‪.‬‬
‫]‪ - [6‬قانون رقم ‪ 04-05‬مؤرخ في ‪ 06‬فبراير سنة ‪ ،2005‬يتضمن قانون تنظيم السجون وإعادة اإلدماج االجتماعي‬
‫للمحبوسين‪ ،‬الذي ألغى األمر رقم ‪ 02-72‬المؤرخ في ‪ 10‬فبراير سنة ‪ 1972‬والمتضمن قانون تنظيم السجون وإعادة تربية‬
‫المساجين‪.‬‬
‫]‪ - [7‬ويمكننا القول‪ ،‬بان قانون العقوبات من الظواهر القانونية اللصيقة بالمجتمعات البشرية المنظمة‪ ،‬ومن مظاهر‬
‫التعبير عن إرادتها الجماعية المعبرة عن قيمها‪ ،‬باعتباره يرمي لحماية المصلحة العامة وإقرار النظام في المجتمع‪ ،‬من جهة ومن‬
‫جهة ثانية‪ ،‬صون حريات األفراد ومصالحهم الخاصة‪ ،‬وهو من بين أقدر فروع القانون على معالجة كل النواحي األساسية‬
‫الالزمة للسير الحسن للحياة في أي مجتمع أيا كانت طبيعته ونظام حكمه‪ ،‬باعتبار باقي القوانين األخرى تنظم جانب من جوانب‬
‫الحياة االجتماعية دون غيرها‪ ،‬خاصة وأنه القانون الذي عن طريقه يفرض المشرع إرادته بخصوص تحديد أنواع السلوك التي‬
‫يرى تجريمها وعن طريقه يحدد الجزاءات المترتبة عن مخالفة هذه اإلرادة‪ ،‬وعلى ذلك نجد قواعد قانون العقوبات كقاعدة عامة‪،‬‬
‫تنطوي على شقين أو عنصرين‪ ،‬أحدهما يحدد النص التجريمي‪ ،‬ليتولى الثاني تعيين الجزاء المترتب عن مخالفة الشق األول‪ ،‬غير‬
‫أنه كاستثناء ال يشترط ذلك‪ ،‬فقد تتجزأ القاعدة الجنائية بين أكثر من فرع قانوني واحد‪ ،‬فيما يعرف بالقواعد الجنائية المجزئة أو‬
‫الموزعة‪ ،‬بموجبها يكتفي المشرع بتحديد شق الجزاء في النص الجزائي ويحيل في شق التكليف‬
‫أو التجريم إلى قانون آخر‪ .‬ويرى بعض الفقه في شق الجزاء بأنه عبارة عن مجرد قاعدة ثانوية في القاعدة الجنائية‪ ،‬كون شق‬
‫العقاب ال يطبق على األشخاص إال في حال تم خرق الشق األول المتعلق بالتجريم وتطبيقه بذلك مشروط بمخالفة الشق األول‬
‫الذي يغلب عليه طابع النهي مقارنة مع طابع التكليف بالرغم من أن القوانين القديمة كانت تغلب عليها صفة األمر " ال تقتلوا" أو‬
‫" ال تسرقوا " بينما التشريعات الحديثة أصبحت تميل الستعمال الصيغ العامة المعبرة عن تحديد الفعل سواء كان سلبا أو إيجابا‬
‫محددا النموذج المكون للجرم والمحدد ألركانه وعناصره‪ ،‬في حين يرى بعض الفقه بأن قانون العقوبات قانون عقابي‪ ،‬فهو في‬
‫نظرهم ال يجرم بل يعاقب فقط‪ ،‬مما يجعله من طبيعة جزائية بحتة‪ .‬والحقيقة أن الشقين مرتبطين‪ ،‬بحيث ال جزاء دون ارتكاب‬
‫جريمة‪ ،‬فالتجريم يستفاد بالضرورة من النص على العقاب حتى وإن لم يكن مستفاد بصفة صريحة بل ضمنيا المشرع ال يتدخل‬
‫للعقاب ما لم يكن هناك ارتكاب لجرم‪ ،‬األمر الذي دفع بالبعض إلى القول بأن عنصر التجريم عنصرا مفترضا في القاعدة التي‬
‫تنص على العقوبة‪ ،‬غير أن الحقيقة أن الشقين يرتبطان ارتباطا منطقيا وزمنيا‪ ،‬ذلك أن التجريم يستتبع بالضرورة الجزاء والعالقة‬
‫الزمنية أساسها أن الجزاء يتبع زمنيا االنتهاك الفعلي لعنصر التجريم كون شق العقاب ال يطبق عمليا ما لم يسبقه عنصر التجريم‬
‫غير أننا نرى بأنه بالرغم من ارتكاب عنصر التجريم إال أن شق العقاب قد ال يلقى التطبيق كحاالت توافر سبب من أسباب‬
‫اإلباحة أو مانع من موانع العقاب أو مانع من وانع المسؤولية‪ .‬ويمكن تعريف قانون العقوبات‪ ،‬بأنه مجموعة من القواعد القانونية‬
‫التي تضعها الدولة بواسطة السلطة التشريعية‬
‫أو من تفوضه هذه السلطة في وضعها‪ ،‬لتحدد بها ما يعتبر من سلوك اإلنسان جريمة وتعين فيها ما يترتب عن هذا السلوك من‬
‫آثار جنائية‪.‬‬
‫]‪ - [8‬وإن كنا سوف نرى الحقا‪ ،‬أن الجريمة ال تعتبر بالضرورة فعال إيجابيا أو نشاطا‪ ،‬وإنما يمكن أن تقوم بموجب‬
‫سلوك سلبي أو امتناع عن أمر أمر به القانون‪ ،‬وتسمى الجريمة التي تقوم على أفعال بالجرائم اإليجابية‪ ،‬ويسمى النوع الثاني‬
‫القائم على االمتناع بجرائكم االمتناع أو الجرائم السلبية‪ .‬هو ما سيكون موضوع تفصيل مستقل‪.‬‬

‫]‪[27‬‬
‫]‪ - [9‬الذي يعرف بأنه ‪ ":‬مجموعة القواعد القانونية التي تنظم االختصاص بين الهيئات القضائية‪ ،‬من رفع الدعوى‬
‫العمومية إلى صدور األحكام النهائية‪ ،"...‬والتي يرى البعض أنها وحدها كفيلة للردع بالنظر لما تنطوي عليه من وقت ومشقة‬
‫وتعقيد‪ ،‬تجعل األفراد يحجمون عن ارتكاب الجرائم‪ ،‬كونها تشكل ثقال نفسيا على المتهمين‪ ،‬ومن جهة ثانية‪ ،‬تتكفل بحماية حقوق‬
‫وحريات هــــؤالء‪.‬‬
‫وما يمكننا التنبيه إليه‪ ،‬باعتبار المسألة تشكل فكرة جوهرية في نظرنا‪ ،‬أنه من بين أكثر القوانين تأثرا بسياسة الدولة‬
‫ونظام حكمها‪ ،‬نجد القانون الجنائي – وإن كان غالبية الفقه يحاول دوما القول بأنه إن دخلت السياسة من الباب فيجب أن=‬
‫=يخرج القانون من النافذة‪ -‬بالنظر لمساس قواعده بسلوك اإلنسان عامة‪ ،‬وبحرياته بصفة خاصة‪ ،‬مما يجعل بالضرورة السياسة‬
‫الجنائية المتعلقة بالتجريم والعقاب تتأثر بطريقة أو بأخرى بالنظام السياسي السائد في الدولة‪ ،‬خاصة فيما بين نظم الحكم‬
‫الديمقراطية= =ونظم الحكم االستبدادية – وفي مقابلها‪ :‬نظم الحم الليبرالية ونظم الحكم االشتراكية‪ -‬وهو ما برهن عليه في الكثير‬
‫من األحيان‪ ،‬الساسة والمثقفين والفالسفة‪ ،‬واعتبروا القانون الجنائي من بين كل فروع القانون األخرى‪ ،‬تجسيدا لإليديولوجية‬
‫السياسية السائدة في الدولة‪ ،‬وهو مركز النقاش الفقهي القانوني دوما‪ ،‬وحتى القضائي‪ ،‬خاصة في ظل حقيقة التبادل المعرفي بين‬
‫الفقه والقضاء منذ القدم وعلى طول مراحل التاريخ‪ .‬وهنا نجد الفقه يسمي قانون العقوبات‪ ،‬بقانون اللصوص‪ ،‬حيث يرى المشرع‬
‫دوما أنه يخاطب خارجي الطريق القويم ومصادر الخطر في المجتمع‪ ،‬وعناصر اإلشكال لنظم الحكم‪ ،‬وفي مقابل ذلك‪ ،‬نجد قانون‬
‫اإلجراءات الجزائية‪ ،‬يسمى بقانون الحريات العامة‪ ،‬أو قانون الشرفاء‪ ،‬باعتباره المظهر الذي تتجسد من خالله الحماية‬
‫الدستورية لحقوق وحريات األفراد والجماعات‪ ،‬وتطبيقا للمبادئ الدستورية المنظمة لمختلف مراحل الدعوى العمومية ووصولها‬
‫لهدفها النهائي المتمثل في ممارسة الدولة لحقها في العقاب‪ ،‬وحق الفرد في الدفاع عن نفسه‪.‬‬
‫]‪ - [10‬في تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬القسم العام تنظمه المواد من ‪ 1‬إلى ‪ 60‬مكرر‪ ،1‬والمشكلة للجزء األول من قانون‬
‫العقوبات‪ ،‬المعنون ب‪ ":‬المبادئ العامة"‪ ،‬الذي تضمن األحكام التمهيدية ضمن ثالث مواد متعلقة بمبدأ الشرعية الجنائية ( المادة‬
‫‪ )1‬ونطاق سريان القانون الجنائي من حيث الزمان والمكان ( المادتان ‪2‬و‪ ،)3‬ثم كتاب أول خصص للعقوبات وتدابير األمن في‬
‫المواد من ‪ 4‬إلى ‪ ،18‬ثم باب أول مكرر جديد يتعلق بالعقوبات المطبقة على األشخاص المعنوية في المواد من ‪ 18‬مكرر إلى ‪18‬‬
‫مكرر ‪ ،3‬ثم الباب الثاني المخصص لتدابير األمن في المواد من ‪ 19‬إلى ‪ ،22‬والكتاب الثاني خصص األفعال واألشخاص‬
‫الخاضعون للعقوبة‪ ،‬والذي قسم على بابين‪ ،‬خصص األول للجريمة من المادة ‪ ،40 27‬والثاني خصص لمرتكبي الجريمة في‬
‫المواد من ‪ 41‬حتى ‪ 60‬مكرر‪. 1‬‬
‫]‪ - [11‬وهو القسم المشكل لباقي مواد تقنين العقوبات‪ ،‬من المادة ‪ 61‬حتى ‪ 467‬مكرر‪ .1‬وهو القسم الذي في العادة ما‬
‫يكون عرضة للتعديل‪،‬حيث شهد سبعة عشر تعديل منذ صدور تقنين العقوبات الجزائري سنة ‪ ،1966‬من بينها ستة تعديال فقط‬
‫مست القسم العام‪ ،‬لذا ففي العادة ما يتميز القسم العام لقانون العقوبات بالثبات واالستقرار مقارنة بالقسم الخاص منه‪ ،‬وحتى مقارنة‬
‫بقانون اإلجراءات الجزائية‪.‬‬
‫]‪ - [12‬الصادر بموجب األمر رقم ‪ 155-66‬المؤرخ في ‪ 08‬يونيو ‪ 1966‬المتضمن قانون اإلجراءات الجزائية المعدل‬
‫والمتمم‪.‬‬
‫ويطلق بعض الفقه على كل من قانون العقوبات وقانون اإلجراءات الجنائية مصطلح القانون الجنائي‪ ،‬وفي‬
‫حقيقة األمر القانونان متكامالن‪ ،‬وأن وجود أي منهما شرط لتطبيق اآلخر‪ ،‬بل وال سبيل لتطبيق قانون العقوبات إال من خالل‬
‫قانون اإلجراءات الجنائية‪ ،‬فقانون العقوبات يحدد الجرائم والعقوبات‪ ،‬وقانون اإلجراءات الجنائية هو الذي يبين وسائل التحقق من‬
‫وقوع الجريمة ومحاكمة مرتكبيها وتوقيع العقوبات عليهم‪ ،‬فقانون العقوبات يصبح مشلوال في غياب قانون اإلجراءات الجنائية‪،‬‬
‫وهذا األخير يفتقر ف ي وجوده لقانون العقوبات‪ .‬ونجد في العادة الفقه يطلق اسم القواعد الموضوعية على قواعد قانون العقوبات‬
‫في مقابل قواعد قانون اإلجراءات الشكلية أو اإلجرائية‪ ،‬غير أن موضوع القاعدة ال يبين دوما طبيعتها‪ ،‬فقانون اإلجراءات يحتوي‬
‫على بعض القواعد الموضوعية‪ ،‬والعكس صحيح‪ ،‬لذا فطبيعة القاعدة القانونية تتحدد بوظيفتها فإن كانت تتعلق بالتجريم والعقاب‪،‬‬
‫فهي قواعد موضوعية‪ ،‬وإن كانت تتعلق باإلجراءات فهي قواعد إجرائية‪ .‬وهناك مبدأ يقضي أنه ‪ ":‬ال جزاء بغير دعوى"‬
‫وبالتالي تظهر العالقة بين القانونين إلى الحد الذي يمكن من القول أنه كل منهما يكمل اآلخر‪ ،‬ويستحيل وجوده بدونه‪ ،‬غير أن‬
‫قانون اإلجراءات هو المحرك لقانون العقوبات‪.‬‬
‫]‪ - [13‬السياسة الجنائية فرع من فروع العلوم القانونية الحديثة‪ ،‬وهو العلم الذي يعبر عما هو كائن وما يجب أن تكون‬
‫عليه سياسة التشريع في أي دولة‪ ،‬والسياسة الجنائية هي المرآة الصادقة لألوضاع السائدة في أي مجتمع عبر مراحله المختلفة‪،‬‬
‫وقد عرفت بأنها‪ ":‬مجموع الوسائل التي من شأنها – إذا استخدمت على نحو معين‪ -‬تنظيم مكافحة الظاهرة اإلجرامية في‬
‫المجتمع‪ ، ".‬كما عرفت بأنها ‪ ":‬العلم الذي يهتم بتحديد األفعال التي تقضي المصلحة االجتماعية العقاب عليها‪ ،‬أو تخرجها من‬
‫دائرة العقاب‪ ،".‬ولكل سياسة جنائية محاور أربعة‪ :‬تشريع‪ ،‬تجريم‪ ،‬عقاب‪ ،‬والتنفيذ العقابي‪ .‬كما يقصد بعلم السياسة الجنائية‪ ،‬العلم‬

‫]‪[28‬‬
‫الذي يبحث في أفضل األساليب العلمية والعملية التي تنتهجها الدولة لمكافحة ظاهرة الجريمة‪ ،‬وقانون العقوبات بذلك يعد أداة من‬
‫أدوات هذه السياسة‪ ،‬فهو الذي يجرم األفعال على ضوء نظرة الدولة للجريمة وعلى ضوء المصالح االجتماعية الجديرة بالحماية‪،‬‬
‫كما يحقق أهداف السياسة الجنائية من الناحية العقابية‬
‫]‪ - [14‬حيث هناك العديد من الدراسات والنظريات والمدارس‪ ،‬التي اهتمت بتفسير السلوكات اإلجرامية‪ ،‬وأثر مختلف‬
‫العوامل فيها‪ ،‬سواء كانت عوامل داخلية‪ ،‬مثل العوامل الوراثية والعنصر والجنس والسن ومستوى الذكاء‪ ،‬أو كانت عوامل‬
‫خارجية‪ ،‬من بيئة ومجتمع‪ ،‬وثقافة واقتصاد‪.‬‬
‫كما عرف علم اإلجرام‪ ،‬بأنه ‪ :‬العلم الذي يدرس الجريمة باعتبارها ظاهرة اجتماعية‪ ،‬ومعرفة العوامل المؤدية‬
‫إليها‪ ،‬سواء كانت عوامل فردية ترجع إلى الجاني‪ ،‬أو عوامل اجتماعية ترجع إلى المجتمع والبيئة‪ ،‬لذا فعلم اإلجرام ال يدرس‬
‫الجريمة باعتبارها ظاهرة قانونية‪ ،‬بل ظاهرة إجرامية لها مكوناتها وأسبابها‪ ،‬والمجرم أساس المشكلة اإلجرامية‪ ،‬يقتضي دراسة‬
‫خلقه اإلجرامي الكامن فيه‪ ،‬لذا فهو يستعين بالعديد من الفروع التي تتكامل ويتشكل منها‪ ،‬أهمها علم البيولوجيا الجنائية‪ ،‬علم‬
‫النفس الجنائي‪ ،‬علم االجتماع الجنائي‪...‬‬
‫]‪ - [15‬خاصة وان البعض يرى أنه هناك نوع من سوء التفاهم بين رجال القانون الجنائي وعلماء اإلجرام‪ ،‬كون كل‬
‫فريق يود أن تكون معاييره هي األصلح‪ ،‬فعلماء اإلجرام يحلمون أن تسود العدالة الجنائية دون قانون وال قاض‪ ،‬ويرون أن الحكم‬
‫هو العالم القادر وحده على تشخيص المجرم وعالجه‪ ،‬وحاولوا وضع إمبريالية علمية أقلقت نوعا ما رجال القانون‪ ،‬باسم‬
‫المحافظة على الحريات العامة والكرامة اإلنسانية‪ ،‬وحاولوا حفظ حق " إعادة النظر" على عمل علماء اإلجرام‪ ،‬ومنعهم من‬
‫التدخل في الشؤون الجنائية‪ ،‬غير أن كال االتجاهين متطرفين‪ ،‬حيث يجب على رجل القانون االستعانة بأعمال عالم اإلجرام‬
‫العلمية وترجمتها بقواعد قانونية‪ ،‬بناء على ما قدمه رجل القانون لعالم اإلجرام من معطيات ومادة أولية بشرية‪ ،‬وبالتالي‬
‫العالقة بينهم عالقة تعاون متبادل‪.‬‬
‫و علم اإلجرام‪ ،‬أو علم الجريمة‪ ،‬هو علم متعدد النظم العلمية أو متعدد المصادر واألبعاد العلمية‪ ،‬فهو يستمد موضوعاته‬
‫من الكثير من العلوم األخرى‪ ،‬كعلم النفس والطب وعلم االجتماع‪ ،‬واألنثروبولوجيا‪ ،‬ويدرس علم اإلجرام الجريمة دراسة علمية‬
‫تجريبية وكل الموضوعات المتصلة بها‪ ،‬حيث يجمع المعلومات والمعطيات لفهم الجريمة وتحليلها‪ ،‬ويستهدف تكوين معرفة ثابتة‬
‫وموثوق بها وصادقة حول الجريمة باعتبارها معرفة مستمدة من التجارب العلمية‪ .‬لذا فهو يتصل بوضع القانون الجنائي اتصاال‬
‫وثيقا‪.‬‬
‫]‪ - [16‬يرى البعض أن الطب الشرعي والبوليس الفني‪ ،‬علمان يساعدان كثيرا على كشف الجناة ونسبة الجرائم إليهم‪،‬‬
‫كونهما علمان يستعينان باألساليب العلمية في الكشف‪ ،‬من بصمات وتشريح للجثث والتصوير وتحليل المواد المختلفة‪ ،‬وهما‬
‫العلمان اللذان حققا تقدما كبيرا بالنظر الستعانتهما واستفادتهما من التطورات العلمية الحديثة والتكنولوجيا الحديثة‪ ،‬التي كان لها‬
‫الفضل‬
‫الكبير في كشف بعض أنواع الجرائم التي كان يستحيل الكشف عنها من قبل لوال تقدم هذه العلوم‪.‬‬
‫]‪ - [17‬وإن تركز هذا العلم في البداية على دراسة بصمات األصابع‪ ،‬فهو اليوم يعرف العديد من أنواع البصمات‬
‫األخرى‪ ،‬حيث كشف العلم عن البصمة الوراثية‪ ،‬والبصمة الصوتية‪ ،‬وقزحية العين وما إلى غير ذلك من البصمات اإللكترونية‬
‫والرقمية التي سهلت كثيرا في الكشف عن الجرائم بمختلف أنواعها‪ ،‬وطرق ارتكابها‪ ،‬وأيا كان مستوى نرتكبها ووسيلته في‬
‫ذلك‪.‬‬
‫]‪ - [18‬في حقيقة األمر كل المصالح الجوهرية واألساسية لألفراد والمجتمع تأخذ هذه المكانة باعتراف الدستور بها‪ ،‬لذا‬
‫فالحق في الحياة والسالمة الجسدية والحفاظ على الحياة الخاصة وأسرارها‪ ،‬والحق في الملكية والسكن والعمل‪ ...‬وإن كانت كلها‬
‫حقوق معترف بها في القانون الدستوري‪ ،‬فغن االعتداء عليها نجده مجرما بنصوص عقابية مشكلة للجزء الغالب لهذا القانون‪،‬‬
‫وهو القسم الخاص منه‪ .‬وهو األمر ذاته بالنسبة للحريات‪ ،‬سواء تعلق األمر بحرية التعبير أو حرية االنتخاب‪...‬‬
‫]‪ - [19‬راجع المواد من ‪ 61‬إلى ‪ 64‬من قانون العقوبات الجزائري المعنونة بجرائم الخيانة والتجسس‪.‬‬
‫]‪ - [20‬المواد من ‪ 65‬إلى ‪ 76‬المعنونة ب‪ ":‬جرائم التعدي األخرى على الدفاع الوطني أو االقتصاد الوطني"‬
‫]‪ - [21‬راجع المواد من ‪ 71‬إلى ‪ 83‬والمعنونة ب‪ ":‬االعتداءات والمؤامرات والجرائم األخرى ضد سلطة الدولة‬
‫وسالمة أرض الوطن"‪ ،‬كما عاقبت المواد من ‪ 84‬حتى ‪ 87‬على جنايات التقتيل والتخريب المخلة بالدولة‪ ،‬والمادة ‪ 87‬مكرر وما‬
‫بعدها التي تعاقب على األفعال الموصوفة بأفعال إرهابية أو تخريبية‪ ،‬والمادة ‪ 88‬وما بعدها التي تعاقب على جنايات المساهمة‬
‫في حركات‬
‫التمرد‪ ،‬وهي كلها أفعال تمس بالدولة ككيان وبالسلطة ونظام الحكم‪ ،‬بطريق مباشر أو غير مباشر‪.‬‬

‫]‪[29‬‬
‫]‪ - [22‬وأهم المراجع في هذا المجال‪ :‬د‪ /‬أحمد فتحي سرور‪ ":‬القانون الجنائي الدستوري"‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫مصر‪.2002 ،‬‬
‫]‪ - [23‬االختالس والغر كانت تجرمه وتعاقب عليه المادة ‪ 119‬من تقنين العقوبات‪ ،‬والمادة ‪ 126‬تجرم وتعاقب على‬
‫جريمة الرشوة‪ ،‬اللتان ألغيتا والكثير من المواد األخرى ذات العالقة سنة ‪ 2006‬بصدور القانون رقم ‪ 01-06‬المؤرخ في‪-20 :‬‬
‫‪ 2006 -02‬المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته‪.‬‬
‫]‪ - [24‬القانون الدولي الجنائي‪ :‬ينظم الجرائم الدولية التي تعد انتهاكات للمصالح الدولية ككل‪ ،‬وهي جرائم تتجاوز‬
‫حدود الدول وتتضمن دوما عنصرا خارجيا (أجنبيا) إما بسبب جنسية مرتكب الجريمة أو جنسية المجني عليه أو بمس مكان‬
‫ارتكابها‪ ،‬وهو القانون الذي يعبر عهنه البعض بقانون العقوبات عبر الوطني‪ ،‬بدال من عبارة القانون الجنائي الدولي‪ .‬وهو ينظم‬
‫الجرائم ذات البعد الدولي أو ذات الطبيعة الدولية‪ ،‬ومنها الجرائم المنظمة العابرة للحدود الوطنية‪ .‬وهي طائفة من الجرائم ترتكب‬
‫في ظروف أكثر تعقيدا من الجرائم العادية التي يحددها القانون الجنائي الوطني‪ ،‬وهو ليس من القوانين الدولية بل من القوانين‬
‫الداخلية التي تهتم بدراسة مسألة اإلجرام الدولي‪.‬‬
‫بينما القانون الدولي الجنائي يهتم بمكافحة الجرائم التي سميت من قبل البعض بالجرائم العالمية التي اتفقت غالبية‬
‫التشريعات على العقاب عليها ومكافحتها بشكل تعاوني جماعي‪ ،‬وذلك من خالل اللجوء إلى إبرام االتفاقيات الدولية واستحداث‬
‫آليات للتعاون الدولي وعموما تبني سياسة تجريمية موحدة لمواجهتها‪ .‬وعموما يمكن القول بأن القانون الجنائي الدولي هو القانون‬
‫الذي يهدف إلى تحقيق المصالح الهامة للمجتمع الدولي بتجريم االنتهاكات التي تمس مصالحه الجديرة بالحماية الجنائية‪ ،‬أهمها‬
‫حفظ األمن والسلم الدوليين وحماية حقوق اإلنسان‪ .‬وهو يستمد مصدره من أحكام القانون الدولي العام‪ ،‬أو يستمد وجوده من‬
‫االتفاقيات الدولية أو العرف الدولي أو غيره من المصادر‪ ،‬التي تستهدف حماية حقوق اإلنسان وحرياته األساسية والتصدي لما‬
‫يواجه األسرة الدولية من مشكالت تهدد السالم واألمن العالميين‪ .‬وخاصة االتفاقيات التي تعد حسب البعض بأنه ما هي إال عبارة‬
‫عن اتفاقيات كاشفة عن قواعد قانونية موجودة‪ ،‬واالتفاقيات أصبح ذات أهمية كبرى في مجال مكافحة الجريمة ومعاملة‬
‫المجرمين‪ ،‬هذا ما جعل الدمج يسود الفقه فترة طويلة من الزمن بين القانون الدولي الجنائي والقانون الجنائي الدولي سيما في‬
‫اتحادهما في المصدر‪.‬ويرى البعض بان الذاتية واالستقاللية للقانون الدولي الجنائي تجسدت بصفة جلية وواضحة بموجب أحكام‬
‫محكمة نورمبرغ العسكرية ومحكمة طوكيو‪ ،‬حيث أن األحداث الدولية التي أسفرت عن تلك المحاكمات شكلت نقطة تحول في‬
‫القانون الدولي العام الذي شهد ظهور فرع قانوني جديد وهو القانون الدولي الجنائي‪ .‬وعرف القانون الدولي الجنائي العديد من‬
‫التعريفات‪ ،‬من بينها أنه ‪ ":‬مجموعة القواعد القانونية التي تتعلق بالعقاب على الجرائم الدولية التي تشكل انتهاكا للقانون الدولي‪،‬‬
‫وتحدد قوا عده بموجب اتفاقيات بين الدول‪ ،‬ال داخل مواد التشريع الداخلي لكل دولة‪ ".‬وعموما هو فرع قانوني يهدف إلى حماية‬
‫المبادئ واألحكام المقررة في القانون الدولي العام‪ ،‬والتي تتابع وتحكم في الجرائم وتحيلها على المحكمة الجنائية الدولية‪ ،‬بالرغم‬
‫من أنه ال تزال الكثير من الجرائم ذات الطابع الدولي محل نقاش فقهي ما إن كانت تخضع للمحكمة الجنائية الدولية أم ال‪ ،‬مثل‬
‫جرائم االتجار بالمخدرات‪ ،‬والجرائم اإلرهابية‪.‬‬
‫بينما يرى البعض أنه ال تفرقة بين القانون الجنائي الدولي والقانون الدولي الجنائي‪ ،‬وإنما هناك قانون جنائي عالمي وهو‬
‫قانون اتفاقي نابع عن رغبة الدول في التضامن فيمتا بينها والتعاون لمكافحة اإلجرام الداخلي‪ ،‬وبموجبه في الجرائم التي ينظمها‬
‫يحق لكل الدولة القبض والمحاكمة على الشخص المرتكب لمثل هذه الجرائم‪ .‬أو هو " مجموعة القواعد التي تحكم تنازع القوانين‬
‫الجنائية من حيث األشخاص والمكان"‪.‬‬
‫]‪ - [25‬في حقيقة األمر الفقه عالج المسألة بشكل اسع وبطريقة مختلفة عن التي تناولناها‪ ،‬وبذلك ظهرت العديد من‬
‫النظريات التي يكفي المقام لتفصيلها‪ ،‬بل اإلشارة لها فقط‪ ،‬فظهرت نظرية التبعية‪ ،‬وهي نظرية االتجاه التقليدي التي ترى أن‬
‫طبيعة قانون العقوبات جزائية محضة وظيفته تكمن فقط في التدخل لمد الحماية لفروع القانون األخرى‪ ،‬وفي ذلك عبر بنتام " إن‬
‫القانون المدني هو الذي يقرر الحق‪ ...‬والقانون الجنائي هو الذي يأمر بعقاب من ينتهك هذا الحق"‪ ،‬وهناك نظرية االستقاللية‪،‬‬
‫ومؤداها أن قانون العقوبات مستقل بمبادئه وأفكاره ونظرياته‪ ،‬وكلما تدخل لمد فرع قانوني آخر بالحماية‪ ،‬فإن مفهوم هذه‬
‫المصلحة ينسلخ من هذا الفرع القانوني ويعطى لها مفهوم جنائي مغاير‪ ،‬وهناك النظرية التوفيقية‪ ،‬التي يرى أنصارها أن قانون‬
‫العقوبات يضم خليطا من القواعد القانونية‪ ،‬البعض منها يقرر جزاءات على مخالفة القواعد القانونية المنصوص عليها في فروع‬
‫القانون= =األخرى‪ ،‬والبعض اآلخر يقرر جزاءات خاصة به يحمي بها بعض االلتزامات التي يتضمنها‪ ،‬وهو بذلك تبعيا في‬
‫بعض جوانبه ومستقال في بعض الجوانب األخرى‪.‬‬
‫]‪ - [26‬يرى البعض أن جميع القوانين في البداية كانت قوانين جنائية‪ ،‬ومع التطور تم االستغناء على القوانين الجزائية‬
‫بقوانين مدنية‪ ،‬ومن هنا جاء مصطلح " المدنية" ‪ La civilisation‬حيث أن كلما حلت القوانين المدنية محل القوانين الجزائية‪،‬‬
‫فإن ذلك يعني أن المجتمع يتطور نحو األفضل‪ ،‬مما يجعل من القانون الجنائي قانونا يتضمن قواعد قانونية تتضمن شق الجزاء‬

‫]‪[30‬‬
‫دون الشق اآلخر‪ ،‬المتضمن المصلحة المراد حمايتها‪ ،‬وهي مصلحة منصوص عليها في القوانين األخرى‪ ،‬والتي يجب أن تفسر‬
‫في القانون الجنائي وفقا للمفهوم المعطى لها في هذه القوانين‪ ،‬وفقا لذلك‪ ،‬يمكن تقسيم القانون الجنائي عدة تقسيمات‪ ،‬تبعا للمصالح‬
‫والحقوق التي يحميها‪ ،‬فيمكن تسميته بالقانون الجنائي المدني في الحاالت التي يمد فيها القانون المدني بالحماية‪ ،‬كحاالت االعتداء‬
‫على الملكية أو العقد بالتزوير مثال‪ ،‬والقانون الجنائي التجاري‪ ،‬في الحاالت التي يحمي فيها المصالح التجارية‪ ،‬والقانون الجنائي‬
‫اإلداري والمالي والجبائي‪.‬‬
‫وإن كنا ال نوافق هذا الرأي‪ ،‬إال أن الواقع يشهد فعال تفرع القانون الجنائي إلى العديد من الفروع األخرى‪ ،‬حيث بدأنا‬
‫نشهد في اآلونة األخيرة ظهور العديد من المؤلفات الفقهية لفقهاء قانون كبار‪ ،‬مثل القانون الجنائي الدستوري‪ ،‬والقانون الجنائي‬
‫الدولي‪ ،‬والقانون الجنائي اإلداري‪....‬‬
‫]‪ - [27‬في حين نجد بعض الفقه يحصرها في ثالثة وظائف رئيسية‪ ،‬إذ يرى أن قانون العقوبات يؤدي وظيفة جزائية‪،‬‬
‫وأخرى أدبية‪ ،‬وثالثة حماية المجتمع وحقوق المواطنين‪ ،‬فالوظيفة الجزائية تتمثل في كون قانون العقوبات المتميز عن غيره من‬
‫القوانين بفرضه لجزاءات الهادفة لتحقيق بعض األغراض األخالقية والنفعية‪ ،‬أخالقيا بمقابلة الجريمة بجزاء إلرضاء الشعور‬
‫العام بالعدالة‪ ،‬ونفعيا بتحقيق الردع العام والردع الخاص‪ ،‬أما الوظيفة األدبية فقانون العقوبات يعد تعبير عن القيم والمصلح‬
‫االجتماعية‪ ،‬وكذا حماية حقوق المجتمع والمواطنين‬
‫]‪ - [28‬حتى وإن كان لمفهوم الردع في قانون العقوبات معنى مغاير‪ ،‬إال أنه يمكننا القول بأن الوظيفة األساسية لقانون‬
‫العقوبات هي تبيان المحظورات والممنوعات‪ ،‬وأوامر ونواهي قانون العقوبات في حقيقتها تنطوي على شيء من اإلكراه النفسي‬
‫والمعنوي‪ ،‬والضغط على اإلرادة اإلنسانية وتصدها وتمنعها من بروز المعطيات اإلجرامية لديها‪ ،‬لذا قانون العقوبات في حقيقته‬
‫يقوم بالتخويف والردع‪ ،‬كما يقوم أيضا بنوع من التربية االجتماعية‪ ،‬حيث أن التعرف على المحظورات تعني تعرف الفرد على‬
‫القيم المحترمة في المجتمع‪ ،‬كون القواعد الجنائية في حقيقتها تجريم لبعض األفعال المخالفة في جانب من الجوانب لهذه القيم‪،‬‬
‫سواء تعلق األمر باألمن العام لهذا المجتمع‪ ،‬أو نظامه وآدابه العامة‪ ،‬أو أمنه أو سكينته أو صحته‪ ...‬وما تدخل المشرع لتجريم‬
‫فعل أ و امتناع إال ألنه عبر عن إرادة المجتمع في عدم تقبله ذلك‪ ،‬األمر الذي يجعل الفرد يدرك ممنوعات وحرمات المجتمع الذي‬
‫يعيش به‪ ،‬لذا فوظيفة مثل التربية االجتماعية والردع والتخويف ال تتحقق إال بالنصوص الجنائية المكتوبة الصادرة عن الجهة‬
‫المختصة بإصدارها حسب دستور الدولة ونظام حكمها‪.‬‬
‫وإن كانت حقيقة أن اإلنسان اجتماعي بطبعه‪ ،‬وعليه االمتثال لقيم هذا المجتمع‪ ،‬غير انه ال ينبغي لهذا المجتمع أن‬
‫يتعسف كثيرا في حرمان األفراد من حرياتهم واستقالليتهم‪ ،‬لذا يجب العمل على إقامة نوع من التوازن بين مصلحة المجتمع وبين‬
‫حقوق وحريات األفراد‪ ،‬وهما النقيضين – في الحقيقة‪ -‬الذين يعمالن في المجتمع في آن واحد‪ ،‬لذا يجب أن يكون هناك= =حكما‬
‫يضع الحدود الفاصلة بين هذين المتعارضين‪ ،‬وهو المشرع المعبر عن إرادة الجماعة من جهة‪ ،‬وحامي حريات األفراد وحقوقهم‬
‫من جهة ثانية‪ ،‬لكن في إطار الشرعية الجنائية‬
‫]‪ - [29‬حيث كان االنتقام الوسيلة األولى للعقوبة في العصور البدائية‪ ،‬وكان أسلوبا مسيطرا على تصرفات اإلنسان‪،‬‬
‫ومن بعده التأديب الذي كان ينزله رب األسرة بالجاني‪ ،‬ويمكن تلخيص هذه المرحلة في األفكار التالية‪ :‬العدوان أو الجريمة كان‬
‫نوعان‪ ،‬خارجي وداخلي‪ ،‬والجزاء تمثل في االنتقام الفردي والجماعي أو الثأر‪ ،‬بخصوص الجريمة‪ :‬سلطة التقرير لرب األسرة‬
‫وهي نوعان االعتداءات الداخلية واالعتداءات الخارجية‪ ،‬وبخصوص الجزاء‪ ،‬توقيع الجزاء في حال االعتداءات الداخلية من‬
‫سلطات رب األسرة‪ ،‬وفي االعتداءات الخارجية ساد نظام الثأر الجماعي بين األسر‪ ،‬بالنظر لقيام العالقات األسرية على أساس "‬
‫رابطة لدم" التي تعد اليوم من أهم أسس للجنسية في القوانين المعاصرة‪.‬‬
‫]‪ - [30‬في مرحلة الحقة من مراحل تطور البشرية تكونت العشائر من مجموعة أسر تعتقد في انتمائها ألصل واحد‬
‫سواء كان نباتا أو حيوانا كان يطلق عليه مصطلح ‪ :‬التوتم" الذي كان بمثابة إله العشيرة الذي تقدم له القرابين‪ ،‬ومن مجموعة‬
‫عشائر تكونت القبائل إما على أساس ديني مثلما هو الشأن بالنسبة لتكون العشائر‪ ،‬وإما بسبب الحروب التي كانت تفرز غالب‬
‫ومغلوب يسيطر فيه األول على الثاني‪ ،‬ومن مجموعة القبائل تكونت بعدها المدن القديمة كمدينة روما وأثينا واسبرطة التي‬
‫تحولت في مرحلة الحقة إلى دول حديثة‪ ،‬وكل على رئس كل عشيرة أو قبيلة أو مدينة رئيس أو حاكم أو أمير يتولى تصريف‬
‫شؤونها‪.‬‬
‫]‪ - [31‬ويمكن تلخيص مبادئ هذه الفترة في‪ :‬تطوير النظم األسرية وتحول سلطات توقيع العقاب‪ ،‬االهتمام بشق الجزاء‬
‫دون الجريمة‪ ،‬تطور فطرة االنتقام الجماعي‪ ،‬ظهور فكرة القصاص‪ .‬في االعتداءات الداخلية‪ ،‬وفكرة الحروب في االعتداءات‬
‫الخارجية‪ .‬قلل منها بفكرة الدية والصلح‪.‬‬
‫]‪ - [32‬القول بالدين ال يعني بالضرورة أننا بصدد الكالم عن المسيحية أو الشريعة اإلسالمية‪ ،‬بل عن كل األديان‬
‫والمعتقدات التي سادت البشرية حتى قبل ظهور هاتين الديانتين‪ ،‬ويمكن القول أن أهم ما لعب دورا هاما في تطوير قانون‬

‫]‪[31‬‬
‫العقوبات‪ ،‬كان الدين‪ ،‬فعن طريقه تمت تقوية سلطات الحكام وادعائهم أنهم يستمدون مثل هذه السلطات من قبل اإلله مباشرة كون‬
‫الحاكم ممثال لإلله على األرض‪ ،‬وكانوا يصورون الجريمة على أنها أرواح شريرة تتقمص شخص الجاني وتؤدي إلى إغضاب‬
‫اآللهة‪ ،‬ومن الضروري إلرضاء اآللهة أن يقوم الجاني بالتكفير عن جريمته وذلك بإنزال العقوبة عليه حتى ترضى اآللهة‪،‬‬
‫واتخذت بذلك العقوبة فكرة االنتقام الديني الذي تحت غطائه ظلت العقوبات تتسم بطابع القسوة والشدة كأسلوب لردع الجناة‬
‫وإرضاء اآللهة وامتصاص غضبها‪ ،‬ورغم ظهور ديانات سماوية بعد االعتقادات الدينية القديمة ونزول اليهودية والمسيحية إال أن‬
‫الحكام استمروا عن مبادئ مثل هذه الديانات للتنكيل بخصومهم وردع الخراجين هن حكمهم‪ ،‬لتستمر بذلك العقوبات متسمة‬
‫بالقسوة والشدة‪.‬‬
‫]‪ - [33‬يعتبر القرن الثامن عشر‪ ،‬حسب البعض‪ ،‬المرحلة االنتقالية ما بين المجتمعات التقليدية والعصر الحديث‪ ،‬وهو‬
‫القرن الذي شهد العديد من الثورات االجتماعية في أوروبا‪ ،‬كما شهد في المجال الجنائي ما سماه هذا الفقه بالثورة األولى التي‬
‫تمثلت في المدرسة الكالسيكية‪.‬‬
‫]‪ - [34‬ويمكن تلخيص أفكار هذه المدرسة في أنه جع أنصارها ما بين فكرتي العدالة والمنفعة االجتماعية‪ ،‬فالعقوبة ال‬
‫تكون مشروعة إال في الحدود التي تجتمع فيها العدالة والمصلحة‪ ،‬ولم يسلموا بين فكرة المساواة المطلقة في فكرة المسؤولية‪ ،‬بل‬
‫يجب مراعاة ظروف الجناة كل على حدا لتقرير المسؤولية الجنائية‪ ،‬وتأثرت العديد من التشريعات بآراء هذه المدرسة آنذاك‪ ،‬مثل‬
‫القانون الفرنسي لسنة ‪ 1832‬التي ألغت العقوبات القاسية وقرر نظم التخفيف وفرق بين الجرائم السياسية والجرائم العادية‪ ،‬كما‬
‫أخذ بأفكار هذه المدرسة أيضا قانون العقوبات القانون الجنائي األلماني الصادر سنة ‪ ،1870‬وقانون العقوبات اإليطالي لسنة‬
‫‪1889‬‬
‫]‪ - [35‬حيث رأت هذه المدرسة أن الجريمة ظاهرة تعود أسبابها إما لظروف عضوية ونفسية‪ ،‬أو بيئية أو اجتماعية‪،‬‬
‫والقول بحرية االختيار هروب من التعمق في دراسة أسباب الجريمة وذلك بإلقاء اللوم على الجاني‪ ،‬وأن ذلك يؤدي إلى الجمود‬
‫وعدم مواجهة الجريمة باعتبارها نتيجة حتمية ال مناص من وقوعها‪.‬لكن فكرة الحتمية التي نادت بها هذه النظرية هي عبارة عن‬
‫وهم أثبت الواقع عدم صحته‬
‫]‪ - [36‬وهي كلها مبادئ قانونية راسخة اليوم في التشريعات الجنائية المعاصرة‪ ،‬بما فيها التشريع الجزائري‪.‬‬
‫]‪ - [37‬الزنا هو وطأ الرجل للمرأة في حرام من دون أن تكون تحل له‪ ،‬فكل وطأ محرم يشكل في الشريعة اإلسالمية‬
‫جريمة الزنا‪ ،‬دون أن تفرق الشريعة بين المتزوج وغير المتزوج عكس القانون الجزائري الوضعي‪ ،‬حيث ال تقوم هذه الجريمة‬
‫إال إذا كان أحدهما متزوجا ( المادة ‪ 339‬تقنين العقوبات الجزائري)‪ ،‬وحد جريمة الزنا في الشريعة اإلسالمية هو الجلد مائة جلدة‬
‫لغير المحصن‪ ،‬والرجم للمحصن‪ ،‬وذلك لقوله عز وجل في اآلية الثانية من سورة النور‪ ":‬الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد‬
‫منهما مائة جلدة وال تأخذكم بهما رأفة في دين هللا إن كنتم تؤمنون باهلل واليوم اآلخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين"‬
‫]‪ - [38‬السرقة من جرائم الحدود في الشريعة اإلسالمية‪ ،‬وبينت حدها اآلية ‪ 38‬من سورة المائدة‪ ،‬وهو قطع اليد‪": ،‬‬
‫والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكال من هللا وهللا عزيز حكيم"‪.‬‬
‫]‪ - [39‬القذف في لشريعة اإلسالمية هو رمي المسلم المحصن بالزنا أو نفي النسب‪ ،‬على عكس القانون الوضعي الذي‬
‫يمثل االدعاء علنا بواقعة ( المادة ‪ 296‬قانون العقوبات الجزائري)‪ ،‬وبينت حد هذه الجريمة اآلية ‪ 4‬من سورة النور ‪ ":‬والذين‬
‫يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة وال تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون"‪.‬‬
‫]‪ - [40‬البغي عموما – وبالرغم من اختالف الفقه اإلسالمي حول تعريفه‪ -‬فهو الخروج عن طاعة أولي األمر ظلما‬
‫وتعديا‪ ،‬أو هو االمتناع عن طاعة السلطان فيغير معصية‪ ،‬وبينت حده اآلية ‪ 9‬من سورة الحجرات‪ ":‬وإن طائفتان من المؤمنين‬
‫اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على األخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر هللا إلى أمر هللا فإن فآءت فأصلحوا‬
‫بينهما بالعدل وأقسطوا إن هللا يجب المقسطين"‬
‫]‪ - [41‬الحرابة مشتقة من لفظ الحرب‪ ،‬بمعنى القتل أو أخذ المال قهرا أو على سبيل المغالبة‪ ،‬ويسمى فاعلها المحارب‬
‫أو قاطع الطريق‪ ،‬وهي من جرائم الحدود لقوه تعالى في اآليتان ‪ 33‬و‪ 34‬من سورة المائدة ‪ ":‬إنما جزؤا الذين يحاربون هللا‬
‫ورسوله ويسعون في األرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلف أو ينفوا من ا{ض ذلك لهم خزي‬
‫في الدنيا ولهم في اآلخرة عذاب عظيم (‪ )33‬إال الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن هللا غفور رحيم (‪")34‬‬
‫]‪ - [42‬الردة هي إنكار لما علم من الدين‪ ،‬كأن يكفر المسلم صراحة أو بفعل يدل على خروجه من الدين اإلسالمي‪،‬‬
‫وهي عموما الرجوع عن اإلسالم‪ ،‬وبين الشرع عقوبتها في سورة آل عمران اآلية ‪ 82‬وفي اآلية ‪ 217‬من سورة البقرة‪ ،‬حيث‬
‫قال عز وجل في األولى‪ ":‬ومن يتبع غير اإلسالم دينا فلن يقبل منه وهو في اآلخرة من الخاسرين"‪ ،‬وفي الثانية‪ ":‬ومن يرتد‬

‫]‪[32‬‬
‫منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعملهم في الدنيا واآلخرة وأولئك أصحب النار هم فيها خالدون" وقوله صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ ":‬من بدل دينه فاقتلوه‪ "...‬وبالتالي الحد هو القتل‪.‬‬
‫]‪ - [43‬جريمة الخمر حرمه الشرع قطعا‪ ،‬غير أنه لم يبين عقوبتها أو الحد المقرر لها‪ ،‬لذا قرر النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم الجلد كحد لها‪ ،‬بقوله ‪ ":‬من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه" وثبت أن شارب الخمر جلد أربعون جلدة في عهد أبا‬
‫بكر‪ ،‬كما ثبت الجلد ثمانون جلدة في عهد عمر رضي اله عنهما‪.‬‬
‫]‪ - [44‬يقول عز وجل في اآلية ‪ 179‬من سورة البقرة ‪ ":‬ولكم في القصاص حيواة يأولي األلبـب لعلكم تتقون" وقوله‬
‫أيضا في اآلية ‪ 178‬من سورة البقرة ‪ ":‬يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد واألنثى‬
‫باألنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"‪ ،‬وقوله تعالى في اآلية ‪ 45‬من سورة المائدة‪ ":‬وكتبنا‬
‫عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين واألنف باألنف واألذن باألذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو‬
‫كفارة له ومن لم يحكم با أنزل هللا فأولئك هم الظلمون"‪ ،‬قله عز وجل في اآلية ‪ 92‬من سورة النساء‪ ":‬ومن قتل مؤمنا خطئا‬
‫فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إال أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان‬
‫من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من هللا وكان‬
‫هللا عليما حكيما"‪.‬‬
‫]‪ - [45‬األمر رقم ‪ 156-66‬المؤرخ في ‪ 08‬يونيو ‪ 1966‬المعدل والمتمم‪.‬‬
‫]‪ - [46‬مثل المرسوم ‪ 399-63‬المؤرخ في ‪ 1963-10-07‬المتضمن تصنيف العتاد الحربي واألسلحة والذخائر غير‬
‫المعتبرة كعتاد حربي‪ ،‬والمرسوم رقم ‪ 441-63‬المؤرخ في‪ 1963-11-08 :‬المتضمن تنظيم شروط اقتناء وحيازة أسلحة الصيد‬
‫وذخائرها والتنازل عنها‪ ،‬المرسوم الصادر بتاريخ ‪ 1963-03-18‬المتعلق بتجريم األفعال الماسة باألمالك الشاغرة‪ ،‬قانون‬
‫القضاء العسكري الصادر باألمر ‪...28-71‬‬
‫]‪ - [47‬األمر رقم ‪ 155-66‬المؤرخ في ‪ 08‬يونيو ‪ 1966‬المعدل والمتمم‪.‬‬
‫]‪ - [48‬أول تعديل كان سنة ‪ 69‬بموجب األمر ‪ 74-69‬المؤرخ في‪ ،1969-09-16 :‬ثم سنة ‪ 1973‬بموجب األمر ‪-73‬‬
‫‪ 48‬المؤرخ في ‪ ،1973-11-25‬ثم أألمر رقم ‪ 47-75‬المؤرخ في‪ 17 :‬يونيو ‪ ،1975‬القانون ‪ 03-78‬المؤرخ في ‪-02-11‬‬
‫‪ ،1978‬القانون ‪ 04-82‬المؤرخ في ‪ ،1982-02-13‬القانون ‪ 26-88‬المؤرخ في ‪ 12‬يوليو ‪ ،1988‬القانون ‪ 05-89‬المؤرخ في‬
‫‪ ،1989-04-25‬القانون ‪ 02-90‬المؤرخ في ‪ ،1990-02-06‬القانون ‪ 15-90‬المؤرخ في ‪ 14‬يوليو ‪ ،1990‬األمر التشريعي رقم‬
‫‪ 11-95‬المؤرخ في ‪ ،1995-02-25‬األمر ‪ 22-96‬المؤرخ في ‪ 09‬يوليو ‪ ،1996‬األمر ‪ 10-97‬المؤرخ في ‪،1997-03-06‬‬
‫القانون ‪ 09-01‬المؤرخ في‪ 26 :‬يونيو ‪ ،2001‬القانون ‪ 15-04‬المؤرخ في‪ ،2004-11-10 :‬القانون رقم ‪ 06-05‬المؤرخ في‬
‫‪ ،2005-08-23‬القانون ‪ 01-06‬المؤرخ في ‪ 2006-02-20‬المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته‪ ،‬القانون ‪ 23-06‬المؤرخ في‬
‫‪.2006-12-20‬‬

‫]‪[33‬‬
‫الباب األول‬
‫النظرية العامة للجريمة‬
‫مقدمــــــة‬
‫الجريمة قديمة قدم وجود اإلنسان على األرض‪ ،‬حيث وقعت أول جريمة قتل على األرض والبشرية ال‬
‫تزال في بدء والدتها‪ ،‬فالجريمة متواجدة ما وجد بني البشر‪ ،‬حتى ولو عاشت البشرية كلها في المدينة الفاضلة التي‬
‫تخيلها فالسفة اليونان‪ ،‬لذا فوجود القانون العقابي حتمية لجميع المجتمعات البشرية‪ ،‬كون الجريمة مرادفة للسلوك‬
‫االجتماعي وتابعة لوجود البشر والمجتمع‪ ،‬األمر الذي جعل من الجريمة موضوعا هامة تحدث فيه الفالسفة والفقهاء‬
‫على حد سواء‪ .‬لكنها فكرة ال تزال لغاية اليوم تثير الجدل والنقاش الفقهي الحاد‪ ،‬سواء فيما يتعلق بتحديد ماهيتها‪ ،‬أو‬
‫بتكوينها القانوني من حيث األركان والعناصر والظروف‪ ،‬وذلك راجع باألساس إلى أن فكرة الجريمة اختلطت حولها‬
‫المفاهيم االجتماعية والسلوكية والقانونية‪ ،‬وتعددت المذاهب داخل الدراسة القانونية ذاتها‪.‬‬
‫ل ذا فدراسة النظرية العامة للجريمة‪ ،‬تقتضي منا قبل الخوض في تحليلها وتناول تفاصيل أركانها العامة‪،‬‬
‫تباعا وفقا لما أوردها الفقه‪ ،‬والتمييز بين هذه األركان وما يشابهها من أفكار وما ثار حولها من جدل فقهي‪ ،‬أن نتناول‬
‫في فصل أول من هذا الباب‪ ،‬ماهية الجريمة كموضوع أساسي للقاعدة الجنائية الموضوعية‪ ،‬والتي تمثل الشق األول‬
‫منها‪ ،‬سواء تمثلت في أمر أو نهي‪ ،‬خاصة وان الشق الثاني من القاعدة المتمثل في الجزاء ما هو إال أثر يترتب عن‬
‫مخالفة الشق األول‪ ،‬حيث ال يمكن الكالم عن هذا الجزاء‪ ،‬إال في حال عدم االمتثال لشق التجريم‪ ،‬سواء بمخالفة النهي‬
‫وإتيان سلوك يخالفه‪ ،‬أو بعدم االمتثال لألمر‪ ،‬وعدم إتيان الفعل الذي أمر به قانون العقوبات‪ .‬وعلى ذلك‪ ،‬سنحاول‬
‫الشروع في دراسة هذا الباب من خالل فصل تمهيدي نتناول فيه ماهية الجريمة كموضع أساسي محوري لقانون‬
‫العقوبات‪ .‬لنخصص ثالثة فصول أخرى متتالية لكل ركن من أركانها العامة‪ ،‬وآخر لدراسة أسباب اإلباحة يكون تاليا‬
‫مباشرة للفصل المتعلق بدراسة الركن الشرعي‪ ،‬ونختمه بخامس نبين فيه تصنيف الجرائم أو تقسيماتها‪ .‬على أساس أن‬
‫هذا التقسيم‬
‫أو التصنيف يرتبط ارتباطا وثيقا بأركان الجريمة‪ ،‬لذا حاولنا تأخيره لغاية استيعابنا لهذه األركان العامة‪.‬‬

‫]‪[34‬‬
‫فصل تمهيدي‬
‫مـــاهية الجـــريمة‬
‫بالرغم من كون الجريمة العنصر األهم في القاعدة الجنائية‪ ،‬باعتبارها الشق الذي يترتب عليه تطبيق‬
‫الشق الثاني من ذات القاعدة‪ ،‬ومن بعده االحتكام للقاعدة اإلجرائية في وضع القاعدة الموضوعية موضع التنفيذ‪ ،‬وأن‬
‫السياسة الجنائية في األصل يكمن اهتمامها بهذا الشق‪ ،‬حيث يجسد نظرة المشرع لما ال يجب أن يسود المجتمع من‬
‫سلوكات‪ ،‬وانصباب اهتمامه بالدرجة األولى على بحث النموذج القانوني المجرم‪ ،‬كون األثر مسألة غير متعبة أساسا‪،‬‬
‫حيث وضع الجزاء المناسب مسألة سهلة نسبية‪ ،‬غير أننا نادرا ما نجد القانون الجنائي أو قانون العقوبات يهتم بوضع‬
‫تعريف عام للجريمة‪ ،‬كون التعريف الخاص لكل جريمة على حدا موجود في النص الذي يبين ركنها المادي وباقي‬
‫عناصرها األخرى‪ ،‬مفضال ترك المهمة للفقه‪ ،‬خاصة وأن المعروف أن وضع التعاريف ليس من أعمال المشرع بل من‬
‫مهام الفقه‪ ،‬لدرجة أن قال البعض وضع التعاريف لعبة الفقهاء‪ ،‬ونرى أن مسلك المشرع في ذلك مسلكا سليما كون‬
‫وضع تعريف قد يقيد حركيته في التجريم والعقاب‪ ،‬ويجعله عرضة للوقوع في التناقضات ما بين أحكام قانون العقوبات‬
‫الواحد‪ ،‬غير أن ذلك ال يمنعنا من التركيز على أهمية هذا التعريف‪ ،‬كونه الخطوة األولى لإلحاطة بمقومات وخصائص‬
‫وأركان الجريمة‪ ،‬وكذا التمييز بينها وبين األفكار المشابهة لها في ميادين القانون األخرى‪ ،‬أو في الحياة االجتماعية‪ ،‬كما‬
‫أن غياب التعريف القانوني الجامع والمانع انعكس على تصنيف أنواع الجرائم ووضع تقسيمات قانونية لها‪ ،‬وجعل الفقه‬
‫يختلف حول هذه المسألة‪ ،‬مثلما اختلف حول أركان الجريمة وعناصرها‪ ،‬بل وحتى حول عدد هذه األركان‪ ،‬وهو ما‬
‫يتوضح ل نا من خالل نقاط هذا الفصل‪ ،‬الذي سنحاول أن نتناوله من خالل التعرض لمفهوم الجريمة في حد ذاتها‬
‫كتصور قانوني وأساس عمل المشرع الجنائي‪ ،‬لنتمكن فيما بعد باإلحاطة بأركانها وعناصرها ومختلف مقوماتها‪ ،‬وذلك‬
‫من خالل مبحث ثاني نتناول فيه التحليل القانوني لفكرة الجريمة‪.‬‬

‫]‪[35‬‬
‫المبحث األول‬
‫مفـــــهوم الجريمة‬
‫سبق القول بأن المشرع لم يهتم بوضع تعريف للجريمة]‪ ،[1‬مفضال كالعادة ترك المهمة للفقه‪ ،‬األمر‬
‫الذي جعل من الموضوع ساحة للجدل واالختالف الفقهي‪ ،‬وجعل المسألة من أكثر المواضيع الجنائية إثارة للخالف‬
‫والجدل‪ ،‬وهو األمر الذي يميز قانون العقوبات كلما تعلق األمر بوضع التعاريف‪ ،‬وقد تبينا ذلك في نقاط البحث‬
‫السابقة‪ ،‬وسنتبينه الحقا كلما تعلق األمر بوضع تعريف لفكرة جنائية من أفكار قانون العقوبات‪ ،‬غير أن ميزة الخالف‬
‫الفقهي الجنائي حول وضع التعاريف‪ ،‬هي أنه يمكن من إيجاد نقاط مشتركة خاصة في ظل كثرة المدارس واالتجاهات‪،‬‬
‫من مدارس موضوعية وأخرى شخصية‪ ،‬ومن اهتمام قانوني وآخر علمي‪ ،‬وكذا الهتمام غالبية العلوم بفكرة الجريمة‬
‫كسلوك يمكن أن يميز سائر مجاالت الحياة‪ ،‬فاهتم بها علماء اإلجرام وعلماء العقاب والفقه والقضاء الجنائي‪ ،‬وإن كانت‬
‫مثل هذه العلوم من العلوم الجنائية المساعدة‪ ،‬فإن فكرة الجريمة أيضا موضوع اهتمام سائر فقهاء الميادين االجتماعية‬
‫األخرى‪ ،‬شأنها شأن أية فكرة اجتماعية‪ .‬لذا سنحاول من خالل مطلب أول‪ ،‬تبين أهم التعريفات الفقهية لفكرة الجريمة‪،‬‬
‫لنحاول بناء على ذلك تبين أهم خصائصها‪ ،‬في مطلب ثاني‪ ،‬األمر الذي يمكننا فيما بعد من التمييز بينها وبين األفكار‬
‫القانونية المشابهة لها‪ ،‬وذلك في مطلب ثالث‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫تعريـف الجريــمة‬
‫م ن أكثر المواضيع التي شغلت الفقه الجنائي‪ ،‬هي محاولته وضع تعريف للجريمة‪ ،‬األمر الذي انعكس‬
‫على تعدد هذه التعاريف وتنوعها‪ ،‬إلى حد جعلها في منأى عن الحصر‪ ،‬غير أنه يمكننا رد هذه التعريفات إلى اتجاهين‬
‫أساسيين‪ ،‬اتجاه اجتماعي ويركز أنصاره على فكرة الجريمة كسلوك اجتماعي ضار بالمجتمع‪ ،‬واتجاه قانوني يركز‬
‫على اعتبار الجريمة فكرة قانونية مجردة‪ ،‬وهو ما نبينه من خالل الفرعين التاليين‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫االتجاه االجتماعي في تعريف الجريمة‬
‫ي ميل أنصار هذا االتجاه في تحليلهم للجريمة ومحاولة وضع تعريف لها‪ ،‬إلى التركيز على جوانبها‬
‫االجتماعية‪ ،‬باعتبارها سلوكا اجتماعيا صادرا عن إنسان قبل أن تكون فكرة قانونية‪ ،‬حيث لكل إنسان دوافعه الخاصة‬
‫في ارتكابه للجريمة وهذه الدوافع تختلف من شخص آلخر‪ ،‬بل تختلف لدى الشخص الواحد من جريمة ألخرى‪،‬‬
‫وبالتالي فإن أي محاولة لوضع تعريف للجريمة يجب أن تنطلق من دراسة وتحليل سلوك اإلنسان ودوافعه‪ .‬وهو اتجاه‬
‫تبناه أيضا علماء اإلجرام‪ ،‬الذين سبق لهم أن توصل بهم الحد للقول بعدم الحاجة ال لقانون العقوبات وال لقاضي يطبق‬
‫هذا القانون‪ ،‬بل أن المسألة تحتاج إلى مخابر يتولى فيها العلماء البحث في الجريمة وأسبابها ودوافعها‪ ،‬ووضع العالج‬
‫المناسب لها‪ ،‬وبالتالي هو اتجاه إن صلح كعامل مساعد في رسم السياسة الجنائية‪ ،‬فإنه ال يصلح لقانون العقوبات الذي‬
‫يبنى على أفكار قانونية مجردة‪.‬‬

‫]‪[36‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫االتجاه القانوني في تعريف الجريمة‬
‫على عكس االتجاه السابق‪ ،‬الذي يركز على الجريمة كسلوك إنساني‪ ،‬فإن أنصار االتجاه القانوني‬
‫يركزون في محاوالتهم لوضع تعريف للجريمة على نصوص قانون العقوبات ذاته‪ ،‬باعتبار أن الجريمة تستمد وجودها‬
‫القانوني من هذه النصوص‪ ،‬وبالتالي تصبح الجريمة فكرة قانونية مجردة أكثر من اعتبارها سلوك إنساني أو اجتماعي‪،‬‬
‫وداخل هذا االتجاه ذاته‪ ،‬هناك اختالف فقهي‪ ،‬حيث نجد البعض يركز على الجانب الشكلي للجريمة‪ ،‬في حين يركز‬
‫البعض اآلخر على جوانبها الموضوعية‪ ،‬وبذلك ظهر اتجاهين قانونيين في تعريف الجريمة]‪ ،[2‬أحدهما شكلي واآلخر‬
‫موضوعي‪ .‬وهو ما نتناوله في النقطتين التاليتين‪.‬‬

‫أوال‪ :‬االتجاه القانوني الشكلي في تعريف الجريمة‬


‫وهو االتجاه الذي يركز أنصاره في تعريفهم للجريمة‪ ،‬على العالقة الشكلية الموجودة بين الجريمة في‬
‫حد ذاتها – أيا كانت طبيعتها‪ -‬وقانون العقوبات‪ ،‬أو العالقة ما بين ظاهرة الجريمة والقاعدة الجنائية أو النص الجنائي‪،‬‬
‫وبذلك عرفت أنها‪ ":‬الواقعة المرتكبة بالمخالفة لقواعد قانون العقوبات والتي يرتب عليها عقوبة جنائية"‪ ،‬أو هي‪ ":‬فعل‬
‫أو امتناع يجرمه القانون"‪ ،‬أو ‪ ":‬تصرف موصوف بأنه جريمة بواسطة القانون"‪.‬‬
‫وبالتالي ركز أنصار االتجاه الشكلي كثيرا على الركن القانوني للجريمة‪ ،‬أو الركن الشرعي على نحو‬
‫ما سنراه الحقا‪ ،‬وأهملوا تماما الشخص الذي ارتكب هذه الجريمة‪ ،‬وطبيعة الفعل ذاته‪ ،‬مما يعني إهمالهم لركنين‬
‫أساسيين هما الركن المادي للجريمة وركنها المعنوي اآلتي دراستهما]‪.[3‬‬
‫ثانيا‪ :‬االتجاه القانوني الموضوعي أو المادي في تعريف الجريمة‬
‫ي ركز أنصار هذا االتجاه‪ ،‬وعلى عكس االتجاه السابق‪ ،‬على جوهر الفعل الذي جرمه القانون‪،‬‬
‫ويعتبرونه ا لواقعة الضارة بمصالح المجتمع الجوهرية‪ ،‬وهي المصالح التي يقوم عليها أمن واستقرار هذا المجتمع‪ ،‬بل‬
‫يستمد منها كيانه ووجوده‪ ،‬سواء تمثلت في النظام العام أو اآلداب العامة أو الصحة أو السكينة العامة‪ ،‬وبالتالي تستمد‬
‫الجريمة وجودها من وجود المجتمع ذاته‪ ،‬ال من نص القانون مثلما يرى أنصار االتجاه القانوني الشكلي‪ ،‬وعرفت‬
‫الجريمة تبعا لهذا االتجاه‪ ،‬بأنها‪ ":‬الواقعة الضارة بكيان المجتمع وأمنه"‪ .‬وبالتالي أهمل أنصار هذا االتجاه الركن‬
‫القانوني للجريمة‪ ،‬كما أهملوا أيضا ركنها المعنوي المتمثل في شخصية مرتكب هذه الواقعة الضارة‪ ،‬وبالتالي إن كان‬
‫أنصار االتجاه الشكلي قد أهملوا الركنين المادي والمعنوي وركزوا فقط على الركن القانوني‪ ،‬فإن أنصار االتجاه‬
‫الموضوعي أهملوا الركنيين القانوني والمعنوي وركزوا فقط على الركن المادي في الجريمة]‪.[4‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬يمكننا القول‪ ،‬بأن كل اتجاه عاجز لوحده أن يعطي تعريف يلم بكل جوانب الجريمة‪ ،‬كما أنه‬
‫بإعمال االتجاهين معا‪ ،‬نبقى عاجزين عن اإللمام بذلك‪ ،‬حيث يبقى ينقصنا الركن المعنوي في الجريمة الذي يكون‬
‫بالتركيز على شخصية مرتكبها‪ ،‬وإن كان االتجاهين األولين يمكنان من تعريف الجريمة أنها الواقعة التي ترتكب‬
‫إضرار بمصالح المجتمع ويرتب عليها قانون العقوبات جزاءا جنائيا‪ ،‬إال انه يجب إضافة الركن المعنوي المتمثل عن‬
‫إتيان هذه الواقعة من طرف مقترفها عن وعي وإدراك وحرية اختيار‪ ،‬على اعتبار الجريمة فينظرنا نص وفعل‬
‫وفاعل‪ ،‬أي أن تكون واقعة إرادية سواء تمثلت في فعل أو امتناع‪ .‬وإن كان كل ما سبق لم يف بعد بالمطلوب‪ ،‬وهو‬
‫إعطاء تعريف جامع ومانع للجريمة‪ ،‬إال أنها محاوالت تبقى كافية لتبين لنا خصائص هذا الفعل أو االمتناع التي تجعل‬
‫منه جريمة‪ ،‬وتمكن من تمييزها عن باقي األفكار القانونية المشابه لها‪ .‬وهو ما نتبينه من خالل الفرع الثاني‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫خصـــائص الجريمة‬
‫من التعريفات السابقة‪ ،‬يمكن القول بأن الجريمة‪ ،‬كسلوك إنساني‪ ،‬أو كفكرة قانونية أو اجتماعية‪ ،‬تتميز‬
‫بالعديد من الخصائص التي تميزها عن األفكار المشابهة لها‪ ،‬أو القريبة منها‪ ،‬من أهم هذه الخصائص‪ ،‬أنها سلوك‬
‫إنساني قبل كل شيء‪ ،‬وأن يكون هذا السلوك غير مشروع‪ ،‬وعدم المشروعية هذه تستمد من تجريمه من قبل قانون‬

‫]‪[37‬‬
‫العقوبات‪ ،‬وأثرها العقاب عليه‪ ،‬حيث أن العقاب أثر لعدم مشروعية الفعل‪ ،‬وأن يمثل هذا السلوك إضرارا بالمصالح‬
‫الجوهرية للمجتمع‪ ،‬بخرقها عن طريق اإلضرار بها‪ ،‬أو بتهديها بخطر‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫الجريمة سلوك مادي إنساني معاقب عليه‬
‫ي مكن أن نستنتج من هذه الخاصية وحدها العديد من الخصائص الفرعية األخرى‪ ،‬فهي أوال وقبل كل‬
‫شيء سلوك‪ ،‬فحتى تعد الواقعة جريمة يجب أن تنطوي على قدر معين من السلوك‪ ،‬سواء قل أو كثر‪ ،‬وسواء تمثل في‬
‫فعل إيجابي أو في سلوك سلبي‪ ،‬حيث أن الجريمة تقوم بالفعل كما تقوم باالمتناع‪ ،‬ونكون بصدد الفعل اإليجابي عند‬
‫مخالفة نواهي قانون العقوبات‪ ،‬ونكون بصدد السلوك السلبي عند عدم إتيان أوامر قانون العقوبات‪ ،‬أو القيام باألمر على‬
‫نحو مخالف لما تطلبه القانون‪ ،‬وبالتالي اعتبار الجريمة سلوك يقودنا لمبدأ هام يقوم عليه قانون العقوبات‪ ،‬وهو مبدأ‬
‫مادية الجرائم‪ ،‬حيث أن القانون الجنائي ال يحفل وال يعبأ بالنوايا مهما كانت شريرة‪ ،‬وال سلطان له على الضمائر وما‬
‫تحدث به األنفس‪ .‬هذا من ناحية‪ .‬ومن ناحية ثانية‪ ،‬يجب أن يكون هذا السلوك المادي‪ ،‬سلوكا إنسانيا‪ ،‬صادر عن‬
‫إنسان يتمتع بالتمييز والقدرة على االختيار‪ ،‬حتى يمكن مسائلته قانونا – وإن كان يمكن مسائلة الشخص المعنوي‪ ،‬فإن‬
‫ذلك في أحوال ضيقة تمثل استثناء وأثارت العديد من الجدل الفقهي الذي حسم في شق منه وال يزال يثير الكثير من‬
‫الجدل في نواحي كثيرة منه‪ -‬حيث أن قانون العقوبات كقاعدة يخاطب الشخص الطبيعي البالغ العاقل المميز المختار‪،‬‬
‫سواء اتخذت هذه اإلرادة صرة العمد أو الخطأ‪ ،‬وزيادة عن ذلك‪ ،‬يجب أن تنتفي أسباب اإلباحة في الفعل‪ .‬وهو ما يجسد‬
‫فكرة الركن المعنوي للجريمة‪ .‬وكذا تجسيد لفكرة المسؤولية الجنائية‪ .‬وزيادة على اعتبار الجريمة سلوك مادي صادر‬
‫عن إنسان‪ ،‬وأن يكون هذا اإلنسان واعي ومدرك ومختار‪ ،‬يجب أن يجد مصدر تجريمه في نصوص قانون العقوبات‪،‬‬
‫الذي يعد الوسيلة الوحيدة للتجريم والعقاب‪ ،‬وهو ما يجسد فكرة قانونية الجرائم والعقوبات‪،‬‬
‫أو مبدأ الشرعية الجنائية‪ .‬وإن كانت الخصائص السابقة قد جسدت فعليا أركان الجريمة الثالث األساسية‪ ،‬فإنه هناك‬
‫خاصية أخرى تجسد خصوصية الجريمة وتميزها عن غيرها من صور المخالفات المنصوص عليها في الفروع‬
‫القانونية أألخرى‪ ،‬وهي أن يكون الفعل المادي الصادر عن اإلنسان المسؤول جنائيا‪ ،‬يخرق‬
‫أو يهدد المصالح الجوهرية أو األساسية للمجتمع‪ .‬وهي الخاصية الثانية‪ ،‬التي نتناولها في النقطة الموالية‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫الجريمة خرق أو تهديد لمصالح وقيم المجتمع الجوهرية‬
‫من أهم ما يمز الجريمة عن صور المخالفات القانونية األخرى‪ ،‬المنصوص عليها في فروع القانون‬
‫المخ تلفة غير القانون الجنائي‪ ،‬أنها سلوك يصل في جسامته إلى حد اإلخالل بمصالح وقيم المجتمع األساسية‪ ،‬كنظامه‬
‫وأمنه وصحته وسكينته وآدابه وطمأنينته‪ ،‬وحقوق وحريات أفراده‪ ،‬وهي المسألة التي تبرر للمشرع الجنائي التدخل‬
‫بالتجريم الذي يعد استثناء عن قاعدة أساسية أصلية هي أنه األصل في األشياء اإلباحة‪ ،‬وسواء شكل هذا اإلخالل تعديا‬
‫فعليا أو مجرد تهديد كحاالت الشروع]‪ .[5‬هذا وبعد أن حددنا بعض التعريفات التي أعطيت للجريمة ومكنتنا من تحديد‬
‫أهم خصائصها‪ ،‬يتوجب علينا أن نميزها عما يشابهها من صور المخالفات القانونية األخرى‪ ،‬وأهمها الجريمة المدنية‬
‫والجريمة التأديبية‪.‬‬
‫المطلب الثالث‬
‫تمييز الجريمة عن صور المخالفات القانونية المشابهة‬
‫ي ميز الفقه الجريمة الجنائية عن بعض صور المخالفات األخرى‪ ،‬على أساس أنه يوجد تشابه بين هذه‬
‫األفكار‪ ،‬ومن أهمها المخالفة المدنية والمخالفة التأديبية‪ ،‬ويسميهما الجريمة المدنية والجريمة التأديبية‪ ،‬وإن كنا نرى أن‬
‫لفظ " الجريمة" ال ينصرف إال إلى األفعال المجرمة بموجب قانون العقوبات‪ ،‬وما باقي الصور األخرى سوى مجرد‬
‫مخالفات ال تترتب عليها ذات النتائج التي تترتب على الجريمة بالمفهوم القانوني الجنائي الصحيح‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫الجريمة الجنائية والجريمة التأديبية‬

‫]‪[38‬‬
‫الجريمة الجنائية‪ ،‬على النحو الذي تقدم‪ ،‬تعد واقعة مضرة بالمصلحة العامة أو بالمصالح الجوهرية أو‬
‫األساسية للمجتمع‪ ،‬في حين الجريمة التأديبية تمس مصلحة فئة معينة من األشخاص‪ ،‬أو مصلحة هيئة معينة‪ ،‬أو الوظيفة‬
‫العامة‪ ،‬مخالفا بذلك اللوائح والنظم والقوانين األساسية التي تنظم هذه الهيئات أو النقابات‬
‫أ و الجمعيات أو المهن‪ .‬فالجريمة التأديبية مساس بأخالق أو آداب أو قيم أو أعراف جهة معينة أو فئة معينة من فئات‬
‫المجتمع‪ ،‬فتطبق على الشخص العقوبات المقررة لهذه المخالفات بحسب درجتها‪ ،‬والتي تكون محددة مسبقا مثل اإلنذار‬
‫أو الخصم من الراتب أو اإلنزال في الرتبة أو الفصل أو حتى الحرمان من ممارسة المهنة بصفة مؤقتة أو دائمة‪ .‬وهي‬
‫تختلف عن الجريمة الجنائية من حيث المصدر والنتيجة والجزاء‪.‬فمصدر الجريمة الجنائية مثلما سبق القول هو النص‬
‫الجنائي المكتوب‪ ،‬بينما مصدر الجريمة التأديبية فهو كل مسلك يشكل إضرارا بالمصالح الجماعية للطائفة التي ينتمي‬
‫إليها الشخص‪ ،‬وهي مسالك غير محددة في العادة مسبقا على سبيل الحصر‪ ،‬ومن حيث النتيجة‪ ،‬فإن الجريمة التأديبية‬
‫أضيق نطاقا من الجريمة الجنائية‪ ،‬فاألولى ال تمس إال مصالح الطائفة أو الهيئة التي ينتمي إليها المخالف‪ ،‬بينما تمس‬
‫الثانية مصالح المجتمع بأسره‪ ،‬وعلى اختالف طوائفه‪ .‬ومن حيث الجزاء تتسع أكثر شقة التباين بين كل من الجريمتين‬
‫سواء من حيث الجهة التي توقع الجزاء أو من حيث طبيعة هذا األخير‬
‫الفرع الثاني‬
‫الجريمة الجنائية والجريمة المدنية‬
‫يختلفان من جوانب عديدة‪ ،‬سواء تعلقت باألركان أو اآلثار‪ ،‬فبالنظر للألركان أهم عنصر لالختالف أن‬
‫الجريمة الجنائية تخضع لمبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬في حين الجريمة المدنية مبدأ الشرعية أو التحديد المسبق للخطأ غير‬
‫وارد‪ ،‬إذ أي ضرر يسبب للشخص يعد مرتكبه ملزما بالتعويض‪ ،‬وهو ما ال يمكن حصره مسبقا من قبل المشرع على‬
‫عكس الجرائم الجنائية‪ ،‬كما أن العقوبة في الجريمة الجنائية محددة سلفا‪ ،‬على خالف التعويض في الجريمة المدنية الذي‬
‫يخضع لقيمة الضرر الذي أصاب الشخص ولتقدير القاضي‪ .‬على ضوء طلبات الشخص المضرور ودفاع الشخص‬
‫المسبب للضرر‪ .‬كما أنه بالنسبة للركن المادي‪ ،‬فالجريمة الجنائية يمكن تصور قيامها بدون وجود أي ضرر يذكر‪ ،‬مثل‬
‫جرائم الشروع أو حمل األسلحة بدون ترخيص – وإن كنا نرى الضرر في هذه الجريمة مخالفة نظم الدولة في التعامل‬
‫بهذا النوع الخطير من الوسائل‪ -‬في حين في الجرائم المدنية يجب حصول ضرر معين‪ .‬وعموما يختلفن من حيث‬
‫المصدر والنتيجة الجزاء‪ ،‬فمن حيث المصدر تجد الجريمة المدنية مصدرها في كل فعل يسبب ضررا للغير‪ ،‬وهي بذلك‬
‫أفعال غير قابلة للحصر‪ ،‬أما مصدر الجريمة الجنائية هو نص قانون العقوبات وحده دون غيره من المصادر األخرى‪،‬‬
‫ومن حيث النتيجة فكل جريمة مدنية إال وتسبب ضررا يكون معيارا للقاضي في تحديد وتقدير التعويض المستحق‬
‫للشخص المضار‪ ،‬في حين يمكن أن تقوم الجريمة الجنائية دون أن تسبب أي ضرر للغير‪ ،‬سيما في الجرائم الشكلية‪.‬‬
‫ومن حيث الجزاء‪ ،‬فهو في الجريمة المدنية مجرد التعويض‪ ،‬ويستفيد منه الشخص المضار‪ ،‬بينما الجزاء في الجريمة‬
‫الجنائية هو العقوبة أو تدابير األمن التي ال توقع لصالح المجني عليه‪ ،‬وال يستفيد منها إطالقا بصفة شخصية‪ ،‬وإنما‬
‫توقع باسم ولصالح المجتمع‪ ،‬ولكن ال يجب الخلط في ذلك مع الدعوى المدنية التي تقام بالتبعية للدعوى العمومية‪.‬‬
‫والجريمة الجنائية وإن كانت مستقلة تماما عن الجريمة المدنية‪ ،‬غير أن ذلك ال يمنع من القول بأن‬
‫الفعل الواحد قد يشكل الجريمتين معا في الكثير من األحيان‪ ،‬وهو ما يبرره وجود الدعوى المدنية التبعية المالزمة في‬
‫غالب األحيان للدعوى العمومية‪ ،‬على نحو ما هو مبين في قانون اإلجراءات الجزائية‪ .‬غير أن المسألة السابقة طرحت‬
‫خالفا فقهيا حادا من زاوية أخرى‪ ،‬وهي المتعلقة بوحدة الخطأين المدني والجزائي‪،‬‬
‫أو بازدواجيته‪ ،‬وهو ما نرى تفصيله عند دراسة الركن المعنوي للجريمة في صورة الخطأ‪.‬‬

‫]‪[39‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫التحليل القانوني للجريمة‬
‫التحليل القانوني للجريمة في حقيقة األمر يتطلب تبيان أركانها وعناصرها‪ ،‬وكذا تبيان مختلف‬
‫تقسيماتها‪ ،‬خاصة وانه من خالل تناول ماهية الجريمة تبين لنا أنها تتحلل إلى العديد من األركان والعناصر‪ ،‬كما أنها‬
‫تختلف من حيث طبيعته ا وأنواعها‪ ،‬لذا سنحاول وباختصار أن نتناول التحليل القانون للجريمة من خالل مطلب‪ ،‬لنتناول‬
‫في الثاني تقسيمات الجريمة‪ ،‬وهنا نشير فقط بأننا سنتناول التقسيم المستند لنص القانون دون التقسيمات الفقهية المستندة‬
‫لرأي الفقه‪ ،‬كونها تقسيمات وتصنيفات مستندة ألركان الجريمة وال يمكننا استيعابها على حين تناول هذه األركان‬
‫بالدراسة‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫البنيان القانوني الجريمة‬
‫ينتقد بعض الفقه فكرة تجزئة الجريمة إلى أركان‪ ،‬حيث يرى أن الجريمة وحدة واحدة إما أن تقع كاملة أو ال‬
‫تقع بالمرة‪ ،‬فهي ليست كال مكون من أجزاء أو أركان منفصلة عن بعضها البعض ومستقل كل منها عن اآلخر‪ ،‬كما أن‬
‫الخالف في مرات أخرى انصب على حقيقة وجود الركن الشرعي أو الركن القانوني‪ ،‬حيث يرى جانب من الفقه أن‬
‫القول بوجود الركن الشرعي للجريمة يتعارض والمنطق القانوني السليم‪ ،‬حيث النص الجنائي هو الذي أوجد الجريمة أو‬
‫خلقها‪ ،‬وا لخالق ال يمكن أن يكون جزءا مما خلق‪ ،‬فالنص سبب والجريمة مسبب عنه‪ .‬غير أن الجريمة واقعة قانونية‬
‫حرص الفقه الجنائي منذ القدم على اعتبارها واقعة مركبة ومعقدة يجب تحليل عناصرها ودراسة كل عنصر على حدا‪،‬‬
‫وبالرغم من الخالف الحاد الذي دار حول عدد هذه العناصر‪ ،‬إال أن الفقه استقر في نهاية المطاف على تصور ثالثي‬
‫ألركان الجريمة‪ ،‬وهي األركان التي ال يمكن للجريمة أيا كان نوعها أن تقوم بدونها‪ ،‬بحيث تخلف ركن منها أو أكثر‬
‫يؤدي إلى عدم قيام الجريمة أصال‪ .‬غير أن إجماع الفقه حول عدد أركان الجريمة‪ ،‬لم يمنع خالفهم حول طبيعة هذه‬
‫األ ركان‪ ،‬فمنهم من صنفها إلى أركان جوهرية يتوقف قيام الجريمة على توفرها‪ ،‬وأخرى ثانوية ال تؤثر في قيام‬
‫الجريمة‪ ،‬بل في تحديد نوع العقاب أو درجته‪ ،‬ومنهم من صنفها إلى أركان عامة وأخرى خاصة‪ ،‬العامة وهي التي‬
‫تشترك فيها كافة الجرائم أيا كان نوعها وطبيعتها‪ ،‬والخاصة وهي تلك األركان التي يتطلبها المشرع بصدد كل جريمة‬
‫على حدا‪ .‬غير أن الواقع العملي والقانوني كشف بأن البناء القانوني ألي جريمة ال يكتمل إال بتوافر سائر أركانها‪ ،‬سواء‬
‫كانت عامة أو خاصة‪ ،‬أو حتى كانت أركانا مفترضة‪ ،‬األمر الذي يقتضي منا تناول هذا الخالف باختصار في الفروع‬
‫التالية‪ .‬حيث نخصص األول لفكرة البنيان القانوني للجريمة‪ ،‬لنميز في الثاني بين أركانها‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫التطور التاريخي للتناول الفقهي لمضمون البنيان القانوني للجريمة‬
‫تقوم الجريمة على أركان وشروط يلزم توفرها جميعا حتى يكتمل البنيان القانوني للجريمة‪ ،‬ورغم ذلك‬
‫قد يتطلب األمر بعض الظروف التي يترتب عليها تغيير في قدر العقاب المستحق‪ ،‬سواء كان نحو التخفيف أو نحو‬
‫التشديد‪ ،‬لذا فمسألة دراسة البنيان القانوني للجريمة يتطلب دراسة‪ ،‬يتطلب دراسة التناول الفقهي لمسألة البنيان القانوني‬
‫للجريمة ‪ .‬حيث أن مصطلحات مثل أركان أو عناصر الجريمة ال يرجع إلى زمن بعيد‪ ،‬حيث كان الفقه خاصة الفرنسي‬
‫منه في ظل النظام الجنائي القديم ما قبل التقنين يسعى إلى استظهار القواعد الجنائية غير المكتوبة دون االهتمام بصياغة‬
‫النظريات والمبادئ‪ ،‬كما لم يظهر أيضا تعبير أركان أو عناصر الجريمة في أعقاب الثورة الفرنسية‪ ،‬حيث وقفت‬
‫المؤلفات الفقهية بعدها عند حد إلقاء الضوء فقط على بعض المبادئ األساسية في قانون العقوبات‪ ،‬غير أن ذلك لم يمنع‬

‫]‪[40‬‬
‫من بداية إشارتهم لبعض األفكار التي بدأت فيما بعد تشكل عناصر للجريمة مثل فكرة الفعل ( السلوك المشكل للركن‬
‫المادي ) وفكر ة العمد ( الركن المعنوي فيما بعد)‪ ،‬وأنه باجتماع الفعل مع العمد تقوم الجريمة‪ .‬غير أنه مرحلة التقنين‬
‫التي شهدتها فرنسا وإن كان فيها قد ركز المشرع الفرنسي بدوره على الفكرتين السابقتين‪ ،‬فكرة الفعل وفكرة العمد‪،‬‬
‫خاصة في تقنين ‪ 1791‬الذي عرف التقسيم الثالثي للجرائم‪ ،‬وفي مطلع القرن التاسع عشر استخدم المستشار باريس‬
‫‪ BARRIS‬رئيس الغرفة الجنائية بمحكمة النقض الفرنسية ‪ -‬الفترة من ‪ 1806‬إلى ‪ -1824‬في تعليماته‪ ،‬عبارات عناصر‬
‫الجريمة‪ ،‬حيث جاء في إحداها ‪ ":‬كل جريمة تتكون من عنصرين ‪ :‬فعل يتمثل في الماديات‪ ،‬وعمد يقود إلى هذا الفعل‬
‫ويحدد الجانب المعنوي فيه " وكان ذلك إيذانا لبداية استعمال العنصر المادي والعنصر المعنوي‪ .‬ثم جاءت مرحلة‬
‫أخرى بدأت مسألة التطور التاريخي لبنيان الجريمة يأخذ أبعادا جديدة‪ ،‬حيث استخدم في هذه المرحلة فقيهين هما "‬
‫شوفو وهيلي " تعبير عناصر الجريمة في إطار التحليل القانوني لمقومات الجريمة‪ ،‬سيما في مجال قانون العقوبات‬
‫الخاص‪ ،‬غير أنهم استعملوا عبارات مترادفة تدل على نفس المعنى وهذه المترادفات هي ‪ " :‬العنصر "‪ " ،‬الشرط"‪" ،‬‬
‫الواقعة"‪ ،‬لكن لم يساهم ذلك كثيرا في وضع نظرية عامة لعناصر الجريمة كفكرة عامة‪ ،‬بل أعمالهم تركزت على القسم‬
‫الخاص في كل جريمة على حدا‪ ،‬ولزم األمر لكي تتأصل األركان العامة للجريمة أن يمر الفكر الفقهي الجنائي‬
‫بمرحلتين‪ :‬مرحلة التوجه نحو البحث في المسائل النظرية المكونة للجريمة كنظرية عامة في القانون الجنائي‪ ،‬متبعين‬
‫في ذلك أسلوب التحليل والتأصيل ومبتعدين عن أسلوب الشرح والتفسير‪ ،‬واستعمل سنة ‪ 1851‬الفقيه فيكتور مولينييه‬
‫عبارات المستشار باريس من جديد مقررا ‪ ":‬إن كل واقعة مجرمة ومعاقب عليها قانونا تتألف من عنصرين‪ :‬عنصر‬
‫مادي يتمثل في األعمال الخارجية‪ ،‬وعنصر معنوي مرجعه الفاعل ويعد أساسا ألدانته‪ ،‬غير أن هذا الفقيه لم يعالج‬
‫الركن المعنوي في إطار عناصر الجريمة بل من حيث األشخاص‪ ،‬وبذلك كان أول من قسم النظرية العامة للقانون‬
‫الجنائي إلى قسمين قسم الجريمة وقسم المجرم‪.‬‬
‫أ ما المرحلة الثانية‪ ،‬فيها تم ضم العناصر المادية مع العناصر المعنوية إلى بعضها البعض لتتشكل‬
‫العناصر العامة للبنيان القانوني للجريمة من طرف الفقيه الفرنسي ‪ TREBUTIEN‬الذي استعمل عبارة العناصر‬
‫التكوينية ‪ ELEMENTS CONSTITUTIFS‬للجريمة في بابين واستعمل في الباب الثالث الواقعة المادية كعنصر أول‬
‫للجريمة‪ ،‬وفي الباب الرابع اإلرادة اآلثمة كعنصر ثاني للجريمة‪ ،‬لكن رغم ذلك ترددت كتابات الفقهاء بين استعمال‬
‫الركن المادي للجريمة للتعبير عن الجريمة أما العنصر المعنوي كتعبير عن المجرم‪ ،‬غير أنه مع الفقهي إدموند فيلي‬
‫عاد وحصر كل الجوانب المادية والمعنوية تحت عنوان واحد وهو " الجريمة" ‪ ،‬وهو ما اتبعه جارو وبعض الفقه‬
‫الفرنس ي فيما بعد‪ ،‬وإن كان جارو قد أضاف بعض العناصر األخرى للجريمة‪ ،‬وبالتالي يمكن القول بأن البنيان القانوني‬
‫مر في تكوينه بين النظرية أو النهج التقليدي الذي يقسم عناصر الجريمة إلى العناصر التكوينية المادية والمعنوية‪ ،‬ونهج‬
‫وضعي ودون أن يهمل تماما النهج التقليدي من حيث العناصر‪ ،‬غير أنه قسم الموضوعات الهامة لقانون العقوبات إلى‬
‫الجريمة والمجرم‪ .‬في حين أن أهم تطور عرفه البنيان القانوني للجريمة‪ ،‬هو أنها تقوم على أركان وعناصر وشروط‪،‬‬
‫من هذه األركان ما هو عام وما هو خاص‪ ،‬باإلضافة إلى بعض العناصر والشروط األخرى‪ ،‬التي نتناولها في الفرعين‬
‫التاليين‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫األركان العامة واألركان الخاصة للجريمة‬
‫يرى غالبية الفقه أن الجريمة تقوم على جملة من األركان‪ ،‬منها العامة ومنها الخاصة‪ ،‬أو الجوهرية والثانوية‪.‬‬
‫األركان العامة تعد الهيكل المشترك لكل الجرائم‪ ،‬في حين األركان الخاصة هي تلك التي تميز كل جريمة عما عداها‬
‫من جرائم أخرى‪ ،‬أو بمعنى آخر هي ذات األركان العامة منظور إليها بخصوص جريمة معينة‪ ،‬أو هي العناصر‬
‫الخاصة التي تدخل في تكوين األركان العامة‪ ،‬ويرى بعض الفقه أنه لتقريب الصورة يمكن القول أن األركان العامة هي‬
‫لقب الشخص أو إسم العائلة و األركان الخاصة هي االسم الذي يميز كل فرد عن باقي أفراد العائلة‪ ،‬ويرى بعض الفقه‬
‫تسمية األركان العامة واألركان الخاصة‪ ،‬باألركان الجوهرية واألركان الثانوية‪ ،‬األولى وهي ترتبط الجريمة‬
‫بوجودها وأن تخلفها يمنع من قيام الجريمة‪ ،‬في حين الثانوية تخلفها ال يمنع من قيام الجريمة‪ ،‬وإنما أثرها يقتصر على‬
‫تحديد نوع العقاب أو درجته‪ ،‬وهو ما ينكره البعض‪ ،‬حيث يرى أن الركن ال يقبل التقسيم إلى أساسي وثانوي‪ ،‬بل هو‬

‫]‪[41‬‬
‫جوهري في كل أحواله وإال ما كان ليكون ركنا‪ ،‬لذا فمصطلح الركن ال ينصرف إلى لألركان التي تقوم عليها الجريمة‪،‬‬
‫وما يطلق علي ه األركان الثانوية ما هو في حقيقته سوى ظروف لتشديد أو تخفيف العقوبات‪ ،‬وهو موقف الفقه التقليدي‪.‬‬
‫لكن أيا كان الخالف الفقهي‪ ،‬من مجموع األركان العامة والخاصة تكتسب الجريمة اسمهما وتميزها عن غيرها‪ ،‬ومحور‬
‫االهتمام في النظرية العامة هو األركان العامة‪ ،‬في حين تلقى األركان الخاصة اهتمام الفقه الجنائي عند دراسة القسم‬
‫الخاص لقانون العقوبات‪.‬‬
‫غير أن اإلشكال الفقهي ينصب حول عدد هذه األركان‪ ،‬ففي حين يرى الفقه التقليدي أن الجريمة تقوم على‬
‫ركنين‪ ،‬الركن المادي الركن المعنوي‪ ،‬إذ ال بد لكل جريمة سلوك معين يشكل الركن المادي وارتباط ذلك بالخطأ في‬
‫مفهومه الواسع بإرادة الجاني‪ ،‬ليكون للجريمة وجه موضوعي يتمثل في الركن المادي ووجه شخصي يتمثل في الركن‬
‫المعنوي لها‪ .‬فإن غالبية الفقه ترى بأنه للجريمة ثالثة أركان عامة‪ ،‬حيث يضيفون للركنين السابقين الركن الشرعي أو‬
‫الركن القانوني‪ ،‬بالرغم مما أثاره هذا الركن من خالف‪ ،‬سنبينه عند دراسة الركن الشرعي للجريمة‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫الشروط أو األركان المفترضة للجريمة‬
‫منذ زمن حاول الفقه أن يبين أنه هناك داخل البنيان القانوني للجريمة مقومات غير تلك المتألفة منها أركانها‪،‬‬
‫وقيل أنه بمقارنة األركان الخاصة للجريمة باألركان العامة نجد بعض المقومات التي يتعذر ردها لألركان العامة‬
‫للجريمة وهي في الغالب مقومات مقررة في قوانين غير جنائية‪ ،‬ويلزم توافرها زمنيا ومنطقيا قبل ارتكاب الفعل‪ ،‬وأن‬
‫تخلفها يؤدي حتما لعدم اكتمال البنيان القانوني للجريمة وعدم تطابق الفعل مع النموذج التشريعي المنصوص عليه في‬
‫القاعدة الجنائية‪ ،‬مثل ملكية الغير للمال في جريمة السرقة‪ ،‬وقيام إحدى العقود المدنية المشترطة في جريمة خيانة‬
‫األمانة‪ ،‬وصفة الموظف في جريمة الرشوة واالختالس وصفة المواطن في الخيانة‪ ،‬وصفة األجنبي في‬
‫التجسس]‪....[6‬وهي كلها مقومات يفترض توفرها مسبقا وهي ما كانت سببا في ظهور فكرة " االفتراض" ‪ ،‬وسميت "‬
‫العناصر المفترضة" أو " الجانب المفترض في الجريمة " "األركان المفترضة" أو " الشروط المفترضة في الجريمة"‪،‬‬
‫وهي تلك التي عرفت بأنها‪ ":‬مجموعة المراكز القانونية والواقعية التي تسبق في وجودها قيام الجريمة "]‪ ،[7‬كما‬
‫عرفت بأنها‪ :‬مراكز قانونية تحميها القاعدة الجنائية‪ ،‬وأن الركن هو اعتداء على هذا المركز وبذلك الشرط في حد ذاته‬
‫ال يمثل أي عدوان بل بالركن يتحقق العدوان‪ ،‬كونه سابق في وجوده عن تحقق أركان الجريمة األخرى وهو في األصل‬
‫أجنبي عن سلوك الجاني‪ ،‬غير أن المكان األصيل لدراسة األركان الخاصة واألركان المفترضة هو القسم الخاص‬
‫لقانون العقوبات‪ ،‬حيث كل نص تجريمي يبين ما يشترطه من هذه األنواع من األركان‪ ،‬والتي تختلف بالضرورة من‬
‫جريمة ألخرى‪ ،‬وإن تشابهت فذلك بفعل الصفة‪ ،‬غير أن األركان العامة‪ ،‬هي موضوع دراسة القسم العام‪ ،‬كونها أركان‬
‫تجمع بين كافة أنواع الجرائم‪ ،‬أيا كانت طبيعتها ونوعها وتكييفها‪ ،‬وإن كانت هناك بعض االستثناءات فهي أمور شاذة‬
‫تحفظ وال يقاس عليها‪ .‬وهذه األركان الثالثة هي‪ ،‬الركن الشرعي أو القانوني‪ ،‬الركن المادي والركن المعنوي‪.‬‬
‫ونشير بأنه كثيرا ما تدق لدى الفقه مسألة التفرقة بين أركان الجريمة والشروط الموضوعية للعقاب‪،‬‬
‫ومنهم من يلحق هذه الشروط باألركان‪ ،‬باعتبارها داخلة في البنيان القانوني للجريمة ألنه كل شخص يرتكب جريمة‪،‬‬
‫فبالضرورة يستحق العقاب‪ ،‬غير أن البعض يراه أمرا مستقال ومستقبل غير محقق الوقوع منفصل عن السلوك‬
‫اإلجرامي إذ هي شروط الزمة الستحقاق العقاب ال لوجود الجريمة قانونا‪ ،‬وأن الجريمة تتحقق قانونا قبل تحقق هذه‬
‫الشروط‪ .‬كما يخرج من نطاق النظام القانوني للجريمة القيود الواردة على حق النيابة العامة في تحريك الدعوى‬
‫العمومية‪ ،‬كونها قيود إجرائية تقع على النيابة العامة فتقيد حقها في تحريك الدعوى العمومية‪ ،‬وال تمس وقوع الجريمة‬
‫قانونا‪ ،‬وال عالقة لها بالمكونات القانونية أو المادية للجريمة‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫التصنيفات القانونية للجريمة‬
‫أعطى الفقه الجنائي العديد من التقسيمات للجرائم‪ ،‬وصنفها العديد من التصنيفات‪ ،‬بحسب المعيار‬
‫المعتمد من قبل الفقه‪ ،‬الذي ال يخرج في العادة عن محاولة تصنيفها أو تقسيمها بناء على ركن من أركانها‪ ،‬بحيث نجد‬
‫للجريمة العديد من التقسيمات بالنظر إلى ركنها المادي‪ ،‬حيث قسمت على جرائم إيجابية وأخرى سلبية بحسب نوع‬

‫]‪[42‬‬
‫السلوك الذي يأتيه الجاني‪ ،‬وجرائم وقتية وأخرى مستمرة بحسب الوقت الذي يأخذه هذا السلوك‪ ،‬وإلى جرائم مركبة‬
‫وأخرى ذات أفعال متتابعة بحسب الشكل الذي يأخذه السلوك‪ ،‬وإلى جرائم بسيطة وجرائم اعتياد بحسب عدد المرات‬
‫التي يتكرر فيها الفعل‪ ،‬وقسمت الجريمة بحسب ركنه المعنوي إلى جرائم عمدية وجرائم غير عمدية‪ ،‬أو جرائم قصد‬
‫وجرائم خطا‪ ،‬وأخرى متعدية القصد‪ ..‬غير أنها تقسيمات وتصنيفات تستند باألساس إلى أركان الجريمة التي لم نتطرق‬
‫بعد لدراستها‪ ،‬األمر الذي يصعب من فهم واستيعاب هذه التقسيمات‪ ،‬فإننا نرجئ الحديث عنها إلى غاية التفرغ من‬
‫دراسة كامل أركان الجريمة‪ ،‬ون كتفي في هذا المقام بدراسة التقسيم المستند لنص القانون‪ ،‬والمسمى بالتقسيم القانوني‬
‫الذي تبنته غالبية التشريعات‪ ،‬حيث عمدت على تقسيم الجريمة ثالثة أنواع‪ ،‬لذا سمي أيضا بالتقسيم الثالثي‪ .‬كما‬
‫سنحاول اإلشارة إلى تقسيم موضوعي آخر ( وهو قانوني أيضا) يتمثل في التمييز بين الجريمة العادية والجريمة‬
‫السياسية‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫التقسيم القانوني ( الثالثي ) للجريمة‬
‫و هو تقسيم يرتبط ارتباطا وثيقا بنص القانون‪ ،‬أين اعتمدت غالبية التشريعات على تقسيم الجرائم تقسيما‬
‫ثالثيا‪ ،‬إلى جنايات‪ ،‬جنح ومخالفات‪ ،‬ومعيار التقسيم يستند على معيار جسامة الجريمة وخطورتها‪ ،‬وهي الخطورة الذي‬
‫ستمد بدورها من العقوبة المقررة للجريمة‪ ،‬بالرغم مما أثاره هذا التقسيم من خالف فقهي جعلت بعض التشريعات تشذ‬
‫عن القاعدة‪ ،‬متبنية إما تقسيما ثنائيا أو رباعيا]‪ ،[8‬بالنظر لالنتقادات التي وجهت لهذا المعيار والصعوبات التي أثارها‬
‫تطبيقه‪ .‬لذا سنحاول تناول أساس هذا التقسيم في نقطة‪ ،‬وتبيان آثاره في الثانية‪ ،‬لنحاول أن نتبين االنتقادات التي وجهت‬
‫إليه والصعوبات التي يثيرها في أخرى‪.‬‬
‫أوال‪ :‬أساس التقسيم الثالثي‬
‫سبق القول بأن أساس هذا التقسيم هو نص قانون العقوبات ذاته‪ ،‬غير أنه تقسيم يجد أساسه التاريخي في غير‬
‫أنه تقسيم يجد أساسه تاريخيا في لفظ الجناية ‪ Crime‬جاء من الالتينية من مصطلح ‪ Cernere‬المأخوذة من ‪Crible‬‬
‫التي تعني غربال ومن فعل غربل ‪ ،Cribler‬كما أنه في الرومانية ‪ Crimen‬تعني االتهام العام بالجرائم الخطيرة‪ ،‬لذا‬
‫يجب غربلة ومراجعة كل أوجه االتهام الموجهة ضد المتهم‪ ،‬وكلمة جنحة ‪ Délit‬جاءت من المصطلح الالتيني‬
‫‪ Délinquere‬وبالفرنسية ‪ Délinquance‬التي تعني ترك أو جنح عن الطريق السوي‪ ،‬وفي القانون الفرنسي القديم‬
‫كان التمييز قائما بين المجرمين الخطرين المحترفين‪ ،‬مثل قطاع الطرق‪ ،‬وبين المجرمين األقل خطرا‪ ،‬والمجرمين الذي‬
‫يخالفون أوامر وتعليمات الشرطة المحلية‪ ،‬مما حذا بالتشريع الفرنسي القديم‪ ،‬إلى تبني التقسيم الثالثي للجرائم‪ ،‬في‬
‫محاولة منه إلخضاع ثالثة أنواع من المجرمين لثالثة أنظمة قانونية مختلفة‪ ،‬المجرمين الذين يرتكبون جرائم خطيرة‬
‫تدعو بما ال يدع مجال للشك في عدم توبتهم‪ ،‬والمجرمين األقل خطورة القابلين لإلصالح وهنا ظهر مصطلح‬
‫‪ Correction‬أو‪ ،correctionnelle‬ومن بعدهم المجرمين األقل شأنا‪ ،‬وهو التقسيم الذي تبعته الكثير من التشريعات‬
‫الوضعية المعاصرة‪ .‬ومن بينها المشرع الجزائري الذي تبناه في نص المادة ‪ 27‬من تقنين العقوبات‪ ،‬واستمد معيار‬
‫العقوبة من نص المادة ‪ 5‬من ذات القانون‪ ،‬وهو أمر ننتقده بشدة من الناحية المنهجية حيث نصت المادة ‪ 27‬من قانون‬
‫العقوبات الجزائري على أنه‪ ":‬تقسم الجرائم تبعا لخطورتها إلى جنايات وجنح ومخالفات‪ ،‬وتطبق عليها العقوبات‬
‫المقررة للجنايات أو الجنح أو المخالفات‪ .[9]".‬وتجسيد معيار الخطورة يرجع في استعمال النص عبارة " تبعا‬
‫لخطورتها"‪ ،‬وفي الوقت الذي كان يفترض أن نجد ما يدل ويبين هذه الخطورة في المواد الالحقة‪ ،‬غير أن المشرع‬
‫فرض علينا الرجوع والعودة إلى نص المادة ‪ 5‬في المبادئ العامة واألحكام التمهيدية‪ ،‬عند النص على العقوبات المطبقة‬
‫على األشخاص الطبيعية]‪ .[10‬وعلى ذلك يمكن القول أن الجرائم هي ‪ :‬الجنايات والجنح والمخالفات‪ ،‬ومسألة تمييز‬
‫أنها وحدها التي خصص لها ثالث أنواع من العقوبات األصلية دون غيرها من‬ ‫الجنايات عن باقي الجرائم‬
‫الجنح والمخالفات التي تتميز بنوعين فقط من العقوبات األصلية‪ ،‬كما أن الجنايات تتميز بعقوبة اإلعدام والسجن المؤبد‬
‫دون باقي األنواع األخرى‪ ،‬كما أن تقييد الحرية فيها وحدها يسمى سجنا بينما يسمى حبسا في الجنح والمخالفات‪،‬‬
‫الغرامة قبل تعديل سنة ‪ 2006‬كانت تميز الجنح والمخالفات دون الجنايات‪ ،‬إال أن المشرع الجزائري أضاف بموجب‬
‫هذا التعديل المادة ‪ 5‬مكرر التي أجازت القضاء بالغرامة في السجن المؤقت‪ ،‬وبمفهوم المخالفة ال يجوز القضاء‬

‫]‪[43‬‬
‫بالغرامة في حالة الحكم باإلعدام أو المؤبد‪ ،‬بل في حالة السجن من ‪ 5‬سنوات إلى عشرين سنة سجن‪.‬بينما التمييز بين‬
‫الجنح والمخالفات‪ ،‬صعب مقارنة بتمييز الجنايات عن الجنح والمخالفات التي تعد مسألة سهلة نسبيا‪ ،‬غير أن اتحاد‬
‫الجنح والمخالفات في نوع وجنس العقوبات األصلية‪ ،‬يجعل مسألة التمييز أعقد نوعا ما‪ ،‬حيث كالهما يتضمنان الحبس‬
‫والغرامة‪ ،‬وهنا معيار مدة الحبس وقيمة الغرامة هو الفاصل ومعيار التحديد‪ ،‬حيث الحد األقصى لعقوبة الحبس في‬
‫المخالفات شهران‪ ،‬في حين في الجنح خمس سنوات‪ ،‬والحد األقصى للغرامة في المخالفات هو ‪ 20‬ألف دج‪،‬‬
‫ثانيا ‪ :‬االنتقادات الموجهة للتقسيم القانوني ( الثالثي)‬
‫بالرغم من بساطة ووضح التقسيم القانوني الذي يتبنى تقسيم الجرائم على جنايات وجنح ومخالفات‪ ،‬إال‬
‫أنه لم يسلم من النقد‪ ،‬من حيث أنه قسيم غير منطقي وسطحي‪ ،‬ويفتقر إللى أساس علمي‪ ،‬وهي أهم االنتقادات التي‬
‫وجهت له‪ .‬فقيل أنه تقسيم غير منطقي‪ ،‬كونه يرتب تحديد نوع الجريمة بناء على العقوبة المقررة لها‪ ،‬في حين أن‬
‫الم نطق يقتضي أن ترتب العقوبة على نوع الجريمة وجسامتها‪ .‬غير أنه تم الرد على هذا االنتقاد‪ ،‬أنه غير سليم‪ ،‬حيث‬
‫أن المشرع قبل وضعه العقوبات‪ ،‬استعرض أوال األفعال وقدر جسامتها‪ ،‬ومن ثم وضع العقوبات التي تناسب جسامة‬
‫الجريمة‪ ،‬حيث أنه من غير الصحيح تصور المشرع أنه وضع العقوبات أوال ثم رتب عليها أنواع الجرائم‪ .‬كما قيل انه‬
‫تقسيم يفتقر ألساس علمي‪ ،‬كونه تقسيم يستند إلى األثر المترتب عن الجريمة دون أن يأخذ في االعتبار طبيعة‬
‫الجريمة‪ ،‬وال أي أساس علمي في ذلك‪ .‬وهو االنتقاد الذي مع التسليم بصحته‪ ،‬إال أن بساطة المعيار والسهولة العملية‬
‫في تطبيقه تستدعي التغاضي عن هذا النقد‪ .‬وقيل أيضا أنه تقسيم سطحي‪ ،‬حيث يرى البعض‪ ،‬أن التقسيم القانوني أو‬
‫الثالثي للجريمة‪ ،‬تقسيم سطحي‪ ،‬كونه يفرق بين الجنايات والجنح‪ ،‬في حين أن الجنايات وأغلب الجنح يتفقان في القصد‬
‫الجنائي‪ ،‬كما قد تصبح الجنح في حال توفر بعض الظروف المشددة جنايات‪ ،‬والجنايات تصبح جنحا إذا كانت هناك‬
‫ظروف مخففة‪ ،‬زيادة عما تخلقه التسمية من صعوبات كبيرة في التطبيق‪ ،‬لذا فهو تقسيم سطحي‪ .‬وهو النقد الذي نرى‬
‫وجهاته إلى حد بعيد‪ ،‬لكن ليس فقط في حاالت توفر ظروف التشديد‬
‫أو التخفيف‪ ،‬بل أيضا في العديد من األوضاع القانونية في قانون العقوبات‪ ،‬وحتى في قانون اإلجراءات الجزائية‪ ،‬حيث‬
‫نادرا ما يفرق المشرع الجزائري تفرقة لها وزنها ما بين الجنايات والجنح‪ ،‬باإلضافة إلى الصعوبات التي يثيرها تطبيق‬
‫عقوبات غير المحددة بنص المادة ‪ ،5‬وهو ما نبينه عند دراسة الصعوبات التي يثيرها التقسيم الثالثي للجرائم‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬النتائج المترتبة على التقسيم القانوني أو الثالثي للجريمة‬
‫ب الرغم من االنتقادات التي وجهت للتقسيم القانوني أو الثالثي للجريمة‪ ،‬إال أنها لم تنل من أهميته‪ ،‬وبقي‬
‫من أهم التقسيمات المعتمدة في غالبية التشريعات العقابية في العالم‪ ،‬ورتب عليه المشرع الجنائي أهمية قانونية بالغة‪،‬‬
‫سواء على الصعيد الموضوعي المتمثل في قواعد قانون العقوبات‪ ،‬أو على الصعيد اإلجرائي المتمثل في قواعد قانون‬
‫اإلجراءات الجزائية‪ ،‬في القانون الجزائري وغيره من القوانين الجنائية المقارنة‪ -‬مع بعض االختالفات بين هذه النظم‬
‫موضوعيا وإجرائيا‪ .-‬وهو ما نبينه في النقطتين التاليتين‪ ،‬حيث نخصص األولى للنتائج القانونية للتقسيم القانوني على‬
‫الصعيد الموضوعي‪ ،‬لنتناول في الثانية نتائجه القانونية على الصعيد اإلجرائي‪.‬‬
‫‪ -1‬النتائج القانونية للتقسيم القانوني على الصعيد الموضوعي‬
‫للتقسيم القانوني للجرائم‪ ،‬أو التقسيم الثالثي نتائج قانونية بالغة على الصعيد الموضوعي‪ ،‬المتمثل في‬
‫أحكم قانون العقوبات الجزائري‪ ،‬حيث هناك العديد من األوضاع القانونية في قانون العقوبات تطبق على نوع من أنواع‬
‫الجرائم دون األنواع األخرى‪ ،‬غير أننا نؤكد مسبقا أن مثل هذه األوضاع غالبا ما تخص الجنايات والجنح معا‪ ،‬دون‬
‫المخالفات‪ ،‬وهو ما يقودنا للعودة إلى وجاهة النقد الثالث الذي وجه للتقسيم الثالثي‪ ،‬من كونه تقسيم سطحي‪ ،‬حيث أنه‬
‫هناك شبه كبير بين الجنايات والجنح‪ .‬األمر الذي يجعلنا بطريقة نظرية نجعل منه تقسيما ثنائيا‪ ،‬حيث تتبع الجنح‬
‫الجنايات دوما وتستثنى المخالفات في هذه األوضاع الموضوعية‪ ،‬وأهمها ما يتعلق بالشروع والمساهمة الجنائية‬
‫وظروف التخفيف والتشديد من عود وأعذار وما إلى غير ذلك‪ ،‬وحتى بالنسبة لبعض الجرائم‪ ،‬وهو ما نبينه في النقاط‬
‫التالية‪.‬‬
‫أ‪ -‬جريمة المحاولة أو الشروع‪:‬‬

‫]‪[44‬‬
‫المشرع الجزائري ومثله الكثير من المشرعين ال يعاقبون على جريمة المحاولة أو الشروع إال‬
‫بخصوص الجنايات والجنح دون المخالفات‪ ،‬بل في القانون الجزائري ال شروع في الجنح إال بنص خاص تطبيقا للمادة‬
‫‪ 31‬من قانون العقوبات الجزائري‪ ،‬وبالتالي كل الجنايات يتصور الشروع فيها تطبيقا للمادة ‪ 30‬من ق ع ج‪ ،‬في حين‬
‫الجنح بموجب نص خاص وفقا للفقرة األولى من المادة ‪ ،31‬في حين ال شروع إطالقا في مجال المخالفات‪ ،‬تطبيقا‬
‫للفقرة الثانية من المادة ‪ 31‬ق ع ج]‪.[11‬‬
‫ب‪ -‬المساهمة الجنائية أو االشتراك‪:‬‬
‫في الفقه وكقاعدة عامة – وإن كانت المسألة قد أثارت نوعا من الجدل الفقهي ستكون لنا عودة له في‬
‫دراسة المساهمة الجنائية‪ -‬ال مساهمة أو اشتراك في المخالفات‪ ،‬على عكس الجنايات والجنح‪ ،‬فهذه األخيرة وحدها مما‬
‫يرتب المشرع على تعدد فاعليها أيا كان صورتهم أثارا قانونية‪ ،‬غير أنه وعلى عكس الفقه‪ ،‬فإن المشرع الجزائري‬
‫فصل في مسألة انه ال اشتراك أو مساهمة في ارتكاب المخالفات‪ ،‬وهو ما بينه نص المادة ‪ 44‬من قانون العقوبات‬
‫الجزائري‪ ،‬التي نصت على معاقبة الشريك في الجناية أو الجنحة دون المخالفات]‪.[12‬‬
‫ج‪ -‬جريمة االتفاق الجنائي ( تكوين جمعية أشرار)‪:‬‬
‫في العادة ما يتخوف المشرع الجنائي سواء في الجزائر أو غيرها من الدول‪ ،‬من ظاهرة التعدد‬
‫الشخصي في ارتكاب الجريمة‪ ،‬أو بعبارة أخرى من ظاهرة اإلجرام الجماعي‪ ،‬وهو األمر الذي جعله يخرج عن‬
‫القواعد العامة ويعاقب على بعض الجرائم التي لم يشرع في تنفيذها بعد‪ ،‬خروجا على القواعد العامة التي تقضي بأال‬
‫جريمة دون فعل مادي‪ ،‬وذلك في الجرائم المسماة االتفاق الجنائي أو تكوين جمعية أشرار‪ ،‬حيث مجرد تأليف االتفاق أو‬
‫الجمعية يعد جريمة معاقب عليها قانونا‪ ،‬بغض النظر عن ارتكابها لجرائم من عدمه‪ ،‬وهي الجريمة التي بينها المشرع‬
‫الجزائري في نصي المادتين ‪ 176‬و ‪ 177‬من قانون العقوبات]‪ ،[13‬اللتان عدلتا سنة ‪ ، 2006‬حيث قبل هذا التعديل‬
‫كان يعاقب على تكوين جمعية األشرار في الجنايات فقط في حين بعد التعديل أصبح يعاقب عليها في مجال الجنح أيضا‪،‬‬
‫لكن بشروط‪ ،‬وهو ما يؤكد مرة أخرى وجاهة النقد القائل بالتشابه الكبير بين الجنايات والجنح‪.‬‬
‫د‪ -‬تطبيق النص الجنائي‪:‬‬
‫ت ظهر أهمية التقسيم القانوني للجرائم أيضا في مجال تطبيق النص الجنائي‪ ،‬سيما ما يتعلق بجانب‬
‫المكان‪ ،‬أي تطبيقه من حيث المكان‪ ،‬إذ غالبية المبادئ المساندة لمبدأ اإلقليمية أو التي تعد استثناء عليه‪ ،‬مثل مبدأ‬
‫الشخصية ومبدأ العينية‪ ،‬وحتى مبدأ العالمية‪ ،‬وكذا امتداد النص للتطبيق على السفن والطائرات يتعلق بالجنايات والجنح‬
‫دون المخالفات‪ ،‬وهو ما بينته بالخصوص المواد ‪ ،590 ،583 ،582‬من قانون اإلجراءات الجزائية‪ ،‬وال يفهم من هذه‬
‫النصوص أن المسألة إجرائية ال تتعلق بهذا الموضع من البحث‪ ،‬بل تتعلق بمسألة تطبيق النص الجنائي من حيث المكان‬
‫واألشخاص‪ ،‬وهي مسألة موضوعية بحتة‪.‬‬
‫ه‪ -‬وقف تنفيذ العقوبة‪:‬‬
‫وقف تنفيذ العقوبات من النظم القانونية الممنوحة للقضاة يفيدون بها بعض األشخاص بالرغم من‬
‫إدانتهم‪ ،‬وذلك بجعل العقوبة النفاذة موقوفة النفاذ‪ ،‬وهو نظام يطبق في مجال الجنايات والجنح دون المخالفات‪ ،‬وإن كان‬
‫تضمنته قواعد اإلجراءات الجزائية مثل الماد ‪ 592‬إال أنه مسألة موضوعية تتعلق بشق الجزاء‪.‬‬
‫و‪ -‬الظروف المخففة‪:‬‬
‫الظروف المخففة المتمثلة في سلطة القاضي بالنزول عن الحد المقرر قانونا للجريمة من عقوبات‪ ،‬نظام‬
‫كان يطبق فقط في مجال الجنايات والجنح دون المخالفات‪ ،‬وهو أمر معمول به في غالبية التشريعات العقابية المقارنة‪،‬‬
‫غير أنه بتعديل المادة ‪ 53‬سنة ‪ 2006‬وإدراج العديد من المواد الجديدة أصبح باإلمكان منح الظروف المخففة حتى في‬
‫مجال المخالفات‪ ،‬وهو ما بينته المادة ‪ 53‬مكرر ‪ 6‬من هذا التعديل]‪.[14‬‬
‫ي‪ -‬ظروف التشديد ( ظرف العود)‪:‬‬
‫غالبية التشريعات الجنائية تجعل من ظرف العود‪ ،‬كظرف مشدد للعقوبة‪ ،‬مطبقا فقط في مجال الجنايات‬
‫والجنح‪ ،‬غير أنه في القانون الجزائري – مثلما فعل مع ظروف التخفيف‪ -‬جعل من ظرف العود مطبقا أيضا في مجال‬
‫المخالفات‪ ،‬وهو ما كان مبينا بنص المادة ‪ 58‬من قانون العقوبات التي ألغيت بموجب تعديل سنة ‪ ،2006‬غير أنه ال‬

‫]‪[45‬‬
‫يزال منصوص عليه في المادة ‪ 445‬التي عدلت بدورها سنة ‪ ،[15]2006‬وفي المادة ‪ 465‬من ذات القانون المعدلة‬
‫أيضا بموجب نفس التعديل]‪.[16‬‬
‫ز‪ -‬المصادرة‪:‬‬
‫غ البية الدول تجعل من المصادرة عقوبة ال تطبق إال تكميلية ال تطبق إال في مجال الجنايات والجنح‬
‫دون المخالفات‪ ،‬غير أنه في قانون العقوبات الجزائري‪ ،‬يمكن القضاء بالمصادرة حتى في مواد المخالفات‪ ،‬وذلك وفقا‬
‫للمادة ‪ 15‬مكرر ‪ 1‬فقرة أخيرة من قانون العقوبات الجزائري المعدلة بموجبها سنة ‪.2006‬‬
‫‪ -2‬النتائج القانونية للتقسيم القانوني على الصعيد اإلجرائي‬
‫مثلما تترتب العديد من النتائج القانونية على الصعيد الموضوعي عن التقسيم القانوني‪ ،‬فإن ذات التقسيم يرتب‬
‫العديد من النتائج القانونية على الصعيد اإلجرائي‪ ،‬وهي نتائج أكثر أهمية وأثرا‪ ،‬خاصة وأنها تتعلق بمسائل تخص‬
‫االختصاص وسير الدعوى وكيفية البحث والتحري والتحقيق فيها‪ ،‬وبخصوص األحكام ذاتها وطرق الطعن فيها‪...‬‬
‫وهي مسائل يمكن القول أنه يتعذر على اإللمام بها في دراسة الشق الموضوعي‪.‬‬
‫أ‪ -‬االختصاص النوعي‪:‬‬
‫بحسب التقسيم الثالثي يتوزع االختصاص النوعي‪ ،‬حيث تنظر الجنايات أمام محكمة الجنايات المنعقدة‬
‫بمقر المجلس في دورات محددة قانونا‪ ،‬في حين تنظر الجنح والمخالفات من قبل األقسام الجزائية بالمحاكم‪.‬‬
‫ب‪ -‬التحقيق والبحث والتحري‬
‫في العادة ما تولي جهات الضبطية القضائية المختصة بالبحث والتحري في الجرائم نشاطاتها على‬
‫الجنايات وعلى الجنح بصفة أقل‪ ،‬ونادرا بخصوص المخالفات‪ ،‬كما أن التحقيق الذي يجريه قاضي التحقيق وجوبي في‬
‫الجنايات‪ ،‬واستثنائي في الجنح حيث ال يحقق فيها قاضي التحقيق إال بطلب النيابة العامة‪ ،‬ونادرا ما يكون هناك تحقيق‬
‫في المخالفات‪.‬‬
‫ج‪ -‬تقادم الدعوى العمومية‪:‬‬
‫تنقضي الدعوى العمومية في مواد الجنايات بمرور ‪ 10‬سنوات‪ ،‬وفي مواد الجنح بمرور ثالث سنوات‪،‬‬
‫وفي مواد المخالفات بمرور سنتين ( المواد ‪ 10 ،9 ،8‬من قانون اإلجراءات الجزائية الجزائري)‪.‬‬
‫د‪ -‬تقادم العقوبة‪:‬‬
‫تتقادم العقوبة المحكوم بها في مواد الجنايات بمرور ‪ 20‬سنة‪ ،‬وفي الجنح بمرور ‪ 5‬سنوات وفي مواد‬
‫المخالفات بمرور سنتين ( المواد ‪ 615 ،614 ،613‬قانون اإلجراءات الجزائية الجزائري)‪.‬‬
‫ه ذا ونشير بأنه هناك العديد من االختالفات اإلجرائية المتبعة بخصوص األنواع الثالثة السابقة من‬
‫أنواع الجرائم‪ ،‬والتي ارتأينا أن ال نتناولها تفصيال‪ ،‬حيث أن تناولها يقتضي شرحها‪ ،‬وأن هذا الشرح يقود على دراسة‬
‫مادة قانون اإلجراءات الجزائية على حساب مادة القانون الجنائي العام‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬الصعوبات التي تعترض التقسيم الثالثي‬
‫يثير التقسيم الثالثي للجرائم بعض الصعوبات أثناء التطبيق‪ ،‬خاصة في الحاالت التي يقضي فيها‬
‫القاضي بعقوبة ير التي قضى بها المشرع‪ ،‬ممارسة في ذلك سلطته التقديرية كالتشديد في حالة العود‪،‬‬
‫و التخفيف في حالة إفادة المحكوم عليه بظروف التخفيف‪ ،‬أو في الحاالت التي يقضي فيها المشرع بعقوبة تطبيق أصال‬
‫على نوع آخر من الجرائم‪ ،‬ففي مثل هذه الحاالت يطرح إشكال يتعلق بمدى تغير الوصف القانوني للجريمة تبعا لتغير‬
‫العقوبة المقضي بها قضاء أو شرعا‪ ،‬وإن كانت اإلجابة عن السؤال السابق قد أثارت العديد من الجدل الفقهي في الدول‬
‫األخرى‪ ،‬إال أن المشرع فصل في المسألة بموجب نصي المادتين ‪ 28‬و ‪ 29‬من تقنين العقوبات الجزائري‪.‬‬
‫حيث قضت المادة ‪ ":28‬ال يتغير نوع الجريمة إذا أصدر القاضي فيها حكما يطبق أصال على نوع آخر منها‬
‫نتيجة لظرف مخفف للعقوبة أو نتيجة لحالة العود التي يكون عليها المحكوم عليه‪ ،".‬حيث أن القاضي وهو يمارس‬
‫سلطته التقديرية في تطبيق العقوبات‪ ،‬وقضى بعقوبة أشد في حال توفر ظروف التشديد مثل حالة العود مثال‪ ،‬أو قضى‬
‫بعقوبة أخف كتوفر ظروف التخفيف‪ ،‬فإن وصف الجريمة المقرر بالنص ال يتغير]‪ .[17‬أما ووفقا للمادة ‪ 29‬التي‬

‫]‪[46‬‬
‫نصت على أنه‪ ":‬يتغير نوع الجريمة إذا نص القانون على عقوبة تطبق أصال على نوع آخر أشد منها نتيجة لظروف‬
‫مشددة‪ ،".‬فإن تدخل المشرع بالتشديد أو التخفيف يترتب عليه تغير في وصف الجريمة]‪.[18‬‬

‫الفرع الثاني‬
‫الجريمة العادية والجريمة السياسية‬
‫(تقسيم الجرائم على عادية وسياسية)‬

‫باإلضافة إلى التقسيم الثالثي للجريمة الذي يعد تقسيما قانونيا‪ ،‬فإن الجريمة وفقا للنصوص القانونية‬
‫أيضا تفرق إلى جرائم سياسية وجرائم عادية أو جرائم القانون العام وهي التفرقة المعروفة حتى لدى الرأي العام غير‬
‫المتخصص قانونا‪ ،‬كونه تفرقة قديمة من جهة‪ ،‬والعتبارها من ضرورات الحياة العامة من جهة ثانية‪ ،‬حيث رجل‬
‫الشارع أيا كانت قناعته وتوجهاته‪ ،‬فهو يفرق بين المجرم العادي والمجرم السياسي‪ ،‬سواء كان يشفق عليه ويتعاطف‬
‫معه أو العكس‪ ،‬وسواء كان يتبنى أفكاره أو يعارضها‪ ،‬لذا المشرع وفي كل مكان من العالم‪ ،‬ومنذ القدم يعامل المجرم‬
‫السياسي معام لة خاصة‪ ،‬سواء كانت تميل للرأفة أو للتشديد والقسوة بحسب األحوال السياسية السائدة في البلد‪ ،‬والمختلفة‬
‫من مكان آلخر ومن زمان آلخر‪ ،‬غير أنه من وجهة النظر القانونية البحتة‪ ،‬فإن التفرقة بين الجرائم العادية والجرائم‬
‫السياسية تعترضه صعوبات جمة‪ ،‬النعدام المعيار الواضح الذي بإعماله يمكن التفرقة بين النوعين من أنواع الجرائم‪،‬‬
‫وكذا خضوع الفكرة نفسها للمسائل السياسية المتغيرة بطبيعتها‪ ،‬وما تفرضه المعطيات السياسية في هذا الشأن‪ ،‬وهو‬
‫األمر المعروف على طول مراحل الزمن والتطور البشري‪ ،‬لذا حاول كل من علماء اإلجرام وفقهاء القانون إيجاد‬
‫معايير اختلفت حولها وجهات النظر بالنظر لحساسية الموضوع‪ .‬وإن كانت الجريمة السياسية قد عرفت منذ أن عرف‬
‫اإلنسان السلطة‪ ،‬ال كتعبير سياسي وإنما كقوة ضاغطة‪ ،‬أيا كان شكل هذه السلطة‪ ،‬سلطة الدولة أو رب األسرة أو رئيس‬
‫العشيرة أو القبيلة‪ ،‬ومهما تبدل شكل هذه السلطة عبر العصور واألزمنة‪ ،‬خاصة وان كل فعل أو عدوان كان يمس كيان‬
‫ودعائم السلطة يرد بكل قوة وبطش‪ ،‬ودون رحمة أو رأفة‪ ،‬خاصة عندما تم تأسيس مشروعية السلطة على نظرية الحق‬
‫اإللهي‪ ،‬حيث عد االعتداء على السلطة اعتداء يغضب اآللهة‪ ،‬وردع الشخص تكفير عن ذنبه وإرضاء لهذه اآللهة‪ ،‬لذا‬
‫يجب سحق المعتدي والقضاء عليه‪ .‬لذا الجريمة السياسية قديمة قدم النشاط اإلنساني وتمتد بجذورها إلى جذور سلطة‬
‫الدولة]‪ ، [19‬وكان سبب وجودها التنازع على السلطة بين األفراد حتى قبل ظهور الدولة‪ ،‬لتتطور بعد ذلك وتأخذ العديد‬
‫من الصور واألشكال‪ ،‬تبعا لتطو ر الحضارة اإلنسانية‪ .‬وقد كشفت القوانين المكتشفة في بالد الرافدين ووادي النيل وبالد‬
‫الفرس والهند والصين واليابان‪ ،‬بأن الجريمة السياسية كانت معروفة في هذه العصور‪ ،‬حيث كانت تتمثل في الجرائم‬
‫التي تمثل اعتداء على سلطة الملوك والفراعنة أو تحط من كرامتهم أو تمس ولو من بعيد بألوهيتهم التي فرضوها على‬
‫الناس وزعموا أنهم يستمدون سلطتهم من اآللهة‪ ،‬ومن عصاهم فقد عصى هذه اآللهة‪ ،‬كما عرفت حتى في مجتمع القبيلة‬
‫في شخص رجل القبيلة الممثل لكيانها‪ ،‬وكان معيار التمييز بين الجرائم السياسية والجرائم العادية هو جسامة العقوبات‬
‫المقررة للنوع األول]‪ .[20‬وفي مطلع القرن التاسع عشر انتشرت الحركات التحررية في أوروبا‪ ،‬وأخذت المنظمات‬
‫السياسية تتشكل في كل مكان لقلب األنظمة االستبدادية المتحكمة‪ ،‬وتكررت االنقالبات السياسية في البلد الواحد بصور‬
‫مفاجئة وسرية‪ ،‬وبذلك أخذ الشعور الشعبي يفرق بين المجرم الذي ينقاد لدوافعه الدنيئة وذلك الذي يسعى لتحقيق هدف‬
‫قومي أو سياسي شريف‪ ،‬وهو األمر الذي قد يجعل من مجرم األمس هو حاكم اليوم‪ ،‬والعكس بالعكس‪ ،‬وهنا بدا االتجاه‬
‫نحو معاملة المجرم السياسي معاملة خاصة وأخذ الرأفة في عقابه‪ .‬وزاد االهتمام بالجرائم السياسية وقمع مرتكبيها بعد‬
‫الحرب العالمية األولى‪ ،‬عند ظهور أنظمة الحكم الفاشية والنازية والشيوعية‪ ،‬أين عملت هذه األنظمة بكل ما أوتيت من‬
‫قوة لمحاربة المعارضة السياسية وقمعها‪ ،‬وتم قلب المفاهيم التحررية والحضارية والتطورية واإلنسانية التي خلفها‬
‫القرن الماضي‪ ،‬والتي جعلت من القانون الجنائي ال يتأثر بالسياسة‪ ،‬فتغير األمر وصار هذا القانون مرآة تعكس األفكار‬
‫السياسية واالجتماعية واالقتصادية لألفكار النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا‪ ،‬وتم التشديد في عقوبات الجرائم‬
‫السياسية وإنشاء محاكم خاصة بها وإطالق حرية القاضي في العقاب عليها وتم التوسع في مفهوم هذا النوع من الجرائم‬
‫ومن أمثلة ذلك أن قانون العقوبات السوفييتي أصبح يشمل ‪ 105‬جريمة سياسية مقابل ‪ 43‬جريمة عادية فقط‪ .‬لذا فاألمر‬

‫]‪[47‬‬
‫يتطلب منا أن نتناول مفهوم الجريمة السياسية باختصار في نقطة‪ ،‬لنتناول في الثانية أنواعها‪ ،‬وفي الثالثة أهمية تمييز‬
‫الجريمة السياسية عن الجريمة العادية‪.‬‬
‫أوال‪ :‬مفهوم الجريمة السياسية‬
‫ال قت دراسة فكرة الجريمة السياسية جهودا فقهية معتبرة وضخمة سعيا وراء إيجاد مفهوم قانوني حاسم‬
‫لها‪ ،‬لكنها فشلت في مجملها‪ ،‬وذلك بالنظر لمصطلح " السياسة " التي ال تعني مفهوما ثابتا وال تفصح عن محتوى‬
‫مستقر‪ ،‬حيث يرى بعض الفقه أنها ليست مادة وإنما لون‪ ،‬وال تصلح ألن تكون معيارا أو صفة أو نوعا‪ ،‬وإنما هي‬
‫مفهوم متقلب ومتبدل تتبدل وفقا لتغير وتبدل األوضاع والظروف واألشخاص والمصالح‪ ،‬وال يمكن أن تكون أساسا‬
‫لنظرية معينة‪ ،‬في حين من صفات المفاهيم القانونية الثبات واالستقرار‪ ،‬األمر الذي جعل التشريعات تتورع عن وضع‬
‫تعريف قانوني للجرائم السياسية وتركت األمر للفقه‪ .‬ومع غزو اإلجرام السياسي‪ ،‬يرجع الفضل في استعمال هذا‬
‫المصطلح إلى الوزير والمؤرخ والكاتب الفرنسي ‪ GUIZOT‬في كتابيه " المتآمرون والقضاء السياسي" و" اإلعدام في‬
‫المواد السياسية" المنشورين على التوالي سنتي ‪ 1821‬و‪ .1822‬غير أن وضع تعريف قانوني دقيق للجريمة السياسية‬
‫بقي أمر متعذر نسبيا‪ ،‬لدرجة يرى البعض أنه ليس هناك أمل في وضع تعريف ثابت ومستقر للجريمة السياسية‪ .‬لذا نجد‬
‫الفقه قد حاول وضع معايير تمكن من االستناد عليها في وضع تعريف للجريمة السياسية‪ ،‬غير أن هذه المعايير بدورها‬
‫مثل كل منه حقبة زمنية معينة بما يسودها من ظروف سياسية وما استقر فيها من أوضاع اجتماعية‪ ،‬ولعل أهم المعايير‬
‫كان المعيار الشخصي والمعيار الموضوعي‪ ،‬ومثلما هو األمر في كل مرة هناك من أخذ من كل معيار ووضع معيارا‬
‫ثالثا مختلطا أو مزدوجا ما بين المعيارين السابقين‪.‬‬
‫‪ -1‬المعيار الشخصي‪:‬‬
‫و يعد من أقدم المعايير التي استند عليها في وضع تعريف للجريمة السياسية‪ ،‬الذي يركز على الغاية أو‬
‫الباعث الذي يحرك الفاعل الرتكاب الجريمة‪ ،‬فإذا كان هذا الباعث سياسيا أو كانت الغاية التي يهدف إليها غاية سياسية‪،‬‬
‫عدت الجريمة حينئذ جريمة سياسية‪ ،‬أيا كان الفعل اإلجرامي وأيا كان الحق المعتدى عليه‪ ،‬وما عدا ذلك فهي جريمة‬
‫غير سياسية أو جريمة عادية‪ ،‬وعرف الدافع أنه‪ :‬العلة المباشرة الرتكاب الجرم‬
‫أو الهدف األخير أو القصد النهائي من ارتكاب الجرم]‪ .[21‬وبالتالي‪ ،‬وفقا لهذا االتجاه‪ ،‬المجرم السياسي هو المجرم‬
‫صاحب دوافع نبيلة وأهداف راقية‪ ،‬خالفا للمجرم العادي الذي يندفع للجريمة بدافع أناني وأهداف دنيئة وبربرية‪ ،‬حيث‬
‫أننا نجد المجرم السياسي يندفع لجريمته ألجل تحقيق النفع أو الصالح العام‪ ،‬ولذلك يوصف إجرامه‪ ،‬أنه إجرام تطوري‬
‫وتقدمي يتم بدافع الغيرة واإليثار‪ ،‬وهو بذلك يدفع بعجلة التاريخ إلى األمام‪ ،‬عكس المجرم العادي الذي يوقفها‪ ،‬فالمجرم‬
‫السياسي يهدف إلى تمهيد الطريق لالرتقاء بالذات اإلنسانية ‪ ،‬وهو بذلك يسبق التاريخ‪ ،‬حيث لو ترك األمر لوحده لحدث‬
‫تلقائيا‪ ،‬ألنه لكل نظام سياسي أو اجتماعي مرحلة ال يصلح إال لها‪ .‬لذا يرى البعض بأنه يجب النظر إلى شعور الشعب‬
‫وما إن كان قد حركه دافع المجرم السياسي‪.‬‬
‫غير أن هذا االتجاه لم يسلم من النقد‪ ،‬حيث قيل أن الدافع ذو طبيعة نفسية‪ ،‬لذا فمسألة إثباته مسألة صعبة‪،‬‬
‫وبالتالي فمن األفضل األخذ به كظرف للتشديد آو التخفيف‪ ،‬ال كركن للجريمة‪ .‬وأن األخذ بالدوافع دون المعايير المادية‬
‫ال يوفر حماية فعالة لمصالح المجتمع‪ .‬وأن األخذ بالدافع يجعل كل مجرم يدفع بأن دافعه من الجريمة سياسيا‪ ،‬حتى ولو‬
‫كانت جريمته عادية‪ .‬مما يوسع من نطاق الجرائم السياسية‪ ،‬حيث تشمل جرائم بعيدة كل بعد عن المعنى السياسي سوى‬
‫ألنها ارتكبت لغرض سياسي‪ .‬لذا ظهر المعيار الموضوعي في أعقاب هذه االنتقادات‪.‬‬
‫‪ -2‬المعيار الموضوعي‪:‬‬
‫وهو المعيار الذي ظهر في ظروف كانت قد ظهرت فيها األنظمة االشتراكية‪ ،‬وسادت فيها الحركات‬
‫السياسية والصراعات الطبقية‪ ،‬التي حاولت قلب األنظمة السياسية القائمة‪ ،‬مستغلة في ذلك المعيار السابق المركز على‬
‫الباعث السياسي كباعث نبيل في محاولة للترفق بها إذا فشلت في تحقيق أهدافها‪ ،‬مما ضاعف من حجم بؤرة اإلجرام‬
‫السياسي ‪ ،‬وعمت الفوضى في أوربا وربوع العالم كله أيا كان شكل النظام‪ ،‬وهي الظروف التي مهدت أيضا لقيام‬
‫الحربين العالميتين‪ ،‬لذا بدأت الحكومات تكافح الجريمة السياسية بكل ما أوتيت من قوة‪ ،‬فأخذت الجرائم السياسية مكانتها‬
‫في خريطة قانون العقوبات كأخطر الجرائم‪ ،‬وهجرت التشريعات الجنائية المعيار الشخصي‪ ،‬وبدأت تأخذ بمعيار جديد‬

‫]‪[48‬‬
‫هو المعيار المادي أو الموضوعي‪ ،‬الذي صور في ثالثة أسئلة‪ :‬هل وقع الضرر على الدولة مباشرة؟‪ ،‬هل وقع على‬
‫حقوقها السياسية أو االجتماعية؟‪ ،‬وهل المقصود من عقاب المجرم حماية النظام السياسي أو االجتماعي؟‪ ،‬ووفقا لهذا‬
‫المعنى‪ ،‬تعد جرائم سياسية‪ ،‬كل األعمال التي يقصد منها االعتداء على نظام الدولة أو مؤسساتها العامة‪ ،‬أو تعطيل‬
‫وظيفة السلطة العامة فيها‪ ،‬سواء أصابت مصالحها السياسية أو أصابت حقوق األفراد السياسية‪ ،‬ومن ثم تعد طبيعة‬
‫الحق المعتدى عليه هي التي تحدد معيار التمييز بين الجرائم السياسية والجرائم األخرى العادية‪ .‬وبهذا ضاق نطاق‬
‫الجرائم السياسية إلى حد بعيد‪ ،‬حيث لم تعد الجريمة سياسية لمجرد أن دافع أو باعث مقترفها دافعا سياسيا‪ ،‬بل ألن الحق‬
‫المعتدى عليه حق سياسي يشكل اعتداء على الدولة ذاتها‪ ،‬وأن هدف العقاب يكمن في حماية النظام السياسي أو‬
‫االجتماعي‪ ،‬وهو المعيار الذي أخذ به المشرع الفرنسي فقها وقضاء‪.‬‬
‫و بالتالي تعد جريمة سياسية وفقا للمعيار الموضوعي‪ ،‬كل اعتداء على المؤسسات العامة في الدولة‬
‫والنظم الدستورية واالعت داء على الحقوق السياسية‪ ،‬وأخذ بهذا المعيار الفقيه الفرنسي جارو ‪ Garraud‬الذي عرف‬
‫الجريمة السياسية وفقا لهذا المعيار‪ ،‬بأنها‪ " :‬الجريمة التي تفضي على وجه الحصر إلى تقويض النظام السياسي أو‬
‫تعديله أو اإلخالل به"‪ ،‬حتى ولو كان الحق المعتدى عليه من الحقوق السياسية الفردية كحق االنتخاب وممارسة‬
‫الواجبات العامة كدفع الضرائب واالشتراك في أعمال المجالس المحلية‪ ،‬وكل ما يقع على الحقوق السياسية لألفراد‪.‬‬
‫و يبدو من الوهلة األولى أن المعيار الموضوعي أفضل من المعيار الشخصي‪ ،‬غير أن ذلك لم يمنع من‬
‫أن توجه إليه العديد من ا النتقادات‪ ،‬نذكر منها‪ :‬إهماله للجانب الشخصي للمجرم‪ ،‬وبالتالي مساواته بين مجرم دوافعه‬
‫نبيلة وآخر دوافعه دنيئة‪ ،‬بالرغم مما ينطوي عليه ذلك من إجحاف‪ .‬وبالتالي هي نظرية شديدة الوطأة على الخصوم‬
‫السياسيين ألنها ترمي إلى حماية النظام القائم دون النظر إلى دوافع المجرم السياسي‪ .‬وبالتالي هي نظرية تأخذ مصلحة‬
‫الدولة ونظام الحكم دون الحالة الروحية للمجرم‪ ،‬وهو ما يفسح المجال للحكام لالستبداد والتعسف في استعمال السلطات‬
‫الممنوحة لهم‪ ،‬في سبيل االنتقام والثأر من خصومهم السياسيين‪ .‬وهو معيار ضيق من نطاق الجرائم السياسية حيث‬
‫حصره ا في االعتداءات الحاصلة على النظام السياسي دون االعتداءات الحاصلة على الحقوق المالية واالقتصادية‪.‬‬
‫وأنها نظرية ال تنظر لإلجرام السياسي إال من ناحية ركنها المادي دون ركنها المعنوي‪ ،‬وال تعبأ بنبل الباعث‪ ،‬مما أدى‬
‫إلى نتائج شاذة‪ ،‬حيث أن العميل الذي يبيع وطنه بالخيانة والتجسس يستفيد من المزايا المقررة للمجرم السياسي‪ ،‬فيصبح‬
‫الخائن كالقيادي الثائر‪ ،‬وهنا ظهر معيار مختلط أو مزدوج يجمع بين محاسن كل اتجاه ويتجنب مساوئهما مثلما هو‬
‫األمر دوما‪.‬‬
‫‪ -3‬المعيار المزدوج أو المختلط‪:‬‬
‫أمام االنتقادات التي وجهت لكل من المعيار الشخصي والمعيار الموضوعي‪ ،‬هجرت التشريعات‬
‫المعاصرة مسألة األخذ بمعيار دون اآلخر‪ ،‬حيث لم تأخذ بالمعيار الشخصي فقط المعتني بحماية الحقوق والحريات‬
‫الفردية‪ ،‬وال بالمعيار الموضوعي إلفراطه في حماية المصالح االجتماعية على حساب المصالح والحقوق والحريات‬
‫الفردية‪ ،‬ب ل جمعت مزايا كال المعيارين‪ ،‬وهجرت كل ما يعيبهما‪ ،‬وقامت بذلك بالموازنة بين حماية مصالح المجتمع‬
‫وحماية الحقوق والحريات الفردية‪ .‬حيث يرى البعض في تقديره للمسألة‪ ،‬أن طغيان االتجاه الفردي فوضى‪ ،‬وطغيان‬
‫االتجاه االجتماعي استبداد]‪.[22‬‬
‫غير أنه بعيدا عن المعايير السابقة‪ ،‬عرف المؤتمر الدولي لتوحيد القوانين العقابية المنعقد في كوبنهاجن‬
‫سنة ‪ 1935‬الجرائم السياسية‪ ،‬بأنها كل جريمة ترتكب اعتداء على نظام الدولة السياسي وحقوق المواطنين‬
‫السياسية]‪ .[23‬وهناك من الفقه من يعتبر جرائم سياسية تلك الجرائم الماسة فقط بأمن الدولة الداخلي كالدستور‬
‫والسلطات الثالث في الدولة دون االعتداءات المخلة بأمن الدولة الخارجي التي يسميها في هذه الحالة بالجرائم الوطنية‪.‬‬
‫وعرفها البعض‪ ،‬معبرا عن الفقه اإلنجليزي‪ ،‬أنها الجريمة التي تالزم االضطراب السياسي وتشكل جزءا منه‪ ،‬والبعض‬
‫عرفها ‪ ،‬بأنها الجريمة التي ترتكب وتكون السياسة هي الغرض‬
‫أو الدافع لها– نرى انه تعريف يستند إلى المعيار الشخصي ال المزدوج‪ ،-‬في حين عرفها البعض‪ ،‬أنها‪:‬‬
‫األعمال التي يقصد منها بطرق جنائية تعديل أو تحرير أو هدم أو قلب النظام السياسي وإثارة اضطرابات سياسية أو‬

‫]‪[49‬‬
‫كراهية لنظام الحكم‪ ،‬في حين يرى البعض اآلخر‪ ،‬أن الجريمة السياسية هي تلك األفعال المحرمة التي تصطدم مع‬
‫النظام السياسي للدولة‪ ،‬سواء من جهة الخارج أو من جهة الداخل]‪.[24‬‬
‫والمشرع الجزائري‪ ،‬شأنه شأن سائر التشريعات األخرى لم يرد تعريفا للجرائم السياسية‪ ،‬بل لم‬
‫يشر أصال لهذه التسمية‪ ،‬غير أنه نص على أهمها تحت عنوان " الجنايات والجنح ضد أمن الدولة"‪ ،‬دون أن يخصص‬
‫عقوبات خاصة بها‪ ،‬بل أنه شدد من عقوبتها حيث أن غالبية عقوبات اإلعدام والسجن المؤبد محصورة بهذا الباب مع‬
‫هذا النوع من الجرائم المسماة ضد أمن الدولة‪ ،‬وإن كانت المادة ‪ 69‬من دستور ‪ 96‬قضت بعدم جواز تسليم الجئ‬
‫سياسي يتمتع قانونا بحق اللجوء دون أن تسميه مجرما‪ ،‬وفي قانون اإلجراءات الجزائية وفي نص المادة ‪ 698‬حظ‬
‫تسليم المجرمين في الجنايات والجنح ذات الصبغة السياسية‪ ،‬أو في الحاالت التي يتبين منها أن التسليم مطلوب لغرض‬
‫سياسي‪ ،‬وهو النص الذي بموجبه نتمكن من القول بأن المشرع الجزائري يميز بين المجرم العادي والمجرم السياسي‬
‫في مسألة التسليم فقط‪ .‬وأن معيار الدستور هو معيار شخصي‪ ،‬بينما في قانون اإلجراءات التزم بمسألة طبيعة الجريمة‬
‫من كونها ذات صبغة سياسية وهو ما يجعلنا نرى أن المشرع الجزائري في نص هذه المادة تبنى المعيار الموضوعي‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أنواع الجرائم السياسية‬
‫ا لوضع السياسي واالجتماعي ونظام الحكم في كل دولة هو الذي يحدد أنوع الجرائم السياسية‪ ،‬وذلك‬
‫طبقا لمتطلبات حاجاته في مواجهة هذا النوع من الجرائم‪ ،‬وتبعا للظروف التي يمر بها أيضا‪ ،‬لذا تقسم الجرائم السياسية‬
‫في العادة إلى جرائم سياسية ماسة بأمن الدولة الداخلي وأخرى ماسة بأمن الدولة الخارجي‪ ،‬وهناك من قسمها إلى جرائم‬
‫سياسية خالصة وأخرى نسبية وأخرى مختلطة‪ ،‬فالجريمة السياسية الخالصة‪ ،‬هي تلك الجريمة الماسة بأمن الدولة‬
‫الداخلي‪ ،‬أو تلك الوا قعة على الدستور‪ ،‬وعلى السلطات الثالث في الدولة‪ ،‬وأما الجرائم السياسية النسبية‪ ،‬فهي تلك‬
‫الجرائم التي تقع في آن واحد على مصلحة الدولة ومصالح األفراد‪ ،‬وهي في األصل جرائم عادية ترتبط بالجرائم‬
‫السياسية ارتباطا وثيقا وينتج عن هذا االرتباط إما تعدد جرائم مادي أو حقيقي وإما تعدد جرائم معنوي أو صوري‪ .‬وأما‬
‫الجرائم السياسية المختلطة‪ ،‬فهي جرائم االغتيال السياسي كونها عبارة عن قتل عادي لغاية سياسية‪ ،‬جرائم فوضوية‬
‫بغرض وضع المجتمع في موضوع يحتاج فيه إلى وجود الدولة‪ ،‬وكذا اإلرهاب وتزوير النقد ألغراض سياسية‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬الفائدة القانونية من تحديد الجرائم السياسية‬
‫إ ن الفائدة القانونية أو النتائج القانونية المترتبة عن تقسيم الجرائم إلى سياسية وعادية‪ ،‬يتمثل فقط في‬
‫إبراز موقف اآلراء المنادية بضرورة ووجوب معاملة المجرم السياسي بنظرة مغايرة عن تلك المعروفة والمعمول بها‬
‫في مجال الجرائم العادية‪ ،‬لذا سنركز أكثر على األفكار التي ترى في المجرم السياسي شخص غير سائر المجرمين‬
‫العاديين‪ ،‬وما ترتب عن ذلك من نتائج انعكست على التجريم والعقاب في هذا النوع من الجرائم‪ ،‬المسماة سياسية‪.‬‬
‫و نشأت فكرة التمييز بين الجرائم السياسية الجرائم العادية‪ ،‬في القانون الفرنسي لسنة ‪ 1810‬حيث أظهر‬
‫تخفيفا اتجاه الجريمة السياسية‪ ،‬وقدمت العديد من الدراسات في فرنسا تخص دراسة شخصية المجرم السياسي‪ ،‬حيث‬
‫بينت اختالفات عميقة في شخصية كل من المجرم السياسي والمجرم العادي‪ ،‬ولذلك صدر في فرنسا قانون ‪-04-28‬‬
‫‪ 1832‬إلنشاء نوع خاص من العقوبات للمجرم السياسي‪ ،‬وألغى دستور ‪ 1848‬عقوبة اإلعدام بخصوص الجريمة‬
‫السياسية‪ ،‬وأصبحت عقوبة الجريمة السياسية هي النفي البسيط والنفي إلى قلعة واإلبعاد والتجريد من الحقوق السياسية‪.‬‬
‫‪-1‬فبخصوص شخصية المجرم‪:‬‬
‫يمكن القول أنه ببروز ظاهرة اإلجرام السياسي‪ ،‬وشيوعه في المجتمعات وشرعت الدراسات في تحليله‬
‫والبحث في أسبابه وكيفية معاملته‪ ،‬ظهرت اتجاهات ترى وجوب التفريق بين شخصية المجرم السياسي والمجرم‬
‫العادي‪ ،‬حيث رأى أنصار المدرسة الموضوعية‪ ،‬أن المجرم السياسي غير المجرم العادي‪ ،‬حيث أن األخير تنطوي‬
‫أفعاله على الغش والحيلة والخديعة‪ ،‬ويصدر إجرامه بدوافع دنيئة وأنانية‪ ،‬مستهدفا إيذاء الوجود اإلنساني ومنافيا كل‬
‫القيم اإلنسانية األصلية ويعبر دوما عن ارتداد إلى الحالة البدائية وشريعة الغاب السائدة بها‪ ،‬في حين أن اإلجرام‬
‫السياسي هو إجرام تطوري تقدمي ينتج عن دوافع الغيرة واإليثار‪ ،‬وبواعث اإلصالح االجتماعي والرغبة في دفع عجلة‬
‫التاريخ إلى األمام‪ ،‬واالرتقاء بالذات اإلنسانية وبمصالح الجماعة‪ ،‬وهو ليس بإجرام حقيقي وإنما إجرام موهوم أو‬
‫مزعوم‪ ،‬إذ أنه ال يستهدف سوى المساس بالنظام السياسي أو االجتماعي القائم وتعديله أو تبديله أو السير به قدما‪ ،‬وفي‬

‫]‪[50‬‬
‫هذا الصدد رأى غارفالو إدخال الجرائم السياسية في عداد الجرائم االصطناعية التي ال تمس مشاعر االستقامة الموجودة‬
‫بصدر كل إنسان‪ ،‬أما فير رأى بأنه ال يجب أن تصبح النصوص الجنائية مجرد أداة في يد السلطة السياسية‪ ،‬في إشارة‬
‫منه إلى عدم العقاب على الجرائم السياسية‪ ،‬وأما لمبروزو‪ ،‬فيرى أن اإلجرام السياسي هو لون من ألوان اإلجرام‬
‫المتطور الذي يدفع الحياة السياسية واالجتماعية إلى األمام‪ ،‬بالرغم مما يتسم به لمبروزو من تشدد اتجاه‬
‫ويرى عل ماء اإلجرام المحدثون‪ ،‬أن المجرم السياسي يمثل النموذج الحي الصادق وهو المجرم العقائدي‬ ‫المجرمين‪.‬‬
‫الذي يجب أن ينظر إليه كنموذج قائم بذاته‪ ،‬حيث يتميز عن سواه في شعوره الصادق العميق‪ ،‬ألن فعله أماله عليه‬
‫ضميره ويعتبره جزء من رسالته التي التزم القيام بها‪ ،‬مرتكزا في ذلك على سلسلة القيم التي ترتكز عليها القواعد‬
‫القانونية النافذة‪ ،‬لذا يجب معاملة إجرامه معاملة خاصة‪.‬‬
‫غير أنه يجب أال ننخدع إلى هذا الحد وراء دوافع اإلجرام السياسي ومجرميه‪ ،‬فهؤالء أيضا قد تحركهم‬
‫دوافع األنانية والحيلة والمكر والخداع والغش‪ ،‬سالكين هذا النوع من اإلجرام‪ ،‬رغبة في الوصول إلى تحقيق دوافعهم‬
‫األنانية تحت مظلة وجوب الرأفة بهم في حال أفشلت عملياتهم‪ ،‬وقد اثبت الواقع قيام العديد من حركات التمرد‬
‫والحروب وكان ظاهرها يوحي على بواعثها السياسية‪ ،‬وأما مضمونها كان مجرد محاولة جماعات معينة للسيطرة على‬
‫الحكم وبس ط نفوذهم على السلطة والشعب‪ ،‬أو لتحقيق مآرب خاصة تنطوي على الغش والكذب والخداع‪ ،‬بل وأكثر من‬
‫ذلك‪ ،‬لتغطية جرائم فظيعة يرتكبونها أو في محاولة للوصول على السلطة حتى يتسنى لهم بسط حمايتهم على شبكاتهم‬
‫لذا نجد الدول ورغبة‬ ‫اإلجرامية وهو هدف شبكات المافيا اليوم المتاجرة بالمخدرات والممتهنة لإلجرام المنظم‪.‬‬
‫منها في تقوية أركانها سعت إلى مقاومة التيارات االجتماعية وحركات التحرر التي بدأت تنشط في المستعمرات في‬
‫بداية القرن العشرين‪ ،‬وتغيرت النظرة إلى الجرائم السياسية‪ ،‬وأخرج من نطاقها ما سمي بالجرائم اإلرهابية والجرائم‬
‫االجتماعية وجرائم التجسس والخيانة وكل ما يمس أمن الدولة من جهة الخارج‪.‬وهو ما تنبهت له فعال بعض‬
‫التشريعات‪ ،‬حيث أنه مع طغيان اعتبارات مصالح الدولة‪ ،‬مع المذهب الفردي الذي ساد القرن التاسع عشر‪ ،‬لم يبق‬
‫موقف القانون من الجريمة السياسية موقف المتساهل والعاطف‪ ،‬بل هبت التشريعات خاصة في القرن العشرين إلى تبني‬
‫التشدد التغليظ في عقاب المجرمين السياسيين‪ ،‬ونادى تيار فقهي جنائي بأنه ليس من العدل أن يراعى الباعث في‬
‫الجرائم السياسية وحدها دون غيرها ويهمل في باقي الجرائم األخرى أين يسود مبدأ أن القانون ال يعتد بالبواعث‪ ،‬وأن‬
‫المبالغة في المسألة يجعل من دراسة شخصية المجرم موضوعا ثالثا يضاف إلى دراسة الجريمة والعقوبة‪.‬‬

‫‪ -2‬من حيث المعالمة العقابية‪:‬‬


‫و نعني بالمعاملة العقابية العقوبة وما له عالقة بها‪ ،‬وبالخصوص المزايا التي يتمتع بها المجرم السياسي‬
‫في هذا الشأن‪ ،‬مقارنة مع باقي أصناف المجرمين اآلخرين‪ ،‬حيث يسود مبدأ وجوب أخذ الدافع الشريف ظرفا في تقدير‬
‫عقوبة مخففة على المجرم السياسي‪ ،‬خاصة وأنه مجرم اليوم قد يكون حاكم الغد‪،‬وأن جريمته جريمة مثقفين‪ ،‬ويجب أن‬
‫يمنع في إجرامه عقوبات اإلعدام أو األشغال الشاقة أو أن يحرم من حقوقه السياسية أو المدنية أو الثقافية وأال تنتزع‬
‫جنسيته وال مصادرة أمواله‪ ،‬وال أن ينفى إلى الخارج‪ ،‬حيث أن قاعدة عدم تسليم المجرمين أضحت قاعدة مستقرة في‬
‫الفكر الجنائي المعاصر‪ ،‬واحتلت مكانته على خريطة المبادئ الدستورية بوصفها حقا من الحقوق األساسية‪ ،‬وال أن‬
‫تسري أحكام العود في حقه‪ ،‬حيث ال يمكن احتساب الجريمة السياسية السابقة كعود‪ ،‬كما يجب أن يحظى المجرم‬
‫السياسي في الغالب بقرارات العفو الشامل حتى في الدول التي لم تأخذ بمفهوم الجريمة السياسية‪ ،‬وأما بخصوص‬
‫المعاملة في السجن‪ ،‬فعادة ما يعامل السجين السياسي معاملة خاصة‪ ،‬حيث يحبس في أماكن بعيد عن باقي المجرمين‬
‫العاديين‪ ،‬وله الحق في طلب الطعام من خارج السجن‪ ،‬وله طلب الجرائد والكتب‪ ...‬وارتداء مالبس عادية وعدم‬
‫إخضاعه للتشغيل‪ .‬غير انه هناك اتجاه عكس السابق‪ ،‬ينادي بالتشدد مع المجرمين السياسيين‪ ،‬حيث يصح قلب كل ما‬
‫نادى به االتجاه السابق‪.‬‬
‫هذا وبعد أن انتهينا من التحليل القانوني للجريمة‪ ،‬وبينا ماهيتها وخصائصها وقمنا بتمييزها عما يشابهها‬
‫من أفكار قانونية أخرى يطلق عليها أحيانا وصف الجريمة‪ ،‬وبينا أن أي جريمة يجب وأن تقوم على ثالثة أركان عامة‬
‫وجوهرية أو أساسية‪ ،‬هي الركن القانوني أو الشرعي‪ ،‬والركن المادي‪ ،‬والركن المعنوي‪ ،‬سنحاول اآلن أن نتناول كل‬

‫]‪[51‬‬
‫ركن من هذه األركان العامة في فصل مستقل‪ ،‬على أن نتناول في فصل مستقل كل التقسيمات والتصنيفات التي أعطيت‬
‫للجريمة بناء على الركنين المادي والمعنوي دون الركن القانوني حيث سبق تناول أهم التقسيمات المستندة لهذا الركن‪.‬‬
‫الفرع الثالث‬
‫الجريمة العادية والجريمة العسكرية‬

‫م ثلما تقسم الجريمة استنادا للركن المعنوي تقسيما ثالثيا‪ ،‬وتتم تفرقة الجريمة العادية عن الجريمة‬
‫السياسية‪ ،‬فإنه هناك تقسيم آخر يستند أيضا لنصوص القانون أو للركن الشرعي‪ ،‬وهو تقسيم الجريمة إلى جريمة عادية‬
‫وجريمة عسكرية‪ ،‬وهو موضوع دراستنا في هذا الفرع‪ .‬ويمكن القول عموما‪ ،‬وقبل تناول مفهوم الجريمة العسكرية‬
‫ومعيار التمييز بينها وبين الجريمة العادية‪ ،‬أنها تلك الجرائم التي تشكل اعتداء على المصالح العسكرية المحمية بقانون‬
‫القضاء العسكري‪.‬‬
‫أوال‪ :‬مفهوم الجريمة العسكرية‬
‫ا لجريمة العادية هي تلك التي تقع بالمخالفة لنص جنائي يجرم الفعل ويعاقب عله‪ ،‬سواء ورد هذا النص‬
‫في صلب قانون العقوبات أو في القوانين المكملة له‪ ،‬أما الجريمة العسكرية‪ ،‬فهي بحسب األصل تلك التي تقع من‬
‫شخص يتمتع بالصفة العسكرية بالمخالفة للواجبات العسكرية أو النظام العسكري ككل‪ ،‬وهي بذلك ال تختلف كثيرا عن‬
‫الجرائم العادية‪ ،‬سوى في انعقاد النظر في الجرائم العسكرية لقضاء استثنائي هو القضاء العسكري‪ ،‬والجريمة العسكرية‬
‫في جوهرها صورة تقترب من الجريمة التأديبية‪ ،‬وربما تميزت عنها فقط بجسامتها بالنظر ألهمية وخصوصية النظام‬
‫العسكري‪ ،‬وبخطورة الجزاءات المقررة لها‪ ،‬ويميز بعض الفقه‪ ،‬بين الجريمة العسكرية في مفهومها الحقيقي والتي يرى‬
‫أنها وحدها التي تبرر تطبيق أحكام القانون العسكري وبين الجريمة العسكرية حكما‪ ،‬بالرغم من أنه في الحالتين ينعقد‬
‫االختصاص للقضاء العسكري‪.‬‬

‫‪ -1‬مفهوم الجريمة العسكرية الحقيقي‪:‬‬


‫حتى نكون بصدد جريمة عسكرية‪ ،‬يجب أن يكون فاعلها متمتعا بالصفة العسكرية وأن يكون الفعل‬
‫الواقع يشكل مخالفة للنظام العسكري عموما‪ ،‬وهنا قد نكون بصدد جريمة عسكرية بحتة وهي تلك التي يجرمها فقط‬
‫القانون العسكري دون أن يكون لها نظيرا في أي قانون آخر‪ ،‬مثل جريمة التهرب من الخدمة العسكرية وعدم تنفيذ‬
‫األوامر العسكرية‪ ،‬وهناك نوع آخر يسمى ب " الجرائم العسكرية المختلطة " وهي تلك التي يشترك في تجريمها قانون‬
‫األحكام العسكرية وقانون العقوبات‪ ،‬مثل جرائم السرقة واالختالس‪ ..‬وهي جرائم بحسب الفقه تعد من اختصاص‬
‫القضاء العسكري لكنها في حقيقتها تعد جرائم عادية‪ ،‬ورجح االختصاص فيها للقضاء العسكري دون القضاء العادي‬
‫ترجيحا للقانون الخاص على القانون العام كوننا بصدد تنازع اختصاص‪ ،‬بل يرى البعض أن المحكمة العسكرية هي‬
‫التي ترجح اختصاصه ا على اختصاص المحاكم العادية ما لم يقيد القانون العسكري ذاته اختصاص المحاكم العسكرية‪.‬‬
‫‪ -2‬مفهوم الجريمة العسكرية الحكمي‪:‬‬
‫وهو مفهوم حسب البعض مسوغ فقط لعقد االختصاص للقضاء العسكري ليس إال‪ ،‬بالرغم من أن‬
‫الجريمة ليست في حقيقتها جريمة عسكرية أو تخضع لألحكام الموضوعية للقانون العسكري‪ ،‬وإنما جرائم عادية‬
‫منصوص عليها في قانون العقوبات وواقعة من شخص يتمتع بالصفة العسكرية بسبب تأدية مهامهم‪،‬‬
‫أ و أن تكون من جرائم المساهمة الجنائية والمرتبطة بجريمة عسكرية ارتكبها عسكري‪ ،‬أو أن تكون جريمة عادية‬
‫حسب األصل غير أن المشرع قدر أنها تمثل اعتداء على مصلحة عسكرية وفقا لقانون األحكام العسكرية‪ ،‬أو جرائم‬
‫عادية تقع ضد أشخاص يتمتعون بالصفة العسكرية أثناء تأدية مهامهم أو بسببها‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬النتائج المترتبة عن التمييز بين الجرائم العادية والجرائم العسكرية‬
‫تختلف الجرائم العسكرية عن الجرائم العادية من النواحي الموضوعية وكذا من النواحي اإلجرائية وهو‬
‫ما نبينه في النقطتين التاليتين‪:‬‬

‫]‪[52‬‬
‫‪ -1‬من الناحية الموضوعية ‪:‬‬
‫تخضع الجرائم العادية لألحكام الموضوعية المنصوص عليها في قانون العقوبات‪ ،‬بينما تسري على‬
‫الجرائم العسكرية األحكام الموضوعية المنصوص عليها في النظام العسكري تجريما وعقابا‪ ،‬كما أن مبدأ الشرعية‬
‫الجنائية غير معمول به بصفة مماثلة لتلك المعروف بها في قانون العقوبات‪ ،‬حيث غالبا ما تعد نصوص القانون‬
‫العسكري واسعة تستوعب العديد من السلوكات على نحو يستوعب أفعال غير محصورة مسبقا‪ ،‬كما أن الجزاءات‬
‫تختلف ما بين ما هو منصوص عليه في قانون العقوباتوما هو منصوص عليه في القانون العسكري‪ ،‬مثل جريمة الطرد‬
‫من الخدمة العسكرية وتنزيل الرتبة والحرمان من األقدمية‪ ،‬وأن الحكم في جريمة عسكرية ال يشكل ظرف عود في‬
‫الجريمة العادية‪.‬‬
‫‪ -2‬من الناحية اإلجرائية‪:‬‬
‫ينعقد االختصاص في نظر الجرائم العادية للمحاكم الجنائية العادية‪ ،‬بينما ينعقد االختصاص في الجرائم‬
‫العسكرية للجهات القضائية العسكرية‪ ،‬وتبعا لذلك تختلف المراحل التي يمكن أن تتم عبرها مرحلة المحاكمة منذ‬
‫االستدالل إلى غاية المحاكمة فيها مرورا بالتحقيق وتنفيذ العقوبات ‪...‬غير أن أهم مسألة تكمن في حظر تسليم المجرمين‬
‫العسكريين مثلما تقتضيه أغلب االتفاقيات الدولية في هذا الصدد وهو أمر مسلم به فقها استنادا لعرف دولي مستقر‪.‬‬

‫الفصل األول‬
‫الركن الشرعي أو القانوني للجريمة‬
‫مبدأ الشرعية الجنائية‬
‫‪Le principe de la légalité criminelle‬‬

‫إنه لمن قبيل المسلمات أن الدولة كنظام من صنع البشر قامت لتحقيق الخير لجموع البشر الذين ينتمون‬
‫إليها‪ ،‬ولتحقيق ذلك‪ ،‬قامت بوضع مجموعة أسس فلسفية تحكم تصرف اإلنسان في حياته وتكون بمثابة دليل للعمل يحدد‬
‫له جوانب الخطأ من الصواب‪ ،‬كما قامت بالبحث عن نقطة توازن معقولة بين نقيضين يعمالن في المجتمع في آن‬
‫واحد‪ ،‬وهما الرغبة في تدعيم السلطة لكي يتسنى ويتيسر للحكام أداء المهام المنوطة بهم‪ ،‬ومن جهة ثانية‪ ،‬الرغبة في‬
‫تدعيم حريات األفراد والجماعات‬
‫و أيا كان الخالف بين النظريات والفلسفات المتصارعة في هذا الشأن‪ ،‬فإنه هناك قدر من الوظائف‬
‫المسندة للدولة متفق عليه‪ ،‬ألنه يعد من أركان وجود الدولة‪ ،‬ووسيلتها في مواجهة العدوان الخارجي والمحافظة على‬
‫النظام الداخلي‪ ،‬وهو أول واجب صاحب نشأة الدولة واعتبر عنصرا من عناصر وجودها‪ .‬وأسند تحقيق هذه الوظائف‬
‫إلى سلطات ثالثة محددة ظهرت في مرحلة من مراحل تطور الدولة‪ ،‬حينما اشتد الصراع بين الفكر والسلطة‪ ،‬وهي‬
‫السلطة التشريعية التي أسندت إليها مهمة سن القوانين بالقدر الذي يحفظ وجود الدولة ويضمن استمرارها‪ ،‬وسلطة‬
‫قضائية‪ ،‬ووظيفتها األساسية تطبيق هذه القوانين في إطار مبدأ المساواة وبالقدر التي تحفظ فيه الحريات الفردية‪ ،‬المسألة‬
‫التي ألجلها نالت استقالليتها‪ ،‬وأخيرا‪ ،‬سلطة تنفيذية أنيط بها ممارسة المهام السياسية في الدولة‪ ،‬وبالشكل الذي تحفظ به‬
‫وجود واستمرار هذه األخيرة‪ .‬ووجدت هذه السلطة‪ ،‬القانون الجنائي المجال األنسب الذي يحفظ لها ذلك‪ ،‬بالنظر لما‬
‫تتسم به قواعده من صرامة وما تتصف به من حزم‪ ،‬بالنظر لما ينطوي عليه من جزاءات تنال في الغالب من حقوق‬
‫اإلنسان األساسية‪ ،‬أهمها حقه في الحياة والحرية والتملك‪.‬‬
‫وإن كان قد سبقت اإلشارة إلى أن بعض الفقه انتقد بشدة فكرة اعتبار النص القانوني ركنا من أركان‬
‫الجريمة‪ ،‬في حين ه و خالقها ومصدر وجودها‪ ،‬وال يمكن للعقل أن يتصور اعتبار الخالق عنصرا فيما خلق‪ ،‬لذا اتجه‬

‫]‪[53‬‬
‫بعض الفقه إلى اعتبار الركن القانوني هو " الصفة غير المشروعة للفعل"‪ ،‬التي إن لم تتوفر ليس لنا حاجة للبحث عن‬
‫األركان األخرى‪ ،‬حيث هو الركن الذي بموجبه تتحدد األركان األخرى‪ ،‬حيث يبين السلوكات والتصرفات المجرمة‪،‬‬
‫وبذلك يكون قد حدد الركن المادي للجريمة‪ ،‬كما يبين العالقة النفسية بين هذا الفعل ومرتكبه‪ ،‬وبذلك يكون قد حدد الركن‬
‫المعنوي للجريمة‪ ،‬وبذلك يعد النص القانوني مصدر الصفة غير المشروعة للفعل والمبين للنموذج القانوني لها‪ ،‬كما‬
‫يرصد لها الجزاء المناسب من جهة نظر قانون العقوبات‪ ،‬أو القوانين المكملة له‪.‬‬
‫لذا أضحى الركن الشرعي عبارة عن فكرة قانونية ومبدأ قانوني ثابت من مبادئ القانون الجنائي‪،‬‬
‫وأضحى من مسلمات الفقه الجنائي المعاصر‪ ،‬التي تقوم عليه سائر األفكار والمبادئ الجنائية األخرى‪ ،‬بالرغم مما تميز‬
‫به من طريقة في الظهور وتطور عبر العصور وأسس قام عليها ونتائج رتبها جعلت منه يستقر في غالبية القوانين‬
‫الجنائية الحديثة‪ ،‬ويرتقي إلى مصاف المبادئ الدستورية التي تقوم عليها جل النظام الديمقراطية في العالم‪ ،‬بل ومن‬
‫مقومات دولة القانون المعا صرة‪ .‬ومؤدى المبدأ‪ ،‬أن يحدد المشرع سلفا األفعال المعتبرة جرائم من بين السلوكات التي‬
‫يقوم بها اإلنسان‪ ،‬فيحدد النموذج القانوني لكل جريمة وكذا الجزاء المقرر لها‪ ،‬مما يضمن حقوق وحريات األفراد في‬
‫مواجهة السلطة العامة‪ ،‬كما يحمي في ذات الوقت المصلحة العامة‪ ،‬من خالل إسناد سلطة التشريع للمشرع وحده دون‬
‫غيره‪ ،‬مما يكفل عدم اعتداء السلطات على اختصاصات بعضها البعض‪ ،‬وانفراد المشرع باالختصاص في مسائل‬
‫الحقوق والحريات التي ال مساس بها أكثر من المجال الجنائي‪ .‬لذا فدراسة هذا المبدأ تقتضي منا تناول ظهور المبدأ‬
‫وتطوره تاريخيا‪ ،‬لن تناول في الثاني ماهية هذا المبدأ والنتائج القانونية المترتبة عليه‪ .‬ونخصص مبحثا ثالثا ألسباب‬
‫اإلباحة باعتبارها تمثل أسباب تعود بالشخص لخارج مجال التجريم غير المحكوم بمبدأ الشرعية الجنائية‪.‬‬

‫المبحث األول‬
‫ظهور مبدأ الشرعية الجنائية وتطوره‬
‫لإللمام بمدلول مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬يتعين البحث في الظروف التاريخية التي مهدت لظهوره‪ ،‬ومكنته‬
‫من احتالل المكانة والقيمة الدستورية والقانونية التي يحتلها اليوم‪ ،‬وكذا البحث في األسس والمبادئ الفلسفية التي قام‬
‫عليها‪ .‬حتى يتسنى لنا بعد ذلك استيعاب ماهيته وما يرتبه من نتائج‪ ،‬لذلك سنتناول هذا المبحث من خالل مطلبين‪،‬‬
‫نخصص األول لظهور المبدأ وتطوره التاريخي‪ ،‬لنخصص الثاني لماهية المبدأ والنتائج القانونية المترتبة عليه‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫ظهور مبدأ الشرعية الجنائية وتطوره التاريخي‬
‫مبدأ الشرعية الجنائية لم يظهر بظهور قانون العقوبات‪ ،‬كما أنه لم يتطور بذات الطريقة‪ ،‬كونه ظهر في‬
‫مرحلة متأخرة من مراحل تطور هذا القانون‪ ،‬وهي المراحل المتعددة التي تضرب بجذورها في أغوار تاريخ البشرية‪،‬‬
‫وهو األمر الذي جعلت هذا القانون يعاني من ويالت التعسف والتحكم واالستبداد لفترة زمنية طويلة‪ ،‬غير أن األمر إن‬
‫كان كذلك بخصوص التشريعات الوضعية األوروبية فاألمر مختلف بخصوص الشريعة اإلسالمية التي عرفت المبدأ منذ‬
‫القرن السادس ميالدي‪ .‬لذا سنحاول أن نتناول ظهور المبدأ في فرع‪ ،‬لنتناول في الثاني تطوره التاريخي‪ ،‬ونخصص‬
‫الثالث لتبيان أسسه الفلسفية‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫ظهور مبدأ الشرعية الجنائية‬
‫يرجع البعض – وهو كثيرون‪ -‬تاريخ المبدأ وأول ظهور له إلى فالسفة عصر التنوير والنهضة في‬
‫أوربا‪ ،‬في القرن الثامن عشر‪ ،‬غير أن الحقيقة هو أنه مبدأ ظهر قبل ذلك بكثير‪ ،‬حيث عرفته الشريعة اإلسالمية في‬
‫الوقت الذي كانت فيه أمم أوروبا غارقة في الظالم وتعاني من تحكم وتعسف السلطات‪ ،‬وحتى وإن عرفته بعض‬
‫التشريعات الغابرة ما قبل الميالد‪ ،‬مثل شريعة حمورابي‪ ،‬إال أنه سوى بلورة لقيم السلطة آنذاك]‪ .[25‬وفي الشريعة‬
‫اإلسالمية قد دلت على المبدأ العديد من اآليات القرآنية الكريمة‪ ،‬مثل قوله عز وجل في اآلية ‪ 15‬من ســورة اإلسراء ‪":‬‬
‫وما كنا معذبين حتى نبعث رسوال"‪ ،‬وقوله عز وجل في اآلية ‪ 59‬من سورة القصص ‪ ":‬وما كان لربك مهلك القرى‬
‫حتى يبعث في أمها رسوال يتلو عليهم آياتنا"‪ ،‬وقوله أيضا في اآلية ‪ 165‬من سورة النساء‪ " :‬لئال يكون للناس حجة بعد‬

‫]‪[54‬‬
‫الرسل"‪ ،‬وقوله عزل وجل في اآلية ‪ 38‬من سورة األنفال ‪ ":‬قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف"‪ ،‬وفي اآلية‬
‫‪ 95‬من سورة المائدة ‪ ":‬عفا هللا عما سلف ومن عاد فينتقم هللا منه"‪ .‬وأما في أوروبا‪ ،‬سادت فترة طويلة من الزمن كانت‬
‫فيها إرادة الحاكم وأهوائه هي القانون وذلك في ظل نظام مستبد‪ ،‬فلم يوجد آنذاك مبدأ يعبر عن سيادة القانون‪ ،‬مما أثر‬
‫الفالسفة والمفكرين على السلطة القضائية‪ ،‬التي كانت تحاكم وتجرم بناء على رسائل الملوك والحكام وفي غياب أية‬
‫نصوص قانونية‪ ،‬مما وسع من دائرة التجريم وهز ميزان العدالة تحت وطأة التعسف والجور والطغيان‪ ،‬وجسامة وشدة‬
‫العقوبات ووحشية تنفيذها‪ ،‬مما كان له أثر بالغ في ثورة ما يسمى " بثورة الحريات الكبرى" التي ثارت ضد هذا الجور‬
‫والطغيان فأشعلت كتاباتهم الثورة الفرنسية سنة ‪ . 1789‬غير كان قد سبقهم في ذلك "مونتسكيو" الذي يعد أول ما ندد‬
‫بالظلم والطغيان في كتابه الخالد " روح ا لقوانين" حيث نادى بمبدأ الفصل بين السلطات لوضع حد العتداء السلطة‬
‫القضائية على اختصاصات السلطة التشريعية‪ ،‬التي كانت تقرر الجرائم والعقوبات وفقا ألهوائها‪ ،‬وأكد على ضرورة "‬
‫الشرعية النصية" ألجل وضع سياج منيع على الحقوق والحريات‪ .‬ومن بعده بيكاريا في كتابه " الجرائم والعقوبات"‪،‬‬
‫المنشور سنة ‪ 1764‬مستندا على فلسفة روسو التي قررها بكتابه العقد االجتماعي‪ ،‬كما لخص كل من أفكار مونتسكيو‬
‫وجون جاك روسو وأبرز في كتابه قيمة مبدأ الشرعية باعتباره الوسيلة الفعالة لتخليص القانون الجنائي من تحكم القضاة‬
‫وتعسف الحكام‪ ،‬ورأى بأن ال سبيل لتخليص األفراد من طغيان القضاة وتعسفهم في مجال التجريم والعقاب هو القانون‪،‬‬
‫حيث ال يؤاخذ الشخص إال عن جريمة يكون قد حددها النص مسبقا وبين عقوبتها ومقدارها‪ ،‬كما اشتق بيكاريا من‬
‫نظرية العقد االجتماعي أيضا " مبدأ المصلحة االجتماعية أساس لمشروعية العقاب" وبذلك‪ :‬تجرم األفعال التي تعد‬
‫عدوانا على المجتمع فقط‪ ،‬وأن يكون الجزاء متناسبا مع الضرر‪ .‬وبالتالي يكون مبدأ الشرعية الجنائية أول من نادى به‬
‫مونتسكيو ومن بعده روسو وبيكاريا‪ ،‬واهم عامل دفع لذلك كان التعسف واالستبداد الذي كان سائدا في أوروبا في هذه‬
‫الحقبة الزمنية‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫التطور التاريخي لمبدأ الشرعية الجنائية‬
‫المبادئ التي نادى به كل مونسكيو وروسو وبيكاريا كانت سببا في ظهور مبدأ الشرعية الجنائية إلى‬
‫الوجود‪ ،‬بصيغته األولى‪ ،‬لذا امتد في التطور المتسع والمتسارع وعرف طريقه إلى مجتمعات وحضارات أخرى‪،‬‬
‫وكانت أهمها وثائق الثورة الفرنسية‪ ،‬لكن وقبل ذلك كان المحامي العام السيد سيفران في خطابه أمام البرلمان سنة‬
‫‪ 1766‬في قرونوبل قد قدم خطابا أهم ما جاء فيه ‪ ":‬أن القوانين أو القواعد الجنائية يجب أن تعطي للقاضي لوحة مدققة‬
‫عن الجرائم والجزاءات‪ ،‬بحيث يتعين على القاضي فقط اختيار الجزاء المحدد" وتأكد المبدأ بعد ذلك في إعالن حقوق‬
‫اإلنسان والمواطن الذي أصدر في أعقاب الثورة الفرنسية في المادة ‪ 5‬منه التي نصت على انه ‪ ":‬ال يمنع الفرد عن‬
‫إتيان ما هو غير محظور بنص القانون"‪ ،‬وقضت المادة ‪ 8‬منه بأنه ‪ ":‬ال يعاقب الشخص إال طبقا لقانون محدد وصادر‬
‫قبل ارتكاب الفعل‪ ،‬ثم أكده بعد ذلك دستور الثورة الفرنسية لسنة ‪ 1791‬وبعده دستور ‪ 1793‬ودخل المبدأ منذ ذلك‬
‫الوقت المجال التشريعي]‪ . [26‬وأخذ القانون اإلنجليزي بمبدأ الشرعية الجنائية منذ صدور ميثاق هنري األول‪ ،‬ثم‬
‫تضمنه دستور كالريندون وأكده بعد ذلك الع هد األعظم الذي قرر سمو قواعد القانون في إنجلترا والذي أصدره الملك‬
‫جون سنة ‪ ،1215‬حيث نصت المادة ‪ 29‬منه على أنه‪ " :‬ال يمكن إنزال عقاب ما بأي إنسان حر إال بمحاكمة قانونية‬
‫من أنداده طبقا لقانون البالد"‪ ،‬وأكد عليه اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان لسنة ‪ 1948‬في المواد ‪ 10 ،9‬و‪ ،11‬كما‬
‫تضمنه أكثر من ‪ 50‬اتفاقية أو إعالن يتعلق بحقوق اإلنسان والحريات الفردية‪ ،‬ليستقر بعدها في غالبية الدساتير‬
‫والقوانين الجزائية‪ ،‬بوصفه ضمانة أساسية للحقوق والحريات‪ ،‬وصار ركيزة دستورية هامة‪ ،‬وقد نصت عليه غالبية‬
‫الدساتير الجزائرية‪ ،‬ففي دستور ‪ 1976‬تضمنته المادتان ‪ 45‬و‪ ، 169‬والمواد ‪ 133 ،131 ،44 ،43‬من دستور‬
‫‪ ،1989‬والمادة ‪ 46‬من دستور ‪ 96‬المعدل والمتمم‪ ،‬كما نصت عليه المادة األولى من قانون العقوبات الجزائري‪ ،‬من‬
‫كون ال جريمة وال عقوبة وال تدابير أمن بغير قانون‪ ،‬وقضت المادتان ‪ 2‬و‪ 3‬على مبدأين من يعدان نتيجتين من نتائجه‬
‫وهما مبدأ عدم الرجعية ومبدأ اإلقليمية‪ .‬ونص المشرع الفرنسي على المبدأ في نص المادة ‪ 3-111‬بأنه ‪ ":‬ال يعاقب أحد‬
‫على جناية أو جنحة ما لم تكن أركانها معرفة بقانون‪ ،‬كما ال يعاقب شخص على مخالفة ما لم تكن أركانها محددة‬
‫بمقتضى الالئحة"‪ ،‬ورأى جانب من الفقه الفرنسي أن المكان الطبيعي للنص على مبدأ الشرعية الجنائية هو الدستور‪،‬‬

‫]‪[55‬‬
‫وأن النص عليه في التقنين العقابي ما هو إال من التزيد الذي ال مبرر له‪ ،‬وال لزوم له‪ ،‬بل وتأباه فنون الصياغة القانونية‬
‫والبالغة التشريعية‪ ،‬كونه مبدأ يحرص على حماية الحريات الفردية‪ ،‬وان مكان النص على هذه الحريات هو الدستور‬
‫لذا يجب رفع مبدأ الشرعية الجنائية إلى مصاف المبادئ الدستورية‪ ،‬وأن إيراد المبدأ في الدستور يغني عن ترديده في‬
‫قانون العقوبات‪ .‬وقبل أن نتقل من فكرة الظهور والتطور‪ ،‬نشير بان هذا التطور مكن من استنتاج األسس الفلسفية لهذا‬
‫المبدأ الدستوري الجنائي الهام‪ ،‬وهي األسس التي نتناولها في الفرع الثالث التالي‪.‬‬
‫الفرع الثالث‬
‫األسس الفلسفية لمبدأ الشرعية الجنائية‬
‫م بدأ الشرعية الجنائية وجد نتيجة صراع مرير وطويل ضد التعسف والتحكم والطغيان واستبداد الحكام‬
‫وتعسف السلطات‪ ،‬وبني على العديد من األسس الفلسفية التي دفعت به إلى الوجود‪ ،‬حيث يعد اثر من آثار العقد‬
‫االجتماعي‪ ،‬وثمرة من ثمار مبدأ الفصل بين السلطات‪ ،‬أساسه المسؤولية األخالقية وقوامه مبدأ العدالة‪ .‬فهو‬
‫أثر من آثار العقد االجتماعي‪ ،‬حيث أنه يرتبط ارتباطا وثيقا بهذه النظرية التي جاء بها جون جاك روسو‪ ،‬كون العقاب‬
‫يعد أيضا محصلة تنازل كل فرد عن جزء من حقه الخاص في الدفاع عن نفسه‪ ،‬لتتواله السلطة العامة نيابة عنه‪ ،‬وهو‬
‫المعنى الشكلي لمبدأ الشرعية الجنائية‪ .‬وهو ثمرة من ثمار مبدأ الفصل بين السلطات‪ ،‬الذي نادى به الفيلسوف الفرنسي‬
‫مونسكيو‪ ،‬حيث مؤدى الفصل بين السلطات أن تحصر مصادر التجريم والعقاب في القانون الذي تصدره السلطة‬
‫التشريعية‪ ،‬والذي ال تملك السلطة القضائية إزاءه إال التطبيق]‪ .[27‬وأساس مبدأ الشرعية الجنائية المسؤولية األخالقية‪،‬‬
‫حيث مسؤولية الشخص تتحدد بناء على الذنب والخطأ المنسوب إليه‪ ،‬والصادر عنه بناء على اإلدراك وحرية االختيار‪،‬‬
‫حيث جوهر الخطيئة إدراك عدم مشروعية الفعل ثم إرادة ارتكابه‪ ،‬وهو ما يقتضي أن تكون عدم مشروعية الفعل قد‬
‫حددتها النصوص العقابية مسبقا‪ ،‬وأنه حتى تتحدد مسؤولية الشخص الجنائية وتقوم‪ ،‬ينبغي توفر االختيار الحر بين‬
‫المحظور والمباح من األفعال‪ ،‬لذا يجب أن يعرف اإلنسان سلفا ما هو محظور عليه‪ .‬وقوام مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬مبدأ‬
‫العدالة الذي يعد من الركائز األساسية لقيام دولة القانون‪ ،‬وهو ما يؤكد فعال أن مبدأ الشرعية الجنائية أثر من آثار العقد‬
‫االجتماعي وثمرة من ثمار مبدأ الفصل بين السلطات‪ ،‬أساسه المسؤولية األخالقية وقوامه مبدأ العدالة‪ ،‬ومرتبط ارتباطا‬
‫وثيقا بمبدأ سيادة القانون]‪ .[28‬غير أنه في الشريعة اإلسالمية يعد اسمي منه في التشريعات الوضعية‪ ،‬كونه يقوم على‬
‫قاعدتين أساسيتين‪ ،‬هما " ال حكم ألحكام العقالء قبل ورود النص"‪ ،‬وقاعدة " األصل في األشياء اإلباحة"‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫مفهوم الشرعية الجنائية‬
‫ل مبدأ الشرعية الجنائية معنى ومدلول وعناصر‪ ،‬وأقسام سنحاول أن نتبينها باختصار في النقاط التالية‪،‬‬
‫حيث نبين المقصود منه‪ ،‬وعناصره‪ ،‬وذلك بالقدر الذي نحتاجه لباقي نقاط دراستنا فقط‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫المقصود بمبدأ الشرعية الجنائية‬
‫األصل أن يقصد بمبدأ الشرعية الركن الشرعي للجريمة – وهو ما نحن بصدد دراسته‪ -‬كما انه يفهم‬
‫منها مبدأ المشروعية‪ ،‬لذا وجب علينا أن نفرق بين الشرعية والمشروعية في نقطة‪ ،‬لنتناول في الثانية تعريف مبدأ‬
‫الشريعة الجنائية‪ .‬إذ في الكثير من األحيان يستخدم المصطلحين للداللة على نفس المعنى‪ ،‬غير أنه هناك اختالفات بين‬
‫المصطلحين‪ ،‬حيث أن الشرعية تعني تنصرف في المجال الجنائي إلى معاني قانونية‪ ،‬تتمثل في حصر مصادر التجريم‬
‫والعقاب في نصوص قانونية محددة‪ ،‬وهي بذلك تتعلق بالنص الجنائي وبالعناصر الشكلية والموضوعية التي تضمن‬
‫شروط صحة النص‪ .‬كما يقصد بالشرعية تلك المبادئ التي تكفل احترام حقوق اإلنسان وإقامة التوازن بينها وبين‬
‫المصلحة العامة‪ ،‬والتي يتعين على الدولة التقيد بها عند ممارستها لصالحياته العامة‪ .‬بينما يقصد بالمشروعيـــــة‪،‬‬
‫انتفاء التعارض بي ن الواقعة القانونية وبين نصوص التجريم والعقاب‪ ،‬وباألحرى انتفاء التعارض بين النصوص‬
‫والمصالح واألموال المشمولة بحماية هذه النصوص‪ ،‬فهي بذلك تنصرف إلى أسباب اإلباحة‪ ،‬حيث ال يوصف الفعل‬
‫بعدم المشروعية إذا توفرت شروط تطبيق سبب من أسباب اإلباحة التي بينها القانون‪ ،‬فالمشروعية تتعلق بالفعل‪ ،‬في‬
‫حين أن الشرعية تتعلق بالنص‪ .‬ويرى البعض‪ ،‬في هذا المعنى‪ ،‬أن مبدأ الشرعية الجنائية في حقيقة األمر ما هو إال‬

‫]‪[56‬‬
‫جانبا واحدا من مبدأ أكثر شموال‪ ،‬وواجب التطبيق على أي نشاط تقوم به الدولة‪ ،‬الذي يجسد دولة القانون ويفرقها عن‬
‫الدولة البوليس ية‪ .‬حيث يتوجب على كل السلطات في الدولة احترام القانون والعمل في إطاره‪ ،‬وااللتزام بأحكامه في‬
‫قيامها بمهامها‪ ،‬وعادة ما يقال الشرعية اإلدارية للداللة على هذا المعنى – عمل سلطات الدولة في نطاق القوانين‪،-‬‬
‫تميزا عن مبدأ شرعية الجرائم والعقاب الحاكم للقانون العقابي‪ .‬غير أنه وبعيدا عما سبق‪ ،‬سنحاول أن نبين تعريف مبدأ‬
‫الشرعية ومضمونه وتحديد عناصره وتبيان أقسامه في النقاط التالية‪.‬‬
‫أوال‪ :‬تعريف مبدأ الشرعية الجنائية‬
‫أعطيت العديد من التعاريف لمبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬حيث اختلفت باختالف الزوايا التي ينظر منها إليه‪،‬‬
‫فاليونانيون قد عبروا عن هذا المبدأ بأنه " الترابط السياسي الذي يضع كل مواطن مكانه في المجتمع"‪ ،‬في حين عبر‬
‫عنه المجتمع الدولي لرجال القانون المنعقد في نيودلهي سنة ‪ 1959‬بأنه ‪ ":‬اصطالح يرمز إلى المثل والخبرة العلمية‬
‫القانونية التي يجمع عليها رجال القانون في جزء كبير من العالم"‪ ،‬ورأى المؤتمورن أن المبدأ يقوم أو يعتمد على‬
‫عنصرين أساسيين‪ ،‬هما أنه مهما كان فحوى القانون‪ ،‬فإن كل سلطة في الدولة هي نتاج القانون وتعمل وفقه‪ ،‬والثاني‪،‬‬
‫افتراض أن القانون نفسه يعتمد على مبدأ سام هو احترام حقوق اإلنسان‪ ،‬واستخلص المؤتمرون تعريفا ليمدا الشرعية‬
‫في أنه ‪ " :‬ذلك الذي يعبر عن القواعد والنظم واإلجراءات األساسية لحماية الفرد في مواجهة السلطة‪ ،‬ولتمكينه من‬
‫التمتع بكرامته اإلنسانية"‪ ،‬كما عرف بالعديد من التعاريف التي يمكننا أن نجملها فيما يلي‪ " :‬نص التجريم الواجب‬
‫التطبيق على الفعل"‪ " ،‬النص القانوني الذي يبين الفعل المكون للجريمة ويحدد العقاب الذي يفرضه على مرتكبها"‪،‬‬
‫وهناك من قال بأن الشرعية بإيجاز‪ ،‬تأسيس الجرائم على اعتبارات من مصلحة المجموع واحترام الحريات الفردية‪،‬‬
‫وهناك من قال أنه‪ :‬سيادة القانون وخضوع الجميع له حكاما ومحكومين]‪ ،[29‬وسيادة القانون في مجال التجريم والعقاب‬
‫يعني وجوب حصر الجرائم والعقوبات في القانون المكتوب‪ ،‬وذلك بتحديد األفعال التي تعد جرائم وبيان أركانها‪ ،‬من‬
‫جهة‪ ،‬ثم العقوبات المقرر لها ونوعها ومدتها‪ ،‬من جهة أخرى‪.‬وهناك من عرفه‪ ،‬أن الشرعية الجنائية تقضي وجوب‬
‫وجود نصوص قانوني ة صادرة عن سلطة مختصة لضبط سياسة التجريم والجزاء والمتابعة الجزائية]‪.[30‬‬
‫ثانيا‪ :‬مضمون الشرعية الجنائية‬
‫القانون الجنائي بمختلف فروعه يخضع لمبدأ الشرعية‪ ،‬منذ تجريم الواقعة ووقوعها مرورا بمحاكمة‬
‫الشخص وتوقيع العقوبة عليه وتنفيذها‪ ،‬وفي كل هذه المراحل يخضع القانون المسائل التي تمس بالشخص وحريته‬
‫وكرامته سواء تعلق األمر بالتجريم أو العقاب أو اإلجراءات أو التنفيذ العقابي تكون النصوص خاضعة لمبدأ الشرعية‬
‫الجنائية]‪ . [31‬ومقتضى مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬أن تراعيه السلطات الثالث في الدولة في كل تصرفاتها وأعمالها‬
‫القانونية‪ ،‬فمن جهة القاضي ال يملك تجريم فعل لم يرد نص بتجريمه أو توقيع عقوبة لم يرد بها نص أو استنتجها عن‬
‫طريق القياس‪ ،‬ومن ناحية ثانية‪ ،‬فسلطة التجريم والعقاب من اختصاص السلطة التشريعية‪ ،‬وهي وحدها صاحبة‬
‫االختصاص‪ ،‬وأن تكون النصوص التي تضعها محددة وال نصرف إلى الماضي‪ ،‬وال تملك السلطة التنفيذية ممارسة هذا‬
‫االختصاص دون تفويض‪ ،‬وفي الحدود الضيقة التي بينها القانون لهذا التفويض‪ .‬فمبدأ الشرعية الجنائية يفرض نفسه‬
‫على المشرع مثلما يفرض نفسه على القاضي‪ ،‬فاألول يحتكر سلطة التجريم والعقاب‪ ،‬بينما الثاني يقع عليه عبء‬
‫التطبيق السليم لهذه النصوص‪ ،‬احتراما لإلرادة العامة‪ ،‬على أن تكون النصوص الجنائية واضحة وضوحا كامال بما‬
‫يسمح للقاضي بتطبيقها السليم دون خطأ‪ ،‬حيث إذا جاء النص مبهما أو غامضا‪ ،‬فإن ذلك يمنح القاضي سلطة تحكمية‬
‫التي أريد القضاء عليها بموجب هذا المبدأ‪ ،‬لذا فالشرعية تستعبد فكرة النصوص التي تشمل ما يسمى بالحاالت‬
‫أو النماذج المفتوحة ‪ Types ouverts‬وهي النصوص الذي ما أريد تطبيقها نجد بأنه يدخل تحت نطاقها العديد من‬
‫الحاالت المتشابهة‪ ،‬كالنص " كل فعل ضار بالشعب" أو " كل تصرف يمس المصلحة العامة أو من شأنه المساس‬
‫باألمن العام أ و النظام القائم"‪ ،‬وفي مجال اإلجراءات على المشرع البحث عن توازن مرضي بين حقوق االتهام وحقوق‬
‫الدفاع‪ ،‬ألن القانون يحمي الحقوق الفردية بقدر حمايته للمصلحة العامة‪ ،‬أو مصلحة المجتمع‪ ،‬ووجود هيئات قضائية‬
‫قانونية مشكلة قبل ارتكاب الجريمة‪ ،‬حيث يقتضي المبدأ أن يعرف الشخص المحكمة المختصة مسبقا بمقدار معرفته‬
‫بالجريمة والعقوبة‪ ،‬وافتراض البراءة‪ ،‬ووقوع عبء اإلثبات على النيابة العامة‪ ،‬وعالنية الجلسات حتى يتسنى للرأي‬
‫العام مراقبة استقاللية السلطة القضائية‪ ،‬واستقاللها عن السلطة التنفيذية‪.‬‬

‫]‪[57‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫أقسام الشرعية الجنائية‬
‫ف ي حقيقة األمر الشرعية الجنائية جزء من الشرعية العامة‪ ،‬لكن مساسها بالحقوق والحريات هو الذي‬
‫جعلها تبرز على غيرها من أقسام الشرعية األخرى في الدولة‪ ،‬حيث كلما أطلق لفظ الشرعية‪ ،‬انصرفت األذهان إلى‬
‫الشرعية الجنائية مباشرة‪ ،‬وتعني الشرعية الجنائية‪ ،‬شرعية التجريم والعقاب وشرعية المتابعة الجزائية‪ ،‬وهي بذلك‬
‫تتكون من قسمين رئيسيين‪ ،‬هما الشرعية الموضوعية وتشمل شرعية التجريم والعقاب‪ ،‬والقسم الثاني ويتمثل في‬
‫الشرعية اإلجرائية التي تختص باإلجراءات الواجبة في متابعة الجاني منذ وقوع الجريمة لغاية الحكم عليه نهائيا بحكم‬
‫نهائي بات حائز لقوة الشيء المقضي به‪ ،‬ويضيف البعض شرعية التنفيذ العقابي‪.‬‬
‫أوال‪ :‬الشرعية الموضوعية( شرعية التجريم والعقاب)‬
‫و هي الحلقة األولى أو القسم األول من أقسام الشرعية الجنائية‪ ،‬وهو ما يعبر عنه بال جريمة وال عقوبة‬
‫وال تدبير أمن بغير نص‪ ،‬مما معناه حصر مصادر التجريم والعقاب في النص التشريعي الصادر عن السلطة المختصة‬
‫بذلك وفقا لألحكام الدستورية في الدولة‪ ،‬وهو ما نص عليه المشرع الجزائري في نص المادة األولى من تقنين‬
‫العقوبات‪ ،‬وفي العادة ما يقصد بالشرعية الجنائية هذا القسم دون سائر األقسام األخرى‪ .‬وبالتالي مقتضى هذا القسم من‬
‫أقسام الشرعية الجنائية‪ ،‬حماية اإلنسان من خطر التجريم والعقاب بغير األداة التشريعية المعبرة عن إرادة الشعب‪،‬‬
‫وزيادة على ذلك أن يكون هذا القانون قبل ارتكاب الفعل‪ ،‬ودون أن يطبق بأثر رجعي‪ ،‬معبرا عن ذلك بعدم رجعية‬
‫النصوص الجنائية كقاعدة عامة‪ ،‬وحظر القياس على القاضي‪ ،‬في مجال التجريم والعقاب‪ ،‬وإن كان يجوز ذلك في غير‬
‫مسألتي التجريم والعقاب‪ ،‬سيما فيما يخدم مصلحة المتهم‪ ،‬وكذا إلزام القاضي بمبدأ التفسير الضيق وذلك بإتباع قواعد‬
‫خاصة في التفسير الكاشف فقط عن إرادة المشرع عند وضع النص‪ .‬وإن سمح للسلطة التنفيذية بالتجريم في بعض‬
‫المجاالت فإن ذلك يعد استثناء والعتبارات تقدرها السلطة التشريعية ذاتها وفي الحدود الضيقة التي بينها الدستور ووفق‬
‫الضوابط التي حددها – هي األمور التي نتبينها أكثر عن تناولنا لنتائج مبدأ الشرعية‪ .-‬غير أن الشرعية الموضوعية‬
‫تبقى حلقة من حلقات الشرعية الجنائية‪ ،‬ال تكفي وحدها لحماية حرية اإلنسان في حاالت القبض عليه أو حبسه أو اتخاذ‬
‫إجراءات المتابعة ضده‪ ،‬أو محاكمته‪ ،‬ومن هنا يبدو قصور القسم األول للشرعية الجنائية‪ ،‬طالما كان من الممكن‬
‫المساس بحرية المتهم بغير قانون وبعيدا عن قاعدة ال جريمة وال عقوبة إال بنص‪ ،‬خاصة في حالة إهدار قرينة البراءة‬
‫وإلزام الشخص على إثبات براءته مع الوضع الذي يفترض اإلدانة‪ ،‬لذا كان يجب تكملة الحلقة السابقة‪ ،‬بحلقة أخرى‬
‫أكثر أهمية‪ ،‬وهي الشرعية اإلجرائية‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬الشرعية اإلجرائية‬
‫وهي أن تكون الجهات واألجهزة واإلجراءات التي تتبعها هذه األخيرة مقررة بموجب نصوص قانونية‪،‬‬
‫وهي الحلقة التي تكفل احترام الحرية الشخصية للمتهم‪ ،‬وافتراض براءته في كل إجراء من اإلجراءات التي تتخذ ضده‪،‬‬
‫وبذلك تكون الشرعية اإلجرائية امتداد طبيعي لشرعية الجرائم والعقوبات‪ ،‬بل في الواقع أكثرها أهمية وأعظمها شأنا‪،‬‬
‫فهي اإلطار الذي ال يمكن تطبيق القاعدة الموضوعية إال من خالله‪ ،‬وتقوم الشرعية اإلجرائية أساسا على افتراض‬
‫براءة المتهم‪ ،‬وأال يتخذ ضده أية إجراء إال بنص في قانون اإلجراءات الجنائية‪ ،‬والثالث يتمثل في ضرورة إشراف‬
‫القضاء على كل اإلجراءات المتخذة ضده باعتبار القضاء الحارس الطبيعي للحقوق والحريات]‪ .[32‬حيث أن قرينة‬
‫البراءة ال تسقط إال بحكم بإدانة المتهم‪ ،‬وهنا فقط يصبح أمر المساس بحريته أمرا مشروعا بحكم القانون‪ ،‬غير أن ذلك‬
‫ال يعد حقا مطلقا‪ ،‬بل يجب أن يتحدد نطاقه وفقا للهدف من الجزاء الجنائي‪ ،‬ومن هنا تظهر أهمية الحلقة الثالثة من‬
‫حلقات الشرعية الجنائية‪ ،‬وهي شرعية التنفيذ العقابي‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬شرعية التنفيذ العقابي‬
‫شرعية التنفيذ العقابي تعد الحلقة الثالثة من حلقات الشرعية الجنائية‪ ،‬حيث تقتضي أن يجري تنفيذ الحكم‬
‫الصادر ضد المتهم وفقا للكيفيات التي حددها القانون‪ ،‬تحت رقابة وإشراف القضاء‪ ،‬خاصة في ظل االهتمام المتزايد‬
‫بهذه المرحلة الذي بدا مع مدرسة الدفاع االجتماعي‪ ،‬وتبلور مع منظمة األمم المتحدة التي قامت بإصدار القواعد‬
‫النموذجية الدنيا لمعاملة المساجين‪ ،‬التي بينت بدقة المبادئ التي تحكم مرحلة التنفيذ العقابي‪ ،‬مما يعد شرعية لهذا التنفيذ‪،‬‬

‫]‪[58‬‬
‫وبالتالي يمكننا القول أن هذه الحلقة لم تبق مجرد مبدأ دستوري بل ارتقت لمرتبة المبادئ الدولية مع صدور قرار عن‬
‫الجمعية العامة لألمم المتحدة توصي الدول بضرورة العمل بالقواعد النموذجية الدنيا السابقة‪ ،‬وهو القرار رقم ‪-2858‬‬
‫في ‪ ،1971 -12-20‬والقرار ‪ 8/32‬في ‪ 1974-11-06‬وهي القواعد التي عنيت الدول بإدراجها في قوانينها‪ ،‬باعتبار‬
‫القانون األداة التشريعية الصالحة للشرعية الجنائية‪ ،‬وهو ما قام به المشرع الجزائري في قانون تنظيم السجون‪ ،‬خاصة‬
‫القانون األخير قانون تنظيم السجون وإعادة اإلدماج االجتماعي للمحبوسين رقم ‪ 04-05‬المؤرخ في ‪.2005-02-06‬‬
‫وتقوم شرعية التنفيذ العقابي على ضرورة تحديد أساليب التنفيذ وضماناته وأهدافه المنصوص عليها بالقانون المعبر عن‬
‫إرادة الشعب والذي سمح بالمساس بحرية الشخص أو حياته‪ ،‬وأن يكون تنفيذ العقوبة خاضعا إلشراف قاضي يطلق‬
‫عليه قاضي تنفيذ العقوبات‪.‬‬

‫]‪ - [1‬غير أن هذا ال يمنع من القول‪ ،‬بأنه هناك قلة من القوانين الجنائية قد اهتمت بوضع تعريف للجريمة‪ ،‬مثلما هو‬
‫الشأن بالنسبة لقانون العقوبات اإلسباني لسنة ‪ 1928‬أين عرفت المادة األولى منه الجريمة بأنها‪ :‬عمل أو امتناع عن عمل إرادي‬
‫يعاقب عليه القانون"‪ ،‬وقانون العقوبات المغربي لسنة ‪ 1963‬الذي عرف الجريمة بأنها‪ " :‬عمل أو امتناع مخالف لقانون الجنائي‬
‫ومعاقب عليه بمقتضاه "‪ ،‬فإن باقي القوانين األخرى لن تول المسألة اهتماما‪ ،‬مما جعل من مسألة تعريف الجريمة مسألة فقهية‪.‬‬
‫والسبب في ترك المشرع المهمة للفقه‪ ،‬سببه مثلما يرى البعض‪ ،‬أن وضع التعاريف هي لعبة الفقهاء‪ ،‬ومن جهة ثانية حتى ال‬
‫يتورط المشرع في وضع تعريف قد ال يكون ال بالجامع وال بالمانع مما يجعله مقصرا قانونا‪ ،‬ويجعله يقلل من تطبيق القواعد‬
‫واألسس التي وضعها المشرع بعد ذلك في القانون‪.‬‬
‫]‪ - [2‬وإن كان هناك من يرى بأن التعريفات القانونية للجريمة تجعلنا نسميها ب‪":‬الجريمة المقننة"وهي تشمل كل‬
‫التعريفات الفقهية المستمدة لوجهة نظر قانونية‪ ،‬وهي السلوكات سواء كانت أوامر أو نواهي نصت عليها القاعدة الجنائية‪ ،‬أما‬
‫الجريمة غير المقننة‪ ،‬فهي كل مخالفة لصحيح األمور وأعرافها وفقا لألعراف والبيئة‪ ،‬سواء نص عليها المشرع أم لم ينص‪،‬‬
‫وبذلك يكون مفهومها أوسع من مفهوم الجريمة المقننة‪ ،‬وهناك نوع ثالث وهي ‪ ":‬الجريمة الحية"‪ ،‬ويقصد بها تلك الجريمة التي‬
‫وقعت بالفعل وفقا للنموذج القانوني‪ ،‬حيث لم تبق مجرد نص بل قام بها الجاني فعال‪ ،‬والجريمة النظرية هي الجريمة المقننة وفقا‬
‫لوجودها القانوني ال الواقعي أي التي لم ترتكب بعد‪ ،‬بل وفق تصور المشرع لها‪.‬‬
‫]‪ - [3‬وهو موقف تق ليدي للفقه الفرنسي‪ ،‬الذي يركز على الركن الشخصي أي المعنوي‪ ،‬وبموجب هذا االتجاه فقط يمكن‬
‫التمييز بين الشخص المسؤول والشخص غير المسؤول جنائيا‪ ،‬واعتبر هذا االتجاه الركن المعنوي بأنه ركن البغي أو العدوان‪،‬‬
‫مثل= =بالنيول ومانيول الذين عرفوا الجريمة أنها‪ ":‬خرق القانون الذي سنته الدولة من أجل سالمة المواطنين بواسطة عمل‬
‫خارجي لإلنسان إيجابي أو سلبي وليس مباحا بواسطة القيام بالواجب أو استعمال الحق‪ ،‬ومعاقبا عليه من قبل القانون‬
‫الجنائي"‪.‬‬
‫]‪ - [4‬االتجاه الموضوعي في تعريف الجريمة أو في غيره من نقاط البحث القادمة‪ ،‬وهو االتجاه األلماني‪ ،‬الذي يعرف‬
‫الجريمة تعريف موضوعي محض‪ ،‬وباختصار يعرفونها بأنها‪ " :‬الخرق المادي ألحكام القانون الجنائي"‪ ،‬ويستبعدون تماما‬
‫العنصر الشخصي المتمثل في مرتكب هذه الجريمة‪ ،‬والمهم لديهم انه هناك جريمة وقعت بغض النظر عن شخصية مرتكبها‪،‬‬
‫ويركزون فقط على الركنين المادي والقانوني‪ .‬وهو بالتالي اتجاه يقودنا لفكرة " موضوعية الجريمة ‪L’objectivité de‬‬
‫‪ " l’infraction‬الذي يعني النظرة للجريمة كواقعة من الوقائع المدنية‪ ،‬مما يخرجنا من إطار القانون الجنائي‪ ،‬إلى النظر إلى‬
‫الجريمة بنظر فقهاء القانون الخاص‪ ،‬أو فقهاء القانون المدني‪ ،‬كونه يهمل أهم عنصر يركز عليه القانون الجنائي أكثر من أي‬
‫قانون آخر وهو شخصية الجاني وما يكمن لديه من مقدار للخطورة اإلجرامية‪ ،‬وسبق القول بأن أهم ما يعطي للقانون الجنائي‬
‫ذاتيته انه يهتم بعنصر العمد والخطأ وهي مسائل شخصية وليست وقائع مادية ينظر إليها بنظرة موضوعية مجردة‪ ،‬حيث يركز‬
‫على الماديات ويهل تماما المسائل الشخصية‪ ،‬حيث ال اهتمام لدى أنصاره باإلرادة واإلثم والبغي والعدوان‪ ..‬وإن كان ألنصار‬
‫هذه المدرسة فضل كبير في نظرية الشروع‪ ،‬وظهور فكرة الجرائم المادية‪ ،‬ويرون بأن الركن المعنوي مجال دراسته مختلف‬
‫تماما‪ ،‬وهو ال يتعلق باألفعال والوقائع المادية التي تعد أساس ومحور قانون العقوبات‪ ،‬إذ المشرع لم يتدخل لتجريم فعل من‬
‫األفعال إال بالنظر لخطورته وأثاره الضارة على المصالح االجتماعية‪ ،‬خاصة وأن التجريم يتم بنظرة عامة مجردة دون أخذ بعين‬
‫االعتبار للشخص الفاعل الذي يكون مجهوال عند وضع النصوص الجنائية‪ ،‬وهو أمر وجيه نسبيا في نظرنا‪ .‬لكن ذلك ال يجب‬
‫أن يجعلنا ننسى بأنه‪ ،‬وفقا للمنطق القانوني‪ ،‬بأن الجريمة وإن كان معاقبا عليها‪ ،‬فهي ألنها تمثل عرضا من أعراض اإلرادة اآلثمة‬

‫]‪[59‬‬
‫والتفكير اآلثم‪ ،‬األمر الذي يقود لعدم إهمال الجانب الشخصي تماما‪ ،‬إذ هذا الجانب يجب أن يبقى نصب األعين عند دراسة‬
‫الجريـــــــمة‪.‬‬
‫]‪ - [5‬ف ي الحقيقة المشرع حكما يعتبر الفعل تهديدا بالمصالح الجوهرية للمجتمع‪ ،‬وهي الخاصية المرتبطة بسابقتها‬
‫والتي تضفي على الجريمة كفكرة قانونية حقيقتها االجتماعية‪ ،‬حيث الجريمة في حقيقتها ال تعد مساس أو تهديد بالمساس بقيم‬
‫جوهرية خالدة للمجتمع‪ ،‬بل بما يراه المشرع حكما أنها كذلك كونه سبق القول بنسبية الجريمة‪ ،‬فالتطور قد ينقلب على هذه القيم‪،‬‬
‫فالتطور الحاصل مثال في المجتمع األوروبي انقلب على " قيم العفة" حيث كانت جريمة الزنا أمرا مجرما في هذه المجتمعات‪،‬‬
‫غير أن قيمة التحرر تغلبت على قيمة العفة‪ ،‬ودخل قيم التحرر من القيم الجوهرية للمجتمع وأخرجت قيمة العفة‪ ،‬وهو األمر دوما‬
‫في مجال التطور االقتصادي والسياسي واالجتماعي‪ ،‬التي أثبتت كلها حركة الخروج والدخول من النظم القيمية للمجتمع‪ ،‬هذه‬
‫األخيرة التي أضحت بدورها في حركة تطور مستمرة‪ ،‬لذا فالمشرع عند تقريره قيمة معينة ما فإنه يكون متحكما ال حكما مما قد‬
‫يؤدي إلى شعور األفراد اإلحساس بصدقية تأثيم هذه األفعال ويؤثر سلبا في نهاية األمر على أداء القاعدة الجنائية وعلى وظيفة‬
‫الردع التي يسعى لتحقيقها الجزاء الجنائي‪ ،‬وقد أدرك الفقيه اإليطالي جاروفالو منذ زمن بعيد هذه الحقيقة‪ ،‬وذلك بتقسيمه الجرائم‬
‫إلى طائفتين أساسيتين هي طائفة الجرائم الطبيعية وطائفة الجرائم االصطناعية‬
‫]‪ - [6‬وقد تتعلق بصفة المجني عليه‪ ،‬كالقاصر في جريمة االعتداء على قاصر أو خطفه‪ ،‬وصفة الميت في جريمة‬
‫االعتداء على حرمة الموتى‪ ،‬كما قد تتعلق بزمان أو مكان ارتكاب الجريمة‪ ،‬كزمن الحرب‪ ،‬والطريق العام‪ ،‬والمكان‬
‫العمومي‪...‬في جرائم السكر العلني والقذف والفعل العلني المخل بالحياء‪ ...‬أو زمن الحرب في بعض الجرائم‪،"...‬‬
‫]‪ - [7‬ويرى بعض الفقه أن الشروط المفترضة‪ ،‬هي أوضاع قانونية أو واقعية سابقة على وجود الجريمة‪ ،‬في حين يرى‬
‫البعض أن الرأي السابق غير صحيح من حيث اعتبارها أركان بل هي ظروف متعلقة بالركن المادي للجريمة‪ ،‬أحيانا تقوم به‬
‫الجريمة وأحيانا به يمكن تحديد نوعها‪ ،‬كصفة الطبيب في جريمة اإلجهاض‪ .‬وهي بذلك ال تعد من عناصرها ومحل دراستها‬
‫النظرية العامة للجزاء‪ .‬ويرى البعض أن الشروط المفترضة بالرغم من أنها من المكونات القانونية للجريمة‪ ،‬فهي ال تعد من‬
‫مكوناتها المادية بل هي سابقة على الوقوع المادي للجريمة‪ ،‬فهي بذلك تخضع للقواعد غير الجنائية على عكس الركن المادي‬
‫للجريمة‪.‬‬
‫]‪ - [8‬وهو التقسيم الذي تأخذ به أغلب التشريعات الجنائية‪ ،‬أساسه اختالف الجرائم بحسب جسامتها‪ ،‬وهي الجسامة‬
‫التي تكشف عنها العقوبة المقررة للجريمة‪ ،‬وهي الجسامة التي تتحدد بناء العتبارات تتعلق في العادة بالركن المادي أو الركن‬
‫المعنوي أو الركن الوصفي‪ .‬ونجد غالبية التشريعات قد نهجت هذا النهج‪ ،‬الذي يعد في حقيقته نهجا فرنسيا في األساس‪ ،‬والذي‬
‫يقسم الجرائم على جنايات ‪ ،Crimes‬وجنح ‪ ،Délits‬ومخالفات ‪ ،Contraventions‬وبعض التشريعات فضلت التقسيم الثنائي‬
‫إلى جنح ومخالفات فقط‪ ،‬مثل القانون الجنائي اإلسباني واإليطالي لسنة ‪ ،1930‬والقانون النرويجي والهولندي والبرتغالي‪.‬‬
‫]‪ - [9‬حيث أن نص المادة ‪ 27‬هو الذي بين هذا المعيار‪ ،‬في حين شرح المعيار ورد بالمادة ‪ 5‬من تقنين العقوبات‪،‬‬
‫ومنهجيا كان يجب تبيان التقسيم قبل تحليل الخطورة أو الجسامة الواردة في المادة ‪.5‬‬
‫]‪ - [10‬المادة ‪ ( 5‬القانون رقم ‪ 23-06‬المؤرخ في ‪ 20‬ديسمبر ‪ ": )2006‬العقوبات األصلية في مادة الجنايات‬
‫هي‪ )1:‬اإلعدام‪ )2،‬السجن المؤبد‪ )3،‬السجن المؤقت لمدة تتراوح بين خمس (‪ )5‬سنوات وعشرين (‪ )20‬سنة‪.‬العقوبات األصلية‬
‫في مادة الجنح هي‪ )1 :‬الحبس مدة تتجاوز شهرين إلى خمس سنوات ما عدا الحاالت التي يقرر فيها القانون حدودا أخرى‪،‬‬
‫‪ )2‬الغرامة التي تتجاوز ‪ 20.000‬دج‪ .‬العقوبات األصلية في مادة المخالفات هي‪ )1:‬الحبس من يوم واحد على األقل‬
‫إلى شهرين على األكثر‪ )2،‬الغرامة من ‪ 2000‬دج إلى ‪ 20.000‬دج‪".‬ونشير أنه قبل سنة ‪ 2006‬كان تطبيق عقوبة السجن يحول‬
‫دون توقيع عقوبة الغرامة معها‪ ،‬غير أن المشرع الجزائري أدرج في هذا التعديل نص المادة ‪ 5‬مكرر سمحت بالجمع بين‬
‫العقوبتين‪ ،‬حيث نجد المادة ‪ 5‬مكرر ( القانون رقم ‪ 23-06‬المؤرخ في ‪ 20‬ديسمبر ‪ ": )2006‬إن عقوبات السجن المؤقت ال‬
‫تمنع الحكم بعقوبة الغرامة ‪".‬‬
‫]‪ - [11‬حيث نصت المادة ‪ 30‬على أنه‪ " :‬كل المحاوالت الرتكاب جناية تبتدئ بالشروع في التنفيذ أو بأفعال ال لبس‬
‫فيها تؤدي مباشرة إلى ارتكابها‪ "....‬في حين نصت المادة ‪ 31‬على أنه‪ " :‬المحاولة في الجنحة ال يعاقب عليها إال بناء على نص‬
‫صريح في القانون‪ .‬والمحاولة في المخالفة ال يعاقب عليها إطالقا"‪.‬‬
‫]‪ - [12‬ونصت المادة على أنه ‪ ":‬يعاقب الشريك في جناية أو جنحة بالعقوبة المقررة للجناية أو الجنحة‪ ...‬وال يعاقب‬
‫على االشتراك في المخالفة على اإلطالق‪".‬‬
‫]‪ - [13‬حيث نصت المادة ‪ ( 176‬القانون رقم ‪ 04-15‬المؤرخ في‪ )2004-11-10 :‬من ق ع ج على أنه‪ " :‬كل جمعية‬
‫أو اتفاق مهما كانت مدته وعدد أعضائه تشكل أو تألف بغرض األعداد لجناية أو أكثر‪ ،‬أو لجنحة أو أكثر‪ ،‬معاقب عليها بخمس‬

‫]‪[60‬‬
‫سنوات حبس على األقل‪ ،‬ضد األشخاص أو األمالك تكون جمعية أشرار‪ ،‬وتقوم هذه الجريمة بمجرد التصميم المشترك على القيام‬
‫بالفعل‪ ".‬في حين بينت المادة ‪ 177‬من ذات القانون المعدلة بموجب المادة ‪ 60‬من القانون رقم ‪ 23-06‬المؤرخ في‪-12-20 :‬‬
‫‪ 2006‬العقوبات المقررة لهذه الجريمة‪.‬‬
‫]‪ - [14‬التي نصت على أنه‪ ":‬في حالة منح الظروف المخففة في مواد المخالفات‪ ،‬فإن العقوبات المقررة قانونا بالنسبة‬
‫للشخص الطبيعي ال يجوز تخفيضها عن حدها األدنى‪"..‬‬
‫]‪ - [15‬التي نصت على أنه‪ ":‬يعاقب العائد في مادة المخالفات المنصوص عليها في هذا الباب بالحبس مدة قد تصل إلى‬
‫أربعة أشهر وبغرامة قد تصل إلى ‪ 40.000‬دج‪".‬‬
‫]‪ - [16‬حيث نصت على أنه‪ ":‬يعاقب العائد في مادة المخالفات المنصوص عليها في هذا الباب بما يأتي‪"...‬‬
‫]‪ - [17‬فمثال إذا أفاد القاضي شخص متهم بالسرقة الموصوفة وهي جناية عقوبتها خمس سنوات سجن فما فوق‪،‬‬
‫بظروف التخفيف وقضى عليه بعقوبة ثالث سنوات‪ ،‬فيجب أن تكون سجنا والجريمة جناية‪ ،‬حيث ال يمكنه تغيير وصف الجناية‬
‫إلى جنحة على اعتبار أنه قضى بعقوبة تطبق أصال على الجنح‪.‬‬
‫]‪ - [18‬مثل الحاالت التي يرتأى فيها المشرع تشديد عقوبة الجنحة وتوقيع عقبات الجناية عليها‪ ،‬فإن ذلك يغير من‬
‫وصف الجريمة‪ ،‬مثل التشديد في عقوبة جنحة السرقة التي تتحول في هذه الحالة إلى جناية السرقة الموصوفة‪.‬‬
‫]‪ - [19‬حيث يرى البعض أن اإلجرام السياسي قديم قدم السلطة‪ ،‬لذا فهي عرفت منذ أقدم العصور التي بدأت فيها تتبلور‬
‫الفكرة األولى للدولة‪ ،‬لذا رأى البعض أنها من أعمق المآسي التي عرفها التاريخ واإلنسان‪.‬‬
‫]‪ - [20‬و قد عرفت أوروبا في العهد الملكي والعصر الكنسي شهدت أوروبا في هذه الحقبة من الزمن أهم الشواهد‬
‫المرعبة على معاقبة المجرم السياسي‪ ،‬ولم تتغير العقوبة على المجرم السياسي حتى بعد الثورة الفرنسية التي بزغ معها فجر‬
‫األمل حيث ظل يعاقب باإلعدام‪ ،‬بالرغم من حلول الدولة محل الذات الملكية‪ ،‬ولم تلغ عقوبة اإلعدام إلى مع الجمهورية الفرنسية‬
‫الثانية عام‬
‫‪ ،1848‬غير أن التشديد زادت حدته ما بين الحربين العالميتين‪ ،‬خاصة مع وصول األحزاب المتطرفة إلى الحكم‪.‬‬
‫]‪ - [21‬ع لى الرغم من أن أنصار هذه المدرسة ذاتهم اختلفوا حول المصدر حيث منهم من اعتمد على الباعث أو الدافع‪،‬‬
‫ومنهم من اشترط الفرض أو الغاية‪ ،‬وهناك من جمع بينهما‪ ،‬غير أنهم يتفقون في النهاية على االعتماد بالدرجة األولى والخيرة‬
‫على نفسية المجرم وحالته الروحية‪.‬‬
‫]‪ - [22‬و ال يدرج البعض المعيار المختلط كمعيار ثالث‪ ،‬بل يسميه المعيار السياسي‪ ،‬الذي يبنى على نوعية نظام الحكم‬
‫والمعتقدات السياسية السائدة فيه‪ ،‬ومدى استقرار النظام فوفقا لهذه المتغيرات تتغير طبيعة المجرم السياسي‪ ،‬فهو عنصر ضروري‬
‫للتطور في النظم الديمقراطية وعنصر خطر في األنظمة الفردية االستبدادية‪ ،‬وبواعثه تكون مبعث التخفيف في عقابه في النظم‬
‫الديمقراطية‪ ،‬وبالعكس من ذلك في النظم الديكتاتورية‪..‬‬
‫]‪ - [23‬حيث عرفت بأنها‪:‬‬
‫‪« Sont des délits politiques , les infractions dirigées contre l’organisation et le‬‬
‫‪fonctionnement de l’Etat, Ainsi celles qui sont dirigées contre le droit qui en résultent pour les‬‬
‫» ‪citoyens‬‬
‫]‪ - [24‬كم عرفت أنها‪ :‬الفعل غير المشروع الذي يرمي به مباشرة أو بطريق غير مباشر إلى تغيير الوضع السياسي‬
‫في الدولة‪ ،‬وتتميز عن الجريمة السياسية في أن الباعث إليها يكون سياسيا]‪ ،[24‬وهو اتجاه تبنى المعيار الشخصي أيضا‪.‬‬
‫كما عرفت ‪ ":‬الجريمة السياسية عمل سياسي يحرمه القانون‪ ،‬فهي صورة للنشاط السياسي الذي استعجل صاحبه طريق‬
‫القانون‪ ،‬فحملته العجلة في تحقيق أهدافه أو الميل إلى العنف في مواجهة الخصوم على أن يستبدل باألسلوب الذي يرخص له‬
‫القانون أسلوبا يحظره‪ ،‬ويخلص من ذلك أن األصل في الجريمة السياسية أن تتجه إلى العدوان على الحقوق السياسية للدولة‪ ،‬وأن‬
‫تحمل على ارتكابها دوافع سياسية تتصل بتوجيه النشاط السياسي للدولة على نحو معين‬
‫]‪ - [25‬ي رى البعض أن مبدأ الشرعية الجنائية لم يظهر إال مع اللحظة التي تحددت فيها سلطات الدولة‪ ،‬وانفصلت كل‬
‫منه عن األخرى‪ ،‬ففي عهد الملكية المطلقة كانت أوامر الملك هي القانون وله مطلق اإلرادة في مجال التجريم والعقاب‪ ،‬وفي‬
‫القرون الوسطى انتقلت هذه السلطة للقضاة وظل الحال كذلك حتى اشتد نقد الفالسفة والكتاب لهذا الوضع‪.‬‬
‫]‪ - [26‬ي رى البعض أن مبدأ الشرعية الجنائية لم يكن معروفا قبل الثورة الفرنسية‪ ،‬وإن كان عرف في مراحل معينة‬
‫من التاريخ‪ ،‬إال انه لم يكن بالشكل الحالي‪ ،‬ويرى هذا االتجاه أن األمر يختلف بخصوص اإلجراءات‪ ،‬حيث لم تترك إطالقا للتحكم‬
‫واألهواء‪ ،‬حيث كان هناك مبدأ فقهي قديم سائد‪ ،‬يعبر ‪ ":‬العدالة ال شيء غير الشكلية"‪.‬‬

‫]‪[61‬‬
‫]‪ - [27‬حيث يرى البعض بأن مبدأ الشرعية الجنائية يتدخل بشكل أو بآخر بمبدأ الفصل بين السلطات‪ ، ،‬حيث إن منح‬
‫القاضي اختصاص التجريم والعقاب نكون قد سلبنا المشرع اختصاصه‪ ،‬كونه ممثل اإلرادة العامة ووحده المختص بتقييد الحقوق‬
‫والحريات‪ ،‬وأن المشرع وحده الذي تنازل له األفراد على مقدار معين لتقرير ذلك نيابة عنهم‪ ،‬عن طريق القانون الجنائي الذي‬
‫يعد المصر الوحيد للتجريم والعقاب‪.‬‬
‫]‪ - [28‬إن كانت هذه هي نظرتنا وتلخيصنا لفلسفة مبدأ الشرعية‪ ،‬فإن بعض الفقه يرى أن المبدأ يقوم على دعامتين‬
‫أساسيتين‪ ،‬هما حماية الحرية الشخصية وحماية المصلحة العامة‪ ،‬حيث قام المبدأ أصال لحماية الحريات الشخصية من صنوف‬
‫التعسف والتحكم االستبداد الذي عانت منه ردحا طويال من الزمن‪ ،‬حيث مثل هذا المبدأ يكفل األمن والطمأنينة لألشخاص‬
‫بتوضيحه المحظور من المباح مسبقا‪ ،‬حتى يتم تفادي عنصر المفاجأة الذي كان سائدا في القدم‪ ،‬وفيما يتعلق بالمصلحة العامة‪،‬‬
‫فمبدأ الشرعية الجنائية بما يقرره من مبدأ انفراد التشريع في مسائل التجريم والعقاب واإلجراءات وكل ما يتعلق بالحقوق‬
‫والحريات الشخصية‪ ،‬يعبر عن فعلية ممارسة ممثلي الشعب االختصاص في مجال الحريات والحقوق‪ ،‬وفي هذا قضت المحكمة‬
‫الدستورية العليا في مصر‪ ،‬أنه ‪ ":‬القيم الجوهرية التي يصدر القانون الجنائي لحمايتها‪ ،‬ال يمكن بلورتها إال من خالل السلطة‬
‫التشريعية التي انتخبها المواطنون لتمثيلهم‪ ،‬وأن تعبيرها عن إرادتهم يقتضيها أن تكون بيدها سلطة التقرير في شأن تحديد األفعال‬
‫التي يجوز تأثيمها وعقوباتها لضمان مشروعيتها‪ ،".‬وهو األمر الذي يقود في النهاية في تنمية الروح االجتماعية وتحقيق التماسك‬
‫االجتماعي وبما يحفظ أيضا ثقة الشعب في دولته وفي األخير تحقيق األمن القانوني الذي يعد أساس االستقرار في المجتمع‪.‬‬
‫]‪ - [29‬ومبد الشرعية الجنائية يعد تجسيدا لدولة القانون‪ ،‬التي يمكن تلخيص معناها بما قررته المحكمة الدستورية العليا‬
‫في مصر في قولها‪ " :‬الدولة القانونية هي التي تتقيد في كافة مظاهر نشاطها – أيا كانت طبيعة سلطاتها‪ -‬بقواعد قانونية تعلو‬
‫عليها وتكون بذاتها ضابطا ألعمالها وتصرفاتها في أشكال مختلفة‪ ،‬ذلك أن ممارسة السلطة لم تعد امتيازا شخصيا ألحد‪ ،‬ولكنها‬
‫تباشر نيابة عن الجماعة ولصالحها‪ ...‬فدولة القانون هي التي يتوافر لكل مواطن في كنفها الضمانة األولية لحماية حقوقه‬
‫وحرياته‪ ،‬ولتنظيم السلطة وممارستها في إطار من المشروعية‪ ،‬وهي ضمانات يدعمها القضاء من خالل استقالله وحصانته‪،‬‬
‫لتصبح القاعدة القانونية محورا لكل سلطة‪ ،‬ورادعا ضد العدوان‪.‬‬
‫]‪ - [30‬غالبية الفقه الجنائي يعرف مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬بأنه‪ ":‬نص التجريم الواجب التطبيق على الفعل"‪ ،‬أو هو ‪:‬‬
‫النص الجنائي الذي يضفي على الفعل أو االمتناع الصفة غير المشروعة‪ ،‬إذ أن السلوك ال يكتسب وصفه كجريمة‪ ،‬إال منذ أن‬
‫تقرر له ذلك بموجب نص قانوني جزائي‪ .‬غير أن هذا التعريف انتقد بشدة‪ ،‬من حيث أنه من غير المعقول‪ ،‬حسب بعض الفقه‪ ،‬أن‬
‫يكون النص القانوني ركنا في الجريمة في حين هو خالقها ومصدر وجودها‪ ،‬وال يمكن للعقل تصور اعتبار الخالق مجرد عنصر‬
‫فيما خلق‪ ،‬وهو االنتقاد الذي دفع ببعض الفقه إلى إعطاء مدلول آخر للركن الشرعي‪ ،‬واعتباره " الصفة غير المشروعة للفعل"‪،‬‬
‫التي إن لم تتوفر له ال حاجة لنا للبحث عن األركان األخرى‪ ،‬حيث أنه الركن الذي بموجبه يحدد المشرع التصرفات والسلوكات‪،‬‬
‫سواء كانت أفعاال أو امتناعات التي يقدر عدم مشروعيتها‪ ،‬وبذلك يكون قد حدد الركن المادي للجريمة‪ ،‬كما انه بموجبه تحدد‬
‫العلقاة بين هذه التصرفات والشخص المجرم ونفسيته وإرادته اتجاهها‪ ،‬وبذلك يكون المشرع قد حدد الركن المعنوي للجريمة‪،‬‬
‫وبذلك يكون النص مصدر للصفة غير المشروعة للفعل‪ ،‬المبين في قانون العقوبات والقوانين المكملة له‪ ،‬مبينا النموذج القانوني‬
‫الذي ينبغي أن يكون عليه الفعل أو االمتناع حتى يعد مجرما‪ ،‬أو تصميمه وبناءه القانوني‪ ،‬وكذا الجزاء الجنائي المقرر له قانونا‪.‬‬
‫وبذلك ال يكون النص خالقا للجريمة وإنما مبينا للتصميم أو النموذج الذي يجب أن يتخذه السلوك حتى يعد جريمة‪ .‬خاصة وأننا‬
‫نرى أن الفعل أو السلوك سابق في وجوده عن النص‪ ،‬وبالتالي المشرع لم يخلق الفعل‪ ،‬بل بين الحاالت التي يكون فيها إتيانه‬
‫غير مشروع‪ ،‬كون األصل في األشياء اإلباحة‪ ،‬واالستثناء التجريم‪.‬‬
‫]‪ - [31‬ويرى البعض أن الكثير من الدراسات الفقهية يفهم منها أن مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬ينطبق فقط على القانون‬
‫الجنائي الموضوعي في مفهومه الضيق ‪ ،stricto sensu‬دون التركيز على القانون اإلجرائي‪ ،‬أي قانون اإلجراءات الجزائية‪،‬‬
‫وهو مفهوم خاطئ يرجع باألساس لمسألة دراسة مبدأ الشرعية الجنائية في إطار دراسة القانون الجنائي الموضوعي‪ ،‬لذا يرى هذا‬
‫االتجاه أن نقول " ال جريمة وال عقوبة وال إجراءات جنائية إال بناء على قانون"‪ ،‬ونرى نحن‪ ،‬أن يمتد األمر حتى مرحلة‬
‫ا لتنفيذ العقابي‪ ،‬ليكون المبدأ يعبر على أنه ال جريمة وال جزاء وال إجراء وال تنفيذ إال بنص قانوني‪.‬‬
‫]‪ - [32‬لذا نجد الفقه يرى بأن قانون العقوبات هو قانون اللصوص‪ ،‬بينما قانون اإلجراءات الجزائية هو قانون الشرفاء‬
‫أو قانون الحقوق والحريات‪.‬‬

‫]‪[62‬‬
‫الفرع الثالث‬
‫االنتقادات الموجهة لمبدأ الشرعية الجنائية‪:‬‬
‫ف ي الحقيقة‪ ،‬مبدأ الشرعية الجنائية لم يكن محل انتقادات في القرن التاسع عشر‪ ،‬أو على األقل خالل‬
‫جزء كبير منه‪ ،‬غير أنه تم البدء بتوجيه االنتقادات له مع ظهور المدرسة الوضعية اإليطالية‪ ،‬والمدارس الالحقة لها‪،‬‬
‫غير أن هذه االنتقادات لم تنل من قيمة وأهمية المبدأ‪ ،‬بوجود الرأي الغالب في الفقه في جانب المدافعين عنه‪ ،‬األمر الذي‬
‫كرسه كمبدأ قانوني ودستوري ودولي‪ ،‬وهو ما نبينه باختصار في النقطتين التاليتين‪.‬‬
‫أوال‪ :‬معارضي مبدأ الشرعية الجنائية‬
‫من بين االنتقادات التي وجهت له‪ ،‬أنه أخذ على المبدأ عدم قدرته على إعطاء تعريف دقيق ومرض للجرائم‪،‬‬
‫حيث هناك العديد من األفعال التي تعد ال اجتماعية وال أخالقية وال يستطيع المشرع اإلحاطة بها‪ ،‬وحصرها من خالل‬
‫نصوصه‪ ،‬مما يجعل الكثير من المجرمين يفلتون من العقاب‪ ،‬لذا يرى البعض اإلفالت من المبدأ أو على األقل إعطاء‬
‫سلطة واسعة للقاضي في تفسير النصوص والقياس عليها‪ .‬كما أخذ عليه‪ ،‬إهماله لشخصية الجاني‪ ،‬كونه هناك الكثير من‬
‫األشخاص الخطرين الذي يجب الحجز عليهم حتى قبل ارتكابهم للجرائم‪ .‬وهناك العديد من األشخاص ال يمكن القضاء‬
‫على الخطورة اإلجرامية لديهم حتى بعد انقضاء مدة عقوبتهم‪ ،‬ومع هذا النوع ال يستطيع ال المشرع وال القاضي التحديد‬
‫المسبق لمدة العقوبة الواجبة التطبيق عليهم‪ ،‬إذ ذلك مرهونا بزوال حالة الخطورة اإلجرامية لديهم‪ .‬وهي االنتقادات التي‬
‫كان لها صدى عميق على التشريعات الجنائية النازية والشيوعية لغاية سنة ‪ ،1958‬حيث استبعد تطبيق المبدأ نهائيا‪،‬‬
‫وجزئيا في التشريع اإليطالي الفاشي‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أنصار مبدأ الشرعية الجنائية‬
‫االنتقادات السابقة‪ ،‬أقلقت كثيرا أنصار مبدأ الشرعية‪ ،‬ودفعهم لعقد العديد من المؤتمرات الدولية للدفاع عنه‪،‬‬
‫مثل المؤتمر الدولي للقانون الجنائي المنعقد في باريس سنة ‪ ،1937‬والمؤتمر الدولي للقانون الجنائي الذي انعقد في‬
‫الهاي في أوت من سنة ‪ 1937‬كذلك‪ .‬وتم الرد على االنتقادات السابقة‪ ،‬حيث رأوا أن إلغائه أو التقييد منه‪ ،‬يعيدنا إلى‬
‫عهد استبدادية القضاة‪ ،‬بل إلى أخطر من ذلك‪ ،‬حيث أنه في تلك العصور كانت هناك على األقل بعض المعايير للقضاة‬
‫ونوع من الضمير يمكنهم من التوفيق بين مصالح المجتمع ومصلحة المتهم على األقل‪ ،‬في حين اليوم ال يراعي القضاة‬
‫إال المعايير السياسية التي تغلبت على مصالح األفراد‪ ،‬مثلما حدث مع الشيوعية والفاشية وكل األنظمة الديكتاتورية‪،‬‬
‫وأما بخصوص االستن اد لحالة الخطورة للقول بمعاقبة األشخاص بمجرد ظهورها لديهم‪ ،‬فتم الرد بالقول‪ :‬من الذي يحدد‬
‫هذه الخطورة‪ ،‬فإذا قلنا القاضي فإننا عدنا لعهد التحكم واألهواء‪ ،‬وإن قلنا المشرع فذلك يعني عودة لمبدأ الشرعية‬
‫الجنائية‪ ،‬كما أنه ال يمكن التسليم بالنقد القائل بأن المبدأ يهمل شخصية الجاني‪ ،‬وذلك بالنظر لما يوفره مبدأ تفريد العقوبة‬
‫المعمول به في جل األنظمة العقابية‪ ،‬الذي يخفف من حدة مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬بإعطاء نوع من الحرية للقاضي في‬
‫مراعاة شخصية الجاني عن طريق وضع حدين للعقوبة يختار بينهما القاضي‪ ،‬وفقا لشخصية الجاني وظروف ارتكابه‬
‫للجريمة وحالته‪ .‬وكذا إقرار نظام التشديد في العقوبة والتخفيف فيها‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬

‫]‪[63‬‬
‫النتائج المترتبة على مبدأ الشرعية الجنائية‬
‫ي رى الفقه أنه تترتب على مبدأ الشرعية الجنائية ثالثة مبادئ أساسية هي‪ :‬انفراد التشريع في تحديد‬
‫الجرائم والعقوبات‪ ،‬والتزام التفسير الضيق للقواعد الجنائية‪ ،‬وعدم رجعية القاعدة الجنائية للتطبيق على ما حدث في‬
‫الماضي من وقائع‪ .‬غير أنه يمكننا القول باختصار‪ ،‬أن مبدأ الشرعية الجنائية في شقه الموضوعي ‪،‬يقتضي في‬
‫نظرنا‪ ،‬أنه ال جريمة وال جزاء إال بنص قانوني صادر عن السلطة المختصة بإصداره وفقا للقانون‪ ،‬وأن‬
‫يكون هذا النص ساريا من حيث الزمان والمكان‪ ،‬وزيادة عن ذلك أال يمون الشخص خاضعا لسبب من أسباب‬
‫اإلباحة‪ ،‬وهو رأي يمليه علينا وضع تقنين العقوبات الجزائري الذي تناول مبدأ الشرعية الجنائية في المادة األولى‬
‫وأردفه بالمادتين ‪ 2‬و‪ 3‬المتعلقتين بسريان النص الجنائي زمانا ومكانا‪ .‬لذا سنحاول أن نبين هذا المبحث من خالل ثالثة‬
‫مطالب‪ ،‬نخصص األول للنتائج القانونية العامة لمبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬في حين الثاني نخصصه لسريان النص الجنائي‬
‫من حيث الزمان كونه اإلطار الذي يبين أهم نتائج مبدأ الشرعية المتمثلة في عدم رجعية القوانين الجنائية‪ ،‬على أن‬
‫نخصص الثالث لسريان النص الجنائي من حيث المكان‪ .‬ونرجئ البحث عن أسباب اإلباحة إلى مبحث ثالث مستقل‪،‬‬
‫على اعتبار أسباب اإلباحة تخرجنا من نطاق التجريم وتعيدنا على نطاق اإلباحة التي ال يحكمه مبدأ الشرعية الجنائية‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫النتائج القانونية العامة لمبدأ الشرعية‬
‫النتائج القانونية العامة التي يرتبها مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬هي انفراد التشريع بمجال التجريم والعقاب‪ ،‬أي أن‬
‫يكون النص الجنائي المكتوب الصادر عن السلطة المختصة بإصداره وفقا للدستور وحده المختص بسن قوانين تتعلق‬
‫بالتجريم والعقاب‪ ،‬وأنه يحظر على القاضي اللجوء إلى التفسير الواسع أو القياس في هذا المجال بالذات‪ ،‬وهو ما نبينه‬
‫في الفروع الثالثة التالية‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫انفراد التشريع بالتجريم والعقاب‬
‫مبدأ الشرعية الجنائية يقوم أساسا على فكرة العقد االجتماعي ومبدأ الفصل بين السلطات‪ ،‬وان المجال‬
‫الخطير المتمثل بكل ما يمس بحقوق وحريات األفراد يجب أن تمارسه السلطة التشريعية التي تمثل الشعب‪ ،‬خاصة وأن‬
‫هذه السيادة جاءت بعد صراع مرير بين السلطة والفرد‪ ،‬وهو الصراع الذي انتقل بعدها ما بين الحكومة والبرلمان‪،‬‬
‫لغاية انتصار البرل مان واستئثاره بمسائل التشريع وإصدار القوانين‪ ،‬وأضحى سيادة القانون من مبادئ قيام دولة القانون‪،‬‬
‫غير أن الوضع الحالي في جل الدول واألنظمة‪ ،‬اشتراك كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية في إصدار القواعد‬
‫القانونية‪ ،‬حيث تصدر السلطة التشريعية القوانين بينما تختص السلطة التنفيذية في إصدار اللوائح‪ ،‬غير أن ذلك ال ينال‬
‫من مبدأ انفراد التشريع‪ ،‬كون القواعد التشريعية التي تصدرها السلطة التشريعية يجب أن تخضع للدستور‪ ،‬واللوائح‬
‫التي تصدرها السلطة التنفيذية يجب أن تخضع للدستور ولقواعد السلطة التشريعية وقوانينها‪ ،‬وأن تدرج القواعد‬
‫القانونية سمة من سمات الشرعية الجنائية‪ .‬وهو موقف كل من فقهاء العصر الحديث ودول النظم الديمقراطية‪ ،‬وقد عبر‬
‫المجلس الدستوري الفرنسي عن ذلك في عبارة قصيرة أوردها في قرار صادر عنه سنة ‪ ،1973‬جاء فيه أن سلب‬
‫الحرية يتعلق بالمشرع‪ .‬بينما أكدت المحكمة الدستورية العليا في مصر‪ ،‬أنه ‪ ":‬الدستور لم يعقد للسلطة التنفيذية‬
‫اختصاصا ما بتنظيم شيء مما يمس الحقوق التي كفلها الدستور‪ ،‬وان هذا التنظيم يتعين أن تتواله السلطة التشريعية بما‬
‫تصدره من قوانين‪ ،‬فال يجوز لها أن تسلبه من اختصاصاها وتحيل األمر برمته إلى السلطة التنفيذية دون أن تقديها في‬
‫ذلك بضوابط عامة وأسس رئيسية تلتزم بالعمل في إطارها‪.".‬‬
‫وانفراد التشريع بالتجريم والعقاب وفقا لما يقضي به مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬يعني اختصاص المشرع وحده‬
‫بمعالجة المسائل التي تدخل في اختصاصه‪ ،‬دون أن تزاحمه في ذلك السلطة التنفيذية بما تملكه من سلطة التشريع عن‬
‫طريق اللوائح‪ ،‬غير انه يمكنها عن طريق اللوائح تنظيم وتنفيذ ما أقره من المشرع من قواعد عامة‪ ،‬ومن المسائل التي‬
‫تدخل في اختصاص المشرع وحده كل ما يتعلق بتنظيم ممارسة الحقوق والحريات ورسم حدودها‪ ،‬فال تملك السلطة‬
‫التنفيذية التدخل في هذا المجال دون إذن من المشرع]‪.[1‬وألن التشريع يعد صادرا من أقدرا السلطات على استجالء‬
‫جوانب الصالح العام‪ ،‬والتعبير عن مقتضياته‪ ،‬كون السلطة التشريعية تعبر عن إرادة الشعب‪ ،‬هو فقط الذي يمكن أن‬

‫]‪[64‬‬
‫يضمن التوازن بين الحقوق والحريات الفردية وبين مقتضيات المصلحة العامة‪ ،‬لذا فإن منطقة الحقوق والحريات‬
‫محرمة على غير المشرع‪ ،‬متروكة له وحده باعتباره ممثال للشعب‪ ،‬ويمارس انفراده هذا طبقا للدستور‪ ،‬وأن يفعل ذلك‬
‫بالكيفية التي حددها الدستور – القواعد القانونية‪ -‬وال يمكن أن تشاركه السلطة التنفيذية في ذلك‪ ،‬إال في الحدود التي‬
‫ينص عليها التشريع طبقا للدستور‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫إتباع قواعد خاصة في تفسير النصوص الجنائية‬
‫ي قصد بالتفسير تلك العملية الذهنية التي يمكن عن طريقها التوصل إلى المعنى الحقيقي للنص القانوني‪،‬‬
‫حتى يتسنى للقاضي تطبيق النص على الوقائع المعروضة عليه للفصل فيها‪ ،‬خاصة في الحالة التي تكون فيها‬
‫النصوص غامضة وتحتمل التأويل أو تثير اللبس‪ ،‬لذا يتعين على القاضي البحث عن المعنى الذي أراده المشرع من‬
‫خالل وضعه لهذا النص‪ ،‬والتفسير عملية قضائية تخص كل النصوص القانونية ال الجزائية فقط‪ ،‬حيث كل نص يحتاج‬
‫إلى استجالء معناه ومحتواه‪ ،‬لدرجة أن بعض الفقه رأى انه‪ :‬ال قضاء بدون تفسير‪ .‬غير أن القواعد الجنائية‪ ،‬وبالنظر‬
‫لمساسها بحقوق وحريات األفراد‪ ،‬نجد الدستور قد خصها بقواعد معينة يجب أن يتم إتباعها في حالة إرادة تفسيرها‪،‬‬
‫خاصة وان اإلخالل بمثل هذه القواعد يخل بمبدأ الشرعية الجنائية ذاته‪ .‬لذا فكيفية تفسير النصوص الجنائية التي‬
‫بطبيعتها تعد نصوصا عامة ومجردة‪ ،‬تكون بحاولة تطبيقها على الوقائع التي تحدث بالنظر لكل واقعة على حدة‪،‬‬
‫فالمشرع إن كان يضع النصوص الجنائية‪ ،‬فالقاضي هو الذي يقع عليه إثبات تطبيقها‪ ،‬لذا فمن الواجب عليه النظر فيما‬
‫إن كانت الواقعة التي حدثت تندرج تحت النص الذي سنه المشرع‪ .‬والتفسير هو البحث عن المعنى الحقيقي للنص العام‬
‫المجرد‪ ،‬بحيث يمكن تطبيقه على الوقائع المادية‪ ،‬وهو شأن كل قاعدة جنائية حتى ولو لم يكن يشوبها غموض أو إبهام‪،‬‬
‫حيث كل قاعدة جنائية ال بد لها من تفسير وشرح]‪ .[2‬وتقيدا بمبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬وتحقيقا للعدالة الجنائية‪ ،‬فإن تفسير‬
‫النصوص الجنائية بمختلف أنواعها تخضع لبعض القواعد الخاصة‪ ،‬حتى ال يكون التفسير اعتداء على مبدأ الشرعية‬
‫الجنائية وبالتالي اعتداء على الحقوق والحريات‪ .‬لذا يرى غالبية الفقه‪ ،‬بأن القاضي في تفسيره النصوص الجنائية يجب‬
‫أن يتبع أسلوب التفسير الضيق أو الحرفي‪ ،‬وأنصار هذا االتجاه وصلوا حتى دعوة إسناد عملية التفسير للسلطة‬
‫التشريعية حتى ال يتحول القاضي إلى مشرع]‪ ،[3‬وهو تبرير يجد سنده في العصر الذي وجد فيه المبدأ‪ ،‬حيث ظهرت‬
‫المدرسة الكالسيكية كرد فعل عن التحكم والتعسف الذي كان يمارسه القضاة آنذاك‪ ،‬لكن يرى البعض أن هذا األمر وهم‬
‫وال يستند ألي أساس قانوني سوى على العامل الزمني الذي نشأ فيه مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬خاصة وان القاضي وهو‬
‫يفسر النصوص الجنائية‪ ،‬ال يعطي رأيه الشخصي وإنما يبحث عن المعنى الحقيقي للقانون‪ ،‬وعن المعنى الموضوعي‬
‫للنص كما أ راده المشرع‪ ،‬ومن جهة ثانية‪ ،‬إلزام القاضي بالتفسير الضيق يفترض قانونا أن تكون النصوص الجنائية‬
‫الصادرة عن المشرع دقيقة شكال ومضمونا‪ ،‬وهو غير الموجود في الواقع‪ ،‬إذ كثيرا ما تتصف النصوص الجنائية بعدم‬
‫الدقة‪ ،‬وينطوي في بعض الحيان على بعض المتناقضات الظاهرية‪ ،‬ثم أن إرادة المشرع التي ضمنها النص‪ ،‬ليست مبدأ‬
‫جامدا محكومة بالوقائع االجتماعية السائدة وقت صياغة النص‪ ،‬بل هي إرادة متطورة بتطور الوقائع االجتماعية التي‬
‫تعد بلورة إلرادة المشرع‪ ،‬أو المصلحة تبلور إرادة المشرع وتبعا لها يتحدد نطاق تطبيق نصوصه‪ ،‬والقانون لم يصنعه‬
‫المشرع ليومه فقط‪ ،‬بل صنع للمستقبل‪ ،‬وعلى هذا النحو ترك أمر التفسير ألجل تحديد معنى النصوص القانونية في‬
‫ضوء التحوالت والتغيرات االجتماعية‪ ،‬والقاضي في ذلك ملزم دائما باإلرادة المفترضة للمشرع افتراضا منطقيا في‬
‫ضوء الوقائع االجتماعية الجديدة‪ ،‬مع احترامه للصيغة التي استعملها المشرع في صياغة النصوص احتراما لمسألة‬
‫االستقرار القانوني‪ ،‬خاصة وان القانون في الكثير من األحيان يبنى على أفكار متحركة ومتطورة بطبيعتها‪ ،‬كأفكار‬
‫النظام العامة واآلداب العامة‪ ،‬ومسالة االختراعات العلمية والتطورات التكنولوجية‪ ،‬ومفهوم المنقول والعقار‪ ...‬وبالتالي‬
‫القاضي في تفسيره للنصوص الجنائية‪ ،‬يجب أن يبحث عن إرادة المشرع من خالل الصيغة التي عبر من خاللها عن‬
‫هذه اإلرادة‪ ،‬وأن يراعي مجمل األحكام الدستورية المتعلقة بالمسألة حتى يكون تفسير القاضي مطابقا للدستور‪.‬‬
‫الفرع الثالث‬
‫حظر القياس في المسائل الجزائية‬

‫]‪[65‬‬
‫ا لقياس هو ‪ ":‬إلحاق واقعة غير منصوص علي حكمها بواقعة أخرى منصوص على حكمها الشتراك‬
‫الواقعتين في علة الحكم"‪ ،‬ذلك أن الحكم يتبع علته وجودا وعدما‪ ،‬في حين يتوسع بعض الفقه في تعريف القياس‪ ،‬بحيث‬
‫ال يقاس فقط على واقعة بعينها منصوص على حكمها‪ ،‬ولكن على النظام القانوني في مجمله‪ ،‬ووفقا لذلك هناك نوعين‬
‫وهو‬ ‫من القياس‪ ،‬قياس شرعي ‪ Analogie légale‬وقياس قانوني ‪ .Analogie juridique‬القياس الشرعي‪،‬‬
‫قياس واقعة لم يرد نص بحكمها على واقعة أخرى منصوص عليها‪ ،‬الشتراك الواقعتين في نفس العلة‪ ،‬فيطبق على‬
‫الواقعة غير المنصوص على حكمها نفس حكم الواقعة المنصوص عليها‪ .‬وأما القياس القانوني‪ ،‬هو أن تلحق واقعة‬
‫غير منصوص على حكمها ليس بواقعة أخرى بعينها‪ ،‬ولكن بمجمل المبادئ العامة وروح القوانين‪ ،‬وتدخل في هذا‬
‫االعتبار‪ ،‬المعطيات األخالقية والدينية واالجتماعية‪ ،‬وهو الذي كان معموال به في العصر السابق على الثورة الفرنسية‪،‬‬
‫واختفى في القرن التاسع عشر مع ظهور مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬لكنه عاد للظهور ثانية في القرن العشرين مع ظهور‬
‫الفقه الجنائي الحديث والمذاهب السياسية االستبدادية‪ ،‬فرأى أنصار المذهب الوضعي أن ضرورات الدفاع االجتماعي‬
‫ضد الظاهرة اإلجرامية تقتضي األخذ بالقياس‪ ،‬وأثر كذلك المذهب الماركسي الذي ال يأخذ بعين االعتبار إال بالمصلحة‬
‫متناسيا حرية الفرد‪.‬‬
‫و إن كان القياس عموما يعد وسيلة من الوسائل التي تستهدف استكمال النقص الذي يشوب النصوص‬
‫القانونية‪ ،‬وذلك عن طريق إيجاد حل لمسألة لم ينظمها القانون عن طريق استعارة الحل من مسألة مماثلة وضع لها‬
‫المشرع حال‪ ،‬فإنه في المجال الجنائي القياس غير جائز بناء على مبدأ ال جريمة وال عقوبة إال بنص‪ ،‬حيث يبعد القياس‬
‫ضمنيا‪ ،‬حيث تقييد الحقوق والحريات بيد المشرع وحده مما ينزع من القاضي مكنة اللجوء للقياس في هذه المسائل‪،‬‬
‫حتى ولو كان النص قاصرا أو القانون مشوب بقصور أو بثغرات‪ ،‬كون مسألة التجريم والعقاب تمس بالحقوق‬
‫والحريات الفردية‪ ،‬التي يعد أمر التشريع فيها من اختصاص المشرع وحده دون أن يزاحمه في ذلك احد‪ .‬وإن أمكنت‬
‫مزاحمته أحيانا وفي بعض االستثناءات‪ ،‬من قبل السلطة التنفيذية بما تملكه من اختصاص التشريع سيما في مجال‬
‫المخالفات‪ ،‬فإن ذلك محكوم بنصوص الدستور‪ ،‬وفي نطاق القواعد العامة للقانون الصادر عن السلطة التشريعية‪ ،‬لكن‬
‫مسألة القياس تجريما وعقابا‪ ،‬مسألة مستبعدة تماما‪ .‬خاصة وأن القياس مهمة مناطة بالقاضي الذي ال يملك إزاء‬
‫النصوص العقابية سوى التطبيق‪ .‬دون خلق الجرائم والعقوبات عن طريق القياس‪.‬‬
‫غير انه تجدر اإلشارة‪ ،‬إلى أن القياس المحظور‪ ،‬هو القياس في مجال التجريم والعقاب‪ ،‬بالنظر لما‬
‫تنطوي عليه المسألة من تقييد ومساس بحريات األشخاص وحقوقهم‪ ،‬سواء تعلق األمر بخلق جريمة جديدة‬
‫أ و ظرف تشديد جديد أو عقوبة جديدة‪ ،‬غير أن النصوص التي تخدم صالح المتهم يجوز فيها القياس‪ ،‬كأسباب اإلباحة‬
‫وموانع المسؤولية أو موانع العقاب‪ ،‬أو األعذار القانونية المعفية أو المخففة‪ ،‬ففي هذه الحاالت يعد القياس استصحاب‬
‫على األصل العام‪ ،‬المتمثل ف ي أن األصل في األشياء اإلباحة‪ ،‬وإن كان القياس ممنوع في التجريم والعقاب كونه قياس‬
‫عن استثناء‪ ،‬فإن القياس في األصل يجوز‪ .‬خاصة وان القياس في مثل هذه الحاالت يخدم الحريات والحقوق وال يمس‬
‫بها أو يقيدها‪ ،‬ومبدأ الشرعية يقتضي حظر القياس خوفا من اإلفتتات على هذه الحقوق والحريات‪ ،‬وما عدا ذلك فهو‬
‫جائز]‪ . [4‬وإن غابت بعض األحكام القضائية في الجزائر التي تؤكد عن المسألة‪ ،‬فإنه محكمة النقض الفرنسية أكدت‬
‫بجواز القياس متى كان في صالح المتهم‪ ،‬حيث سبق وان قاس المشرع الفرنسي على جريمة السرقة بين األزواج‬
‫واألصول والفروع التي ال ت وجب سوى التعويض المدني‪ ،‬على جريمة النصب وخيانة األمانة‪ ،‬قبل أن تتجسد كنصوص‬
‫في تقنين العقوبات ونقل المشرع الجزائري المسألة على قانونا العقابي]‪ .[5‬كما اعتبر المشرع الفرنسي حالة الضرورة‬
‫من أسباب اإلباحة عن طريق القياس على باقي أسباب اإلباحة بالرغم من عدم وجود نص يقرر ذلك‪ ،‬غير أنه‬
‫بخصوص هذه المسألة‪ ،‬فإن المشرع الجزائري لم يتبناها‪ .‬غير أن المشرع الفرنسي وفي قانون عقوباته الجديد لسنة‬
‫‪ 1992‬والذي دخل حيز النفاذ سنة ‪ 1994‬أدخل حال الضرورة ضمن أسباب اإلباحة بموجب نص المادة ‪.7-122‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫تطبيق النص الجنائي من حيث الزمان‬
‫عدم الرجعية كأثر من آثار مبدأ الشرعية الجنائية‬

‫]‪[66‬‬
‫م ن قبيل المسلمات أن النصوص القانونية بما فيها ذات الطابع الجنائي ليست بالنصوص األبدية‪ ،‬بل‬
‫خاضع للتعديل واإللغاء تبعا إلرادة المشرع في مواجهة ظاهرة اإلجرام‪ ،‬والقاعدة القانونية المعروفة عادة‪ ،‬أن النص‬
‫القانوني ال يطبق على ما حدث من وقائع قبل دخوله حيز النفاذ وال بعد أن تم إلغاءه‪ ،‬بل يحكم فقط الوقائع والتصرفات‬
‫التي حدثت في مرحلة سريانه أو فترة نفاذه‪ ،‬والنص الجنائي تحكمه قاعدة عامة معروفة في جل األنظمة القانونية وهي‬
‫القاعدة التي تعد مكملة لمبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬أو نتيجة من نتائجه أو أثر من آثاره‪ ،‬وهي قاعدة عدم رجعية النص‬
‫الجنائي للتطبيق على الماضي‪ ،‬أو قاعدة األثر المباشر والفوري للنصوص الجنائية‪ ،‬غير أنه مثلما هو الشأن بالنسبة‬
‫لكل قاعدة‪ ،‬فإنه يرد عليها استثناء‪ ،‬وهذا االستثناء في المجال الجنائي يعد في حد ذاته مبدءا لم تعرف له فروع القانون‬
‫األخرى نظيرا‪ ،‬أال وهو مبدأ " رجعية القانون األصلح للمتهم"‪ ،‬أو ما عبر عنه المشرع " بالقانون األقل شدة"‪ .‬وبذلك‬
‫تكون المادة الثانية من قانون العقوبات قد تضمنت القاعدة العامة المتمثلة في عدم رجعية النصوص الجنائية‪ ،‬وذلك في‬
‫الفقرة األولى منها‪ ،‬في حين تضمنت الفقرة الثانية منها االستثناء الذي قلنا انه مبدءا في حد ذاته‪ ،‬وهو رجعية القانون‬
‫األصلح للمتهم‪ ": ،‬ال يسري قانون العقوبات على الماضي إال ما كان منه أقل شدة"‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫قاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية‬
‫تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية الذي يقضي بأن تكون عملية التجريم والعقاب بموجب النصوص‬
‫التشريعية المكتوبة‪ ،‬الصادرة عن السلطة المختصة بذلك احتراما لمبدأ الفصل بين السلطات‪ ،‬وتطبيقا لدولة القانون‪،‬‬
‫وتحقيقا لمبدأ سمو هذا القانون‪ ،‬فإن كل ذلك‪ ،‬وحتى المنطق يقضي أن يكون هذا القانون موجودا‪ ،‬أي أن يكون النص‬
‫سابقا عن الواقعة التي اقترفها الجاني‪ ،‬كون مبدأ الشرعية يقتضي ضمنيا تخيير الشخص بين ما هو مباح وما هو‬
‫محظور‪ ،‬فعلى األقل المحظور يجب أن يكون مبينا مسبقا‪ .‬لذا فالمنطق يقتضي أن كل قانون ال يحكم إال الوقائع التي‬
‫حدثت في ظل نفاذه وسريان ه‪ ،‬وال يمتد تطبيقه على ما وقع أو حدث من وقائع سابقة عن نشره وترتيب آثار سريانه]‪،[6‬‬
‫وفي الحقيقة القاعدة ال يختص بها القانون الجنائي وحده‪ ،‬بل هي قاعدة معروفة في كل القوانين األخرى‪ ،‬بمختلف‬
‫أقسامها وفروعها‪ ،‬غير أن اختصاص هذه األقسام والفروع وعدم مساسها بالحقوق والحريات الفردية لم يجعل من عدم‬
‫الرجعية مسألة تنال االهتمام مثل االهتمام الذي القته في المجال الجنائي‪ ،‬وبالتالي تقضي القاعدة أن القانون يحكم فقط‬
‫األفعال التي تكون ال حقة أو على األقل معاصرة للحظة سريانه‪ ،‬دون تلك التي حصلت قبل ذلك‪ ،‬ولحظة سريان القانون‬
‫قد يكون بالنص صراحة على هذا التاريخ‪ ،‬أو وفقا للقواعد العامة في سريان النصوص القانونية‪ ،‬وذلك في خالل ‪24‬‬
‫ساعة من نشره في الجريدة الرسمية أو من وصول هذه األخيرة للمناطق البعيدة أو التي كانت تشهد ظروفا استثنائية‬
‫حالت دون وصول الجريدة الرسمية في وقتها‪.‬‬
‫وبالتالي تعد قاعدة عدم الرجعية‪ ،‬أو قاعدة األثر الفوري أو األثر المباشر لقانون العقوبات‪ ،‬من القواعد‬
‫األساسية المكملة لمبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬والتي تقضي وتهدف إلى عدم مفاجأة األشخاص بتجريم أفعال كانت مباحة‬
‫وقت ارتكابها‪ ،‬غير أنه للقاعدة استثناء نصت عليه الفقرة الثانية من تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬وهي قاعدة رجعية‬
‫القانون األقل شدة – على حسب تعبير المشرع الجزائري‪ -‬أو قاعدة القانون األصلح للمتهم حسب التسمية التي يطلقها‬
‫الفقه الجن ائي‪ .‬وهي االستثناء الذي يعد في حقيقته مبدءا في قانون العقوبات‪ ،‬الذي نتناوله في النقطة الموالية‪.‬‬

‫الفرع الثاني‬
‫القانون األصلح للمتهم (القانون األقل شدة)‬
‫إن كانت قاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية‪ ،‬قاعدة تعرفها غالبية الفروع القانونية األخرى‪ ،‬فإن‬
‫قاعدة رجعية القانون األقل شدة‪ ،‬وفقا لتعبير المشرع الجزائري‪ ،‬أو القانون األصلح للمتهم وفقا لتعبير فقهاء القانون‬
‫الجنائي‪ ،‬تعد في نظرنا قاعدة جنائية خالصة‪ ،‬يختص بها قانون العقوبات دون غيره من فروع القانون األخرى‪ ،‬التي إن‬
‫أراد المشرع سريانها على الماضي نص على ذلك صراحة‪ ،‬في حين أنها في المجال الجنائي تعد مسألة قانونية‪،‬‬

‫]‪[67‬‬
‫القاضي ملزم بإعمالها دون الحاجة للنص عليها‪ ،‬وذلك أن صالحية القانون للمتهم بأي وجه من األوجه يعد عودة نحو‬
‫األصل وهو البراءة‪ ،‬وبالتالي األصل ال يحتاج على نص بل يقتضيه المنطق]‪ .[7‬غير أنه لتطبيق فكرة القانون األصلح‬
‫للمتهم شروط وضوابط ومعايير يتعين تناولها في النقاط التالية‪.‬‬
‫أوال‪ :‬شروط تطبيق القانون األصلح للمتهم‬
‫ليستفيد المتهم من القانون األصلح للمتهم يجب أن نشير إلى بعض المسائل الهامة‪ ،‬فالقول بهذا االستثناء‬
‫يعني بالضرورة انه يوجد هناك قانونان‪ ،‬القانون القديم وهو الذي في ظله ارتكب المتهم جريمته‪ ،‬وقانون جديد صدر‬
‫قبل أن يصدر حكم نهائي بات في القضية‪ ،‬وإال لوال صدور هذا القانون الجديد لما طرحت مسألة القانون األصلح للمتهم‬
‫على بساط البحث‪ ،‬ومن ثم يجب أن يكون هذا القانون يحمل ما يوحي أنه أصلح للمتهم‪ ،‬إذ إذا كان أسوأ فال مجال‬
‫لتطبيقه أصال‪ ،‬وبالتالي يمكن تلخيص شروط تطبيق القانون األصلح للمتهم في الشرطين التاليين‪ :‬أن يكون القانون‬
‫الجديد قد صدر قبل صدور حكم نهائي بات في القضية‪ ،‬وأن يكون القانون الجديد أقل شدة أو أصلح للمتهم من وجهة‬
‫نظر القانون ال من وجهة نظر المتهم‪ .‬وهو ما نبينه في نقطتين مستقلتين‪ ،‬غير أننا ننبه بأن هناك شرط ثالثا ضمني ال‬
‫نحاول تفصيله‪ ،‬على اعتبار أنه شرط بديهي‪ ،‬وهو أن نكون فعال أمام تنازع للقوانين أي أن يصدر قانون جديد قبل‬
‫صدور حكم نهائي بات على الشخص‪ ،‬ألننا إن كنا أمام قانون واحد فهو الواجب التطبيق سواء كان شديدا أو كان في‬
‫مصلحة المتهم‪.‬‬
‫‪ -1‬أن يكون القانون الجديد أقل شدة للمتهم ( أو أصلح للمتهم)‪:‬‬
‫و هي أن يكون القانون الجديد الذي صدر ليزاحم القانون القديم الذي حدثت في ظله الجريمة أصلح‬
‫للمتهم‪ ،‬وبالتالي فالمسألة تتعلق بتنازع القوانين‪ ،‬وعلى القاضي أن يختار منهما أي قانون يحقق مصلحة المتهم بإعمال‬
‫معايير وضوابط قانونية تمكنه من الحكم على صالحية القانون‪ ،‬حيث األمر غير متروك لتقدير المتهم وال الختياراته‪،‬‬
‫إذ ما قد يراه المتهم في صالحه‪ ،‬قد ال يكون كذلك من وجهة نظر القانون‪ ،‬كما أن مسألة اختيار القانون األصلح للمتهم‬
‫مسألة موضوعية يستقل بتقديرها قاضي الحكم في ظل الظروف المحيطة بالقضية وشخصية الجاني]‪ ،[8‬إذ لهذه‬
‫األخيرة دور كبير في تحديد القانون األصلح للمتهم‪ ،‬سيما في الحاالت الغامضة التي أثارت الكثير من الجدل في الفقه‬
‫حول تحديد صالح القانون للمتهم‪ ،‬لذا وجدت الكثير من األسس والضوابط الموضوعية المستندة أحيانا لبعض الظروف‬
‫الشخصية‪ ،‬التي من شأنها تمكين القاضي من إجراء مقارنة قانونية بين القانونين وتحديد أيهما أصلح لحالة المتهم في‬
‫ظل ظروفه التي ارتكب فيها الجريمة‪.‬‬
‫أ‪ -‬الضوابط المعمول بها لتحديد القانون األصلح للمتهم‪:‬‬
‫سبق وأن رأينا انه من خصائص القاعدة أو النص الجنائي أنه يتألف من شقين أساسيين‪ ،‬شق التجريم‬
‫وشق الجزاء‪ ،‬وأن األولوية للشق األول على الثاني‪ ،‬كون األخير ما هو إال أثر مترتب عن اقتراف شق التجريم‬
‫المتضمن النهي أو األمر‪ ،‬وأن توقيع الجزاء تحصيل حاصل‪ ،‬لذا فمسألة تنازع القوانين من حيث الزمان‪ ،‬والبحث في‬
‫أي منهما أصلح للمتهم‪ ،‬قد ينظر فيه لشق التجريم‪ ،‬كما قد ينظر فيه لشق الجزاء‪ ،‬ووفقا للقانون األولوية دوما لشق‬
‫التجريم على شق الجزاء‪ ،‬أي أولوية شق التجريم على شق الجزاء إعماال للمادتين ‪ 27‬و‪ 5‬من قانون العقوبات‬
‫الجزائري]‪ ،[9‬وتنازع القانونيين قد يكون من حيث شق التجريم وقد يكون من حيث شق العقاب‪ ،‬أي أن التعديل الذي‬
‫مسه القانون الجديد قد يتعلق بأي منهما‪ ،‬وقد يكون متعلقا بكال الشقين‪ ،‬لذا أوجد الفقه والقضاء معايير تساعد القاضي‬
‫بخصوص الشق األول – شق التجريم‪ -‬وأخرى تعينه في المقارنة بخصوص شق الجزاء‪.‬‬
‫أ‪-1/‬الضوابط المستمدة من األحكام الخاصة بالتجريم‬
‫تطبيقا للمادة ‪ 27‬من تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬التي قسمت الجرائم إلى جنايات ثم جنح ثم مخالفات‪،‬‬
‫وبالنظر للمادة ‪ 5‬من ذات القانون التي بينت العقوبات األصلية لكل من هذه األنواع‪ ،‬فإن القاضي ملزم بإتباع الترتيب‬
‫الوارد بهذه المواد‪ ،‬وبذلك يكون القانون الجديد أصلح للمتهم في الحاالت التي نعطي عليها أمثلة في النقاط التالية‪ ،‬مع‬
‫العلم أن المسألة تنأى عن الحصر‪ ،‬كون شق التجريم ترتبط به العديد من األفكار المتعلقة باإلباحة والمسؤولية وموانعها‬
‫والنظريات المعمول بها بخصوص الشروع واالشتراك والمساهمة‪ ،‬وما إلى غير ذلك من أفكار‪ ،‬غير أن أهم الحاالت‬
‫التي يمكن الحكم فيها على القانون أنه أصلح للمتهم نذكر‪:‬‬

‫]‪[68‬‬
‫‪ -‬ح الة إباحة القانون الجديد للفعل الذي كان مجرما بالقانون القديم‪ ،‬وهي من أهم الحاالت التي يمكن فيها للمتهم‬
‫االستفادة من القانون الجديد حتى ولو كان صدر عليه حكم نهائي بات‪ ،‬أي دون انتظار تحقق الشرط الثاني لتطبيق‬
‫قاعدة القانون األصلح للمتهم‪.‬‬
‫‪ -‬إ ضافة القانون الجديد للنص القديم سبب من أسباب اإلباحة أو مانع من موانع المسؤولية يستفيد منه المتهم في‬
‫الظروف المحيطة بالجريمة‪ ،‬أو إضافة مانع من موانع العقاب – وإن كان هذا الشق يتعلق بالجزاء ال بشق التجريم‪-‬‬
‫‪ -‬إ ضافة النص الجديد للجريمة ركنا لم يكن مشترط في النص القديم‪ ،‬ويستفيد من هذه اإلضافة المتهم‪ ،‬أي‬
‫تخلف في حقه الركن الجديد الذي اشترطه النص الجديد‪.‬‬
‫‪ -‬إعادة تكييف الفعل من الوصف األشد إلى الوصف األخف‪ ،‬كأن كان الفعل جناية وأصبح جنحة‪ ،‬أو كان‬
‫جنحة وأصبح مخالفة‪ .‬وذلك بغض النظر عن مدة العقوبة‪.‬‬
‫‪ -‬إلغاء فكرة العقاب على الشروع في الجريمة‪ ،‬إذ كان النص القديم يعاقب على الشروع في الجنحة وألغاه‬
‫النص الجديد‪ ،‬وكان المتهم في وضع المتابعة ألجل الشروع في الجريمة وفقا للنص القديم‪.‬‬
‫ه ذا ونشير أن الحاالت السابقة تعد من بين الحاالت األكثر ووضحا‪ ،‬وال يعني سردها بأنها الوحيدة‪،‬‬
‫فأمر القانون األصلح للمتهم قد يتعلق بكافة أفكر القانون الجنائي‪ ،‬واإللمام بها يتعين التفرغ من دراسة القانون بأكمله‬
‫أ‪ - 2/‬الضوابط المستمدة من األحكام الخاصة بالجزاء‬
‫و هي الحاالت التي يكون فيها التعديل الوارد بالنص الجديد متعلقا بشق الجزاء‪ ،‬دون الشق المتعلق‬
‫بالتجريم‪ ،‬وهي الحاالت التي تنأى بدورها عن الحصر وتتعلق بكامل نظرية الجزاء الجنائي‪ ،‬غير أوضح الحاالت التي‬
‫درج الفقه على إعطاءها سنوضحها‪ ،‬غير أننا نؤكد بأن القاضي ملزم في تحديد القانون األصلح للمتهم بنظرة المشرع‬
‫العامة وترتيبه للجزاءات وأنواعها وقيمتها ومدتها‪ ،‬ال بما يراه المتهم انه أنسب وأصلح له‪ ،‬لذا فالترتيب الوارد بالمادة ‪5‬‬
‫من تقنين العقوبات الجزائري ملزم للقاضي وإن كان في الغالب ال يخدم مصلحة المتهم‪ .‬ومن أهم ما درج الفقه على‬
‫إعطاءه من حاالت وأمثلة نذكر‪.‬‬
‫‪ -‬ح االت تخفيف النص الجديد للعقوبة‪ ،‬ويجب مراعاة التخفيف المتدرج المنصوص عليه في المادة ‪ 5‬من‬
‫قانون العقوبات الجزائري‪ ،‬حيث نجد اإلعدام‪ ،‬المؤبد‪ ،‬السجن المؤقت من خمس سنوات إلى عشرين سنة‪ ،‬الحبس من‬
‫شهرين إلى خمس سنوات‪ ،‬الغرامة التي تتجاوز ‪ 20.000‬دج‪ ،‬الحبس من يوم إلى شهرين‪ ،‬الغرامة من ‪ 2000‬دج إلى‬
‫‪ 20.000‬دج]‪.[10‬‬
‫‪ -‬ف ي حالة اتحاد العقوبة في الجنس والنوع‪ ،‬فالقانون األصلح هو الذي ينقص من المدة‪ ،‬كان كانت العقوبة في‬
‫كال القانونين السجن أو الحبس‪ ،‬فإن القانون األصلح الذي ينقص من المدة‪ ،‬وإن كانت العقوبة الغرامة في كال‬
‫القانونيين‪ ،‬فإن القانون األصلح هو الذي ينقص من مقدارها‪.‬‬
‫‪ -‬ك ما يعد القانون الصلح للمتهم‪ ،‬القانون الذي ينقص من عدد العقوبات‪ ،‬كأن كانا عقوبتين فجعلهما واحدة‪،‬‬
‫أو كانت إجباريتين فأعطى الخيار للقاضي‪.‬‬
‫‪ -‬إ ذا جاء القانون الجديد بوقف التنفيذ‪ ،‬أو أضاف مانع من موانع العقاب‪ ،‬أو عذر مخفف سواء كان قضائي أو‬
‫قانوني‪.‬‬
‫‪ -‬إ لغاء القانون الجديد للعقوبات التبعية أو التكميلية بعدما كان القانون القديم يتضمنها‪.‬‬
‫‪ -‬غير أنه هناك إشكال‪ ،‬يت مثل في كون العقوبات في غالبية التشريعات مبنية على نظام الحدين‪ ،‬حد أدنى وحد‬
‫أقصى وللقاضي السلطة التقديرية في الحكم بينهما‪ ،‬أو حتى النزول عن الحد األدنى إعماال لظروف التخفيف ( المادة‬
‫‪ 53‬من قانون العقوبات وما بعدها من مواد مكررة)‪ ،‬وهنا يكون أي قانون أنزل أحد الحدين سواء كان األدنى أو‬
‫األقصى هو األصلح للمتهم‪ ،‬وأي منهما رفع هذين الحدين هو األسوأ‪ ،‬غير أن اإلشكال يكمن في الحالة التي يعدل فيها‬
‫الحدين‪ ،‬وهنا ال إشكال في الذي ينزل بهما معا‪ ،‬فهو دوما األصلح‪ ،‬كما أنه ال إشكال بخصوص القانون الذي يصعد‬
‫بهما معا فهو دوما األسوأ‪ ،‬لكن اإلشكال في الذي يرفع من أحدهما وينزل من اآلخر‪ ،‬كالرفع من الحد األدنى والنزول‬
‫بالحد األقصى‪ ،‬أو العكس‪ ،‬فهنا ثار جدل فقهي انتهى واستقر في نهاية المطاف أن القاضي ينظر فيه إلى حالة المتهم‪،‬‬
‫فإن كانت ظروفه الشخصية تستحق التخفيف فالقانون الذي ينزل بالحد األدنى أصلح له حتى وإن رفع من الحد‬

‫]‪[69‬‬
‫األقصى‪ ،‬وذلك لكونه جدير بالحد األدنى‪ ،‬مهما زاد الحد األقصى‪ ،‬وإن كانت ظروفه الشخصية تقود للتشديد كان يكون‬
‫عائدا فالقانون الذي ينزل بالحد األقصى هو الصلح له حتى وإن رفع من الحد األدنى كونه جدير بالحد األقصى‪.‬‬
‫كما يثور اإلشك ال حول القانون الذي يجمع بعض القواعد التي تعد في صالح المتهم‪ ،‬والبعض اآلخر منها في‬
‫ضد مصلحته‪ ،‬فهنا الحل يكمن في البحث عما إذا كان القانون قابل للتجزئة من عدمها‪ ،‬والقابلية للتجزئة تعني إمكانية‬
‫تطبيق بعض قواعده في معزل عن األخرى‪ ،‬على عكس القانون الذي يتضمن قواعد تعد كل واحد ال يقبل التجزئة‪ ،‬مثل‬
‫القانون الذي يجعل العقوبة التكميلية التي كانت وجوبية وجعلها جوازية‪ ،‬مع رفعه لمدتها‪ ،‬فهنا يجب النظر لظروف‬
‫القضية على حدا‪ ،‬فإن كانت ظروف الجاني تقتضي التخفيف اعتبر القانون الجديد أصلحا له بالرغم من كونه رفع من‬
‫مدة العقوب ة التكميلية كونه أجدر بتطبيق ظروف التخفيف‪ ،‬والعكس غير صحيح‪ ،‬لذا فمسألة تقدير القانون األصلح‬
‫للمتهم‪ ،‬في القوانين القابلة للتجزئة بناء على العالقة المنطقية بين مختلف النصوص القانونية‪ ،‬والسياسة الجنائية‪ ،‬وفي‬
‫ضوء اعتبارات شخصية ينظر فيها لشخصية الجاني‪ ،‬وليس بنظرة موضوعية مجردة‪ ،‬وبناء على ذلك يقدر القاضي‬
‫القانون‪ ،‬ويمتنع عليه تطبيق القانون الشد بأثر رجعي‪ ،‬عكس القانون األصلح‪.‬‬
‫وهناك إشكالية أكثر تعقيدا‪ ،‬تتمثل في تنازع ثالثة قوانين‪ ،‬خاصة إذا ارتكبت جريمة في ظل قانون أشد‪ ،‬ثم‬
‫صدر قبل الحكم النهائي قانون أقل شدة‪ ،‬وقبل صدور حكم نهائي في القضية صدر قانون ثالث أشد من سابقه وفي ظله‬
‫سيحاكم المتهم‪ ،‬فأي قانون من بين هذه القوانين الثالثة سيطبق؟‪ ،‬السائد فقها وقضاء‪ ،‬هو تطبيق القانون الثاني الذي يعد‬
‫األصلح للمتهم‪ ،‬خاصة وأن عدم صدور حكم على المتهم في ظل هذا القانون مرده تأخر اإلجراءات والمحاكمة‪ ،‬وهي‬
‫مسألة ال دخل للمتهم فيها‪ ،‬لذا ال يجب أن نحمله عبء تأخر اإلجراءات وبطء المحاكم في إصدار األحكام‪ ،‬إال أنه‬
‫بالرغم من وجاهة هذا الرأي ومنطقيته‪ ،‬إال أن الفقه يرى األخذ بوجهة النظر هذه بحذر وتحفظ‪ ،‬كون التنازع في‬
‫األصل يقوم بين قانونين ال أكثر‪ ،‬وهما القانون الذي حدثت في ظله الواقعة المتابع الشخص من أجلها‪ ،‬والقانون الساري‬
‫وقت المحاكمة‪ ،‬لذا فليس للمتهم المطالبة بالقانون الثاني‪ -‬الوسط‪ -‬ألنه وضع المتهم في ظل سريان هذا القانون لم يتغير‪،‬‬
‫حيث لم يرتكب في ظله الجريمة‪ ،‬كما أنه ال يحاكم في ظله‪.‬‬
‫كما أن إشكال بطء اإلجراءات قد يتسبب في بعض األوضاع غير المنطقية‪ ،‬حيث أن مسألة التنازع بين‬
‫القوانين وقاعدة تطبيق القانون األصلح للمتهم‪ ،‬تثير إشكال في الحالة التي ترتكب فيها جريمتين من نفس النوع‪ ،‬من‬
‫شخصين‪ ،‬في حين يكون قد صدر على أحدهما حكم نهائي بات حائز لقوة الشيء المقضي فيه‪ ،‬وفي هذه الحالة ينتفي‬
‫ركن هام من أركان تطبيق القانون األصلح للمتهم‪ ،‬في حين تأخرت مع اآلخر اإلجراءات‪ ،‬ولم يصدر ضده حكم نهائي‪،‬‬
‫وبالتالي صدر قانون جديد يعد أصلحا له‪ ،‬ففي هذه الحالة سيستفيد منه‪ ،‬مما يخلق وضعين قانونيين شاذين‪ ،‬حيث يسرى‬
‫على واقعتين من نفس النوع حدثتا في ذات الوقت قانونيين مختلفين‪ ،‬مما يؤدي إلى الحكم على المتهمين بعقوبتين‬
‫مختلفتين‪ ،‬إحداهما أشد من األخرى‪ ،‬أو أن يدان أحدهما ويبرأ اآلخر‪ ،‬خاصة لو أن القانون الجديد قد أباح الفعل‪ ،‬وهنا‬
‫يرى البعض أنه ال سبيل إلى إصالح هذا الوضع‪ ،‬إال عن طريق إجراء العفو‪ ،‬وهو إجراء في جوهره وطبيعته يختلف‬
‫عن مسألة التخفيف من العقوبة أو إلغائها أو إباحة الفعل‪ .‬لذا نجد بعض التشريعات تضمنت معالجة لهذه المسألة‪ ،‬وذلك‬
‫بإعادة النظر في القضية ككل‪ ،‬مثل القانون الدنمركي في المادة الثالثة من تقنين عقوباته‪ ،‬والمادة ‪ 24‬من قانون العقوبات‬
‫اإلسباني‪ ،‬والمادة ‪ 6‬من قانون العقوبات البرتغالي‪ ،‬والمادة ‪ 2‬من قانون العقوبات البولندي‪ ،‬وهو االتجاه الذي تبناه‬
‫المؤتمر الدولي للقانون الجنائي المنعقد في برلين سنة ‪.1935‬‬
‫‪ -2‬أال يكون قد صدر حكم نهائي بات في القضية‬
‫الشرط الثاني لتطبيق القانون األصلح للمتهم‪ ،‬بعد توفر الشرط األول المتمثل في تزاحم قانونين‪ ،‬هو أال‬
‫يكون قد صدر في القضية حكم نهائي بات‪ ،‬والحكم النهائي البات هو الحكم الذي ال يقبل أي طريق من طرق الطعن‪،‬‬
‫سواء العادية أو غير العادية‪ ،‬وهو أمر بديهي ومنطقي‪ ،‬حيث ال يجب أن يتم المساس بقرارات العدالة النهائية احتراما‬
‫لألوضاع والمراكز القانونية التي خلقتها‪ ،‬واحتراما لمبدأ حجية الشيء المقضي به المعمول بها في القانون أي كان‬
‫نوعه‪ ،‬وفي المجال الجنائي تجنبا لمحاكمة الشخص عن الفعل الواحد مرتين‪.‬‬
‫غير أن هذا الشرط‪ ،‬وكما سبقت اإلشارة‪ ،‬ال يمس بالحالة التي يباح فيها فعل كان مجرما بموجب قانون‬
‫قديم عدل أو ألغي‪ ،‬بالرغم من أن الموضوع قد أثار خالفا وجدال فقهيا حادا‪ ،‬إال أنه استقر في نهاية المطاف‪ ،‬على إفادة‬

‫]‪[70‬‬
‫المتهم بالقانون الذي جاء باإلباحة‪ ،‬بحجة أنه ال فائدة من العقاب على فعل أصبح مباحا في نظر المجتمع‪ ،‬غير أن غالبية‬
‫الدول العربية تضمنت قوانينها العقابية حال قانونيا صريحا للمسألة‪ ،‬تبنت فيه الرأي السابق‪ ،‬ومن أمثلتها المادة ‪ 3/5‬من‬
‫تقنين العقوبات المصري‪ ،‬والمادة ‪ 2‬من تقنين العقوبات اللبناني‪ ،‬والمادة ‪ 2‬من تقنين العقوبات السوري‪ ،‬على عكس‬
‫المشرع الجزائري الذي لم يضمن قانونه نصا خاصا بالمسألة أسوة بالمشرع الفرنسي‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬االستثناءات الواردة على قاعدة رجعية القانون األصلح للمتهم‬
‫إ ن كانت قاعدة رجعية القوانين األصلح للمتهم في المجال الجنائي‪ ،‬تمثل استثناء على قاعدة عدم رجعية‬
‫القوانين‪ ،‬فهذا االستثناء ترد عليه استثناءات – بمعنى العودة للقاعدة‪ -‬وهي أنه ال رجعية للقوانين اإلجرائية والمحددة‬
‫المدة حتى ولو كانت أصلح للمتهم‪ .‬كون القوانين اإلجرائية قوانين تنظم مرفق العدالة وال خيار للمتهم وال فائدة له في‬
‫التنظيم‪ ،‬والمسألة تخص الدولة ال األفراد‪ ،‬والقوانين المحددة المدة التي يسنها المشرع لمواجهة ظروف وحاالت مؤقتة‬
‫تقتضي طبيعتها وظروفها ذلك‪ ،‬ال يمكن تقييدها باستثناء الرجعية كون ذلك يفقدها الهدف الذي ألجله سنها المشرع‪،‬‬
‫وتكون سببا لتهرب األفراد ومناورته لغاية انتهاء مدة القانون لالستفادة بفكرة القانون األصلح للمتهم‪ .‬وهو ما نوضحه‬
‫في النقطتين التاليتين‪.‬‬
‫‪ -1‬القوانين المؤقتة أو المحددة المدة(‪)Les lois temporaires‬‬
‫وهي القوانين التي يصدرها المشرع لمواجهة فترات استثنائية معينة أو أوضاعا محددة‪ ،‬وهي مستثناة‬
‫من رجعية القانون األصلح للمتهم‪ ،‬حتى ولو لم يكن قد صدر ضده حكم نهائي حائز لقوة الشيء المقضي به‪ ،‬والقول‬
‫بخالف ذلك يفقد هذه القوانين معناها والهدف الذي كان يتوخى منها‪ .‬غير أن ما تجدر اإلشارة إليه‪ ،‬هو أن القوانين‬
‫المؤقتة تختلف عن القوانين االستثنائية ‪ Les lois exceptionnelles‬أو القوانين الظرفية ‪Lois de circonstances‬‬
‫ح يث أنها قوانين فعال مؤقتة بطبيعتها‪ ،‬غير أنها سنت لمواجهة ظروف معينة دون أن تحدد مدة معينة للعمل بها‪ ،‬بل‬
‫ذلك مرهون بالمدة التي يستغرقها الظرف الذي سنت ألجله‪ ،‬وهو الظرف الذي في العادة ما يكون سياسيا أو اقتصاديا‪،‬‬
‫حيث ال ينتهي العمل بها إال بصدور قانون يلغي العمل بها‪ ،‬على عكس القوانين المؤقتة التي تتضمن تاريخ سريانها‪،‬‬
‫وهنا يرى الغالبية تطبيق قاعدة القانون األصلح للمتهم‪ ،‬حيث ال يمكن اتهام الشخص بتحايله اتجاهها رغبة منه في كسب‬
‫الوقت حتى إلغائها‪ ،‬كونه ال يعلم بتاريخ إلغائها‪ ،‬على عكس القوانين المؤقتة التي يعمل فيها المتهم ذكائه ويتحايل على‬
‫القوانين حتى ينتهي العمل بها استفادة من قاعدة القانون الصلح للمتهم‪ ،‬لذا حرم منها في غالبية القوانين الجنائية‪.‬‬
‫‪ -2‬القوانين اإلجرائية‪:‬‬
‫ت ثار مسألة تنازع القوانين اإلجرائية من حيث الزمان‪ ،‬وهي القوانين التي يحكمها مبدأ األثر‬
‫أ و السريان الفوري‪ ،‬غير أن المبدأ تعترضه بعض الصعوبات العملية في التطبيق‪ ،‬ويرى فقهاء القرن التاسع عشر أن‬
‫كل إجرا ء يجب أن يكتمل في ظل القانون الذي شرع أثناء سريانه‪ ،‬وبالبعض يرى المقارنة بين القوانين اإلجرائية‬
‫وتطبيق األصلح منها مثلما هو الشأن بالنسبة للقوانين الجنائية الموضوعية‪ ،‬غير أن غالبية الفقه يرى وجوب التطبيق‬
‫الفوري للقوانين اإلجرائية دون رجعية‪ ،‬وال مجال إلعمال مبدأ القانون األصلح للمتهم بخصوص هذا النوع من‬
‫القوانين‪ ،‬كونها قوانين صدرت ألجل المصلحة العامة‪ ،‬ومن أجل مصلحة المتهم أيضا وبالتالي يفترض فيه انه أفضل‬
‫من سابقه من حيث التنظيم القضائي وإظهار الحقيقة بكل جوانبها‪ ،‬وأن القوانين اإلجرائية ال تعد حقا مكتسبا يطالب‬
‫باالحتفاظ بها‪ ،‬غير أن ذلك أثار جدال فقهيا‪ ،‬وهو الجدل الذي لم يكن بسهولة وضع هذا الحل الذي تتفق عليه غالبية‬
‫القوانين‪ .‬لذا رأى البعض بأنه يجب أن يكون هناك معيار تبنى عليه مسألة التفرقة بخصوص التطبيق الفوري للقوانين‬
‫اإلجرائية‪ ،‬سيما الوقائع التي خضعت لحكم ابتدائي‪ ،‬حيث يرى البعض أن يكون هذا الحكم معيارا للتمييز‪ ،‬حيث يطبق‬
‫القانون الجديد إن لم يكن قد صدر حكم ابتدائي في القضية‪ ،‬وإن كان قد صدر فيها حكما ابتدائيا فيجب اتباع اإلجراءات‬
‫في ظل القانون القديم تجنبا لكثرة المصروفات وحفاظا على الحقوق التي يكون قد اكتسبها المتهم من خالل هذا الحكم‪.‬‬
‫كما أن طرق الطعن في األحكام القضائية‪ ،‬يحكمها القانون الذي صدرت في ظله‪ ،‬كونه القانون الذي يكشف عن طبيعة‬
‫هذا الحكم ونوعه ومدى قابليته للطعن من عدمه ونوعية هذا الطعن‪ ،‬ومواعيده‪ ،‬واألشخاص الذين يجوز لهم ذلك‬
‫وأسباب بناء الطعن‪ ،‬حيث يظل الشخص خاضعا لطرق الطعن التي كان منصوصا عليها في القانون الذي صدر في‬
‫ظله الحكم‪ ،‬حتى وإن كان القانون الجديد قد ألغاها‪.‬‬

‫]‪[71‬‬
‫كما أن نصوص التقادم تثير بعض الخصوصية بالنظر للطبيعة الخاصة لهذه النصوص‪ ،‬سواء تعلقت‬
‫بتقادم الجريمة أو الدعوى أو العقوبة‪ ،‬كونها نصوص يمكن القول أنها ذات طبيعة موضوعية‪ ،‬وبذلك يمكن إخضاعها‬
‫لقاعدة القانون األصلح للمتهم‪ ،‬حيث القانون الذي يزيد من مدة التقادم يعد األصلح أو الذي يرسي التقادم بعدما كان‬
‫النص القديم ال يخضع الفعل للتقادم في أي جانب من جوانبه‪ .‬وإن اعتبرت النصوص المتعلقة بالتقادم‪ ،‬من النصوص‬
‫اإلجرائية‪ ،‬فهنا يسري عليها ما سري على النصوص اإلجرائية من حيث قاعدة األثر الفوري لها‪ ،‬أم هناك حل خاص‬
‫يجب اعتماده نظرا للطبيعة الخاصة المتعلقة بالتقادم؟‪.‬في الواقع حدث نقاش فقهي حاد بخصوص هذه المسألة‪ ،‬ولم يتفق‬
‫الفقه إال على نقطة واحدة‪ ،‬وهي أن القانو ن الجديد ال يطبق على تقادم اكتملت مدته وفتح باب التقادم من جديد‪،‬كون ذلك‬
‫يتعارض ومبدأ عدم الرجعية‪ ،‬بينما بخصوص التقادم الذي لم يكتمل‪ ،‬اعتبره القضاء الفرنسي من القوانين الموضوعية‬
‫التي تخضع للقانون األصلح للمتهم‪ ،‬غير أنه سرعانما تراجع القضاء وجعله من القوانين اإلجرائية التي تخضع للتنفيذ‬
‫الفوري دون رجعية]‪.[11‬غير أن المسألة لم تتوقف عند هذا الحد‪ ،‬بل ظهرت أفكار فقهية أخرى‪ ،‬تصب في غالبها في‬
‫اتجاه جعل هذه القوانين المتعلقة بالتقادم تخضع لما تخضع له سائر القوانين اإلجرائية‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬مسألة تحديد تاريخ ارتكاب الجريمة‬
‫مسألة تنازع القوانين من حيث الزمن‪ ،‬واختيار األصلح منهما للتطبيق على المتهم‪ ،‬تقتضي تحديد تاريخ‬
‫ارتكاب الجريمة ووقته‪ ،‬حيث معرفة تاريخ وقوعها وما إن كان في ظل سريان القانون القديم‬
‫أو سريان القانون الجديد من شأنه أن يحسم كل خالف‪ ،‬خاصة إن كنا نعلم أن بعض الجرائم ترتكب في وقت قصير من‬
‫الزمن‪ ،‬والبعض اآلخر تتراخى عبر الوقت‪ ،‬حيث يستغرق الركن المادي للجريمة في هذا النوع وقتا من الزمن‪ ،‬قد‬
‫يطول وقد يقصر‪ ،‬بحيث قد ترتكب بعض األفعال في ظل القانون القديم‪ ،‬وبعضها اآلخر في ظل القانون الجديد‪ ،‬فهنا‬
‫يثور تساؤل حول أي القانونيين يطبق؟ ومن الطبيعي القول بأن القانون الواجب التطبيق‪ ،‬هو القانون الذي حدث في ظله‬
‫الركن المادي للجريمة‪ ،‬وبالتالي وقت وقوع هذا الركن هو المحدد للقانون الواجب التطبيق‪ ،‬حيث يكون القانون الساري‬
‫المفعول وقت وقوعه‪ ،‬لكن اإلشكال أن السلوك قد يقع في ظل قانون وتحدث النتيجة في ظل قانون آخر جديد‪ ،‬فهل يجب‬
‫أن نأخذ بعين االعتبار زمن اقتراف الفعل أو زمن تحقق النتيجة؟‪ .‬هنا ظهرت ثالثة آراء فقهية‪ ،‬األول يرى أن العبرة‬
‫بتاريخ اقتراف السلوك اإلجرامي‪ ،‬وبالتالي القانون الواجب التطبيق هو القانون الساري وقت إتيان السلوك‪ ،‬والبعض‬
‫الثاني يرى أن العبرة بتحقق النتيجة‪ ،‬وبالتالي القانون الواجب التطبيق هو القانون الساري المفعول وقت تحقق هذه‬
‫النتيجة‪ ،‬والرأي الثالث يأخذ باالتجاهين السابقين معا‪ ،‬حيث يجب أن نقارن ما بين القانونيين أيهما أصلح للمتهم ويطبق‪،‬‬
‫ونرى أنه الرأي األصوب كون الجريمة اكتمال وتحقق في ضوء القانونيين‪ ،‬ونكون بصدد تنازع نبحث فيه عن القانون‬
‫الصلح للمتهم‪ .‬غير أن البعض‪ ،‬يرى األخذ بالرأي األول ألن الجريمة في نظره يكتمل ارتكابها عند اقتراف السلوك‬
‫المادي‪ ،‬وال عبرة بالنتائج‪ ،‬فالفعال يسأل عنه بغض النظر عن حدوث النتيجة خاصة في الجرائم العمدية‪.‬‬
‫و بخصوص الجرائم المستمرة التي ال يرتكب فيها الفعل المادي دفعة واحدة بل يأخذ وقت من الزمن فيه‬
‫قد يعدل القانون أو يصدر قانون آخر يثير مسألة تنازع القوانين من حيث الزمان‪ ،‬واالستمرار قد يكون متتابع كانتحال‬
‫األلقاب أو الصفات‪ ،‬وهنا إلرادة الجاني دور في حالة االستمرار‪ ،‬وهناك جرائم مستمرة دائمة كجريمة تزييف النقود‪،‬‬
‫أو تقليد األختام‪ ،‬وفيها اآلثار وحدها المستمرة وليس الركن المادي الذي حدث دفعة واحدة‪ ،‬ويعامل هذا النوع من‬
‫الجرائم معاملة الجرائم الوقتية‪ .‬أما النوع األول المتمثل في الجرائم المستمرة المتتابعة‪ ،‬حيث تختلف عن سابقتها‪ ،‬إذ‬
‫فيها الفعل المادي ال يرتكب دفعة واحدة‪ ،‬وإنما يرتكب باستمرار حيث كل لحظة تمر تعد الجريمة مرتكبة فيها برمتها‪،‬‬
‫حيث في هذه الحالة يكفي أن تستمر الجريمة ولو للحظة واحدة بعد صدور القانون الجديد ليطبق حتى ولو كان اشد‬
‫بالنسبة للمتهم‪ ،‬وهناك إشكال آخر بخصوص هذه الحالة‪ ،‬يتمثل في حالة اشتراط القانون لفترة من الزمن كعنصر‬
‫أساسي في السلوك‪ ،‬مثل اإلهمال العائلي واالمتناع عن دفع النفقة المقررة قضاء‪ ،‬حيث يشترط اإلهمال أو االمتناع أن‬
‫يتم لفترة من الزمن‪ ،‬قدرها المشرع في هاتين الجريمتين بشهرين‪ ،‬فالرأي الراجح فيها أن يطبق القانون الجديد في‬
‫الحالة التي تتم فيها المدة هذه في ظله‪ ،‬حيث يشترط أن تمر فترة الشهرين في ظل القانون الجديد حتى تعد الجريمة‬
‫مرتكبة في ظله‪.‬‬
‫وفي جرائم االعتياد‪ ،‬التي تفترض تكرار الفعل الواحد أكثر من مرة‪ ،‬فما حكم الفعل إذا ارتكب عدد من‬
‫المرات في ظل القانون القديم‪ ،‬ومرة واحدة في ظل القانون الجديد‪ ،‬ففي رأي الفقه ال يأخذ بعين االعتبار إال حاالت‬

‫]‪[72‬‬
‫التكرار التي ارتكبت في ظل القانون الجديد‪ ،‬واعتبار الحاالت الواقعة قبل صدوره كأن لم تكن وال تأخذ بعين االعتبار‬
‫في تكوين حالة التكرار أو االعتياد‪ .‬وإن كانت أحكام القضاء تظهر عكس ذلك‪ ،‬حيث يرى القضاء أن القانون في مثل‬
‫هذه الجريمة يعاقب على حالة الخطورة الكامنة لدى الجاني‪ ،‬وأن الفعل األخير في الحقيقة هو الذي يبين هذه الخطورة‬
‫اإلجرامية‪ ،‬وبالتالي يمكن اعتبار أن الفعل األخير هو الذي كون حالة االعتياد وبالتالي هو الذي كشف عن الخطورة‬
‫اإلجرامية لدى الجاني التي تستحق العقوبة‪.‬‬
‫و في حالة العود‪ ،‬غالبية الفقه يرى أن الحكم الصادر في ظل القانون القديم ال يعد سابقة كوننا نرتب آثار‬
‫قانونية عن قانون لم يعد معموال به‪ ،‬كما تثار مسألة وقت ارتكاب الجريمة بخصوص حالة تعدد الجرائم‪ ،‬سواء كان‬
‫تعدد صوري أو تعدد حقيقي‪ ،‬الذي سمى أيضا بالتتابع اإلجرامي أو الجرائم المتتابعة‪ ،‬كالسرقة على عدة دفعات‪...‬‬
‫المطلب الثالث‬
‫نطاق تطبيق النص الجنائي من حيث المكان‬
‫تنازع القوانين الجنائية من حيث المكان‬
‫إن كانت فكرة تنازع القوانين الجنائية من حيث الزمان تخص قانونيين صادرين من نفس المشرع‪،‬‬
‫داخل البلد الواحد‪ ،‬فإن تنازع القوانين الجنائية من حيث المكان تتعلق بقوانين مختلفة لدول مختلفة‪ ،‬فالجريمة كمشروع‬
‫يمكن أن يمتد تنفيذه ألكثر من إقليم واحد‪ ،‬وتسهر على ذلك عصابات إجرامية من جنسيات مختلفة‪ ،‬وقد تمس الجريمة‬
‫الواحدة بمصالح العديد من الدول‪ ،‬لذا كان يتعين تحديد نطاق تطبيق القانون الجنائي للدولة‪ ،‬باعتباره قانون يجسد‬
‫سيادتها‪ ،‬وهي السيادة التي تتجسد أوال على إقليم الدولة ومواطنيها‪ ،‬وفي بعض األحيان تتبع هؤالء إلى خارج هذا‬
‫اإلقليم‪ ،‬وفي أحيان أخرى فكرة اإلقليم ذاتها في القانون الجنائي ذات مدلول مختلف عما تعارف عليه الناس وفقا للقانون‬
‫الدستوري والقانون الدولي‪.‬‬
‫لهذه األسباب – وألسباب كثيرة أخرى متعددة‪ -‬فإن مسألة تحديد نطاق السريان المكاني للنص الجنائي‪،‬‬
‫تتحدد باختصار بتطبيق أربعة مبادئ أساسية تأخذ بها غالبية التشريعات الجنائية المعاصرة‪ ،‬وإن كان بعضها ليس‬
‫بصفة صريحة مثل مبدأ العالمية‪ -‬من بين هذه المبادئ ما هو أصلي تنعقد له األولوية على سائر المبادئ األخرى‪ ،‬كمبدأ‬
‫اإلقليمية‪ ،‬ومنها ما هو احتياطي كمبدأ الشخصية والعينية اللذان ال يعدان من المبادئ التي تكمل مبدأ اإلقليمية وتسد‬
‫النقائص التي يواجهها تطبيق هذا األخير‪ ،‬ومنها ما يجسد فكرة التعاون الدولي‪ ،‬وتدويل مواجهة ظاهرة اإلجرام‪ ،‬مثلما‬
‫هو الشأن بالنسبة لمبدأ العال مية‪ .‬لذا وعلى عكس البعض‪ ،‬الذي يرى أن مبدأ اإلقليمية القاعدة ويفرده بنقطة‪ ،‬ويشمل باقي‬
‫المبادئ في نقطة أخرى باعتبارها استثناءات له‪ ،‬فإننا سنحاول أن نبين كل مبدأ من هذه المبادئ في نقطة مستقلة‪،‬‬
‫باعتبارها تتكامل فيما بينها بما يضمن مكافحة الجريمة ومتابعة مرتكبيها وضبطهم ومحاكمتهم على نحو فعال‪ .‬غير أننا‬
‫سنتناول مبدأ اإلقليمية في فرع مستقل‪ ،‬لنتناول في فرع آخر المبادئ األخرى المكملة له‪ ،‬والتي يسميها البعض مبادئ‬
‫احتياطية‪ ،‬وسبق لنا نحن‪ ،‬أن قلنا انها مبادئ تتعاون وتتكامل فيما بينها‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫المبـــدأ األصلي( مبدأ إقليمية النص الجنائي)‬
‫ي عني مبدأ إقليمية تطبيق النص الجنائي‪ ،‬أن قانون العقوبات يسري على كل الجرائم أيا كان نوعها التي‬
‫ترتكب على إقليم الجمهورية‪ ،‬وأيا كانت جنسية مرتكبها أو المرتكبة عليه]‪ ،[12‬وطنيا أو أجنبيا‪ ،‬ولهذا المبدأ بعض‬
‫المبررات التاريخية التي جعلت منه من أقدم المبادئ – وإن كان البعض يرى أن األقدم هو مبدأ الشخصية وذلك صحيح‬
‫في نظرنا‪ -‬كما ينطوي على العديد من المبررات السيادية المتعلقة بسيادة الدولة على إقليمها‪ ،‬باإلضافة لما له من فوائد‬
‫عملية في إثبات الجرائم ومتابعة مرتكبيها ومحاكمتهم محاكمة فعالة تحقق أفكار الردع العام والخاص‪ ،‬كل ذلك انعكس‬
‫على طريق تطبيق هذا المبدأ‪ ،‬حيث تمت معاملة بعض األوضاع أو باألحرى بعض المركبات معاملة اإلقليم‪ ،‬بالرغم‬
‫من اختالفها التام عنه‪ ،‬مثلما هو الشأن بالنسبة للطائرات والسفن‪ ،‬كما أنه وبالرغم من أولية وأصالة وسيادة مبدأ‬
‫اإل قليمية‪ ،‬إال أنه ترد عليه بعض االستثناءات التي تمليها القوانين واألعراف الدولية‪ ،‬سواء كانت سياسية أو دبلوماسية‬
‫أو قنصلية‪ ،‬وبعض األحكام الدستورية األخرى‪ ،‬مما جعل من بعض الجرائم المرتكبة على اإلقليم الوطني غير خاضعة‬
‫للقانون الوطني‪ ،‬وهو ما اصطلح في معالجته باستثناءات مبدأ اإلقليمية‪ ،‬وهي المسائل التي نوضحها في النقاط التالية‪.‬‬

‫]‪[73‬‬
‫أوال‪ :‬معنى ومبررات مبدأ اإلقليمية‬
‫يقصد بمبدأ إقليمية النص الجنائي‪ ،‬تطبيق التشريع الوطني الجنائي على كافة الجرائم المرتكبة على إقليم الدولة‬
‫الجزائرية‪ ،‬بصرف النظر عن جنسية مرتكبها أو المرتكبة عليه‪ ،‬وبغض النظر عن المصلحة‬
‫أو الحق المعتدى عليه‪ ،‬سواء كانت مصلحة أو حق وطني أو أجنبي‪ ،‬لذا يرى البعض أنه للمبدأ شقين‬
‫أو وجهين‪ ،‬أحدها سلبي ويتمثل في انحسار تطبيق القانون الوطني خارج اإلقليم‪ ،‬واآلخر إيجابي يتمثل في تطبيق‬
‫القانون الجنائي الوطني على إقليم الدولة دون مزاحمة من أي تشريع أجنبي آخر‪ .‬وقد تضمنت المادة ‪ 3‬من تقنين‬
‫العقوبات الجزائري النص على مبدأ إقليمية النص الجنائي‪ ،‬بنصها على‪ ":‬يطبق قانون العقوبات على كافة الجرائم التي‬
‫ترتكب في أراضي الجمهورية‪.‬كما يطبق على الجرائم التي ترتكب في الخارج إذا كانت تدخل في اختصاص المحاكم‬
‫الجزائية الجزائرية طبقا ألحكام قانون اإلجراءات الجنائية"]‪.[13‬‬
‫أما المبررات التي جعلت من غالبية التشريعات الجنائية تأخذ بمبدأ إقليمية النص الجنائي‪ ،‬فإننا نذكر أهمها في‬
‫النقاط التالية]‪:[14‬‬
‫‪ -1‬يعد مبدأ إقليمية تطبيق النص الجنائي‪ ،‬مظهر من مظاهر ممارسة الدولة لسيادتها على إقليمها‪ ،‬وبالتالي‬
‫تطبيق قانونها على كل ما يقع عليه من أفعال رأت تجريمها‪ ،‬أيا كان مرتكبها أو المرتكبة عليه‪ ،‬وأيا كانت المصلحة‬
‫المتعدى عليها وطنية أو أجنبية‪.‬‬
‫‪ -2‬مبدأ إقليمي ة النص الجنائي يقود إلى تطبيق قانون مكان ارتكاب الجريمة‪ ،‬ويقضي باختصاص المحاكم‬
‫الجنائية بنظر الدعوى‪ ،‬وهو أنسب مكان لمحاكمة المتهم‪ ،‬حيث فيه تتوفر أدلة اإلثبات‪ ،‬وبه غالبا ما يوجد المتهم‪.‬‬
‫‪ -3‬محاكمة المت هم في المكان الذي ارتكب فيه جريمته‪ ،‬وتوقيع الجزاء عليه في هذا المكان‪ ،‬يرسخ فكرة الردع‬
‫العام الذي يسعى لتحقيقه الجزاء الجنائي‪.‬‬
‫‪ -4‬كما أنه من مصلحة المتهم تطبيق قانون البلد الذي ارتكب فيه جريمته‪ ،‬الفتراض علمه بهذا القانون‪ ،‬مما‬
‫يحقق أغراض مبدأ الشرعية الجنائية ويحقق العدالة من خالل عدم مفاجئة المتهم بقوانين يجهلها‪.‬‬

‫لذا فالقانون الجنائي الجزائري يطبق على كافة إقليم الجمهورية الجزائرية‪ ،‬وفقا لما هو متعارف عليه‬
‫في أحكام القانون الدولي العام]‪ ،[15‬ووفقا لنص المادة ‪ 12‬من دستور ‪ 1996‬المعدل والمتمم التي بينت معنى اإلقليم‪،‬‬
‫وإن كان القانون الجنائي يعطي له مدلوال آخرا‪ ،‬حيث نصت هذه المادة على أنه‪ ":‬تمارس سيادة الدولة – ونالحظ أن‬
‫المادة عبرت عن الموضوع بالسيادة وال تتعلق فقط بالقانون الجنائي‪ -‬على مجالها البري ومجالها الجوي‪ ،‬وعلى مياهها‪،‬‬
‫كما تمارس الدولة حقها السيد الذي يقره القانون الدولي على كل منطقة من مختلف مناطق المجال البحري التي ترجع‬
‫إليها‪ .".‬وزيادة على ما ذكر بالهامش أدناه حول اإلقليم‪ ،‬فيمكن أن نضيف أن قوانين العقوبات ال تهتم ببيان نطاق إقليم‬
‫الدولة‪ ،‬بل تفرض سلفا أ ن هذه الفكرة معروفة ومحددة بواسطة القانون الدولي‪ ،‬واإلقليم في العادة يشمل اإلقليم البري‬
‫الذي تحدده االتفاقيات الدولية‪ ،‬ويشمل المياه التي تحت جوف األرض واألنهار والقنوات التي تمر به سواء كانت أنهارا‬
‫وطنية أو دولية‪ ،‬وأما اإلقليم البحري فبينته اتفاقية سنة ‪ 1958‬المتعلقة بالبحر اإلقليمي التي بينت في مادتها األولى على‬
‫أن سيادة الدولة تمتد خارج إقليمها البري ومياهها الداخلية إلى حزام من البحر مالصق لشواطئها يسمى البحر اإلقليمي‪،‬‬
‫وبخصوص اإلقليم الجوي وقعت اتفاقية باريس سنة ‪ 1919‬مبينة أنه لكل دولة سيادة كاملة وانفرادية على طبقات الهواء‬
‫التي تعلو إقليمها البري وبحرها اإلقليمي وحتى مستعمراتها – كون االتفاقية وقعت وقت الحركات االستعمارية‪ -‬وأكدت‬
‫على ذلك من جديد اتفاقية شيكاغو سنة ‪ 1944‬التي اعتبرت مادتها األولى الهواء عنصرا تابعا إلقليم الدولة‪ ،‬غير أنه‬
‫مبدأ اهتز أمام التطور العلمي مما أدى إلى التفكير في تحديد اإلقليم الهوائي بارتفاع محدد‪ ،‬لذا أصدرت الجمعية العامة‬
‫لألمم المتحدة في ‪ 1966-12-19‬في دورتها ‪ 21‬القرار رقم ‪ 3222‬بالموافقة على مشروع اتفاقية تنظم استعمال‬
‫واستغالل الدول للطبقات العليا في الجو بما فيها القمر والكواكب األخرى‪ ،‬ونصت هذه االتفاقية في مادتها ‪ 11‬على أن‬
‫طبقات الجو العليا تخرج عن سيادة كل دولة‪ ،‬غير أنها اتفاقية لم تحدد المسافة التي تكون بين الفضاء الجوي وطبقات‬
‫الجو العليا‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬تحديد مكان وقوع الجريمة‬

‫]‪[74‬‬
‫من المتفق عليه قانونا أن مكان وقوع الجريمة يتحدد بالمكان الذي يقع فيه ركنها المادي سواء اجتمعت‬
‫أركانه الثالثة وهنا ال إشكال‪ ،‬لكن من المتصور أن تتوزع هذه العناصر على أكثر من إقليم واحد فهنا يثار اإلشكال‬
‫حول تحديد أي منها يكون مكانا لوقوع الجريمة‪ ،‬هنا السائد أن قوانين كل الدول التي توزعت عليها الجريمة يكون‬
‫م ختصا بنظر الجريمة‪ ،‬وهو الوضع أيضا في الجرائم المستمرة حيث يكون قانون كل إقليم قامت فيه حالة االستمرار‬
‫مختصا بنظر الجريمة‪ ،‬غير أن جرائم االمتناع تعد مرتكبة في اإلقليم الذي حصل فيه االمتناع وكان من الواجب أن‬
‫يقوم فيه الجاني بما هو مطلوب منه قانونا‪ ،‬كما أنه يعد إقليم ارتكبت فيه الجريمة اإلقليم الذي حدثت فيه النتيجة‬
‫اإلجرامية‪ -‬أو آلثار المباشرة للفعل ‪ -‬حيث أنه إذا أرسل شخص صندوق متفجرات لشخص آخر فتحه فانفجرت عليه‬
‫وسافر لبلد آخر للعالج وتوفي هناك يكون مختصا بلد العالج أيضا باإلضافة للبلدين اآلخرين‪ .‬األول هو بلد السلوك‬
‫والثالث بلد النتيجة والثاني بلد عالقة السببية]‪ .[16‬لكن ال عبرة بالنتائج الحاصلة بعد حدوث النتيجة وإن كانت تشكل‬
‫جريمة مستقلة فيتحدد االختصاص بمكان وقوع هذه الجريمة‪ ،‬مثل إخفاء متحصالت السرقة أو إخفاء الجثة التي يعتد‬
‫بها قانونا وال األعمال التحضيرية غير المعاقب عليها‪.‬‬
‫غير أن اإلشكال يكمن في حالة الشروع في الجريمة‪ ،‬وهنا يرى بعض الفقه أن االختصاص ينعقد‬
‫للدولة التي شرع في التنفيذ فيها وكذا للدولة التي كان من المفترض حصول النتيجة فيها‪ ،‬في حين يرى جانب آخر من‬
‫الفقه‪ ،‬منتقدا الرأي األول أنه ال يجب أن ينعقد االختصاص لقانون الدولة التي كان يفترض حدوث النتيجة بها‪ ،‬وهو‬
‫رأي نؤيده كثيرا خاصة وإن كنا نرى أن المجني عليه قد ال يكون عالما أصال بأنه كان عرضة لجريمة شرع في‬
‫ارتكابها عليه‪ ،‬كما أنه يثور اإلشكال بخصوص المساهمة الجنائية‪ ،‬والتي على نحو ما سنرى تنقسم إلى مساهمة جنائية‬
‫أصلية ومساهمة جنائية تبعية‪ ،‬ففي األولى يكون كل الجناة فاعلين أصليين‪ ،‬وهو ما ال يثير أي إشكال حسب البعض إذا‬
‫ما وقعت الجريمة على إقليم الدولة‪ ،‬لكننا نرى أنه في حالة التحريض قد نكون بصدد مساهمة جنائية أصلية حيث يعد‬
‫الفاعل األصلي كل من المحرض والمنفذ‪ ،‬وبالتالي إن كان التحريض في بلد والتنفيذ في بلد آخر فإننا نرى اختصاص‬
‫غير أنه في حالة المساهمة الجنائية التبعية‪ ،‬أين نكون‬ ‫قانون كل من البلدين ونفس الشيء بالنسبة للفاعل المعنوي‪.‬‬
‫بصدد فعل أصلي وآخر فعل االشتراك‪ ،‬ونرى أن غالبية القوانين تتبع عمل الشريك بعمل الفاعل األصلي حيث يرى أنه‬
‫إذا وقع الفعل األصلي أو جزء منه في إقليم دولة ما فإن قانونها يمتد للتطبيق على فعل االشتراك‪ ،‬وأن قانون الدولة التي‬
‫وقع فيها فقط فعل االشتراك ال ينطبق تماما‪ ،‬ونؤيد هذا الرأي كون أفعال االشتراك ال عقاب عليها في حد ذاتها كونها‬
‫أفعال مباحة تنجذب إلى دائرة التجريم بالنظر لفعل الفاعل األصلي‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬االمتداد الحكمي لفكرة اإلقليم‬
‫سبق القول‪ ،‬أن المشرع الجزائري‪ ،‬عامل السفن والطائرات معاملة خاصة‪ ،‬في الحاالت التي ترتكب‬
‫عليها جرائم‪ ،‬وعالجهما ضمن إطار مبدأ اإلقليمية – وإن كان ذلك في قانون اإلجراءات الجزائية‪ -‬وذلك ضمن المادتين‬
‫‪ 590‬و‪ ،591‬مبينا اختصاص القانون الجزائري بخصوص الجرائم التي ترتكب على متن السفن والطائرات‪ ،‬وحاالت‬
‫وشروط ذلك‪ ،‬مفرقا بين تلك الجزائرية واألجنبية – سواء بخصوص الطائرات أو السفن‪ -‬أخذا ببعض الحدود التي‬
‫يمكن تبري رها أحيانا‪ ،‬وأخرى يعجز الشخص عن تفسيرها بعد مقارنة المادتين معا بما تتضمنه من أحوال‪.‬‬
‫‪ -1‬بالنسبة للسفــن‪:‬‬
‫نصت المادة ‪ 590‬من قانون اإلجراءات الجزائية الجزائري على أنه‪ " :‬تختص الجهات القضائية‬
‫الجزائرية بالنظر في الجنايات والجنح التي ترتكب في عرض البحر على بواخر تحمل الراية الجزائرية آيا كانت‬
‫جنسية مرتكبيها‪ .‬و كذلك الشأن بالنسبة للجنايات والجنح التي ترتكب في ميناء بحرية جزائرية على ظهر باخرة‬
‫تجارية أجنبية‪ ،".‬من هذه المادة‪ ،‬يتضح بأن المشرع الجزائري‪ ،‬فرق ما بين السفن الوطنية والسفن األجنبية‪،‬‬
‫وبخصوص األخيرة فرق بين السفن األجنبية الحربية والسفن األجنبية المدنية‪ ،‬واستعمل عبارة السفن التجارية التي نرى‬
‫ووجوب استبدالها بالمدنية‪.‬‬
‫أ‪ -‬بالنسبة للسفن الجزائرية‪:‬‬
‫متى كانت السفينة جزائرية‪ ،‬فإن قانون العقوبات الجزائري يكون مختصا في حال توفر الشروط التالية‬
‫مجتمعة]‪ ،[17‬وأن تخلف شرط من هذه الشروط يقود لعدم تطبيقه‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫]‪[75‬‬
‫‪ -1‬أن تكون السفينة تحمل الراية الجزائرية‪.‬‬
‫‪ -2‬أن تكون الجريمة جناية أو جنحة‪ ،‬وبالتالي تستبعد المخالفات‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يكون مكان ارتكاب هذه الجناية أو الجنحة والباخرة في أعالي البحار‪ ،‬كون هذه المنطقة غير خاضعة‬
‫ألية سلطة‪ ،‬ألنه لو ارتكبت الجناية أو الجنحة في المياه اإلقليمية أو موانئ الجزائر‪ ،‬فاختصاص للقانون الجزائري يكون‬
‫بموجب المادة ‪ 3‬من قانون العقوبات‪ ،‬ال بموجب المادة ‪ 590‬من قانون اإلجراءات الجزائية‪ ،‬وإن ارتكبت في مياه‬
‫إقليمية أجنبية يكون االختصاص لقانون هذه الدولة تطبيقا لمبدأ إقليميتها‪.‬‬
‫‪ -4‬ال عبرة بجنسية الجاني أو المجني عليه‪ ،‬وال بالمصلحة أو الحق الذي مست به الجناية أو الجنحة‪.‬‬
‫ب‪ -‬بالنسبة للسفن األجنبية‪:‬‬
‫استعمل المشرع الجزائري بخصوص السفن األجنبية مصطلح " السفن التجارية" تمييزا لها عن السفن‬
‫الحربية‪ ،‬هذه األخيرة التي تعامل معاملة خاصة‪ ،‬وكان عليه أن يستعمل مصطلح " السفن المدنية" كون التجارية قد يفهم‬
‫منه سفن البضائع دون سفن األشخاص أو السفن السياحية‪ ...‬وحتى يكون القانون الجزائري مختصا بنظر الجرائم‬
‫المرتكبة على السفن األجنبية ما عدا الحربية منها‪ ،‬يجب أن تتوفر الشروط المنصوص عليها في الفقرة الثانية من الماد‬
‫‪ 590‬من قانون اإلجراءات الجزائية‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ – 1‬حسب المادة ‪ 590‬أن تكون السفينة األجنبية تجارية‪ ،‬أي ليست حربية – وهو المغزى من الشرط‪-‬‬
‫والسفينة األجنبية هي التي تحمل جنسية أو راية دولة أخرى‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يكون الفعل يشكل جناية أو جنحة‪ ،‬وبالتالي تستبعد المخالفات‪.‬‬
‫‪ -3‬أنه ال عبرة بجنسية الجاني أو المجني عليه‪ ،‬وال بالمصلحة التي تم االعتداء عليها‪ ،‬كون المادة لم تشترط‬
‫ذلك‪.‬‬
‫‪ -4‬أن يكون مكا ن تواجد السفينة األجنبية ميناء بحرية جزائرية‪ ،‬وهو ما يفهم منه أن تكون راسية‪ ،‬ونحن‬
‫نتساءل عن عدم النص على المياه اإلقليمية الوطنية باعتبارها من اختصاص قانوننا‪ ،‬على األقل مثلما نزع المشرع‬
‫اختصاصنا لما تكون بواخرنا في المياه اإلقليمية لدول أخرى‪ ،‬فينزع اختصاص قانون هذه الدول لما تكون بواخرها في‬
‫مياهنا اإلقليمية‪....‬غير أن األمر يمكن مواجهته بالمادة ‪ 3‬التي تشكل القاعدة العامة متى كانت الباخرة األجنبية بالمياه‬
‫اإلقليمية الوطنية‪.‬‬
‫‪ -2‬بالنسبة للطائرات‪:‬‬
‫مثلما فعل المشرع الجزائري بالنسبة للسفن‪ ،‬فإنه فعل بالنسبة للطائرات‪ ،‬حيث يتعلق األمر بالطائرات‬
‫المدنية دون الحربية‪ ،‬وفرق فيها بين الطائرات الجزائرية والطائرات األجنبية‪ ،‬وكل منها يجب أن تستجمع جملة من‬
‫الشروط حتى يكون القانون الجزائري مختصا‪ ،‬وذلك ما بينته المادة ‪ 591‬من قانون اإلجراءات الجزائية الجزائري‪،‬‬
‫التي نصت على أنه‪ " :‬تختص الجهات القضائية الجزائرية بنظر الجنايات والجنح التي ترتكب على متن طائرات‬
‫جزائرية أيا كانت جنسية مرتكب الجريمة‪ .‬كما أنها تختص أيضا بنظر الجنايات‬
‫أو الجنح التي ترتكب على متن طائرات أجنبية إذا كان الجاني آو المجني عليه جزائري الجنسية أو إذا هبطت الطائرة‬
‫بالجزائر بعد وقوع الجناية أو الجنحة‪ .‬وتختص بنظرها المحاكم التي وقع بدائرتها هبوط الطائرة في حالة القبض على‬
‫الجاني وقت هبوطها أو مكان القبض على الجاني في حالة ما إذا كان مرتكب الجريمة قد قبض عليه في الجزائر فيما‬
‫بعد‪".‬‬
‫أ‪ -‬بالنسبة للطائرات الجزائرية‪:‬‬
‫حتى يكون القانون الجزائري مختصا بالتطبيق على الطائرات الجزائرية يجب أن تتوفر الشروط التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬أن تكون الطائرة جزائرية‪ ،‬أي حاملة للراية الجزائرية‪،‬‬
‫‪ -2‬أن يكون الفعل المرتكب يشكل جناية أو جنحة‪ ،‬وبالتالي ال عبرة بالمخالفات‪.‬‬
‫‪ -3‬ال عبرة بجنسية الجاني‪ ،‬وبالضرورة إذن ال عبرة بجنسية المجني عليه‪ ،‬وال بمكان ارتكاب الجريمة‪،‬‬
‫فالقانون الجزائري يتبع طائراتنا أينما حلت حتى في قلب عواصم الدول األخرى‪ ،‬على عكس ما فعله المشرع‬
‫بخصوص البواخر‪.‬‬

‫]‪[76‬‬
‫ب‪ -‬بالنسبة للطائرات األجنبية‪:‬‬
‫ي كون قانون العقوبات مختص بالتطبيق على الجرائم المرتكبة على الطائرات المدنية األجنبية‪ ،‬إذا‬
‫توفرت الشروط التالية مجتمعة‪:‬‬
‫‪ -1‬أن تكون الطائرة أجنبية أي حاملة لجنسية دولة أخرى‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يكون الفعل بالضرورة يشكل جناية أو جنحة وتستبعد المخالفات‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يكون الجاني أو المجني عليه جزائريا‪ ،‬أو هبوط الطائرة بالجزائر بعد ارتكاب الجريمة حتى وإن لم يكن‬
‫الجاني أو المجني عليه جزائريا]‪.[18‬‬
‫وتكون المحكمة التي يتواجد بنطاق اختصاصها مكان هبوط الطائرة بالمحاكمة‪ ،‬أو مكان القبض عليه‬
‫إن تم القبض عليه الحقا‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬االستثناءات الواردة على مبدأ اإلقليمية‪:‬‬
‫بالرغم من أن مبدأ إقليمية النص الجنائي يقتضي أن تخضع كل الجرائم المرتكبة على إقليم الجمهورية‬
‫الجزائرية للقانون الجنائي الجزائري‪ ،‬أيا كانت جنسية الجاني أو المجني عليه‪ ،‬وبغض النظر عن المصلحة أو الحق‬
‫المعتدى عليه‪ ،‬غير أنه إعماال لبعض األحكام الدستورية واألعراف الدبلوماسية وبعض قواعد القانون الدولي العام‪ ،‬وما‬
‫تتضمنه من أعراف واتفاقيات دولية‪ ،‬فإنه ترد بعض االستثناءات على مبدأ إقليمية النص الجنائي‪ ،‬التي تستبعد الجرائم‬
‫التي يرتكبها بعض األشخاص من الخضوع لقانون العقوبات الجزائري]‪ ،[19‬إذ ارتكبها مثل هؤالء األشخاص أثناء أو‬
‫بمناسبة تأدية مهامهم‪ ،‬ومن بين هؤالء األشخاص نذكر‪:‬‬
‫‪ -1‬رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الجزائريين‪:‬‬
‫تستثني غالبية القوانين الجنائية‪ ،‬بما فيها قانون العقوبات الجزائري جرائم رئيس الجمهورية التي‬
‫يرتكبها أثناء ممارسته لمهامه الرئاسية أو بمناسبتها‪ ،‬وذلك طبقا لألعراف الدستورية‪ ،‬وال يمكن محاكمته عنها إال بعد‬
‫زوال صفة الرئاسة عنه‪ ،‬غير أن ما تجدر اإلشارة إليه أن الدستور الجزائري لسنة ‪ 1996‬المعدل والمتمم‪ ،‬تضمن‬
‫حكما لم تكن تعرفه الدساتير السابقة‪ ،‬وهو الحكم الذي جاءت به المادة ‪ 158‬منه‪ :‬التي نصت على أنه‪ ":‬تؤسس محكمة‬
‫عليا للدولة تختص بمحاكمة رئيس الجمهورية عن األفعال التي يمكن وصفها بالخيانة العظمى‪ ،‬ورئيس الحكومة عن‬
‫الجنايات والجنح التي يرتكبانها بمناسبة تأدية مهامهما‪.[20]"...‬‬
‫و قضت هذه المادة أن كيفية تشكيل المحكمة وعملها وسيرها وتنظيمها‪ ،‬سيبين عن طريق األحكام‬
‫التنظيمية‪ ،‬غير أنه ولحد الساعة لم يصدر أي نص يبين ذلك‪ .‬مما يجعلها من النص مجرد نص نظري‪.‬‬
‫‪ -2‬أعضاء المجالس النيابية العليا‪ ( :‬البرلمان ومجلس األمة في الجزائر]‪)[21‬‬
‫و نقصد بالمجالس النيابة العليا‪ ،‬تمييزا لها عن المجالس الشعبية اإلقليمية أو المحلية‪ ،‬مثل المجالس‬
‫الشعبية الوالئية والمجالس الشعبية البلدية‪ ،‬ونجد كل الدول تقرر الحصانة ألعضاء السلطة التشريعية]‪ ،[22‬وال يعني‬
‫ذلك نزع الصفة التجريمية عن الفعل المعاقب عليه الذي يرتكبونه‪ ،‬وإنما متابعتهم ال تتم إال بإتباع إجراءات دستورية‬
‫خاصة‪ ،‬وهو ما بينته المواد ‪ 111 ،110 ،109‬من دستور ‪ 1996‬المعدل والمتمم‪ ،‬حيث تضمنت المادة ‪ 109‬مبدأ‬
‫الحصانة البرلمانية‪ ،‬بنصها ‪ ":‬الحصانة البرلمانية معترف بها للنواب وألعضاء مجلس األمة مدة نيابتهم ومهمتهم‬
‫البرلمانية‪ ،‬ال يمكن أن يتابعوا أو يوقفوا‪ ،‬وعلى العموم ال يمكن أن ترفع عليهم أية دعوى مدنية أو جزائية أو يسلط‬
‫عليهم أي ضغط‪ ،‬بسبب ما عبروا عنه من آراء وما تلفظوا به من كالم أو بسبب تصويتهم خالل ممارسة مهامهم‬
‫البرلمانية‪ .[23]".‬وهنا فعال استثناء بخصوص نوع محدد من الجرائم‪ .‬كونها مادة أرست فكرة الحصانة البرلمانية‬
‫المعترف بها لنواب السلطة التشريعية‪ ،‬خاصة المتعلقة بمهامهم الرئيسية وهي مناقشة القوانين والتصويت عليها‪ ،‬غير‬
‫أن المادة ‪ 110‬من دستور ‪ 1996‬المعدل والمتمم ركزت على فكرة المتابعة الجزائية عن الجنايات والجنح‪ ،‬وفكرة‬
‫التنازل عن الحصانة البرلمانية‪ ،‬أو رفعها‪ ،‬بينما بنت المادة ‪ 111‬حالة تلبس النائب بارتكاب جناية أو جنحة‪.‬‬
‫فقضت المادة ‪ 110‬بأنه ‪ ":‬ال يجوز الشروع في متابعة أي نائب – المقصود نواب الغرفة السفلى‪-‬‬
‫أو عضو مجلس األمة بسبب جناية أو جنحة إال بتنازل صريح منه أو بإذن حسب الحالة من المجلس الشعبي الوطني أو‬

‫]‪[77‬‬
‫مجلس األمة الذي يقرر رفع الحصانة عنه بأغلبية أعضائه‪ ،".‬وبالتالي يمكن للنائب سواء كان نائبا في الغرفة السفلى‪،‬‬
‫أو عضو من أعضاء مجلس األمة في حال اتهامه بارتكاب جناية أو جنحة‪ ،‬أن يتنازل صراحة عن حصانته البرلمانية‪،‬‬
‫والمقصود بعبارة " صراحة" أنه تنازل مكتوب تضمنه النيابة العامة ملف القضية‪ ،‬أو برفع الحصانة عليه من قبل‬
‫أغلبية باقي األعضاء‪ ،‬وفي هذه الحالة تجوز متابعته كأي شخص من األشخاص‪ ،‬غير أن ما تجدر اإلشارة إليه‪ ،‬أن‬
‫المادة ‪ 110‬لم تبين الموقف من الحالة التي يرتكب فيها عضو البرلمان أو عضو مجلس األمة لمخالفة‪ ،‬فهل عدم ذكر‬
‫في حين‬ ‫هذا النوع من الجرائم يعني عدم المسائلة عنها أصال‪ ،‬أم تجوز فيها المتابعة دون اإلجراءات السابقة‪.‬‬
‫بينت المادة ‪ 111‬حالة تلبس عضو البرلمان أو عضو مجلس األمة بارتكاب جناية أو جنحة]‪ ،[24‬حيث قضت أنه ‪":‬‬
‫في حالة تلبس أحد النواب أو أحد أعضاء مجلس األمة بجنحة أو جناية يمكن توقيفه ويخطر بذلك مكتب المجلس الشعبي‬
‫الوطني أو مكتب مجلس األمة حسب الحالة فورا‪ .‬يمكن المكتب المخطر أن يطلب إيقاف المتابعة وإطالق سراح النائب‬
‫أو عضو المجلس األمة على أن يعمل فيما بعد بأحكام المادة ‪ 110‬أعاله‪.".‬‬

‫‪ -3‬رؤساء الدول األجنبية‪:‬‬


‫تستثنى وفقا للعرف الدولي الجرائم التي يرتكبها رؤساء الدول األجنبية أو ملوكها أو أمراءها في أقاليم‬
‫الدول األجنبية‪ .‬وذلك على اعتبار رؤساء الدول األجنبية يمثلون دوال ذات سيادة وقد جرى العرف الدولي على عدم‬
‫إخضاعهم لسيادة دولة أجنبية أخرى يتواجدون على إقليمها‪ ،‬ويمتد االستثناء إلى الجرائم التي يرتكبونها بمناسبة ممارسة‬
‫مهامهم أو بممارسة حياتهم الشخصية‪ ،‬كما تمتد الحصانة لتشمل حسب البعض كل أفراد أسرتهم وحاشيتهم‪ ،‬وسبق لنا‬
‫القول بأن قانون العقوبات تعبير عن سيادة الدولة وبالتالي نرى أنه في حال إخضاع رئيس دولة لقانون عقوبات دولة‬
‫أخرى يكون قد تم إخضاعه لسيادة هذه الدولة‪ .‬ورئيس الدولة يقصد به حاكم الدولة وفقا للنظام السياسي الذي يسودها‪،‬‬
‫فقد يكون ملكا أو أميرا أو سلطانا أو رئيس جمهورية أو عضو مع غيره في مجلس رئاسي يدير الدولة أو قائد ثورة أو‬
‫حركة تحرر معترف بها أو زعيما روحيا لدولة ذات نظام حكم ديني‪ ،‬وهي الحصانة التي تمتد حتى أعضاء الوفد‬
‫المرافق له وأفراد عائلته]‪ .[25‬وال عبرة في كون زيارته رسمية أو خاصة أو حتى ولو كانت تحت اسم مستعار إذ‬
‫يكفي في الحالة األخيرة أن يكشف عن شخصيته في حال محاولة توقيفه]‪.[26‬‬
‫‪ -4‬رجال السلك السياسي األجنبي‪:‬‬
‫رؤساء الحكومات والوزراء وكتاب الدولة ورجال المنظمات الدولية يتمتعون بحصانة قضائية مستمدة‬
‫من المعاهدات الدولية والقوانين األساسية للمنظمات التي يتبعونها تعفيهم من كل مسائلة جنائية عن الجرائم التي‬
‫يرتكبونها في الدول التي يقيمون فيها في مهام رسمية‪.‬‬
‫‪ -5‬رجال السلك الدبلوماسي والقنصلي‪:‬‬
‫وهم ال يسألون أيضا عن الجرائم التي يرتكبونها في الدول التي يمثلون فيها دولهم‪ .‬طبقا التفاقية فيينا‬
‫المؤرخة في ‪ 1963-04-24‬المتعلقة بالعالقات القنصلية‪ ،‬والتي تمنح حصانة للموظفين القنصليين وموظفي الهيئات‬
‫الدولية بالنسبة للجرائم التي تتعلق بقيامهم بوظائفهم أو بسببها‪ ،‬وأما الجرائم التي ترتكب خارج إطار الوظيفة تعقد‬
‫االختصاص لقانون البلد الذي يتواجدون به‪ .‬وفي تبرير الحصانة قيل أن الممثل السياسي ووظيفته شيء واحد‪ ،‬حيث‬
‫يتالشى الشخص في وظيفته‪ ،‬فإذا عاقبناه فنحن نعاقب من خالله الدولة التي يمثلها‪ ،‬وبالتالي نمس بسيادتها‪ ،‬ومن‬
‫الحصانة السابقة قررت أيضا حصانة مباني السفارات والقنصليات‪ ،‬لكن ذلك ال يعني أنها مالذ للمجرمين حيث ارتكاب‬
‫جريمة داخل السفارة أو خارجها والفرار إليها‪ ،‬ال يمنع من تسليم الشخص لسلطات البلد‪ ،‬حتى ولو كان من رعايا الدولة‬
‫التي تمثلها السفارة أو القنصلي ة وال يعني ذلك تسليم رعايا الدولة‪ ،‬حيث ال تعد هذه المباني خارج اإلقليم‪ .‬وبخصوص‬
‫الحصانة يجب القول أنه يحق للسلطات المحلية عندما يرتكب الممثل السياسي جريمة من الجرائم القيام بطرده باعتباره‬
‫شخصا لم يعد مرغوبا فيه في البلد‪ ،‬كما يحق لبلده األصلي معاقبته على جرائمه التي ارتكبها في بلد عمله‪ ،‬وبذلك ال‬
‫يكون في معزل عن العقاب بأي حال من األحوال‪ ،‬كما أن الحصانة شخصية وتتعلق بشق العقاب ال شق التجريم‪،‬‬
‫بمعنى عدم العقاب لتوفر الحصانة ال يعني أن الفعل مباح‪ ،‬أو الصفة تعد سبب من أسباب اإلباحة‪ ،‬وإنما هي مانع من‬

‫]‪[78‬‬
‫موانع العقاب ف ي مثل هذه الحاالت‪ ،‬لذا فاألشخاص المساهمين مع صاحب الحصانة يمكن متابعتهم وعقباهم متى كنوا ال‬
‫يتمتعون بالحصانة‪ ،‬سواء كانوا من المواطنين أو من األجانب تطبيقا لمبدأ اإلقليمية‪ ،‬كما أن حق الدفاع المشروع مقرر‬
‫للمعتدى عليهم حتى ضد أصحاب الحصانة‪ .‬كما أنه هناك اتفاقية فيينا لسنة ‪ 1961‬وتشمل أعضاء السلك الدبلوماسي‬
‫والبعثات السياسية الخاصة وممثلو المنظمات الدولية أو اإلقليمية بصرف النظر عن درجاتهم وألقابهم ويستوي أن تتعلق‬
‫الجرائم بممارسة مهامهم أو بمناسبة متابعة شؤون حياتهم الخاصة ‪ ،‬أما فيما يخص الخدم فتقتصر الحصانة على ما‬
‫يصدر منهم من جرائم بمناسبة ممارستهم لمهامهم شريطة أال يكونوا من رعايا الدولة التي توجد بها مقر البعثة أو‬
‫المنظمة أو السفارة]‪.[27‬‬
‫‪ -6‬رجال القوات األجنبية المرابطة في التراب الوطني‪:‬‬
‫ويستمدون حصانتهم بخصوص عدم متابعتهم عن الجرائم التي يرتكبونها في الدول التي يرابطون فيها‪.‬‬
‫وهي مقررة للقوات الموجودة بأرض الدولة بترخيص منها‪ ،‬مثل قوات الطوارئ الدولية التابعة لمنظمة األمم المتحدة‪،‬‬
‫أو قوات وطنية لدولة أخرى‪ ،‬وهي الحصانة التي يتمتع بها أفراد هذه القوات بمناسبة ما يقع منهم من جرائم بمناسبة‬
‫تأديتهم لمهامهم‪ ،‬أو داخل المناطق المخصصة لهم‪.‬‬
‫و على العموم‪ ،‬الحصانة أو اإلعفاء من المتابعة الجزائية وفقا للقانون الجزائري ال يغني عن إخطار‬
‫الجهات الرسمية التي يتبعها الشخص مرتكب الجريمة والمتمتع بالحصانة الدبلوماسية‪ ،‬التي في العادة ما تتابعهم تأديبيا‬
‫وقد يتجاوز األ مر لحد تعويض ضحاياهم مدنيا‪ ،‬وتبقى كل معاهدة أو قانون أساسي للمنظمة‪ ،‬وكذا األعراف الدبلوماسية‬
‫أو مبدأ المعاملة بالمثل تحدد طرق وكيفيات ذلك‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫المبادئ المكملة لمبدأ اإلقليمية‬
‫على عكس العصور السابقة‪ ،‬أضحت الحدود تشكل محاسن للعصابات اإلجرامية وليست عوائق‪ ،‬خاصة مع‬
‫تقدم المواصالت وتحول العالم على قرية صغيرة‪ ،‬وتدويل الجريمة‪ ،‬فأصبحت الحدود عائقا بالنسبة للسلطات في بحثها‬
‫وتعقبها للمجرمين‪ ،‬وازدياد حركات الهجرة التي تصعب من عمليات التكيف مع قوانين الدول التي يستقر بها هؤالء‬
‫المهاجرين‪ ،‬كما أنهم انفصلوا عن جذورهم وال يستطيعون التكيف مع الحياة الجديدة بسهولة‪ ،‬وال يستطيعون التكيف مع‬
‫مجتمع جديد وحياة جديدة وعادات وتقاليد جديدة زيادة على حواجز اللغة والثقافة وحتى الدين‪ ،‬فانفصالهم عن حياة‬
‫اعتادوا عليها وعايشوها يحدث لهم نوع من الصراع بين القيم القديمة والقيم الجديدة المستحدثة فتضعف مقاومتهم شيئا‬
‫فشيئا‪ ،‬كما أنه للحربين العالميتين والحروب اإلقليمية األخرى دور كبير في بروز ظاهرة العنف واإلرهاب الذي لم يعد‬
‫مقتصرا فقط على األفراد والمنظمات‪ ،‬بل شملت حتى الدول‪ ،‬وهي كلها مسائل لفتت االنتباه إلى ضرورة توسع دائرة‬
‫القانون الجن ائي لمحاربة هذا النوع من اإلجرام‪ ،‬وهو ما جعل مبدأ اإلقليمية وحده غير كاف لمواجهة الظاهرة‬
‫اإلجرامية‪ ،‬وكان لزاما عليه االستعانة ببعض المبادئ األخرى المكملة‪ ،‬والتي نتناولها في النقاط التالية‪.‬‬
‫أوال‪ :‬مبدأ الشخصية الجنائية‬
‫مبدأ الشخصية الجنائية أسبق في الظهور من مبدأ اإلقليمية‪ ،‬حيث كان يعد األصل فيما مضى‪ ،‬كون‬
‫النص الجنائي كان يتبع رعايا الدولة أسينما حلوا‪ ،‬سيما في ظل فكرة اإلقليم لم تكن قد تجسدت بعد بالشكل المعروف‬
‫اليوم‪ ،‬لكن مع ظهور الدولة وارتكاز سيادتها على فكرة الحدود اإلقليمية‪ ،‬انحصر نطاق تطبيق مبدأ الشخصية الجنائية‬
‫فاسحا المجال أمام مبدأ اإلقليمية ليصبح المبدأ الرئيسي الحاكم لسريان النص الجنائي‪ .‬ويعرف مبدأ الشخصية الجنائية‬
‫بأنه تطبيق النص الجنائي على كل جاني يحمل جنسية الدولة أينما حل وأينما وجد‪ ،‬وأيا كان اإلقليم الذي ارتكب عليه‬
‫جنايته‪ ،‬وبعبارة أكثر اختصارا‪ ،‬هو وجوب تطبيق القانون الجنائي لكل دولة على الحاملين لجنسيتها أينما حلوا]‪.[28‬‬
‫ونص المشرع الجزائري على مبدأ الشخصية الجنائية في المادتين ‪ 582‬و‪ 583‬من قانون اإلجراءات الجزائية‪ ،‬مفرقا‬
‫بين الفعل الذي يرتكبه الجزائري بالخارج وما إن كان جناية أو جنحة‪ ،‬وهو األمر الذي يقودنا لتناول المبدأ من خالل‬
‫نقطتين تبعا للتمييز السابق‪.‬‬
‫‪ -1‬الجنايات ومبدأ الشخصية الجنائية‬

‫]‪[79‬‬
‫وهو شق من مبدأ الشخصية الجنائي الذي يركز على الرعية التي ترتكب فعال يوصف بالجناية في‬
‫الخارج‪ ،‬وقد تضمنه المادة ‪ 582‬من قانون اإلجراءات الجزائري]‪ ،[29‬التي أوردت جملة من الشروط إذا ما توفرت‬
‫مجتمعة طبق على هذا الجاني القانون الجزائري بالرغم من أنه ارتكب جنايته بالخارج‪ ،‬وهذه الشروط هي‪:‬‬
‫‪ -‬أ ن يكون الفعل الذي ارتكبه الشخص في الخارج يوصف بأنه جناية وفقا للقانون الجزائري‪ ،‬ويتضح من‬
‫النص أنه ال عبرة للتكييف المعطى له من قبل تشريع القطر الذي وقعت عليه‪ ،‬سواء كان جناية أو جنحة‪،‬‬
‫أو فعل مباح أصال وهو أمر ننتقده بشدة]‪.[30‬‬
‫‪ -‬أن ي كون الجاني يحمل الجنسية الجزائرية‪ ،‬أو أن يكون قد اكتسبها بعد ارتكابه الجريمة]‪.[31‬‬
‫‪ -‬أن يكون ارتكاب الجناية قد تم خارج اإلقليم الجزائري‪ ،‬ألنه لو كانت عليه لطبق مبدأ اإلقليمية وفقا للمادة ‪3‬‬
‫من قانون العقوبات‪.‬‬
‫‪ -‬أ ن يعود هذا الجاني الجزائري إلى أرض الوطن سواء جبرا أو طواعية‪ ،‬ألنه وفقا لهذه المادة ال يمكن أن‬
‫يحاكم غيابيا‪.‬‬
‫‪ -‬أال يكون الجاني قد حوكم في الخارج عن هذه الجناية‪ ،‬وأال يكون قد قضى عقوبتها في حال كان قد حوكم‬
‫عنها‪ ،‬أو سقطت عنه هذه العقوبة بالتقادم أو حصل على عفو عنها في دولة ارتكابها‪.‬‬
‫‪ -2‬الجنح ومبدأ الشخصية الجنائية‬
‫وهو مبدأ يخص الجزائري الذي يرتكب خارج اإلقليم الجزائري فعال يوصف بأنه جنحة سواء في نظر‬
‫القانون الجزائري أو في نظر القطر الذي ارتكبت فيه‪ ،‬فهنا يكون خاضعا للقانون الجزائري بشروط يجب أن تتوفر‬
‫جملة واحدة‪ ،‬وهي شروط بينتها المادة ‪ 583‬من قانون اإلجراءات الجزائية الجزائري]‪ ،[32‬وهــي‪:‬‬
‫‪ -‬أن يكون الفعل الذي اقترفه الجزائري يوصف بأنه جنحة‪ ،‬سواء في القانون الجزائري أو في القانون األجنبي‬
‫المطبق على اإلقليم الذي ارتكبت فيه]‪.[33‬‬
‫‪ -‬أن ترتكب هذه الجنحة في الخارج‪.‬‬
‫‪ -‬أ ن يكون مرتكبها جزائريا وقت اقترافها أو اكتـــسب الجنسية الجزائرية بعد ذلك وفقا للمادة ‪ 584‬من ق إ ج‬
‫ج‪.‬‬
‫‪ -‬أن يعود الجاني للجزائر أو يسلم غليها‪ ،‬حيث ال يجوز محاكمته غيابيا‪.‬‬
‫‪ -‬أال يكون قد حكم عليه في الخارج أو قضى عقوبته أو تقادمت أو حصل على عفو عنها‪.‬‬
‫‪ -‬وزيادة على ذلك‪ ،‬إن كانت الجنحة ضد األفراد‪ ،‬يجب تقديم شكوى من الشخص المضرور أو بالغ من‬
‫سلطات القطر الذي ارتكبت فيه الجنحة حتى يمكن للنيابة العامة تحريك الدعوى العمومية‪.‬‬
‫و في حالتي مبدأ الشخصية تجري المتابعة بناء على طلب النيابة العامة لمحل إقامة الجاني بالجرزائر أو‬
‫محل القبض عليه‪ ،‬وذلك ما تضمنته المادة ‪ 587‬من قانون اإلجراءات الجزائية التي نصت على أنه ‪ " :‬تجري‬
‫المتابعة بناء على طلب النيابة العامة لمحل إقامة المتهم أو مكان آخر محل إقامة معروف له أو مكان القبض عليه‪".‬‬
‫ثالثا‪ :‬مبدأ العينية ( مبدأ الذاتية)‬
‫وهو المبدأ المكمل الثاني لمبدأ اإلقليمية بعد مبدأ الشخصية‪ ،‬وسمي بمبدأ العينية أو الذاتية ألنه يمس بمصالح‬
‫الدولة ذاتها أو بعينها ال بمصالح أفرادها‪ ،‬سواء كانوا جناة أو مجني عليهم‪ ،‬وأنه يطبق خصيصا على األجانب دون‬
‫حاملي جنسية الدولة‪ ،‬ألنه هؤالء يخضعون لمبدأ الشخصية‪ ،‬وعموما‪ ،‬نقصد بهذا المبدأ تطبيق القانون الوطني‬
‫الجزائري على كافة الجرائم المرتكبة بالخارج – ال بأرض الوطن‪ ،‬ألنه في هذه الحالة الخيرة نطبق مبدأ اإلقليمية‪-‬‬
‫والتي تمس بالمصالح األساسية للدولة المرتبطة بسيادتها واقتصادها والثقة الموالة في نقودها‪ ،‬وأن الضحية في هذا‬
‫النوع من الجرائم هي الدولة ذاتها‪ ،‬وبهذا المبدأ تكون تمارس نوعا من الدفاع الشرعي عن مصالحها‪ ،‬كما يعد – المبدأ‪-‬‬
‫تعبيرا عن بسط الدولة لسلطانها التشريعي على كل الجرائم التي تمس بهيبتها ومصالحها‪ ،‬ولكن في الحاالت التي ال‬
‫تلقى فيها هذه الجرائم اهتمام من سلطات القطر الذي ارتكبت فيه‪ .‬وهو األمر الذي دفع بالمشرع الجزائري على غرار‬
‫غالبية التشريعات الجنائية المعاصرة للنص على هذا المبدأ في المادة ‪ 588‬من قانون اإلجراءات الجزائية]‪ ،[34‬وهو‬
‫النص الذي ال يطبق إال إذا توفرت الشروط التالية مجتمعة‪:‬‬

‫]‪[80‬‬
‫‪ -1‬أن يكون الجاني أجنبيا‪ ،‬ألنه لو كان جزائريا لطبق مبدأ الشخصية سواء بموجب المادة ‪ 582‬إذا كان الفعل‬
‫يشكل جناية‪ ،‬أو المادة ‪ 583‬إذا كان الفعل يشكل جنحة‪.‬‬
‫‪ -2‬أن ترتكب الجريمة في الخارج‪ ،‬ألنه لو ارتكبت في الوطن فيطبق مبدأ اإلقليمية‪.‬‬
‫‪ -3‬على أن توصف الجريمة على أنه جناية أو جنحة‪.‬‬
‫‪ -4‬أن تكون هذه الجريمة ماسة بالسالمة الوطنية]‪ ،[35‬أو أن تكون تزييفا للنقود أو األوراق المصرفية‬
‫المتداولة في الجزائر وقت ارتكاب الجريمة]‪.[36‬‬
‫‪ -5‬أن تحصل الج زائر على تسليمه لها أو أن يلقى القبض عليه في الجزائر‪ .‬إذ ال يجب أن يحاكم غيابيا‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬مبدأ العالمية ‪Universalité de la répression‬‬
‫ويقصد بهذا المبدأ‪ -‬بالرغم من عدم النص عليه صراحة في القانون الجزائري‪ -‬سريان القانون الجنائي‬
‫الوطني على كافة الجرائم ذات الطابع العالمي أو الدولي متى ضبط الجاني أو ألقي عليه القبض في الجزائر‪ ،‬حيث ال‬
‫يمكن محاكمته غيابيا‪ ،‬أيا كانت جنسية هذا الشخص‪ ،‬على أال يكون جزائريا‪ ،‬ألنه في هذه الحالة يطبق مبدأ الشخصية‪،‬‬
‫وأيا كانت جنسية ال مجني عليه‪ ،‬وأيا كان مكان ارتكاب الجريمة‪ ،‬بشرط أال يكون الجزائر ألنه في هذه الحالة يطبق‬
‫القانون الجزائري على أساس مبدأ اإلقليمية ال مبدأ العالمية‪ ،‬وبشرط أال تطلب دولة أخرى تسليمه لها باعتباره من‬
‫رعاياها أو أن الجريمة مست بها بمبدأ من المبادئ السابقة‪ ،‬حيث في هذه الحالة تصبح األولى بمحاكمته‪ .‬ويبرر هذا‬
‫المبدأ رغبة الدول في التعاون من أجل مكافحة نوع معين من الجرائم التي تهم المجتمع الدولي]‪ ،[37‬والتي تشكل‬
‫عدوانا على مصلحة مشتركة بين الدول‪ ،‬كجرائم القرصنة واالتجار في الرقيق أو في المخدرات‪ ...‬وقد تجسد من خالل‬
‫اتفاقيات قد تلزم الدول المنضمة لها أن تدرج المبدأ في قانونها الداخلي مثلما هو الشأن بالنسبة التفاقية جنيف الرابعة‬
‫لسنة ‪ 1949‬المتعلقة بجرائم الحرب وغيرها من االنتهاكات الواردة بهذه االتفاقية‬

‫]‪ - [1‬وقد قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر في هذا الصدد في حكم لها مؤرخ في‪ 1999-01-02 :‬في القضية‬
‫رقم ‪ 31‬للسنة ‪ 17‬قضائية دستورية‪ ،‬أنه‪ ":‬األصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق هو إطالقها‪ ،‬باعتبار أن جوهر‬
‫تلك السلطة هو المفاضلة التي يجريها بين البدائل المختلفة التي تتصل بالموضوع محل التنظيم التشريعي‪ ،‬موازنا بينها‪ ،‬مرجحا ما‬
‫يراه أنسبها لفحواها‪ ،‬وأحراها بتحقيق األغراض التي يتوخاها‪ ،‬وأكفلها ألكثر المصالح وزنا في مجال إنفاذها‪ ،‬وليس ثمة قيد على‬
‫ممارسة المشرع لسلطته هذه‪ ،‬ما لم يكن الدستور قد فرض في شأن ممارستها ضوابط محددة"‪.‬‬
‫]‪ - [2‬والتفسير أنواع تختلف باختالف الجهة القائمة به‪ ،‬فهناك تفسير تشريعي الذي يقوم به المشرع نفسه وهو ما‬
‫يسمى ب‪ ":‬التفسير الصحيح" حيث يأخذ قوة القانون‪ ،‬وتفسير قضائي‪ ،‬وهو الذي يقوم به القضاة‪ ،‬بصدد تطبيقهم النصوص‬
‫الموضوعية على الوقائع المعروضة عليهم‪ ،‬وهو غير ملزم إال في حدود القضية التي صدر فيها بالنسبة ألطرافها والمحكمة التي‬
‫قامت به‪ ،‬وتفسير فقهي وهو شروح فقهاء القانون‪ ،‬وهو يعد في حقيقته عرض لوجهات النظر وله أهمية كبرى في إثراء الفكر‬
‫القانوني‪ ،‬كما يساعد القضاة في التفسير‪.‬‬
‫وللتفسير مناهج‪ ،‬منها المنهج الحرفي ‪ Littéral‬أو المنهج التقليدي أو الضيق‪ ،‬الذي يرتبط به المفسر ارتباطا وثيقا‬
‫بالنص‪ ،‬وجعل النص يغلب على روح القانون‪ ،‬وهو أضيق أنواع التفسير‪ ،‬والمعتمد كثيرا حتى عبر بأنه " ال اجتهاد مع النص"‪،‬‬
‫وهو المنهج الذي نادى به بيكاريا القائل " القضاة ال يجب عليهم أن يفسروا القانون لسبب وحيد هو أنهم ليسوا مشرعين"‪،‬‬
‫ويقول مونتسكيو في هذا الشأن ‪ ":‬القاضي هو عبارة عن الفم الذي ينطق به القانون"‪ ،‬و" أن الحكم القضائي هو‬
‫عبارة عن النص المحدد للقانون" ‪.‬‬
‫وهناك المنهج الغائي ‪ Téléologique‬الباحث في الغاية أو الهدف من القانون‪ ،‬معتمدا على اإلرادة الصريحة‬
‫أو المفترضة للمشرع الجنائي‪ ،‬حيث القاضي في تفسيره للنصوص يجب أن يعكس وجهة نظر المشرع الحقيقية‪ ،‬ويرى البعض‬
‫أن تفسير تقريري من خالله نقرر إرادة المشرع‪ ،‬وهو المنهج المعتمد حاليا في أغلب األنظمة القانونية كونه يتفق مع الفكر‬
‫القانوني والثقافي العام ويتناسب أكثر مع تطور الحياة االجتماعية المعاصرة‪ .‬وهناك المنهج القياسي ‪ Analogique‬حيث ال‬
‫يقصد به عند بعض الفقه القياس فقط وإنما القياس على النظام القانوني ككل‪.‬‬

‫]‪[81‬‬
‫]‪ - [3‬وهو موقف الفقيه بيكاريا في كتابه الجرائم والعقوبات‪.‬‬
‫]‪ - [4‬غير أنه هناك اتجاه فقهي يرى عدم جواز القياس حتى بالنسبة للقواعد األصلح لمتهم‪ ،‬حيث يرون أن القواعد التي‬
‫تتضمن سببا من أسباب اإلباحة أو مانع من موانع المسؤولية أو مانع من موانع العقاب‪ ،‬ال تعتبر قواعد قائمة بذاتها‪ ،‬وإنما تدخل‬
‫كجزء مكمل للقواعد التجريمية وتحد من تطبيق تلك القواعد‪ ،‬وتعكس نطاق تطبيقها‪ ،‬وبالتالي منع القياس بالنسبة لقواعد التجريم‬
‫والعقاب ال بد أن يطال النصوص التي تقرر إعفاء من اإلعفاءات‪.‬‬
‫]‪ - [5‬في القانون الجزائري المادة ‪ 368‬و ‪ 369‬الخاصة بالسرقة بين األزواج والفروع واألصول‪ ،‬وكذا المادة ‪373‬‬
‫المتعلقة بالنصب‪ ،‬والمادة ‪ 377‬المتعلقة بخيانة األمانة‪ .‬غير أن المشرع المصري لم يجعلها من موانع العقاب‪ ،‬بل جعلها من‬
‫الجرائم المقيدة بقيد الشكوى‪ ،‬وذلك ما تضمنته المادة ‪ 312‬من تقنين العقوبات المصري‪.‬‬
‫]‪ - [6‬حيث أنه من المسلمات أن القواعد القانونية الجنائية ال تنشأ لكي تبقى سارية المفعول إلى األبد‪ ،‬إذ هي قواعد تمر‬
‫بمراحل تشبه مراحل حياة اإلنسان‪ ،‬من والدة وحياة وموت‪ ،‬فيولد القانون بإصداره ويحيا بتطبيقه ويموت بإلغائه‪ ،‬وبمقتضى هذه‬
‫المسلمة‪ ،‬تتعاقب القوانين في الزمان فينتهي سريان بعضها باإللغاء ليبدأ سريان بعضها اآلخر إلى زمن قد يقصر وقد يطول‪،‬‬
‫حسب إرادة المشرع‪ ،‬وهو التعاقب الذي ينشا عنه تنازع بين أحكام القانون الملغى والقانون النافذ‪ ،‬بخصوص بعض المسائل التي‬
‫تتوالى على تنظيمها تلك القواعد‪.‬‬
‫هي مسألة تعالج في حقيقة األمر ضمن مسألة " تنازع القوانين الجنائية من حيث الزمان" ‪Conflit des lois pénales‬‬
‫‪ dans le temps‬أو يعبر عنها البعض بمسألة القانون الجنائي المرحلي ‪ Droit pénale transitoire‬خاصة وان مبدأ عدم‬
‫الرجعية مبدأ غير مطلق كونه ترد عليه استثناءات على النحو الذي سنتناوله‪ .‬وهي من أهم المبادئ التي يقوم عليها القانون‬
‫الجنائي الحديث‪ ،‬في غالبية الدول‪ ،‬سيما ذات التوجه الديمقراطي‪ ،‬وهي من النتائج المترتبة عن مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬بل مبدأ‬
‫من المبادئ التي توازيه‪ ،‬حيث أن مقتضى مبدأ الشرعية الجنائية أن يكون األفراد المخاطبين بالقاعدة الجنائية على بينة بما هو‬
‫محظور عليهم مسبقا‪ ،‬وهو ما يعني أن أفعالهم جاءت الحقة للنص ال العكس‪ ،‬وأن القول برجعية النص يخل بل يهدم تماما‬
‫مضمون الشرعية ذاتها‪.‬ومبدأ عدم الرجعية يقيد السلطة التشريعية ذاتها‪ ،‬حيث ال تملك هذه األخيرة أن تجرم وتعاقب على أفعال‬
‫سبق إتيانها قبل النص‪ ،‬وأن القول بخالف ذلك يعد اعتداءا على حريات وحقوق األشخاص من قبل السلطة التشريعية ذاتها‪ ،‬التي‬
‫خولها مبدأ الشرعية الجنائية السهر على هذه الحقوق‪ ،‬ودون مبدأ الرجعية تكون هي المعتدية‪.‬‬
‫]‪ - [7‬وفي تأسيس هذا االستثناء‪ ،‬ومحاولة إيجاد سند أو أساس فلسفي أو قانوني اختلف الفقه – مثلما جرت عليه العادة‬
‫لدى فقهاء القانون الجنائي‪ ،‬فمن الفقه من يرى أن تقرير مثل هذا االستثناء يجد أساسه في اعتبارات إنسانية‪ ،‬بينما رد البعض أن‬
‫األصح أن االستثناء يجد سنده في مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬حيث يجب أن تراعي النصوص الجنائي ما يرعى الحقوق الشخصية‬
‫ويرأف بها‪ .‬وقضت المحكمة الدستورية العليا في مصر‪ ،‬أن رجعية القانون األصلح للمتهم نتيجة حتمية لقاعدة عدم رجعية‬
‫القوانين الجنائية‪.‬‬
‫]‪ - [8‬ي رى الفقه أن مسألة تحديد القانون الصلح للمتهم‪ ،‬تتحدد بناء على أسس أو معايير موضوعية بحتة‪ ،‬أو بناء على‬
‫ضوابط قانونية يتقيد بها القاضي‪ ،‬فالقاضي وهو يفاضل بين أكثر من قانون ويبحث في أي منهما أصلح للمتهم‪ ،‬ال يعمل رأيه‬
‫الشخصي‪ ،‬وال يخضع لطلبات المتهم بتطبيق قانون دون اآلخر بحجة انه يرى فيه انه األصلح له‪ ،‬كما أن مسألة القانون األصلح‬
‫للتهم ال تقاس بالعمومية والتجريد والحكم على القانون برمته‪ ،‬بل بالنظر لكل قضية على حدا ولظروف كل جاني دون غيره‪ ،‬فما‬
‫يعد قانونا أصلحا في قضية قد ال يعد كذلك في قضية أخرى‪ ،‬وما يعد قانونا أصلحا لهذا المتهم‪ ،‬قد ال يعد كذلك بالنسبة لمتهم آخر‬
‫ارتكب ذات الجرم‪ .‬الواقعية تعني النظر لكل جريمة على حدا بناء على أركانها وظروفها ومالبساتها‪ ،‬وشخصية مقترفها‪،‬‬
‫فالقانون الواحد قد يعد أصلحا لمتهم بالنظر لظروفه الشخصية‪ ،‬وأسوأ آلخر بناء على ذات الظروف‪ ،‬فالقانون القديم مثال إذا كان‬
‫ينص على إيقاف التنفيذ وجاء آخر جديد ألغى وقف التنفيذ وأنقص العقوبة‪ ،‬فالقانون الجديد أصلح لشخص مسبوق‪ ،‬لكنه أسوأ‬
‫لشخص غير مسبوق ألنه كان يستحق وقف العقوبة‪ ،‬وبالتالي القانون القديم هو األصلح له‪ .‬وبالتالي فمسألة تطبيق القانون الصلح‬
‫للمتهم هي مسألة مقارنة بين قانونين متنازعين‪ ،‬فيما يخص الشدة‪ ،‬حيث يجب أن يحدد القانون‬
‫الصلح للمتهم‪ ،‬سواء تعلقت الشدة بشق التجريم أو تعلقت بشق العقاب‪.‬‬
‫]‪ - [9‬ومعنى ذلك أنه إذا حدث تنازع بين قانونين‪ ،‬أحدهما كان يعاقب على الفعل باعبتراه جناية عقوبتها خمس سنوات‬
‫سجن‪ ،‬وصدر قاتنون جديد يجعل من العقوبة جنحة لكن عقوبتها ‪ 6‬سنوات حبس‪ ،‬فالقانون الجديد أصلح كونه جنح الفعل والجنحة‬
‫أقل‬
‫شدة من الجنائية بغض النظر عن شق العقاب‪ ،‬بالرغم من ان مدة الحبس أطول من مدة السجن‪.‬‬

‫]‪[82‬‬
‫]‪ - [10‬قد يظهر أن عقوبة الحبس المتعلقة بالمخالفات المتمثلة في الحبس من يوم واحد إلى شهرين أخف من عقوبة‬
‫الغرامة التي تتجاوز ‪ 20.000‬دج‪ ،‬وأن الشخص لو خير بينها الختار الغرامة أضعاف مضاعفة عوض الحبس ولو ليوم واحد\‪،‬‬
‫غير أن هذا الترتيب المشرع هو الذي أورده‪ ،‬وبالتالي القاضي ملزم بتطبيقه والمتهم غير مخير بخصوصه‪ ،‬كون عقوبة الغرامة‬
‫التي تتجاوز ‪ 20.000‬دج هي عقوبة جنحة‪ ،‬وعقوبة الحبس من يوم إلى شهرين هي عقوبة مخالفة‪ ،‬وبالتالي األخيرة أخف من‬
‫األولى من وجهة نظر المشرع‪ ،‬والقاضي ملم بتطبيقها‪.‬‬
‫= غير أن محكمة النقض الفرنسية قضت في إحدى قراراتها‪ ،‬أن عقوبة الحبس دوما اشد من عقوبة الغرامة حتى ولو‬
‫صدرت في مادة المخالفات‪ .‬وليس للحكم نظير في القضاء الجزائري‪ ،‬لذا يعمل بالترتيب الوارد بالمادة ‪ .5‬حتى وإن كان يظهر‬
‫انه ال يخدم مصلحة المتهم‪.‬‬
‫]‪ - [11‬حيث أنه من الصعوبات العملية‪ ،‬الحالة التي تكون فيها الجريمة على سبيل المثال تتقادم بمضي خمس سنوات‬
‫وفي نهاية السنة الرابعة أوقف المتهم وأدين‪ ،‬لكن قبل أن يصبح الحكم نهائيا‪ ،‬صدر قانون جديد يجعل من مدة التقادم في هذه‬
‫الجريمة ثالث سنوات‪ ،‬ففي هذه الحالة وتطبيقا للقانون الصلح للمتهم الذي يطبق فيها في أي حالة كانت عليها الدعوى ما لم‬
‫يصدر حكما‬
‫باتا‪ ،‬أن نحكم بتقادم الجريمة بالرغم من الحكم باإلدانة كان مطابقا للقانون الذي صدر في ظله‪.‬‬
‫]‪ - [12‬األجنبي حتى يحاكم في الجزائر على جريمة اقترفها بالجزائر‪ ،‬يجب أن يثبت بأنه لم يحاكم عنها في الخارج أو‬
‫أن يثبت في حال محاكمته عنها في الخارج أنه قضى عقوبتها أو سقطت عنه بالتقادم‪ ،‬وذلك تطبيقا للمادة المادة ‪ 589‬من ق إ ج‬
‫ج =التي نصت على أنه‪" :‬ال يجوز مباشرة إجراء أية متابعة من أجل جناية أو جنحة اقترفت في الجزائر ضد أجنبي يكون قد‬
‫أثبت أنه قد حوكم نهائيا من أجل هذه الجناية أو الجنحة في الخارج وأن يثبت في حالة اإلدانة أنه قضى العقوبة أو تقادمت‬
‫أو صدرعفو عنها ‪".‬‬
‫]‪ - [13‬نرى أن صياغة المادة تنقصها بعض الدقة‪ ،‬حيث كان يتعين على المشرع الجزائري أن يضيف عبارة جزائري‬
‫لكلمة قانون العقوبات‪ ،‬وتضاف عبارة الجزائرية لعبارة أراضي الجمهورية‪.‬‬
‫كما كان يتعين على المشرع الجزائري اإلشارة صراحة لباقي المبادئ األخرى في الفقرة الثانية‪ ،‬كون المسألة‬
‫موضوعية وليست إجرائية‪ ،‬فهي تتعلق بتطبيق النص من حيث المكان‪ .‬وهو من صميم اهتمامات القانون الموضوعي ال‬
‫اإلجرائي‪.‬‬
‫]‪ - [14‬نحن تناولنا المبررات بهذا الشكل تسهيال الستيعابها‪ ،‬غير أن الفقه في غالبيته يبني مبررات المبدأ على ثالثة‬
‫زوايا أو ثالثة اعتبارات‪ ،‬أوال ‪ :‬االعتبار الدولي وهو أن قانون العقوبات القانون المعبر عن سيادة الدولة على إقليمها واعتبارات‬
‫السيادة تتعارض وتطبيق تشريع جنائي لدولة ما على إقليم دولة أخرى‪ ،‬ثانيا‪ :‬االعتبار العقابي وهو أن تطبيق مبدأ اإلقليمية يحقق‬
‫الغرض من العقوبة المتمثل في تحقيق الردع العام الذي يعد هدفا أساسيا للعقوبة‪ ،‬ومن المناسب أن نعاقب على الجريمة المرتكبة‬
‫في أقرب مكان لوقوعها كونها أخلت بالنظام العام في هذا المكان بالذات‪ ،‬وخلقت فيه اضطرابا اجتماعيا فال بد أن يحاكم الجاني‬
‫ويعاقب في هذا المكان وتنفذ فيه العقوبة حتى يكون عبرة مما يحقق التخويف والردع الذي يهدف إليه القانون الجنائي‪ ،‬ثالثا‪:‬‬
‫االعتبار اإلجرائي وهو مبدأ يؤدي لحسن سير العدالة وتسهيل إجراءات البحث والتحري‪ ،‬كما أن القاضي الوطني يفترض فيه‬
‫العلم بقانون بلده وجهله بالقانون األجنبي‪ ،‬مما يسهل عملية اإلجراءات الجنائية‪ ،‬من تحقيقات وبحث وتحري ومحاكمة‪ ،‬وتسهيل‬
‫اإلثبات‪ ،‬حيث في هذا المكان تتوفر أدلة اإلثبات والشهود ويمكن سماع أقوال المجني عليه‪ ،‬األمر الذي يصعب إن كان التحقيق‬
‫والمحاكمة يجري بعيدا عن المكان الذي وقعت فيها الجريمة‪ ،‬فيحقق مبدأ اإلقليمية بذلك اقتصاد في الجهد والوقت‪.‬‬
‫]‪ - [15‬إقليم الدولة وفقا للقانون الدولي العام‪ ،‬هو أوال‪ :‬اإلقليم األرضي‪ ،‬وهو مساحة اليابسة التي تحدها الحدود‬
‫السياسية للدولة وكذا ما يوجد تحت هذه المساحة من طبقات‪ ،‬وسواء كانت هذه األرض متصلة أو منفصلة مثلما هو الحال بالنسبة‬
‫للدول التي تتكون من عدة جزر‪ ،‬ويشمل كل ذلك السهول والوديان والهضاب والمرتفعات والبحيرات وكذا ما في باطن األرض‬
‫من مواد طبيعية‪ ،‬كما ال يمنع أن يكون إقليم الدولة الواحدة في عدة قارات‪ ،‬ويضاف إلى ذلك المياه اإلقليمية المتمثلة في ذلك‬
‫الجزء الواقع بين الساحل وبين خط وهمي مواز لذلك الساحل‪ ،‬واإلقليم الجوي الذي يشمل كل ما يعلو اإلقليم األرضي‬
‫والمائي‪.‬ثانيا ‪ :‬اإلقليم المائي أو البحري للدولة‪ ،‬ويشمل مساحات الماء الداخلية من أنهار وطنية وأجزاء تابعة للدولة من األنهار‬
‫الدولية والبحيرات والبحار المغلقة والقنوات والمضايق والخلجان والموانئ البحرية‪ ،‬والبحر اإلقليمي المالصق لشواطئ الدولة‪،‬‬
‫ودرجت العادة أن تحدد كل دولة بصفة منفردة مياهها اإلقليمية‪ .‬ثالثا‪ :‬اإلقليم الجوي‪ ،‬ويشمل كل طبقات الهواء التي تعلو اإلقليم‬
‫األرضي والمائي دون طبقات الجو العليا واألجرام السماوية التي تخضع التفاقية دولية تسمى االتفاقية الخاصة بتنظيم استغالل‬
‫واستعمال الدولة للطبقات العليا في الجو الصادرة عن الجمعية العامة لألمم المتحدة في مشروعها في ‪.1966/12/19 :‬‬

‫]‪[83‬‬
‫بينما المفهوم الجنائي لإلقليم‪ ،‬يشمل باإلضافة إلى ما سبق‪ ،‬اإلقليم الحكمي الذي يعني امتداد اإلقليم للطائرات والسفن‬
‫وبخصوصه‪ ،‬هناك اتفاقية جنيف الموقعة سمة ‪ 1958‬قسمت السفن إلى سفن عامة وأخرى خاصة‪ ،‬ومن قبيل السفن العامة السفن‬
‫الحربية وما في حكمها كالسفن المقلة للوفود الرسمية وسفن التموين‪ ،‬وتتمتع السفن العامة بحصانة عامة في أعالي البحار وال‬
‫تخضع ألي اختصاص إال الختصاص الدولة التي ترفع علمها ( المادة ‪ 9‬من اتفاقية جنيف)‪ ،‬كما تسري ذات الحماية والحصانة‬
‫إذا كانت هذه السفن مبحرة أو راسية في المياه اإلقليمية لدولة أخرى‪ ،‬بشرط أن تحترم قوانين الدول األخرى وإال حق طردها (‬
‫المادة ‪ 3‬من اتفاقية جنيف)‪ ،‬أما السفن الخاصة كالسفن التجارية وسفن الصيد وما في حكمها‪ ،‬فإن االختصاص ينعقد للدولة التي‬
‫تحمل السفينة علمها‪ ،‬إال في الحاالت التي حددتها النصوص القانونية ( مثلما هو األمر بالنسبة للمادتين ‪ 590‬و‪ 591‬ق إ ج ج )‪.‬‬
‫أما بخصوص الطائرات‪ ،‬نظمتها اتفاقية طوكيو لسنة ‪ ،1963‬ويسري ذات الفرق الذي رأيناه بخصوص السفن العامة والسفن‬
‫الخاصة على الطائرات‪ ،‬حيث القاعدة أن الجرائم التي ترتكب على متن الطائرات من اختصاص قانون= =الدولة التي تحمل‬
‫الطائرة علمها‪ ،‬سواء كانت داخل حدود إقليمها أو خارجه‪ .‬ما عدا االستثناءات المبينة بنصوص قانون اإلجراءات الجزائية‪.‬‬
‫]‪ - [16‬وإن كان في الحقيقة اإلشكال أثار العديد من الخالفات الفقهية‪ ،‬حيث ظهرت نظرية السلوك التي يرى أنصارها‬
‫أن العبرة بالمكان الذي حدث فيه السلوك وال عبرة بالنتائج‪ ،‬ونظرية النتيجة وعكس االتجاه األول يرى أنصارها أن العبرة‬
‫بالمكان الذي حدثت فيه النتيجة التي بدونها ال يكون للجريمة وجود‪ ،‬ونظرية ثالثة تسمى النظرية المختلطة‪ ،‬التي تعتد بمكان كل‬
‫من السلوك والنتيجة‪ ،‬حيث يختص القانون الذي ارتكبت فيه الجريمة كلها أو جزء منها‪ ،‬وهو اتجاه يقترب من آخر يرى أن مكان‬
‫ارتكاب الجريمة هو المكان الذي وقع فيه الجزء المميز و الرئيسي أو األساسي الذي أخذ به المشرع الفرنسي في نص المادة‬
‫‪ 693‬من قانون إجراءاته والمشرع الجزائري في نص المادة ‪ 586‬من قانون اإلجراءات‪.‬‬
‫]‪ - [17‬وهي شروط نرى أنها وجيهة ومعقولة وواجه بها المشرع فكرة عدم إفالت الجناة من العقاب‪ ،‬وال يجب أن يفهم‬
‫من عبارة " أعالي البحار " أنه أهمل األماكن األخرى‪ ،‬بل أن المياه اإلقليمية محكومة بالقاعدة العامة التي تضمنتها المادة ‪ 3‬من‬
‫تقنين العقوبات‪ ،‬والمياه اإلقليمية األجنبية محكومة بمبدأ اإلقليمية المنصوص عليه في قانون الدولة التي تتبعها هذه األقاليم‪ ،‬لتبقى‬
‫أعالي البحار المكان الوحيد غير الخاضع لسلطة أي قانون‪ ،‬وواجهه المشرع الجزائري بنص المادة ‪ 1/590‬من قانون‬
‫اإلجراءات الجزائية‪ ،‬لكن اإلشكال هو الذي سنبينه بعد حين‪ ،‬عند تناولنا للفقرة الثانية من ذات المادة‪.‬‬
‫]‪ - [18‬ن رى أنه كان على المشرع الجزائري أن يستعمل حرف " الواو" بين اشتراط الجنسية للجاني أو المجني عليه‪،‬‬
‫وهبوطها بالجزائر‪ ،‬ألنه بالشكل الذي هي عليه المادة يختص القانون الجزائري بمجرد هبوط الطائرة بالجزائر حتى ولو لم يكن‬
‫الجاني أو المجني عليه جزائريا‪ ،‬وهو وضع صعب لفرض تطبيق القانون الجزائري‪ ،‬كما انه صعب إذا كان الجاني أو المجني‬
‫عليه جزائريا والطائرة أجنبية ولم تحط بالجزائر‪ ،‬فهنا كيف للقانون الجزائري أن يتتبع هذه الطائرة خارج اإلقليم الوطني‪.‬‬
‫]‪ - [19‬وتتمثل غالبية هذه االستثناءات في حصانة مقتضاها عدم تطبيق قانون العقوبات لبلد ما على بعض الجرائم‬
‫بالرغم من ارتكابها على إقليم الدولة‪ ،‬وذلك تحقيقا لبعض االعتبارات المعينة‪ ،‬الحصانة ‪ Immunité‬هي حماية شخص أو فئة‬
‫معينة أو تقرير امتياز معين‪ ،‬لضمان أداء وظائف معينة على الوجه األكمل وتزول الحصانة بانتهاء المهمة أو الوظيفة‪ ،‬وهناك‬
‫حصانة داخلية تختلف باختالف النظام الداخلي للدولة وفلسفة التشريع فيها‪ ،‬وحصانات مقررة وفقا للقانون الدولي‪ ،‬المعتمدة عن‬
‫طرق اتفاقية فيينا المؤرخة في ‪ 1961-04-18‬وتشمل رؤساء الدول األجنبية وأفراد أسرتهم وحاشيتهم المرافقة لهم وكذلك‬
‫الممثلين الدبلوماسيين للدول األجنبية وزوجاتهم وأوالدهم والعاملين معهم إذا كانوا من غير رعايا الدولة العاملين بها‪،‬‬
‫وتشمل الحصانة جميع الجرائم التي يرتكبونها سواء تعلقت بأعمال وظيفتهم أو لم تتعلق‪.‬‬
‫]‪ - [20‬ونالحظ على صياغة هذه المادة أنه يسودها بعض الغموض‪ ،‬خاصة باختصاص هذه المحكمة في الجرائم التي‬
‫يرتكبها رئيس الجمهورية‪ ،‬حيث يفهم من الفقرة األولى منها أنها تختص فقط باألفعال التي توصف بالخيانة العظمى‪ ،‬في حين‬
‫الفقرة الثانية يفهم منها اختصاصها أيضا بنظر الجنايات والجنح التي يرتكبها كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة‪ ،‬وهو‬
‫الوزير األول في التعديل الدستوري األخير‪ .‬ويظهر أن المادة ميزت أوال أفعال الخيانة العظمى بالنظر لخطورتها‪ ،‬ثم ضمنت‬
‫الفقرة الثانية باقي الجنايات والجنح التي يمكن أن يرتكبها رئيس الجمهورية أثناء تأدية مهامه‪.‬‬
‫وأفعال الخيانة العظمى‪ ،‬هي أفعال التعاون مع العدو ضد السالمة األمنية واالقتصادية للوطن‪ ،‬أو األفعال التي تشكل‬
‫مساسا بالوحدة الترابية له‪ .‬ونحن ال نرى بأن وضع رئيس الجمهورية في الجزائر هو استثناء على مبدأ إقليمية النص الجنائي‪ ،‬بل‬
‫هو معاملة إجرائية من نوع خاص‪ ،‬ألن االستثناء يعني عدم الخضوع أصال للقانون الوطني‪ ،‬في حين أنه في هذه الحالة‬
‫ن رى أنه يخضع للقانون الجزائري لكن أمام جهة قضائية غير الجهات القضائية التي تحاكم سائر األفراد‪.‬‬
‫]‪ - [21‬والمقصود السلطة التشريعية أيا كانت تسميتها في الدول األخرى‪ ،‬مثل الكونغرس ومجلس الشيوخ في الواليات‬
‫المتحدة األمريكية‪ ،‬والكريملن في روسيا‪ ،‬أو مجلس اللوردات في إنجلترا‪ ،‬أو مجالس الملك في المملكات‪....‬‬

‫]‪[84‬‬
‫]‪ - [22‬حول مفهوم الحصانة البرلمانية‪ ،‬يمكن القول أنها وضع خاص مقرر للحيلولة دون خضوع أعضاء الهيئة‬
‫التشريعية لقانون العقوبات الوطني بالخصوص – في غالبية دول العالم‪ -‬بخصوص الجرائم القولية أو الكتابية التي تتعلق بتأدية‬
‫مهامهم النيابية‪ ،‬من قذف وسب وإفشاء أسرار أو بالغات كاذبة أو إهانة السلطات‪ ،‬وذلك لتمكينهم من أداء مهامهم النيابية في‬
‫حرية كاملة سيما في الجوانب المتعلقة بمراقبة عمل السلطة التنفيذية‪ ،‬دون خوف من تعقبهم أو مالحقتهم قضائيا‪ ،‬كون سيف‬
‫المالحقة والعقاب حتى ولو كان نظريا من شأنه أن يحد واقعيا من حرية هؤالء‪ ،‬ويدفعهم للتردد قبل توجيه أي نقد للسلطة‬
‫التنفيذية‪ ،‬وهي حصانة لصيقة بصفة النائب يتمتع بها طيلة فترة نيابته‪ ،‬لكن يجب أن ترتبط بما يصدر عنه بمناسبة تأدية مهامه‪،‬‬
‫وهنا كل ما يشترط أن يحصل اإلذن من الهيئة التشريعية‪ ،‬في الجرائم غير المتعلقة بالمهام الوظيفية النيابية‬
‫]‪ - [23‬إن كانت مسألة الحصانة البرلمانية مسألة مفهومة‪ ،‬خاصة وأن غالبية الدول تعترف بها ألعضاء السلطة‬
‫التشريعية‪ ،‬وهي الحصانة التي قررت في حقيقة األمر ألجل هدف إبعاد النواب عن كل أنواع الضغوطات بمناسبة مناقشة القوانين‬
‫وسياسات الحكومة العامة وغيرها من المهام التي تدخل ضمن مهام السلطة التشريعية‪ ،‬وبالتبعية تقييد تحريك الدعاوى العمومية‬
‫إلجراءات خاصة تبعد النائب أن يكون عرضة للمتابعات الكيدية‪ ،‬سيما في الدول التي تعرف التعددية الحزبية‪ ،‬وما قد يقود إليه‬
‫ذلك من متابعات تعسفية لنيل الخصوم من بعضهم البعض‪ ،‬إال أن مسألة حظر رفع الدعاوى المدنية عليهم أمر يبقى غير مفهوم‪،‬‬
‫خاصة وأ ن عضو البرلمان مواطن يتعامل مع باقي المواطنين كبائع وكمشتري ومستأجر ومؤجر ودائن ومدين‪ ،‬فكيف نمنع‬
‫تحريك الدعاوى المدنية ضده طيلة مهملته النيابية وأثر ذلك على تقادم حقوق الغير‪...‬‬
‫]‪ - [24‬التلبس بالجنايات والجنح بينت حاالته وأحكامه وإجراءاته المادة ‪ 41‬وما بعدها من قانون اإلجراءات الجزائية‬
‫الجزائري‪ ،‬حيث قضت المادة السابقة أنه‪ ":‬توصف الجناية أو الجنحة بأنها في حالة تلبس إذا كانت مرتكبة في الحال أو عقب‬
‫ارتكابها‪.‬‬
‫كما تعتبر الجناية أو الجنحة متلبسا بها إذا كان الشخص المشتبه في ارتكابه إياها في وقت قريب جدا من وقت وقوع‬
‫الجريمة قد تبعه العامة بصياح أو وجدت في حيازته أشياء أو وجدت في حيازته أشياء أو وجدت أثار أو دالئل تدعو إلى افتراض‬
‫مساهمته في الجناية أو الجنحة‪.‬‬
‫وتتسم بصفة التلبس كل جناية أو جنحة وقعت ولو في غير الظروف المنصوص عليها في الفقرتين السابقتين‪ ،‬إذا كانت‬
‫قد ا رتكبت في منزل أو كشف صاحب المنزل عنها عقب وقوعها وبادر في الحال باستدعاء أحد ضباط الشرطة القضائية‬
‫إلثباتها‪.".‬‬
‫]‪ - [25‬ويرى البعض أن الحصانة الرئاسية تمتد لزوج الرئيس‪ ،‬أما باقي األعضاء فهم يتمتعون بحصانة دبلوماسية‬
‫بشرط إبالغ القائمة المتعلقة بأسمائهم قبل الزيارة لسلطات الدولة المعنية بالزيارة‪.‬‬
‫]‪ - [26‬قد حدث سنة ‪ 1873‬أن ملك هولندا كان في زيارة لسويسرا وهو متخف فارتكب مخالفة حكم عليه بغرامة‬
‫وأثناء التنفيذ عليه كشف عن شخصيته فلم ينفذ الحكم عليه‪ ،‬كما حدث سنة ‪ 1997‬أن قرر القضاء األمريكي منع المحاكمة عن‬
‫سلطان بروناي بتهمة إقدامه على احتجاز ملكة جمال أمريكا في قصره‪.‬‬
‫]‪ - [27‬ويمكن التنازل عن الحصانة ويالحق الدبلوماسي‪ ،‬وقد حدث في فرنسا وأن قام سفير دولة الزائير في فرنسا‬
‫جريمة قتل خطا أودت بحياة طفلين‪ ،‬وحالت الحصانة دون مالحقته أمام القضاء الفرنسي في مرحلة أولى‪ ،‬لكن وأمام الغضب‬
‫الكبير الذي أبداه الرأي العام الفرنسي‪ ،‬اضطرت دولة زائير إلى استدعاء سفيرها وقرر بعدها رئيس جمهورية هذه الدولة التنازل‬
‫عن الحصانة الدبلوماسية‪ ،‬وعاد السفير لفرنسا وسلم نفسه بإرادته إلى السلطات الفرنسية أين حوكم وقضي عليه بثالث سنوات‪،‬‬
‫وبالتالي ال يجوز للسفير التنازل بإرادته عن الحصانة ما لم تجزه دولته‬
‫]‪ - [28‬يفرق بعض الفقه بخصوص مبدأ الشخصية الجنائية بين شقه اإليجابي وشقه السلبي‪ ،‬وذلك ألن قوانين دول‬
‫هؤالء الفقهاء تبني المبدأ على زاوية النظر ما إن كان الشخص جانيا أو مجنيا عليه‪ ،‬في الحالة األولى يكون إيجابيا وفي الحالة‬
‫الثانية يكون سليا‪ ،‬وهو الوضع غير المعمول به في القانون الجزائري الذي ال يولي أهمية إال للشخص الجاني‪.‬‬
‫]‪ - [29‬التي نصت على أنه‪ ":‬كل واقعة موصوفة بأنها جناية معاقب عليها من القانون الجزائري ارتكبها جزائري‬
‫خارج إقليم الجمهورية يجوز أن تتابع ويحكم فيها في الجزائر‪ .‬غير أنه ال يجوز أن تجري المتابعة أو المحاكمة إال إذا عاد الجاني‬
‫إلى الجزائر ولم يثبت أنه حكم عليه نهائيا في الخارج وأن يثبت في حالة الحكم باإلدانة أنه قضى العقوبة أو سقطت عنه بالتقادم‬
‫أو حصل على العفو عنها"‪ ،‬وقد أكد على ذلك قرار صادر عن المحكمة العليا في ‪ ": 1969-01-21‬تخول المادة ‪ 582‬المحاكم‬
‫الجزائرية االختصاص لمتابعة كل واقعة موصوفة بأنها جناية في القانون الجزائري والحكم فيها إذا ارتكبها جزائري خارج إقليم‬
‫الجمهورية‪".‬‬
‫]‪ - [30‬كيف للمشرع الجزائري التدخل بعقاب شخص جزائري عن فعل يسمح به قانون الدولة التي يتواجد بها‪ ،‬وقد‬
‫يكون يأذن به‪ ،‬ال ألمر سوى ألنه الفعل موصوف في القانون الجزائري بأنه جناية‪ ،‬وهذا الشخص قد يكون مولود ألب جزائري‬

‫]‪[85‬‬
‫في الخارج‪ ،‬ولم ير في حياته الجزائر‪ ،‬لذا كان على األقل أن يضيف المشرع الجزائري شرط ن يكون الفعل موصوف كذلك في‬
‫هذا القانون بأنه جناية أو على األقل جنحة‪.‬‬
‫]‪ - [31‬وذلك حتى ال يكون حمل الجنسية الجزائرية ألجل مالذا للمجرمين‪ ،‬وهو شرط نصت عليه المادة ‪ 584‬من‬
‫قانون اإلجراءات الجزائية التي قضت انه‪ " ":‬يجوز أن تجري المتابعة أو يصدر الحكم في الحاالت المنصوص عليها آنفا في‬
‫المادتين ‪ 582‬و‪ 583‬حتى ولو لم يكن المتهم قد اكتسب الجنسية الجزائرية إال بعد ارتكابه الجناية أو الجنحة‪.".‬‬
‫]‪ - [32‬التي نصت على أنه‪ ":‬كل واقعة موصوفة بأنها جنحة سواء في نظر القانون الجزائري أم في نظر تشريع القطر‬
‫الذي ارتكبت فيه يجوز المتابعة من أجلها والحكم فيها في الجزائر إذا كان مرتكبها جزائري‪.‬‬
‫وال يجوز أن تجري المحاكمة أو يصدر الحكم إال بالشروط المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة ‪.582‬‬
‫وعالوة على ذلك فال يجوز أن تجري المتابعة في حالة ما إذا كانت الجنحة مرتكبة ضد احد األفراد إال بناء على طلب‬
‫النيابة العامة بعد إخطارها بشكوى من الشخص المضرور أو ببالغ من سلطات القطر الذي ارتكبت الجريمة فيه"‬
‫وأكد على ذلك قرار صادر عن المحكمة العليا في ‪ ": 1981-07-‬كل واقعة موصوفة بأنها جنحة في نظر القانون‬
‫الجزائري أو في نظر تشريع القطر الذي ارتكبت فيه يجوز المتابعة من أجلها والحكم فيها في الجزائر إذا كان مرتكبها جزائريا‬
‫ولم يبرر هذا ألخير أنه حوكم نهائيا عليها أو في حالة صدور عقوبة ضده أن هذه العقوبة نفذت عليه أو أنها تقادمت أو صدر‬
‫في شأنها إجراء بالعفو‪".‬‬
‫]‪ - [33‬وهنا نشير بأنه إن كان الفعل يشكل جناية في القانون الجزائري وجنحة في القانون األجنبي طبقت المادة ‪582‬‬
‫ال المادة ‪ ،583‬غير أن االنتقاد الذي يمكن توجيهه هذه المرة‪ ،‬هو ن المشرع اكتفى بوصف الجنحة في أحد القانونين فقط‪ ،‬مما‬
‫يعني أن الفعل إذا كان مباحا في الجزائر ومجرم في الخارج طبق النص‪ ،‬والعكس صحيح‪ ،‬وهنا نعود لذات النقد الذي قدمناه‬
‫بخصوص الجنايات‪ ،‬ونقول ما دخل القانون الجزائري للعقاب على فعل مباح في الخارج ال لشيء سوى ألنه مجنح في الجزائر؟‬
‫وما دخل القانون الجزائري للعقاب على فعل مباح في الجزائر ومجنح في الخارج؟؟؟؟؟‪.‬‬
‫وإن كان الفعل يوصف على أنه جناية في القانون الجزائري‪ ،‬وجنحة ف القانون األجنبي طبق نص المادة ‪ 582‬ال‬
‫نص المدة ‪583‬‬
‫]‪ - [34‬التي نصت على أنه‪ " ":‬كل أجنبي ارتكب خارج اإلقليم الجزائري بصفة فاعل أصلي أو شريك جناية أو جنحة‬
‫ضد سالمة الدولة الجزائرية أو تزييف النقود أو أوراق مصرفية وطنية متداولة قانونا بالجزائر تجوز متابعته ومحاكمته وفقا‬
‫ألحكام القانون الجزائري إذا ألقي القبض عليه في الجزائر أو حصلت الحكومة على تسليمه لها‪.".‬‬
‫]‪ - [35‬م صطلح المساس بالسالمة الوطنية مصطلح واسع جدا‪ ،‬حيث يفهم منه كل الجرائم المتعلقة بأمن الدولة ووحدتها‬
‫الترابية وحماية اقتصادها‪ ،‬المنصوص عليها من المادة ‪ 61‬حتى ‪ 96‬من تقنين العقوبات الجزائري‪.‬‬
‫]‪ - [36‬ال عقاب على تزييف النقود التي خرجت من نطاق التداول‪ ،‬حيث أضحت ال قيمة اقتصادية وال قانونية لهان‬
‫وبالتالي فهي ليست بحاجة لفرض حماية جنائية عليها‪ ،‬وبخصوص تزوير وتزييف النقود في القانون الجزائري راجع المادة ‪197‬‬
‫وما يليها من تقنين العقوبات‪.‬‬
‫]‪ - [37‬ويرجع األصل التاريخي للمبدأ للفقيه جوستنيان وإن كان يرى الفقه أن أول من صاغ المبدأ في مطلع القرن‬
‫السابع عشر كان جروسيوس في التزام الدولة التي تقبض على الجاني إما بعقابه أو تسليمه‬

‫الفصل الثاني‬
‫أسباب اإلباحة أو أسباب التبرير‬

‫]‪[86‬‬
‫سبق لنا القول في تعريفنا لمبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬أنه مبدأ يقتضي أال جريمة وال جزاء إال بنص قانوني‬
‫مكتوب صادر عن سلطة مختصة بإصداره طبقا ألحكام الدستور‪ ،‬وأن يكون هذا النص ساريا من حيث الزمان‬
‫والمكان‪ ،‬وفقا لما تم تبيانه في الفصل األول‪ ،‬وباإلضافة إلى ذلك‪ ،‬يجب أال يكون قد توفر لدى مرتكب الفعل سبب من‬
‫أسباب اإلباحة التي تنفي عن الفعل صفة الالمشروعية التي يقتضيها مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬وتؤدي إلى صيرورته‬
‫مباحا‪ ،‬وذلك بالرغم من تطابقه مع النموذج التشريعي للجريمة‪ ،‬لذا فهذه األسباب يمكن القول باختصار أنها عبارة عن‬
‫حاالت تتوفر في أحوال معينة يقدرها المشرع ويقرر بمقتضاها إخراج الفعل من دائرة التجريم إلى دائرة اإلباحة‪ .‬األمر‬
‫الذي يقتضي منا تناول ماهية هذه األسباب‬
‫أ و الحاالت‪ ،‬وتبيان تقسيماتها وآثارها‪ ،‬وتمييزها عما يشابهها من أفكار‪ ،‬وذلك في مبحث‪ ،‬لنتناول في الثاني أسباب‬
‫اإلباحة‪ ،‬سبب بسبب‪ ،‬وفقا لما تضمنه قانون العقوبات الجزائري‪ ،‬ونضيف إليه بعض األسباب األخرى التي تأخذ بها‬
‫بعض األنظمة الجنائية في القانون المقارن‪ .‬وأهمها رضاء المجني عليه وحالة الضرورة‪.‬‬

‫المبحث األول‬
‫ماهية أسباب اإلباحة وآثارها القانونية‬
‫أسباب اإلباحة أو أسباب التبرير‪ ،‬عبارة عن ظروف موضوعية عينة لصيقة بماديات الجريمة‪ ،‬أي‬
‫بالركن المادي للجريمة‪ ،‬وال عالقة لها إطالقا بشخصية الجاني ونفسيته‪ ،‬بمعنى اقتران أسباب اإلباحة بالركن المادي‬

‫]‪[87‬‬
‫للجريمة‪ ،‬ال بالركن المعنوي له ا‪ ،‬وهي إذا ما توافرت أخرجت الفعل من دائرة التجريم إلى دائرة اإلباحة‪ ،‬أي تؤدي إلى‬
‫صيرورة الفعل مباحا بعدما كان مجرما‪ ،‬وأسباب اإلباحة على عدة أنواع‪ ،‬بحسب التقسيمات المختلفة التي أوردها الفقه‪،‬‬
‫غير أن المشرع حصرها بعددها وموضوعها وجوهرها‪ ،‬وتتشابه مع العديد من األفكار الجنائية المشابهة لها‪ ،‬غير أنها‬
‫تختلف عنها‪ ،‬وأهم ما تختلف فيه عن هذه األفكار من حيث اآلثار القانونية المترتبة عليها‪ ،‬وهي المسائل التي سنحاول‬
‫توضيحها في المطالب التالية‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫معنى أسباب اإلباحة وتقسيماتها‬
‫تحديد المعنى الدقيق ألسباب اإلباحة أو أسباب أو حاالت التبرير‪ ،‬يقتضي منا تناول المقصود بها‪ ،‬ومن‬
‫ثم تمييزها عما يشابهها من أفكار‪ ،‬وكذا تحديد أهم آثارها القانونية ومختلف التقسيمات التي أعطيت لها‪ ،‬وذلك في‬
‫الفروع التالية‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫المقصود بأسباب اإلباحة‬
‫أسباب اإلباحة عبارة عن ظروف موضوعية عينية حددها المشرع‪ ،‬وجعل من أهم آثارها نفي الصفة‬
‫التجريمية عن الفعل بعدما كان مجرما‪ ،‬أي نفي الصفة غير المشروعة عن الفعل بالرغم من تطابقه مع النموذج‬
‫التشريعي للجريمة التي تضمنها النص العقابي‪ ،‬لذا يمكن تعريفها بأنها‪ :‬الحاالت التي ترفع عن الفعل صفة الجريمة‬
‫وتجعله مباحا بالرغم من تطابقه مع الواقعة المجرمة بنص القانون‪ ،‬وذلك ألن القانون ذاته هو الذي سمح بارتكاب هذا‬
‫الفعل في ظل توفر مثل هذه الظروف‪ ،‬كونها ظروف إذا ما اقترنت بالفعل جردته من معنى العنوان – والعدوان هو‬
‫سبب التجريم بداية‪ ،-‬لذا يمكن اعتبار أسباب اإلباحة عبارة عن قيود ترد على النص التجريمي فتعطل مفعوله‪ ،‬وتخرج‬
‫الواقعة المتضمنة في النص من دائرة التجريم إلى دائرة اإلباحة‪ .‬أي تجعل من الفعل مشروعا بعدما كان يتصف بعدم‬
‫المشروعية‪ .‬وبالتالي إن كان األصل في األفعال اإلباحة‪ ،‬واالستثناء التجريم‪ ،‬فأسباب اإلباحة استثناء على هذا االستثناء‬
‫( التجريم)‪ ،‬وبالتالي هي العودة إلى األصل‪ ،‬أي األصل في األشياء اإلباحة‪ .‬وبالنظر لما يترتب عن أسباب اإلباحة من‬
‫آثار‪ ،‬كان يتعين علينا تناول مصدرها‪ ،‬قبل مسألة تمييزها عما يشابهها من أفكار‪ .‬وذلك في النقطتين التاليتين‪.‬‬
‫أوال‪ :‬مصادر أسباب اإلباحة‬
‫ب النظر لما يترتب على أسباب اإلباحة من آثار قانونية‪ ،‬وأهمها تقييد النص التجريمي بالرغم من قيمته‬
‫وأهميته وأهدافه‪ ،‬فالمنطق يوجب أن يكون المشرع هو المحدد والمقدر للظروف التي يعتبرها سببا من أسباب اإلباحة‪،‬‬
‫ما دام هو الذي حدد األفعال التي تشكل جرائم‪ ،‬لذا فمن المنطقي أن تكون أسباب اإلباحة محددة على سبيل الحصر في‬
‫قانون العقوبات‪ ،‬غير أن هذا الحصر يتعلق بموضوعها ال بمصدرها‪ ،‬إذ سبق القول عند دراسة نتائج مبدأ الشرعية‬
‫الجنائية‪ ،‬أنه تستثنى هذه القواعد العامة ( مثل حظر التفسير والقياس وأحادية المصدر) في حال تعلق األمر بمصلحة‬
‫المتهم‪ ،‬إذ يجوز بالتالي أن يكون مصدر اإلباحة غير قانون العقوبات‪ ،‬وذلك ال يخل بقولنا بوجوب أن تكون محددة‬
‫حصرا بموضوعها‪ ،‬كما يجوز اللجوء إلى القياس في مجال أسباب اإلباحة‪ ،‬وكذا التفسير الواسع لها‪ ،‬إذ مبدأ الشرعية‬
‫الجنائية يقضي بأن يكون القانون المصدر الوحيد‪ ،‬ويحظر القياس والتفسير الواسع في مسائل التجريم والعقاب‪ ،‬ال في‬
‫المجاالت التي تخدم صالح المتهم‪ ،‬كأسباب اإلباحة وموانع المسؤولية وموانع العقاب‪ .‬لذا فأسباب اإلباحة يمكن أن تجد‬
‫مصدرها في الشريعة اإلسالمية أو العرف أو فروع القانون غير الجنائية‪ ،‬أو مبادئ العدالة وأحكام القانون الطبيعي‪،‬‬
‫على أن ترد بموضوعها إلى حالة من الحاالت التي تضمنها قانون العقوبات‪ ،‬وذلك ما يتضح عند دراستنا لهذه األسباب‬
‫تباعا‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬تمييز أسباب اإلباحة عما يشابهها من أفكار جنائية‬
‫مفهوم أسباب اإلباحة وما تمت إليه اإلشارة من آثارها – بطريقة عرضية‪ -‬تجعلها تشتبه بالعديد من‬
‫األفكار األخرى التي يتضمنها القانون الجنائي‪ ،‬وأهمها موانع المسؤولية وموانع العقاب‪ ،‬وأحيانا بعض الموانع‬
‫اإلجرائية‪ ،‬غير أن قولنا أن أسباب اإلباحة عبارة عن ظروف موضوعية لصيقة بالركن المادي للجريمة‪ ،‬وغير ذات‬
‫عالقة بشخصية الجاني ونفسيته‪ ،‬يجعلها تختلف اختالفا كبيرا عن موانع المسؤولية وموانع العقاب‪ ،‬كما تختلف عن‬

‫]‪[88‬‬
‫الموانع اإلجرائية المتعلقة بقانون اإلجراءات‪ ،‬في حين أسباب اإلباحة أسباب متعلقة بالقنون الموضوعي المتمثل في‬
‫قانون العقوبات‪ ،‬وهو ما نبينه من خال ل النقاط الثالثة التالية‪ ،‬وذلك باختصار‪ ،‬على اعتبار أن هذه الموانع سيحين‬
‫موضع دراستها بالقدر والتفصيل الالزم للموضوع‪.‬‬
‫‪ -1‬أسباب اإلباحة وموانع المسؤولية‪:‬‬
‫م وانع المسؤولية عبارة عن حاالت بتوفرها تتأثر أهلية الشخص أو قدرته على االختيار واإلدراك‪ ،‬على‬
‫اعت بار المسؤولية الجنائية تقوم على التمييز والقدرة على االختيار والحرية فيه‪ ،‬وبالتالي كلما زالت هذه المكنات كان‬
‫الشخص غير مسؤول جنائيا‪ ،‬كصغر السن أو الجنون أو اإلكراه المسلط عليه‪ ،‬وهو ما بينه المشرع الجزائري في‬
‫المواد من ‪ 47‬إلى ‪ 51‬من تقنين العقوبات‪ .‬وهو ما يبين بوضوح بأن موانع المسؤولية‪ ،‬عبارة عن عوامل داخلية‬
‫شخصية تتعلق بشخصية الجاني ال بالركن المادي للجريمة]‪ ،[1‬على عكس أسباب اإلباحة التي تتعلق بالركن المادي‬
‫للجريمة‪ .‬هذا من جهة‪ .‬و من جهة ثانية‪ ،‬أسباب اإلباحة تنصب على النص فتعطل مفعوله‪ ،‬مما يحول دون قيام‬
‫ال جريمة أصال‪ ،‬على عكس موانع المسؤولية التي ال أثر لها على قيام الجريمة‪ ،‬بل فقط على تخلف شرط من شروط‬
‫مسائلة الشخص‪ .‬وبالتالي الختالف أسباب اإلباحة عن موانع المسؤولية‪ ،‬العديد من اآلثار القانونية التي يرتبها القانون‬
‫الجنائي‪ ،‬وأهمها‪:‬‬
‫أ‪ -‬إن إثبات أسباب اإلباحة أمر يسير مقارنة بإثبات موانع المسؤولية‪ ،‬كون األولى عبارة عن ظروف‬
‫موضوعية لصيقة بالجريمة يسهل إثباتها‪ ،‬على عكس موانع المسؤولية التي تعد أسباب نفسية داخلية أمر إثباتها صعب‪،‬‬
‫كونه يتطلب تحليل نفسية الجاني وحالته النفسية‪ ،‬وهو أمر يتجاوز قدرات القاضي‪ ،‬لذا يلجا بخصوصها في العادة‬
‫للخبرة النفسية‪ ،‬عدا حالة اإلكراه‪.‬‬
‫ب‪ -‬تطبيق أسباب اإلباحة يمتد لكل شخص ساهم في الجريمة‪ ،‬سواء بوصفه فاعال أصليا أو شريكا‪ ،‬أي يستفيد‬
‫منها كل شخص ساهم في الجريمة‪ ،‬وذلك باعتبارها ظرفا لصيقا بالجريمة‪ ،‬بينما موانع المسؤولية باعتبارها موانع‬
‫لصيقة بشخصية الجاني‪ ،‬فال يمكن أن يستفيد منها إال من توفرت لديه‪.‬‬
‫ج‪ -‬أسباب اإلباحة تمحي عن الفعل صفته التجريمية‪ ،‬وبذلك تحول دون تطبيق أي جزاء من أي نوع كان‪ ،‬في‬
‫حين موانع المسؤولية ال تحول دون تطبيق التدابير االحترازية]‪.[2‬‬
‫د‪ -‬أسباب اإلباحة مادامت تنفي الجريمة‪ ،‬فهي تنفي المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية]‪ ،[3‬بينما موانع‬
‫المسؤولية ال تنفي قيام المسؤولية المدنية‪ ،‬حيث يلزم الشخص أو مسؤوله المدني بتعويض ما سببته أفعاله من أضرار‬
‫مادية]‪.[4‬‬
‫‪ -2‬أسباب اإلباحة وموانع العقاب‪:‬‬
‫موانع العقاب أيضا عبارة عن موانع شخصية تتعلق بالشخص الجاني‪ ،‬إذا ما توفرت ترتب عنها عدم‬
‫عقاب الشخص‪ ،‬وال يستفيد منه إال من توفرت في حقه‪ ،‬وال تمتد إلى غيره من المساهمين معه في الجريمة‪ ،‬كما ال تنفي‬
‫قيام هذه الجريمة‪ ،‬بل تظل جريمة في نظر المشرع إال أن المانع يحول دون توقيع الجزاء فقط‪ ،‬وهي ال تحول دون قيام‬
‫المسؤولية الجنائية‪ ،‬وال المسؤولية المدنية‪ ،‬وهي بذلك تختلف تماما عن أسباب اإلباحة على النحو الذي سبق تباينه]‪.[5‬‬

‫‪ -3‬أسباب اإلباحة والموانع اإلجرائية]‪:[6‬‬


‫وهي موانع إجرائية يقدر المشرع العتبارات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ألسباب تتعلق بمالئمة‬
‫السياسة الجنائية ذاتها أنها تمنع من مالحقة فاعل الجريمة ورفع الدعوى العمومية ضده‪ ،‬ومن أمثلة االعتبارات‬
‫السياسية‪ ،‬الحصانة السياسية والدبلوماسية التي يتمتع بها أعضاء السلك السياسي والدبلوماسي والقنصلي على إقليم‬
‫الدولة المضيفة‪ ،‬وكذا الحصانات البرلمانية‪ ،‬ومن االعتبارات االقتصادية‪ ،‬تقييد رفع الدعوى على الطلب في الجرائم‬
‫المرتكبة ضد مصالح الجيش الوطني الشعبي]‪ ،[7‬واألسباب االجتماعية مثل جريمة الزنا والسرقة بين األزواج‪ ...‬ومن‬
‫الموانع المتعلقة بحسب السياسة الجنائية‪ ،‬التقادم‪ ،‬وكل هذه المسائل مجرد عقبات إجرائية تحول دون مالحقة الفاعل‬
‫ورفع الدعوى العمومية في مواجهته‪ ،‬غير أنها ال تعني زوال الصفة اإلجرامية عن فعله‪ ،‬وهي ال تمنع دون قيام‬
‫المسؤولية المدنية أيضا‪ ،‬بالرغم من هذه القيود‪ ،‬لذا فهي قيود شخصية يستفيد منها من توفرت لصالح فقط دون‬

‫]‪[89‬‬
‫المساهمين معه في الجريمة‪ .‬على عكس أسباب اإلباحة‪ .‬وإن كانت الموانع اإلجرائية في بعض الحاالت قد يستفيد منها‬
‫غير الشخص الذي قررت لصالحه‪ ،‬مثل حاالت الحصانة السياسية أين تستفيد منها كل الحاشية المرافقة للشخص‪ ،‬وفي‬
‫حاالت الحصانة الدبلوماسية التي يستفيد منها كل أعضاء السفارة أو القنصلية‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬أساس اإلباحـة وتحديد طبيعتها‬
‫بكل إيجاز‪ ،‬يرى البعض أن أساس اإلباحة هو انتفاء موجب التجريم‪ ،‬كون المشرع وفقا للقواعد العامة‬
‫ال يجرم إال األفعال التي تشكل اعتداء على المصالح االجتماعية التي يرى ضرورة حمايتها‪ ،‬لذا فإن رأى هذه األفعال‬
‫في بعض الظروف ال تؤثر على الحقوق المحمية‪ ،‬أو إذا كانت تضر ببعض الحقوق وتحمي البعض اآلخر مما يوليه‬
‫الرعاية أكثر‪ ،‬فإنه يغلب جانب اإلباحة على جانب التجريم‪ ،‬حيث قد تكون صيانة لما يجب حمايته‪ ،‬مثل تدخل الطبيب‬
‫على جسم اإلنسان بالرغم من حماية القانون ألجسام وأبدان أفراد المجتمع‪ ،‬وهو الوضع في كل حالة يرى فيها المشرع‬
‫أن حماية حق أولى بالرعاية من حماية حق آخر‪ ،‬فهنا يرفع الصفة التجريمية عن الفعل‪ ،‬وكلما حدث تنازع بين حقين‬
‫فإنه يقرر حماية للحق األعز شأنا واألرجح كفة‪،‬‬
‫أو الحق الذي يعد من الناحية االجتماعية أغلى وأهم‪ ،‬كلما استحال حماية حق دون إهدار اآلخر‪ ،‬لذا يجب إهدار أدني‬
‫الحقين قيمة‪ .‬لذا فأسباب اإلباحة من طبيعة موضوعية – ذات طبيعة مادية ملموسة ‪ -‬ال شخصية‪ ،‬فهي تنتج أثرها‬
‫بعيدا عن الموقف النفسي للفاعل‪ ،‬وسواء كان يعلم بوجودها أو يجهل ذلك‪ ،‬وسواء كان حسن النية وقت اقتراف الفعل أو‬
‫سيئ النية‪ ،‬حتى ولو كان يطفئ غال أو حقدا‪ ،‬كمن يرى شخص يقتل اآلخر فدافع عنه وقتل المعتدي بالرغم من الغل‬
‫والحقد الذي كان يجمعهما]‪ .[8‬كما ال يقتصر أثر أسباب اإلباحة على الفاعل وحده‪ ،‬بل تمتد إلى شركائه‪ ،‬تجسيدا لقاعدة‬
‫" للفرع حكم األصل"‪.‬‬
‫وبوجه عام‪ ،‬يمكن القول أن أسباب اإلباحة تنحصر في ثالثة أسباب‪ ،‬هي القيام بما أمر أو أذن به القانون‪ ،‬وهو‬
‫ما يسميه ا لفقه والقانون العربيين باستعمال الحق وأداء الواجب أو ممارسة الرخصة‪ ،‬ومن هذه الناحية يمكن القول أن‬
‫أسباب اإلباحة واردة قانونا على سبيل الحصر‪ ،‬غير أن من حيث الواقع فهي في مناي عن حصرها ألنها تتعدد بقدر‬
‫تعدد الحقوق والرخص والواجبات‪ .‬كما أن أسباب اإلباحة تستلهم وجودها من فروع القانون األخرى المعروفة في‬
‫النظام القانوني للدولة ككل‪ ،‬بمعنى تجد أسباب اإلباحة مصدرها في فروع القانون األخرى‪ ،‬على اعتبار أنه رغم تعدد‬
‫فروع القانون في النظام القانوني الواحد‪ ،‬فإن هذه الفروع تتكامل وال تتناقض أحكامه‪ ،‬إذ ال يمكن للقانون أو المشرع أن‬
‫يأمر أو يبيح فعل معين في فرع من فروع القانون‪ ،‬ليجرمه في فرع قانوني آخر‪ ،‬لذا يجب التسليم بأن ما يبيحه أو يأمر‬
‫به فرع من فروع القانون فهو قيد على نص التجريم‪ ،‬في الحدود وبالشروط التي يبينها هذا الفرع من فروع القانون‪،‬‬
‫وفي ذلك ال وجود ألدنى مساس بمبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬كون المسألة تتعلق باإلباحة ال بالتجريم‪ ،‬خاصة وأنه سبق لنا‬
‫القول بان كل المسائل التي تخدم مصلحة المتهم‪ ،‬تعد من استثناءات نتائج مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬خاصة ما تعلق بأسباب‬
‫اإلباحة أو موانع المسؤولية أو موانع العقاب‪ .‬لذا فالقياس جائز في مجال أسباب اإلباحة‪ ،‬فيجوز إضفاء حكم سبب من‬
‫أسباب اإلباحة على حكم آخر توفرت فيه ذات العلة التي تقررت ألجلها اإلباحة‪ .‬خاصة وأن القياس في مجال أسباب‬
‫اإلباحة‪ ،‬حسب البعض‪ ،‬ال يدخل في مسائل القانون الجنائي‪ ،‬بل هو من مجاالت فروع القانون األخرى‪ ،‬وأن القياس‬
‫بحسب األصل جائز في هذه الفروع القانونية‪ ،‬لذا ال يجوز للفقه الجنائي أن يرفض هذا القياس‪ .‬لذا فيمكن أن تخضع‬
‫أسباب اإلباحة لمبدأ الرجعية وذلك كقاعدة عامة ألنها أصلح للمتهم‪ ،‬على العكس إذا ما كان يتشدد في تطبيقها فال تسري‬
‫على الماضي‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫تقسيمات أسباب اإلباحة‬
‫وتحديـــد آثـــــارها‬
‫يقسم الفقه أسباب اإلباحة العديد من التقسيمات‪ ،‬وذلك بتعدد الزوايا التي ينظر منها إليها‪ ،‬فقسمت بحسب‬
‫نطاقها ( أو يمكن القول بحسب المستفيد منها) إلى أسباب إباحة مطلقة وأسباب إباحة نسبية‪ ،‬وقسمت بحسب موضوعها‬
‫( بحسب أنواع الجرائم) إلى أسباب إباحة عامة وأسباب إباحة خاصة‪ ،‬وقسمت بحسب طبيعتها بحسب موضع النص‬
‫عليها في القانون‪ ،‬وبهذا الخصوص هناك من القوانين من تأخذ بسببين وهناك من تأخذ بأكثر من ذلك‪ ،‬غير أن االتفاق‬

‫]‪[90‬‬
‫التشريعي حاصل بخصوص الدفاع الشرعي‪ ،‬وما أمر أو أذن به القانون‪ ،‬والخالف ينحصر في العادة حول رضاء‬
‫المجني عليه‪ ،‬وحالة الضرورة‪.‬‬
‫أوال‪ :‬تقسيم أسباب اإلباحة بحسب نطاقها ( بحسب المستفيدين منها)‬
‫ب النظر لنطاق أسباب اإلباحة أو األشخاص المستفيدين منها‪ ،‬قسمت أسباب اإلباحة إلى أسباب إباحة‬
‫مطلقة وأسباب إباحة نسبية‪ ،‬األولى وهي تلك األسباب التي يستفيد منها بصفة مطلقة كل شخص وجد في الظروف‬
‫المنصوص عليها ضمن النص المقرر للسبب‪ ،‬ومثاله الدفاع الشرعي الذي قرر لكل شخص يدافع عن نفسه أو نفس‬
‫الغير أو عن ماله أو مال الغير‪ ،‬بينما أسباب اإلباحة النسبية‪ ،‬فهي تلك األسباب التي تقتصر االستفادة منها على أشخاص‬
‫تتوفر فيهم صفة معينة تعد من شروط تطبيق سبب اإلباحة‪ ،‬كالطبيب في إجراء العمليات الجراحية‪ ،‬والزوج في تأديب‬
‫زوجته‪ ،‬واألب في تأديب ابنه‪ ،‬والموظف في حال تنفيذ أوامر القانون‪...‬‬
‫ثانيا‪ :‬تقسيم أسباب اإلباحة بحسب موضوعها‬
‫قسمت أسباب اإلباحة بحسب موضوعها‪ ،‬أو بالنظر إلى الجرائم المقترنة بها‪ ،‬إلى أسباب إباحة عامة‬
‫وأسباب إباحة خاصة‪ ،‬األولى وهي تلك األسباب التي يمكن تصور قيامها بخصوص كل أنواع الجرائم‪ ،‬مثل الدفاع‬
‫الشرعي]‪ ،[9‬وأما أسباب اإلباحة الخاصة‪ ،‬فهي تلك التي تتقرر بالنسبة لبعض الجرائم دون البعض اآلخر‪ ،‬كإباحة‬
‫القذف أثن اء الدفاع أمام المحاكم‪ ،‬والجرح بالنسبة للطبيب في العمليات الجراحية‪ ،‬والضرب الخفيف غير المبرح بالنسبة‬
‫لتأدب الزوجة من قبل الزوج‪ ،‬أو تأديب اإلبن من قبل الولي‪...‬‬
‫ثالثا‪ :‬تقسيم أسباب اإلباحة بحسب طبيعتها‬
‫وهو التقسيم الذي يستند في تقسيمه ألسباب اإلباحة على موضوع النص عليها‪ ،‬وبعبارة أخرى ما إن‬
‫كان يعتد بها المشرع من عدمه‪ ،‬كون أسباب اإلباحة متعددة‪ ،‬تتفق غالبية التشريعات حول بعضها‪ ،‬مثلما هو األمر‬
‫بالنسبة للدفاع الشرعي وما أمر به القانون‪ ،‬وال تتفق حول البعض اآلخر‪ ،‬مثلما هو الشأن بالنسبة لحالة الضرورة‬
‫ورضاء المجني عليه‪ .‬وأحيانا حول ما أذن به القانون‪.‬‬
‫و بصفة عامة‪ ،‬يمكن القول أن أسباب اإلباحة هي‪ :‬ما أمر أو أذن به القانون وتسمى في دول أخرى‬
‫باستعمال الحق وأداء الواجب أو استعمال الحق الشخصي وممارسة السلطة‪ ،‬الدفاع الشرعي ويسمى أيضا الدفاع‬
‫المشروع‪ ،‬وهي التسمية التي اعتمدها المشرع الجزائري‪ ،‬حالة الضرورة‪ ،‬ورضاء المجني عليه الذي ضاق نطاقه في‬
‫الوقت الحالي‪ .‬وفي قانون العقوبات الجزائري‪ ،‬أسباب اإلباحة تضمنتها المادة ‪ 39‬كقاعدة عامة‪ ،‬وأضافت المادة ‪40‬‬
‫نوعا خاصا من أنواع الدفاع الشرعي والتي يسميها الفقه حاالت الدفاع الشرعي الممتازة‪ .‬وسنتناول ذلك تفصيال بعد أن‬
‫نبين في الفرع الموالي آثار أسباب اإلباحة‪.‬‬

‫الفرع الثالث‬
‫آثـــــار أسباب اإلباحة‬
‫ي مكن تبين آثار أسباب اإلباحة من التمييز الذي قمنا به بينها وبين موانع المسؤولية وموانع العقاب‪ ،‬إذ‬
‫في حال ما توفر سبب من أسباب اإلباحة في الفعل‪ ،‬فإنه تترتب عليه العديد من اآلثار القانونية التي تفاديا للتكرار‬
‫نوجزها في النقاط التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬توفر سبب من أسباب اإلباحة‪ ،‬يجعل من الفعل الذي يعد في الحاالت العادية جريمة فعال مباحا‪ ،‬أي الفعل‬
‫الذي يشكل بحسب األصل جريمة إذا ما اقترف في الظروف العادية‪ ،‬إذا ما اقترن بسبب من أسباب اإلباحة عد فعال‬
‫مباحا‪ ،‬مما ينفي كل مسؤولية عنه ويحول دون توقيع أي جزاء على مقترفه‪ .‬سواء تمثل في عقوبة أو تدبير أمن‪.‬‬
‫‪ -2‬انتفاء المس ؤولية الجنائية في حالة توفر سبب من أسباب اإلباحة يقود أيضا إلى انتفاء المسؤولية المدنية‪ ،‬إذ‬
‫ال يمكن للشخص أن يعوض عن فعل يسمح به القانون وقد يأمر به أحيانا‪ .‬أو يرخص به في الكثير من األحيان‪.‬‬

‫]‪[91‬‬
‫‪ -3‬كقاعدة عامة‪ ،‬يستفيد من أسباب اإلباحة كل من ساهم في الفعل المقترن به‪ ،‬باعتبار أسباب اإلباحة تنصب‬
‫على الفعل ذاته ال على الفاعلين‪ .‬كونها أسباب موضوعية عينية ال ذاتية أو شخصية‪.‬‬
‫‪ -4‬الجهل بأسباب اإلباحة أو الغلط فيها ال يحول دون استفادة الشخص منها‪ ،‬كون أسباب اإلباحة ظروف‬
‫عينية موضوعية‪ ،‬في حين الجهل والغلط أسباب نفسية وشخصية‪ ،‬وال يجوز إعمال هذا النوع في مجال ماديات‬
‫الجريمة‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫أسباب اإلباحة في قانون العقوبات الجزائري‬
‫نصت المادة ‪ 39‬من تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬على أنه‪ ":‬ال جريمـة‪:‬‬
‫‪ -1‬إذا كان الفعل قد أمر أو أذن به القانون‪،‬‬
‫‪ -2‬إذا كان الف عل قد دفعت إليه الضرورة الحالة للدفاع المشروع عن النفس أو عن الغير أو مال مملوك‬
‫للشخص أو مملوك للغير بشرط أن يكون الدفاع متناسبا مع جسامة االعتداء‪[10]".‬‬
‫وبالتالي أسباب اإلباحة وفقا لقانون العقوبات الجزائري‪ ،‬سببين‪ ،‬األول وهو ما أمر أو أذن به القانون‪،‬‬
‫وجرت العادة أن يقسم هذا السبب إلى قسمين‪ ،‬يتم تناول حاالت إذن القانون منفصلة عن حاالت أوامر القانون‪ ،‬والثاني‬
‫الدفاع الشرعي أو المشروع‪ ،‬وهو ما نتناوله في المطالب الثالثة التالية‪:‬‬
‫المطلب األول‬
‫تنفيذ ما أمر به القانون كسبب من أسباب اإلباحة‬

‫]‪[92‬‬
‫د راسة تنفيذ أوامر القانون كسبب من أسباب اإلباحة‪ ،‬تقتضي منا دراسة ماهية هذا السبب في حد ذاته‪،‬‬
‫من خ الل تبيان المقصود واألساس والعلة من تقريره‪ ،‬وكذا تحديد أبعاده وذلك في فرع أول‪ ،‬لنتناول في الثاني‪ ،‬الشروط‬
‫المتطلبة في أوامر القانون حتى تعد سببا من أسباب اإلباحة‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫معنى أوامر القانون التي تعد سببا من أسباب اإلباحة‬
‫ال نقصد بأوامر القانون كأسباب لإلباحة بأن مثل هذه األوامر تشكل دوما جرائم غير أنها مباحة‪ ،‬بل نقصد تلك‬
‫الحاالت التي يرى فيها المشرع انه من األجدر تعطيل مفعول النص الجنائي وإباحة الخروج عليه تحقيقا لمصلحة‬
‫اجتماعية معينة‪ ،‬بالرغم من الفعل ينطوي على جريمة لو ارتكب في الظروف العادية بعيدا عن هذا األمر]‪ ،[11‬لذا‬
‫يأمر فيها القانون بإتيان بعض األفعال‪ ،‬التي لوال هذا األمر لعدت جرائم في الظروف العادية‪ ،‬كاألمر باإلدالء بالشهادة‬
‫أمام الجهات القضائية الجزائية وإباحة ما يترتب عن هذه الشهادة من إفشاء لألسرار‪ ،‬وإلزام الطبيب بإفشاء ما يعاني‬
‫منه مرضاه من أمراض معدية‪ ،‬بالرغم من التزام الطبيب بالسر المهني‪ ،‬واحترام الحياة الخاصة لمرضاه‪ ،‬وتنفيذ عقوبة‬
‫اإلعدام من الموظف المكلف بذلك‪ ،‬وحبس وسجن األشخاص تنفيذا لألحكام القانونية والقضائية‪ ،‬التي لوالها لعد الفعل‬
‫جريمة حبس تعسفـــي ( المادة ‪ 291‬وما بعدها)‪ ....‬ففي مثل هذه الحاالت‪ ،‬لوال أمر القانون‪ ،‬لعدت األفعال السابقة‬
‫جرائم معاقب عليها‪ ،‬وتجد مثل هذه األوامر القانونية سندها في تقدير المشرع بأن األمر ينطوي على تحقيق مصلحة‬
‫اجتماعية أج در من المصلحة التي كانت محمية قانونا‪ ،‬مما ينفي عن الفعل صفته التجريمية‪ ،‬ويحول دون قيام أية‬
‫مسؤولية من أي نوع كان‪.‬‬
‫وثارت مسألة البحث في معنى أوامر القانون‪ ،‬وما إن كان يقصد بها أوامر القانون الجنائي فقط أم غيره من‬
‫القوانين األخرى‪ ،‬واستقر الرأي على أن المقصود هو القانون بمعناه الواسع‪ ،‬بما فيه األوامر اإلدارية]‪ ،[12‬وهنا ثار‬
‫تساؤال آخر‪ ،‬يتمثل في مدى اعتبار األوامر اإلدارية التي يصدرها الرئيس لمرؤوسيه سبب من أسباب اإلباحة في‬
‫الحاالت التي تكون فيها متسمة بعدم المشروعية‪ ،‬فهل في مثل هذه الحاالت ينفذها المرؤوس وتعد سببا من أسباب‬
‫اإلباحة؟ أم يمتنع عن تنفيذها بحجة عدم مشروعيتها‪ ،‬وفي هذه الحالة يجوز أصال للمرؤوس أن يفحص مشروعية‬
‫األوامر الصادرة له من رؤساءه؟‪ ،‬بصدد اإلجابة عن التساؤالت السابقة‪ ،‬انقسم الفقه إلى ثالثة اتجاهات‪ ،‬األول يرى في‬
‫األوامر اإلدارية غير المشروعة سببا من أسباب اإلباحة‪ ،‬والثاني يرى العكس‪ ،‬واتجاه وسط راجح يرى وجوب التفرقة‬
‫بين وضعين‪ ،‬وضع الالمشروعية الظاهرة والالمشروعية غير الظاهرة‪.‬‬
‫أوال‪ :‬تنفيذ األمر اإلدارية غير المشروع سبب من أسباب اإلباحة‬
‫و ينطلق هذا االتجاه من أن تنفيذ األوامر اإلدارية الصادرة من الرؤساء للمرؤوسين أمر واجب‪ ،‬وذلك‬
‫بغض النظر عن مشروعيتها من عدمها‪ ،‬ألن خضوع المرؤوس ألوامر رؤساءه أمر واجب‪ ،‬وال يملك أصال حق‬
‫مراقبة مشروعية األوامر المعطاة له‪ ،‬وال حق له في االمتناع عن تنفيذها وإال قامت مسؤوليته التي إن لم تكن جزائية‬
‫فهي إدارية أو تأديبية‪ ،‬ألن القول بغير ذلك يعطل سير المرافق العامة بانتظام واطراد‪ ،‬وبالتالي على المرؤوس متى‬
‫أعطي أمرا إداريا من رئيسه أن ينفذه‪ ،‬حتى ولو كان غير مشروع‪ ،‬وأن هذا التنفيذ يعد سببا من أسباب اإلباحة‪ ،‬وال‬
‫يجوز للشخص المنفذ عليه هذا األمر أن يرده بالدفاع الشرعي‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬تنفيذ األوامر اإلدارية غير المشروعة جريمة‬
‫على عكس أنصار االتجاه السابق‪ ،‬يرى أنصار هذا االتجاه أن تنفيذ المرؤوس لألوامر اإلدارية غير‬
‫المشروعة الصادرة إليه من رؤساءه يعد جريمة‪ ،‬وبالتالي يجوز للشخص المنفذ عليه هذا األمر أن يرده عن طريق‬
‫الدفاع الشرعي متى توفت شروطه‪ .‬ونرى نحن أنه نفس موقف المشرع الجزائري من خالل ما يتبين من استقراء‬
‫المواد من ‪ 107‬لغاية ‪ 110‬مكرر]‪ .[13‬هناك قرار عن المحكمة العليا صادر في ‪ 1981-06-07‬يقضي بأنه ‪ ":‬إن‬
‫تنفيذ الموظف ألوامر غير قانونية واردة عن مسؤوليه ال تدخل في إطار األعذار القانونية المنصوص عليها في المواد‬
‫من ‪ 277‬إلى ‪ 283‬ق ع ج‪ .‬وما دامت ال تدخل في نطاق األعذار التي تعد أسباب شخصية خاصة‪ ،‬فهي ال تعد أيضا‬
‫سبب من أسباب اإلباحة‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬مدى وضوح حالة عدم المشروعية من عدمها‬

‫]‪[93‬‬
‫الرأي الوسط والراجح بين الرأيين السابقين‪ ،‬هو الرأي الذي يفرق أنصاره بين حالتي وضوح عدم‬
‫مشروعية األمر اإلداري الصادر للمرؤوس من عدمها‪ ،‬ففي الحالة التي تكون فيها ظاهرة يجب على المرؤوس االمتناع‬
‫عن تنفيذ األمر اإلداري غير المشروع الصادر إليه‪ ،‬وإال عد مرتكبا لجريمة يجوز ردها من قبل المنفذ عليه األمر‪،‬‬
‫على عكس الحالة التي ال تكون فيها عدم المشروعية ظاهرة‪ ،‬فهنا يكون تنفيذ المرؤوس لألمر الصادر إليه سببا من‬
‫أسباب اإلباحة التي ال يجوز مقاومتها من قبل المنفذ عليه األمر‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫شروط أوامر القانون كسبب من أسباب اإلباحة‬
‫ب عيدا عن الجدل السابق‪ ،‬فإن الفقه أوجد بعض الشروط الواجب مراعاتها في تنفيذ أوامر القانون حتى‬
‫تكون سببا من أسباب اإلباحة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬أ ن يكون األمر قد نص عليه القانون صراحة ودون لبس أو غموض‪ ،‬وأن يصدر في الحاالت التي يجوز‬
‫فيها إصدار مثل هذا األمر‪ ،‬وبالشروط والقيود والحاالت الواردة بالنص‪ ،‬مثل تفتيش المساكن‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يصدر األمر من جهة مختصة بإصداره‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يصدر لشخص مختص بتنفيذ األمر‪.‬‬
‫‪ -4‬أن تكون هناك عالقة وظيفية بين الرئيس والمرؤوس‪.‬‬
‫‪ -5‬أن يكون تنفيذ األمر بحسن نية‪.‬‬
‫وعموما‪ ،‬يجب أن تكون الحالة التي أتي فيها الموظف العام العمل مطابقا من كل وجوهه لألوضاع التي‬
‫تضمنها القانون‪ ،‬وأن يكون فيها العمل مقرر بموجب نص قانوني‪ ،‬أو أمر رئاسي من رئيس يوجب القانون طاعته‪،‬‬
‫بشرط أن يكون القائم به مختصا بمباشرته‪ ،‬وأن تتحقق دواعي إتيان العمل‪ ،‬وان يباشر على النحو الذي رسمه القانون‪،‬‬
‫غير أنه في أوامر الرؤساء‪ ،‬فيجب إثبات تلقيه األمر من رئيسه وأن يكون هذا األمر مستوفي لشروط صحته‪ ،‬سواء‬
‫كانت شروط شكلية أو شروط موضوعية‪ ،‬فالشروط الشكلية أن يفرغ األمر في الشكل الذي يوجب القانون إفراغه فيه‪،‬‬
‫كما يجب أن يك ون صادرا عن رئيس مختص لمأمور مختص أيضا‪ ،‬وهو ما يختلف باختالف الحاالت واألوضاع‪ ،‬وأن‬
‫يكون األمر مما يدخل في اختصاص الرئيس إصداره‪ ،‬حيث هناك أوامر مقصورة على نوع من الرؤساء اإلداريين دون‬
‫البعض اآلخر‪ ،‬كما أن المنفذ يختلف باختالف الحاالت‪ ،‬فليست كل األوامر مما يمكن لكل الموظفين تأديتها‪ ،‬فتنفيذ حكم‬
‫اإلعدام له المكلفين به‪ ،‬والتفتيش له أشخاصه‪ .. ،‬وإن كان القانون يشترط صدور األمر كتابة فال يجوز صدوره شفاهة‪.‬‬
‫مع احترام الشروط الموضوعية‪ ،‬التي يقصد بها المقدمات التي يشترط فيها القانون اتخاذ األمر‪ ،‬فتنفيذ حكم اإلعدام‬
‫يقتضي وجود حكم نهائي بات استنفذ كل طريق الطعن وإجراءات طلب العفو‪ ،‬والعديد من اإلجراءات األخرى‪ ،‬حتى‬
‫يمكن تنفيذ حكم اإلعدام‪ .‬وباستكمال األمر لشروطه الشكلية والموضوعية يكون على المرؤوس واجب تنفيذه‪ ،‬حتى ولو‬
‫تخلفت بعض شروطه إذا كان القانون يفرض على المرؤوس واجب الطاعة دون إمكانية مراقبة مشروعية األمر‪ ،‬مثلما‬
‫هو الشأن بالنسبة لألوامر العسكرية‪ ،‬وهنا يرى البعض أن المرؤوس يتحلل فقط من واجب التحري على الشروط‬
‫الموضوعية‪ ،‬لكن الشروط الشكلية يجب عليه التأكد من توفرها قبل التنفيذ وإال سئل عن الفعل وعوقب إن كان يشكل‬
‫جريمة‪ ،‬خاصة ما يتعلق بأنه من األوامر التي تدخل ضمن اختصاصه وصادر ممن يملك سلطة أمره‪ ،‬وانه مستوفي‬
‫للشكليات التي حددها القانون‪ ،‬بل يرى البعض أن المرؤوس يجب عليه االمتناع عن تنفيذ أوامر الرئيس إذا كانت‬
‫الشروط الموضوعية ظاهرة البطالن‪ ،‬حتى ولو كانت الشروط الشكلية متوفرة‪ ،‬مثل الحالة التي يطلب فيها الرئيس‬
‫العسكري من الجندي إطالق الناري على جار تشاجر معه أو إلقاء القبض على أحد الناس وقتله‪ ،‬أما في حالة عدم‬
‫مشروعية العمل‪ ،‬وهو كأن يكون خارج عن اختصاص الموظف العام‪ ،‬أو قام به تنفيذا ألمر غير واجب الطاعة‪ ،‬ففي‬
‫هذه الحاالت يسأل الموظف عن فعله ويعاقب‪ ،‬غير أن بعض القوانين‪ ،‬ومنها القانون المصري في مثل هذه الحالة‬
‫يتحرى عن " حسن نية الموظف" في المادة ‪ 63‬من تقنين العقوبات‪ ،‬وحسن النية في هذه الحالة مسألة موضوعية تستقل‬
‫محكمة الموضوع بتقديرها‪ ،‬مستعينة في ذلك بكل الطرق الممكنة قانونا‪ ،‬بشرط أن يبذل الموظف جهدا في التحري من‬
‫مشروعية األمر وأن يكون اعتقاده بالمشروعية مبنيا على أسباب معقولة‪ ،‬أخذا بعين االعتبار كل المالبسات والظروف‬
‫المحيطة‪ ،‬ووضع الموظف وقدراته‪ ،‬لذا فالمسألة تختلف باختالف األحوال واألوضاع‪ ،‬والمعيار هو معيار الرجل‬

‫]‪[94‬‬
‫العادي في وظيفة الموظف وظروفه والمؤثرات التي ازدحمت عليه‪ .‬وتوفر حسن النية لدى الموظف ينفي قصده‬
‫الجنائي‪ ،‬غير أن يعاقب إن كان الفعل يمكنه القيام جريمة غير عمدية‪.‬‬
‫و على العموم بخصوص تنفيذ األوامر غير المشروعة‪ ،‬فهنا يجد الموظف نفسه أمام واجبين متناقضين‪،‬‬
‫األول هو إطاعة أوامر الرئيس‪ ،‬والواجب الثاني هو إطاعة القانون‪ ،‬وذلك بعدم تنفيذ األمر المخالف للقانون‪ ،‬أي تنازع‬
‫بين القانون اإلداري وقانون العقوبات‪ ،‬وهنا يجب احترام قانون العقوبات‪ ،‬وإال قامت مسؤولية المرؤوس إن لم يثبت أنه‬
‫اكره معنويا من قبل رئيسه‪ ،‬أو اعتقد خطئا بمشروعية األمر الصادر إليه‪ ،‬وهنا ينتفي لديه القصد الجنائي لكن هنا يمكن‬
‫مسائلته عن جريمة خطئية‪ ،‬إن كانت الجريمة تقبل القيام عن طريق الخطأ‪ ،‬وأن يتحرى عن المشروعية‪ .‬وهو نفس‬
‫الوضع بالنسبة للقانون الفرنسي الجديد في نص المادة ‪ ، 4-122‬التي يفهم منها مسائلة المرؤوس في حال ارتكاب فعل‬
‫غير مشروع‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫ما أذن به القانون كسبب من أسباب اإلباحة‬
‫على غرار ما قمنا به في المطلب األول‪ ،‬سنحاول أن نبين المعنى من هذا السبب وشروطه‪ ،‬لنتناول في‬
‫الثاني بعض تطبيقاته ‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫معنى إذن القانون كسبب من أسباب اإلباحة‬
‫إن تقرير حق لشخص يبيح له بالضرورة استعماله حتى ولو كانت صورة هذا االستعمال يشكل جريمة‪ ،‬ألن‬
‫الحق الذي يمنع استعماله ال يعد حقا‪ ،‬وهي مسألة بديهية ال تحتاج إلى نص يقررها‪ ،‬لذا فكل فعل ارتكب بنية سليمة‬
‫عمال بحق مقرر بمقتضى الشريعة‪ ،‬أو بحكم فرع من فروع القانون‪ ،‬يعد سببا لإلباحة‪ ،‬لذا سنحاول أن نتناول معنى‬
‫اإلذن وشروط ممارسته في النقاط التالية‪.‬‬
‫أوال‪ :‬معنى اإلذن القانوني كسبب من أسباب اإلباحة‬
‫ه ي حاالت يجيز أو يسمح فيها القانون لشخص بالقيام ببعض األفعال التي لو ارتكبت خارج هذا اإلذن‬
‫لعدت جرائم معاقب عليها قانونا‪ ،‬غير أنها على عكس أوامر القانون‪ ،‬هي حاالت تعد مجرد رخصة من المشرع‬
‫للشخص أن يمارسها أو أن يتركها‪ ،‬ففيها يمكن إعمال الرأي الشخصي على عكس أوامر القانون التي يلزم الموظف‬
‫بتنفيذها وإال قامت مسؤوليته‪ .‬وموضع هذه الحاالت في العادة هو بعض القوانين الخاصة التي تسمح ببعض األفعال‬
‫التي تعد في نظر قانون العقوبات جرائم‪ ،‬إعماال لمبدأ الخاص يقيد العام‪ ،‬وعلة ذلك أن اإلذن في الحاالت المسموح بها‬
‫يحقق فائدة أجدر من الفائدة التي يحققها النص الحامي للحق‪ .‬لذا مصدر هذه الحاالت ال يقتصر على قانون العقوبات‪،‬‬
‫بل يمكن أن يكون مصدره العرف أو الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫وبخصوص مصادر اإلذن – أو الحق مثلما تستعمله قوانين المشرق‪ -‬فإن المتفق عليه أن القانون هو‬
‫المصدر العام لكل الحقوق‪ ،‬كون فكرة الحق ترتبط ارتباطا وثيقا بفكرة القانون‪ ،‬فال يمكن تصور حق دون أن تكون‬
‫هناك قاعدة قانونية تقرره أو على األقل محموال على قاعدة من قواعد القانون‪ ،‬والمقصود بالقانون كافة فروعه سواء‬
‫كانت مكتوبة أو غير مكتوبة‪ ،‬في الحدود التي يسمح فيها القانون لهذه الفروع من تقرير الحقوق‪ ،‬سواء كانت مبادئ‬
‫الشريعة اإلسالمية أو العرف أو قواعد العدالة وأحكام القانون الطبيعي‪ ،‬بل قد يكون القانون الجنائي ذاته أو قانون‬
‫اإلجراءات الجزائية مصدرا للحقوق‪ ،‬مثل تقديم البالغات أو الشكاوى في بعض الجرائم‪ ،‬حيث لوال هذا النص العتبر‬
‫الفعل قذفا‪ ،‬أو من الشريعة اإلسالمية التي تبيح لألب أن يؤدب ابنه وللزوج أن يؤدب زوجته‪ ،‬كما قد يكون العرف‪،‬‬
‫مثلما هو الشأن بالنسبة ل ألعراف الرياضية‪ ،‬كما يجد الحق مصدره في العقد في الزواج‪ ،‬أو في اإلرادة المنفردة‬
‫كالتنازل عن المال‪ ،‬أو في أمر القضاء كالترخيص بتوقيع الحجز على األموال‪ ،‬أو في قرارات السلطات العامة‪ ،‬مثل‬
‫الترخيص بحمل السالح إذ لوال هذا الترخيص لكنا بصدد جريمة‪ .‬لذا فكل ما يشترط في مصدر الحق أن تكون القاعدة‬
‫القانونية نافذة في النظام القانوني للدولة‪ ،‬وال تكون قاعدة قد ألغيت‪ ،‬أو األعراف الفاسدة التي تنشأ مخالفة لقاعدة قانونية‪،‬‬
‫وال بقواعد القانون األجنبي إن لم يكن يعترف له القانون بالسريان في الدولة‪ ،‬وال في قواعد الشريعة اإلسالمية التي لم‬

‫]‪[95‬‬
‫يرد المشرع تطبيقها بغض النظر عن سالمة مسلكه من الناحية الدينية من عدمه‪ .‬كإعدام الشخص من القضاء ال يجيز‬
‫القضاء وإن كانت الشريعة اإلسالمية تقضي بغير ذلك‪ ،‬والمقتص يعد مرتكبا لجريمة قتل عمد‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬شروط اعتبار اإلذن سبب من أسباب اإلباحة‬
‫لكي يعد اإلذن سببا من أسباب اإلباحة يجب أن يستجمع اإلذن الشروط التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يكون لإلذن مصدر من المصادر التي يعتد بها القانون]‪ ،[14‬كالتشريع أو العرف أو الشريعة اإلسالمية‪،‬‬
‫وفي الحالة التي يكون فيها مصدر اإلذن قرار إداري‪ ،‬يجب أن يراعي هذا القرار قواعد إصداره شكال وموضوعا وإال‬
‫اعتبر مصدره محرضا في القانون الجزائري والصادر له فاعال أصليا]‪.[15‬‬
‫‪ -2‬أن يمارس اإلذن في حدود المصلحة التي منح ألجلها]‪.[16‬‬
‫‪ -3‬أن يستخدم ا إلذن بحسن نية‪ ،‬وحسن النية أال يتجاوز الشخص في استعماله اإلذن الحدود التي ألجلها منح‬
‫اإلذن‪.‬‬
‫‪ -4‬أن يمارس اإلذن من الشخص الذي منح له وفي المكان المحدد له‪ ،‬كون اإلذن شخصي ال يمكن التنازل‬
‫عنه‪ ،‬ومقيد بحيز مكاني ال يجوز تجاوزه‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫بعض تطبيقات إلذن كسبب من أسباب اإلباحة‬
‫من أهم تطبيقات اإلذن كسبب من أسباب اإلباحة‪ ،‬وبالرغم من تعدد مصادره نجد حق التأديب‪ ،‬وأهمها‬
‫تأديب القصر وتأديب الزوجة‪ .‬وممارسة األعمال الطبية وكذا األلعاب الرياضية وحتى اإلذن بارتكاب بعض الجرائم في‬
‫حدود معينة كإباحة القذف والسب في حالة الدفاع أمام الجهات القضائية‪ .‬وهو ما نبينه باختصار في النقاط التالية‪.‬‬
‫أوال‪ :‬حق تأديب القصر‬
‫في الكثير من األحيان تقتضي األحوال شيء من الحزم مع الصغار لحسن تنشئتهم‪ ،‬مما يقتضي تأديبهم‬
‫لتقويم سلوكهم أو لتعليمهم‪ ،‬وهو التأديب الذي قد ينطوي نوعا ما على بعض الجرائم‪ ،‬كالضرب والشتم أو الحبس ‪ ،‬غير‬
‫أنها جرائم ال يعاقب عليها القانون‪ ،‬ألن التأديب في مثل هذه األمور‪ ،‬يعد ضرورة يقرها العرف والشرع والقانون‪ ،‬بل‬
‫وتأديب القصر ممن له الحق ال يعد فقط حق‪ ،‬بل حسب البعض يعد حقا وواجبا في نفس الوقت‪ ،‬كون القانون المدني يقر‬
‫حق رقابة القصر " مسؤولية متولي الرقابة" بل ويحمل هؤالء ما يقع من هؤالء القصر‪ .‬غير أن تأديب القصر يتطلب‬
‫ب عض الشروط بحيث إذا تخلف أحد هذه الشروط‪ ،‬وقع الفعل تحت طائلة العقاب‪،‬المتمثلة في‪:‬‬
‫‪ -1‬الصفة في القائم بالتأديب‪:‬‬
‫و هو شرط ينطوي على شقين‪ ،‬أحدهما يتعلق بمن يستحق التأديب واآلخر خاص بمن يباشر هذا الحق‪،‬‬
‫فمن يستحق التأديب هم القصر واألحداث‪ ،‬وهم وفقا للقانون المدني ممن يخضع لرقابة متولي الرقابة‪ ،‬وأما الشخص‬
‫القائم بالتأديب هم األشخاص المكلفون برعاية الحدث‪ ،‬سواء كان مصدر التكليف الشرع‬
‫أو القانون أو االتفاق‪ ،‬والمنصب على التربية والـتأديب سواء كان أب أو أم أو جد أو جدة‪ ،‬أو الوصي كما يثبت هذا‬
‫الحق أيضا للمعلم بالنظر للتالزم بين التأديب والتعليم حتى أنه قديما كان يسمى المعلم مؤدبا‪ ،‬ويمتد الحق حتى لملقن‬
‫الحرفة أو المهنة‪ ،‬وما عدا ذلك ال يمتد حق التأديب لغير هؤالء‪.‬‬
‫‪ -2‬وقوع ما يوجب التأديب‪:‬‬
‫ح ق التأديب يقضي أال ينزل بالحدث أذى بغير سبب‪ ،‬ومؤدى التأديب هو انحراف الحدث عن السلوك‬
‫الواجب‪ ،‬سواء تعلق األمر بما ينص عليه القانون أو الشرع أو العرف‪ ،‬سواء كان ضرر االنحراف على الغير أو على‬
‫الحدث ذاته‪ ،‬حتى ولو تعلق بإفطار رمضان أو ترك الصالة أو مخالطة األشرار أو امتنع عن تلقي الدروس أو‬
‫مراجعتها‪ ،‬وما عدا ذلك يمتنع إيذاءه قوال وفعال‪ ،‬ويعد ذلك ظلما وقد يعاقب عليه القانون]‪.[17‬‬
‫‪ -3‬التزام حدود التأديب‪:‬‬
‫حيث ال يجوز أن يتجاوز التأديب مداه‪ ،‬والتزام مبدأي المشروعية والمالئمة‪ ،‬المشروعية وتعني‬
‫استعمال وسيلة مقبولة للتأديب‪ ،‬فالقتل ال يمكن تصوره وسيلة للتأديب‪ ،‬أو بتر عضو من أعضائه‪ ،‬بل هو ضرب بسيط‬
‫ال يحدث كسرا أو جرحا أو يترك أثرا وال ينشأ عنه مرضا‪ ،‬والضرب ذاته قد يباح للبعض ويحظر للبعض اآلخر‪ ،‬إذ‬

‫]‪[96‬‬
‫هو مباح للولي أو الوصي‪ ،‬ومحظور على المعلمين كون القانون في هذه الحالة جعل من الضرب وسيلة غير مشروعة‪.‬‬
‫أما المالئمة فيراد بها التناسب بين وسيلة التأديب والغاية المرجوة منه‪ ،‬لذا فعلى القائم بالتأديب اختيار الوسيلة األكثر‬
‫مالئمة من الوسائل المتاحة له للت أديب‪ ،‬فله اللجوء لبعض الوسائل في بعض الظروف‪ ،‬وفي ظروف أخرى وسائل‬
‫أخرى‪ ،‬وفي كل ذلك يجب مراعاة التوازن‪ ،‬حيث ال يكون هناك اختالل فاحش بين وسيلة التأديب واألمر الذي‬
‫استوجبه‪.‬‬
‫‪ -4‬حسن النيــــة‪:‬‬
‫وهي التزام الشخص الغاية التي تقرر ألجلها حق التأديب‪ ،‬حيث كلما هدف التأديب غاية أخرى غير‬
‫التي ألجلها تقرر حق التأديب‪ ،‬وقع تحت طائلة العقاب‪ ،‬فال ضرب لألب أبناءه لحملهم على السرقة‬
‫أو التسول أو نكاية في والدتهم‪ ،‬وحتى وإن كانت الغاية مشروعة‪ ،‬فال يجوز أن تخرج من غاية التأديب في الحالة ذاتها‪،‬‬
‫فاألم المطلقة التي تأدب أوالدها لحمل والدهم على دفع النفقة يعد جريمة‪ ،‬بالرغم من أن الغاية مشروعة‪ ،‬فالتأديب غير‬
‫جائز كلما انحرف عن موجب التأديب‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬تأديب الزوجة‬
‫و هو حق يستمد من الشريعة اإلسالمية‪ ،‬في حين أن القانون لم ينص عليه صراحة‪ ،‬غير أن الرأي في‬
‫الفقه والقضاء استقر على قبوله في مصر كسبب من أسباب اإلباحة إذا توفرت فيه شروطه]‪ ،[18‬وهي الصفة في‬
‫التأديب‪ ،‬وأن يكون هناك موجبا لتأديب الزوجة‪ ،‬والتزام حدود التأديب‪ ،‬وأن يكون ذلك أيضا بحسن نية‪ ،‬وهو ما نتناوله‬
‫في النقاط الربعة التالية‪.‬‬
‫‪ -1‬الصفة في التأديب‪:‬‬
‫تأديب الزوجة من الحقوق الذاتية الشخصية الخالصة للزوج دون غيره‪ ،‬فال يجوز لغيره ذلك‪ ،‬سواء‬
‫كان من أهله أو حتى من أهلها‪ ،‬وهو من الحقوق التي ال تقبل اإلنابة‪ ،‬حيث لو قام بذلك وأدبت الزوجة من المنيب‬
‫عوقب هذا األخير كفاعل أصلي والزوج كشريك أو محرض حسب األحوال‪ ،‬ويثبت حق تأديب الزوجة بثبوت رابطة‬
‫الزوجية ويزول بزوالها‪ ،‬والعبرة بوقت التأديب ال بوقت اقتراف الفعل الذي أوجب التأديب‪ ،‬فليس للزوج تأديب زوجته‬
‫بعد الطالق عن أفعال توجب التأديب اقترفتها وقت قيام العالقة الزوجية‪ .‬وصاحب الحق في تأديب الزوجة هو الزوج‬
‫المسلم الذي تزوج بموجب أحكام الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ويرى البعض أن سكوت النص عن هذا الحق يمنع هذا األمر على‬
‫الزوج‪ .‬وهو ما جعلنا نرى صعوبة التمسك به في القانون الجزائري‪.‬‬
‫‪ -2‬موجب التأديب‪:‬‬
‫ه و حق مقرر لزوج إذا بدر من الزوجة معصية‪ ،‬وهو كل إخالل بواجب من واجبات الزوجة‪ ،‬سواء‬
‫كان واجبا عاما من الواجبات الملقاة على الناس جميعا‪ ،‬أو واجبا خاصا باعتبارها زوجة‪ ،‬وذلك بحسن معاشرة زوجها‬
‫وطاعته والحفاظ على أمواله ورعاية أوالده‪ ،‬بشرط أال يكلفها الزوج أمرا مخالفا للدين‬
‫أو الشرع أو القانون‪ ،‬فإن أمرها بمثل هذه األمور‪ ،‬فلها مخالفته‪ ،‬وإن أدبها يكون قد ارتكب جريمة معاقب عليها قانونا‪.‬‬
‫‪ -3‬التزام حدود التأديب‪:‬‬
‫تأديب الزوج لزوجته تبعا للشريعة اإلسالمية أن يكون بإحدى الطرق الثالث التالية‪ :‬الوعظ‪ ،‬الهجر في‬
‫المضجع‪ ،‬الضرب‪ ،‬لذا فليس للزوج أن يعتمد غير هذه الوسائل مما قد يلحق بالزوجة أذى شديد في نفسها أو في بدنها‪،‬‬
‫وأن يراعي التدرج في وسائل التأديب‪ ،‬الوعظ ثم الهجر وأخيرا الضرب‪ ،‬والموعظة هي التبصرة وإبداء النصح وحثها‬
‫على اإلقالع عن المعاصي‪ ،‬وهي الموعظة التي تختلف باختالف األحوال ونوع الزوجة والمعصية التي ارتكبتها‪ ،‬كما‬
‫أن التأديب يراعى فيه مقاصد اإلسالم فال يكون بالكالم الفاحش وال أمام المأل‪ ،‬والهجر في المضجع هو اإلعراض عن‬
‫المرأة في فراشها باعتباره مظهرا من مظاهر غضب الرجل وسخطه‪ ،‬ومدة الهجر لدى الفقهاء شهر‪ ،‬وال يجوز في أن‬
‫تبلغ األربعة أشهر في أي حال من األحوال]‪ .[19‬ثم الضرب الذي يعد أقصى مراتب التأديب‪ ،‬حيث ال يمكن اللجوء إليه‬
‫إال باستمرار العصيان‪ ،‬ودأبت عليه الزوجة‪ ،‬لكن اللجوء مقيد بان يسلك الزوج أوال طريق الوعظ والهجر في المضجع‪،‬‬
‫وأال يكون الضرب مهلكا أو متلفا أو شائنا‪ ،‬أو مبرحا حتى ولو ثبت أن الضرب الخفيف معها ال يجدي‪ ،‬بل أنه في الفقه‬
‫اإلسالمي خالف حتى حول وسيلة الضرب وعدد الضربات‪.‬‬

‫]‪[97‬‬
‫‪ -4‬حسن النية‪:‬‬
‫و هو أن يضع الزوج نصب عينيه الغاية من فعله وهي التأديب‪ ،‬فال يجوز له ضربها بغضا لها‬
‫أ و طمعا في مالها أو انتقاما من أهلها‪ ،‬أو لحملها على ارتكاب معصية‪ ،‬بل ويعاقب حتى ولو بدرت منها معصية‬
‫تستوجب التأديب‪ ،‬لكن يثبت أن هدف الزوج لم يكن التأديب وإنما غرض من األغراض السابقة]‪.[20‬‬
‫ثالثا‪ :‬حق مزاولة األعمال الطبية‬
‫يقصد بهذا الحق‪ ،‬مزاولة كل عمل طبي ينطوي على المساس بجسم اإلنسان إما بهدف عالجه مما‬
‫يعتريه من مرض‪ ،‬أو لتخفيف آالمه‪ ،‬أو لوقايته من مرض‪ ،‬أو لمجرد الكشف عما يشوبه من خلل‪ ،‬كما يشمل باإلضافة‬
‫إلى ذلك‪ ،‬كافة األعمال المرتبطة بذلك والمعتبرة ضرورية لتنفيذ األفعال السابقة‪ ،‬فال يشكل جريمة الجروح التي يرتكبها‬
‫الطبيب وال استئصاله أعضاء المريض المعيبة‪ ،‬بشرط االلتزام باألصول الطبية المرعية في هذا الصدد‪ ،‬بل أن الطبيب‬
‫مخول له حيا زة المواد المخدرة وإدخال المواد الضار والمخدرة جسم اإلنسان متى كانت ضرورية لممارسة أعماله‪ ،‬وال‬
‫يعد مرتكبا لجريمة هتك العرض في حالة الكشف عن عورات مرضاه‪ .‬والعلة من تبرير حق مزاولة األعمال الطبية‪،‬‬
‫وجعلها سببا من أسباب اإلباحة‪ ،‬في نظر الفقه مزدوجة‪ ،‬فهي حق لمن يزاوله وذلك باعتراف القانون‪ ،‬وبالتالي وجب‬
‫االعتراف بالمشروعية على وسائل استعماله ولو كانت تشكل بحسب األصل جريمة‪ ،‬ومن ناحية ثانية العلة تكمن في‬
‫رضاء المريض‪ ،‬فإن كان رضاء المجني عليه ال يعد سببا عاما لإلباحة‪ ،‬فإنه في مجال األعمال الطبية يعد أساسا إلباحة‬
‫العمل‪ ،‬ويرى البعض أن أساس اإلباحة في هذه الحالة‪ ،‬هو انتفاء القصد الجنائي لدى الطبيب‪ ،‬غير أن أساس اإلباحة‬
‫وفق رأي الغالبية‪ ،‬هو تبرير القانون‪ ،‬وعلته الحقيقية رضاء المريض‪ ،‬لذا فعدم رضاء المريض ال يجعل من الفعل‬
‫مباحا‪ ،‬إال إذا تعلق األمر بحالة الضرورة وهنا يكون مانعا من موانع المسؤولية ال سببا من أسباب اإلباحة‪ ،‬وهو ما ال‬
‫نؤيده بخصوص موقف المشرع الجزائري‪ .‬وشروط ممارسة األعمال الطبية التي تعد سببا من أسباب اإلباحة‪ ،‬أن تكون‬
‫من األعمال التي يرخص بها القانون‪ ،‬وأن تكون بقصد العالج‪ ،‬وأن يرضى المريض بذلك‪ ،‬وأن يراعى في ممارستها‬
‫األصول المهنية والقواعد العلمية المرعية لمزاولة المهنة‬
‫أو العمل الطبي‪ .‬وهو ما نفصله اختصارا في النقاط التالية‪.‬‬
‫‪ -1‬ترخيص القانون‪:‬‬
‫ل كي يعتبر ممارسة األعمال الطبية من أسباب اإلباحة‪ ،‬يجب أن يكون من األعمال المرخص بها قانونا‪،‬‬
‫وأن يكون صادرا ممن رخص له بذلك‪ ،‬ممن يحوزون على المؤهل العلمي الذي يخولهم ذلك‪.‬‬
‫‪ -2‬رضاء المريض‪:‬‬
‫يتعين العتبار العمل الطبي سببا من أسباب اإلباحة‪ ،‬أن يكون المريض قد رضي به‪ .‬وهو شرط طبيعي‬
‫يقتضيه ما لجسم اإلنسان من حرمة تمنع المساس به بدون رضاء صاحبه‪ ،‬حتى ولو كان هذا المساس يتضمن رعاية‬
‫الجسم وضمان سيره سيرا طبيعيا‪ .‬والرضاء قد يكون صادرا من المريض نفسه‪ ،‬أو ممن يمثله قانونا‪ ،‬وهو الرضاء‬
‫الذي قد يكون صريحا كما قد يكون مفترضا‪ ،‬إذا تعذر على المريض نفسه ذلك‪ ،‬كان يكون فاقدا للوعي أو لم يكن له من‬
‫يمثله قانونا‪ ،‬كما قد يكون ضمنيا من دخول المريض بنفسه غرفة العمليات الجراحية‪ ،‬غير أن الرضا ال يستخلص من‬
‫مجرد ذهاب المريض إلى المستشفى أو إلى عيادة الطبيب‪ ،‬إذ أن المريض قد يرضى ببعض األعمال الطبية دون‬
‫البعض اآلخر]‪ .[21‬غير أن الحصول على رضاء المريض‪ ،‬يقتصر على األعمال الطبية التي قد تشكل جريمة من‬
‫جرائم قانون العقوبات‪ ،‬مثل الجرح وإعطاء مواد ضارة أو إحداث عاهة‪ ،‬دون األعمال الطبية ال تنطوي على جريمة‬
‫من الجرائم‪ ،‬غير انه ال يعتد برضاء المريض كسبب من أسباب اإلباحة في حاالت القتل بدافع الشفقة أو بدافع الرحمة‪،‬‬
‫حتى ولو كان ذلك بإلحاح منه‪ ،‬وحتى ولو كان بدافع تخليصه من آالم حادة مبرحة ال يقدر على تحملها‪ ،‬أو ألي سبب‬
‫آخر مبعثه المريض نفسه‪ ،‬فال يزال لغاية اليوم مثل هذا القتل غير مبرر بالرغم من وجود بعض األحكام غير القاطعة‬
‫بأن البراءة كانت فيها لهذا السبب‪.‬‬
‫‪ -3‬قصد العالج‪:‬‬
‫لكي تعتبر الجريمة المترتبة عن ممارسة العمل الطبي مباحة‪ ،‬يجب أن تتم مزاولته بغرض العالج‪،‬‬
‫ويشمل قصد العالج القضاء على مرض أو تخفيف اآلالم الناشئة عنه‪ ،‬أو الوقاية من مرض‪ ،‬أو الكشف عن أسباب خلل‬

‫]‪[98‬‬
‫صحي يعتري جسم الشخص‪ ،‬لكن مزاولة هذا العمل لقصد آخر‪ ،‬مثل بتر عضو شخص لتمكينه من التهرب من‬
‫التزامات ا لخدمة الوطنية‪ ،‬أو إعطاء مواد مخدرة للشخص بقصد إشباع حاجته من اإلدمان‪ ،‬أو بهدف إجراء تجربة‬
‫علمية جديدة‪ ،‬عد الفعل جريمة معاقب عليها قانونا‪.‬‬
‫‪ -4‬مراعاة األصول المهنية والقواعد العلمية في مزاولة األعمال الطبية‪:‬‬
‫إباحة ممارسة األعمال الطبية‪ ،‬تظل مرهونة بإتباع األصول الطبية المتعارف عليها في مجال مهنة‬
‫الطب‪ ،‬وال يقصد بذلك تقييد الطبيب بعالج دون آخر أو بطريقة دون أخرى‪ ،‬وإنما األصول األساسية لممارسة المهنة‬
‫الطبية‪ ،‬مثل تعقيم األدوات الجراحية‪ ،‬أو أن يجري العملية في ظروف غير مواتية تماما كان يجريها وهو مخمور أوال‬
‫يستعين بمن يتوجب االستعانة بهم‪ ،‬أو أن يرتكب سلوك غير مغتفر مثل نسيان أداة جراحية بداخل جسم المريض‪ .‬وفي‬
‫مثل هذه الحاالت يسأل الطبيب عن جريمة غير عمدية‪ ،‬قوامها الخطأ القائم على اإلهمال أو عدم االحتياط‪ ،‬ومعيار‬
‫الخطأ هو المعيار المهني أو الفني الذي سنتناوله عند دراسة أنواع الخطأ ودرجاته في إطار دراسة الركن المعنوي‬
‫للجريمة‪ ،‬وبالضبط في الجرائم غير العمدية أو جرائم الخطأ‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬إباحة جرائم القذف والسب في بعض الظروف‬
‫أباح القانون في بعض األحيان ارتكاب جرائم القذف والسب في حاالت معينة ارتأى فيها أن المصلحة‬
‫التي تعود من إباحة هذه األفعال‪ ،‬تفوق المصلحة من عقاب الجاني‪ ،‬فبعض الدول تعترف بالقذف والسب في ذوي‬
‫الوظائف العامة كنوع من ممارسة الرقابة الصحفية]‪ ،[22‬والحالة الثانية إباحة القذف والسب أمام جهات القضاء‬
‫ممارسة لحق الدفاع‪ .‬غير أنه وممارسة لحق الدفاع أمام المحاكم‪ ،‬يبيح المشرع للخصوم األقوال التي تشكل بحسب‬
‫األصل جريمة قذف أو سب‪ ،‬حماية لحق الدفاع أمام المحاكم الذي يفوق في درجته المصلحة من عقاب مرتكبيها‪ ،‬كون‬
‫حق الدفاع مقرر ليقود في النهاية إلى كشف الحقيقة التي تعد مبتغى أجهزة العدالة وفكرة العدالة في ذاتها‪ .‬وفي القانون‬
‫المصري تم النص على هذه الحالة صراحة‪ ،‬وذلك بموجب نص المادة ‪ 309‬من تقنين العقوبات التي نصت على أنه‪":‬‬
‫ال تسري أحكام المواد ‪ 302‬و‪ 303‬و‪ 305‬و‪ 306‬و‪ 308‬على ما يسنده أحد الخصوم لخصمه في الدفاع الشفوي أو‬
‫الكتابي أمام المحاكم فإن ذلك ال يترتب عليه إال المقاضاة المدنية أو المحاكمة التأديبية‪ ،".‬ويدخل في معنى الخصوم‬
‫المحامون وأن يكون ذلك بمناسبة دعوى معروضة أمام الجهات القضائية‪ ،‬بمختلف أنواعها لكن بشرط أن يكون األمر‬
‫يقتضيه حق الدفاع فعال وأمر تقدير ذلك متروك لسلطة الموضوع‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬ممارسة األعمال الرياضية‬
‫ويق صد بذلك األلعاب الرياضية العنيفة التي تفترض ممارسة استعمال القوة والعنف على جسم المنافس‬
‫وهو حال كل الرياضات القتالية‪ ،‬فيأتي فيه الفاعل فعال تتوفر فيه جميع مقومات اإليذاء المجرم‪ ،‬غير أن ما يحدث في‬
‫هذا اإلطار من عنف وإصابات يكون مبررا ومباحا طالما تم في الحدود المقررة لممارسة اللعبة‪ ،‬غير أنه هناك نوع من‬
‫األلعاب الرياضية غير العنيفة مثل كرة القدم أو كرة السلة أو الغولف والتنس والسباحة‪ ،‬فهنا تطبق القواعد العامة في‬
‫حالة حصول عنف‪ ،‬فإن كانت الجريمة تحتمل وصف الجريمة غير العمدية يسأل عنها الفاعل المهم إعمال القصد‪.‬‬
‫المطلب الثالث‬
‫الدفاع الشرعي ( المشروع)‬
‫ي عد الدفاع الشرعي من أقدم أسباب اإلباحة التي عرفتها القوانين الجنائية عبر العصور‪ ،‬كونه سبب‬
‫يستند لغريزة طبيعية في النفس البشرية التي تسعى دوما للدفاع عن بقاءها‪ ،‬كما أنه سبب يبرره منطق األمور‪ ،‬إذ ال‬
‫يمكن تصور إ لزام الناس بتحمل االعتداءات التي يتعرضون إليها‪ ،‬خاصة وأننا بصدد موازنة بين تصرفين أحدهما غير‬
‫مشروع وهو االعتداء على الحق‪ ،‬والثاني مشروع‪ ،‬وهو حماية هذا الحق‪ ،‬والمشرع يفضل دوما حماية الحق‪ ،‬بل أن‬
‫نصوص قانون العقوبات ذاتها هدفها الرئيسي ذلك‪ .‬وحسب نظرية هيجل الجدلية‪ ،‬فالدفاع الشرعي يستمد مشروعيته من‬
‫فكرة أن االعتداء على حق يحميه القانون هو نفي لهذا الحق وخرق للقانون‪ ،‬ورد هذا االعتداء هو إثبات للحق وإحقاق‬
‫لسلطة القانون‪ ،‬األمر الذي أدى في النهاية إلى اعتبار الدفاع الشرعي حق وواجب في نفس الوقت]‪ .[23‬غير أن أهمية‬
‫الدفاع الشرعي تقتضي منا قبل أن نتناول شروطه في فرعين‪ ،‬نتناول أوال أساس وطبيعة الدفاع الشرعي‪.‬‬
‫أساس الدفاع الشرعي‪:‬‬

‫]‪[99‬‬
‫الدفاع الشرعي نظام يضرب بجذوره في أعماق التاريخ‪ ،‬حيث عرفته كل الشعوب في مختلف مراحل‬
‫تطورها‪ ،‬ألنه عبارة عن قانون من قوانين الفطرة‪ ،‬فليس من المعقول والمنطق أن يحمل اإلنسان عبء تحمل‬
‫االعتداءات الواقعة عليه‪ ،‬خاصة في الحاالت التي يتعذر فيها عله مراجعة السلطات المختصة في الوقت المناسب‪ ،‬وكان‬
‫قادرا على رد العدوان بنفسه‪ ،‬لذا يقال أن المشرع لم يقرر مبدأ الدفاع الشرعي وإنما أقره‪ ،‬أي أنه استبقاه وضبط آثاره‪،‬‬
‫وهو ال يقتصر على القانون الجنائي فقط‪ ،‬بل مقرر في بعض فروع القانون األخرى‪ ،‬مثل القانون الدولي]‪ .[24‬وبالرغم‬
‫من اعتبار الدفاع الشرعي من البديهيات القانونية‪ ،‬إال أن الرأي لم يستقر حول أساسه‪ ،‬فهناك من علله بتخلف الركن‬
‫المعنوي‪ ،‬حيث أن العدوان يعد إكراها يعطل حرية االختيار‪ ،‬ما يدفع الشخص لرد العدوان تلقائيا كون إرادته تصبح‬
‫غير معتبرة من الناحية القانونية‪ ،‬والبعض اآلخر يرى أن المدافع في دفاعه عن حقه أو حق غيره تصبح غايته ملتئمة‬
‫مع غاية القانون وهي حماية الحقوق والمصالح‪ ،‬وهما رأين غير مقبولين من قبل البعض‪ ،‬حيث أن القول بأن الدفاع‬
‫الشرعي نوع من أنواع اإلكراه‪ ،‬فإن الرد عليه هو أن اإلكراه كمانع من موانع المسؤولية في حقيقة األمر ال ينفي الصفة‬
‫التجريمية عن الفعل بل كل ما يرتبه هو امتناع المسؤولية الجنائية دون المدنية‪ .‬كما أنه كثيرا ما يحتفظ الشخص المدافع‬
‫بحرية االختيار سيما في الحاالت التي يكون فيها االعتداء غير جسيم‪ ،‬أو عندما يكون واقعا على غير الشخص المدافع‪،‬‬
‫في حين الرأي الثاني ما هو في حقيقة األمر سوى القول بنبل الغاية أو الباعث لدى المدافع‪ ،‬في حين أنه ال مجال‬
‫للبواعث والغايات مهما كان نبلها في قانون العقوبات وهو من المبادئ القانونية المستقرة في قانون العقوبات‪ ،‬وبالتالي‬
‫فالبواعث ال تنفي القصد الجنائي‪ ،‬كما أن انتفاء الركن المعنوي للجريمة ال يعني بالضرورة إباحة الفعل‪ .‬لذا نجد بعض‬
‫الفقه يعتبر الدفاع الشرعي في حقيقة األمر مقابلة الشر بالشر‪ ،‬وهو تعليل يرى البعض أنه ضعيف أيضا‪ ،‬ألنه يجعل‬
‫الدفاع عقابا على المعتدي‪ ،‬وهو أمر غير صحيح في القانون الجنائي‪ ،‬كما أن اعتبار الدفاع الشرعي شر كالعدوان‬
‫يقتضي بأنه جريمة كجريمة العدوان‪ ،‬خاصة أيضا وأنه ال مقاصة في اإلثم‪ ،‬فالقانون ال ينفض يده في حالة التشاجر‪،‬‬
‫فيعاقب الجميع وكل منهم ضارب ومضروب‪.‬‬
‫ف ي حين يرى بعض الفقه‪ ،‬أن العدوان إنكار لحكم القانون أو نفي له‪ ،‬وأن الدفاع نفي لهذا النفي‪ ،‬وهو‬
‫بذلك إثبات أو إقرار لحكم القانون‪ ،‬ومن هنا كانت إباحته‪ ،‬غير أنه رأي يشوبه النقص أيضا‪ ،‬حيث أن لو كان رد‬
‫العدوان إعماال للقانون‪ ،‬المتنع بعد ذلك عقاب المعتدي كون حكم القانون نفذ فيه‪ ،‬غير أنه يعاقب من جديد مما ينفي‬
‫الرأي السابق‪ ،‬وإال عوقب عن الفعل الواحد مرتين وهذا غير مقبول جنائيا‪ ،‬كون المتفق عليه جنائيا أن الدفاع الشرعي‬
‫مهما كانت جسامته‪ ،‬فإنه ال يحول دون عقاب المعتدي بموجب القانون‪.‬‬
‫ومن الفقه‪ ،‬من رأى أن فعل الدفاع عبارة عن إنابة الدولة في ممارستها سلطتها البوليسية‪ ،‬كون منع‬
‫الجرائم من المهام األساسية للدولة‪ ،‬فإن تعذر عليها التدخل في الوقت المناسب لمنع وقوع جريمة على وشك الوقوع‪،‬‬
‫فإنها تنيب أي فرد للحلول محلها في منع وقوعها‪ ،‬غير أنه رأي لم يقبل أيضا‪ ،‬حيث أن المدافع في حالة الدفاع الشرعي‬
‫يتاح له اقتراف أفعال ال تباح لرجال السلطة العامة‪ ،‬وهو ما يعني فساد فكرة اإلنابة ذاتها‪ ،‬ألن اإلنابة تقتضي أال يباح‬
‫للنائب ما يمنع على األصيل‪.‬‬
‫لذا من الراجح فقها أنه في حالة الدفاع الشرعي يقع التعارض بين حقين‪ ،‬أحدهما خاص بالمعتدى عليه‪،‬‬
‫واآلخر خاص بالمعتدي‪ ،‬والحقان يتكافآن من الناحية المجردة‪ ،‬فكالهما جدير بالحماية‪ ،‬غير أنه لما كانت التضحية بأحد‬
‫الحقين الزمة وال مناص منها‪ ،‬لذا فحق المعتدي أولى بالتضحية‪ ،‬ويرجح حق المعتدى عليه ألنه برده يكون قد صان‬
‫حقين‪ ،‬حقه شخ صيا وحق المجتمع‪ ،‬وهذا األخير حق جوهري وصيانته أولى وواجبة أيضا وفيه تكمن على اإلباحة إلى‬
‫حد كبير]‪ .[25‬ك ما أنه هناك من رد أساس الدفاع الشرعي لفكرة العقد االجتماعي‪ ،‬حيث يتنازل األفراد بموجب هذا‬
‫العقد عن حقوقهم في الدفاع عن أنفسهم لصالح الدولة‪ ،‬وإن وقع اعتداء على أحد األشخاص‪ ،‬ولم يكن بمقدور الدولة‬
‫الدفاع عنه‪ ،‬فإن هذا الحق يعود على حالته السابقة ما قبل إبرام العقد‪ ،‬ويتولى الشخص بنفسه الدفاع عن نفسه‪ ،‬وانتقد‬
‫هذا الرأي بان فكرة العقد االجتماعي ذاتها مشكوك فيها تاريخيا‪.‬‬
‫طبيعة الدفاع الشرعي‪:‬‬
‫تحديد طبيعة الدفاع الشرعي‪ ،‬شأنه شأن تحديد أساسه‪ ،‬أثارت خالفا فقهيا‪ ،‬غير أن السائد لدى جمهور‬
‫فقهاء القانون الجنائي أنه حق‪ ،‬غير أنه حق ال يقابله التزام في ذمة شخص معين‪ ،‬بل هو حق عام مقرر قبل الكافة‪ ،‬فال‬

‫]‪[100‬‬
‫يجوز ألي منهم أن يحول دون استعماله‪ ،‬ومن الفقه من يعتبر الدفاع الشرعي واجب‪ ،‬إال أنه ليس واجبا قانونيا فرضه‬
‫المشرع ورتب على اإلخالل به جزاء‪ ،‬وإنما هو واجب اجتماعي يفرضه الحرص على صيانة الحقوق ذات األهمية‬
‫االجتماعية‪ ،‬ومن الفقه من ينكر الوصفين‪ ،‬فال يعتبره حقا ألنه ال يقابله التزام‪ ،‬وال يعتبره واجبا ألنه ال يقابله جزاء عند‬
‫عدم ا لقيام به‪ ،‬وإنما هو مجرد رخصة‪ .‬في حين يرى البعض‪ ،‬أنه ليس للدفاع الشرعي حكما واحدا‪ ،‬بل هو يتردد بين‬
‫األحكام الثالثة السابقة‪ ،‬فهو في أغلب أحواله حق‪ ،‬في حين يعد واجبا في بعض األحيان‪ ،‬ورخصة في أحيان أخرى‪،‬‬
‫فهو حق إذا وقع على حق مطلق للمعتدى عليه‪ ،‬ويكون رخصة إذا كان المدافع ليس بالشخص المعتدى عليه‪ ،‬ويكون‬
‫واجبا إذا كان القانون يفرض على المدافع حماية الحق المعتدى عليه أو يفرض عليه عدم التفريط فيه‪ ،‬كرجل السلطة‬
‫العامة متى كان ذلك استطاعته‪ ،‬فإن لم يفعل يسأل إداريا كما قد يسأل جنائيا‪ .‬كما أن دفاع الشخص عن حياته ليس‬
‫مجر د حق له بل هو واجب عليه‪ ،‬والزوجة يقع عليها واجب الدفاع على عرضها إذا حاول الغير اغتصابها‪ ،‬حيث أن‬
‫القانون يعاقبها إذا مكنت الغير من نفسها‪.‬‬
‫غير أنه طبقا للمادة ‪ 2/39‬من تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬الدفاع الشرعي هو حق يقرره القانون‬
‫لمصلحة المدافع بأن يستعمل القوة الالزمة لرد االعتداء الواقع على نفسه أو نفس الغير أو ماله أو مال الغير‪ ،‬وهو حق‬
‫مقرر في مواجهة الناس كافة ال يحق رده أو مقاومته‪ ،‬غير أن ممارسة هذا الحق على الوجه القانوني يقتضي مراعاة‬
‫جملة من الشروط التي قررها النص الذي أقر هذا الحق‪ ،‬منها ما يتعلق بفعل العدوان المستحق للرد بطريق الدفاع‬
‫المشروع‪ ،‬ومنها ما يتعلق بفعل الدفاع ذاته‪ ،‬وهو ما نتناوله في الفرعين التاليتين‪ .‬على أن نتناول في الثالث حالة‬
‫خاصة من حاالت الدفاع المسماة فقها حاالت الدافع الممتازة‪ ،‬والتي تضمنتها المدة ‪ 40‬من تقنين العقوبات الجزائري‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫الشروط المتطلبة في فعل العدوان‬
‫حتى يعتد القانون بفعل الدفاع الشرعي‪ ،‬ويجعل منه سببا من أسباب اإلباحة‪ ،‬يجب أن يتوفر في فعل‬
‫العدوان ثالثة شروط أساسية‪ ،‬وهي أن يكون العدوان عبارة عن خطر حال وغير مشروع وان يهدد النفس‬
‫أو المال‪ .‬وهو ما نبين تفصيله على النحو التالي‪ .‬غير أنه قبل ذلك‪ ،‬يقتضي الدفاع الشرعي بحكم المنطق والضرورة‬
‫العقلية وجود عدوان‪ ،‬كون العدوان المقدمة الالزمة لفعل الدفاع‪ ،‬ولواله لما سمي بالدفاع‪ ،‬حيث أن الدفاع يقتضي أن‬
‫يكون هناك عدوان‪ ،‬والعدوان في جوهره هو اعتداء على حق أو تهديد له‪ ،‬ومن حيث حكمه هو عمل غير مشروع‪،‬‬
‫صادر عن إنسان‪ ،‬كون المشروعية من عدمها تنصرف ألفعال البشر‪ ،‬وللمسألة أهمية كبيرة كون أفعال غير اإلنسان ال‬
‫تقتضي اللجوء للدفاع الشرعي‪ ،‬حيث أنه إذا كان العدوان راجع للطبيعة أو لحيوان فإن الدفاع في هذه الحاالت ال يستند‬
‫على فكرة الدفاع الشرعي‪ ،‬بل لفكرة حالة الضرورة‪.‬‬
‫أوال‪ :‬العدوان خطر حال ( خطر محدق أو قائم)‬
‫وهو الشرط الذي يتضح بجالء من نص المادة ‪ 39‬التي استعملت عبارة " الضرورة الحالة" بمعنى أن‬
‫يكون فعل العدوان محدقا وعلى وشك الوقوع‪ ،‬أو وقع ولم ينته بعد‪ ،‬أي خطرا قائما]‪ .[26‬والخطر المحدق على وشك‬
‫الوقوع هو الخطر الذي أصبح أمر حدوثه أمرا متوقعا ومنتظرا كخطوة تالية مباشرة‪ -‬األمر الذي يعني استبعاد كل‬
‫األخطار المستقبلية ألن مآل تحققها أمر محتمل الوقوع‪ -‬أو أن يكون خطر قد وقع ولم ينته بعد‪ ،‬وفي مثل هذه الحالة‬
‫يظل الخطر قائما ومستمرا طالما لم تتحقق الجريمة كاملة على الوجه المحدد لها في النموذج التشريعي‪ ،‬لذا ففي الجرائم‬
‫المستمرة يظل الخطر حاال‪ ،‬والدفاع ضده في أي لحظة دفاعا مشروعا‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أن يكون خطر غير مشروع‬
‫قرر الدفاع المشروع أصال لرد االعتداءات المشكلة لجرائم‪ ،‬والجريمة دوما تعد فعال غير مشروع‪ ،‬لذا‬
‫يجب أن يكون الخطر الحال الذي يتهدد الشخص خطرا غير مشروع مهدد لحق يحميه القانون – النفس أو المال‪ -‬حتى‬
‫وإن كان مصدر الخطر شخص غير مسؤول جنائيا‪ ،‬كونه سبق القول أن أسباب اإلباحة ظروف موضوعية عينية‬
‫وليست شخصية‪ ،‬لذا ينظر فيها لألفعال ال لألشخاص‪ .‬غير أنه يجب استبعاد األخطار الوهمية التي يتوهما الشخص‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬خطر مهدد للنفس أو المال‬

‫]‪[101‬‬
‫يجب أن يكون الخطر الحال غير المشروع مهددا لنفس الشخص أو نفس غيره أو مال الشخص‬
‫أو مال غيره‪ ،‬دون أن تحدد المادة ‪ 39‬نوع هذه الجرائم مما يجب معه أخذها بصفة عامة دون حصر‪ ،‬وإن كانت مسألة‬
‫الجرائم الواقعة على الشرف واالعتبار أثارت نوعها من الجدل]‪.[27‬‬
‫وبتوفر هذه الشروط‪ ،‬ال قيمة لجسامة العدوان‪ ،‬إذ في القانون الجنائي ال فرق بين العدوان الجسيم والعدوان‬
‫اليسير‪ ،‬فكالهما جائز دفعه عن طريق الدفاع الشرعي‪ ،‬وإن كان هناك فرق فهو ينحصر في كمية الدفاع والقدر الواجب‬
‫فيه‪ ،‬ال في أصل الدفاع وما إن كان واجبا أم ال‪ .‬ويستوي العدوان أن يكون فعال إيجابيا أو فعال سلبيا‪ ،‬فالعدوان مناط‬
‫الدفاع‪ ،‬وال عبرة بطبيعة النشاط في العدوان‪ ،‬وإن كان العدوان في غالب األحيان يقع بفعل إيجابي كالضرب والشتم‬
‫والحرق والقتل والسرقة‪ ،‬إال أنه يمكن أن يقع أيضا بالترك أو االمتناع‪ ،‬أي بنشاط سلبي‪ ،‬كامتناع األم عن إرضاع ابنها‬
‫والطبيب عن إسعاف المريض وامتناع من دخل مسكن عائلة برضاها ثم رفض الخروج بطلبها‪ ،‬فهنا يجوز إكراه‬
‫الشخص بفعل يشكل جريمة كإرغام األم بالقوة على إرضاع ابنها أو خطفها منها إلرضاعه وتهديد الطبيب بالقتل إن لم‬
‫سعف المريض واستخدام القوة الالزمة إلخراج الشخص الذي رفض الخروج من المنزل طوعا‪ .‬غير أن الشرط‬
‫األساسي أن يكون العدوان يشكل جريمة‪ ،‬إذ ال يجوز الدفاع الشرعي ضد األفعال المباحة‪ ،‬كما يمتنع عن األفعال غير‬
‫المشروعة إن لم تشكل جرائم‪ ،‬إذ ال دفاع عن فعل ضد شخص يؤدي واجبا أو يمارس رخصة أو حق‪ ،‬إذ ال يجوز ألب‬
‫الزوجة أو أخوها من رد تأديب الزوج لزوجته وإال عوقب‪ ،‬وال مقاومة رجل السلطة العامة الذي ينفذ أمر القانون أو‬
‫أمر الرئيس‪ ،‬مثل تفتيش المسكن أو إلقاء القبض‪ ،‬كما ال يجوز الدفاع ضد فعل غير مشروع في فرع من فروع القانون‬
‫غير الجنائية‪ ،‬لكنه ال يشكل جريمة في القانون الجنائي‪ ،‬مهما كان خطر هذا الفعل‪ ،‬وال يجوز رده بفعل يعد جريمة‪،‬‬
‫كون الدفاع الشرعي عبارة عن جريمة في حقيقتها موجه لرد جريمة يمثلها العدوان]‪ .[28‬لذا فال يجوز الدفاع ضد‬
‫األعمال المنافية لألخالق الدينية واألعراف االجتماعية متى كانت ال تشكل جريمة من الجرائم المنصوص عليها في‬
‫قانون العقوبات‪ ،‬وكذا كل االعتداءات المنصوص عليها في الفروع القانونية األخرى‪ ،‬وما عدا ذلك ال يهم الجريمة التي‬
‫تشكل عدوان‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬ما ال يؤثر في قيام حالة الدفاع الشرعي‬
‫و عموما كل ما يشترط في فعل العدوان أن يشكل جريمة من جرائم قانون العقوبات‪ ،‬وال عبرة بعد ذلك‬
‫بنوع هذه الجريمة‪ ،‬وال باألحوال الخاصة بشخص المعتدي‪ ،‬وال بالنظر لما يتوفر لديه من ظروف فيما بعد قد تمنع‬
‫مسائلته جنائيا أو عقابه‪ .‬كما ال يشترط أن تكون جريمة المعتدي على قدر معين من الجسامة‪ ،‬إذ يجوز الدفاع الشرعي‬
‫ضد الجرائم بمختلف درجاتها‪ ،‬سواء كانت جنايات أو جنح أو مخالفات‪ ،‬وال يشترط أن تكون الجريمة عمدية‪ ،‬حيث‬
‫يجوز أيضا الدفاع الشرعي ضد الجرائم غير العمدية‪ ،‬كما ال يشترط أن يكون الركن المادي قد اكتمل‪ ،‬بل يجوز الدفاع‬
‫في حالة الشروع‪ ،‬بل األصل في الدفاع الشرعي أنه يوقف الجريمة عند حد الشروع‪ ،‬ألن الحكمة من إباحته هي كف‬
‫العدوان والحيلولة دون تحقق نتائجه المحظورة قانونا‪ ،‬لذا فتطبيقات الدافع الشرعي في أغلب حاالته أن يواجه الجريمة‬
‫وهي في مرحلة الشروع‪ ،‬غير أن المشرع يقيد الجريمة بأن تكون على النفس أو المال‪ .‬ويجوز الدفاع حتى ولو كان‬
‫الشخص سبق وان استفز المعتدي‪ ،‬إذ لشريك الزوجة الزانية حق الدفاع عن نفسه ضد الزوج الذي فاجأهم بالزنا ويجوز‬
‫الدفاع من امتنعت مسؤوليته أو توفر لديه مانع من موانع العقاب ومن توفرت لديه الحصانة الدبلوماسية‪ .‬وأن عدم‬
‫الخضوع لقضاء الدولة ال يمنع من قيام حالة الدفاع الشرعي‪ ،‬ففي الحاالت المستثناة من مبدأ اإلقليمية‪ ،‬ال يمنع من قيام‬
‫حالة الدفاع الشرعي ضدهم‪ ،‬فحظر محاكمتهم عن الجرائم التي يرتكبونها على إقليم الدولة‪ ،‬ال يحول دون تمتع‬
‫ضحاياهم بحق الدفاع الشرعي‪.‬‬
‫كما أن تعليق رفع الدعوى العمومية على قيد ال يحول دون ممارسة حق الدفاع الشرعي‪ ،‬وهو قيد من‬
‫طبيعة إجرائية‪ ،‬لكنه ال يغير من الطبيعة الموضوعية للفعل المرتكب‪ ،‬فإن كان يشكل جريمة جاز للشخص المعتدى‬
‫عليه أن يرده عن طريق الدفاع الشرعي‪ ،‬من قبل المعتدى عليه وحتى من قبل عامة الناس أن يردوه عن طريق القوة‬
‫العامة‪ ،‬فصد االبن بالضرب عن سرقة مال أبيه حتى لو علم بأنه يسرق مال أبيه يعد سببا من أسباب اإلباحة‪ ،‬أو شروع‬
‫أحد نواب البرلمان في قتل شخص آخر‪ ،‬يجوز للمعتدى عليه وكل الناس رده بالقوة بفعل يشكل جريمة حتى وغن كانت‬
‫جريمة قتل‪ .‬كما أن امتناع مسؤولية الشخص المعتدي ال يحول دون الدفاع الشرعي ضده‪ ،‬كالمجنون والصغير ومن به‬
‫علة عقلية أو غيبوبة أو سكر كون امتناع المسؤولية ال يبيح اقتراف الجرائم‪ ،‬فاغتصاب مجنون لفتاة أو شروع طفل في‬

‫]‪[102‬‬
‫حرق المحاصيل يوقف عن طرق فعل يشكل جريمة ويعد ذلك دفاعا شرعيا‪ .‬بالرغم من أنه هناك بعض الفقه من يرى‬
‫أن الدفاع الشرعي ضد الممتنعة مسؤوليته غير جائز قانونا‪ ،‬بدعوى أنهم غير مخاطبين بأوامر ونواهي القانون وبالتالي‬
‫أفعالهم ال حكم لها قانونا‪ ،‬وال يمكن وصفها بأنها أفعال غير مشروعة‪ ،‬وبالتالي تفادي أخطار هؤالء ال يستند إلى أسباب‬
‫اإلباحة‪ ،‬بل إلى حالة الضرورة‪ ،‬وهو رأي ال يؤيده البعض بكونه أقحم على عنصر الالمشروعية عنصر غير الزم‬
‫قانونا‪ ،‬وهو أن يكون الفاعل مسؤوال وهو أمر ال مدخل له كون الالمشروعية مسألة موضوعية بحتة‪ ،‬فكل سلوك‬
‫محظور هو غير مشروع ايا كان مرتكبه‪ ،‬وأنه ليس في قواعد القانون ما يبيح لغير المسؤول جنائيا أن يرتكب ما جرمه‬
‫القانون‪.‬‬
‫كما أن العذر القانوني ال يعطل الدفاع الشرعي‪ ،‬والعذر مثل مفاجأة الزوج لزوجته متلبسة بجريمة‬
‫الزنا‪ ،‬أو تجاوز حدود الدفاع الشرعي بحسن نية‪ ،‬والعذر القانوني ال يبيح الفعل بينما يخفف عقوبته‪ ،‬وبالتالي هذه‬
‫األعذار ال تحول دون حق ممارسة الدفاع الشرعي‪ ،‬مثل الحدث والشخص الذي تجاوز حدود الدفاع الشرعي بحسن‬
‫نية‪ ،‬كون فعله في هذه الحالة ينقلب إلى جريمة‪ ،‬وأن الراجح أيضا للزوجة المتلبسة بالزنا وشريكها الدفاع عن نفسيهما‬
‫ضد الزوج الذي فاجأهم بج ريمة الزنا‪ ،‬بالرغم ممن يعارض ذلك على اعتبار أن الزوجة وشريكها ابتدءا باستفزاز‬
‫الزوج وبالتالي ال يحق لهما الدفاع عن نفسيهما‪ .‬كما أن امتناع العقاب أو توفر مانع من موانع العقاب لدى المعتدي ال‬
‫يحول دون حق ممارسة الدفاع الشرعي‪ ،‬كون الفعل رغم المانع يظل يشكل جريمة‪ ،‬والعبرة في مجال الدفاع الشرعي‬
‫هي بطبيعة الفعل ال باستحقاق مرتكبه من الناحية الواقعية للعقاب من عدمه‪ .‬وبالتالي يجوز الدافع ضد من امتنع عقابه‪.‬‬
‫و هناك مسألة العدوان الناشئ عن جريمة مشمولة بأحد أسباب اإلباحة‪ ،‬ويرى الفقه بأن كل جريمة‬
‫مشمولة بسبب من أسباب اإلباحة ال يجوز ممارسة حق الدفاع الشرعي ضد مرتكبها‪ ،‬كون الدافع الشرعي قرر في‬
‫مواجهة االعتداءات غير المشروعة‪ ،‬في حين الجريمة المشمولة بسبب من أسباب اإلباحة رفعت عنها الصفة التجريمة‪،‬‬
‫وتطبيقا لذلك ال يجوز لالبن الذي يؤدبه والده أن يدافع عن نفسه‪ ،‬وال للمعتدي أن يدافع عمن اعتدى عليه‪ ،‬تطبيقا لقاعدة‬
‫" امتناع الدفاع عن الدفاع" ‪ ،‬بشرط أال يكون األول قد تجاوز حدود الدفاع الشرعي‪ ،‬كون التجاوز يبيح الدفاع]‪.[29‬‬
‫غير انه ثار جدل حول الدفاع ضد رجال الضبط القضائي‪ ،‬فإنه بالرغم من الجدل الفقهي الذي أثاره‬
‫الموض وع‪ ،‬في الحالة التي يقومون فيها بعمل غير مشروع‪ ،‬فمن الفقه من رأى تفضيل النظام العام وافتراض شرعية‬
‫أعمال رجال الضبط القضائي وبالتالي ال يجوز ممارسة الدفاع الشرعي ضد أعمالهم حتى ولو كانت غير مشروعة‪،‬‬
‫ويعاكس اتجاه آخر ذلك‪ ،‬بحجة حماية الحقوق والحريات التي كفل الدستور حمايتها وبالنظر أيضا لذاتية واستقالل قانون‬
‫العقوبات‪ ،‬واتخذ البعض موقف وسط معمال معيار المشروعية الظاهرة‪.‬‬
‫و هناك وضع يتعلق بمدى جواز الدفاع ضد جريمة يتخلف فيها الركن المعنوي‪ ،‬أي أن يكون مرتكبها‬
‫حسن النية‪ ،‬فمثل هذا الفعل من الناحية القانونية ال يرقى لمرتبة الجريمة‪ ،‬وتخلف الركن المعنوي قد يكون تاما فال‬
‫يصحبه ال العمد وال الخطأ‪ ،‬كمن يأخذ شيء ال يملكه معتقدا بأنه يخصه لشدة التشابه بين الشيئين‪،‬‬
‫أ و كمن يمزح من آخر ويهم بضربه مازحا‪ ،‬فهنا الراجح امتناع الدفاع الشرعي ضد هذا الشخص‪ .‬على عكس حاالت‬
‫اإلهمال الذي يثير خطر تصوري أو حقيق له أسباب معقولة‪ ،‬كمن يطلق العيارات النارية اتجاه الجمع في مناسبة‬
‫احتفالية‪ ،‬غير أن القضاء الفرنسي لغاية اليوم ال يزال يرفض فكرة الدفاع ضد الجرائم غير العمدية‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫الشروط المتطلبة في فعل الدفاع‬
‫فعل الدفاع في حقيقته عبارة عن جريمة يباح للشخص ارتكابها لدرء األخطار غير المشروعة الواقعة‬
‫عليه أو على غيره‪ ،‬لذلك وإن أجاز القانون ألسباب معينة ارتكاب مثل هذه الجرائم‪ ،‬فهو قيدها بقيود حتى ال تنقلب إلى‬
‫أفعال غير مشروعة‪ ،‬والدفاع هو الوجه المقابل للعدوان‪ ،‬أو هو رد الفعل الفردي على العدوان في الحاالت التي يعجز‬
‫فيها القانون عن حماية الحق المعتدى عليه بطريق آخر‪ ،‬وهو الفعل الذي ال يهتم به القانون إال إذا كان يشكل جريمة‪،‬‬
‫فإن تجرد من ذلك كان مباحا أصال من الناحية التي يقتضيها مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬وال حاجة عندئذ للبحث عن شروط‬
‫الدفاع‪ ،‬فمثال إذا اندفع شخص لقتل آخر‪ ،‬وحاد هذا األخير عن طريق‪ ،‬مما جعل المعتدي يصطدم بلوح زجاجي فجرحه‬
‫أو سقط في هوة ومات أو على سلك كهربائي فصعقه التيار أو على السكة فدهسه القطار فإن فعل المدافع عبارة عن‬

‫]‪[103‬‬
‫فعل مباح ال مجال للبحث فيه عن مدى توفر الشروط المتطلبة للدفاع في مجال الدفاع الشرعي‪ ،‬ألنه ارتكب أصال فعل‬
‫مباح‪ ،‬في حين أن الدفاع الشرعي يتطلب الرد عن فعل يشكل في نظر قانون العقوبات جريمة‪ ،‬سواء تمثلت في فعل‬
‫إيجابي كالضرب والجرح والقتل‪ ،‬أو بسلوك سلبي‪ ،‬إذ ليس في القانون ما يمنع أن يكون الدفاع بسلوك سلبي‪ ،‬كمن‬
‫يع تدي على شخص فينقض عليه كلبه وال يتدخل لرد الكلب بل يتركهما يتصارعان لينجو بنفسه‪ ،‬غير أن األفعال‬
‫اإليجابية مما يغلب وقوعها في الواقع فإن كان القانون قد أباح القتل في فعل الدفاع فليس هناك ما يمنع من إباحة ما هو‬
‫أدنى من القتل‪ ،‬مما جعل البعض أن الدفاع الشرعي يجوز أيضا بالسرقة والتزوير وإصدار شيك بدون رصيد‪ ،‬كون‬
‫المسألة ال تتعلق بمشروعية الوسيلة بل تتعلق بمدى لزومها لدرء العدوان‪ ،‬كما يجوز الدفاع بجريمة غير عمدية‪ ،‬كمن‬
‫يطلق رصاصة بغرض الترهيب فقط فتصيب المعتدي وتقتله‪.‬‬

‫لكن حق الدفاع الشرعي ثابت أساسا للشخص المعتدى عليه‪ ،‬وكذا لغيره إذا كان العدوان واقعا على النفس أو‬
‫المال وسواء كان جسيما أو يسيرا‪ ،‬فالعبرة ليست بالشخص المعتدى عليه بل بالحق المعتدى عليه وكان حسب األصل‬
‫أن يتولى القانون نفسه الدفاع عن هذا الحق‪ ،‬ولما قصرت وسائل القانون أطلق حق الدفاع الشرعي للمعتدى عليه‬
‫ب وصفه أحق الناس بذلك‪ ،‬ثم خوله لغيره من الناس من باب الحسبة‪ ،‬مما يؤدي إلى حماية الحق وزجر العدوان‪ ،‬لذا ال‬
‫يشترط أن تكون هناك صلة بين المعتدى عليه والمدافع‪ ،‬وال رضاء المجني عليه بدفاع الغير عنه‪ ،‬بل ال يعتد حتى‬
‫بقبوله العدوان إال بما يتعلق بالحقوق التي يجوز له التصرف فيها كالحقوق المالية‪ ،‬أما الحقوق األخرى التي ال يجوز‬
‫التصرف فيها كالحق في الحياة أو سالمة البدن فإنه يجوز للغير أن يدافع عنها حتى وإن كان المعتدى عليه راضي‬
‫بالعدوان‪ .‬وعلى العموم‪ ،‬فعل الدفاع مقيد بشرطين أو قيدين‪ ،‬وهما شرطي اللزوم والتناسب‪.‬‬
‫أوال‪ :‬شرط اللزوم‬
‫يقصد بشرط اللزوم‪ ،‬أن يكون فعل الدفاع – الذي هو في األصل جريمة‪ -‬السبيل الوحيد لرد االعتداء‪،‬‬
‫وبالتالي كلما كان بإمكان الشخص أن يسلك سبيل آخر غير مجرم انتفى شرط اللزوم وبالتالي انتفت اإلباحة عن فعل‬
‫الدفاع‪ .‬وبمعنى آخر كون سلوك الجريمة الزما‪ ،‬إذا كان العدوان قائم ومنذر بالتفاقم‬
‫أو االستمرار‪ ،‬ولم يكن أمام المدافع من سبيل لدرئه غير الفعل الذي ارتكبه‪ ،‬وإال فقد الدفاع مبرراته‪ ،‬ويجعل منه عدوان‬
‫يسأل عنه قانونا طبقا للقواعد العامة‪ .‬فإذا ثبت أن المجني عليه أو الغير كان في إمكانه رد االعتداء بوسيلة أخرى ال تعد‬
‫جريمة‪ ،‬فإن الدفاع عن طريق الجريمة يكون غير الزم‪ ،‬وأن يكون الدفاع معاصرا لالعتداء وهو ما بينته المادة ‪5/125‬‬
‫من تقنين العقوبات الفرنسي‪ ،‬إذ تفادي الخطر ال يكون إال عند وقوع الخطر ال قبله وال بعده‪ .‬وأن العدوان المستقبلي ال‬
‫يبح فعل الدفاع‪ ،‬حتى ولو بدت بوادر احتمال االعتداء في وقت قد يكون قريب كما قد يكون بعيد‪ ،‬فال عدوان ما لم يبادر‬
‫المعتدي في االعتداء‪ ،‬كأن يكون السارق يجول حول المنزل أو يترصد حركات الشخص‪ ،‬فهنا العدوان لم يقع‪ ،‬لكن في‬
‫المقابل يمكن للمدافع يتخذ االحتياطات الالزمة‪ ،‬مثل إقامة األسوار أو وضع الزجاج أو األسالك الشائكة عليها أو كهربة‬
‫األقفال‪ ،‬أو إطالق الكالب الشرسة في حديقة المنزل‪ ،‬فتعد في نظر بعض الفقه من الوسائل التي تدخل في نطاق الدفاع‬
‫الشرعي عن النفس أو المال‪ ،‬بشرط أال تعمل عملها إال عند االعتداء‪ ،‬وعلى أن يكون ضررها متناسب مع االعتداء‬
‫ال حاصل‪ ،‬وهو رأي ال يوافقه البعض كونه يقحم في الدفاع الشرعي ما ليس منه‪ ،‬كون الدفاع الشرعي أصال يقتضي‬
‫سبق العدوان وإال كان دفاعا مستقبال‪ ،‬وأن الدفاع الشرعي يبيحه الدفاع الحال فقط دون الدفاع المستقبلي‪ .‬كما أن انتهاء‬
‫العدوان ينهي انتهاء فعل الدفاع‪ ،‬كون الدفاع الشرعي شرع لرد العدوان‪ ،‬وأي رد بعد انتهاء العدوان يعد فعال من أفعال‬
‫االنتقام‪ ،‬وتتحدد لحظة انتهاء العدوان في العادة ببلوغ العدوان غايته‪ ،‬أو بوقوفه عند حد الشروع‪ ،‬ولحظة انتهاء العدوان‬
‫في العادة ما تتحدد بالرجوع إلى النص‪ ،‬فهو الذي يحدد لنا نوع االعتداء ويرسم معالمه مما يتحدد معه صراحة أو‬
‫ضمنا بداية ونهاية االعتداء‪ ،‬فالضرب باصطدام الجسم بجسم آخر وفي الجرح بتمزيق األنسجة‪ ،‬وفي الحريق بوضع‬
‫النار‪ ...‬كما يختلف بحسب الجريمة المؤقتة والجريمة المستمر‪ ،‬والجريمة البسيطة والجريمة المتتابعة األفعال‪ ،‬إذ في‬
‫الجرائم المستمرة يظل االعتداء قائما طالما ظلت الجريمة المستمرة كاالختطاف واالحتجاز‪ ،‬فطيلة هذه الفترة يمكن‬
‫ممارسة الدفاع الشرعي‪ ،‬وبالتالي مسألة بداية وانتهاء االعتداء في حقيقة األمر ال ينظر إليها نظرة قانونية بحتة‪ ،‬وإنما‬
‫ينظر إليها نظرة واقعية‪ ،‬أي انتهاء العدوان ينظر إليه من حيث الواقع ال من حيث القانون‪.‬‬

‫]‪[104‬‬
‫ك ما أن العبرة في انتهاء العدوان هي بانتهاء الفعل أو السلوك‪ ،‬ال بتحقق النتيجة‪ ،‬كما ينتهي العدوان عند‬
‫توقف الجريمة عند حد الشروع مثل مفاجأة أصحاب البيت السارق فيلقي األموال ويهرب‪ ،‬أو وجد الخزانة فارغة فولى‬
‫مدبرا فيصادفا نه ويهرب‪ ،‬فهنا الجريمة خابت ووقفت عند حدود الشروع المعاقب عليه‪ ،‬وبالتالي العدوان انتهى وكل‬
‫دفاع ضده يعد جريمة في حد ذاته‪.‬‬
‫و من الشروط التي تجعل من الدفاع الزما‪ ،‬هو أن يتعذر رد العدوان إال بفعل الدفاع الذي يعد في حقيقة‬
‫األمر جريمة‪ ،‬وبالتالي إن أمكن رده عن طريق آخر غير هذا الفعل المشكل لجريمة فال دفاع‪ ،‬كون الدفاع أقره المشرع‬
‫ألنه يأخذ حكم الضرورة‪ ،‬والضرورة تقدر بقدرها‪ ،‬غير أنه هناك حاالت أثارت جدال فقهيا كبيرا‪ ،‬منها إمكانية الهرب‪،‬‬
‫أو االحتماء بالسلطة العامة أو تفادي العدوان قبل أن يقع‪.‬‬
‫‪-1‬إمكان اللجوء إلى السلطة العامة‪:‬‬
‫يرى بعض الفقه أن الدفاع الشرعي ذو صفة احتياطية‪ ،‬وبالتالي ال يلجا إليه إال عند عجز السلطة العامة‬
‫عن حماية الحق المعتدى عليه‪ ،‬فإن كان اللجوء إليها ممكنا فال محل للدفاع الشرعي‪ ،‬بشرط أن يكون للمتهم الوقت‬
‫الكافي للجوء لهذا اإلجراء‪ ،‬وما لم يكن في ذلك تحمل للعدوان وأضراره لغاية وصول رجال السلطة العامة‪ ،‬ومعنى‬
‫ذلك أن يكون اللجوء إلى السلطة العامة قبل البدء في العدوان‪ ،‬إذ ال محل لترك المتهم في المنزل والذهاب للسلطة‬
‫العامة‪ ،‬أو ترك الشخص يتلف الزرع لغاية وصول السلطة العامة]‪.[30‬‬
‫‪ -2‬إمكانية الهرب من المعتدي‪:‬‬
‫يتساءل البعض إن كان بإمكان المعتدى عليه الهرب من الجاني ؟ وهنا يرى البعض أنه ال يلزم‬
‫الشخص بفعل يحط من قدره‪ ،‬والهرب يشين ومعرة فال يجوز فرضه على من تعرض لعدوان غيره‪ ،‬وعلى المعتدي أن‬
‫يتحمل مغبة عدوانه‪ ،‬غير أنه حق خيار مقرر للمدافع‪ ،‬إال أن الهرب ذاته يكون معاقب عليه ومحظور لبعض الفئات‬
‫مثل العسكريين‪ ،‬كما أن الهرب في بعض األحيان حتى بالنسبة لألشخاص العاديين يعد محمودا مثل هرب االبن من أبيه‬
‫والتلميذ من عدوان معلمه والشخص البالغ من عدوان المجنون‬
‫أو الصبي‪ ،‬ويدخل في مفهوم الهرب االحتماء داخل البيت‪ ،‬أو استغاثته بمن حوله‪ ،‬أو تغيير الطريق التي يتواجد بها‬
‫الخصم‪ .‬وقضت محكمة النقض المصرية‪ ،‬أن القانون ال يمكن أن يطالب اإلنسان بالهرب لما في ذلك من الجبن الذي ال‬
‫تقرره الكرامة اإلنسانية‪ ،‬وقد قضي في مصر أيضا‪ ،‬انه من الخطأ أن نطالب الشخص بمغادرة منزله وأن يلتجأ إلى‬
‫الطريق العام‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬شرط التناسب‬
‫وهو شرط يقتضي تقييد الشخص المدافع بإتيان أفعال تكفيه رد الخطر الذي يداهمه فحسب‪ ،‬وكل تجاوز‬
‫لذلك يعد جريمة يعاقب عليها القانون‪ ،‬بشرط ثبوت علمه بالتجاوز‪ .‬غير أن مسألة التناسب مسألة موضوعية تخضع‬
‫للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع‪ ،‬حسب ظروف ومالبسات كل قضية على حدا‪ .‬لكن ذلك ال يمنعنا من تقديم بعض‬
‫التوضيحات‪ ،‬وهي أن ممارسة الدفاع الشرعي مرهون بالتزام حدوده‪ ،‬إذ المدافع يجب أال يتجاوز حدوده في الدفاع عن‬
‫نفسه أو ماله‪ ،‬أو نفس الغير وماله‪ ،‬وكل تجاوز لحدود الدفاع الشرعي‪ ،‬يخرج المدافع من دائرة اإلباحة إلى دائرة‬
‫التجريم‪ ،‬والحدود تتمثل في استعمال فقط القوة الالزمة لرد العدوان‪ ،‬غير أن الفقه تفرقت آراءه بخصوص إيجاد‬
‫معيار التناسب هذا‪ ،‬والطرق التي بموجبها يثبت التناسب من عدمه‪ ،‬فمنهم من اعتمد معيار الحق المعتدى عليه والحق‬
‫الذي يمسه المدافع الراجع للمعتدي‪ ،‬ومنهم من اعتمد معيار الضرر وما يصيبه االعتداء وما يصيبه الدفاع‪ ،‬ومنهم من‬
‫يعتمد في المقارنة على الوسائل التي استخدمها المدافع من بين الوسائل التي كانت متاحة له‪ ،‬ومنهم من يعتمد على قدر‬
‫العنف الذي بدله المدافع وما كان يبذله غيره في نفس الظروف‪ ،‬وهو التذبذب واالضطراب الذي أصاب أيضا أحكام‬
‫القضاء]‪ . [31‬األمر الذي قاد الفقه إلى زيادة المسألة تعقيدا بعدما حاول إيجاد حل لها‪ ،‬وذلك ألن مصطلح التناسب ذاته‬
‫مصطلح مضلل‪ ،‬ألنه يوهم بضرورة التكافؤ ولو بشكل نسبي بين جسامة االعتداء وجسامة الدفاع‪ ،‬وهو غير المطلوب‬
‫قانونا وإال كان فيه تعطيل لحق الدفاع‪ ،‬إذ قد يجد المدافع نفسه أمام اعتداء يسير ال يمكن رده إال باعتداء جسيم‪ ،‬وهنا‬
‫يجد المدافع نفسخه أمام خيارين أحالهما مر‪ ،‬فإما أن يدافع عن نفسه متحمال التجاوز وعواقبه‪ ،‬وإما أن يفسح الطريق‬
‫أمام المعتدي ويتركه ينفذ اعتداءه‪ ،‬وهذا غير مقبول‪ ،‬بل هو مخالف لصريح القانون الذي يبيح استعمال القوة الالزمة‬

‫]‪[105‬‬
‫لرد كل عدوان على النفس أو المال‪ .‬غير أن المسألة أكثر يسرا لو تأملنا الحكمة من تقرير الدفاع الشرعي‪ ،‬بان الدفاع‬
‫ضرورة‪ ،‬والضرورة تقدر بقدرها‪ ،‬وهي استخدام ما يقتضيه الرد بناء على ظروف الموقف‪ ،‬وهو الموقف الذي ال ينظر‬
‫له نظرة مجردة‪ ،‬بل ينظر إليه على ضوء الظروف والمالبسات منها ما يتعلق بالمعتدي ومنها ما يتعلق بالمدافع‪ ،‬مثل‬
‫السن والجنس والحالة الصحية والقوة البدنية ودرجة الثقافة ونمط الشخصية وطبيعة العالقة بينهما‪ ،‬ومنها ما يتعلق‬
‫بعامل الزمان والمكان كالليل والنهار والصيف والشتاء والبعد والقرب من األماكن العمرانية ونوع الحق المعتدى عليه‪،‬‬
‫وغير ذلك من المواقف والمالبسات التي ترسم معالم الموقف وتحدد السلوك الالزم لرد العدوان‪ ،‬مما يؤدي أحيانا إلى‬
‫إباحة استخدام وسائل بالغة العنف وإحداث أضرار جسيمة لرد اعتداءات يسيرة]‪ .[32‬كما يجب أن يأخذ في الحسبان ما‬
‫استقر في نفسية المدافع لحظة تعرضه للعدوان‪ ،‬ال بالموقف الهادئ المطمئن الذي يكون عليه القاضي وهو جالس بقاعة‬
‫المحكمة‪ ،‬بل يجب أن يحل نفسه محل المدافع ثم يقدر الموقف بناء على تفكير صاف متزن‪ ،‬إذ المدافع وحده ممن‬
‫أحاطت به الظروف الحرجة والمالبسات الدقيقة التي وضعته في مأزق وال يمكن محاسبته بوجوب أن يكون متزن‬
‫الفكر هادئ التقدير‪ ،‬وهو ما يستحيل عليه في الظروف التي وجد فيها لحظة االعتداء]‪ .[33‬ويرى البعض في هذه‬
‫المسألة معالجة مسألة التناسب العام ومسألة التناسب الخاص‪ ،‬فالتناسب العام ال يقتضي بالضرورة المساواة المجردة بين‬
‫المصالح المتعارضة وال األضرار التي تصيبها‪ ،‬بل على الوسيلة التي تمكن من رد االعتداء‪ ،‬وأن تكون الوسيلة‬
‫الوحيدة التي تمكنه من رد االعتداء من بين الوسائل المتاحة له‪ ،‬وقد قضي بجواز استعمال سالح ناري في مواجهة‬
‫معتدي غير مسلح أصال‪ ،‬ويراعي في ذلك الظروف التي يمر بها المعتدى عليه والقوة البدنية للطرفين‪ ،‬ويؤخذ بمعايير‬
‫واقعية التي يمر بها الشخص العادي‪ .‬أما التناسب الخاص‪ ،‬فهي الحاالت التي يدافع فيها الشخص عن نفسه بجريمة‬
‫القتل‪ ،‬التي حددها المشرع على سبيل الحصر‪.‬‬
‫ه ذا ونشير إلى أن الفقه قد أثار شرطا ثالثا‪ ،‬بموجبه تم اإلقرار أال يكون الشخص المدافع هو الذي تسبب‬
‫في الجريمة‪ ،‬كأن يكون قد ساهم فيها أو استفز المعتدي‪ ،‬وهذا فيه كالم أهمه دفاع الزوجة وشريكها ضد القتل الذي‬
‫يحاول ارتكابه الزوج المضرور‪ ،‬كما أن االستفزاز بالسب والشتم ال يبرر القتل لعدم وجود التناسب‪.‬‬
‫و يضيف الفقه أحيانا شرطا ثالثا‪ ،‬وهو أن يتجه المدافع بدفاعه على المعتدي ذاته ال إلى غيره‪ ،‬بغض‬
‫النظر عن الحق الذي ينصب عليه الدفاع ‪ ،‬فقد يتلف المعتدي سيارته أو يقتل كلبه أو يحطم سالحه‪ ،‬وبالتالي من‬
‫مقتضيات شرط اللزوم أن يوجه فعل الدفاع للشخص مصدر االعتداء ال لشخص ال تربطه صلة بهذا االعتداء‪ ،‬فال‬
‫يجوز لشخص سبته امرأة أن يتوجه بالضرب لزوجها أو يتلف ماله‪ ،‬غير أن المسألة أحيانا ينظر إليها بحسب ظروف‬
‫ومالبسات القضية‪ ،‬مثل الشخص الذي يشرع في الحرق وتحطيم ملك الغير‪ ،‬فال يجد الشخص من سبيل سوى اإلمساك‬
‫بابنه وتهديده بالكف عن أعماله وإال سيؤذي ابنه‪.‬‬
‫كما نجد الفقه‪ ،‬يضيف أحيانا شرطا رابعا‪ ،‬وهو نية الدفاع‪ ،‬وهو اشتراط أن تكون إرادة المدافع قد‬
‫اتجهت وقت الدفاع إلى رد العدوان‪ ،‬وإال تجرد من معنى الدفاع وأصبح عدوانه يستوجب العقاب‪ ،‬لذا فينبغي علم‬
‫المدافع بالعدوان ومن ثم اتجاه إرادته إلى منع هذا العدوان‪ ،‬فإن ثبت أن هدف المدافع كان الثأر‬
‫أو االنتقام عد فعله جريمة حتى وإن درء به اعتداء فعلي على حق‪ ،‬وبالرغم من عدم وجود نص في القانون يشترط هذه‬
‫النية‪ ،‬إال أنها تستفاد من العبارات العامة للنص ومن طبيعة فعل الدفاع ذاته‪ .‬لذا نجد بعض الفقه ذهب للقول بأن هذه‬
‫النية غير الزمة‪ ،‬على أساس أن أسباب اإلباحة أسباب موضوعية عينية‪ ،‬في حين النية أمر شخصي‪ ،‬وبالتالي فاالشتغال‬
‫بالنية اشتغال ال يفيد‪ ،‬إذ حتى بغياب النية فلوال الدفاع الكتمل العدوان من الناحية الواقعية‪ ،‬لذا أجاز أصحاب هذا الرأي‬
‫أن يكون الدفاع بجريمة غير عمدية‪ ،‬إذا صادفت رد اعتداء غير مشرع‪ ،‬كترك كلب بدون أخذ االحتياطات الالزمة لمنع‬
‫ا عتداءه على الغير وصادف الرتكاب جريمة ومنعها‪ .‬في حين يرى البعض أن النية مستفادة من اشتراط رد العدوان‬
‫بفعل قادر على الرد‪ ،‬وهذا يقتضي ضمنا وجود نية في ذلك‪ ،‬كون قياس القوة وتقديرها يقتضي وجود نية‪ ،‬خاصة وأن‬
‫تقدير التناسب يقدر على ضوء كل من الظروف الموضوعية والشخصية المحيطة بالشخص المدافع‪ ،‬لكن ال يشترط في‬
‫هذه النية أن تكون خالصة ال تخالطها نية أخرى‪ ،‬مثل الرغبة في الثأر والتباهي بالقوة أو إرهاب الغير‪ ،‬فهي نوايا وإن‬
‫كانت غير مستحبة‪ ،‬فإنها ال تنفي نية الدفاع الشرعي‪ ،‬كون وجودها من عدمه في نظر القانون سواء‪ .‬كما يرى البعض‪،‬‬
‫إن سبق اإلصرار والترصد ال ينفي نية الدفاع‪ ،‬كمن علم أنه مستهدف للسرقة في بيته فأعد خطة للدفاع‪ ،‬وفاجأ لصوصه‬

‫]‪[106‬‬
‫بالدفاع فهنا يكون في حالة دفاع شرعي بالرغم من سبق اإلصرار والترصد‪ ،‬وهو عكس ما اتجهت له محكمة النقض‬
‫المصرية في بعض قراراتها‪ .‬كما يرى البعض أيضا‪ ،‬أن نية الدفاع الشرعي ال تنتفي باستفزاز المدافع للمعتدي‪ ،‬نظرا‬
‫لفكرة عقم االستفزاز‪ ،‬غير أن هذا الرأي يفرق بين االستفزاز واالستدراج‪ ،‬إذ االستدراج ال يستقيم مع نية الدفاع‪،‬‬
‫واالستدراج كتحدي شخص أن يقوم بفعل ما‪ ،‬أو التظاهر بالغفلة عن صيانة المال‪ ،‬ويتخفى في مكان ما ليفاجأ السارق‪،‬‬
‫فاالستفزاز مجرد إثارة وإهاجة‪ ،‬بينما االستدراج عبارة عن خطة مدروسة ومرسومة لتوريط الغير في االعتداء وذاك‬
‫بينة مبيتة منذ البداية تحت ستار الدفاع الشرعي‪ ،‬لذا فاالستدراج ال يستقيم مع نية الدفاع الشرعي‪ .‬وعدم مراعاة‬
‫الشروط السابقة‪ ،‬يجعلنا أمام تجاوز لحدود الدفاع الشرعي‪ ،‬الذي نعالجه في النقطة التالية‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬حالة تجاوز حدود الدفاع الشرعي‬
‫ا لمقصود بتجاوز حدود الدفاع الشرعي‪ ،‬نشوء الحق فيه أوال‪ ،‬وهو ما يفترض أوال وقوع عدوان يشكل‬
‫جريمة من جرائم قانون العقوبات‪ ،‬وتعذر رد هذا العدوان إال بطريق فعل يشكل بدوره جريمة من جرائم قانون‬
‫العقوبات‪ ،‬ليأتي تجاوز الحدود عند ممارسة حق الدفاع الشرعي‪ ،‬وهو التجاوز الذي يتصور أن يكون بتجاوز محل‬
‫الدفاع‪ ،‬ومحل الدفاع هو دائما حق من حقوق المعتدي‪ ،‬وإن حدث وأن أصاب المدافع حق من حقوق الغير‪ ،‬كأن ينتزع‬
‫شجرة الغير ويستعملها كوسيلة دفاع‪ ،‬أو يمسك ببريء ويغطى به نفسه‪،‬‬
‫أو يطلق النار في الليل ويصيب شخص غير المعتدي‪ ،‬فهنا حسب البعض أنه لم يكن متعمدا ذلك وبحسن نية ولم ينسب‬
‫له أي خطا‪ ،‬ويعتبر في حالة دفاع شرعي‪ ،‬وإن كان يتعمد هذا التجاوز في المحل يمكن أن يسأل بحسب األحوال عن‬
‫جريمة عمدية أو غير عمدية بحسب ما تحتمله الجريمة من أوصاف‪ ،‬غير أن البعض يرى بأنه رأي غير صائب إذ ال‬
‫مجال ألن تهدر حقوق الغير األبرياء لمجرد أن شخصا ما كان محل اعتداء‪ ،‬وإن كان يمكن القول بأن الركن المعنوي‬
‫قد تخلف فال يمكن القول بأي حال من األحوال أن الفعل صار مباحا‪ .‬وهناك حالة أخرى يسميه الفقه الشطط في الدفاع‬
‫‪ -‬وبينتها المادة ‪ 251‬من تقنين العقوبات المصري‪ -‬وهي تعدي المدافع بنية سليمة حدود الدفاع الشرعي أي أن يكون‬
‫عالما بأنه يتعدى حدود الدفاع الشرعي‪ ،‬غير أنه لم يكن قاصدا إحداث أضرار أكثر مما يتطلبه الدفاع الشرعي‪ ،‬مما‬
‫يجع ل فعله غير مشروع يسأل عنه وإن كان حسن النية يخفف عنه العقوبة‪ .‬وفي حال سوء نية المدافع‪ ،‬أي تعمده إحداث‬
‫ضرر اشد مما يستلزمه الدفاع‪ ،‬إذ يكون قد قدر الموقف تقديرا صحيحا‪ ،‬فانتهز الفرصة وتجاوز حد االعتدال ويوقع‬
‫بالمعتدي ضرر اشد مما يلزم‪ ،‬فهنا تطبق القواعد العامة ويعاقب عن جريمة عمدية‪ ،‬بالرغم من أن بعضه كان مباحا‬
‫والبعض اآلخر مجرما‪ ،‬إال أن الفعل الواحد وحدة واحدة ال تقبل التجزئة‪ ،‬فصار بذلك الفعل بأكمله غير مشروع‪ ،‬عمال‬
‫بقاعدة عامة معمول بها في الفقه الشرعي‪ ،‬وهي أنه إذا اجتمع الحالل والحرام غلب الحرام‪ ،‬غير أن ذلك ما يكون‬
‫في العادة سببا لتخفف العقوبة إعماال للسلطة التقديرية للقاضي‪ .‬أما إن كان التجاوز بحسن نية‪ ،‬أي اعتقد المدافع خطأ‬
‫أنه في حدود ما يقتضيه الدفاع الشرعي‪ ،‬فهنا ينتفي الخطأ كونه يدور وجودا وعدما مع فكرة حسن النية‪ .‬غير أن حسن‬
‫النية ال يبيح فعل الدفاع‪ ،‬وإنما يخف من العقوبة‪ ،‬كون النية مسألة شخصية في حين الدفاع الشرعي ظرف عيني‬
‫موضوعي‪.‬‬

‫]‪ - [1‬و هذا القول ال يعني بأن موانع المسؤولية تتعلق بالركن المعنوي‪ ،‬فهي بعيدة تمام البعد عن أركان الجريمة‪ ،‬ففي‬
‫موانع المسؤولية تكون الجريمة قائمة بأركانها الثالثة‪ ،‬غير أن الشخص ال يسأل عن جريمته لتوفر مانع يحول دون قيام‬
‫المسؤولية‪ ،‬ال دون قيام الجريمة‪ .‬وسيتضح األمر أكثر عند دراسة المسؤولية الجنائية وموانعها‪.‬‬
‫]‪ - [2‬ا لتدابير االحترازية أو تدابير األمن‪ ،‬ومثلما سيتضح عند دراستها‪ ،‬هي الصورة الثانية من صور الجزاء الجنائي‪،‬‬
‫وهي تدابير قررت أصال لموجهة حاالت امتناع المسؤولية أو مواجهة الخطورة اإلجرامية‪ ،‬وهدفها األساسي العالج والتهذيب‬
‫بعيدا عن اإليالم وفكرة العقاب والردع‪ ،‬على عكس العقوبة الصورة األولى واألساسية من صور الجزاء الجنائي‪.‬‬
‫]‪ - [3‬وإن كانت مسألة نفي المسؤولية المدنية في مجال أسباب اإلباحة قد أثارت جدال فقهيا بين مؤيد ومعارض‪ ،‬إال أن‬
‫الرأي الغالب الذي استقر تشريعيا‪ ،‬هو نفي المسؤولية المدنية في حال توفر سبب من أسباب اإلباحة‪ ،‬إذ ال يمكن أن نطالب‬

‫]‪[107‬‬
‫شخص دافع عن نفسه أو عن غيره من أفعال تعد جرائم أن يعوض هؤالء المعتدين المجرمين‪ ،‬وال أن يلزم شخص بالتعويض عن‬
‫فعل أتاه‪ ،‬قد يكون القانون قد أذن به كما قد يكون أمر به‪ ،‬وأن القول بغير ذلك يعطل الهدف من تقرير أسباب اإلباحة‪.‬‬
‫]‪ - [4‬و األمر بديهي‪ ،‬إذ ما دام يمكن توقيع التدابير االحترازية على الشخص الذي امتنعت مسؤوليته‪ ،‬وهي تدابير‬
‫تنطوي بطريق غير مباشر على إقرار نوع من المسؤولية الجنائية – بنوع من التحفظ‪-‬على الجاني‪ ،‬فبديهي أن يلزم بتحمل‬
‫المسؤولية المدنية‪ ،‬كونها تقوم على فكرة الخطأ المسبب لألضرار تطبيقا للقواعد العامة في المسؤولية المدنية‪.‬‬
‫]‪ - [5‬كما تختلف موانع العقاب عن موانع المسؤولية‪ ،‬فإن كانا يتشابهان في كونهما من الظروف الشخصية اللصيقة‬
‫بالشخص‪ ،‬إال أن موانع المسؤولية تحول دون قيام المسؤولية مع إمكانية توقيع التدابير االحترازية‪ ،‬غير أن موانع العقاب وإن‬
‫كانت مسؤولية الشخص قائمة بخصوص ارتكابه الجريمة إال انه ال يوقع عليه أي نوع من أنواع العقاب‪ .‬مع أنه قد يسأل مدنيا‬
‫مثل السرقات التي تقع بين األزواج أو األصول والفروع‪.‬‬
‫ومن أمثلة موانع العقاب في تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬نذكر‪........................ :‬‬
‫]‪ -- [6‬سماعها البعض موانع المحاكمة‪ ،‬في حين أن المحاكمة في الدعوى العمومية من آخر المراحل‪ ،‬لذا نفضل‬
‫تسميتها بالموانع اإلجرائية على اعتبار أن هذا االصطالح يشمل حتى االصطالح األول‪ ،‬كون المحاكمة مجموعة إجراءات‪.‬‬
‫]‪ - [7‬المواد من ‪ 161‬حتى ‪ 169‬من تقنين العقوبات الجزائري المعنونة ب‪ ":‬جنايات وجنح متعهدي تموين الجيش"‬
‫التي تشترط لتحريك الدعوى العمومية تقديم شكوى من زير الدفاع الوطني‪.‬‬
‫]‪ - [8‬ي عني الجهل باإلباحة أن يرتكب شخص جريمة وقد توافر في حقه سبب من أسباب اإلباحة‪ ،‬لكنه كان يجهل ذلك‪،‬‬
‫وبالتالي هي جريمة ال تقوم إال في ذهن صاحبها وبالتالي يستفيد من السبب‪ ،‬خاصة في ظل الطبيعة الموضوعية لهذه األسباب‬
‫بينما الغلط فهو الصورة المقابلة للجهل‪ ،‬فيقع الفاعل في غلط بشأن أحد عناصر اإلباحة على نحو يجعله يعتقد بسبب اإلباحة في‬
‫حين أنه في الواقع السبب غير متوفر‪ ،‬كالدفاع الشرعي من شخص ضد خطر وهمي فيرتكب جريمة قتل ظنا منه أن خطر يتهدده‬
‫من هذا الشخص في حين األخير لم يكن في الواقع يشكل أي خطر عليه‪ ،‬وهو ما ينفي اإلباحة أصال ما عدا ما‬
‫تضمنه المشرع المصري من فكرة األسباب المعقولة‪.‬‬
‫]‪ - [9‬وإن كانت لنا بعض التحفظات بخصوص هذه المسألة‪ ،‬سنعود إليها الحقا‪.‬‬
‫]‪ - [10‬ن شير إلى ثالث قرارات قضائية صادرة عن المحكمة العليا بخصوص أسباب اإلباحة‪ ،‬لكن فيما يتعلق فقط‬
‫بالدفاع الشرعي‪ ،‬فهناك قرار في‪ 1996-03-24 :‬في الملف رقم‪ ": 120960 :‬يشترط لتطبيق الدفاع المشروع توافر شرطين‬
‫أساسيين يتعين على قضاة المجلس إبرازهما في قرارهم وهما‪ -:‬أن يكون االعتداء حاال وغير مشروع‪ -،‬أن يكون الدفاع الزما‬
‫ومتناسبا مع جسامة االعتداء‪ ".‬وتكون لنا عودة لتفصيل الشرطين‪ ،‬وهناك قرار ثاني في‪ 1996-07-14 :‬في الملف رقم‪:‬‬
‫‪ ": 132860‬إن الدفاع المشروع مسألة موضوعية يرجع تقديرها لقضاة الموضوع الذين يتعين عليهم في حالة إثارته الرد عليه‬
‫بقبوله أو برفضه‪ ".‬والثالث في‪ 2003-04-29 :‬الملف ‪ ": 306921‬إن توافر شروط الدفاع المشروع ينفي عن طابعها‬
‫اإلجرامي‪ ،‬ومن ثم تمحى الجريمة من األساس ‪ ،".‬وهو ما يتعلق بطبيعة أسباب اإلباحة‪.‬‬
‫]‪ - [11‬وهو أن يكون الفعل جريمة‪ ،‬لكن يأمر القانون في بعض األحوال وفي ظروف معينة‪ ،‬من بعض األشخاص‬
‫إتيانه‪ ،‬ففي هذه الظروف إذا ما أتى الفعل هؤالء األشخاص كان الفعل مباحا‪ ،‬بالرغم من انه يعد جريمة في غير هذه الحاالت‪ ،‬أو‬
‫إذا قام به غير هؤالء األشخاص‪ .‬وعلة إباحة هذه األفعال التي تؤتى في هذه الظروف من قبل هؤالء األشخاص هي تحقيق‬
‫الصالح العام‪ ،‬وذلك باالستناد لسببين‪ ،‬أحدهما موضوعي وهو أن األعمال التي تؤتى في هذه الظروف أهم من الحماية المقررة‬
‫لهذه الحقوق في األحوال العادية‪ ،‬إذ الحقوق التي يأتيها هؤالء عامة لكنها في الوضع العادي حقوقا خاصة‪ ،‬كما أنه ال يعقل أن‬
‫يكون الفعل الواحد معاقبا عليه ومباحا في ذات الوقت‪ ،‬والسبب الثاني شخصي هو أن يكون اقتراف الفعل بحسن نية وتنفيذا لما‬
‫أمر بـــه القانون‬
‫]‪ - [12‬ب اعتبار أداء الواجب أو أوامر القانون واجبات وظيفية فمصدرها دوما نص في القانون‪ ،‬وأن القانون المصدر‬
‫العام لكل الواجبات‪ ،‬غير أن الواجبات المهنية تستمد في قسم منها من نص القانون مباشرة‪ ،‬وفي قسم منها من أوامر الرؤساء‪،‬‬
‫ومن حيث الحكم القسمان سواء في نظر القانون‪ ،‬ففي كال الحالتين يعد أداء ما أمر به القانون أو أداء الواجب سبب من أسباب‬
‫اإلباحة‬
‫]‪ - [13‬وهو قسم سماه المشرع الجزائري باالعتداء على الحريات‪ ،‬ونظمه ضمن المواد من ‪ 107‬إلى ‪ ،11‬وقد نصت‬
‫هذه المواد‪ ،‬تباعا على ما يلي‪ :‬المادة ‪ ":107‬يعاقب الموظف بالسجن المؤقت من خمس إلى عشر سنوات إذا أمر بعمل‬
‫تحكمي أو ماس سواء بالحرية الشخصية للفرد أو بالحقوق الوطنية لمواطن أو أكثر‪ ،".‬وهي المادة التي بينت مصدر األمر غير‬

‫]‪[108‬‬
‫المشروع أي الرئيس‪ ،‬فيس حين لم تبين مسؤولية المرؤوس‪ ،‬مما يعني عدم مسائلته‪ ،‬سيما في حالة حسن نيته واعتقاده بمشروعية‬
‫األمر الصادر إليه‪.‬‬
‫في حين نصت المادة المادة ‪ ": 108‬مرتكب الجنايات المنصوص عليها في المادة ‪ 107‬مسؤول شخصيا‬
‫مسؤولية مدنية وكذلك الدولة على أن يكون لها حق الرجوع على الفاعل‪ ،".‬وهنا يعوض الشخص المضرور شخصيا أو تعوضه‬
‫الدولة وترجع على الرئيس الذي أصدر األمر غير المشروع‪.‬‬
‫المادة ‪ ":109‬الموظفون ورجال القوة العمومية ومندوبو السلطة العمومية والمكلفون بالشرطة اإلدارية أو الضبط‬
‫القضائي الذين يرفضون أو يهملون االستجابة إلى طلب يرمي إلى ضبط واقعة حجز غير قانوني وتحكمي إما في المؤسسات أو‬
‫في األماكن المخصصة لحجز المقبوض عليهم أو في أي مكان آخر وال يثبتون أنهم أطلعوا السلطة الرئاسية عن ذلك يعاقبون‬
‫بالسجن المؤقت من خمس إلى عشر سنوات‪".‬‬
‫المادة ‪ (110‬المادة ‪ 60‬من القانون رقم ‪ 23-06‬المؤرخ في‪ ":)2006-12-20 :‬كل عون في مؤسسة إعادة التربية أو‬
‫في مكان مخصص لحراسة المقبوض عليهم يتسلم مسجونا دون أن يكون مصحوبا بأوامر حبس قانونية أو يرفض تقديم هذا‬
‫المسجون إلى السلطات أو األشخاص المخول لهم زيارته بدون أن يثبت وجود منع من القاضي المحقق أو يرفض تقديم سجالته‬
‫إلى هؤالء األشخاص المختصين‪ ،‬يكون قد ارتكب جريمة الحجز التحكمي ويعاقب بالحبس مدة من ستة أشهر إلى سنتين‬
‫وبغرامة من ‪ 20.000‬دج إلى ‪ 100.000‬دج‪".‬‬
‫المادة ‪ 110‬مكرر ( المادة ‪ 60‬من القانون رقم ‪ 23-06‬المؤرخ في‪ ":)2006-12-20 :‬كل ضابط بالشرطة القضائية‬
‫الذي يمتنع عن تقديم السجل الخاص المنصوص عليه في المادة ‪ 52‬الفقرة ‪ 3‬من قانون اإلجراءات الجزائية إلى األشخاص‬
‫المختصين بإجراء الرقابة وهو سجل خاص يجب أن يتضمن أسماء الذين هم تحت الحراسة القضائية يكون قد ارتكب الجنحة‬
‫المشار إليها في المادة ‪ 110‬ويعاقب بنفس العقوبة ‪.‬‬
‫وكل ضابط بالشرطة القضائية الذي يتعرض رغم األوامر الصادرة طبقا للمادة ‪ 51‬من قانون اإلجراءات‬
‫الجزائية من وكيل الجمهورية إلجراء الفحص الطبي لشخص هو تحت الحراسة القضائية الواقعة تحت سلطته‪ ،‬يعاقب بالحبس من‬
‫شهر إلى ثالثة أشهر وبغرامة من ‪ 20.000‬دج إلى ‪ 100.000‬دج أو بإحدى هاتين العقوبتين‪".‬‬
‫المادة ‪ ": 111‬يعاقب بالحبس لمدة ستة أشهر إلى ثالث سنوات كل قاض أو ضابط بالشرطة القضائية يجري متابعات‬
‫أو يصدر أمرا أو حكما أو يوقع عليهما‪ ،‬أو يصدر أمرا قضائيا ضد شخص متمتع بالحصانة القضائية في غير حاالت التلبس‬
‫بالجريمة دون أن يحصل قبل ذلك على رفع الحصانة عنه وفقا لألوضاع القانونية‪".‬‬
‫]‪ - [14‬ويعبر الفقه عن هذا الشرط بثبوت الحق‪ ،‬إن استعمال حق من الحقوق يفترض وجود هذا الحق أوال‪ ،‬فإن لم يكن‬
‫هناك حق فال مجال للكالم عن اإلباحة‪ ،‬وال أن يكون قد انقضى بالتقادم‪ ،‬كون انقضاء الحق يعني انقطاع وجوده‪ ،‬كما أن النزاع‬
‫حول الحق ال يحول دون استعماله ما لم يشكل ذلك جريمة‪.‬‬
‫]‪ - [15‬أل ن الرئيس في هذه الحالة يكون قد أساء استعمال السلطة وهي وسيلة من الوسائل المادية التي يقوم بها‬
‫التحريض وفقا للمادة ‪ 41‬من تقنين العقوبات الجزائري‪.‬‬
‫]‪ - [16‬ويعبر الفقه عن هذا الشرط بالتزام حدود الحق‪ ،‬حيث أن القانون ال يعرف حقوق بدون حدود‪ ،‬فالحق يجب أن‬
‫يمارسه صاحبه ملتزما بحدود هذا الحق‪ ،‬وكل تجاوز لهذه الحدود يعد خروجا عن ممارسة الحق والدخول في دائرة المحظور‪،‬‬
‫ويصير كمن ال حق له‪ ،‬والقانون هو الذي يرسم لكل حق حدوده‪ ،‬وهي الحدود التي قد تتعين صراحة كما قد تتحدد ضمنيا‪ ،‬وذلك‬
‫ب الرجوع إلى فروع القانون األخرى أو باستلهام الغاية أو الوظيفة االجتماعية للحق‪ ،‬كما أن حدود الحق متنوعة‪ ،‬والتي تختلف‬
‫باختالف الحقوق‪ ،‬وهناك من الحقوق ما يمكن إنابتها مثل الحقوق المالية‪ ،‬ومنها مما ال يمكن فيها ذلك‪ ،‬مثل حق الزوج على‬
‫زوجته‪ ،‬كونها من الحقوق الذاتية التي ال تجوز اإلنابة فيها‪ ،‬وحق إجراء العمليات الجراحية إذ ال يمكن للطبيب إنابته للمرض ‪،‬‬
‫وإال كان الطبيب شريكا في جريمة والممرض فاعال أصليا‪ ،‬كما أنه من الحقوق ما تعين وسائل استعمالها مما يعني حظر استعمال‬
‫وسائل أخرى من صاحب الحق‪ ،‬فالطبيب يجب أن يستعمل وسائل مما يتعارف عليها في عرف المهنة‪ ،‬كما قد تتدرج هذه‬
‫الوسائل‪ ،‬فال يجوز اللجوء إلى وسيلة إال بعد استنفاذ الوسيلة األخرى‪ ،‬مثل تأديب الزوج لزوجته‪ ،‬إذ الوعظ فالهجر في المضجع‬
‫فالضرب‪.‬‬
‫وزيادة على ذلكن يجب أن يكون استعمال الحق مشروعا‪ ،‬حيث ال يهدف صاحبه من خالله التعسف في‬
‫استعمال هذا الحق‪ ،‬وهنا ثارت مسألة البحث حول استعمال الوسائل الميكانيكية لحماية األموال‪ ،‬كنصب الفخاخ للصوص أو‬
‫وضع الزجاج المكسور على جدران الحديقة‪ ،‬والجدل لم يثر بخصوص الشخص الذي يعتدي‪ ،‬بل بالنسبة للغير الذي لم يعتدي‬
‫وأصابته هذه الوسائل بأضرار‪ ،‬فهنا تقوم جريمة غير عمدية ال يحول دون قيام المسؤولية عنها القول أن الشخص في ملكيته كون‬

‫]‪[109‬‬
‫الشخص مسئول عن عدم اإلضرار بالغير أو التعسف وهو يمارس حقوقه‪ ،‬وأنه ال يجوز له إحداث أضرار كبيرة مقارنة بالحقوق‬
‫التي يراد حمايتها‬
‫]‪- [17‬ويرى البعض أيضا أن تكون الجريمة الزمة لممارسة التأديب‪ ،‬إذ إذا كان بإمكان المؤدب اللجوء ألفعال ال تشكل‬
‫جريمة فال مجال الرتكاب فعل غير مشروع‪ ،‬وهناك أحكام في القضاء المصري حديثة نسبيا بعضها يعود لسنة ‪ 1993‬بخصوص‬
‫تأديب الصغار أن األمر موكول لألب لتقدير ما يرى اتخاذه من إجراءات لتربية الصغير وإسكانه في المحل الذي يريد إسكانه‬
‫فيه‪ ،‬فإذا كانت المراقبة والحراسة تصلحان إللزامه المسكن المخصص له كان حتما عليه أال يزيد عن هذه اإلجراءات‪ ،‬فإن‬
‫وجدهما غير كافيين لجأ إلى إجراء أشد‪ ،‬كإقفال األبواب‪ ،‬فإن لم يستطع منع الصغير من الهرب ووجد األب نفسه مخيرا بين أن‬
‫يقعد عن مواصلة كسب عيشه أو حراسة الصغير‪ ،‬كان له بال شك أن يلجأ على اإلجراء الذي أعده المتهم وهو وضع قيد حديدي‬
‫في قدمي ابنته‪ ،‬على أال يكون فيه تعذيب أو منع للحركة أو إليالم للبدن‪ ،‬فإن تجاوز هذه الحدود كان عمله جريمة معاقبا عليها‪.‬‬
‫]‪ - [18‬نرى في الجزائر صعوبة للتمسك به‪ ،‬وإن كان ليس هناك نص يمنعه‪ ،‬إال أنه من الصعب إثبات شروطه‪ ،‬مما‬
‫يجعل األزواج دوما تحت طائلة القانون في حال ضرب الزوجة‪.‬‬
‫]‪ - [19‬ويرى البعض اللجوء إلى تأديب الزوجة يشترط فيه التزام المراحل التي أوجبتها الشريعة اإلسالمية‪ ،‬وذلك قبل‬
‫اللجوء إلى التأديب البدني‪ ،‬الذي يجب أن يكون يسيرا وال يمكن بأي حال من األحوال تبرير الضرب الجسيم أو المهين – حتى‬
‫بالنسبة لتأديب األب لالبن‪ -‬وأن يكون الضرب بأقل قدر يحقق العلة من وراءه‪.‬‬
‫]‪ - [20‬حسن النية دوما تعني االلتزام بالغاية من وراء إقرار الحق‪ ،‬وكل تجاوز لهه الغاية يعد سوء نية‪ ،‬وفي حق‬
‫التأديب عموما‪ ،‬سواء بالنسبة لالبن أو الزوجة‪ ،‬يقتضي لكي يبيح الجرائم المتمخضة عن ممارسته‪ ،‬أن يكون الزما‪ ،‬ومتناسبا في‬
‫مداه أو جسامته مع العلة من تقريره‪ ،‬وأن تتم مباشرته بحسن نية بما يحقق الغاية منه‪ ،‬ويضيف البعض لذلك‪ ،‬التقيد بالوسيلة‬
‫المحققة لمعنى التأديب وغايته‪ ،‬فال يكون بغير اليد‪ ،‬وأال يتواصل ويستمر في المدى‪ ،‬وأال يكون في مواضع الجسم التي تنذر‬
‫بالخطر‪ ،‬أو تنطوي على المهانة‪.‬‬
‫]‪ - [21‬حيث قد يستخلص رضاء المريض ضمنا بحكم الواقع في حاالت األعمال الطبية العادية والعميالت الشائعة‬
‫والمألوفة‪ ،‬غير أنه ال يكفي استخالص الرضاء ضمنيا إذا تعلق األمر بعمل طبي غير مألوف أو عملية جراحية حديثة ال يمكن‬
‫القطع بنجاحها‪ ،‬ففي مثل هذه الحاالت يجب أن يكون الرضاء صريحا‪ .‬غير أنه في ظل الظروف غير العادية مثل انتشار األوبئة‬
‫واألخطار العامة يستثنى رضاء المريض‪ ،‬فتدخل الطبيب في مثل هذه الحاالت ال يعد استعماال لحق في التطبيب وإنما أداء لواجب‬
‫تفرضه قاعدة قانونية‪ ،‬ومثل هذا الوضع يستند لحالة الضرورة حسب البعض‪.‬‬
‫]‪ - [22‬تبيح بعض القوانين جرائم القذف والسب إذا صدر صحفيا بمناسبة نشر أخبار تطبيقا لحرية الرأي والفكر‪ ،‬متى‬
‫كان بحسن نية وال يقصد به اإلساءة ضد األشخاص العموميين أو ذوي الصفة النيابية العامة أو المكلفين بخدمة عامة‪ ،‬وأن يكون‬
‫الموضوع متعلقا بأعمال وظائفهم‪.‬‬
‫]‪ - [23‬ب الرغم من أن أساس الدفاع الشرعي أثار العديد من الجدل الفقهي الذي ارتأينا أال نقحمه في هذا المجال‪ ،‬إال أننا‬
‫نرى شخصيا أن الدفاع الشرعي حق للشخص أن يمارسه وله أال يمارسه وفي هذه الحالة األخيرة ال يسأل عن ذلك‪ ،‬ما عدا حالة‬
‫االمتناع عن الدفاع عن الغير إذا توفرت فيها شروط جريمة عدم تقديم المساعدة لشخص في حالة خطر‪.‬‬
‫]‪ - [24‬ويرى البعض أن الدفاع الشرعي عرفته الشرائع القديمة‪ ،‬باعتباره من مبادئ القانون الطبيعي‪ ،‬حيث عرفته‬
‫اليونان القديمة والقانون الروماني وحتى الشرائع األوروبية في القرون الوسطى‪.‬‬
‫]‪ - [25‬ويرى البعض أن الدفاع الشرعي ليس فكرة قانون فطرة اعترف به المشرع وأقره‪ ،‬وهو ردع لمن بادر‬
‫بالعدوان‪ ،‬ونصرة لمن اضطره العدوان أن يدافع عن النفس أو المال‪ ،‬فهو رفض لجريمة العدوان واعتراف بجريمة الدفاع‪.‬‬
‫]‪ - [26‬م ن المفروض أن نسمي الخطر ب‪ ":‬الجريمة" كوننا بصدد فعل غير مشروع معاقب عليه جنائيا‪ ،‬غير أن ما‬
‫يدفع الفقه للتعبير عن هذه الجريمة بلفظ " الخطر" في رأينا‪ ،‬هو أن الجريمة وصف يطلق على فعل تعدى محلة البدء في التنفيذ‪،‬‬
‫غير أنه يجوز في حالة الدفاع الشرعي أن يشرع في الدفع قبل هذه المرحلة‪ .‬أو ألن الشرط الثاني يدل بما ال يدع مجاال للشك‬
‫على أنه جريمة فعال‪.‬‬
‫وحلول الخطر‪ ،‬هو أن يكون العدوان حاال أو على وشك الوقوع‪ ،‬أي العدوان الحال وهو في العادة أن يكون على وشك‬
‫الوقوع وعادة ما يكون بموجب البدء بالتنفيذ‪ ،‬أي في طور جريمة الشروع الناقص‪ ،‬ولم يكتمل كون تمام الجريمة ينقلنا لفكرة‬
‫االنتقام‪ ،‬واالنتقام فكرة مجرمة قانونا وتوجب العقاب‪ ،‬فالدفاع الشرعي قرر فقط لدرء العدوان الذي يكون على وشك الوقوع أو‬
‫الحيلولة دون استمراره وتفاقم آثاره‪ ،‬وأحكام القضاء األجنبي حافلة برفضها الدفاع الشرعي في حاالت القصاص‪ ،‬وفي حاالت‬
‫تمكن فيها المدافع من نزع السالح من خصمه‪ ،‬لكنه طعنه به‪ ،‬وال دفاع بعد تمام إشعال النار في البنزين الذي وضعه الشخص‬
‫وراء المنزل وال بعد تمام جريمة السرقة وفرار الجاني‪ ،‬على نحو ال يتمكن من خالله المدافع من تتبع الجاني واإلمساك به‪ ،‬لكن‬

‫]‪[110‬‬
‫إن كان بإمكانه انتزاع الشيء المسروق منه ولم يفلت بعد من دائرة إشراف المدافع ورقابته وبقي في وسعه‬
‫تتبعه ومالحقته فإن حق الدفاع الشرعي يظل قائما إذ يحق له انتزاع المسروقات منه ولو بطريق العنف‬
‫]‪ - [27‬ث ار خالف حول جواز الدفاع الشرعي ضد جرائم السب والقذف‪ ،‬هناك من أنكره‪ ،‬بحجة افتقاد هذه الجرائم للقوة‬
‫والعنف الماديين‪ ،‬وبالتالي ال يجوز استعمال الدفاع الشرعي لدرئهما‪ ،‬وأن الدفاع يكون دوما بعد تمامها مما يجعل من الدفاع‬
‫الشرعي انتقاما ال دفاعا‪ ،‬خاصة وأن هذه الجرائم ال يستعمل فيها القوة المادية حتى يمكن أن ترد بالقوة المادية‪ ،‬وأجمع الجمهور‬
‫على جوازه‪ ،‬بحجة أن المسائل السابقة غير مشترطة في الدفاع الشرعي‪ ،‬وأنه يمكن التدخل بالدفاع لمنع‬
‫مواصلة السب أو القذف أو االسترسال فيهما‪ ،‬وبالتالي ال يختلف السب والقذف عن غيره من أفعال االعتداء‬
‫]‪ - [28‬يرى البعض أنه ال يجوز بالتالي الدفاع ضد النوايا مهما كانت شريرة‪ ،‬وال من أفصح عن نواياه ويستبعد أيضا‬
‫كافة أعمال التحرش واألعمال التحضيرية التي ال ترقى على مرتبة الجريمة‪ ،‬في حين يرى البعض جواز الدفاع ضد األعمال‬
‫التحضيرية‪ ،‬وهو ما نؤيده كونها أفعال مباحة قانونا‪ ،‬والدفاع الشرعي مقرر لرد األفعال المجرمة‪.‬‬
‫]‪ - [29‬وفي هذا الشأن قضي في مصر في حكم سنة ‪ 1930‬أنه إذا دخل شخص في منتصف الليل منزل شخص آخر‪،‬‬
‫وذلك باستعمال التسلق وكان حامال سالحا ثم بقي في المنزل مختفيا عن األعين عن من لهم الحق في إخراجه‪ ،‬فإن صاحب‬
‫المنزل يكون في موقف يبيح له الدفاع الشرعي عن نفسه وعن ماله‪ ،‬فإذا هو استعمل هذا الحق ال يجوز لمن دخل المنزل إذا أراد‬
‫االعتداء على صاحب المنزل أن يحتج بأنه كان يدافع عن نفسه‪.‬‬
‫]‪- [30‬وفي ذلك قضت محكمة النقض المصرية بأنه وإن كان القانون قد نص على أنه ال وجود لحق الدفاع الشرعي‬
‫متى كان في اإلمكان الركون إلى االحتماء برجال السلطة‪ ،‬إال أن ذلك يقتضي أن يكون هناك لدى المتهم من الوقت ما يكفي‬
‫التخاذ هذا اإلجراء‪ ،‬وإال تعطل الحق المقرر في القانون في جميع أحوال الدفاع الشرعي عن المال ما دامت هذه األحوال يتصور‬
‫فيها كلها إمكان ترك المعتدي يتمادى في عدوانه واالستعانة برجال الحكومة عليه بعد أن يكون قد أتم مقصده‪.‬‬
‫]‪ - [31‬ويرى البعض في التناسب أن تكون أفعال الدفاع متناسبة في مداها ونطاقها مع العدوان‪ ،‬فال يجب الدفاع بأكثر‬
‫مما يقتضيه رد العدوان‪ ،‬ولكن من الصعب وضع معيار نظري إلعمال شرط التناسب‪ ،‬إذ هي مسألة يجب أن يتم تقديرها وفقا‬
‫لظروف ومالبسات كل حالة على حدة‪ ،‬ومن هذه الظروف والمالبسات شخص كل من المعتدي والمدافع‪ ،‬وقوة كل منهما‪ ،‬وما‬
‫كان يحمله من أدوات وسالح‪ ،‬وسن كل منهما وجنسه‪ ،‬وزمان العدوان ومكانه‪.‬‬
‫]‪ - [32‬لذا يرى البعض أن معيار التناسب معيار شخصي وموضوعي في نفس الوقت‪.‬‬
‫]‪- [33‬و في ذلك قضت محكمة النقض المصرية‪ ،‬أن يكون تقدير المتهم لفعل االعتداء الذي استجوب دفاعه مبنيا على‬
‫أسباب جائزة ومقبولة ومن شأنها أن تبرر ما وقع منه من أفعال‪ ،‬فإذا جاء تقدير المحكمة مخالفا لتقديره هو فإن ذلك ال يسوغ‬
‫توقيع العقاب‪ ،‬إذ التقدير هنا ال يتصور أبدا إال أن يكون اعتباريا بالنسبة للشخص الذي فوجئ بفعل االعتداء في ظروفه الحرجة‬
‫ومالبساته الدقيقة التي كان هو وحده دون غيره المحيط بها المطلوب منه تقديرها والتفكير على الفور في كيفية الخروج من‬
‫مأزقها‪ ،‬مما ال يصح معه محاسبته على مقتضى التفكير الهادئ المطمئن الذي كان يستحيل عليه وقتئذ وهو في حالته التي‬
‫كان فيها‪.‬‬

‫الفرع الثالث‬

‫]‪[111‬‬
‫الحاالت الممتازة للدفاع الشرعي‬
‫( المادة ‪ 40‬ق ع ج)‬
‫وهي حاالت منقولة حرفيا من نص المادة ‪ 329‬قانون عقوبات فرنسي‪ ،‬ويسمها الفقه الحاالت الممتازة‬
‫للدفاع الشرعي أو الدفاع الشرعي الممتاز‪ ،‬داللة على افتراض المشرع فيها توافر شروط الدفاع الشرعي كقرينة‬
‫قانونية قاطعة ال تقبل إثبات العكس‪ ،‬غير أنه من الفقه من يرى العكس‪ ،‬وهو أيضا موقف القضاء الفرنسي]‪ ،[1‬وبالتالي‬
‫نرى أنه ال مجال اليوم لتسميتها بالحاالت الممتازة للدفاع الشرعي‪ ،‬وإنما الحاالت الخاصة للدفاع المشروع‪ .‬وقد نصت‬
‫المادة ‪ 40‬من قانون العقوبات الجزائري على هذه الحاالت بنصها‪ ":‬يدخل ضمن حاالت الضرورة الحالة للدفاع‬
‫المشروع‪:‬‬
‫‪ -1‬القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب لدفع اعتداء على حياة الشخص أو سالمة جسمه أو لمنع‬
‫تسلق الحواجز أو الحيطان أو مداخل المنازل أو األماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها أثناء الليل‪،‬‬
‫‪ -2‬الفعل الذي يرتكب للدفاع عن النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أو النهب بالقوة‪.[2]".‬‬
‫ونالحظ على المشرع الجزائري أنه استعمل لفظ " تدخل ضمن حاالت الضرورة للدفاع الشرعي "‬
‫بمعنى افتراضه لشرط اللزوم كوننا فسرنا عبارة الضرورة الواردة بنص المادة ‪ 39‬على أنها تقصد اللزوم‪ ،‬لذا فهنا‬
‫أيضا باستعمال نفس العبارة يعني أن المشرع افترض دخولها في حاالت اللزوم‪ .‬ثم أن المادة ذاتها تميز بين فرضين‪،‬‬
‫فرض ورد فيه نوع الجرائم ونوع االعتداء الذي يوجبها‪ ،‬وهو ما ورد بالفقرة األولى من المادة ‪ ،40‬حيث أجاز أقصى‬
‫الجرائم جسامة‪ ،‬وهي القتل والجرح والضرب]‪ ،[3‬وحصر االعتداءات في االعتداءات ضد الحياة أي ضد جرائم القتل‪،‬‬
‫وسالمة الجسم‪ ،‬ويعني الضرب والجرح‪ ،‬أو مجرد تسلق الحواجز والحيطان ومداخل المنازل أو األماكن المسكونة أو‬
‫توابعها أو كسر شيء منها]‪ .[4‬بشرط أن يكون كل ذلك أثناء الليل]‪ .[5‬كما يمكن أن ننبه أن الشخص يمكنه أيضا دفع‬
‫التسلق والكسر لمالحق المنازل ومداخلها وأسوارها وحيطانها‪ ،‬إذا كانت متركبة إثناء النهار‪ ،‬لكن في هذه الحالة ال‬
‫يكون الدفاع شرعيا ومشكال لسبب من أسباب أإلباحة‪ ،‬بل يكون مشكال لعذر معفي من العقاب‪ ،‬وهو عذر شخصي ال‬
‫موضوعي‪ ،‬وهو األمر الذي قضت به المادة ‪ 278‬من تقنين العقوبات الجزائري]‪ ،[6‬بينما بينت الفقرة الثانية‪ ،‬وبصيغة‬
‫عامة إباحة كل فعل أي كان نوعه الذي يرتكب لدفع االعتداءات على النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أو‬
‫النهب بالقوة‪ ،‬وهنا لم يشترط التناسب‪ .‬كما أنه لم يشترط الليل‪ ،‬فيمكن أن يكون ذلك أثناء النهار‪ ،‬مما يجعل هذه الفقرة‬
‫تتشابه في حكمها مع الحكم العام الذي جاءت به الفقرة الثانية من المادة ‪ ،39‬وكل ما في األمر أنه في هذه األخيرة‬
‫حددت االعتداءات بصيغة عامة وهي الجرائم الواقعة على النفس أو على الغير أو مال الشخص أو المال الغير‪ ،‬والفقرة‬
‫الثانية من المادة ‪ 40‬تتعلق فقط بالسرقات والنهب بالقوة‪.‬‬
‫وإن كانت األسباب السابقة‪ ،‬هي أسباب اإلباحة التي يأخذ بها المشرع الجزائري‪ ،‬وغالبية القوانين‬
‫الجنائية المقارنة‪ ،‬فهناك أسباب أخرى تأخذ بها بعض الدول دون البعض اآلخر‪ ،‬وهي رضاء المجني عليه وحالة‬
‫الضرو رة‪ ،‬وسبق لنا القول في تمهيد هذا الفصل أن قلنا بأننا سنتناولها في مبحث مستقل‪ ،‬وذلك لتعميم الفائدة‪ ،‬فقد يأتي‬
‫تعديل ويدخلها في القانون الجزائري‪ ،‬كما قد يجد رجل القانون الجزائري نفسه ملزما للتعامل معها في حاالت تنازع‬
‫القوانين‪ ،‬وبخصوص الطلبة األعزاء قد تكون موضوع امتحان أو مسابقة‪ -‬وحدث فعال أن كانت حالة الضرورة‬
‫موضوع مسابقة ماجستير بجامعة البليدة منذ سنتين‪ -‬لذا وإن التمسنا العذر في اإلطالة غير المعتادة في إعداد‬
‫المحاضرات المطبوعة‪ ،‬فإن لهذا العذر مبرراته التي تفوق في مصلحتها كل االنتقادات‪ ،‬وهي تعميم الفائدة العلمية‬
‫للطلبة‪ .‬وهنا فقط يمكن االستعانة بالبيت الشعري المتعلق بالمذمة التي تأتي من جاهل" ‪."..........‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫أسباب اإلباحة في القانون المقارن‬

‫]‪[112‬‬
‫من أسباب اإلباحة أيضا‪ ،‬رضاء المجني عليه‪ ،‬وحالة الضرورة التي تأخذ بها بعض القوانين دون البعض‬
‫اآلخر‪ ،‬ومنه القانون الجزائري الذي ال يأخذ بها‪ ،‬لذا ارتأينا تناولها في مبحث مستقل‪ ،‬نتناوله من خالل مطلبين‪،‬‬
‫نخصص األول لحالة رضاء المجني عليه كسبب من أسباب اإلباحة‪ ،‬لنخصص الثاني لحالة الضرورة‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫رضاء المجني عليه ( صاحب الحق) كسبب من أسباب اإلباحة‬
‫في حقيقة األمر المشرع لما يجرم فعل من األفعال‪ ،‬فإنه يكون قد قدر أن يضر بمصلحة من المصالح‪،‬‬
‫وفي الكثير من األحيان يتحقق المساس بمصالح المجتمع بالمساس بمصلحة الفرد‪ ،‬ولذا األصل أنه ال شأن إلرادة الفرد‬
‫في تجريم الفعل أو إباحته‪ ،‬لذا فاعتراض الشخص على الجريمة ال يعد ركنا في الجريمة‪ ،‬كما أن رضاءه بها ال يعد‬
‫سببا إلباحتها‪ ،‬غير أن إرادة الفرد أو رضاءه قد يؤدي في بعض األحوال دورا في مجال قانون العقوبات‪ ،‬وهو الدور‬
‫الذي قد يكون من شأنه التأثير في قيام الجريمة أو في إباحتها‪ ،‬وهو استثناء عن األصل‪ ،‬وفي حدود هذا االستثناء‬
‫ينحصر اثر الرضا كسبب من أسباب اإلباحة‪.‬‬
‫ل كن قد يبدو من الوهلة األولى أنه متى رضي المجني عليه بارتكاب الجريمة التي تنال حق من حقوقه‬
‫أو مصالحه‪ ،‬فإن هذا الرضا يبيح الجريمة‪ ،‬لكن هذا القول غير صحيح كون أسباب اإلباحة تقتضي سبق تجريم الفعل‬
‫بنص من نصوص قانون العقوبات‪ ،‬ثم وجود نص آخر يبيح الفعل في الظروف التي ارتكب فيها‪ ،‬واألمر ليس كذلك مع‬
‫رضاء المجني عليه‪ ،‬حيث يمنع من قيام الجريمة ابتداء‪ ،‬كدخول الشخص منزل آخر برضائه‪ ،‬لذا كان يجب تمحيص‬
‫الحق المعتدى عله بدقة للقول ما إن كان رضاء المجني عليه يبيحها أم ال‪ ،‬كون رضاء المجني عليه يختلف حكمه‬
‫باختالف طبيعة الحق المعتدى عليه‪ .‬وال يمكن بأي حال من األحوال بالقول بهذا السبب في مجال الجرائم التي يعتدى‬
‫فيها على الدولة كشخص معنوي‪ ،‬وال على المجتمع كمؤسسة اجتماعية‪ ،‬كما ال رضاء كسبب لإلباحة في الجرائم التي‬
‫تمس باألسرة كنظام‪ ،‬وما القيود الموجودة على بعض الجرائم األسرية سوى قيود إجرائية تحول دون تحريك الدعوى‬
‫العمومية وال تبيح الفعل في حقيقة األمر‪ ،‬بل وان الزوج إذا رضي بزنا زوجته ليس هناك ما يمنعه من تقديم الشكوى‬
‫فيما بعد‪ .‬وبالتالي البحث ينحصر فقط في الجرائم التي تمس حق الفرد‪ ،‬وحق الفرد بدوره قد يكون حقا مزدوجا‪ ،‬يمس‬
‫المجتمع والفرد معا‪ ،‬ومثاله حق الحياة‪ ،‬وسالمة البدن‪ ،‬وهنا يجب أن يرجح حق المجتمع وال يعتد بالرضا الفرد‪ ،‬فمن‬
‫يطلب من غيره قتله لتخليصه من آالمه التي سببها له مرض خطير أصابه وال يرجى شفاءه ال يعد رضاؤه سببا إلباحة‬
‫القتل]‪ .[7‬لذا فإن بحث مسألة رضاء المجني عليه كسبب من أسباب اإلباحة‪ ،‬تقتضي منا أوال‪ ،‬أن نتناول دور الرضاء‬
‫في قانون العقوبات‪ ،‬وتحديد طبيعته القانونية بخصوص التجريم والعقاب‪ ،‬وذلك في فرع أول‪ ،‬لنتناول في الثاني‪،‬‬
‫الجرائم التي يعمل برضاء الشخص فيها في أهم القوانين المقارنة‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫دور الرضا وتحديد طبيعته القانوني في قانون العقوبات‬
‫الرضاء في مجال قانون العقوبات غير الرضاء في مجال التقنين المدني‪ ،‬لذا فالبضرورة أن تختلف‬
‫طبيعته القانونية في القانون األول‪ ،‬وبناء على ذلك يظهر دوره في مجال أسباب اإلباحة‪.‬‬
‫أوال‪ :‬دور الرضا في قانون العقوبات‬
‫في بعض األحوال الضيقة‪ ،‬يشترط المشرع لقيام الجريمة أن يقف المجني عليه منها موقف الرفض‪ ،‬أي‬
‫أن ترتكب بدون رضاه‪ ،‬وفي مثل هذه األحوال الضيقة يكون عدم الرضا عنصرا لقيام الجريمة ذاتها‪ ،‬وذلك يوجب نص‬
‫يقرر المسألة كونها استثناء عن األصل العام‪ ،‬بمقتضى الحاجة إلى المانع ال تطرأ إال إذا وجد المقتضى بتمامه‪ ،‬وهنا‬
‫يكون الرضا يتمم الجريمة‪ ،‬وأهم الجرائم التي يشترط لقيامها عدم رضا الشخص‪ ،‬وقاع األنثى بدون رضاها ( ‪267‬‬
‫تقنين عقوبات مصري)‪ ،‬هتك العرض بالقوة أو بالتهديد ( م ‪ 268‬قانون عقوبات مصري)‪ ،‬القبض والحجز والحبس‬
‫دون وجه حق ( ‪ 280‬قانون عقوبات مصري)‪ ،‬خطف اإلناث ( المادة ‪ 290‬قانون عقوبات مصري) وكذا النصب‬
‫وانتهاك حرمة منزل‪ ..‬لذا ففي بعض األحوال يكون الفعل مستجمعا للشروط التي تجعل منه جريمة‪ ،‬فيتدخل رضاء‬
‫المجني عليه فيجعله مباحا‪ ،‬مثل عمليات اإلتالف‪ ،‬العمليات الجراحية‪ ،‬وإن كان ليس هناك نص صريح يبيح الجريمة‬
‫برضا المجني عليه‪ ،‬غير أن األصول القانونية توجب التسليم بهذه الحقيقة‪ ،‬فمن غير المنطقي إذا أباح القانون في فرع‬

‫]‪[113‬‬
‫من فروعه حق التصرف في حق معين‪ ،‬أن يمنع قانون العقوبات هذا التصرف‪ ،‬ألن ذلك يعطل حرية التصرف‪ ،‬خاصة‬
‫وأن القانون يعاقب على العدوان وفي مثل هذه الحالة يغيب عنصر االعتداء ألن الرضا موجود]‪ .[8‬لكن ذلك ال يعني‬
‫أنه سبب لإلباحة‪ ،‬بل الجريمة ال تقوم لتخلف أحد عناصرها القانونية‪ ،‬األمر الذي يقودنا بحث طبيعة الرضاء القانونية‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬الطبيعة القانونية للرضا‬
‫يذهب الفقه إلى اعتبار الرضا تصرف قانوني تحكمه قواعد القانون الخاص‪ ،‬بينما يعتبره البعض‬
‫تصرف قانوني تحكمه قواعد القانون العام‪ ،‬في حين يرى اتجاه ثالث أنه واقعة قانونية ال تصرف قانوني‪ ،‬في حين يرى‬
‫البعض أنه تصرف قانوني يخضع أساسا لقانون الحق‪ ،‬لذا فهو يخضع تارة ألحكام القانون الخاص‪ ،‬وتارة أخرى‬
‫ألحكام القانون العام‪ ،‬ويرجع إلى قانون العقوبات في حالتين‪ ،‬حينما ينص هذا القانون صراحة على حكم خاص بشأن‬
‫الرضا‪ ،‬وهنا يطبق النص الجنائي مباشرة‪ ،‬والثانية حينما يخلو القانون الخاص من حكم ينظم الرضا في بعض جزئياته‪،‬‬
‫وهنا يستنبط الحكم من المبادئ العامة لقانون العقوبات‪ ،‬وهو ما يتعلق بالسن مثال‪ ،‬ففي الحالة التي يحدد فيها قانون‬
‫العقوبات السن المشترطة يعمل بأحكامه‪ ،‬لكن إذا تضمنها النص الخاص المتعلق بالرضا فيحكمه السن القانوني التي‬
‫نظمها هذا النص‪ ،‬ورغم الخالف السابق‪ ،‬فإنه يمكن القول بأن الرضاء في قانون العقوبات‪ ،‬عنصر من عناصر قيام‬
‫الجريمة‪ ،‬حيث أن اشتراط الجريمة للقوة أو العنف أو الخلسة أو دون الرضا‪ ،‬يعني بداهة في حال توفر الرضا تنتفي‬
‫هذه العناصر وبالتالي ال تقوم الجريمة‪ ،‬مما يجعلنا نقول وبنوع من التحفظ‪ ،‬أنه حتى في القانونين التي ال تنص صراحة‬
‫على الرضاء كسبب من أسباب اإلباحة‪ ،‬فهو ضمنيا سبب أو عنصر يمنع من قيام الجريمة متى تمت اإلشارة إليه‪ ،‬لكن‬
‫في هذه الحالة الفعل يباح ال ألنه ارتبط بسبب من أسباب اإلباحة‪ ،‬وإنما لتخلف عنصر من عناصر الجريمة‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫الجرائم التي ينتج فيها الرضا أثره المبيح‬
‫ه ي مسألة من أدق المسائل الجنائية‪ ،‬واتفق الرأي على أن الرضا ال ينتج أثره بالنسبة لكافة الجرائم‪،‬‬
‫وإنما يقتصر أثره على طائفة محدودة منها‪ ،‬وهو ما نتناوله في نقطة‪ ،‬لنتناول في الثانية شروط الرضا المبيح للفعل‪.‬‬
‫لنتناول في الثالثة حقيقة الرضا كفعل مبيح للجريمة‪.‬‬
‫أوال‪ :‬الجرائم التي يعتد بالرضاء فيها‬
‫وهي الجرائم التي يكون فيها العدوان منصبا على حق يقبل التصرف فيه‪ ،‬مما يعني أن اثر الرضا يتوقف على‬
‫طبيعة الحق‪ ،‬وهي الحقوق التي ال تكون فيها منفعة مباشرة للمجتمع وإنما حقوق تقرها الدولة وتحميها لصالح صاحبها‪،‬‬
‫بقصد تمكينه من االنتفاع بها‪ ،‬غير أن المسألة تحتاج إلى تبيان معيار يعمل في الحياة الواقعية‪ ،‬لذا كان االتفاق أنه ال أثر‬
‫للرضا في الجرائم التي تقع مباشرة على حق من الحقوق الخالصة للمجتمع‪ ،‬كالصحة العامة واألخالق العامة أو الجرائم‬
‫الماسة بالدين‪ ،‬وال أثر للرضا في الجرائم التي تقع على الدولة‪ ،‬وال تلك الواقعة على األسرة‪ ،‬لتبقى باقي الجرائم‬
‫األخرى التي يتعين فيها البحث عن طبيعة الحق‪ ،‬ومنها الحقوق المالية وغير المالية‪ ،‬وهناك اتفاق بخصوص الحقوق‬
‫المالية التي تقبل التصرف فيها عن طريق الرضا‪ ،‬كرضاء الشخص بقطع األشجار لبناء جاره عليها‪ ،‬في حين الحقوق‬
‫غير المالية التي تتصل بذات اإلنسان أي بعناصر شخصيته‪ ،‬والتي تسمى بالحقوق الشخصية أو اللصيقة بالشخصية‪،‬‬
‫والمنقسمة إلى ثالث مجموعات‪ ،‬حقوق تتصل بالكيان المادي للشخصية– مثل الحق في الحياة والحق في سالمة البدن‪،-‬‬
‫وأخرى بالكيان المعنوي لها‪ -‬الحق في الش رف والعرض والعفة وحرمة الحياة الخاصة والمراسالت والمكالمات‬
‫والمسكن‪ ،-‬والثالثة تتصل بنشاط الشخصية ذاتها‪ -‬والتي تضم مجموعة من الحريات‪ ،‬مثل حرية التنقل وحرية االعتقاد‬
‫وحرية العمل والتعبير‪ ،-...‬واألصل في هذه الحقوق أنها غير قابلة للتصرف فيها كونها من لوازم الشخصية غير القالبة‬
‫لالنفصال‪ ،‬وبالتالي ال مجال للرضا في الحق في الحياة‪ ،‬بينما يمكن في بعض الحقوق األخرى أن يتم المساس بها سواء‬
‫عن طريق االتفاق‪ ،‬مثل عقد الزواج‪ ،‬أو عقد العالج إذ يبيح القانون للطبيب االطالع على عورة المرأة‪ ،‬كما أنه قد يعتد‬
‫بال رضا حتى في مسائل هتك العرض والعالقات الجنسية أو الوقاع‪ ،‬والرضا بالتفتيش وإباحة إفشاء السر‪ ،‬وكشف‬
‫المراسالت واألحاديث الخاصة‪.‬‬
‫غير أنه من بين الحقوق األكثر إثارة للجدل‪ ،‬هو الحق في سالمة البدن‪ ،‬كونه حق للمجتمع مثلما هو‬
‫حق للفرد‪ ،‬لذا فقدرة الشخص على التصرف في بدنه محدودة للغاية‪ ،‬لذا فهناك مجاالت يعتد فيها بالرضا مثل العالج‬

‫]‪[114‬‬
‫والتجميل كونها تصرفات تحقق نفعا للشخص وللمجتمع‪ ،‬لكن اإلشكال حينما يقرر الشخص التصرف في بدنه تصرف‬
‫ينتقص من كفاءة الجسم‪ ،‬وهنا اتفق الفقه أنه تصرف جائز بشرط أال يكون يهدد الحق في الحياة أو المساس بنحو‬
‫خطير أو دائم بالحق في سالمة الجسد‪ ،‬على نحو يهدد بعدم قدرته على أداء وظيفته االجتماعية على الشكل المعهود‪ ،‬لذا‬
‫يجوز للشخص التصرف بالهبة أو البيع لعضو من أعضائه مما ال يعرض فقدها جسم اإلنسان للخطر]‪.[9‬‬
‫ثانيا‪ :‬شروط الرضا المبيح‬
‫ب ما أن الرضا موقفا إراديا‪ ،‬لذا بحثت مسألة ما إن كان يكفي فيه أن يكون ضمنيا أو صراحة‪ ،‬بين‬
‫نظريتين إحداهما سميت االتجاه المجرد لإلرادة واألخرى سميت نظرية إعالن اإلرادة‪ ،‬غير أن الغالبية رأت أنه يمكن‬
‫للرضا أن يكون ضمنيا‪ ،‬بل أنه يصح أن يكون مفترضا‪ ،‬وهي الظروف التي يستحيل فيها اإلفصاح عن الرضا لكنه من‬
‫المحقق أن الشخص لو كان حاضرا أو قادرا على اإلفصاح ألعلن عن رضاه‪ ،‬لكن يجب أن تكتمل شروط الرضا حتى‬
‫ينتج أثره كسبب مبيح‪ ،‬وهذه الشروط هي‪:‬‬
‫‪ -1‬الصـــــفة‪:‬‬
‫وهو أن يصدر الرضا عن صاحب الحق‪ ،‬وهو الشخص المجني عليه في الجريمة‪ ،‬أو من كان مرشحا‬
‫ألن يكون مجنيا عليه لوال رضاه‪ ،‬وإذا تعدد أصحاب الحق وجب رضائهم جميعا‪ ،‬فإذا رضي البعض دون البعض‬
‫اآلخر كان الرضا غير كاف ليكون سببا من أسباب اإلباحة‪ ،‬لكن وإن كان األصل أن يصدر الرضا من صاحب الحق‬
‫نفسه‪ ،‬فإنه يجوز أيضا أن يصدر من نائبه‪ ،‬خاصة وأن اإلنابة في التصرف في الحقوق المالية جائزة‪ ،‬سواء كانت‬
‫اإلنابة قانونية أو اتفاقية أو قضائية‪ ،‬غير أن الحقوق غير المالية فال إنابة فيها بالنظر لطابعها الشخصي الشديد‪ ،‬عدا‬
‫الحاالت التي تكون فيها الفائدة التي تعود على صاحب الحق مؤكدة‪ ،‬مثلما هو الشأن بالنسبة للعمليات الجراحية بغرض‬
‫الشفاء‪.‬‬
‫‪ -2‬األهلـــــية‪:‬‬
‫الرضا ال يمكن أن يعتد به إال إذا كان صادرا من شخص آهل قانونا‪ ،‬واألهلية مناطها اإلدراك والتمييز‪،‬‬
‫وأن تسلم اإلرادة من العيوب‪.‬‬
‫‪ -3‬معاصرة الرضا للفعل‪:‬‬
‫يجب أن يكون الرضا قائما وقت إتيان الفعل‪ ،‬فإذا تراخى عنه كان عديم األثر‪ ،‬حيث أن الفعل حينما‬
‫اقترف كان غير مشروع فال يقلبه الرضا الالحق عمال مشروعا‪ ،‬وإذا تحقق الرضا قبل الفعل فيجب أن يظل قائما حتى‬
‫يدركه الفعل‪ ،‬فإن رضا الشخص بإجراء عملية جراحية له ثم عدل فالطبيب الذي يجري له هذه العملية بعد العدول يعد‬
‫مرتكبا لفعل غير مشروع‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬حقيقة الرضا كسبب من أسباب اإلباحة‬
‫ث ار التساؤل عما إن كان الرضا سببا قائما ومستقال بذاته من أسباب اإلباحة‪ ،‬أم مجرد تطبيق من‬
‫تطبيقات اإلباحة األخرى‪ ،‬وتوصل البعض أنه مجرد عالقة بين الرضا واإلباحة‪ ،‬وحقيقة الرضا أنه تصرف قانوني‬
‫يرتب للغير حق أو رخصة أو يفرض عليه واجبا‪ ،‬ومباشرة الحق أو أداء الواجب هو الذي يجعل الفعل مباحا‪ ،‬فرضا‬
‫المريض بالعالج أنشأ للطبيب حق في عالجه‪ ،‬ولجوء الشخص لقسم الشرطة هربا من خصوه هو الذي أنشأ لهم حق‬
‫باحتجازه لتأمينه‪ ،‬وهو واجب عليهم يجعل من فعلهم مباحا‪ ،‬لذا فالرضا منظورا له بذاته ال يدخل ضمن أسباب اإلباحة‪،‬‬
‫بل هو مصدر للحقوق ونشأة بعض الواجبات‪ ،‬لذا الفقه رتب اإلباحة على الرضا بغير وجود نص يقرره‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫حالــــة الضرورة‬
‫حالة الضرورة من النماذج الجديدة للتنازع بين المصالح المتعارضة‪ ،‬عندما يجد الشخص نفسه مضطرا‬
‫الرتكاب جريمة لغاية حماية نفسه أو غيره من ضرر جسيم‪ ،‬مثل األم التي تسرق إلعالة أوالدها‪ ،‬وسائق السيارة الذي‬
‫يصدم سيارة أخرى لتفادي دهس المارة‪ ،‬ومن يخرج عاريا للطريق العام تهربا من حريق شب بالمنزل‪ ،‬والطبيب الذي‬
‫يجري عملية استعجاليه لمريض عجز عن أخذ رضائه‪.‬ويعالج البعض حالة الضرورة كسبب من أسباب اإلباحة‪ ،‬كونها‬
‫تستند للتضحية بحق رعاية لحق أكثر أهمية‪ ،‬مما يجدر معه إضفاء صفة اإلباحة عليها‪ .‬خاصة وأن شرعت لحماية‬

‫]‪[115‬‬
‫مصلحة ال غير أيضا وليست لمصلحة المضطر فقط‪ ،‬مما يعني إقرار لحماية الحق األجدر بالحماية‪ ،‬وأن الفقه الفرنسي‬
‫في مجمله يجعلها سببا من أسباب اإلباحة‪ ،‬في حين الفقه المصري يرى أن المشرع المصري اعتبرها مانعا من موانع‬
‫المسؤولية بالنظر لصيغة نص المادة ‪ 61‬من قانون العقوبات‪ .‬التي استهلت بعبارة " ال عقاب" وهو ما يعارضه البعض‬
‫ويرى عدم ضرورة التقيد بعبارات النص‪ .‬وحالة الضرورة كسبب من أسباب اإلباحة قريبة جدا من حالة الدفاع‬
‫الشرطي‪ ،‬إذ تتطلب شروطا في الخطر( المقابل لفعل العدوان في حالة الدفاع الشرعي)‪ ،‬وشروطا أخرى في فعل‬
‫الضرورة ( المق ابل لفعل الدفاع في حالة الدفاع الشرعي)‪ .‬وهو ما نبينه باختصار من خالل الفرعين التاليين‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫الشروط المتطلبة في الخطر‬
‫ح الة الضرورة تتطلب خطرا يحل بالشخص حتى يمكنه اللجوء لفعل الضرورة الذي يشكل في األصل‬
‫جريمة لرد الخطر السابق‪ ،‬لذا فالخطر الذي يبرر اللجوء إلى هذا الفعل المجرم‪ ،‬الذي يباح بسبب خصائص الخطر‪،‬‬
‫يوجب أن يستجمع األخير جملة من الشروط‪ ،‬هي التي نتناولها في النقاط التالية‪.‬‬
‫أوال‪ :‬خطر جسيم‬
‫يشترط في الخطر الذي يبرر حالة الضرورة أن يكون خطرا جسيما‪ ،‬وهو ما لم يشترطه قانون‬
‫العقوبات الفرنسي الجديد في المادة ‪ ،7/122‬وشرط الجسامة صفة موضوعية لصيقة بالخطر من حيث مساسه‬
‫بالمصلحة المحمية‪ ،‬ويقدر القاضي في تقديره الظروف التي أحاطت بالمتهم في ظل الظروف الموضوعية التي أحاطت‬
‫به‪ ،‬دون أن يشترط فيه أن يكون جريمة مثلما هو الشأن بالنسبة لحالة الدفاع الشرعي‪ ،‬لذا فيمكن أن يكون مصدر‬
‫الخطر فعل إجرامي أو غير إجرامي‪ ،‬أو قد يكون واقعة طبيعية كالفيضان والزلزال وهبوب العواصف‪ ،‬أو خطر مادي‬
‫مصدره اآلالت الصناعية والتوصيالت الكهربائية‬
‫أو سبب نفسي كالجوع والمرض وخشية الفضيحة والعار]‪.[10‬‬
‫ثانيا‪ :‬خطر مهدد للنفس‬
‫المشرع المصري قدر بأن األخطار المهددة للنفس هي الجديرة وحدها بالرعاية في حالة تصارعها مع‬
‫المصالح األخرى‪ ،‬لذا في مصر ال مجال لحالة الضرورة إذا كان الخطر مهددا للمال‪ ،‬مهما بلغت جسامة هذا الخطر‪،‬‬
‫وهنا ال يجوز لربان السفينة إلقاء البضائع في البحر إلنقاذ السفينة من الغرق‪ ،‬على عكس التشريعات األخرى مثل‬
‫القانون السويسري والنرويجي والسوري واللبناني واألردني التي سوت بين األخطار المهددة للنفس وتلك المهددة للمال‪،‬‬
‫وأهمها المادة ‪ 7/122‬من تقنين العقوبات الفرنسي‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬خطــر حــــــال‬
‫وهو أن يعرض الخطر بطريقة حالة ومباشرة المصالح المحمية في قانون العقوبات للضرر‪ ،‬فال يبرر‬
‫حالة الضرورة الخطر المستقبلي وال الخطر الذي انتهى‪ ،‬ويتحدد موضوع حيلولة الخطر وفقا لمعيار موضوعي كذلك‬
‫الذي تناولناه في مجال الدفاع الشرعي‪ ،‬ويجب أن يكون خطر حال حقيقي ال توهمي وهنا كل ما يحدث انتفاء القصد‬
‫الجنائي ويسأل الشخص عن جريمة غير عمدية إذا كان القانون يعاقب عليها بهذا الوصف‪ ،‬كمن يرى دخان يتصاعد‬
‫من نافذة جاره فيكسر الباب ويتضح أنها اشتعلت بفعل أصحاب المنزل للشواء‪ ،‬وعلى عكس ذلك‪ ،‬يرى البعض قيام‬
‫حالة الضرورة بالخطر الوهمي‪ ،‬غير أن أنصار هذا االتجاه يصنفون حالة الضرورة من بين موانع المسؤولية ويستوي‬
‫بعد ذلك المصلحة التي يهددها الخطر كأن يكون السمعة والشرف‪ ،‬كما يستوي أن يكون مصدره عمل اإلنسان أو‬
‫الطبيعة‪.‬‬
‫غير أن المشرع يشترط أال يكون مصدر الخطر المتهم ذاته‪ ،‬وهو ما بينته المادة ‪ 61‬من تقنين العقوبات‬
‫المصري‪ ،‬التي تبعها الفقه على اعتبار حالة الضرورة مانع من موانع المسؤولية‪ ،‬غير أن البعض يرى أن ذلك ال‬
‫يستقيم مع النظرة الصحيحة لحالة الضرورة كسبب من أسباب اإلباحة‪ ،‬غير أن الخالف لم ينحصر عند هذا الحد‪ ،‬بل‬
‫امتد لمناقشة ما إن كان دور المتهم في إحداث الخطر عن عمد أو عن طريق الخطأ‪ ،‬فاتفق على أنه ال ضرورة في حالة‬
‫العمد‪ ،‬كمن يشعل النار في مسرح ثم لينجو يدوس على طفل فيقتله‪ ،‬والقضاء الفرنسي ينفي حالة الضرورة حتى إن كان‬
‫دور المتهم في إحداثها كان على سبيل الخطأ‪ ،‬في حين ال يوافق البعض ذلك‪ ،‬إذ يمكن إن تسبب الشخص بإهماله في‬

‫]‪[116‬‬
‫إحداث خطر أن ينقذ مصلحة أجدر بالرعاية‪ ،‬مثل سائق السيارة الذي يسير بسرعة ولتفادي االصطدام بسيارة تسير في‬
‫االتجاه المنعكس أن ينحرف يسارا ويصدم أحد المارة فيقتله‪ ،‬وربان السفينة الذي بإهماله توشك السفينة على الغرق لكن‬
‫وبتوفر هذه الشروط في الخطر‪ ،‬يستوي أن يكون من تعرض له‬ ‫إلنقاذ نفسه والغير يلقي البضائع في البحر]‪.[11‬‬
‫مرتكب الفعل الضروري أو غيره من الناس‪ ،‬وال يشترط أن يكون هذا الغير من أقارب الجاني‪ ،‬بل يكفي مطلق الغير‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫الفـعل الضروري ( فعل الضرورة)‬
‫يشترط في الفعل الضروري الذي يرتكبه الشخص المضطر‪ ،‬مثلما يشترط في فعل الدفاع في حالة‬
‫الدفاع الشرعي‪ ،‬وهما شرطي اللزوم والتناسب‪ ،‬وهما الشرطين الذين نتناول كل منهما في نقطة مستقلة‪.‬‬
‫أوال‪ :‬شرط اللـــــــزوم‬
‫و هو أن يكون اللجوء إلى الجريمة التي تشكل الفعل الضروري التي يكون غرضها دفع الخطر الوسيلة‬
‫الوحيدة لتحقيق هذا الهدف‪ ،‬إذ إن كانت أمامه وسيلة أخرى مشروعة ال يعد فعله ضروريا]‪ ،[12‬واللزوم يقاس بمعيار‬
‫موضوعي يتعلق بالشخص العادي المحاط بنفس الظروف التي يوجد بها المضطر‪ .‬ومن توفر لديه الهرب فيجب أن‬
‫يسلكه وال يلجا الرتكاب الجريمة‪ ،‬وهنا تختلف حالة الضرورة عن حالة الدفاع الشرعي‪ ،‬ويستوي أن تكون الجريمة‬
‫الالزمة لدرء الخطر الذي يتهدد المضطر جريمة عمدية‬
‫أو جريمة غير عمدية‪ ،‬مثل سائق سيارة اإلطفاء الذي يسير بسرعة إلنقاذ الناس فيصطدم بالغير‪ ،‬أو من يصعد بسيارته‬
‫على الرصيف هروبا من دهس أطفال أمامه فيصدم شخصا آخرا]‪ .[13‬بينما ترى محكمة النقض الفرنسية في هذا‬
‫الشرط‪ ،‬أن تكون الجريمة هي أحسن وسيلة لتفادي الخطر‪ ،‬ال أن تكون الوسيلة الوحيدة‪ .‬ويضاف لكل ما سبق أال يكون‬
‫الشخص ملزما قانونا بتحمل الخطر الذي يعترضه‪ ،‬مثل الجندي في ميدان القتال‪ ،‬ورجال البوليس في ممارستهم‬
‫لمها مهم‪ ،‬والمتهم المقبوض عليه‪ ،‬والمحكوم عليه باإلعدام‪ ،‬وربان السفينة عندما تتعرض للغرق‪ ،‬فكل هؤالء يتعرضون‬
‫لخطر جسيم على النفس‪ ،‬ولكنهم ملزمين بتحمل هذا الخطر بحكم وظائفهم التي تقتضي بحكم طبيعتها التعرض لمثل هذه‬
‫األخطار]‪.[14‬‬
‫ثانيا‪ :‬شـــرط التناسب‬
‫حالة الضرورة تقتضي شانها شأن الدفاع الشرعي التناسب‪ ،‬سواء كان عاما وهي ارتكاب جريمة من‬
‫حيث الجسامة بأنها الوحيدة الممكنة من بين الجرائم التي كان يمكن ارتكابها‪ ،‬أي ال يمكن للشخص النجاة من الخطر‬
‫الذي يتهدده إال بتلك الجريمة التي ارتكبها‪ ،‬ويتحدد هذا التناسب وفقا لمعيار موضوعي واقعي قوامه الشخص المعتاد‬
‫الذي مر بنفس الظروف التي مر بها الجاني]‪ .[15‬كما تشترط حالة الضرورة أيضا التناسب الخاص‪ ،‬في الحاالت التي‬
‫يلجا فيها لجريمة القتل‪ ،‬فهنا ال يجب أن يحدث الجاني ضررا يفوق الضرر الذي أراد تجنبه‪ ،‬على عكس التناسب‬
‫الخاص في مجال الدفاع الشرعي‪ ،‬فالطبيب الذي يجري عملية جراحية لوالدة عسيرة ليس له أن يضحي بحياة األم لينقذ‬
‫الجنين‪ ،‬وال يجوز لشخص ينحرف بسيارته لتجنب قتل شخص أن يقتل عدد أكبر من األشخاص]‪ .[16‬وتدق المسألة‬
‫بخصوص مدى توفر حالة الضرورة في حالة قتل إنسان ألجل إنقاذ حياة إنسان آخر‪ ،‬فهنا يرى البعض أنه في حالة‬
‫تساوي المصالح يجب تفضيل مصلحة البريء الذي لم يصدر عنه أي خطر‪ ،‬مثل حالة من أراد تجنب صدم أحد المارة‬
‫فيصدم اآلخر‪ ،‬وال يجب أن يقتل الشخص غيره إلنقاذ حياته]‪.[17‬‬
‫وفي حالة تجاوز الضرورة يعتبر الشخص مرتكبا لجريمة عمدية إذا كان القانون يعاقب عليها بهذا‬
‫الوصف‪ ،‬وإذا كان التجاوز مبنيا على أسباب معقولة انتفت كل مسؤولية‪ ،‬وغن كان التجاوز عمديا اعتبر المتجاوز‬
‫مسؤول مسؤولية جنائية كاملة‪.‬‬
‫ه ذا وبعد ان تناولنا في فصلين متتاليين الركن الشرعي للجريمة‪ ،‬وأسباب اإلباحة كأسباب تنفي هذا‬
‫ا لركن أصال وتعطل مفعوله‪ ،‬سنتناول في الفصل الموالي‪ ،‬أهم ركن من أركان الجريمة‪ ،‬أال وهو الركن المادي على‬
‫اعتبار الجريمة أفعال وسلوكات نهى عنها النص القانوني‪ ،‬أي الركن المادي تجسيد للركن القانوني‪.‬‬

‫]‪[117‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫الركن المادي للجريمة‬
‫الركن المادي للجريمة يقصد به تطابق الفعل الذي أتاه الجاني مع النموذج القانوني للجريمة‪ ،‬كون القانون يحدد‬
‫أركان وشروط الجريمة وبها يتحدد النموذج القانوني لها‪ ،‬أو المظهر القانوني لها‪ ،‬ليأتي المظهر المادي الذي يتحدد‬
‫بالواقعة التي حدثت في العالم الخارجي من قبل الجاني‪ ،‬ويشترط فيه أن يتطابق مع المظهر القانوني الذي بينه المشرع‪.‬‬
‫لذا فالركن المادي للجريمة‪ ،‬هو وجهها الخارجي الظاهر‪ ،‬وبه يتحقق االعتداء على المصلحة المحمية قانونا‪ ،‬وعن‬
‫طريقه تقع األعمال التنفيذية للجريمة‪ ،‬إذ ال وجود لقانون عقوبات في الدول الديمقراطية يعاقب على مجرد النوايا‪ .‬فكل‬
‫جريمة ال بد لها من ماديات تتجسد فيها اإلرادة اإلجرامية لمرتكبها‪ ،‬فالقانون الجنائي على عكس قواعد األخالق ليس له‬
‫سلطان على ما في ضمائر الناس من أفكار شريرة ومن نوايا إجرامية‪ ،‬حتى ولو وصلت مرحلة عقد العزم والتصميم ما‬
‫لم تخرج لعالم الم اديات التي تجسد هذه النوايا وتصبح تعرض المصالح والحقوق لألخطار‪ ،‬فهنا يتصدى لها القانون‬
‫الجنائي يعاقب عليها‪ .‬وبالتالي الركن المادي هو ما يدخل في البناء القانوني للجريمة من عناصر مادية ملموسة يمكن‬
‫إدراكها بالحواس‪.‬‬

‫]‪[118‬‬
‫أهمية اشتراط الركن المادي لقيام الجريمة‪:‬‬
‫إ ن أهمية اشتراط المشرع للركن المادي للجريمة‪ ،‬تكمن أساسا في كونه الركن الذي يجسد ما يعرف‬
‫بمبدأ " مادية الجريمة‪ ،" Le Principe de la matérialité de l’infraction‬فالقانون الجنائي ال يهتم بالبواطن‬
‫والنوايا‪ ،‬وإنما يهتم فقط بالظاهر المادي الملموس‪ ،‬وهو أمر ال يخلو بأي حال من األحوال من فعالية قانون العقوبات‬
‫وتحقيقه للعدالة المنشودة‪ ،‬فمن العدالة أال يحاسب األفراد على نواياهم‪ ،‬متى لم تتجسد في نشاط مادي خارجي ملموس‬
‫يلحق أضرارا بالمصالح المحمية قانونا‪ ،‬أو مجرد تهديدها بأخطار‪ ،‬مهما كانت هذه النوايا والنوازع حافلة برغبة مخالفة‬
‫القانون – كون قانون العقوبات يحمي الحقوق والمصالح من االعتداءات الفعلية الواقعة عليها‪ ،‬أو مجرد تهديدها أي‬
‫احتمال اإلضرار بها‪.-‬‬
‫ك ما انه ليس من الجدوى والفعالية تجريم النوايا والعقاب عليها‪ ،‬كون هذه النوايا ليست ضارة في حد‬
‫ذاتها‪ ،‬بل أن تج ريمها قد يشجع األفراد على تجاوز مرحلة النوايا واإلقدام فعال على ارتكاب األفعال‪ ،‬متى كانوا في‬
‫الحالتين معرضين لعقاب القانون‪ ،‬مما يجعل عدم العقاب على النوايا يعد في حد ذاته ضمانة من الضمانات المكرسة‬
‫لحقوق وحريات األفراد]‪.[18‬‬
‫وتظهر أهمية اشتراط الركن المادي أيضا‪ ،‬في تسهيل عملية إثبات الجريمة‪ ،‬ألنه إن كان من اليسير‬
‫إثبات وقوع ماديات الجريمة‪ ،‬التي تجسدت في أفعال خارجية ملموسة أحدثت أثارا في العالم الخارجي‪،‬‬
‫أ و على األقل يمكن إدراكها بالحواس حتى وإن لم تصل لحد ترتيب آثارها‪ ،‬فإنه من العسير جدا إثبات النوايا‪ ،‬في‬
‫الحاالت التي يرتأى فيها المشرع تجريم هذه النوايا‪ ،‬وبذلك يكون القانون منفذا إلفالت الجناة من العقاب]‪ .[19‬وقانون‬
‫العقوبات في غالب األحوال ال يشترط مجرد السلوك‪ ،‬بل يتطلب تحقق نتيجة معينة تكون أثرا لهذا السلوك‪ ،‬وأن يكون‬
‫األخير مسببها‪ ،‬لذا فالركن المادي للجريمة التامة يتحلل في العادة إلى ثالثة عناصر‪ ،‬هي‪ :‬السلوك‪ ،‬النتيجة‪ ،‬وعالقة أو‬
‫رابطة سببية تربط بين هذا السلوك والنتيجة التي تحققت‪ ،‬وهو ما الوضع العادي والمألوف للجرائم التامة ‪ ،‬غير أن هذه‬
‫العناصر قد ال تتحقق مجتمعة ومع ذلك يتدخل المشرع بالعقاب‪ ،‬وذلك في الحاالت التي يأتي فيها الشخص بالسلوك إال‬
‫أن النتيجة تتخلف‪ ،‬وهو ما يسمى بالشروع أو المحاولة‪ ،‬وهو موضوع بحث في المبحث الثاني‪ ،‬كما أن الوضع العادي‬
‫والمألوف للجرائم أن فعال واحدا مجرما يسهر على تنفيذه فاعل واحد‪ ،‬غير أنه يمكن أن تتضافر جهود العديد من‬
‫األشخاص القتراف الفعل‪ ،‬وفي هذه الحالة نكون أمام مشروع إجرامي ألطراف متعددة‪ ،‬وهي صورة خاصة من صور‬
‫الركن المادي للجريمة‪ ،‬وتسمى بالمساهمة الجنائية أو االشتراك‪ ،‬الذي يكون موضوع بحث في المبحث الثالث‪.‬‬

‫المبحث األول‬
‫تحليل الركن المادي للجريمة‬
‫عناصره في حالة الجريمة التامة‬
‫الركن المادي للجريمة‪ ،‬وفي غالبية الجرائم‪ ،‬يتحلل – مثلما سبق القول‪ -‬إلى ثالثة عناصر‪ ،‬هي السلوك‬
‫سواء تمثل في فعل أو مجرد امتناع‪ ،‬ونتيجة يكون سبب حدوثها هذا السلوك‪ ،‬سواء كانت نتيجة مادية يمكن إدراكها في‬
‫العالم الخارجي أو مجرد نتيجة بالمفهوم القانوني‪ ،‬وأن ترتبط هذه النتيجة برابطة أو صلة أو عالقة سببية‪ ،‬بمعنى أن‬
‫يكون السلوك سبب في حدوث وتحقق النتيجة‪ ،‬والعناصر الثالثة السابقة‪ ،‬هي العناصر العامة للركن المادي لكل جريمة‬
‫تامة وقعت طبقا للنموذج القانوني أو التشريعي المرسوم لها من قبل المشرع‪ ،‬مع مالحظة أنه هناك من الجرائم ما ال‬
‫يشترط فيها المشرع تحقق نتيجة معينة‪ ،‬أي ال تعد النتيجة عنصرا الزما في ركنها المادي‪ ،‬وهي ما تعرف بجرائم‬
‫السلوك المجرد أو السلوك المحض‪ ،‬كما تسمى أيضا بالجرائم الشكلية‪ ،‬كجريمة حيازة سالح بدون ترخيص‪ ،‬ومثل‬
‫هذا النوع من الجرائم يقوم على مجرد إتيان السلوك المجرم‪ ،‬دون اشتراط ترتب نتيجة عليه‪.‬‬
‫كما أنه هناك جرائم يتطلب البناء القانوني لركنها المادي ‪ ،‬وباإلضافة للعناصر العامة الثالثة السابقة‪،‬‬
‫عناصر أخرى خاصة تستخلص من نص التجريم ذاته‪ ،‬والتي يتوقف على توفرها اكتمال الجريمة قانونا من الناحية‬
‫المادي ة‪ ،‬من أمثلة هذه العناصر الخاصة‪ ،‬ما يتعلق بمحل العدوان الذي ينصب عليه السلوك‪ ،‬مثل اإلنسان الحي في‬

‫]‪[119‬‬
‫جريمة القتل ( المادة ‪ 254‬قانون عقوبات جزائري)‪ ،‬والمال المملوك للغير في جريمة السرقة ( المادة ‪ 350‬قانون‬
‫عقوبات جزائري)‪ ،‬والمحرر المكتوب في جريمة التزوير ( المادة ‪ 214‬وما بعدها من قانون العقوبات)‪ .‬وقد يتعلق‬
‫العنصر الخاص بصفة في الشخص‪ ،‬سواء كان جاني أو مجني عليه‪ ،‬ومن أمثلة الصفة المتطلبة في الجاني‪ ،‬صفة‬
‫الموظف في جريمة الرشوة‪ ،‬وجريمة االختالس]‪ ،[20‬وصفة الزوج أو الزوجة في جريمة الزنا ( المادة ‪ ،)339‬ومن‬
‫العناصر الخاصة المشترطة في المجني عليه‪ ،‬القاصر ( المادة ‪ 236‬وما بعدها)‪ ،‬وصفة الموظف أو الهيئة النظامية في‬
‫جرائم اإلهانة والتعدي على الموظفين ومؤسسات الدولــة ( المادة ‪ 144‬وما بعدها)‪ ،‬وترك األطفال والعاجزين ( المادة‬
‫‪ 314‬وما بعدها)‪ ...‬وقد ينصب العنصر الخاص بالوسيلة المستعملة في ارتكاب الجريمة‪ ،‬مثل السرقة باستعمال السالح‬
‫( المادة ‪ 351‬ق ع ج) ‪ ،‬وجريمة القتل بالتسميم ( المادة ‪ 260‬ق ع ج)‪ .‬كما قد يتعلق العنصر الخاص بزمان أو مكان‬
‫ارتكاب الجريمة‪ ،‬ومن أمثلة اشتراط زمن معين في بعض الجرائم‪ ،‬الجرائم التي ترتكب في زمن السلم ( المادة ‪ 74‬وما‬
‫بعدها)‪ ،‬ومن أمثلة الجرائم التي تتعلق بالمكان‪ ،‬جريمة القذف التي تشترط العلنية في مكان عام ( المادة ‪ ،)296‬وجريمة‬
‫السكر العلني‪ ،‬والمخالفات المتعلقة بالطرق العمومية ( المادة ‪ 444‬مكرر وما بعدها)‪ .‬غير أن موضع دراسة هذه‬
‫األركان الخاصة هو القسم الخاص لقانون العقوبات‪ ،‬لذا تنحصر دراستنا في هذا الموضوع على العناصر العامة للركن‬
‫المعنوي فقط‪ ،‬ونتناول كل منها في مطلب مستقل من المطالب الثالثة التالية‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫السلوك اإلجرامي ( أو الجرمي أو المجرم)‬
‫مبدأ‪ :‬السلوك مادة الجريمة وأداة مخالفة القانون‬
‫يعد السلوك اإلجرامي من أهم مكونات الركن المادي للجريمة‪ ،‬وأكثر هذه العناصر إفصاحا عن مخالفة‬
‫الجاني ألوامر ونواهي قانون العقوبات‪ ،‬ويعرف السلوك باختصار‪ ،‬بأنه ذلك التصرف أو الفعل‬
‫أ و الموقف الذي إذا أتاه الشخص عوقب‪ ،‬لذا كان من الطبيعي أن يحدد سلوك كل جريمة من قبل المشرع تطبيقا لمبدأ‬
‫الشرعية الجنائية‪ ،‬ألن الجرائم أفعال تطبيقا لمبدأ " ال جريمة دون فعل"]‪ ،[21‬وهو الفعل الذي قد يكون إيجابيا يأتيه‬
‫الشخص بالمخالفة لنواهي قانون العقوبات‪ ،‬وقد يكون سلبيا يأتيه الشخص بالمخالفة ألوامر هذا القانون‪ ،‬وهما صورتا‬
‫السلوك المؤثم قانونا‪ ،‬األولى – الفعل اإليجابي‪ -‬وهي الصورة الشائعة التي تستوعب غالبية الجرائم‪ ،‬والثانية – السلوك‬
‫السلبي‪ -‬أقل مقارنة ب األولى‪ ،‬وتسمى الجرائم في هذه الحالة بالجرائم السلبية أو جرائم االمتناع وأحيانا جرائم الترك‪،‬‬
‫وهي قلة قليلة مقارنة بالجرائم اإليجابية أو جرائم الفعل‪ .‬لذا سنحاول أن نتناول صورتي السلوك من خالل الفرعين‬
‫التاليين‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫السلوك اإليــجابي ( الفعـــــــل)‬
‫و هي صورة من السلوك المشكلة للركن المادي لغالبية جرائم قانون العقوبات‪ ،‬ويسميها الفقه أيضا‪:‬‬
‫" النشاط" أو "السلوك"‪ ،‬ويتمثل في الغالب في حركة أو مجموعة حركات عضوية إرادية تحدث تغييرا في العالم‬
‫الخارجي الملموس‪ ،‬ويكون السلوك فعال إذا استخدم فيه الجاني أعضاء جسمه‪ ،‬كما لو استعمل يديه في الضرب أو‬
‫القتل‪ ،‬أو لسانه في جريمة القذف أو السب أو التهديد الشفوي أو تحريض الغير على ارتكاب الجرائم‪ ،‬أو استعمال رجله‬
‫في جريمة التعدي على الملكية العقارية واغتصابها واحتاللها‪ ،‬لذا فمن أهم خصائص السلوك اإليجابي هي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬السلوك اإليجابي حركة أو عدة حركات عضوية‬
‫السلوك اإليجابي أو الفعل‪ ،‬يعد عبارة عن حركة أو مجموعة حركات عضوية‪ ،‬يأتيها الجاني لتنفيذ‬
‫جريمته‪ ،‬فقد تكون حركة واحدة كتوجيه ضربة للمجني عليه أو إطالق رصاصة عليه‪ ،‬أو توجيه إهانة واحدة له‪ ،‬أو‬
‫مجموعة حركات عضوية تستند إلى قرار جرمي واحد‪ ،‬كاستمرار الجاني في طعن المجني عليه بعدة طعنات متتالية‪،‬‬
‫أو إطالق العديد من الرصاصات نحوه‪ ،‬في حين السلوك السلبي أو االمتناع فهو إحجام عن الحركة‪ ،‬في أوضاع كان‬
‫يتعين على الشخص إتيانها‪ ،‬وتسمى الجرائم التي تقع بالسلوك اإليجابي بالجرائم اإليجابية‪ ،‬في حين تسمى الجرائم التي‬
‫تتحقق باالمتناع‪ ،‬بالجرائم السلبية‪.‬‬

‫]‪[120‬‬
‫ويجب أن تكون الحركة أو مجموعة لحركات العضوية‪ ،‬عبارة عن حركات مادية مصدرها عضو من‬
‫أعضاء جسم اإلنسان‪ ،‬دون اعتداد في ذلك – في غالبية األحوال‪ -‬بالوسيلة المستعملة في تحقيق هذا السلوك‪ ،‬على‬
‫اعتبار أن الوسيلة ذاتها‪ ،‬تسيرها الحركة الصادرة عن عضو اإلنسان]‪..[22‬‬
‫ثانيا‪ :‬السلوك حركة إرادية هادفة لتغيير وضع قائم‬
‫يشترط في السلوك اإليجابي‪ ،‬زيادة على كونه حركة أو مجموعة حركات عضوية مادية صادرة عن‬
‫عضو أو أكثر من أعضاء جسم اإلنسان‪ ،‬أن تكون القوة الدافعة لهذه الحركة هي اإلرادة‪ ،‬بمعنى أن تكون الحركة إرادية‬
‫صادرة عن وعي وإدراك وحرية اختيار‪ ،‬وبعبارة أخرى يشترط أن تكون هناك صلة نفسية بين الحركة واإلرادة‪ ،‬كون‬
‫الحركة الالإرادية حتى وإن ترتب عنها النتيجة المجرمة قانونا‪ ،‬إال أن مسؤولية الشخص عنها منتفية‪ ،‬واإلرادة هذه‬
‫يجب أن تهدف إلى تغيير وضع قائم‪ ،‬والمقصود بذلك أن يكون هذا التغيير متمثال في االعتداء أو اإلضرار أو مجرد‬
‫احتمال التهديد للمصالح والحقوق المحمية بموجب قانون العقوبات‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫الســـلوك السلبي‬
‫( الترك أو االمتناع أو عدم الفعل]‪) [23‬‬
‫القانون الجنائي ال يعاقب فقط على السلوكات اإليجابية المتمثلة في حركة أو مجموعة حركات عضوية‬
‫مادية إرادية – وإن كان ذلك األصل‪ ،-‬بل هو يعاقب أيضا على بعض التصرفات والسلوكات السلبية الضارة‪ ،‬وذلك‬
‫كاستثناء‪ ،‬والسلوك السلبي يتمثل في موقف سلبي يتخذه الشخص إزاء قاعدة قانونية تطالبه بالقيام بعمل ما‪ ،‬فيمتنع عن‬
‫القيام به‪ ،‬أو يقوم بعمل مضاد للعمل الذي أمرت به القاعدة القانونية‪ ،‬لذا فاالمتناع بدوره عبارة عن عمل إرادي واعي‬
‫مصدره اإلرادة الحرة المختارة ال مجال فيه للقول بقيام المسؤولية الجنائية للممتنع في حال ما إذا دفعته قوة قاهرة أو‬
‫أكره عليه‪.‬‬
‫ومن أمثلة جرائم االمتناع في قانون العقوبات الجزائري‪ ،‬امتناع الشاهد عن الحضور أمام الجهات‬
‫القضائية الجزائية ( المادة ‪ 89‬من قانون اإلجراءات الجزائية بخصوص االمتناع عن الحضور أمام قاضي التحقيق‪،‬‬
‫والمادة ‪ 222‬من ذات القانون بخصوص امتناع الشاهد عن الحضور أمام جهات الحكم الجزائية‪ ،‬والمادة ‪ 299‬من ذات‬
‫القانون بخصوص امتناع الشاهد عن الحضور أمام محكمة الجنايات)‪ ،‬وامتناع الموظف عن تطبيق ما أمر به القانون (‬
‫المادة ‪ 109‬قانون عقوبات)‪ ،‬وامتناع الشخص الذي يعلم بالشروع في ارتكاب جناية أو وقوعها وال يخبر السلطات‬
‫المختصة بها فورا ( المادة ‪ 181‬ق ع ج)‪.‬‬
‫وفي كل هذه الحاالت نكون أمام جرائم امتناع‪ ،‬ألن النص الجنائي ألزم الشخص بالقيام بعمل معين‬
‫تحت طائلة توقيع جزاء جنائي ولم يقم به‪ ،‬لذا فجرائم االمتناع عبارة عن جرائم محددة العناصر في النصوص‬
‫الجزائية‪ ،‬تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬لذا فال يجوز اللجوء للتفسير الواسع وال القياس فيها‪ ،‬والقانون في العادة ما‬
‫يعاقب على مجرد السلوك السلبي فيها‪ ،‬دون أن يشترط تحقق نتيجة معينة تترتب عن هذا االمتناع‪ ،‬مما يجعل غالبيتها‬
‫من جرائم السلوك المحض‪ .‬غير أن الفقه أوجد طائفة جديدة من الجرائم سماها جرائم السلوك بالترك‪ ،‬أو الجرائم‬
‫اإليجابية التي تقع بجريمة امتناع‪ ،‬أين يكون السلوك مجرد امتناع لكنه يقترن بتحقق نتيجة مادية معينة‪ ،‬مثل امتناع‬
‫الطبيب عن القيام بعالج المريض مما يؤدي لموت المريض‪ ،‬أو امتناع األم عن إرضاع ابنه مما يؤدي إلى إهالكه‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫النتيجة اإلجرامية ( أو المجرمة)‬
‫يقصد بالنتيجة كأحد العناصر المكون للركن المادي للجريمة‪ ،‬األثر الطبيعي المترتب عن السلوك‬
‫المجرم قانونا‪ ،‬وهو المفهوم المادي للنتيجة المتمثل في وجود أثر مادي أو تغير يحدث في العالم الخارجي الملموس‪ ،‬في‬
‫حين المفهوم القانوني للنتيجة‪ ،‬فيتمثل في االعتداء على المصالح والحقوق المحمية قانونا‪.‬‬
‫وقد يظهر أن النتيجة أمر ال ينفصل عن السلوك المادي‪ ،‬بحيث يقوم الجاني بعمل واحد تعد النتيجة آخر‬
‫حلقاته‪ ،‬غير انه في الواقع‪ ،‬النتيجة تعد العنصر الثاني المستقل والمنفصل من عناصر الركن المادي للجريمة‪ ،‬وما يدل‬
‫على ذلك تمييز المشرع بين الجريمة التامة ومجرد الشروع‪ -‬وهو موضوع دراسة مستقلة الحقا‪ -‬فلو كانت النتيجة‬

‫]‪[121‬‬
‫عنصرا مالزما للسلوك لما قام المشرع بهذه التفرقة‪ ،‬ولما كانت هناك أصال حاجة للعقاب على الشروع‪ ،‬ما دامت‬
‫النتيجة مالزمة للسلوك‪ ،‬لذا فالسلوك أمر مستقل عن النتيجة‪ .‬لذا فالنتيجة عنصر من عناصر الركن المادي‪ ،‬يتمثل في‬
‫التغيير الذي يحدثه السلوك في العالم الخارجي الملموس‪ ،‬والذي قد يكون أثرا ماديا‪ ،‬مثل حدوث الوفاة في جريمة القتل‪،‬‬
‫واالستيالء على مال الغير في جريمة السرقة‪ ،‬وقد يكون مجرد أثر نفسي‪ ،‬مثال كالحط من قيمة ومكانة الشخص في‬
‫وسط أقرنائه في المجتمع كجرائم القذف والسب‪ ،‬ل ذا نرى أن النتيجة المعتد بها قانونا‪ ،‬ليست النتيجة الواقعية التي حدثت‬
‫في العالم الخارجي‪ ،‬أو ما يعتبره المجني عليه أنه نتيجة أضرت به‪ ،‬وإنما النتيجة هي ما يعتد به القانون ويعتبره تغييرا‬
‫قانونيا‪.‬‬
‫والنتيجة عنصر الزم في معظم الجرائم‪ ،‬خاصة تلك التي يرتب فيها المشرع على تحقق النتيجة أحكام‬
‫قانونية‪ ،‬تتعلق أساسا بالشروع واالشتراك والقصد الجنائي‪ ،‬غير أن النتيجة قد ال تكون عنصرا الزما في الركن المادي‬
‫لبعض الجرائم‪ ،‬التي تقوم ويكتمل ركنها المادي بمجرد إتيان السلوك‪ ،‬وتسمى الجريمة في هذه الحالة‪ ،‬بالجريمة الشكلية‬
‫لذا‬ ‫أو جرائم الخطر أو جرائم السلوك المحض‪ ،‬مقارنة بالجرائم المادية أو جرائم الضرر‪ ،‬التي تتطلب نتيجة]‪.[24‬‬
‫نرى بأن دراسة فكرة النتيجة كعنصر عام وهام في الركن المادي للجرائم‪ ،‬تقتضي منا تناول موضوع التفرقة بين‬
‫النتيجة المادية والنتيجة القانونية‪ ،‬وذلك في فرع‪ ،‬لنتناول في الثاني التمييز بين الجرائم المادية ذات النتائج‪ ،‬والجرائم‬
‫الشكلية التي ال يشترط فيها المشرع تحقق نتيجة معينة‪.‬‬

‫الفرع األول‬
‫التمييز بين النتيجة المادية والنتيجة القانونية‬
‫النتيجة بين المفهوم المادي والمفهوم القانوني]‪:[25‬‬
‫النتيجة عموما هي األثر الطبيعي الذي يتمخض عن السلوك ويعتد به القانون‪ ،‬وهو التعريف الذي‬
‫يشتمل على ثالثة عناصر‪ ،‬أن النتيجة أمر واقعي له وجود خاص وذاتية مستقلة‪ ،‬وهي في حقيقة األمر تتميز عن‬
‫السلوك مهما كانت مرتبطة به‪ ،‬والقانون أحيانا قد يتطلب حدوث نتيجة معينة‪ ،‬وأحيانا يكتفي بالنص على صالحية‬
‫السلوك إلحداثها‪ ،‬أما العنصر الثاني للنتيجة فهو ارتباطها بالسلوك برابطة سببية‪ ،‬وهي الرابطة‬
‫أ و العالقة التي تعد بالغة التعقيد واألهمية‪ ،‬والعنصر الثالث هو اعتداد القانون بالنتيجة‪ ،‬إذ الفعل الواحد قد يرتب نتائج‬
‫متعددة‪ ،‬وهي النتائج التي قد تولج نتائج أخرى‪ ،‬غير أن القانون يهتم بالبعض دون البعض اآلخر‪ ،‬والمشرع قد يجعل‬
‫بعض النتائج عنصرا الزما لوقوع الجريمة والبعض اآلخر من نتائجها المشددة‪ ،‬أو ظرفا مؤثرا في عقوبتها فحسب‪،‬‬
‫مثال األول حدوث الوفاة في جريمة القتل‪ ،‬ومن أمثلة الثانية العاهة المستديمة في جريمة الضرب‪ ،‬وفي هذا المقام تهمنا‬
‫النتيجة كعنصر ال كظرف‪ ،‬غير أن النتيجة تعد أحيانا من عناصر الجريمة إذ ال تقوم هذه األخيرة دونها‪ ،‬في حين قد‬
‫يكتفي المشرع بالسلوك وحده في بعض األحيان‪ ،‬وفي هذا الصدد قسمت الجرائم حسب الفقه‪ ،‬إلى جرائم نتيجة وجرائم‬
‫سلوك محض‪.‬‬
‫أوال‪ :‬المفهوم المادي للنتيجة‬
‫النتيجة بالمفهوم المادي تتحقق بكل تغيير يحدث في العالم الخارجي كأثر للنشاط اإلجرامي]‪ ،[26‬ووفقا‬
‫لهذا المفهوم للنتيجة أهمية قانونية في موضوعين‪ ،‬األول بخصوص اكتمال الجريمة وتمامها‪ ،‬والثاني كمعيار لتحديد‬
‫العقوبة‪ ،‬ووفقا لألهمية األولى تقسم الجرائم على جرائم مادية ذات نتيجة‪ ،‬وأخرى شكلية كل ما تتطلبه مجرد السلوك‪،‬‬
‫وهو ما نبينه في الفرع الثاني‪ .‬بعد أن نتناول المفهوم القانوني للنتيجة‪.‬‬

‫]‪[122‬‬
‫ثانيا‪ :‬المفهوم القانوني للجريمة‬
‫و هي النتيجة المتمثلة في العدوان على الحق أو المصلحة المحمية قانونا‪ ،‬سواء تمثل هذا العدوان في‬
‫إصابتها بضرر أو مجرد تعريضها للخطر‪ ،‬لذا فهي وفقا لهذا المفهوم‪ ،‬ال تعد تغييرا في العالم الخارجي يمكن للحس أن‬
‫يدركه وي ميز بينه وبين سلوك الجاني‪ ،‬وإنما هي تقدير قانوني للسلوك أو حكم على هذا السلوك من وجهة نظر المشرع‪،‬‬
‫وبهذا المفهوم النتيجة موجودة في كل جريمة‪ ،‬كون كل جريمة تقوم على سلوك‪ ،‬في حين المفهوم المادي للنتيجة المقابل‬
‫للمفهوم القانوني هو ما يترتب عن السلوك من اثر مادي في العالم الخارجي المحسوس‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫التمييز بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية‬
‫( الجرائم ذات النتائج والجرائم ذات السلوك المجرد المحض)‬
‫سبق القول بأنه ليست كل الجرائم مما يتطلب فيها المشرع تحقق نتيجة مادية تحدث تغييرا ملموسا في‬
‫العالم الخارجي‪ ،‬بل هناك من الجرائم ما يقوم ركنها المادي على مجرد إتيان السلوك بغض النظر عما إن رتب هذا‬
‫السلوك نتيجة من عدمه‪ ،‬وبناء على ذلك تنقسم الجرائم من هذه الوجهة‪ ،‬إلى جرائم مادية ذات نتائج‪ ،‬وجرائم شكلية ذات‬
‫سلوكات فقط‪ ،‬لذا سنحاول أن نتناول معنى النوعين كل في نقطة‪ ،‬لنتناول في نقطة مستقلة أهمية التفرقة بين النوعين‬
‫أوال‪ :‬الجرائم المادية‬
‫الجرائم المادية‪ ،‬هي جرائم يتطلب المشرع فيها أن يترب السلوك نتيجة مادية كأثر ملموس في العالم الخارجي‬
‫المحسوس‪ ،‬أو على األقل مجرد احتمال حصول هذه النتيجة كأثر مباشر عن السلوك‪ ،‬مثلما هو الشأن بالنسبة لجرائم‬
‫الشروع‪ ،‬وهذا النوع من الجرائم هو األكثر شيوعا في القوانين العقابية‪ ،‬إذ غالبية الجنايات والجنح تشترط وقوع نتيجة‬
‫كأثر مباشر عن السلوك المجرم‪ ،‬سيما في السلوكات اإليجابية‪ .‬لذا يسمى هذا النوع من الجرائم أيضا " الجرائم ذات‬
‫النتائج"‪ ،‬أو " جرائم الضرر"‪ ،‬ألن النتيجة في حقيقتها ضرر أصاب مصلحة أو حق محمي قانونا‪ ،‬حتى وغن تجسد‬
‫هذا الضرر في مجرد احتمال أو تهديد مثلما هو األمر بالنسبة لجرائم الشروع‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬الجرائم الشكلية‬
‫ف ي مقابل الجرائم المادية ذات النتائج‪ ،‬توجد هناك جرائم شكلية ال يشترط المشرع لقيامها حدوث نتيجة‬
‫كأثر مباشر مترتب عن السلوك المجرم‪ ،‬لذا فهي تسمى أيضا " جرائم السلوك المحض" أو " جرائم السلوك‬
‫المجرد"]‪ ،[27‬ومن أمثلة هذه الجرائم‪ ،‬عرض الرشوة على موظف عام‪ ،‬تزوير أو تزييف النقود دون ترويجها‪ ،‬تزوير‬
‫األوراق دون استعمالها‪ ،‬حيازة األسلحة بدون ترخيص ودون أن تستعمل في ارتكاب جرائم‪ ،‬حمل األوسمة أو ارتداء‬
‫األزياء الرسمية بدون وجه حق‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬أهمية التفرقة بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية‬
‫للتفرقة بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية‪ ،‬أهمية قانونية بالغة اآلثار‪ ،‬وذلك بالنظر للنتائج القانونية‬
‫المترتبة على هذا التمييز أو هذه التفرقة‪ ،‬خاصة بخصوص عالقة السببية‪ ،‬وفي مجال الشروع‪ ،‬وبخصوص العدول‬
‫االختياري‪ .‬فبخصوص العالقة السببية‪ ،‬ال مجال للبحث عنها في مجال الجرائم الشكلية‪ ،‬فهي صلة أو رابطة متطلبة فقط‬
‫في الجرائم المادية ذات النتائج‪ ،‬كونها عالقة أو رابطة تفترض أصال وجود عنصرين‪ ،‬هما السلوك والنتيجة‪ ،‬وتكون‬
‫هي الرابط بين هذين العنصرين‪ ،‬وإن كان يجب قيامها وإثباتها في مجال قيام الركن المادي في الجرائم المادية ذات‬
‫النتائج‪ ،‬فاألمر غير ممكن بخصوص الجرائم الشكلية‪ ،‬وذلك النعدام النتيجة التي يبحث عن عالقتها بالسلوك‪ ،‬إذ هذا‬
‫األخير كاف لوحده لقيام الركن المادي‪.‬‬
‫وأما بخصوص الشروع – الذي سيكون موضوع دراسة مفصلة‪ -‬فال يمكن تصوره في الجرائم الشكلية‪،‬‬
‫إذ السلوك المجرم إما أن يأتيه الشخص وإما أن ال يأتيه إطالقا‪ ،‬على عكس الجرائم المادية ذات النتائج فهي جرائم‬
‫تشكل مجاال خصبا لجرائم الشروع‪ ،‬هذه األخيرة التي تتمثل في إتيان السلوك في بعضه‬
‫أ و في كله من قبل الجاني‪ ،‬وبالرغم من ذلك ال تتحقق النتيجة لظرف أجنبي خارج عن إرادة الجاني‪.‬‬
‫وأما بخصوص العدول االختياري‪ ،‬وهو فكرة قانونية تتعلق بنظرية الشروع‪ ،‬فال يمكن تصوره إال في‬
‫الجرائم المادية ذات النتائج‪ ،‬دون الجرائم الشكلية ذات السلوك المجرد‪ ،‬كون العدول يفترض البدء في تنفيذ الفعل‬

‫]‪[123‬‬
‫والتوقف قبل تحقق النتيجة‪ ،‬وبالتالي عدم تحقق النتيجة معيار القول بوجود العدول االختياري من عدمه‪ ،‬وما دامت‬
‫النتيجة غير موجودة في الجرائم الشكلية فال مجال للقول فيها ال بالشروع وال بالعدول االختياري‪ ،‬فالجريمة الشكلية إما‬
‫أن تقع تامة وإما أال تقع إطالقا‪.‬‬
‫المطلب الثالث‬
‫عالقة ( صلة أو رابطة) السببية‬
‫‪Le lien de causalité‬‬
‫م ؤدى التصور القانوني لعالقة السببية‪ ،‬هو أنه لكي يكتمل البنيان القانوني للركن المادي للجريمة‪ ،‬ال بد‬
‫أن يرتبط السلوك‪ ،‬فعال كان أو امتناعا‪ ،‬بالنتيجة المحظورة التي تحققت‪ ،‬أي ارتباط السبب بالمسبب]‪ ،[28‬وبعبارة‬
‫أخرى‪ ،‬يجب أن يكون السلوك مسبب النتيجة‪ ،‬فإن أمكن رد هذه النتيجة إلى عامل آخر غير السلوك الذي أتاه الجاني‪،‬‬
‫انقطعت الصلة السببية وانتفت مسؤولية الجاني عن النتيجة التي تحققت‪ ،‬لذلك‪ ،‬وحتى يسأل الشخص يجب أن يكون‬
‫سلوكه سبب حدوث النتيجة المحظورة قانونا‪ ،‬إذ المنطق واعتبارات العدالة تقتضي مسائلة الشخص فقط عن النتائج التي‬
‫كانت ثمرة أفعاله المحظورة‪ ،‬ال النتائج التي كانت ثمرة عامل أو عوامل أخرى‪.‬‬
‫ويجب أال نخلط بين صلة السببية التي تعد من عناصر الركن المادي للجريمة‪ ،‬وبين النية اإلجرامية‬
‫التي تعد من عناصر الركن المعنوي للجريمة – في بعض الحاالت الضيقة‪ ،-‬حيث هذه األخيرة عبارة عن مسألة نفسية‬
‫أو شخصية‪ ،‬تتعلق بالموقف النفسي للجاني من النتيجة التي تحققت‪ ،‬وما إن كان يريدها أم ال‪ ،‬في حين صلة السببية من‬
‫األفكار الموضوعية اللصيقة بماديات الجريمة ال بجوانبها النفسية أو المعنوية‪.‬‬

‫غير أنه في الواقع توجد حاالت يتضح فيها بما ال يدع مجاال للشك‪ ،‬أن الفعل الذي أتاه الجاني هو سبب‬
‫النتيجة المجرمة التي تحققت‪ ،‬وفي هذه الحالة ال إشكال‪ ،‬حيث يعد الركن المادي بأكمله منسوبا للشخص‪ ،‬غير أنه وفي‬
‫حاالت أخرى كثيرة‪ ،‬قد تتداخل عوامل كثيرة بين سلوك الجاني والنتيجة التي تحققت‪ ،‬سواء كانت هذه العوامل سابقة أو‬
‫معاصرة أو الحقة لفعل الجاني‪ ،‬وهو ما قد يعدل أو يؤخر حدوث النتيجة‪ ،‬أو يجعلها تتحقق على نحو مخالف لما ارتآه‬
‫وأراده الجاني‪ ،‬وبالرغم من أن هذه العوامل فيها الخفي والظاهر‪ ،‬المألوف والشاذ‪ ،‬المتوقع وغير المتوقع‪ ،‬القوي‬
‫والضعيف]‪ ...[29‬فكيف لنا أن نحدد سبب النتيجة في مثل هذه الحاالت؟ وبعبارة أخرى‪ :‬كيف لنا الحكم بأن‬
‫سلوك الجاني هو سبب النتيجة؟ وما الحل القانوني لذلك في غياب النص التشريعي؟‬
‫في ظل المشاكل العملية التي أظهرتها مشكلة البحث في عالقة السببية‪ ،‬وفي ظل سكوت المشرع عن‬
‫توضيح معيارها الدقيق‪ ،‬حاول الفقه إيجاد حلول ففقهية لها‪ ،‬محاوال في بداية األمر أن يعطي لها مفهوما علميا‪ ،‬قائال أنه‬
‫للسببية مدلول علمي قبل أن يكون لها مدلول قانوني‪ ،‬لذا يجب استخالص معيار علمي لها ال استنادا للتصور القانوني‪،‬‬
‫مستندين في ذلك لنظرية العالم " جون ستيوارت ميل" الذي عرف السبب علميا‪ ،‬بأنه‪ :‬مجموعة العوامل اإليجابية‬
‫والسلبية التي يستتبع تحققها حدوث النتيجة على نحو الزم‪ ،‬لذلك فالسبب من الناحية العلمية‪ ،‬يعني احتواءه على شرطي‬
‫اللزوم والكفاية في إحداث النتيجة‪ ،‬أي احتوائه على المقومات الالزمة والكافية إلحداث هذه النتيجة‪ ،‬غير أن هذا المفهوم‬
‫العلمي صعب التطبيق في مجال العلوم اإلنسانية عموما‪ ،‬والعلوم القانونية خصوصا‪ ،‬والقانون الجنائي باألخص‪ ،‬كون‬
‫السبب في هذا القانون عبارة عن سلوك إنساني ال يمكن عزله عن األسباب األخرى المعاصرة أو السابقة أو الالحقة له‪،‬‬
‫وال يمكن تجريده والحكم عليه بمعزل عن مجمل الظروف والمالبسات المحيطة به‪ ،‬لذا فالسببية في المجال الجنائي ال‬
‫يمكن أن تخلو من الجوانب الشخصية والنفسية‪ ،‬لذلك من الصعب بمكان الحكم عن مدى صالحية السلوك في إحداث‬
‫النتيجة دون األخذ بعين االعتبار الموقف النفسي للجاني‪ ،‬لذلك فشل هذا االتجاه‪ ،‬وظهرت محاوالت فقهية أخرى بنت‬
‫حلولها على العديد من النظريات الفقهية‪ ،‬نذكر أهمها في النقاط التالية‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫نظرية تعادل األسباب‬
‫( نظرية األسباب المتكافئة)‬

‫]‪[124‬‬
‫نادى بهذه النظرية فريق من الفقه األلماني وعلى رأسهم الفقيه " فان بورغ ‪ ،" Van Burg‬ومقتضاها‬
‫أن جميع األسباب التي تساهم في إحداث النتيجة تتعادل وتتساوى ويكون كل من ساهم في إحداث إحداها مسؤوال مع‬
‫البقية‪ ،‬أي أن كل األسباب والعوامل التي تتدخل إلى جانب فعل الجاني تعد مسببة للنتيجة متى ساهم معها فعل الجاني‬
‫في إحداث النتيجة‪ ،‬بغض النظر عن دور باقي األسباب األخرى‪ ،‬وسواء كانت سابقة عن فعله أو معاصرة له أو الحقة‬
‫عليه‪ ،‬وال تهم طبيعة هذه العوامل‪ ،‬وما إن كانت مألوفة أو شاذة‪ ،‬قوية‬
‫أو ضعيفة‪ ،‬أو حتى ولو تداخل معها خطا المجني عليه]‪ ،[30‬أو خطا الغير]‪ ،[31‬أو القوة القاهرة]‪ ،[32‬أو حتى ولو‬
‫كانت راجعة لفعل الطبيعة كالزالزل والفيضانات والعواصف‪ ،‬ألن فعل الجاني في مثل هذه الحاالت‪ ،‬يصبح جزءا من‬
‫سبب آخر" سبب السبب"‪ ،‬أي العوامل األخرى ما كانت لتحدث النتيجة لوال فعل الجاني‪ ،‬حتى ولو كان ضعيفا مقارنة‬
‫بها‪ ،‬أو دوره ضئيال مقارنة بدور باقي األسباب والعوامل األخرى‪ ،‬إذ فعل الجاني وفقا لهذه النظرية‪ ،‬يكفي أن يكون‬
‫موجودا ضمن طائفة من األسباب األخرى‪ ،‬حتى يمكن القول بأنه سبب في حدوث النتيجة‪ ،‬ألنه لوال فعله لما تعاقبت‬
‫األحداث على هذا النحو‪ .‬ووفقا لهذه النظرية تترتب العديد من النتائج القانونية التي تنعكس على باقي أفكار قانون‬
‫العقوبات‪ ،‬تقتضي منا تناولها قبل الخوض في تقدير النظرية ككل‪.‬‬

‫أوال‪ :‬نتائج نظرية تعادل األسباب‬


‫يترتب على منطق نظرية تعادل األسباب العديد من النتائج القانونية التي يمكننا أن نوجزها في النقاط‬
‫التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬الجاني مسؤو ل دوما عن الجريمة حتى ولو تداخلت إلى جانب سلوكه أسباب أخرى ساهمت معه في إحداث‬
‫النتيجة‪ ،‬حتى وإن كانت غير متوقعة وال مألوفة‪ ،‬كالحالة الصحية السيئة للمجني عليه‪ ،‬أو انهيار المستشفى الذي كان‬
‫يعالج به المجني عليه‪،‬‬
‫‪ -2‬ال تنقطع الصلة السببية بين فعل الجاني والنتيجة حتى ولو تداخلت العديد من األسباب األخرى معه‪ ،‬سواء‬
‫كانت معاصرة لسلوكه أو سابقة له أو الحقة عليه‪ ،‬كتأخر المجني عليه في عرض نفسه على الطبيب‪ ،‬أو خطا هذا‬
‫األخير في عالج المجني عليه‪.‬‬
‫‪ -3‬ال تنتفي صلة السببية بين سلوك الجاني والنتيجة المحظورة‪ ،‬حتى ولو كانت النتيجة ستتحقق حتما‪ ،‬إال أن‬
‫سلوك الجاني عجل بحدوثها أو ضاعف في حجمها‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬تقدير نظرية تعادل األسباب‬
‫ج اءت نظرية تعادل أو تكافؤ األسباب بمعيار سهل ويسير اإلثبات في استخالص عالقة السببية‪ ،‬إذ‬
‫يكفي أن يكون سلوك الجاني قد ساهم في تسلسل الوقائع ليعد الفعل الذي لواله لما وقعت النتيجة‪ ،‬إال أن الفقه وجه سهام‬
‫النقد لهذه النظرية‪ ،‬ألنها تنطوي على إثقال كاهل الجاني وتشدد عليه المسؤولية‪ ،‬وهو أمر مخالف للعدل والمنطق‪،‬‬
‫وإعمالها أيضا يؤدي إلى نتائج في غاية الغرابة‪ ،‬وكذا من الناحية القانونية‪ ،‬إعمال هذه النظرية يؤدي إلى إلغاء فكرة‬
‫االشتراك في الجريمة‪ .‬كما قيل بأن هذه النظرية تتناقض مع نفسها‪ ،‬فتقر بداية التعادل بين األسباب‪ ،‬ثم تختار من بينها‬
‫سبب الجاني فقط وتلقي عليه كامل المسؤولية‪ ،‬وتحمله المسؤولية حتى عن األسباب النادرة الحدوث‪ ،‬مثل الحريق الذي‬
‫يهب في المستشفى‪ ،‬أو تهدمه‪ ،‬أو وقوع زلزال‪...‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫نظرية السبب المنتج‬
‫( السبب المباشر أو الفعال )‬

‫]‪[125‬‬
‫وهي نظرية من ابتكار الفقه األنجلوسكسوني]‪ ،[33‬وتسمى أيضا نظرية السبب الفوري أو السبب‬
‫النشيط أو السبب األقوى‪ ،‬والتي ترى وجوب اتصال النتيجة اتصاال مباشرا بفعل الجاني‪ ،‬كونه السبب األقوى‬
‫أ و المباشر أو األساسي في إحداث النتيجة مقارنة مع األسباب األخرى‪ ،‬بمعنى أن الفاعل يسأل عن النتيجة الضارة‬
‫التي جرم المشرع حدوثها‪ ،‬متى كان فعله سببا قويا وأساسيا إلحداثها وفقا للمجرى العادي لألمور‪ ،‬ومؤدى هذه النظرية‬
‫باختصار‪ ،‬هو أن نطرح السؤال التالي‪ :‬هل الفعل الذي ارتكبه الجاني‪ ،‬باستبعاد العوامل األخرى التي تظارفت معه‪،‬‬
‫قادر لوحده على إحداث النتيجة الضارة التي وقعت؟‪ .‬فإن كان الجواب باإليجاب‪ ،‬فإن الجاني يعد مسؤوال عن النتيجة‬
‫التي حدثت‪ ،‬كما يعد مسؤوال عن كل النتائج األخرى المحتملة‪ ،‬سواء توقعها أو لم يتوقعها‪ ،‬ما دام أمر حدوثها وفقا‬
‫للمجرى العادي لألمور ممكن التصور‪ ،‬وإن كان الجواب عن السؤال السابق بالنفي‪ ،‬فالجاني ال يسأل عن النتيجة كون‬
‫فعله لم يكن سببا في حدوثها‪.‬‬
‫أوال‪ :‬معيار النظرية‬
‫يتضح مما سبق‪ ،‬بأن أنصار هذه النظرية أخذوا بمعيار مادي موضوعي‪ ،‬ال معيار شخصي‪ ،‬ألنها‬
‫نظرية تأخذ بتقدير األسباب‪ ،‬وهي أمور موضوعية ال دخل لشخصية الجاني فيها‪ ،‬ومعيار كل ذلك‪ ،‬معيار الرجل‬
‫العادي الذي يوضع في نفس الظروف التي تواجد بها الجاني‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬تقدير النظرية‬
‫بالرغم من وجاهة النظرية‪ ،‬إال أنها لم تسلم بدورها من سهام النقد‪ ،‬وأهم االنتقادات التي وجهت لها‪ ،‬هو‬
‫عدم وضوح معيارها‪ ،‬أي المعيار الذي يمكن من تحديد السبب المباشر واألساسي من بين سائر األسباب األخرى غير‬
‫المباشرة‪ ،‬وأن القول بوجود سبب واحد للجريمة في ظل تعدد مسبباتها هو قول تعوزه الدقة]‪ ،[34‬لذلك نجد الفقه قد جاء‬
‫بنظرية أخرى‪ ،‬تعد لغاية اليوم‪ ،‬وبإجماع الفقه‪ ،‬أفضل النظريات التي قيل بها في صدد بحث مشكلة صلة السببية‪ ،‬والتي‬
‫أخذت بها معظم التشريعات الجنائية‪ ،‬سواء بصفة صريحة أو بصفة ضمنية‪ ،‬كما تبناها القضاء في العديد من الدول‪،‬‬
‫وهي نظرية السبب المالئم‪ ،‬التي نتناولها في الفرع الموالي‪.‬‬
‫الفرع الثالث‬
‫نظرية السبـــب المالئم‬
‫و هي نظرية‪ ،‬على عكس النظريات السابقة‪ ،‬أقامها أنصارها على معيار بسيط يشبه نوعا ما المعيار‬
‫الذي تبنته النظرية السابقة‪ ،‬ومفاد هذا المعيار طرح السؤال التالي‪ :‬هل باستطاعة فعل الجاني بحسب المجرى‬
‫العادي لألمور‪ ،‬إحداث النتيجة بالرغم من تداخل عوامل أخرى معه؟]‪ .[35‬وهي بذلك نظرية ال يأخذ أنصارها‬
‫بكل العوامل مثلما فعلت النظرية األولى‪ ،‬وال تستبعد كل العوامل مثلما فعل أنصار نظرية السبب المنتج‪ ،‬بل تأخذ فقط‬
‫بالعوامل المألوفة التي يعلم بها الجاني أو يتوقعها على األقل‪ ،‬ومعيار التفرقة بين العوامل المألوفة والعوامل الشاذة غير‬
‫المألوفة‪ ،‬هو معيار العلم‪ ،‬أي متى كان يعلم الجاني أو يتوقع بعض العوامل المصاحبة لنشاطه كان العامل مألوفا وال‬
‫يمنع من مسائلته‪ ،‬وإن كان يجهل ذلك‪ ،‬عد العامل غير مألوف ويقطع اللصة بين النتيجة وفعله‪.‬‬
‫غير أن أهم انتقاد وجه إلعمال هذا المعيار‪ ،‬أنه معيار شخصي ونسبي ينقلنا من إطار الركن المادي إلى إطار‬
‫الركن المعنوي‪ ،‬في حين صلة السببية عنصر هام من عناصر الركن المادي يجب أن يستبعد من محيطها كل العوامل‬
‫النفسية والشخصية‪ ،‬ويركز فيها فقط على المسائل واألمور المادية الموضوعية‪ .‬كما أنه ال وجود لضابط يمكن من‬
‫الحكم بعلم الجاني بالعوامل من عدمه‪ .‬لذا صحح أنصار هذه النظرية موقفهم‪ ،‬وقالوا بمعيار الرجل العادي]‪ ،[36‬عوض‬
‫معيار العلم‪ ،‬وهو التصحيح الذي جعل منها من أكثر نظريات السببية قبوال‪ ،‬وأخذت بها غالبية التشريعات بما فيها‬
‫المشرع الجزائري في نظرنا‪.‬‬
‫غير انه يمكننا القول كخالصة‪ ،‬بأن أي من النظريات السابقة‪ ،‬وبالرغم مما قدمته من إضاءة لكثير من جوانب‬
‫رابطة السببية في مجال الركن المادي للجريمة‪ ،‬إال أنها لم تحل بصفة نهائية وحاسمة مشاكل هذه الفكرة القانونية‪،‬‬
‫ودليل ذلك هو تشتت الفقه بالرغم من ثراءه‪ ،‬واضطراب القضاء بالرغم من اجتهاده‪ ،‬لذا فتردد المشرع عن تكريس‬
‫معيار واضح ودقيق لرابطة السببية‪ ،‬ال يخلو من دالالت‪ ،‬وذلك بالنظر ألسباب التالية‪:‬‬

‫]‪[126‬‬
‫‪-1‬إن رابطة السببية ذاتها تستعصي عن التعريف وفق مفهوم مطلق ومجرد‪ ،‬ألن الفعل أو السلوك اإلنساني‬
‫يصعب تجريده بمعزل عن الظروف والعوامل المختلفة المحيطة به‪ ،‬لذا فمثل هذا السلوك يتميز بطابع خاص نسبي‬
‫وشخصي أيضا تجعله يختلف من شخص آلخر‪ ،‬بل لدى الشخص الواحد من حالة ألخرى‪ ،‬ومن هذه العوامل‬
‫والظروف‪ ،‬طبيعة الفع ل نفسه وزمان ومكان ارتكابه‪ ،‬ووسيلة تنفيذه‪ ،‬والمحل الذي يرد عليه‪ ...‬لذا يجب الخروج من‬
‫إطار المفهوم المطلق المجرد لعالقة السببية إلى إطار الفهم الواقعي النسبي لها‪ ،‬وذلك ال يمكن إال بتبني معيار‬
‫واقعي ونسبي لهذه العالقة‪ ،‬يأخذ بعين االعتبار ظروف كل واقعة على حدة‪ ،‬وذلك ال يمكن أن يتأتى إال بإعطاء القاضي‬
‫سلطة تقديرية تمكنه من استخالص هذه الرابطة من خالل الوقائع المعروضة عليه والظروف والمالبسات المحيطة بها‪.‬‬
‫‪ -2‬انطالقا من التصور الواقعي النسبي لعالقة السببية‪ ،‬يجب البحث فيما إن كان السلوك هو مسبب النتيجة في‬
‫إطار كل قضية على حدة‪ ،‬وعلى أن يكون هذا السلوك متفوقا نسبيا على باقي العوامل األخرى التي سبقته أو صاحبته‬
‫أو تلته‪ ،‬وهذا التفوق النسبي ال يستخلص استخالصا مجردا‪ ،‬بل يستخلص واقعيا بالنظر لكافة الظروف والمالبسات‬
‫المحيطة بالسلوك‪ ،‬وعلى ضوء دراسة كل العوامل بما فيها الشخصية‪ ،‬ومن أهم المعايير التي قد تعين القاضي في ذلك‪:‬‬
‫طبيعة الجريمة وما إن كانت من الجرائم العمدية أو جرائم الخطأ‪ ،‬بحيث ما قد يصلح الستخالص العالقة السببية في‬
‫النوع األول‪ ،‬قد ال يصلح الستخالصها في النوع الثاني‪ .‬شخصية الجاني‪ ،‬وبحث مدى قدرته على التقدير ومدى قدرته‬
‫على العلم بما يتعين عليه أن يعلمه‪ ،‬ألن سلوك اإلنسان يصعب تقديره بمعزل عن صاحبه‪ .‬مراعاة زمان ومكان ارتكاب‬
‫الجريمة‪ ،‬ألن ما يمكن أن يكون سببا للجريمة في النهار في ظل الحركة واالزدحام‪ ،‬قد ال يمكنه أن يكون كذلك في‬
‫الليل‪ ،‬وما يمكن أن يصلح ألن يكون سببا للجريمة في مكان قد ال يصلح ألن يكون كذلك في مكان آخر‪ .‬شخصية‬
‫المجني عليه وسنه وظروفه الصحية والنفسية لها دور كبير في تقدير ما إن كان فعل الجاني هو السبب المباشر في‬
‫إحداث النتيجة الضارة‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ ،‬يجب الخروج بصلة السببية من إطار المفهوم المجرد المطلق إلى رحاب الفهم‬
‫الواقعي النسبي‪ ،‬كون النظريات السابقة‪ ،‬وإن أضاءت جوانب هذه الفكرة القانونية المعقدة‪ ،‬غير أن أي من هذه‬
‫النظريات لم يحل بصفة نهائية مسألة السببية‪ ،‬ودليل ذلك أن أحكام القضاء ال تزال مترددة ومن العسير ردها إلى نظرية‬
‫من النظريات‪ ،‬وذلك داخل البلد الواحد‪ ،‬إذ في الدولة الواحدة يتراوح القضاء أحيانا من النقيض إلى النقيض‪ .‬لذلك يمكن‬
‫القول بفإن المشرع الذي يعزف عن تكريس معيار للسببية له ما يبرره‪ ،‬كون صلة السببية تستعصي أحيانا على‬
‫التعريف وفق مفهوم مجرد مطلق‪ ،‬كون الفعل اإلنساني يصعب تجريده من ظروف وعوامل شتى تعطي له خصوصيته‬
‫وطابعه النسبي‪ .‬لذا فمن الضروري األخذ بعين االعتبار كل العوامل والظروف المحيطة بسلوك اإلنسان‪ ،‬وعلى‬
‫ضوئها يتم تقدير عالقة السببية‪ ،‬لذا يجب أن يكون السلوك المسبب للنتيجة متفوق نسبيا عن باقي العوامل األخرى‪ ،‬وهو‬
‫التفوق الذي يستخلصه قضاة الموضوع واقعيا ومن خالل كافة الظروف والمالبسات المحيطة بهذا السلوك‪ ،‬في كل‬
‫قضية على حدة وعلى ضوء شخصية الجاني ذاته‪ .‬كما تختلف باختالف أنواع الجرائم‪ ،‬فما قد يصلح معيار الستخالص‬
‫عالقة السببية في جريمة قتل عمدي‪ ،‬قد ال يصلح ألن يكون كذلك في جريمة قتل خطأ‪ ،‬وأنه ال يمكن إعمال المقومات‬
‫المادية على حساب المقومات الشخصية‪ ،‬فيجب أن تقدر صلة السببية بناء على مقومات السلوك المادية‪ ،‬ومقومات‬
‫شخصية تستفاد من علم الجاني أو بما ينبغي عليه العلم به‪ ،‬لذا فعالقة السببية تقوم على الفهمين المادي والشخصي‪ ،‬أي‬
‫على الركنين المادي والمعنوي‪ ،‬فالسلوك اإلنساني مهما كان ليس مادة مخبرية يتم إخضاعها للتجارب في المخبر‪ .‬لذا‬
‫يجب إعطاء القضاء سلطة في استخالص صلة السببية‪ ،‬كون الحكم الذي يأتي خاليا من بيان البناء القانوني للجريمة‬
‫يكون مشوبا بالقصور ويتعين نقضه‪ ،‬والدفع بانتفاء صلة السببية من الدفوع الجوهرية التي يتعين على المحكمة‬
‫تمحيصها والرد عليها‪ ،‬لكن القول بوجود أو انتفاء الصلة السببية من المسائل الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع‬
‫بتقديرها دون رقابة من محكمة النقض‪ ،‬غير انه لهذه األخيرة رقابة على المعيار المعتمد من قبل محكمة الموضوع‬
‫الستخالص هذه الصلة‪.‬‬

‫]‪[127‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫المحاولة أو الشروع كصورة ناقصة للركن المادي‬
‫ع ادة ما يكتمل البنيان القانوني للجريمة بتوافر أركانها الثالثة العامة‪ ،‬الركن الشرعي والركن المادي‬
‫والركن المعنوي‪ ،‬وهو الوضع الغالب والطبيعي لكل الجرائم‪ ،‬غير أن المشرع يتدخل أحيانا ويجرم بعض المظاهر‬
‫السلوكية التي ال تكتمل لها كل هذه األركان والعناصر‪ ،‬سيما ما يتعلق منها بالركن المادي للجريمة‪ ،‬فإن كان األصل أن‬
‫المشرع ال يعاقب إال على األفعال التي اكتملت ورتبت النتائج التي يعتد بها قانونا‪ ،‬إال أنه يتدخل أحيانا بالعقاب دون أن‬
‫يصل هذا الركن لهذه المرحلة‪ ،‬وهو الوضع في حال بعض الجرائم الناقصة التي تسمى شروعا‪ .‬لذا قلنا بأن للركن‬
‫المادي للجريمة صورا خاصة‪ ،‬تخرج عن إطار النموذج القانوني المكتمل والعادي للجريمة‪ ،‬والمتمثل في ارتكاب‬
‫شخص لجريمة تامة فيعاقب عليه‪ ،‬وهو وضع جريمة الشروع وفكرة المساهمة الجنائية‪ ،‬التي نتناول كل منهما في‬
‫مبحث مستقل‪.‬‬
‫وقد سبق القول بأن الركن المادي للجريمة – سيما في الجرائم المادية ذات النتائج‪ -‬يتطلب أن يترتب عن سلوك‬
‫الجاني نتيجة محظورة قانونا‪ ،‬وأن تربط بينهما رابطة سببية ليكتمل الركن المادي قانونا‪ ،‬لكن قد يحدث وأن يقوم‬
‫الجاني بسلوكه المحظور كامال‪ ،‬غير أن النتيجة ال تتحقق‪ ،‬أو أن يبدأ في سلوكه هذا وال يكمله‪ ،‬سواء من تلقاء نفسه‪ ،‬أو‬
‫نتيجة تدخل عوامل أخرى خارجة عن إرادته‪ ،‬وفي كلتا الحالتين يعد الجاني قد شرع في فعله المجرم كله أو بعضه دون‬
‫أن يكتمل الركن المادي للجريمة‪ ،‬وهو ما يسمى الشروع في الجريمة أو المحاولة فيها‪ .‬وهو وضع يعني انه شرع في‬
‫ارتكاب الجريمة‪ ،‬غير أنها لم تكتمل‪ ،‬مما يجعلها عبارة عن جريمة ناقصة أوقفت في مراحها األولى‪ ،‬أو استكمل‬
‫السلوك فيها وخاب أثرها لسبب خارجي ال دخل إلرادة الجاني فيه‪ .‬وذلك حتى نكون بصدد جريمة الشروع المعاقب‬
‫عليه‪ ،‬ألنه لو كانت إلرادة الجاني دخل في وقف الجريمة‪ ،‬لكنا أمام فكرة العدول االختياري التي تنفي جريمة الشروع‬
‫أصال‪ .‬لذا سنحاول أن نبين معنى الشروع وأنواعه والعلة من العقاب عليه‪ ،‬في هذا التمهيد‪ ،‬لنخصص المطالب ألركان‬
‫جريمة الشروع فقط‪ ،‬بالنظر لخصوصية هذه األركان في هذا النوع من الجريمة‪.‬‬
‫أوال‪ :‬مفهوم جريمة الشروع‬
‫عرف البعض الشروع بأنه‪ :‬الحاالت التي يفشل فيها الفاعل في تحقيق جريمته‪ ،‬أي ال تتحقق النتيجة المادية‬
‫المطلوبة لقيام الجريمة‪ ،‬ورغم ذلك تم تعريض المصالح والحقوق المحمية قانونا للخطر‪ ،‬ألن الشروع ينطوي على‬
‫احتمال اإلجهاز عليها في حال البدء في تنفيذ الجريمة‪ .‬لذا يمكننا القول‪ ،‬أن الشروع اعتداء محتمل على مصلحة أو حق‬

‫]‪[128‬‬
‫محمي جنائيا‪ ،‬والمشرع يحمي هذه األخيرة من االعتداءات الفعلية ومن مجرد احتمال وقوع مثل هذه االعتداءات]‪،[37‬‬
‫لذا فالشروع جريمة توافر فيها الركن المعنوي ولكن تخلف فيها اكتمال الركن المادي فقط‪ ،‬سواء كان هذا التخلف‬
‫بصورة جزئية أو كلية ونكون أمام جريمة ناقصة‪ ،‬وهذا النقص في البنيان القانوني للركن المادي للجريمة ينصب‬
‫تحديدا على عنصر النتيجة القانونية التي لم تتحقق لسبب ال دخل إلرادة الجاني فيه‪ ،‬وبالتالي تصوير جريمة الشروع‬
‫على النحو السابق‪ ،‬يستدعي إدراج المالحظات التالية‪:‬جوهر الشروع أنه جريمة ناقصة‪ ،‬وهذا النقص ينحصر فقط في‬
‫تخلف تحقق النتيجة‪ ،‬رغم ارتكاب السلوك المجرم كله أو في جزء منه‪.‬وتبعا لما سبق‪ ،‬الشروع ال يثور كأصل عام‪ ،‬إال‬
‫بالنسبة للجرائم المادية ذات النتائج‪ ،‬وبالتالي فهو غير ممكن التصور في الجرائم الشكلية ذات السلوك المجرد المحض‬
‫– وقد سبقت اإلشارة لذلك‪ -‬كونها في جوهرها جرائم تمثل مرحلة الشروع‪ ،‬وبالتالي ال يمكن تصور الشروع في‬
‫الشروع‪ .‬الشروع جريمة لم يكتمل ركنها المادي‪ ،‬لكن الركن المعنوي فيها يبقى ركنا أساسيا ال يمكن تصور قيامها‬
‫بدونه‪ ،‬وتلك إذن الحكمة من العقاب على الشروع‪ ،‬وبالتالي يمكن القول مبدئيا‪ ،‬بأنه ال شروع في الجرائم غير العمدية‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬الهدف أو العلة من العقاب على الشروع‬
‫في حقيقة المر ثار السؤال في بعض الدول عن العلة من العقب عن جريمة الشروع‪ ،‬خاصة وان‬
‫المشرع يعاقب على االعتداءات الفعلية على المصالح والحقوق المحمية قانونا‪ ،‬كما ثار تساؤل آخر حول قدر العقاب‬
‫عن جريمة الشروع‪ ،‬وما إن كان يجب أن يكون مساويا للعقاب عن الجريمة التامة أم اقل أم أكثر ؟‬
‫فبخصوص العلة من العقاب]‪ ،[38‬يرى الفقه أن الشروع كجريمة وإن كان قد خاب أثرها ولم تعد تشكل‬
‫اعتداء فعليا‪ ،‬فإنها تحولت إلى اعتداء محتمل أو خطر يهدد المصالح والحقوق المحمية قانونا‪ ،‬وأن المشرع مثلما يحمي‬
‫ه ذه الحقوق من االعتداءات الفعلية‪ ،‬فإنه يحميها أيضا من االعتداءات المحتملة‪ ،‬والشروع جريمة تهدد بالخطر‪،‬‬
‫ومصدر هذا الخطر أفعال مادية ملموسة والتي حتى وإن كانت ناقصة‪ ،‬إال أنها تعد بادرة الرتكاب الجرائم وتنبئ‬
‫بخطورة إجرامية لدى فاعلها أو القائم بها‪ .‬لذا يعبر بعض الفقه في هذا النوع من الجرائم‪ ،‬بأنه بالرغم من تخلف النتيجة‬
‫المحظورة قانونا‪ ،‬إال أن الجريمة قد تمت من الناحية الشخصية‪ ،‬لكنها خابت من الناحية المادية‪ ،‬وأن االضطراب الذي‬
‫تحدثه الجريمة الخائبة في المجتمع‪ ،‬أشد خطورة من االضطراب الذي يحدثه الشروع البسيط‪ ،‬الذي يقصد به عدم‬
‫اكتمال السلوك‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬أنواع الشروع ومجال تطبيقه‬
‫نصت المادة ‪ 30‬من قانون العقوبات الجزائري‪ ،‬على أنه‪ " :‬المادة ‪ ": 30‬كل المحاوالت الرتكاب‬
‫جناية تبتدئ بالشروع في التنفيذ أو بأفعال ال لبس فيها تؤدي مباشرة إلى ارتكابها‪ ،‬تعتبر كالجناية نفسها إذا لم توقف أو‬
‫لم يخب أثرها إال نتيجة لظروف مستقلة عن إرادة مرتكبها حتى ولو لم يمكن بلوغ الهدف المقصود بسبب ظرف مادي‬
‫يجهله مرتكبها‪ ، ".‬ونصت المادة ‪ ": 31‬المحاولة في الجنحة ال يعاقب عليها إال بناء على نص صريح في القانون‪.‬‬
‫والمحاولة في المخالفة ال يعاقب عليها إطالقا‪ .".‬من نص المادة ‪ 30‬يتضح أنه للشروع صورتين‪ ،‬صورة الجريمة‬
‫الخائبة التي يفرغ فيها الجاني كل نشاطه المادي ورغم ذلك ال تتحقق النتيجة المحظورة قانونا‪ ،‬لظروف مستقلة عن‬
‫إرادة الجاني أو لظروف مادية يجهلها أصال‪ ،‬وهو ما بينته الفقرة الثانية من المادة ‪ .30‬مستعملة عبارة " لم يخب‬
‫أثرها"‪ ،‬بينما بينت الفقرة األولى صورة الشروع الناقص أو الجريمة الناقصة أو الجريمة الموقوفة‪ ،‬وهي الصورة التي‬
‫لم يكتمل فيها السلوك أصال‪ ،‬كون الجاني أوقف‪ -‬لم يتوقف بمحض إرادته‪ -‬لذا استعملت المادة عبارة " إن لم توقف"‬
‫المقصود بها اإليقاف االضطراري‪ ،‬لكون العدول االختياري يخرجنا أصال من نطاق جريمة الشروع‪.‬‬
‫و بالتالي يمكننا القول بأن الشروع إما أن يكون تاما وتقابله الجريمة الخائبة التي لم تتحقق فيها النتيجة‬
‫المحظورة قانونا‪ ،‬لكنها تبقى ممكنة الوقوع‪ ،‬والجريمة المستحيلة‪ ،‬وشروع ناقص وتقابله الجريمة الموقوفة ألن السلوك‬
‫فيها أوقف قبل اكتماله‪ ،‬وقبل انتظار تحقق النتيجة من عدمه‪ ،‬على أن يكون هذا التوقف اضطراريا ال اختياريا‪ ،‬ألنه‬
‫سبق القول أن العدول االختياري ينفي جريمة الشروع تماما‪ .‬وبالتالي الشروع نوعان‪ ،‬شروع تام وشروع ناقص وهما‬
‫نوعا أو صورتا الشروع‪.‬‬
‫أما فيما يخص مجال تطبيق نظرية الشروع‪ ،‬فيمكننا القول من خالل استقراء المادتين ‪ 30‬و‪ 31‬من‬
‫تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬بأن الشروع متصور في كل أنواع الجنايات بحسب المادة ‪ 30‬ق ع ج‪ ،‬وفي الجنح في‬

‫]‪[129‬‬
‫الحاالت التي يوجد فيها نص صريح يعاقب على الشروع بحسب المادة ‪ ،[39]1/31‬وال شروع إطالقا في مجال‬
‫المخالفات التي إما أن تتم كاملة أو ال تتم أصال بحسب المادة ‪ 2/31‬ق ع ج‪ .‬وعلة عدم العقاب على الشروع في‬
‫المخالفات هو أنها جرائم بسيطة ال تنطوي على خطورة إجرامية كبيرة لدى الجاني‪ ،‬في حين أن العقاب على الشروع‬
‫قرر أصال لمواجهة الخ طورة اإلجرامية لدى الجناة‪ .‬كما أن المخالفات في العادة عبارة عن صور سلوكية تقع بالمخالفة‬
‫ألمور تنظيمية وإدارية‪ ،‬ارتأى فيها المشرع العقاب على السلوك ذاته‪ ،‬ال النتائج المترتبة عنه‪.‬‬
‫وعموما يمكن القول أن الشروع عبارة عن جريمة شأنه شأن الجرائم التامة‪ ،‬وكل ما في األمر أن الركن‬
‫المادي فيه غير مكتمل العناصر‪ ،‬لذا ال بد وأن تكتمل هل باقي األركان الالزمة لقيام الجرائم‪ ،‬وهي األركان العامة‬
‫الثالثة المعروفة‪ ،‬الركن الشرعي والركن المادي والركن المعنوي‪ ،‬وإن كان الركن الشرعي ال يثير أي إشكال‪ ،‬بحيث‬
‫القاعدة العامة في العقاب على الشروع في الجنايات هي المادة ‪ ،30‬وفي الشروع في الجنح نص المادة ‪ 1/31‬باإلضافة‬
‫إلى النص الخاص الذي يعاقب على الجنحة‪ ،‬كما ال يثير الركن المعنوي أي إشكال‪ ،‬بحيث هو نفسه الركن المعنوي‬
‫المشترط في الجرائم التامة‪ -‬ولنا عودة إلى ذلك‪ -‬ويبقى الركن المادي هو الذي يثير بعض الصعوبات‪ ،‬بحيث سبق القول‬
‫بأن معيار التفرقة بين الجرائم التامة وجرائم الشروع هو عدم اكتمال الركن المادي في األخيرة‪ ،‬األمر الذي يثير بعض‬
‫الصعوبات حول المرحلة التي يجب أن يصل فيها التنفيذ المادي للسلوك‪ ،‬ومعيار التفرقة بين المراحل المعاقب عليها من‬
‫المراحل غير المعاقب عليها‪ ،‬وكذا معيار التفرقة بين العدول المعاقب عليه والعدول غير المعاقب عليه‪ .‬والموقف من‬
‫نوع من الجرائم تسمى ‪ ":‬بالجرائم المستحيلة" لذا فالمطالب التي سنتناولها في حقيقة األمر تخص عناصر الركن المادي‬
‫غير المكتمل في جريمة الشروع‪ ،‬ألنه سبق القول بان الركنين الشرعي والمعنوي ال يثيران أي إشكال‪ ،‬وإن كنا سنعود‬
‫للركن المعنوي في األخير بنوع من التفصيل المختصر‪ ،‬لتبيان بعض األوضاع‬
‫الخاصة‪.‬‬

‫]‪ - [1‬في قضية حكم فيها في فرنسا بتاريخ ‪ 1959-02-19‬وتسمى ‪ L’ affaire Reminiac‬وتتلخص وقائعها في أن‬
‫شخص يملك منزال ويشغل خادمة لديه‪ ،‬وهي الخادمة التي اعتادت مالقاة عشيقها في حديقة المنزل وعلم صاحب المنزل بذلك‪،‬‬
‫فاستغل نص حاالت الدافع الممتازة المنصوص عليها بالمادة ‪ 329‬من تقنين العقوبات الفرنسي وأطلق النار على عشيق الخادمة‬
‫مما أدى لقتله‪ ،‬ولما ثبت لمحكمة النقض أن صاحب المنزل يعرف بغرض الشخص‪ ،‬فال يجب أن يستفيد من قرينة الدفاع‬
‫الممتاز‪،‬ومنذ ذلك الحين لم تعد بالقرينة القاطعة التي ال تقبل إثبات العكس‪.‬‬
‫]‪ - [2‬قرار في‪ 2003-09-29 :‬الملف رقم ‪ ": 316770 :‬ال يصلح تطبيق المادة ‪ 40‬على الواقعة المتمثلة في إطالق‬
‫النار من طرف المتهم على الضحية بحجة أن هذه األخيرة تهجمت عليه وضربته بكماشة‪ ".‬وفي نفس القرار ‪ ":‬تقتضي الضرورة‬
‫الحالة للدفاع تبرير عدم وجود طريقة أو وسيلة لتفادي المواجهة واللجوء لرد االعتداء‪".‬‬
‫]‪ - [3‬م ا دام المشرع الجزائري أجاز اشد الجرائم جسامة‪ ،‬قد يفهم من النص أنه يجيز ضمنيا ما دون ذلك من جرائم‪.‬‬
‫]‪ - [4‬حيث أن صاحب المسكن بمجرد رؤيته المعتدي يقوم بهذه األفعال‪ ،‬فله اللجوء إلى صدها باألفعال السابقة‪ ،‬كوننا‬
‫بصدد ال ليل الذي ال يترك فرصة للتقدير وال لمعرفة شخص المعتدي أو عددهم وما يمكن أن يكون يحمله من أسلحة‪ ،‬بشرط أن‬
‫يكون حسن النية‪ ،‬ال أن يكون يعلم بأنه ضيف أو شخص سبق له هو أن طلب منه المجيء ليال مرتبا المسألة بغرض االنتقام منه‬
‫واالستفادة من هذه الحاالت‪ ،‬أو غير ذلك من مخططات غير مشروعة‪ ،‬لذا سبق لمحكمة النقض الفرنسية أن قضت بأنها قرينة‬
‫تقبل إثبات العكس وفي الجزائر تخضع المسألة للسلطة التقديرية للقاضي يقدرها بناء على ظروف ومالبسات كل قضية على‬
‫حــــــــــدا‪.‬‬
‫]‪ - [5‬وهنا يرى غالبية الفقه أن مفهوم الليل هو المفهوم القانوني ال المفهوم الفلكي‪ ،‬والمفهوم القانوني يستمد من قانون‬
‫اإلجراءات الجزائية المتعلق بالتفتيش ( نص المادة ‪ 47‬التي ال تجيز التفتيش من الساعة الثامنة مساءا حتى الخامسة صباحا زيادة‬
‫على شروط أخرى) وإن كان هذا الرأي صحيح من وجهة النظر القانونية‪ ،‬كون المفهوم الفلكي الليل يختلف باختالف الفصول‬
‫واألشهر‪ ،‬ومدة الليل في الشتاء غيرها في الصيف‪ ،‬غير أن المنطق يجعلنا نرى بأن يعتمد المشرع على المفهوم الفلكي‪ ،‬وذلك في‬
‫نظرنا يكمن في سبب نراه جد وجيه‪ ،‬وهو أن المشرع يدرك خطورة الليل وهي الخطورة النابعة من الظلمة ال من الوقت ذاته‪،‬‬
‫ألن ا لظالم هو الذي ال يسمح بالتقدير والحكم ويحمل الرهبة والخشية والخوف‪ ،‬لذا يجب أن تعطى سلطة تقديرية للقاضي يقدر‬

‫]‪[130‬‬
‫فيها الوقت الذي كان يحل فيه الليل وقت وقوع الحادثة‪ ،‬مستعينا في ذلك بمحاضر الضبطية وحتى باالتصال بمصالح األرصاد‬
‫الجوية‪.‬‬
‫]‪ - [6‬التي نصت على أنه ‪ ":‬يستفيد مرتكب جرائم القتل والجرح والضرب من األعذار إذا ارتكبها لدفع تسلق أو ثقب‬
‫أسوار أو حيطان أو تحطيم مداخل المنازل أو األماكن المسكونة أو ملحقاتها إذا حدث ذلك أثناء النهار‪ .‬وإذا حدث ذلك أثناء‬
‫الليل فتطبق أحكام الفقرة األولى من المادة ‪."40‬‬
‫]‪ - [7‬وتثار هنا مسألة القتل الرحيم أو القتل بدافع الشفقة أو القتل إشفاقا‪ ،‬وهو موضوع شائك في الفقه والقضاء‪،‬‬
‫مثلها مثل مسألة أخرى ال تقل أهمية هي مسألة االنتحار‪ ،‬والراجح فقها وقضاء أن القتل الرحيم يعتبر جريمة قتل متكاملة األركان‬
‫وال يعتد بالباعث على ارتكابها باعتبار أنه ال وزن للبواعث في قيام الجريمة‪ ،‬وهي جريمة ال زالت تثير الكثير من الجدل الديني‬
‫والفلسفي والقانوني‪ ،‬وتصدت بعض التشريعات له فأباحته‪ ،‬واعتبرته تشريعات أخرى عذرا قانونيا مخففا كالتشريع اللبناني (‬
‫المادة ‪ ،)552‬كما تثار مسألة االنتحار وهو شخص هانت عليه نفسه فيهون عليه أي عقاب كما يقال‪ ،‬لكن المسألة ثارت بالنسبة‬
‫للشخص الذي يساعد المنتحر‪ ،‬وهو‪ .‬في القانون الجزائري معاقب عليه‪..‬‬
‫]‪ - [8‬ي رى البعض أن رضا المجني عليه ليس مبررا عاما لإلباحة‪ ،‬بل يجب أن ينظر إليه في بعض أنواع الجرائم فقط‪،‬‬
‫ففي القانون اللبناني التي تقوم على ركن االعتراض على إرادة الغير يعد سببا لإلباحة في حالة وجود رضا المجني عليه‪ ،‬ويرى‬
‫البعض أنه في الجرائم السابقة الجريمة لم تقم أصال ليس لسبب إباحة وإنما لتخلف أحد عناصرها‪.‬‬
‫]‪ - [9‬ويرى البعض‪ ،‬بأن الحقوق التي تعود للدولة ال رضاء فيها‪ ،‬إذ ال يملك ممثل الدولة التنازل عنها‪ ،‬كما أن الرضا‬
‫المقصود قبل ارتكاب الجريمة ال بعدها‪ ،‬ألنه في هذه الحالة يصبح صفحا‪.‬‬
‫و قد قضت بعض المحاكم الفرنسية واألمريكية والبلجيكية بالبراءة في بعض قضايا القتل لتخليص الشخص من‬
‫اآلالم الحادة التي يعاني منها‪ ،‬وحتى في إيطاليا إذ هناك قضايا قتل من يعانون من مرض السرطان حكم فيها بالبراءة بل انه في‬
‫بعضها ممثل النيابة هو الذي طالب بالبراءة‪ ،‬كما قضي ببراءة األم والطبيب الذي سمم المولود المشوه خلقيا‪.‬‬
‫ففي سنة ‪ 1934‬قتلت ممثلة بولونية خطيبها المريض بالسرطان حتى تريحه من آالمه القاسية التي يعاني منها‪،‬‬
‫فقضت محكمة الجنايات ببراءتها‪ ،‬وحتى النيابة العامة طالبت في مرافعتها ببراءتها‪ .‬وفي عام ‪ 1962‬قتل عامل إيطالي آخاه الذي‬
‫يعاني من مرض خطير ويتعذب من جراء األالم فقضت محكمة كولمار ببرائته‪ .‬وسنة ‪ 1950‬قتلت طالبة والدها المريض‬
‫بالسرطان على نحو غير قابل للشفاء والذي يعاني آالما شديدة‪ ،‬فقضت المحكمة ببراءتها‪ ،‬وفي العام ذاته قتل أحد األطباء زوجة‬
‫زميل له كانت مريضة بسرطان غير قابل للشفاء وتعاني أالما ال يمكن تحملها‪ ،‬وقضت المحكمة ببراءته‪.‬‬
‫ومن القضايا التي شغلت القضاء البلجيكي قضية تعرف بقضية ليج ‪ Procès Liége‬تتلخص وقائعها أنه سنة‬
‫‪ 1962‬رزقت أم بطفل مشوه الخلقة متأثرا بما تعاطته من أدوية مهدئة لألعصاب أثناء الحمل‪ ،‬ورغبة في الرحمة بالمولود‬
‫وتخليصه مما يعانيه من آالم مروعة‪ ،‬اتفقت األم مع طبيب األسرة على قتله بالسم‪ ،‬وقد حكم ببراءة كل من األم والطبيب تحت‬
‫تصفيق الجمهور‪ ،‬حيث تأثر بما قالته األم أثناء المرافعة منه‪ ":‬لقد كان أمرا بسيطا للغاية‪ ،‬ولم يكن هناك في الواقع أمر أستطيع‬
‫فعله‪ ،‬وال يمكنني أن أرى طفلي يتعذب كل يوم‪ ،‬إنه أمر يفوق ويتجاوز قدرة البشر‪ .‬إن ضميري ال يؤنبني على اإلطالق"‪.‬‬
‫كما أنه في سنة ‪ 1962‬قتل والد طفلته المريضة بحديقة المنزل‪ ،‬وكانت الطفلة تعاني آالما قاسية تهز بعنف‬
‫قلوب بقية إخوتها‪ ،‬وقضت محكمة جنايات الصين بمعاقبة الوالد بثالث سنوات حبس مع وقف التنفيذ‪.‬‬
‫]‪ -[10‬كانغالق الباب فجأة على شخص وكسره لينقذ حريته‪ ،‬وسرقة الطعام لسد الجوع إن لم يكن بالمقدور الحصول‬
‫عليه بالتسول أو بالنقود‪ ،‬بالرغم من معارضة البعض بأن تكون المصالح االقتصادية سببا لحالة الضرورة‪ ،‬غير أن سنوات‬
‫الحرب التي تلت فترة نابليون جعلت القضاء يعترفون بحالة الضرورة في الجوع‪.‬‬
‫]‪ - [11‬لكن في فرنسا حكم بعدم توفر حالة الضرورة في قضية تتلخص وقائعها في أن أحد العمال تسبب بنزوحه إلى‬
‫المدينة بحثا عن حياة أفضل إلى تعرضه للبرودة الشديدة والبرد القارس مما هدد أطفاله بالموت‪ ،‬مما جعله يغتصب شقة خالية بعد‬
‫أن كسر قفلها وأقام بها مع أوالده‪ ،‬وأدين كونه كان سببا في خلق حالة الخطر عن طريق تركه الريف ونزوحه إلى المدينة‪ ،‬وانتقد‬
‫الحكم على أساس أن النزوح إلى المدينة ال يعد من قبيل الخطأ‪.‬‬
‫]‪ - [12‬ومحكمة النقض الفرنسية رفضت الطعن على حكم صدر بإدانة أحد معاوني الصحة بتهمة ممارسة مهنة الطب‬
‫بدون تصريح كان قد أجرى عملية جراحية لسيدة ادعى ضرورة مباشرتها قبل الوالدة‪ ،‬ألنه ثبت للمحكمة عدم وجود ضرورة‬
‫عاجلة إلجراء الوالدة‪ ،‬بدليل أن الوالدة لم تتم إال بعد ثمان ساعات على يد طبيب باطني‪ ،‬في حين قضت بتوافر حالة الضرورة‬
‫في عملية جراحية أجراها طالب الطب لشخص في حالة خطرة بحيث لم يكن هناك متسع من الوقت لاللتجاء إلى طبيب أو إلى‬
‫المستشفى‪ ،‬نقض في ‪،1968-02-20‬‬

‫]‪[131‬‬
‫و قضت محكمة واشنطن بإدانة بعض العمال الذين استولوا على مواد البقالة من أحد المخازن بحجة أن الفقر‬
‫والحاجة قد دفعتهم إلى ارتكاب هذه الجريمة وذلك ألنه تبين للمحكمة أنه المتهمين لم يكونوا في وضع ال يمكنهم من االلتجاء‬
‫لوسيلة أخرى للحصو ل على الطعام‪ ،‬ويرى البعض أن عامل في مصنع إذا حشرت يده في آلة دائرة وصار على وشك أن تجذب‬
‫هذه اآللة كامل جسمه فسارع شخص إلى قطع يده‪ ،‬وآخر إلى تفجير اآللة‪ ،‬فإن كال الشخصين كانا في حالة الضرورة‪.‬‬
‫]‪ - [13‬يرى الفقه اإلنجليزي في مثل هذه األمثلة أن الخطأ منتفي ألنه سلوك الرجل العادي‪.‬‬
‫]‪ - [14‬وفي هذا الصدد هناك قضية تسمى " ‪ " Vaux Villaine‬تتلخص وقائعها في أنه في ‪ 1870-10-27‬في قرية‬
‫‪ Vaux‬بفرنسا قتل رجال المقاومة الفرنسية جنديا ألمانيا‪ ،‬فقامت السلطات األلمانية بحبس أربعين فرنسيا وقرر مجلس الحرب‬
‫إعدام ثالثة منهم رميا بالرصاص‪ ،‬وأعلمهم أحد الضباط بهذا القرار ومنحهم مهلة قدرها ثلث ساعة الختيار ثالثة منهم‪ ،‬فتولى‬
‫واحد منهم اختيار الثالثة ووافق على ذلك بقيتهم‪ ،‬وحوكم بعدها هذا الشخص وقضي ببراءته‪ ،‬غير أنه لما أقامت أرملة أحد‬
‫المعدمين دعوى التعويض قضي من جديد بأنه ليس في حالة ضرورة ألنه اختار الضحايا بطريق األنانية اآلثمة والجبن البالغ في‬
‫سبيل المحافظة على البقاء‪.‬‬
‫]‪ - [15‬وقد حدث وأن اصطدمت الباخرة األمريكية ‪ William Brown‬في مارس ‪ 1971‬التي أبحرت من ميناء‬
‫ليفربول بجبل من الثلج ليال‪ ،‬وبدأت تغمرها المياه فاستقل كل من الربان ومساعده قربا به بعض الركاب ثم الحظ مساعد الربان‬
‫أن القارب بدأت تغمره المياه نتيجة الثقل فأمر بإلقاء ‪ 14‬رجال بالمياه‪ ،‬وأمام المحكمة دفع بتوافر حالة الضرورة فرفض دفعه‬
‫بحجة أن ه كان عليه اللجوء إلى الرقعة بين الضحايا وهي وسيلة أخرى تتفق مع العدالة واإلنسانية‪.‬‬
‫]‪ - [16‬وفي بلجيكا قضي بعدم توافر حالة الضرورة لدى سائق السيارة الذي أراد تجنب قتل كلب فألحق أضرارا‬
‫بسيارة أخرى‪.‬‬
‫]‪ - [17‬وهناك واقعة مشهورة ريجينا ضد دادلي وستيفن‪ ،‬تتلخص وقائعها في أن ثالثة من البحارة اإلنجليز حطمت‬
‫سفينتهم إثر عاصفة هوجاء فاضطروا إلى النجاة بواسطة قارب صغير‪ ،‬وبعدها اشتد بهم الجوع والعطش بعدما نفذت منهم‬
‫المؤونة التي كانت معهم‪ ،‬فقام اثنين منهم بذبح الثالث وهو أصغرهما سنا وقاما بأكل لحمه وشرب دمه‪ ،‬وأنقذتهم في اليوم الرابع‬
‫بعد هذه الجريمة سفينة وقدما بعدها للمحاكمة بتهمة القتل العمد‪ ،‬فدفعا بتوافر حالة الضرورة باعتبار قتل الثالث كان الوسيلة‬
‫الوحيدة إلنقاذ حياتهم‪ ،‬غير أن المحكمة رفضت هذا الدفع بناء على أنه إذا تعرض اإلنسان لخطر الموت ولم يكن في مقدوره‬
‫اإلفالت من هذا الخطر إال بقتل شخص بريء‪ ،‬فإن التضحية من أجل غيره أعلى منه‪.‬‬
‫]‪ - [18‬كما نرى أن تجريم النوايا يعد في حد ذاته مخالفة صريحة وصارخة لمبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬كونه سبق لنا‬
‫القول أن مبدأ الشرعية يرتب نتيجة هامة‪ ،‬مفادها حصر الجرائم وعقوباتها‪ ،‬والمشرع أيا كانت الحيطة والحذر الذي يتمتع بها فإنه‬
‫يعجز عجزا تاما عن حصر النوايا‪ .‬مما يجعله يخرق مبدأ الشرعية الجنائية في الحالة التي يسعى فيها لتجريم النوايا‪.‬‬
‫]‪ - [19‬ويمكن تلخيص أهمية اشتراط الركن المادي للجريمة‪ ،‬في أن العدالة تأبى العقاب على النوايا‪ ،‬وأن النوايا ليست‬
‫ضارة بحد ذاتها ما لم تتجسد في العالم الخارجي المادي الملموس‪ ،‬وأن تجريمها يشجع على المضي قدما في تحقيق المشروع‬
‫اإلجرامي لنهايته ما دام الشخص معرض للعقاب في الحالتين‪ ،‬وأنها تصعب كثيرا في حال العقاب عليها من عملية اإلثبات‪ ،‬مما‬
‫يؤدي في النهاية إلفالت الجناة خاصة المحترفين منهم من حكم القانون‪.‬‬
‫]‪ - [20‬المشرع الجزائري كان يعاقب على جريمة الرشوة بموجب المادة ‪ 126‬وما بعدها من قانون العقوبات‪ ،‬وعلى‬
‫جريمة االختالس في المادة ‪ 119‬من ذات القانون‪ ،‬إال أن هذه المواد ألغيت بموجب القانون ‪ 01-06‬المؤرخ في ‪-02-20‬‬
‫‪ 2006‬المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته‪ ،‬الذي عرفت المادة ‪/2‬ب منه الموظف العام‪.‬‬
‫]‪ - [21‬ألن المشرع يشترط في كل جريمة سلوك معين يخشى منه ضررا أو مجرد اعتداء أو احتمال االعتداء على‬
‫الحقوق والمصالح المحمية قانونا‪ ،‬وال يمكن تصور االعتداء بمجرد التفكير والتصميم أو بمجرد النوايا‪ ،‬كونها ال تنطوي على‬
‫معنى اإلضرار آو باألحرى اإلضرار‪ ،‬وإنما ما يخشاه المشرع هو األعمال التنفيذية التي تتجسد في أفعال خارجية يمكن إدراكها‬
‫بالحواس‪.‬‬
‫وننبه هنا‪ ،‬بأنه هناك بعض المحاوالت للتحرر من مظاهر السلوك في إطار تطور نظرية الركن المادي‬
‫للجريمة‪ ،‬حيث ظهرت تطورات حديثة كشفت عن محاوالت رامية للتحرر من هذا العنصر – عنصر الفعل أو السلوك‪ -‬أين بدأت‬
‫تظهر " جرائم القالب الحر أو القالب الفضفاض" وهي جرائم ال يحدد فيها المشرع عناصر الفعل تحديدا دقيقا‪ ،‬مثل الجرائم‬
‫االقتصادية وجرائم أمن الدولة‪ ،‬وجرائم الفكر والرأي أي الجرائم الصحفية‪ ،‬ففيها يستعمل المشرع عبارات عامة فضفاضة‬
‫ومطاطة تحتمل أن تستوعب كل صور السلوك الممكن تصورها‪ ،‬وذلك في محاولة منه لعدم ترك أي فرصة لعدم العقاب‪،‬‬
‫كاستعمال المشرع لعبارات مثل" كل سلوك من شأنه أن يفضي‪ "...‬دون أن يبين على وجه الدقة المظاهر التي يمكن أن يتخذها‬

‫]‪[132‬‬
‫هذا السلوك‪ ،‬كما نجد المشرع وفي كثير من األحيان يميل إلى تجريم مظاهر سلوكية معينة أكثر من تجريمه ألفعال محددة بعينها‪،‬‬
‫كتجريمه فعل التسول من دون أن يبين السلوكات التي تشكل جريمة التسول‪.‬‬
‫وللسلوك وفقا للفقه الجنائي مفهوم اصطالحي ضيق مقارنة بما له من اصطالح في باقي فروع المعرفة األخرى كعلم‬
‫النفس والفلسفة التي يشمل فيها السلوك الجوانب النفسية‪ ،‬في حين في الفقه الجنائي‪ ،‬السلوك يقتصر على النشاط اإلنساني الذي‬
‫اتخذ مظهرا خارجيا‪ ،‬يمكن للغير أن يدركه أو يحس به‪ ،‬ويتحدد السلوك المجرم من نص قانون العقوبات ذاته‪ ،‬هذا القانون الذي‬
‫يبين أحيانا صورة السلوك وأحيانا أخرى يكتفي بتبيان أثره‪ ،‬وذلك بالنظر للسلوك في حد ذاته‪ ،‬إذ يقبل في بعض الحاالت التحديد‬
‫بذاته‪ ،‬وأحيانا أخرى ال يمكن التدليل عليه إال بنتيجته‪ ،‬فليس هناك في الحياة العلمية نشاط يسمى قتال‪ ،‬بل نتيجة هذا السلوك التي‬
‫تبين أنه قتل‪ ،‬ويطلق الفقه في الحاالت التي يمكن تبيان السلوك ذاته بالسلوك ذي القالب المقيد كونه ينحصر في فعل معين‪ ،‬بينما‬
‫يطلق على السلوك في الحاالت األخرى السلوك ذي القالب الحر أو المطلق‪ ،‬وهو السلوك الذي يمكن أن تكون له أكثر من‬
‫صورة‪ ،‬والمرجع في تحديد النوعين هو النص الجنائي دوما‪ .‬كما أن السلوك اإلجرامي‪ ،‬شأنه شأن سائر النشاطات البشرية ال يقع‬
‫بمعزل عن سائر الظروف والمالبسات‪ ،‬غير أن هذه المالبسات والظروف ما يتخذ الصفة القانونية ومنها ما يتخذ الصفة الواقعية‪،‬‬
‫ومنها ما يعتد بها القانون ومنها ما ال يعتد به‪ ،‬وإذا ما كان يعتد بها القانون فتكون بذلك اإلطار القانوني الذي ينبغي وقوع السلوك‬
‫ضمنه‪ ،‬وهي مالبسات وظروف تختلف من جريمة ألخرى‪ ،‬قد تتعلق بزمان أو مكان ارتكاب الجريمة‪ ،‬وقد تتعلق بصفة في‬
‫الجاني أو المجني عليه‪ ،‬وقد تتعلق بنوع العالقة التي تربط بنيهم‪ ....‬وهي بذلك تدخل‬
‫في صميم اهتمامات القسم الخاص للقانون الجنائي ال قسمه العام‪.‬‬
‫]‪ - [22‬ويسمي الفقه هذا النوع من الجرائم التي ال يعتد فيها المشرع بالوسيلة المستعملة‪ ،‬الجرائم ذات الوسيلة الحرة أو‬
‫الجرائم غير المقيدة‪ ،‬تمييزا لها عن الجرائم التي يشترط فيها المشرع وسيلة معينة‪ ،‬مثل جريمة القتل بالتسميم‪ ،‬أو الضرب‬
‫باستعمال السالح األبيض‪.‬‬
‫]‪ - [23‬تعبير " عدم الفعل" تعبير استعمله المشرع اللبناني للتعبير على هذا النوع من األفعال‪.‬‬
‫ومن الفقه من يرى في االمتناع ذلك الفعل اإليجابي الذي قام به الجاني وشغله عن أداء ما هو مطلوب منه‬
‫قانونا‪ ،‬وهي ما سميت ب‪ :‬نظرية الفعل البديل" التي قيل بها في الفقه األلماني‪ ،‬ولقيت تأييد البعض في الفقه المصري‪ ،‬والتي‬
‫تبرر أن االمتناع ليس عدما كون الجاني ال يظل ساكنا بل يقوم بفعل آخر إذ ما لم يقم بما أمره به القانون فهو بالضرورة يقوم‬
‫بفعل غيره‪ ،‬وهذا الفعل يندمج في االمتناع يتحدد به‪ ،‬ويمثل مظهره الخارجي أو حقيقته المادية‪ ،‬لذا يجب أن يكون إراديا بدوره‪،‬‬
‫لذا عرف االمتناع وفقا لهذه النظرية‪ ،‬بأنه‪ :‬عدم فعل المطلوب وفعل غيره في الوقت عينه‪.‬‬
‫]‪ - [24‬ف ي العادة ما تشكل الجرائم المادية أو جرائم الضرر عدوانا فعليا على الحقوق والمصالح المحمية قانونا‪ ،‬بينما‬
‫تشكل الجرائم الشكلية أو جرائم الخطر مجرد عدوان محتمل يخشى منه المشرع أن يتحول إلى اعتداء فعلي – أي ضرر حقيقي‪-‬‬
‫]‪ - [25‬ا لمسألة كالعادة بتنازعها المذهبين المعروفين الكالسيكي ويركز على النتيجة المادية‪ ،‬والشخصية تركز على‬
‫إرادة الجاني حيث يعاقب حتى ولو لم يحدث نشاطه أية نتيجة‪ ،‬الكالسيكية تزعمها بيكاريا وطالب بالنتيجة التي يحدثها نشاط‬
‫الجاني في العالم الخارجي‪ ،‬وتزعم النظرية الشخصية أنصار المدرسة الوضعية الذين يركزون االهتمام بالخطورة اإلجرامية لدى‬
‫الجاني ال للنتيجة المترتبة على فعله‪.‬‬
‫]‪ - [26‬ووفقا لهذا المفهوم يطلق عليها البعض مصطلح " الحدث"‪.‬‬
‫]‪ - [27‬والجريمة الشكلية تقع كاملة دون أن تتضمن أية نتيجة مادية‪ ،‬وتسمى أيضا جرائم سلوك أو نشاط محض تمييزا‬
‫لها عن الجرائم ذات النتيجة‪ ،‬ويرى بعض الفقه الفرنسي أن الجريمة الشكلية هي تلك التي ال يترتب عليها أي ضرر‪ ،‬وهو رأي‬
‫اعتمد على كرة الضرر المحقق‪ ،‬وأهملوا فكرة الضرر المحتمل‪ .‬وعرفت الجريمة الشكلية بأنها الجريمة ال تتوافر فيها نتيجة‬
‫مادية أو هي التي ال يترتب عليها تغير في العالم الخارجي كأثر للنشاط اإلجرامي‪ ،‬وهي تقع كاملة ال مجرد شروع‪ ،‬وبالتالي ال‬
‫تأثير للعدول فيها‪ ،‬وال مجال للبحث عن عالقة السببية فيها كون هذه العالقة تقوم على الربط بين السلوك والنتيجة وهذه األخيرة‬
‫منعدمة في هذا النوع من الجرائم‪ .‬كون النتيجة فيها قانونية تتمثل في مجرد الخطر الذي يحيط بالمصلحة المحمية قانونا‪ ،‬وهو‬
‫خطر مجرد ال خطر واقعي والنشاط قرينة قانونية على وجوده وال نحتاج حدوثه واقعيا‪ .‬وبناء على ما سبق هناك ما يعرف‬
‫بجرائم الخطر‪ ،‬وهي الجرائم التي تنطوي على مجرد تعريض المصلحة المحمية قانونا للخطر‪ ،‬التي ازداد نوعها نتيجة التطور‬
‫والتقدم الفني والتغير في الحياة االجتماعية ومنها جرائم الخطر العام وهي التي تهدد المصالح العامة للخطر مثل نظام‬
‫الحكم ووسائل المواصالت وانتهاك أسرار الدفاع‪ ،‬وجرائم خطر خاص التي تهدد المصالح الفردية‪.‬‬
‫]‪ - [28‬إذ السببية بصفة عامة ومطلقة‪ ،‬هي إسناد أي أمر من أمور الحياة إلى مسببه‪ ،‬أما السببية في إطار الركن المادي‬
‫للجريمة‪ ،‬فهي إسناد النتيجة المحظورة والمعاقب عليها إلى سلوك الفاعل المجرم‪ ،‬وذلك عن طريق الربط بينهما‪ ،‬أي أن يكون‬

‫]‪[133‬‬
‫ا لسلوك سببا في حدوث هذه النتيجة‪ ،‬بحيث إن لم يكن هو مسببها‪ ،‬فال مجال لمسائلة فاعله حتى وإن كان سلوكا مجرما‪ ،‬ما لم‬
‫تشكل الجريمة نوعا من الجرائم الشكلية‪ ،‬إذ العبرة لدى المشرع في غالبية الجرائم المادية تكون بالنتيجة التي تحققت‪.‬‬
‫]‪ - [29‬وللتدليل على ذلك‪ ،‬يعطي الفقه العديد من األمثلة الغريبة‪ ،‬التي ساقها هذا الفقه مبينا حالة التزاحم أو التعاصر أو‬
‫التدافع بين األسباب‪ ،‬والتي تظهر في األخير على نحو وكأنها ساهمت جميعا في إحداث النتيجة مع فعل الجاني‪ ،‬نذكر من بينها‪:‬‬
‫‪ -1‬أطلق شخص النار على شخص آخر بقصد قتله‪ ،‬فجرحه فقط وسقط على األرض‪ ،‬فاصطدمت رأسه بشيء‬
‫صلب مما أحدث له نزيفا حادا في رأسه‪ ،‬زاد من حالته سوءا‪ ،‬واستدعي اإلسعاف إال أن سيارة اإلسعاف تأخرت في الوصول‪،‬‬
‫وحين وصلت وحملت المصاب انقلبت في الطريق إثر حادث مرور‪ ،‬وعندما نقل المريض إلى المستشفى لم يكن هناك طبيب‬
‫جراح‪ ،‬ولما وصل األخير بعد فترة أجرى عملية جراحية للمريض وهو مخمورا‪ ،‬فباءت العملية بالفسل ومات المصاب‪ ،‬فأي‬
‫سبب من األسباب السابقة سبب الوفاة؟ هل هو مطلق النار‪ ،‬أم سائق سيارة اإلسعاف الذي تأخر ثم تسبب في حادث مرور‪ ،‬أم‬
‫الطبيب الذي تأخر وأجرى العملية الجراحية وهو مخمورا؟‬
‫‪ -2‬وضع احدهم السم في الطعام لشخص آخر بقصد تسميمه‪ ،‬ثم ركب األخير قطارا مسافرا فاصطدم القطار‬
‫بقطار آخر في حادث مروع‪ ،‬فما سبب الوفاة؟‬
‫‪ -3‬ضرب شخص آخر وكان األخير مصاب بمرض القلب‪ ،‬فتوفي بعدما أصيب بنوبة قلبية مصاحبة لواقعة‬
‫االعتداء بالضرب عليه‪ ،‬فمن يكون سبب للوفاة؟ الضرب المبحر الذي تعرض له؟ أم النوبة القلبية المصاحبة للضرب؟‬
‫هذه التساؤالت هي التي أثارت مشكلة بحث نظرية السببية‪ ،‬بالرغم من أننا نرى بأن الكثير من المشاكل السابقة‪،‬‬
‫أصبح باإلمكان اليوم حلها عن طريق الطب الشرعي‪ ،‬للتأكد من السبب الدقيق المسبب للوفاة‪.‬‬
‫]‪ - [30‬كإهمال المجني عليه في عالج نفسه من جرح كان قد تلقاه نتيجة ضرب وجرح ارتكبه عليه الجاني‪ ،‬الذي لم‬
‫تكن ضربته لتقتل المجني عليه‪ ،‬لوال إهمال الخير في عالج نفسه‪ ،‬مما سبب له تعفن في الجرح وأدى لوفاته‪ ،‬لكن وفقا لهذه‬
‫النظرية‪ ،‬لوال فعل الجاني لما جرح المجني عليه ولما أهمل نفسه وال تعفن جرحه وتوفي‪ ،‬لذا فالجاني مسؤول كون فعله سبب‬
‫السبب‪.‬‬
‫]‪ - [31‬مثل المثال السابق‪ ،‬ويضاف له خطأ الطبيب الذي عوض أن يعطي المجني عليه دواء مفيد لجراحه ويقضي‬
‫على تعفنها‪ ،‬أعطاه دواء أثر على قلبه وأدى إلى توقفه‪ ،‬ففعل الجاني رغم كل ذلك كان سببا في كل هذه األسباب ويسأل إلى جانب‬
‫الطبيب عن هذه الجريمة وفقا لهذه النظرية‪.‬‬
‫]‪ - [32‬كأن نضيف لألمثلة السابقة‪ ،‬تهدم المستشفى الذي كان به المجني عليه‪.‬‬
‫]‪ - [33‬هناك من الفقه‪ ،‬من يرى أنها نظرية من ابتكار الفقه األلماني أيضا‪ ،‬شأنها شأن النظرية السابقة‪ .‬بل أنها أسبق‬
‫في الظهور من جميع النظريات األخرى‪ ،‬وقد طبقها الفقه الفرنسي لمدة طويلة من الزمن‪.‬‬
‫]‪ - [34‬هذه االنتقادات وغيرها‪ ،‬دفعت أنصار هذه النظرية لمحاولة إنقاذها عن طريق فكرة أخرى مفادها تقسيم هذه‬
‫النظرية إلى شقين‪ ،‬األول وهو األخذ بالسبب األخير في السياق الزمني لألحداث باعتباره السبب الملتصق بالنتيجة برابط وثيق‬
‫الصلة‪ ،‬واعتباره السبب المباشر في إحداث النتيجة‪ ،‬وفي حال عدم التمكن من تحديد هذا السبب بدقة‪ ،‬يأتي دور الشق الثاني من‬
‫محاولة اإلنقاذ هذه‪ ،‬وهو الشق المتعلق بفكرة السبب المتحرك‪ ،‬إذ قسموا األسباب إلى أسباب متحركة وأخرى ساكنة‪ ،‬والمتحركة‬
‫وحدها التي يمكن أن تحقق النتيجة‪ ،‬غير أن هذه المحاولة لم تشفع لها‪ ،‬ووجهت لها ذات االنتقادات‪ ،‬وأهمها‪ :‬ما المعيار الذي‬
‫يمكن من تحديد األسباب المتحركة من بين السباب الساكنة‪.‬‬
‫]‪ - [35‬قد يظهر تقارب هذا السؤال مع السؤال الذي أرده نصار النظرية السابقة‪ ،‬إال أنه في تقديرنا‪ ،‬السؤال الذي‬
‫طرحه أنصار نظرية السبب المنتج‪ ،‬سؤال يتعلق بتقدير فعل الجاني وحده وما إن كان قادر لوحده على إحداث النتيجة‪ ،‬بينما في‬
‫هذه النظرية‪ ،‬السؤال نرى أنه ينصرف لتقدير العوامل التي تضافرت مع فعل الجاني‪ ،‬وما إن كانت هي سبب النتيجة‪ ،‬أم سببها‬
‫فعل الجاني وحــــده‪.‬‬
‫]‪ - [36‬أ خذ النظرية بمعيار الرجل العادي‪ ،‬جعل بعض الفقه يرى في هذه النظرية أنها نفسها نظرية السبب المنتج‪،‬‬
‫وقالوا بوجود نظريتين فقط‪ ،‬دون نظرية السبب المالئم‪.‬‬
‫]‪ - [37‬قد يعجز الجاني عن تحقيق النتيجة المادية التي لزم القانون تحققها لقيام الجريمة‪ ،‬رغم إتيانه لكافة األفعال التي‬
‫يهدف من ورائه ترتيب النتيجة المذكورة‪ ،‬أي البدء في تنفيذ المشروع اإلجرامي والعجز عن تكملته‪ ،‬لكن بما أن المشرع يحمي‬
‫المصالح من اإلضرار بها ومن تعريضها لألخطار‪ ،‬فإنه لم يقصر تجريمه على العدوان الكامل بل شمل أيضا العدوان الناقص‪،‬‬
‫وهو ما يسمى الشروع الذي يتشابه مع الجريمة الشكلية في تخلف النتيجة المادية في كل منهما‪ ،‬غير أن الجريمة الشكلية تامة‬
‫مقارنة مع الشروع الذي يعد جريمة ناقصة‪ ،‬والنتيجة المادية في الجريمة الشكلية ال تتحقق باسم القانون‪ ،‬بينما ال تتحقق في‬

‫]‪[134‬‬
‫جريمة الشروع بإيقاف أو خيبة نشاط الجاني‪ ،‬وتعريف الشروع‪ ،‬أنه‪ :‬جريمة ناقصة غير مكتملة‪ ،‬وهي جريمة توافر لها الركن‬
‫المعنوي لكن تخلف فيها الركن المادي بصورة كلية أو جزئية‪ ،‬وهو بذلك عبارة عن جريمة ناقصة وهذا النقص يتعلق بالبنيان‬
‫ا لقانوني للجريمة فيما يتعلق بمادياتها‪ ،‬وينصب هذا النقص تحديدا على النتيجة المجرمة‪ ،‬التي ال تقع لسبب ال دخل إلرادة الجاني‬
‫فيه‬
‫]‪ - [38‬في الحقيقة المسألة تنازعها أيضا االتجاهان الموضوعي والشخصي‪ ،‬المذهب المادي أو الموضوعي الذي نادى‬
‫به الفقه األلماني منذ القرن التاسع عشر الذي يرى أن األفعال المادية التي أتاها الجاني تحدث اضطرابا ماديا في المجتمع‪ ،‬واتجاه‬
‫ثاني شخصي ينادي به الفقه اإليطالي أو أنصار المدرسة الوضعية ويرى أن علة العقاب على الشروع يرجع للرغبة في مواجهة‬
‫الخطورة اإلجرامية التي تبين استعداد الجاني الرتكب الجرائم مستقبال‪ ،‬وبالتالي يجب التصرف ضده بمجرد إظهاره لهذه‬
‫الخطورة متى عبر عنها بأعمال خارجية‬
‫]‪ - [39‬ويقصد بالنص الصريح في القانون أن يوجد بالنص المعاقب على الجنحة ما يفيد انه يعاقب فها على الشروع‬
‫أيضا‪ ،‬ومن أمثلة هذه الجنح في قانون العقوبات الجزائري‪ ،‬محاولة كسر األختام العمومية المادة ‪ ،2/155‬محاولة الهروب من‬
‫أماكن الحبس ‪ ،2/188‬محاولة التزوير في المحررات الرسمية ‪،219‬محاولة إفشاء أسرار المؤسسة لألجانب ‪،302‬محاولة‬
‫اإلجهاض ‪ ،309‬محاولة السرقة ‪.....350‬‬

‫]‪[135‬‬
‫المطلب األول‬
‫البـــدء في التنفيذ كعنصر أول في الركن المادي لجريمة الشروع‬
‫الجريمة كمشروع إجرامي يهدف من خالله الجاني لتحقيق نتيجة معينة‪ ،‬يمر بالعديد من المراحل‪ ،‬منها‬
‫ما يعاقب عليه المشرع‪ ،‬ومنها ما هو غير معاقب عليه‪ ،‬ومعيار التفرقة بين المرحلتين هو " البدء في التنفيذ"]‪ ،[1‬بحيث‬
‫ال عق اب على المراحل التي تسبقه‪ ،‬على عكس المراحل التالية له‪ ،‬األمر الذي يقتضي منا تبيان هذه المراحل والتمييز‬
‫بينها‪ ،‬ثم البحث في المعيار المميز لفكرة البدء في التنفيذ التي تعد محور دراسة نظرية الشروع في الجريمة‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫المراحل غير المعاقب عليها قانونا‬
‫سبق القول بأن القانون ال يعاقب على النوايا مهما كانت شريرة‪ ،‬لذا فهو ال يعاقب على كل المسائل‬
‫الداخلية النفسية التي لم تتجسد في الحيز المادي ولم يعبر عنها بفعل مادي‪ ،‬وعلى أساس ذلك‪ ،‬فإنه لو تصورنا مسار‬
‫الجريمة كمشروع‪ ،‬نجدها تمر بالعديد من المراحل‪ ،‬تنتهي بمرحلة أخيرة هي مرحلة تمام الجريمة‪ ،‬وهي المرحلة التي‬
‫تهمنا في دراستنا هذه كون الشروع مرحلة سابقة عليها‪ ،‬لتبقى أمامنا مراحل أخرى‪ ،‬يمكن لنا القول بأن البعض منها‬
‫نفسي خالص]‪ ،[2‬والبعض اآلخر يقترن ببعض السلوكات‪.‬‬
‫أوال‪ :‬مرحلة النوايا الكامنة]‪[3‬‬
‫وهي مرحلة عبارة عن أفكار ونوايا تختلج صدر الجاني‪ ،‬وتكون فيها الجريمة عبارة عن مجرد فكرة‬
‫كامنة يشوبها التفكير لغاية عقد التصميم على ارتكابها‪ ،‬وهي مراحل ال يحفل بها القانون وال يعاقب عليها‪ ،‬حتى ولو‬
‫أفصح عنها صاحبها للغير‪ ،‬ما لم يرق هذا اإلفصاح لحد التحريض‪.‬‬
‫ومعظم القوانين الحديثة ال تعاقب على هذه المرحلة‪ ،‬وتتفق بأنه ليس للقانون سلطان على النوايا وال‬
‫على ما يختلج بصدر اإلنسان‪ ،‬حيث أنها عبارة عن نوايا لم تحدث اضطرابا بالمجتمع بعد‪ ،‬خاصة وأن النوايا عبارة‬
‫عن أحاديث نفس من الصعوبة إثباتها والتأكد من وجودها‪ ،‬وأنه من األفضل عدم العقاب عليها لترك باب العدول مفتوحا‬
‫لتشجيع األشخاص عليه‪ ،‬وبالتالي ليس للقانون سلطان على الضمائر حتى وإن كان العزم على ارتكاب الجرائم يشكل‬
‫خطيئة أخالقة تستحق التأنيب والتكفير‪ ،‬وإن كان أنصار المدرسة الشخصية يرون العقاب على هذه المرحلة‪ ،‬كونها‬
‫تعبر عن إ رادة إجرامية تعد مصدر للقلق واالضطراب في المجتمع‪ ،‬والخطورة اإلجرامية هي المراد الذي ينبعث منه‬
‫اإلجرام‪ ،‬وأنه لمعالجة هذا األخير يجب أن نعالج الداء من أساسه‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬مرحلة النوايا الكاشفة عن خطورة إجرامية‬
‫وهي مرحلة بالرغم من أنها ال تزال في طور النوايا والخواطر‪ ،‬إال أنها وعلى عكس المرحلة السابقة‬
‫تقترن بقدر من السلوك الذي يفصح عنها‪ ،‬إذ يبدأ في التحضير لجريمته‪ ،‬كشراء المعدات الالزمة الرتكاب الجريمة‪ ،‬إال‬
‫أنها مرحلة ليست قاطعة الداللة على ارتكاب الجريمة بالفعل‪ ،‬غير أننا نجد في بعض األحيان المشرع يتدخل بالعقاب‬
‫على هذه المرحلة بوصفها جرائم مستقلة ال بوصفها شروع في ارتكاب جرائم‪ ،‬مثل تجريم حيازة سالح بدون‬
‫رخصة]‪ ،[4‬أو جريمة تقليد المفاتيح]‪.[5‬‬
‫و علة عدم العقاب على المرحلة التحضيرية للجرائم‪ ،‬هو أنها أعمال قابلة للتأويل في مرماها‪ ،‬مما‬
‫يجعلها غير كافية للكشف عن نية الفاعل بصورة واضحة وأكيدة‪ ،‬فمن اشترى آلة حادة يكون قد اشتراها الستعمالها في‬
‫قتل غريمه‪ ،‬أو لغرض آخر مشروع‪ ،‬وبالتالي هي أعمال مبهمة وقابلة للتأويل‪ ،‬لذا فليس من الحكمة العقاب على‬
‫ظواهر وأمارات ال ترقى لمرتبة الوقائع الثابتة‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬مرحلة البدء في تنفيذ الجريمة‬
‫وهي المرحلة التي تمثل الشروع في الجريمة المعاقب عليها‪ ،‬وهي تشمل كل فعل يعتبر بدء في تنفيذ‬
‫الجناية أو الجنحة إذا كان معاقب على الشروع فيها‪ ،‬وهي مرحلة تتميز بتجاوز الجاني لمرحلة التحضير لجريمته‬
‫والشروع في تنفيذ عدوانه على الحق أو المصلحة المحمية قانونا‪ ،‬على نحو يمكن القول معه أن الجاني تجاوز مرحلة‬
‫العزم والتفكير والتحضير‪ ،‬وانتقل لمرحلة تنفيذ العمل اإلجرامي‪ .‬لكن اإلشكال الكبير الذي يواجهنا وال يزال يواجه‬

‫]‪[136‬‬
‫الفقه‪ ،‬هو مسألة المعيار الذي يمكننا من الفصل بين المرحلة التحضيرية ومرحلة البدء في التنفيذ‪ ،‬خاصة وانه هناك‬
‫أحوال كثيرة ال يمكن فيها الجزم ما إن كانت األفعال التي أتاها الجاني تعد أعمال تحضيرية أو تجاوزت البدء في‬
‫التنفيذ‪ .‬إذ في الكثير من األحيان ما تظهر األعمال التحضيرية على أنها بدء في التنفيذ والعكس صحيح]‪.[6‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫معيار التمييز بين األعمال التحضيرية والبدء في التنفيذ‬
‫انقسم الفقه بغرض إيجاد معيار دقيق يمكن من التمييز بين األعمال التحضيرية والبدء في تنفيذ‬
‫الجريمة‪ - ،‬وكالعادة‪ -‬إلى اتجاهين أساسيين‪ ،‬اتجاه موضوعي يركز على ماديات الجريمة أو على ركنها المادي‪ ،‬وآخر‬
‫شخصي يركز على نفسية الج اني وذهنيته وخطورته اإلجرامية‪ ،‬وبين هذا وذاك‪ ،‬نجد الفقه قد أضاف مذهبا ثالثا اتخذ‬
‫موقف وسط‪ ،‬وسمي باالتجاه أو المذهب المختلط‪ ،‬آخذا من مزايا كل من المذهبين السابقين وتاركا مساوئهما‪ .‬باإلضافة‬
‫إلى بعض المحاوالت الفقهية الفردية األخرى‪ ،‬وأهمها معيار الفقيه البلجيكي جارو‪.‬‬
‫أوال‪ :‬المذهب الموضوعي أو المادي‬
‫و فقا ألنصار المذهب المادي أو الموضوعي‪ ،‬نكون بصدد البدء في تنفيذ الجريمة‪ ،‬بالشروع في ارتكاب‬
‫الركن المادي المكون للجريمة‪ ،‬على النحو المرسوم في النص التجريمي‪ ،‬وما عدا ذلك – أي قبل هذه المرحلة‪ -‬يعد‬
‫العمل تحضيري ا غير معاقب عليه‪ ،‬ففي جريمة السرقة ال يعد بدء في التنفيذ سوى الفعل الذي يمس به الجاني حيازة‬
‫الغير للمال‪ ،‬كوضع اليد بالفعل على هذا المال‪ ،‬وفي جريمة القتل ال يعد بدء في التنفيذ سوى الفعل الذي يتضمن خطر‬
‫إزهاق روح المجني عليه‪ ،‬كإطالق الرصاص اتجاهه‪ ،‬وما عدا ذلك يعد من قبيل العمال التحضيرية كون النص‬
‫القانوني لم يجعلها من مكونات الركن المادي للجريمة‪.‬‬
‫و بالتالي تمتاز هذه النظرية بإرسائها لمعيار واضح وسهل ودقيق‪ ،‬بالرغم من أنه وجهت لها انتقادات‬
‫تتمحور في مجملها بأنها ال تحقق حماية فعالة للمجتمع ضد مجرمين أظهرت أفعالهم أنهم تقربوا كثيرا من تحقيق‬
‫نتائجهم المقصودة‪ ،‬وتؤدي إلى إفالت الكثير من الجناة من العقاب‪ ،‬ال لشيء سوى ألنهم لم يرتكبوا بعد فعال من األفعال‬
‫المصورة في نص التجريم‪ ،‬بالرغم من أنهم أبانوا بوضوح عن خطورة إجرامية كبيرة‪ ،‬إذ وفقا لمذهب هذه النظرية ال‬
‫يعد الشخص مرتكبا لجريمة السرقة‪ ،‬بالرغم من اقتحامه المنزل وتفتيشه الخزانة‪ ،‬إال إذا عثر على األموال ووضع يده‬
‫عليها]‪ ،[7‬وال يعد مرتكبا لجريمة القتل من صوب السالح اتجاه غريمه وأطلق النار عليه إال بعد أن يصيبه‪.‬‬
‫واالنتقادات السابقة وغيرها‪ ،‬جعلت من أنصار هذا المذهب يحاولون إنقاذه عن طريق التوسع في‬
‫المعيار السابق‪ ،‬قائلين بأن البدء في التنفيذ‪ ،‬وباإلضافة إلى البدء في تنفيذ الفعل المكون للركن المادي للجريمة‪ ،‬فهو‬
‫أيضا البدء في ارتكاب كل فعل يعتبر ظرفا مشددا للجريمة‪ ،‬مثل الكسر والتسور والتسلق في جريمة السرقة‪ ،‬غير أن‬
‫هذا التوسع لم يجعل النظرية تسلم من انتقادات جديدة‪ ،‬وأهمها أنه ليست كل الجرائم مما يمكن أن تقترن بالظروف‬
‫المشددة‪ ،‬كما انه وفي الجرائم التي تقبل ذلك‪ ،‬هناك ظروف ال يمكن إخضاعها لهذا المعيار‪ ،‬مثل ظرف التعدد وظرف‬
‫الليل في جريمة السرقة‪ ،‬حيث ال نكون أمام جريمة السرقة إذا ارتكبت نهارا‪ ،‬على عكس الحالة التي ترتكب فيها ليال‪،‬‬
‫لذا قيل أنه معيار غير دقيق‪.‬‬
‫لذا حاول أنصار هذا االتجاه إنقاذه مرة أخرى‪ ،‬قائلين هذه المرة بأن البدء في التنفيذ هو ارتكاب فعل‬
‫واضح الداللة على النية اإلجرامية للفاعل‪ ،‬حيث أنه إن كان العمل التحضيري يحتمل أكثر من داللة كونه قابل للتأويل‪،‬‬
‫فإن البدء في التنفيذ ال يفصح سوى عن داللة واحدة‪ ،‬وهي اتجاه الجاني نحو ارتكاب الجريمة‪ .‬غير أن ما يمكن‬
‫مالحظته بخصوص هذا التوسع‪ ،‬هو هجر الجوانب الموضوعية التي يعتمدها أنصار المذهب الموضوعي دوما‪،‬‬
‫ودخولهم متاهات النوايا التي يعتمدها في األصل أنصار المذهب الشخصي‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬المذهب الشخصي أو الذاتي‬

‫]‪[137‬‬
‫م ؤدى هذا االتجاه‪ ،‬أن البدء في التنفيذ هو كل فعل يصدر عن الجاني ويفصح عن خطورته ونيته‬
‫الواضحة في ارتكاب الجريمة‪ ،‬أي هو كل سلوك يسلك به الجاني نهائيا طريق الجريمة‪ ،‬ويصبح عدوله عنها أمرا غير‬
‫محتمل‪ ،‬أو هو الفعل الذي يؤدي حاال ومباشرة إلى ارتكاب الجريمة‪ ،‬بحيث لم يعد يفصل الجاني عنها سوى خطوة‬
‫صغيرة لو ترك وشأنه لخطاها‪ ،‬ويعبر عن ذلك بالقول‪ " :‬حرق الجاني سفنه أو جسوره وراءه"‪ .‬ويالحظ على هذه‬
‫النظرية أنها تركز اهتمامها على إرادة الجاني‪ ،‬بحيث يعد بدءا في التنفيذ كل فعل يعد كذلك في نظر الجاني‪ ،‬إذ يؤدي‬
‫حاال ومباشرة إلى ارتكاب الجريمة بحسب نيته‪ ،‬وهي النية التي تستخلص من الظروف المحيطة بالجاني‪ ،‬كسوابقه‬
‫وعالقته بالمجني عليه وأنواع األسلحة والوسائل التي يستعملها‪ ...‬وبالتالي نكون أمام البدء في التنفيذ كلما كان الفعل‬
‫الذي أتاه الجاني في ظروف معينة يكشف عن نيته اإلجرامية ويدل على أنه لو ترك على حاله ألفضى الفعل إلى تحقيق‬
‫النتيجة المجرمة‪.‬‬
‫و من االنتقادات الموجهة لهذا المذهب‪ ،‬أنه مذهب تعوزه الدقة والوضوح واالنضباط‪ ،‬إذ يصعب القطع‬
‫بت وافر نية ارتكاب الجريمة لمجرد صدور فعل عن الجاني قد يحتمل أكثر من داللة‪ ،‬وأنه اتجاه يقلب منطق األمور‪ ،‬إذ‬
‫عوضا أن يكون الفعل هو مظهر االستدالل على النية‪ ،‬أصبحت هذه األخيرة مظهر للداللة على خطورة الفعل‪ ،‬وبعبارة‬
‫مختصرة ال يمكننا دراسة الركن المعنوي للجريمة قبل دراسة ركنها المادي‪ .‬وإن كانت هذه النظرية في حقيقة األمر‬
‫تحمي بفعالية المجتمع وتضحي بالحريات الفردية‪.‬‬
‫لكن وفي رأينا نرى بأن إعمال النظريتين معا‪ ،‬يمكن أن نحدد به‪ ،‬وإن لم يكن بدقة فبدرجة كبيرة‪ ،‬البدء‬
‫في تنفيذ الجريمة‪ ،‬خاصة في الحالة التي ال نهمل فيها الظروف المحيطة بالفعل وبالجاني‪ ،‬كأن يكون الفعل ذاته صالحا‬
‫إلحداث النتيجة المجرمة قانونا‪ ،‬وذلك بحسب المجرى العادي لألمور‪ ،‬مع مراعاة حالة الجاني والمجني عليه‪ ،‬وزمان‬
‫ومكان ارتكاب الجريمة‪ ،‬ودون إهمال نية الجاني في الظروف التي ارتكب فيها فعله‪ .‬ولعل ذلك ما دفع إلى ظهور‬
‫المعيار المختلط أو المرن الذي توسط االتجاهين السابقين‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬المذهب المختلط ( المرن)‬
‫أمام االنتقادات التي وجهت لكال االتجاهين السابقين – وإن كان االتجاه الموضوعي هو األكثر قبوال‬
‫قضاء‪ -‬اقتنع الفقه بضرورة إيجاد معيار مختلط سمي بالمعيار المرن‪ ،‬حيث اعتبروا البدء في التنفيذ‪ ،‬هو الفعل الذي‬
‫يؤدي حاال ومباشرة وفقا للمجرى العادي لألمور إلى ارتكاب الجريمة‪ ،‬وأن يقع هذا الفعل في زمن قريب نسبيا من‬
‫لحظة تنفيذ الجريمة‪ ،‬وأن تكون نية الجاني واضحة ال غموض فيها على عزمه النهائي الرتكاب جريمته‪ .‬وبالتالي‬
‫المعيار وفقا لهذا االتجاه‪ ،‬ليس موضوعيا بحتا وال شخصيا صرفا‪ ،‬وإنما هو مزيج بينهما‪ ،‬يستمد من النظرية‬
‫الموضوعية خطورة الفعل وصالحيته وفقا للمجرى العادي لألمور لتحقيق النتيجة‪ ،‬ويستمد من النظرية الشخصية داللة‬
‫الفعل على عزم صاحبه على تحقيق الجريمة‪ .‬كما يحسب ألنصار هذا االتجاه عدم التقيد بالمعايير الجامدة والمجردة‪ ،‬بل‬
‫تعتمد التقدير الواقعي المتغير الذي يختلف من جريمة ألخرى‪ ،‬ومن فاعل آلخر‪ ،‬سيما في ظل خطورة فكرة البدء في‬
‫التنفيذ الذي يعد التضييق أو التوسع فيه تعديا على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات‪ ،‬لذا رأى أنصار هذا االتجاه‪ ،‬تقدير‬
‫البدء في التنفيذ على ضوء جملة من االعتبارات ال المعايير‪ ،‬وأهمها‪ :‬وجوب ارتكاب فعل من األفعال التي تدخل في‬
‫تكوين الركن المادي للجريمة‪ ،‬كون الجرائم أفعال قبل كل شيء‪ ،‬وأن يكون فعل مرتبط على األقل بالركن المادي برباط‬
‫سببي وزمني يفضي في نهاية المطاف ووفقا للعادي والمألوف والمتصور إلى حدوث النتيجة المحظورة قانونا‪.‬‬
‫وأن يفصح السلوك السابق عن نية إجرامية نهائية لدى الجاني‪ .‬زيادة على األخذ بعين االعتبار بكافة الظروف‬
‫والمالبسات‪ ،‬سواء تعلقت بالسلوك ذاته‪ ،‬أو بالجاني أو بالظروف المحيطة بهما معا‪ ،‬وهي الظروف والمالبسات التي ال‬
‫يمكن بأي حال من األحوال حصرها سلفا كونها تنأى عن كل حصر‪ ،‬بل يترك تقديرها لقضاة الموضوع يقدرونها في‬
‫كل حالة على حدا‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬رأي الفقيه البلجيكي جارو‬


‫وهي محاولة أيضا للمزج بين المذهبين الشخصي والموضوعي‪ ،‬حيث يرى هذا الفقيه األخذ من‬
‫المذهب المادي أو الموضوعي " األفعال" لكن مع وصفها وتقييدها‪ ،‬حيث يعتد فقط باألفعال التي ال لبس فيها التي تعبر‬

‫]‪[138‬‬
‫صراحة على كونها بدء في التنفيذ‪ ،‬وهي تلك األفعال التي ال تسمح بالعدول وتؤدي حاال ومباشرة الرتكاب الجريمة‪،‬‬
‫وهو ما استمد من المذهب الشخصي‪ ،‬لذا فالبدء في التنفيذ ‪ commencement d’exécution‬هي تلك األفعال التي ال‬
‫لبس فيها ‪ non équivoque‬والتي تشكل فعال بدء في التنفيذ‪ ،‬وتؤدي مباشرة إلى ارتكاب الجريمة ‪Tendant‬‬
‫‪ ،directement à le commettre‬واستعار أيضا عبارة أنصار المذهب الشخصي‪ ،‬وهي أن الجاني يقطع جسوره‬
‫وراءه‪. lorsque l’individu à ente,du couper les tous pont derrière lui‬‬
‫خامسا‪ :‬موقف المشرع الجزائري‬
‫نرى شخصيا انه باستقراء المادة ‪ 30‬من تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬أن المشرع الجزائري أخذ بالرأي‬
‫األخير‪ ،‬أي رأي الفقيه البلجيكي جارو‪ ،‬حيث نصت هذه المادة على أنه‪ ":‬كل محاوالت الرتكاب جناية تبتدئ بالشروع‬
‫في التنفيذ أو بأفعال ال لبس فيها تؤدي مباشرة إلى ارتكابها‪ ،‬تعتبر كالجناية نفسها إذا لم توقف أو لم يخب أثرها إال‬
‫نتيجة لظروف مست قلة عن إرادة مرتكبها حتى ولو لم يكن بلوغ الهدف المقصود بسبب ظرف مادي يجهله‬
‫مرتكبها‪.[8]".‬‬
‫غير أن المعيار الصحيح للبدء في التنفيذ‪ ،‬في رأي الكثير من الفقه‪ ،‬هو وجوب وجود عالقة موضوعية‬
‫بين فعل الشروع وتلك الجريمة التي يراد الشروع فيها‪ ،‬وهي العالقة التي تتحدد بتحديد الحكمة من تجريم الشروع‬
‫ذاته‪ ،‬وهي تجريم الشروع العتدائه على الحق جزئيا أو تعريضه للخطر‪ ،‬لذا يجب أن يكون الفعل يمثل خطرا مباشرا‬
‫أو مصر لخطر مباشر على الحق الذي تحميه القاعدة الجنائية‪ ،‬وهي األمور التي ال يمكن أن تستنتج فقط من عقد العزم‬
‫من قبل الشخص على االعتداء على الحق المحمي قانونا‪ ،‬وإنما بناء على إمكانات موضوعية يصح القول معها أن‬
‫العدوان على الحق قد صار وشيكا‪ ،‬أي أن يكون الفعل صالح حسب المجرى العادي لألمور أن يفضي مباشرة إلى‬
‫الجريمة‪ ،‬وأن كل ما منع من تمامها هو حائل خارج عن إرادة الجاني‪ ،‬وهو ما يقتضي بالضرورة النظر إلى طبيعة‬
‫الجريمة ذاتها‪ ،‬والظروف والمالبسات التي صاحبت ارتكابها‪ ،‬ألنه ما يصلح ألن يكون بدء في تنفيذ جريمة ما‪ ،‬قد ال‬
‫يكون صالحا لبدء تنفيذ جريمة أخرى‪ ،‬لذا فصالحية الفعل يجب أن تكون على درجة من القوة يمكن القول معها بأن‬
‫وقوع الجريمة أصبح أمرا وشيكا‪ ،‬وهي األفعال التي تبدو للرجل العادي شديدة القرب من الجريمة إلى الحد الذي يحمله‬
‫إلى االعتقاد بأنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الوقوع‪ ،‬لذا فالمعيار هو ذو طبيعة موضوعية خالصة وما الركن‬
‫المعنوي سوى نفسه في الشروع والجريمة التامة‪ ،‬وهي الحكمة من تجريم الشروع]‪ .[9‬في حين يرى البعض وجوب‬
‫تجاوز المعايير السابقة والوقوف عند تقدير واقعي متغير يتجاوز المعايير المجردة‪ ،‬خاصة وأن خطورة معيار البدء‬
‫في التنفيذ مزدوجة‪ ،‬فهي إما أن تؤدي إلى التوسع أو التضييق من العقاب وفي الحالتين يكون ذلك على حساب مبدأ‬
‫الشرعية الجنائية‪ ،‬لذا وجب تقدير معيار البدء في التنفيذ بناء على جملة من االعتبارات ال المعايير المجردة‪ ،‬أهمها‬
‫ارتكاب فعل من األفعال المعتبرة من ماديات الجريمة أو على األقل يرتبط بها برابطة سببية وزمنية تفضي في نهاية‬
‫المطاف ووفقا للعادي والمألوف والمتصور إلى إحداث النتيجة المحظورة قانونا‪ ،‬وأن يفصح الشخص بهذا الفعل على‬
‫نية إجرامية نهائية ليست مستقلة بل كاشفة عن داللة الفعل الذي يوقع‪ ،‬أن يستهدف السلوك أو الفعل السابق المقرون بنية‬
‫إجرامية مصلحة أو حق محمي قانونا‪ ،‬مع األخذ بعين االعتبار بكافة الظروف والمالبسات المحيطة بفعل الجاني‬
‫وبالجاني ذاته‪ ،‬وهي عوامل ال يمكن تحديدها سلفا وال إخضاعها للحصر‪ ،‬بل تترك لقضاة الموضوع يقدرونها في كل‬
‫حالة على حدة‪ .‬ويعبر الفقه عن ذلك بمعيار الالمعيار للبدء في التنفيذ‪ ،‬لذا ينبغي تجاوز الصيغ النظرية المجردة‬
‫وصوال إلى تقدير واقعي يمكن من أن يختلف األمر من جريمة ألخرى‪ ،‬ومن جاني آلخر‪ ،‬خاصة في ظل أننا بصدد‬
‫سلوكات إنسانية نسبية ومتغيرة بطبيعتها ال يمكن أن تحيط أية نظرية مهما بدت محكمة من اإلحاطة بكافة جوانبه‪ ،‬لذا‬
‫فال مناص من إعمال المظاهر الواقعية التي تكتنف الجريمة ذاتها‪،‬وتتعلق بالفاعل نفسه‬

‫المطلب الثاني‬
‫العنصر الثاني من الركن المادي للشروع‬
‫عدم تمــــام الجريمة‬

‫]‪[139‬‬
‫الشروع في حقيقته مرحلة من مراحل الجريمة التامة‪ ،‬أو هو جريمة غير تامة‪ ،‬وعدم التمام راجع لوقف الفعل‬
‫أو خيبة أثره‪ ،‬وهو ما يبين صور الشروع‪ ،‬وهما صورتان‪ ،‬الشروع الناقص أو الجريمة الموقوفة أين ال يتم السلوك‬
‫بأكمله‪ ،‬وصورة الشروع التام أين يتم السلوك كله وال تتحقق النتيجة‪ ،‬ويسمى الجريمة الخائبة‪.‬‬
‫وال فرق قانونا بينهما حيث في كالهما يتدخل المشرع بالعقاب على الشروع‪ ،‬وإن كانت فكرة الجريمة‬
‫المستحيلة قد أثارت جدال فقهيا وقضائيا كبيرين‪ ،‬من زاوية أن عدم تحقق النتيجة أمر وارد منذ البداية‪ ،‬حيث أن اإلخفاق‬
‫فيها ظاهر منذ البداية‪ ،‬وإن كان هذا الخالف قد دفع بعض التشريعات إلى التدخل لفضه صراحة‪ ،‬إال أن البعض اآلخر‬
‫لم يفعل مثلما هو الشأن بالنسبة لغالبية التشريعات‪ ،‬بما فيها المشرع الجزائري‪ .‬لذا فتخلف النتيجة لسبب خارج عن‬
‫إرادة الجاني‪ ،‬يعد العنصر الثاني من عناصر الركن المادي لجريمة الشروع‪ ،‬إذ ال يمكن أن نكون بصدد المحاولة أو‬
‫الشروع إال في الحاالت التي ال تتم فيها الجريمة‪ ،‬إما إليقاف الجاني عن إتمامها وهو وضع الشروع الناقص أو‬
‫الجريمة الناقصة‪ ،‬أو لكون أثر سلوكه خاب‬
‫أ و يستحيل أن يرتب النتيجة المقصودة مثل حاالت الجريمة الخائبة أو الجريمة المستحيلة‪ ،‬وهي حالة الشروع التام‪.‬‬
‫وبالتالي يجب أن يكون تخلف النتيجة بسبب ظرف أو سبب خارج عن إرادة الجاني‪،‬ألنه لو كانت إلرادته دخل في عدم‬
‫تحقق النتيجة كنا بصدد العدول االختياري الذي ينفي جريمة الشروع أصال]‪ ،[10‬في حين هذه الخيرة تقتضي تخلف‬
‫النتيجة لسبب أو ظرف خارج عن إرادة الجاني‪ .‬لذا فهذا الركن يقتضي منا دراسة العدول االختياري الذي يخرجنا من‬
‫مجال جريمة الشروع‪ ،‬وتمييزه عن العدول االضطراري الذي يقيم هذه الجريمة‪ ،‬وكذا تناول الحاالت التي يلتبس فيها‬
‫العدول‪ .‬كما يقتضي منا الوضع الوقوف عن فكرة الجريمة المستحيلة‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫العدول عن إتمام الجريمة‬
‫من شروط قيام جريمة الشروع‪ ،‬عدم تحقق النتيجة‪ ،‬على أن يكون ذلك راجع لسبب خارجي ال دخل‬
‫إلرادة الجاني فيه‪ ،‬أي أن يكون مضطرا في ذلك‪ ،‬سواء أوقف أو منع‪ ،‬أو كانت النتيجة غير ممكنة الوقوع أو يستحيل‬
‫وقوعها‪ ،‬وهو األمر الذي يؤكد في مجال نظرية العدول‪ ،‬أنه حتى يكون هناك شروع‪ ،‬يجب أن يكون عدول الجاني‬
‫عدو ال اضطراريا‪ ،‬حيث إن كان اختياريا انتفت الجريمة‪ ،‬لذا فالمسألة تقتضي منا تناول العدول االختياري أوال‪،‬‬
‫باعتباره يخرجنا من نطاق جريمة الشروع‪ ،‬لنتناول بعده العدول االضطراري الذي يبقينا في نطاق هذه الجريمة‪ ،‬وفي‬
‫نقطة ثالثة نتناول نوع من العدول المختلط الذي يجمع بين النوعين السابقين‪.‬‬
‫أوال‪ :‬العدول االختياري‬
‫ي هدف المشرع إلى خلق حافز لدى الجاني على عدم المضي في مشروعه اإلجرامي إلى نهايته‪ ،‬فنص‬
‫على عدم عقابه إن هو عدل بإرادته عن إتمام الجريمة التي شرع في تنفيذها‪ ،‬وهي الحالة التي تعرف بالعدول‬
‫االختياري أو العدول اإلرادي‪ ،‬أين يقوم الجاني بنفسه بالحيلولة دون وقوع النتيجة‪ ،‬كأن يدخل لمنزل ألجل سرقته لكنه‬
‫يعود أدراجه من تلقاء نفسه دون أن يقوم بسرقة األموال‪ ،‬أو أن يشهر سالحه في وجه غريمه ثم يعدل عن ذلك قبل‬
‫الضغط على الزناد‪ .‬ويرى البعض أننا نكون بصدد عدول اختياري إذا سارع الجاني إلى إلغاء مفعول النتيجة بعد‬
‫وقوعها‪ ،‬كأن يقدم طعاما مخلوطا بالسم لغريمه‪ ،‬وسرعانما يسارع لتنبيهه وإعطاء الترياق للمجني عليه‪ ،‬مما يحول‬
‫دون إحداث أثار السم‪ ،‬غير أن الفقه الفرنسي في هذه الحالة يسميه توبة إيجابية الحقة‪ ،‬خاصة وأن جريمة التسميم في‬
‫القانون الفرنسي – وهو نفس الوضع في القانون الجزائري‪ -‬جريمة شكلية تقوم بمجرد تقديم السم دون ربطه بضرورة‬
‫تحقيق النتيجة‪.‬‬

‫لذا فالعدول اإلرادي بجب أن يكون مبعثه إرادة الجاني نفسه وليس سببا آخر]‪ ،[11‬وال يهم بعد ذلك‬
‫الدافع لهذا العدول‪ ،‬فقد يكون ندما أو الخوف من افتضاح األمر أو شفقة على المجني عليه أو خشية إلقاء القبض عليه‪،‬‬
‫أو حتى رغبة من الجاني في تأجيل التنفيذ لمرة أخرى الحقة‪ ،‬وكل ما يهم في األمر هو أن يكون العدول من تلقاء نفس‬
‫الجاني‪ ،‬أي نابع من أسباب داخلية نفسية‪ .‬لذلك يمكن القول أن شروط العدول االختياري أو اإلرادي هي‪:‬‬
‫‪ -‬تراجع تلقائي من قبل الجاني عن إتمام جريمته بالرغم من قدرته على المضي فيها‪.‬‬

‫]‪[140‬‬
‫‪ -‬أن يكون هذا التراجع نابع من إرادة الجاني وبكامل حريته‪.‬‬
‫‪ -‬أ ن يكون العدول قبل إتمام الجريمة‪ ،‬وإال أصبح مجرد توبة‪ ،‬وهذه األخيرة تكون سببا لتخفيف العقاب ال‬
‫المتناعه‪.‬‬
‫‪ -‬ال يمكن تصور العدول إال في الشروع الناقص‪ ،‬أي الجرائم الناقصة ال الخائبة وال المستحيلة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬العدول االضطراري‬
‫و هو عدول غير إرادي أو غير اختياري‪ ،‬ويرجع إلى ظروف خارجية تفرض على الجاني عدم إتمام‬
‫جريمته‪ ،‬بمعنى أن تكون إرادة الجاني مضطرة للعدول‪ ،‬كأن يصاب الجاني بحالة إغماء بعد بدءه التنفيذ وال يستطيع‬
‫إتمامها‪ ،‬أو كمن يدخل منزل مريدا سرقته وال يجد أموال فيعود أدراجه‪ ،‬ففي هذه الحاالت جريمة الشروع تكون قائمة‬
‫وموجبة للعقاب‪ ،‬كون العدول كان بتأثير عوامل خارجية تدفع الجاني للعدول عن جريمته‪ ،‬في حين المشرع يشجع فقط‬
‫العدول االختياري ليكون دافعا لعدم المضي في إتمام الجرائم‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬العدول المختلط‬
‫و هو عدول يكون ثمرة عوامل إرادية وأخرى غير إرادية‪ ،‬كالجاني الذي يخيل إليه سماع أصوات أقدام‬
‫فيظن أنهم أصحاب البيت‪ ،‬فيعدل عن إتمام جريمة سرقة المنزل الذي كان قد دخله‪ ،‬أو يسمع بوق سيارة الشرطة فيعتقد‬
‫باكتشاف أمره فيتوقف عن إتمام تنفيذ جريمته‪ ،‬وعموما هي حاالت توجد فيها حقيقة ظروف خارجية بعيدة عن إرادة‬
‫الجاني‪ ،‬غير أنها ال تصل إلى حد إجباره عن العدول‪ ،‬غير أنها أحدثت لديه بعض المؤثرات النفسية جعلت منه يعدل‬
‫بالرغم من أنه كان بإم كانه المواصلة‪ ،‬وهنا ثار تساءل عما إن كان مثل هذا العدول عدوال إراديا يحول دون قيام جريمة‬
‫الشروع‪ ،‬أم عدول اضطراري ال يحول دون قيام جريمة الشروع وعقاب الجاني عنها؟‪ .‬أحدث حكم العدول المختلط‬
‫خالفا فقهيا كبيرا‪ ،‬حيث ذهب بعض الفقه إلى ترجيح الطابع اإلرادي للعدول باعتبار أن العامل الخارجي الذي اعتقده‬
‫الجاني ما هو إال باعث‪ ،‬ومن مبادئ القوانين العقابية الحديثة أنها ال تهتم بالبواعث‪ ،‬وبالتالي يلحق العدول المختلط في‬
‫حكمه بالعدول اإلرادي الذي ال تقوم به جريمة الشروع‪ .‬بينما ذهب اتجاه فقهي آخر للقول بالطابع الالإرادي للعدول‬
‫المختلط‪ ،‬ألن العدول ال يكون إراديا إال إذا كان مبعثه أسباب نفسية داخلية وما عدا ذلك فهو عدول اضطراري تقوم به‬
‫جريمة الشروع وتوجب العقاب‪.‬‬
‫بينما ذهب اتجاه فقهي ثالث وسط‪ ،‬للقول بوجوب االعتداد بالعامل الغالب في العدول‪ ،‬فإن كان العامل‬
‫الغالب هو اإلرادة‪ ،‬فالعدول يكون اختياريا ال تقوم به جريمة الشروع‪ ،‬وإن كانت العامل الغالب هو العامل الخارجي‪،‬‬
‫كان العدول اضطراريا تقوم به جريمة الشروع‪ ،‬وفي حالة الشك في تغليب أحدهما لآلخر يغلب العامل اإلرادي ألن‬
‫الشك يفسر لمصلحة المتهم‪ .‬ونرى ترك المسالة للسلطة التقديرية للقاضي‪ ،‬ليقدر ما إن كان بإمكان الجاني االستمرار‬
‫في جريمته بالرغم من قيام الظرف الخارجي أم أثر في نفسيته بشكل حال دون تمكنه من االستمرار في التنفيذ‪ ،‬فإن كان‬
‫االختيار بيد الجاني وعدل عن إتمام جريمته كان عدوال اختياريا‪ ،‬وفي الحالة العكسية يكون عدوال اضطراريا تقوم به‬
‫جريمة الشروع‪ ،‬ودوما يفسر لشك في مصلحة المتهم‪ .‬وهو الموقف الذي نراه متبعا في القانون الجزائري‪ ،‬فللقاضي أن‬
‫يقدر المسألة تبعا لظروف كل قضية على حالـــة‪.‬‬

‫الفرع الثاني‬
‫الجريمة المستحيلة كصورة خاصة للشروع‬
‫قد يستحيل ارتكاب الجريمة وذلك بعدم تحقق نتيجتها لسبب ال دخل إلرادة الجاني فيه‪ ،‬كأن يطلق‬
‫الشخص الرصاص اتجاه شخص آخر بقصد قتله‪ ،‬فإذا بهذا األخير قد يكون توفي نتيجة سكتة قلبية قبل إصابته‬
‫بالرصاص‪ ،‬أو كمن يضع يده في جيب شخص آخر بغرض سرقته لكنه يتفاجا بوجود الجيب فارغا‪ ،‬أو كمن يحاول قتل‬

‫]‪[141‬‬
‫شخص بسالح يكون قد أفرغ من قذائفه دون أن يعلم]‪ ،[12‬وهي ما تسمى بالجريمة المستحيلة التي أثارت خالفا فقهيا‬
‫فرنسيا كبيرا‪ ،‬حول مفهومها ومدى ضرورة العقاب عليها‪ ،‬خاصة في ظل خلو تقنين العقوبات الفرنسي من نص يبين‬
‫موقفه من هذا النوع من الجرائم]‪ ،[13‬لذا انصب الخالف حول ما إن كان مد حكم الجريمة الخائبة على الجريمة‬
‫المستحيلة‪ ،‬باعتبار أن المجرم في كلتا الحالتين يكون قد استنفذ كامل السلوك المجرم غير أن النتيجة تخلفت لسبب‬
‫خارج عن إرادته‪ ،‬لذا ثار التساؤل عما كان يعاقب عليها مثل الجريمة الخائبة‪ ،‬أم أنها نوع من الجرائم يخرج أصال من‬
‫نطاق الشروع المعاقب عليه‪ ،‬باعتبارها جرائم مستحيل الوقوع منذ البداية‪.‬‬

‫و لإلجابة عن هذا السؤال‪ ،‬ثار الخالف مثلما هو عليه الوضع دوما بين االتجاهين التقليديين‪ ،‬االتجاه‬
‫الموضوعي واالتجاه الشخصي‪ ،‬األول ويضع نصب أعينه ماديات الجريمة ويرى عدم العقاب على الجريمة المستحيلة‬
‫في كافة صورها‪ ،‬والثاني الخطورة اإلجرامية لدى الجاني‪ ،‬ويرى العقاب على الجريمة المستحيلة بكل أنواعها‪ ،‬كون‬
‫الجاني قد أبان عن خطورة إجرامية كانت كامنة لديه‪ ،‬غير أن تطرف المذهبين أدى في النهاية – ومثلما هو عليه الحال‬
‫دوما‪ -‬إلى ظهور مذاهب توفيقية‪ ،‬وهي مذاهب حاولت هذه المرة التفرقة بين صور االستحالة‪ ،‬منها ما يرى أن‬
‫االستحالة قد تكون مطلقة وقد تكون نسبية‪ ،‬والثاني يرى أنها قد تكون قانونية وقد تكون مادية‪ ،‬وكل منها يحاول العقاب‬
‫على نوع من األنواع دون النوع اآلخر‪.‬‬
‫أوال‪ :‬االتجــــاه الشخصي‬
‫العقاب على الجريمة المستحيلة في كافة صورها‬

‫ي رى أنصار المذهب الشخصي بأنه ال فرق بين الجريمة المستحيلة والجريمة الخائبة‪ ،‬وبين النوعين‬
‫والجريمة الموقوفة‪ ،‬ففي كل هذه األنواع يكون الجاني مرتكبا لجريمة الشروع‪ ،‬وعلة ذلك أن المشرع في عقابه على‬
‫الشروع لم ينظر إلى الضرر المادي الذي قد يصيب الفرد والمجتمع من جريمة الشروع‪ ،‬بل ينظر إلى الخطورة‬
‫اإلجرامية التي أظهرها الجاني بأفعال خارجية ذات صلة مباشرة بالجريمة‪ ،‬فكلما توفرت مثل هذه الخطورة لدى الجاني‬
‫توجب عقابه دون حاجة للبحث ما إن كانت الجريمة مستحيلة أو ممكنة أو ما إلى غير ذلك‪ ،‬فوفقا ألنصار هذا االتجاه‪،‬‬
‫استحالة تحقق النتيجة في الجريمة المستحيلة ال يمحي عن الجاني خطورته اإلجرامية‪ ،‬سيما وأن علة العقاب على‬
‫الشروع هو عدم تعريض المصالح والحقوق للخطر‪ ،‬وهو ما عيب عليها‪ ،‬كون الخطورة تستمد من خطورة الفعل ذاته‬
‫مضافا لها خطورة الجاني‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬االتجاه الموضوعي ( المادي )‬
‫عدم العقاب على الجريمة المستحيلة في كافة صورها‬
‫و هو أقدم االتجاهات والذي يتبناه الفقه األلماني وبعض الفقه الفرنسي‪ ،‬والذي يبنون رأيهم على أنه ال‬
‫يمكن الشروع فيما ال يمكن الشروع فيه‪ ،‬وال يمكن البدء في تنفيذ ما ال يمكن تنفيذه‪ ،‬وأن كل ما أفصح عليه الجاني في‬
‫الجريمة المستحيلة‪ ،‬هو نية إجرامية‪ ،‬والقانون ال يعاقب على النوايا ما لم ترتب أضرارا اجتماعية‪ ،‬وفي الجريمة‬
‫المستحيلة ال يوجد ضرر وال مجرد تهديد بحصول هذا الضرر‪ ،‬وبالتالي األمر ال يستحق ال التجريم وال العقاب‪ .‬غير‬
‫أن ما و جه لهذه النظرية من انتقادات هو تضييقها كثيرا من نطاق العقاب مما يعصف بحقوق المجتمع‪ ،‬فالشخص الذي‬
‫يضع يده في جيب شخص آخر ويجده خاويا وفقا لهذه النظرية ال يعاقب‪ ،‬بالرغم من أن فعله يعد شروعا تاما‪ ،‬لذلك‬
‫هجرت هذه النظرية ولم يبق في الفقه من يؤيدها‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬االتجـــاه التوفيقي‬


‫التفرقة بين أنواع االستحالة‬
‫م ن بين أهم االتجاهات التوفيقية التي حاولت الجمع بين مزايا المذهبين المادي والشخصي وهجر‬
‫مساوئهما‪ ،‬اتجاهين رئيسيين‪ ،‬أحدهما فرق بين االستحالة المطلقة واالستحالة النسبية‪ ،‬والثاني فرق بين االستحالة‬
‫القانونية وا الستحالة المادية‪ ،‬وكل منهما حصر العقاب على نوع دون اآلخر‪ ،‬وفق ما سيتضح من اآلتي‪.‬‬

‫]‪[142‬‬
‫‪ -1‬التفرقة بين االستحالة المطلقة واالستحالة النسبية‬
‫قصر العقاب على االستحالة النسبية دون االستحالة المطلقة‬
‫وهو اتجاه ينسب في حقيقة األمر ألنصار المذهب الموضوعي أو المادي‪ ،‬وميزوا بين نوعين من‬
‫االستحالة‪ ،‬استحالة مطلقة وال عقاب عليها‪ ،‬واستحالة نسبية تبرر عقاب الجاني‪ .‬ورأوا بأن االستحالة المطلقة قد تتعلق‬
‫بمحل الجريمة أو بوسيلة ارتكابها‪ ،‬ومثال األولى أن يكون المحل المادي للجريمة أو موضوعها منعدما‪ ،‬كأن يكون‬
‫الشخص المراد قتله في جريمة القتل متوفيا من قبل‪ ،‬أو محاولة إجهاض امرأة غير حامل أصال‪ ،‬ومثال عدم صالحية‬
‫الوسيلة كاستعمال سالح ناري للقتل ويكون غير صالح لذلك‪ ،‬أو يكون خاليا من الرصاص أو محاولة التسميم بمادة غير‬
‫مؤذية للصحة تماما‪ .‬وهنا ال يمكن القول بوجود جريمة الشروع وال يمكن العقاب عليها‪.‬‬
‫وأما االستحالة النسبية فقد ترد أيضا على المحل أو على الوسيلة‪ ،‬لكن ال أن يكون المحل غير موجود‬
‫أصال أو الوسيلة غير صالحة أصال‪ ،‬وإنما أن يكون المحل وقت الجريمة فقط غير موجود‪،‬‬
‫أو استعمال الوسيلة لم يكن بالنحو الصحيح لتشغيلها‪ ،‬ففي مثال جريمة القتل‪ ،‬كأن يكون المجني عليه لحظة ارتكاب‬
‫الفعل غير موجود بالمكان الذي اعتاد أن ينام فيه‪ ،‬أو استعمال السالح لم يكن بالطريقة السليمة‪،‬‬
‫أ و في جريمة السرقة السابقة نقل المجني عليه قبل ارتكاب الجريمة إلى جيب آخر‪ .‬وفي هذا النوع من االستحالة تقوم‬
‫جريمة الشروع ويعاقب المجني عليه‪ .‬كون االستحالة في هذا النوع عبارة فقط عن جريمة خائبة ال مستحيلة‪.‬‬
‫و هي التفرقة التي انتقدت بشدة من قبل الفقه‪ ،‬على اعتبارها تفرقة غير منطقية‪ ،‬كون االستحالة نوع‬
‫واحدة وحالة واحدة وال تقبل أي تفرقة‪ ،‬فالجريمة إما أن تكون ممكنة وإما أال تكون ممكنة‪ ،‬أي مستحيلة‪ ،‬وال توجد‬
‫درجات لالستحالة‪ .‬لذا ظهر اتجاه آخر وسط يفرق بين أنواع االستحالة‪ ،‬لكن يقول بنوعين آخرين منها‪ ،‬وهي استحالة‬
‫قانونية وأخرى مادية‪.‬‬
‫‪ -2‬التفرقــــة بين االستحالة المادية واالستحالة القانونية‬
‫قصر العقاب على االستحالة المادية دون االستحالة القانونية‬
‫و هو اتجاه وسط تبناه فريق من الفقه الفرنسي‪ ،‬والذي على غرار ما قام به أنصار االتجاه األول‪ ،‬قام‬
‫بالتفرقة بين نوعين من االستحالة‪ ،‬لكنه جعلها استحالة مادية وأخرى قانونية‪ ،‬وقصر العقاب على االستحالة المادية دون‬
‫و وفقا لهذا االتجاه‪ ،‬االستحالة القانونية قد ترجع بصفة عامة إلى انعدام محل الجريمة أو انتفاء‬ ‫االستحالة القانونية‪.‬‬
‫عنصر من عناصرها القانونية‪ ،‬فهنا ال جريمة وال شروع وال عقاب‪ ،‬حيث الجريمة ال تقوم أصال بدون عنصر من‬
‫العناصر المتطلبة قانونا لقيامها‪ ،‬كسبق وفاة المراد قتله أو ملكية الجاني للمال المسروق الذي اعتقد أنه ملك للغير‪ ،‬في‬
‫حين االستحالة المادية ترجع إلى سبب مادي واقعي ال قانوني‪ ،‬كعدم استعمال وسيلة ارتكاب الجريمة استعماال سليما‪،‬‬
‫وهنا تقوم جريمة الشروع ويعاقب عليها الجاني‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬موقف المشرع الجزائري من الجريمة المستحيلة‬
‫يتضح من نص المادة ‪ 30‬من تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬أن المشرع الجزائري يعاقب على الجريمة‬
‫المستحيلة‪ ،‬إذ يعاقب بصراحة على االستحالة المادية وفقا للرأي السابق‪ ،‬حيث استعمل فكرة " الظرف المادي" دون‬
‫الظرف القانوني‪ ،‬ألن هذا األخير ال يقيم الجريمة أصال‪ ،‬حيث نصت المادة على أنه‪... ":‬حتى ولو لم يمكن بلوغ الهدف‬
‫المقصود بسبب ظرف مادي يجهله مرتكبها‪ .".‬غير أن المشرع يستثني بعض الحاالت الخاصة‪ ،‬مثلما هو الشأن بالنسبة‬
‫لجريمة اإلجهاض‪ ،‬المنصوص والمعاقب عليها بموجب نص المادة ‪ ،304‬حيث يتوقف العقاب على هذه الجريمة على‬
‫حمل المرأة أو مجرد افتراض حملها‪ .‬في حين يرى البعض تعليق العقاب على الجريمة المستحيلة على عنصر " العلم"‪،‬‬
‫وهو أهم عناصر القصد الجنائي‪ ،‬حيث إن كان الجاني ال يعلم بأن الوسيلة غير صالحة إلحداث النتيجة‪ ،‬أو أن محل‬
‫الجريمة ال يوجد أو منعدم عوقب‪ ،‬أما إن كان يعلم بذلك فهو ال يعاقب كون علمه هذا يقود لعلمه أن النتيجة مستحيلة‬
‫الحدوث وبالتالي يعلم جيدا أن الجريمة ال تقوم]‪.[14‬‬
‫المطلب الثالث‬
‫الركن المعنوي لجريمة الشروع‬

‫]‪[143‬‬
‫الشروع جريمة‪ ،‬وبالتالي ال يكفي لقيامها مجرد البدء في تنفيذ الركن المادي للجريمة‪ ،‬وعدم تحقق‬
‫النتيجة‪ ،‬و إنما يجب أن يتوفر لدى الجاني قصد تحقيق هذه الجريمة‪ ،‬وهنا يمكن القول بأنه ال فرق بين جريمة الشروع‬
‫والجريمة التامة من حيث الركن المعنوي‪ ،‬بل الفرق ينحصر في الركن المادي فقط‪ ،‬وبالضبط في عنصر النتيجة‪ ،‬حيث‬
‫تتحقق في الجريمة التامة‪ ،‬وتتخلف في جريمة الشروع‪ .‬لذا يمكن القول أن جريمة الشروع جريمة عمدية يجب لقيامها‬
‫اتجاه قصد الجاني إلى إتيان السلوك المجرم بقصد تحقيق النتيجة المجرمة قانونا‪ ،‬وبمعنى آخر يجب أن تنصرف إرادة‬
‫الجاني في البداية إلى تحقيق جريمة تامة‪ ،‬وليس مجرد الشروع فيها‪ ،‬فإذا ثبت أن إرادة الجاني لم تتجه إلى إتمام‬
‫الجريمة‪ ،‬وإنما الوقوف بفعله عند حد معين‪ ،‬كالجرح مثال‪ ،‬فال يمكن أن يسأل عن المحاولة في القتل‪ ،‬ألنه لم يقصد‬
‫تحقيقه‪ ،‬بل يسأل عن الضرب المفضي للوفاة باعتباره جريمة مستقلة وقائمة بذاتها‪ .‬ونتيجة لما سبق‪ ،‬سنحاول دراسة‬
‫الشروع في الجرائم غير العمدية وفي الجرائم المتجاوزة القصد‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫الشروع في الجرائم غير العمدية‬
‫د ون استعراض الخالف الفقهي‪ ،‬يمكن القول مباشرة‪ ،‬أنه ال يمكن تصور الشروع في الجرائم غير‬
‫العمدية‪ ،‬كون الركن المعنوي في هذا النوع من الجرائم ال يقوم على إرادة تحقيق النتيجة‪ ،‬بل هذه األخيرة تحققت فقط‬
‫التخاذ سلوك خاطئ‪ ،‬وسبق القول في الشروع أن الجاني يريد تحقيق النتيجة وتتخلف لظرف خارج عن إرادته‪،‬‬
‫وبالتالي ال شروع في الجرائم غير العمدية‪ ،‬وإن كان يمكن تخلف جريمة يقيم جريمة غير عمدية أخرى‪ ،‬فقيادة السيارة‬
‫بسرعة فائقة في طريق مزدحم بالمارة ال يعد شروعا في القتل الخطأ لكن يقيم جريمة تجاوز السرعة المحددة قانونا‪،‬‬
‫وإصابة شخص دون أن تحدث له الوفاة‪ ،‬ال يعد جريمة الشروع في القتل الخطأ‪ ،‬بل يشكل جريمة أخرى هي جريمة‬
‫الجروح الخطأ‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫الشروع في الجرائم المتعدية ( المتجاوزة) القصد‬
‫وهي جرائم يقترف فيها الجاني سلوكا معينا قاصدا منه تحقيق نتيجة إجرامية معينة‪ ،‬فإذا بالنتيجة التي‬
‫تتحقق تكون أشد جسامة‪ ،‬لكن لم يكن يقصدها الجاني إطالقا‪ ،‬وبالتالي ال يمكن تصور الشروع فيها كونها نتيجة كانت‬
‫غير مقصودة أصال‪ ،‬والركن المعنوي في جريمة الشروع يقتضي إرادة النتيجة ورغم ذلك تتخلف‪.‬‬
‫وإذا ما قامت أركان الشروع السابقة‪ ،‬فإن عقوبة الشروع في القانون الجزائري عقوبة ذات عقوبة الجريمة‬
‫التامة‪ ،‬وهو اتجاه موقف قانوني يساوي بين الجريمة التامة وجريمة الشروع‪ ،‬وإن كانت هناك قوانين تخفف من جرائم‬
‫الشروع مقارنة مع الجريمة التامة‪ ،‬غير أن هذا الموقف المتعلق بالمساواة في العقاب هو الموقف القانوني للمشرع وال‬
‫يوجد ما يمنع القاضي من إعمال سلطته التقديرية في تقدير العقوبات ومبدأ تفريد العقاب‪.‬‬

‫]‪ - [1‬يعد البدء في التنفيذ الفيصل بين المحظور والمباح‪ ،‬لذا مكان من بين أعقد مشاكل الشروع في الجريمة هو التمييز‬
‫بين األعمال التحضيرية والبدء في التنفيذ‪ ،‬وهي مسألة شغلت بال رجال الفقه الجنائي لعدة قرون‪ ،‬األمر الذي جعل بعض‬
‫التشريعات الحديثة لتفادي المشاكل إسقاط عبارة " البدء في التنفيذ" من النصوص القانونية التي تعاقب على الشروع‪ ،‬غير أن ذلك‬
‫لم يقض على المشكل ة‪ ،‬كون األمر يتعدى مجرد التغيير في المصطلحات‪ ،‬بل األمر يحتاج إلى ضابط يمكن به التمييز بين‬
‫المرحلتين‪ ،‬المرحلة التحضيرية ومرحلة البدء في التنفيذ‬
‫]‪ - [2‬إذ في الغالب ما ال تقع الجريمة دفعة واحدة في لحظة وتنتهي‪ ،‬بل يمر فاعلها في غالب األحيان بالعديد من‬
‫المراحل قبل أن يبدأ في تنفيذها‪ ،‬فتنشأ الجريمة في أول األمر كفكرة تختلج في نفس صاحبها‪ ،‬لتستقر في ذهنه كهدف يعزم‬
‫ويصمم على تحقيقه‪ ،‬وفي كل هذه المراحل ال تزال كفكرة نفسية خالصة ولم تظهر بعد في العالم المادي الملموس‪.‬‬
‫]‪ - [3‬نسمي هذه المرحلة بمرحلة النوايا الكامنة‪ ،‬النعدام أي أثر مادي يكشف عنها‪ ،‬وكل ما تمر به يبقى كمين نفس‬
‫الجاني‪.‬‬
‫]‪ - [4‬ونصت على هذه الجريمة المادة ‪ 87‬مكرر ‪ 7‬من قانون العقوبات التي أدرجت بموجب األمر ‪ 11-95‬المؤرخ في‬
‫‪ 1995-02-52‬المتعلقة بالجرائم الموصوفة بأفعال إرهابية أو تخريبية‪ ،‬التي نصت على أنه‪ ":‬يعاقب بالسجن المؤقت من ‪10‬‬

‫]‪[144‬‬
‫سنوات إلى ‪ 20‬سنة وبغرامة من ‪ 500.000‬دج إلى ‪ 1.000.000‬دج‪ ،‬كل من يحوز أسلحة ممنوعة أو ذخائر يستولي عليها أو‬
‫يحملها أو يتاجر بها‪ ،"...‬وقبل هذا التعديل كانت تعاقب على هذه الجريمة المادة ‪ ( 2/89‬بموجب األمر رقم ‪ 47-75‬المؤرخ في‬
‫‪ ،) 1975-06-17‬التي كانت تعاقب بالمؤبد كل من يقوم أثناء حركة التمرد بحمل األسلحة والذخائر عالنية أو خفية‪.‬‬
‫]‪ - [5‬وهي الجريمة المنصوص والمعاقب عليها بموجب المادة ‪ 359‬المعدلة بموجب القانون ‪ 23-06‬المؤرخ في ‪-20‬‬
‫‪ 2006-12‬التي نصت على أنه‪ ":‬كل من قلد أو زيف مفاتيح يعاقب بالحبس من ثالثة أشهر إلى سنتين وبغرامة من ‪ 20.000‬دج‬
‫إلى ‪ 100.000‬دج‪"....‬‬
‫]‪ - [6‬ألنه وإن كانت األمور واضحة فيبعض الفروض‪ ،‬كعدو أحد األشخاص وراء اآلخر مطلقا عليه الرصاص‪ ،‬أو‬
‫كضبط أحد األشخاص محاوال فتح باب المنزل بالعنف‪ ،‬أو سكب أحد األشخاص البنزين وراء باب جاره محاوال حرقه‪ ،‬ففي هذه‬
‫الحاالت البدء في تنفيذ الجريمة يعد واضحان وبالتالي شكل جريمة الشروع المعاقب عليها قانونا‪ .‬وعلى العكس مما سبق‪ ،‬فإن‬
‫حيازة مادة سامة‪ ،‬والتجول ليال حول منزل سيدة تسكن بمفردها‪ ،‬يعد من قبيل األعمال التحضيرية غير المعاقب عليها‪ ،‬غير أنه‬
‫وعلى عكس كل ما سبق‪ ،‬هناك حاالت ملتبسة يصعب القطع فيها ما إن كان العمل مجرد عمل تحضيري أو يشكل بدءا في تنفيذ‬
‫الجريمة‪ ،‬كدق الشخص لجرس المنزل ليتأكد من غياب صاحبه‪ ،‬أو ضبطه متجوال في حديقة منزل وهو يتلصص‪ ،‬ففي مثل هذه‬
‫الحاالت يصعب القول ما إن كان قد شرع في جريمته أو ال يزال في طور مرحلة التحضير‪...‬‬
‫]‪ - [7‬م ا عدا الحاالت التي قد تشكل فيها مثل هذه األفعال جرائم مستقلة بذاتها‪ ،‬كجريمة انتهاك حرمة منزل في هذا‬
‫المثال‪.‬‬
‫]‪ - [8‬وللتدليل على ذلك نورد نص المادة ‪ 30‬باللغة الفرنسية‪ ،‬خاصة وان الفقيه البلجيكي جارو صاغ نظريته أيضا‬
‫باللغة الفرنسية‪ ،‬لذا أوردنا في المتن أعاله عبراته باللغة الفرنسية للمقارنة‪.‬‬
‫‪« Est considérée comme le crime mêmes, toute tentative criminelle qui aura été‬‬
‫‪manifestée par un commencement d’exécution ou par des actes non équivoque tendant‬‬
‫» ‪directement à le commettre….‬‬
‫]‪ - [9‬ويرى البعض أنه يجب إعمال المعيارين معا‪ ،‬حيث يعمل بمعيار موضوعي يتمثل في فعل يتجه مباشرة إلى‬
‫إحداث النتيجة‪ ،‬وهو أمر نسبي يختلف باختالف الجرائم‪ ،‬وعنصر شخصي يتمثل في اتجاه إرادة الجاني اتجاها ال رجعة فيه إلى‬
‫إتمام الجريمة وهو ما يستنتج من الظروف المحيطة بالجاني‪.‬‬
‫]‪ - [10‬ن شير إلى هذه النقطة‪ ،‬ألن كثيرا ما نجد بعض الكتب تجعل من العدول االختياري أو اإلرادي ركنا من أركان‬
‫الشروع‪ ،‬في حين أن هذا النوع من العدول يخرجنا من دائرة الشروع إلى دائرة اإلباحة وعدم العقاب‪ ،‬كون جريمة الشروع في‬
‫األساس عبارة عن جريمة ناقصة أو خائبة أو مستحيلة‪ ،‬وهي األوضاع التي ال نتخيلها مصاحبة لإلرادة‪.‬‬
‫]‪ - [11‬ر أى المشرع أنه من حسن السياسة الجنائية فتح الباب أمام الجناة للنجاة من العقاب حتى بعد الشروع في‬
‫ارتكاب الجرائم وذلك في الحاالت التي يعدلون فيها عن إتمامها‪ ،‬فال عقاب عليه إذا حال دون إتمامها بالكف عن مواصلة النشاط‬
‫المجرم أو الحيلولة دون حدوث نتائجه‪ ،‬أي الشروع في السلوك ثم الكف عنه‪ ،‬أو أتمه وحال دون ترتيب نتائجه‪ ،‬وفي كال‬
‫الصورتين من العدول هناك ركنين مادي ومعنوي‪ ،‬المادي وهو نشاط عضوي مضاد للسلوك اإلجرامي يبذله الجاني ليوقف به‬
‫السلوك الذي بدأه أو يحول دون تحقيق نتيجته‪ ،‬والعنصر المعنوي اتجاه إرادته إليقاف السلوك أو تخييب نتائجه‪ ،‬وهنا ال يعتد‬
‫بالبواعث التي حملت الجاني عليه حتى وإن كانت غير نبيلة أو الخوف‪ ،‬فعبرة عدم العقاب ليست شخصية وغنما موضوعية‬
‫محضة ومصلحية حيث هي الحيلولة دون انقالب اخطر إلى ضرر حقيقي على المجتمع وال شأن للمسألة بالبواعث‬
‫]‪ - [12‬ويرى البعض أن أول قضية تتعلق بالجريمة المستحيلة عرضت على القضاء الفرنسي‪ ،‬كانت قضية تتلخص‬
‫وقائعها في أن شابا يدعى " لوران" أراد قتل والده ببندقية ملك لألخير‪ ،‬وكان يعلقها على الحائط‪ ،‬فلما شعر الوالد بمخطط ابنه‬
‫أفرغ البندقية من قذائفها دون أن يشعر االبن بذلك‪ ،‬وأعدها بعد ذلك لمكانها على الحائط‪ ،‬وعندما استعملها االبن لم تحدث بالوالد‬
‫أي ضرر‪ ،‬وعند إحالته على المحكمة عوقب بمحاولة القتل‪.‬‬
‫]‪ - [13‬مشكلة الجريمة المستحيلة مشكلة كان الفقيه األلماني فويرباخ أول من أثارها سنة ‪ ،1808‬ورأى أن الجريمة تعد‬
‫مستحيلة إذا لم يحقق الجاني أية نتيجة بسبب عدم توافر محل الجريمة‪ ،‬أو بسبب عدم فعالية الوسائل التي استعملها الجاني‪،‬‬
‫وبالتالي الجريمة المستحيلة هي التي يستحيل فيها إحداث النتيجة‪ ،‬وهنا نجد الفقه يحاول التفرقة بين الجريمة المستحيلة والجريمة‬
‫الخائبة من جهة‪ ،‬وبين الجريمة المستحيلة والجريمة الظنية من جهة أخرى‪ .‬فبخصوص الجريمة المستحيلة والجريمة الخائبة‪،‬‬
‫فإنهما يشتركان في بذل الجاني كل ما في وسعه لكنه يخفق في إحداث النتيجة‪ ،‬لكنهما يختلفان في سبب هذا اإلخفاق‪ ،‬ففي الجريمة‬
‫المستحيلة يكمن السبب في فعل الجاني الذي يستحيل عليه منذ البداية أن يصل إلى النتيجة‪ ،‬أما في الجريمة الخائبة فسبب اإلخفاق‬

‫]‪[145‬‬
‫يطرأ بعد أن يبدأ الجاني في مباشرة فعله‪ .‬أما بخصوص الجريمة المستحلية والجريمة الظنية‪ ،‬فهما يشتركان في أن الفعل ذاته‬
‫تكمن فيه عدم صالحية إحداث النتيجة‪ ،‬ولكنهما يختلفان في كون الجريمة المستحيلة ترجع إما على عدم وجود المحل الذي ترد‬
‫عليه الجريمة أو إلى عدم صالحية الوسيلة‪ ،‬بعكس الجريمة الظنية التي ال تتوفر إال في مخيلة الجاني واعتقاده‬
‫القانوني الخاطئ‪ ،‬ويكون أمام مجرد ظنون وأوهام ال ترقى إلى مرتبة األفعال التي تهدد المصلحة المحمية قانونا‪.‬‬
‫]‪ - [14‬وهو أمر بديهي ونؤيده كثيرا‪ ،‬ونعطي عنه أمثلة‪ ،‬فلنفترض أن شخص أفرغ سالحه من الرصاص وهو يالعب‬
‫زميله وجعله يعتقد أنه سيقتله وصوب نحوه المسدس وأطلق الرصاص وهو يعلم أن الرصاص ال ينطلق‪ ،‬بل يمكننا القول أنه‬
‫حتى ولو نسي رصاصة فالقتل خطا وليس عمدي‪ .‬أو أن يخيف زميله بأن يقتل شخص آخر اتفق معه على مغادرة فراشه‪.‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫المساهمــــة الجنائية‬
‫االشتراك الجنائي أو اإلسهام الجرمي‬

‫ل ئن كانت الجريمة في صورتها العادية تقع من شخص واحد‪ ،‬إال أنها قد تمثل أحيانا مشروعا إجراميا‬
‫يسهر ويقوم على تنفيذه أكثر من شخص واحد‪ ،‬فتتحول الجريمة إلى مشروع جماعي بعدما كانت مشروعا فرديا‪ ،‬وهو‬
‫ما يمثل فكرة المساهمة الجنائية التي تعني ارتكاب الجريمة الواحدة من طرف شخصين أو أكثر‪ ،‬وهي الفكرة التي‬
‫نظمها المشرع الجزائري في المواد من ‪ 41‬إلى ‪ 46‬من تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬وذلك تحت عنوان‪" :‬المساهمون في‬
‫الجريمة"‪.‬‬
‫ماهية المساهمة الجنائية‬

‫]‪[146‬‬
‫تقتضي النظرية العامة للجريمة‪ ،‬أن المشرع ال يتدخل بالعقاب عليها إال إذا اكتملت أركانها بغض النظر‬
‫عن الشخص الذي ارتكبها‪ ،‬إال أنه هناك حاالت يقوم فيها العديد من األشخاص الذي يتقاسمون األدوار التي تختلف‬
‫وتتفاوت في طبيعتها ودرجتها في تنفيذ هذه الجريمة‪ ،‬وهو المقصود من المساهمة الجنائية‪.‬‬
‫وتختلف المساهمة الجنائية التي نحن بصدد دراستها‪ ،‬عن فكرة المساهمة الضرورية التي يقصد بها تلك‬
‫المساهمة القانونية التي تتطلبها بعض أنواع الجرائم التي ال تقبل بطبيعتها أن يرتكبها شخصا واحدا‪ ،‬مثل جريمة الرشوة‬
‫التي تتطلب الراشي والموظف المرتشي‪ ،‬وجريمة الزنا التي تطلب شخصين احدهما يكون متزوجا‪ ،‬وجريمة التآمر التي‬
‫تتطلب العديد من األشخاص الذين يتآمرون ضد الوطن‪ ...‬والعديد من الجرائم األخرى التي ال تقوم بطبيعتها ووفقا‬
‫للقانون بفعل شخص واحد‪.‬‬
‫ف ي حين أن فكرة المساهمة الجنائية التي نحن بصدد دراستها‪ ،‬تعني أن الجريمة من الجرائم القابلة‬
‫بطبيعتها أن يرتكبها شخصا واحدا‪ ،‬إال أننا نجد العديد من األشخاص الذين يساهمون في تنفيذها‪ ،‬سواء تامة أو عند‬
‫مرحلة الشروع‪ ،‬وبالتالي هي فكرة تتطلب جريمة واحدة – فالجرائم المتعددة تبعدنا عن فكرة المساهمة الجنائية‪ ،-‬كما‬
‫تتطلب تعدد الجناة‪ -‬إذ الجاني المنفرد يبعدنا أيضا عن فكرة المساهمة الجنائية‪ .-‬لذا فالمساهمة الجنائية‪ ،‬تتطلب وحدة‬
‫الجريمة وتعدد الجناة‪ .‬وهما الشرطين الضروريين لجعلنا أمام هذه الفكرة الجنائية‪.‬‬
‫أوال‪ :‬وحـــدة الجريمة‬
‫تقتضي فكرة المساهمة الجنائية أن يرتكب العديد من الجناة جريمة واحدة تقبل طبيعتها أن يرتكبها‬
‫شخصا واحدا‪ ،‬لذا يجب أن تتضافر جهود هؤالء في تنفيذ الجريمة‪ -،‬وذلك بأن تجمع بينهما الوحدة المادية‪ -‬وحدة الركن‬
‫المادي‪ -‬والوحدة المعنوية – وحدة الركن المعنوي‪.-‬‬
‫‪ -1‬الوحدة المادية‪:‬‬
‫فكرة المساهمة الجنائية تقتضي قيام العديد من الجناة الذين تختلف وتتفاوت أدوارهم في ارتكاب جريمة‬
‫واحدة‪ ،‬ووحدة الجريمة أول ما تتجسد فإنها تتجسد في وحدة الركن المادي لها‪ ،‬وهذا األخير يتطلب وحدة السلوك‬
‫ووحدة النتيجة‪ ،‬لكن إن كانت نتيجة الجريمة واحدة‪ ،‬فوحدة السلوك وإن كانت تعني سلوك واحد أدى لحدوث النتيجة‬
‫السابقة‪ ،‬غير انه سل وك مشكل من تعدد األفعال المشكلة لسلوك إجرامي واحد‪ ،‬وأن يساهم كل فعل من هذه األفعال في‬
‫تحقيق النتيجة وأن يرتبط بها برابطة سببية‪ ،‬بحيث لو استبعدنا فعل من هذه األفعال وبالرغم من ذلك حدثت النتيجة‪،‬‬
‫فالقائم بهذا الفعل ال يعد مساهما في الجريمة‪ .‬وبالتالي يمكن القول بأن فكرة الوحدة المادية تعني وحدة الركن المادي‪،‬‬
‫والتي تتأكد من خالل وحدة النتيجة وارتباطها برابطة سببية مع كل األفعال التي أتاها الجناة‪ ،‬أي أن يتوفر لدى كل‬
‫جاني عناصر الركن المادي األساسية والمتمثلة في سلوك ونتيجة عالقة سببية تربط بين هذا السلوك والنتيجة الواحدة‬
‫التي تحققت‪.‬‬

‫‪-2‬الوحدة المعنوية‪:‬‬
‫و يقصد بها أن تكون هناك وحدة ذهنية ورابطة معنوية تجمع بين جميع المساهمين في ارتكاب الجريمة‪،‬‬
‫وذلك من علم وإرادة تهدف إلى ارتكاب نفس النتيجة سواء كان بينهم اتفاق سابق أو مجرد تفاهم‪ ،‬والتفاهم هو مجرد‬
‫توفر نية ا الشتراك معاصرة الرتكاب الجريمة‪ ،‬عكس االتفاق الذي يكون سابقا الرتكاب الجريمة فإن التفاهم يكون‬
‫معاصرا لها‪ ،‬أي لحظة ارتكابها‪ ،‬كأن يرى أحدهم يجري وراء اآلخر ألجل قتله‪ ،‬فيمسك به بغرض تمكين الجاني منه‬
‫بالرغم من أنه لم يكن هناك اتفقا سابق بينهما‪ ،‬وقد ال يكون يعرفه أصال‪ .‬وفقدان مثل هذه الرابطة المعنوية‪ ،‬يحول‬
‫الجريمة من جريمة مساهم فيها إلى مجموعة جرائم‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬تعدد الجـــــناة‬
‫سبق القول بأن المساهمة الجنائية تفترض وحدة الجريمة بركنيها المادي – وإن كانت النتيجة واحدة‬
‫فاألفعال متعددة‪ -‬والمعنوي‪ ،‬وأن يساهم العديد من األشخاص في ارتكاب هذه الجريمة‪ ،‬أي وجود أكثر من جاني واحد‬
‫يساهم في هذه الجريمة التي تصبح تشكل لهم مشروعا إجراميا واحدا‪ ،‬وبالتالي وجود العديد من األشخاص الذين‬

‫]‪[147‬‬
‫يرتبكون العديد من الجرائم ال يجعلنا أمام المساهمة الجنائية‪ ،‬وال وجود شخص واحد يرتكب العديد من الجرائم‪ ،‬إذ هذا‬
‫الوضع يجعلنا أمام فكرة تعدد جرائم الشخص الواحد‪.‬‬
‫ه ذا وبعد أن تناولنا مفهوم المساهمة الجنائية‪ ،‬وشروطها‪ ،‬سنحاول من خالل ثالثة مطالب أن نتناول‬
‫المشاكل التي تثيرها المسؤولية الجنائية‪ ،‬لنخصص المطلبين اآلخرين لنوعيها‪ ،‬المساهمة األصلية والمساهمة التبيعة‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫المشاكل التي تثيرها المساهمة الجنائية‬
‫إ ن ارتكاب جريمة واحدة بركن مادي واحد تتعدد فيها األفعال والنتيجة واحدة‪ ،‬وكل فعل من هذه‬
‫األفعال يساهم في إحداثها ويرتبط بها برابطة سببية‪ ،‬يجعلنا نتساءل عن دور كل فعل من هذه األفعال في تحقيق هذه‬
‫النتيجة الواحدة‪ ،‬حيث أنه من المؤكد أن دور هذه األفعال ليس متساويا‪ ،‬ومن ثم فمن الضروري أال تكون مسؤولية كل‬
‫المساهمين على نفس القدر من األهمية‪ ،‬وهنا كان من الواجب تحديد دور كل منهم لتحديد مسؤوليته‪ ،‬وهو ما يثير فكرة‬
‫تحديد دور كل مساهم في إحداث النتيجة المحظورة قانونا‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫تقييم األدوار لتحديد المسؤوليات‬
‫أل جل تحديد دور كل مساهم من المساهمين‪ ،‬ودور الفعل الذي قام به في إحداث النتيجة المحظورة‬
‫قانونا‪ ،‬وبالتالي تحديد قدر مسؤوليته عن الجريمة التي ارتكبت كثمرة لنشاطات الجميع‪ ،‬ظهر اتجاهين أساسيين‪ ،‬أولهما‬
‫ال يفصل بين المساهمين وال يولي أهمية ألية تفرقة بينهم‪ ،‬والثاني يقيم تفرقة بينهم ويجعل منهم مساهمين وشركاء‪،‬‬
‫وسمي األول بمذهب التوحيد بين المساهمين‪ ،‬وسمي الثاني بمذهب استقالل المساهمين‪ ،‬وهو ما نوضحه في النقطتين‬
‫التاليتين‪.‬‬
‫أوال‪ :‬مذهب التوحيد بين المساهمين‬
‫و هو مذهب يعتمد على نظرية تعادل األسباب التي سبق وأن بيناها في دراسة عالقة السببية‪ ،‬حيث يرى‬
‫أنصار هذا المذهب أن منطق األمور ال يتفق والتمييز بين أعمال الجناة القائمين على تنفيذ جريمة واحدة‪ ،‬فالجريمة‬
‫حسنهم هي نتاج تضافر جميع جهود المساهمين فيها‪ ،‬وكل مساهم فيها أيا كان الفعل الذي أتاه ودور هذا الفعل في‬
‫إحداث النتيجة‪ ،‬فهو مسؤول عن هذه الجريمة مسؤولية كاملة‪ ،‬باعتباره فاعال لها ال باعتبار فعله ساهم في إحداث‬
‫النتيجة‪ .‬وعليه فجميع أعمال المساهمين متساوية في إحداث النتيجة‪ ،‬وهي بذلك متساوية في األهمية‪ ،‬كما هي متساوية‬
‫أيضا في المسؤولية الجنائية‪ ،‬وبذلك يستبعد أنصار هذا المذهب كل تفرقة بين الفاعل والشريك‪ ،‬بل الكل يعد فاعل‬
‫أصلي للجريمة‪.‬‬

‫غ ير أن هذا المذهب وجهت له العديد من االنتقادات‪ ،‬أهمها أن الجريمة الواحدة يستحيل أن يرتكبها‬
‫العديد من الفاعلين األصليين فقط‪ ،‬ألن ذلك يؤدي إلى تعدد الجرائم وهو أمر غير منطقي في مجال فكرة المساهمة‬
‫الجنائية‪ ،‬إذ هذه الفكرة تقتضي أن نكون بصدد جريمة واحدة يسهر على تنفيذها العديد من الجناة‪ ،‬كما أن المساواة بين‬
‫كل الفاعلين أمر يجافي العدالة‪ ،‬ويتنافى ومبدأ التفريد العقابي الذي يقوم على فكرة إنزال العقوبات تبعا لخطورة كل‬
‫مجرم على حدة‪ ،‬لذا نجد غالبية الرأي الفقهي والموقف التشريعي والقضائي يرفض هذا الرأي‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬مذهب استقالل المساهمين‬
‫و هو مذهب يقيم تفرقة بين الفاعلين األصليين والشركاء‪ ،‬وهو الرأي الراجح فقها وقضاء‪ ،‬واتبعته‬
‫غالبية التشريعات‪ ،‬وهو مذهب بنادي أنصاره بوجوب التمييز بين المساهمين في الجريمة بحسب الدور الذي قام به كل‬
‫منهم‪ ،‬وعلى ذلك تقسم أدوار الجريمة إلى نوعين‪ ،‬أدوار رئيسية يقوم بها المساهمين األصليين‪ ،‬وأدوار ثانوية يقوم بها‬
‫الشركاء أو الفاعلين التبعيين‪ .‬غير أن أنصار هذا االتجاه انقسموا بخصوص المعيار الذي يمكن من التمييز بين األفعال‬
‫الرئيسية واألفعال الثانوية أو التبعية‪ ،‬وبالتالي المعيار الذي يبين الفاعلين األصليين والفاعلين التبعيين أو الشركاء‪،‬‬
‫وكالعادة تنازع المسألة المذهبان المادي والشخصي‪ .‬األول ويركز كالعادة على الركن المادي للجريمة‪ ،‬والثاني على‬
‫الركن المعنوي لها أو نية الفاعل‪.‬‬

‫]‪[148‬‬
‫‪ -1‬المذهب الشخصي ‪:‬‬
‫و هو المذهب الذي ركز على الركن المعنوي أو النفسي للجريمة‪ ،‬ورأى أنصاره بأن الركن المادي‬
‫للجريمة ال يمكننا من التمييز بين األعمال الرئيسية واألعمال الثانوية‪ ،‬لذا يجب إعمال الركن المعنوي‪ ،‬وذلك باالستناد‬
‫إلى نية وإرادة المساهم وما إن كان يريد أن يكون فاعال أصليا أو مجرد شريك‪ ،‬فالفاعل األصلي تتجه إرادته إلى تحقيق‬
‫النتيجة على أساس أنها تحقق مصلحته وهو سيدها‪ ،‬بينما الشريك هو من توفرت لديه فقط نية االشتراك‪ ،‬وأن تتجه‬
‫إراد ته ألن يكون فعله مجرد فعل يساعد ويدعم به أفعال الفاعل األصلي‪ ،‬فالجريمة ليست مشروعه اإلجرامي وال يريد‬
‫تنفيذها ما لم ينفذها غيره‪ .‬غير أن هذا المذهب غامض وصعب لإلثبات‪ ،‬إذ كيف يمكننا الغوص في أغوار النفس‬
‫واستخالص نية الشخص وتبينها والحكم عليها ما إن كانت تريد الجريمة كمشروع أو اشتراك فقط‪ .‬لذا هجر هذا المعيار‬
‫من غالبية الفقه وأحكام القضاء‪.‬‬
‫‪ -2‬المذهب الموضوعي أو المادي‪:‬‬
‫و هو المذهب الذي يركز أنصاره على الركن المادي للجريمة للتمييز بين األفعال الرئيسية التي يعد‬
‫صاحبها فاعال أصليا للجريمة‪ ،‬وبين األفعال الثانوية التي يعد فاعلها مجرد شريك‪ ،‬وذلك باالستناد لنوع العمل ومدى‬
‫خطورته المادية‪ ،‬فمتى كانت األعمال خطيرة فالمساهمة تكون أصلية‪ ،‬ومتى كانت األعمال ثانوية وأقل جسامة‬
‫وخطورة كانت المساهمة تبعية وفاعلها مجرد شريك‪.‬‬
‫وللتمييز بين األعمال الخطيرة وتلك األقل خطورة‪ ،‬يرى أنصار هذا االتجاه االستناد للركن المادي‬
‫للجريمة ذاته‪ ،‬فاألعمال الخطيرة هي كل فعل يدخل في األعمال التنفيذية المشكلة للركن المادي للجريمة‪ ،‬سواء كله أ‬
‫جزء منه‪ ،‬أما األعمال الثانوية غير الخطيرة‪ ،‬فهي تلك األفعال التي ال ترقى لمرتبة األفعال التنفيذية المكونة للركن‬
‫المادي للجريمة‪ ،‬بل مجرد أعمال مسهلة أو محضرة لألعمال التنفيذية السابقة‪ ،‬ويعمل في ذلك بمعيار البدء في التنفيذ‬
‫الذي سبق وان بينته هذه النظرية في جريمة الشروع‪ .‬وبالتالي استقر الفكر القانوني على ضرورة التمييز بين الفاعل‬
‫األصلي والشريك‪ ،‬لكن ثارت مسألة البحث عن طبيعة العالقة بينهما‪ ،‬وهو ما نتناوله في النقطة الموالية‪.‬‬

‫الفرع الثاني‬
‫طبيعة العالقة بين الفاعل األصلي والشريك‬
‫ف ي الحقيقة إن أعمال الشريك هي مجرد أعمال تحضيرية غير معاقب عليها في ذاتها‪ ،‬لوال فعل الفاعل‬
‫األصلي الذي يجذبها لدائرة التجريم ويكسبها قيمة قانونية‪ ،‬وبمعنى آخر أعمال الشريك تجرم فقط لتبعيتها لفعل مطابق‬
‫للنموذج التشريعي للجريمة‪ ،‬وبالتالي هناك عالقة فعلية وقانونية بين أعمال الشريك وأعمال الفاعل األصلي‪ ،‬وهي‬
‫العالقة التي ال يمكن إنكارها بأي حال من األحوال‪ ،‬لكن السؤال يتعلق بالبحث في طبيعة هذه العالقة‪ ،‬وهي الفكرة التي‬
‫حاول الفقه بحثها‪ ،‬لكنه اختلف حول تكييفها‪ ،‬ويمكن رد هذا الخالف إلى نظريتين أساسيتين‪ ،‬نظرية تقليدية وهي نظرية‬
‫االستعارة‪ ،‬ونظرية حديثة وسميت بنظرية التبعية‪ ،‬وهو ما نبينه في النقطتين التاليتين‪.‬‬
‫أوال‪ :‬نظرية االستعارة‬
‫و هي نظرية يرى أنصارها بأن الشريك يستعير إجرامه من فعل الفاعل األصلي‪ ،‬إذ هناك عالقة‬
‫استعارة بين الفاعل األصلي والشريك‪ ،‬حيث يضفي فعل األول الصفة اإلجرامية على الفعل الثاني‪ ،‬أو أن الشريك‬
‫يستعير الصفة اإلجرامية ألفعاله غير المجرمة أصال من فعل الفاعل األصلي‪ ،‬لكن داخل هذا االتجاه ذاته ثار التساؤل‬
‫حول مدى هذه االستعارة‪ ،‬وهنا انقسم هذا االتجاه ذاته إلى اتجاهين‪ ،‬أحدهما يرى أنها استعارة مطلقة واآلخر يراها‬
‫مجرد استعارة نسبية‪.‬‬

‫]‪[149‬‬
‫‪ -1‬نظرية االستعارة المطلقة‪:‬‬
‫ويرى أنصارها أن الفاعل األصلي يلقي بظله كامال على الشريك‪ ،‬بمعنى أن هذا األخير يستعير كل‬
‫الظروف العينية والشخصية اللصيقة بالجريمة وبالفاعل األصلي‪ ،‬مما يجعلهما متساوين في المسؤولية الجنائية والتي‬
‫تعني أيضا تطبيق نفس الجزاء الجنائي عليهما‪.‬‬

‫‪ -2‬نظرية االستعارة النسبية‪:‬‬


‫وهي النظرية التي يرى أنصارها عكس رؤية أنصار النظرية األولى‪ ،‬ويرون بأن الشريك يستعير من‬
‫الفاعل األصلي التجريم دون العقاب‪ ،‬حيث يستعير منه الظروف العينية الموضوعية اللصيقة بالجريمة‪ ،‬دون الظروف‬
‫الشخصية اللصيق بالفاعل‪ ،‬مما يجعلهم غير متساوين في المسؤولية وال في الجزاء‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬نظرية التبعية‬
‫و هي نظرية في الحقيقة تستند لفكرة مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه المعروفة في القانون المدني‪،‬‬
‫ويرى أنصارها أن فعل الشريك هو فعل مستقل في ذاته عن فعل الفاعل األصلي‪ ،‬غير أنه غير مستقل استقالال تاما‪ ،‬إذ‬
‫وقوع فعل الفاعل األصلي المتمثل في اقتراف الركن المادي للجريمة‪ ،‬يجعل من فعل الشريك يتبعه وتصبغ عليه الصفة‬
‫اإلجرامية‪ ،‬وإال فال مجال للقول باشتراكه في الجريمة‪ ،‬غير أن كل منهما مستقل بظروفه الشخصية‪ ،‬وبالتالي يستقل كل‬
‫واحد بخصوص الجزاء بحسب الخطورة اإلجرامية‪ ،‬كما يستقالن في المسؤولية المدنية‪ ،‬وال يسأل الشريك عن الجرائم‬
‫المحتملة التي يقترفها الفاعل األصلي‪.‬‬

‫المطلب الثاني‬
‫المساهـــمة األصــلية‬
‫الفاعــل األصلــــــــي‬
‫المادتان ‪ 41‬و‪ 45‬من قانون العقوبات الجزائري‬
‫ي مكن القول اختصارا أنه ال جريمة دون فعل وال جريمة دون فاعل‪ ،‬وهو الفاعل الذي قد يكون وحيدا‬
‫أ و متعددا‪ ،‬أو وحيدا وله شريك أو عدة شركاء‪ ،‬أو عدة فاعلين لهم شريك واحد أو عدة شركاء‪ ،‬وبالتالي ال جريمة‬
‫بشركاء فقط‪ ،‬وفاعل الجريمة قد يرتكبها بصورة مباشرة مثل الفاعل المادي أو الفاعل المباشر‪ ،‬وقد يرتكبها بطريقة‬
‫غير مباشرة مثل المحرض أو الفاعل المعنوي‪ .‬لكنهما يبقيان صاحبا الجريمة‪.‬‬
‫والفاعل األصلي وفقا لتقنين العقوبات الجزائري نصت عليه المادتان ‪ 41‬و‪ ،45‬حيث بينت األولى‬
‫الفاعل المادي أو الفاعل المباشر‪ ،‬وذلك في الفقرة األولى منها‪ ،‬في حين بينت الفقرة الثانية المحرض‪ ،‬في حين تناولت‬
‫المادة ‪ 45‬فكرة الفاعل المعنوي‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫الفــــاعل المـــــباشر‬
‫( الفاعل المادي أو الفاعل المنفرد )‬

‫]‪[150‬‬
‫يعرف الفقيه الفرنسية رو ‪ Roux‬الفاعل المادي المنفرد أو الفاعل المباشر‪ ،‬بأنه‪ ":‬الشخص الذي ساهم‬
‫نشاطه أو امتناعه في ارتكاب الجريمة‪ ،".‬وبالتالي الفاعل هو من يرتكب الواقعة المجرمة بنص القانون‪ ،‬أو هو‬
‫الشخص الذي يتولى لوحده تنفيذ كافة األفعال المكونة للجريمة‪ ،‬بحيث ال يكون من أحد على مسرح الجريمة غيره‪ ،‬وهو‬
‫ما يقتضي بحث فكرة الركن المادي والركن المعنوي لديه‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫الركن المادي لجريمة الفاعل المباشر‬
‫نصت المادة ‪ 41‬من تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬وفي توضيحها لمعنى الفاعل المباشر بأنه‪ ... ":‬من‬
‫ساهم مساهمة مباشرة في تنفيذ الجريمة"‪ ،‬وبالتالي الفاعل المباشر هو الفاعل الذي تكون مساهمته مباشرة في ارتكاب‬
‫الجريمة‪ ،‬فما معنى المساهمة المباشرة المنصوص عليها في الفقرة األولى من المادة ‪ 41‬من تقنين العقوبات الجزائري ؟‬
‫ال مساهمة المباشرة في تنفيذ الجريمة‪ ،‬هي إتيان األفعال األعمال التنفيذية المكونة للركن المادي‬
‫للجريمة‪ ،‬سواء كان شخصا منفردا أو عدة فاعلين أصليين‪ ،‬ومعيار البدء في التنفيذ هو المعيار المحدد لألعمال التنفيذية‬
‫للركن المادي على النحو المبين سابقا‪ ،‬باإلضافة إلى إعمال معيار آخر مكمل‪ ،‬وهو المتمثل في ظهور الجاني على‬
‫مسرح الجريمة وأن يكون لصيق الصلة بالتنفيذ ومعاصر له‪.‬‬
‫غير أنه هناك حاالت يظهر فيها الشخص وكأنه بعيد عن مسرح الجريمة‪ ،‬غير أنه يعد فاعال مباشرا‬
‫للجريمة‪ ،‬مثل خادم المنزل الذي يترك باب سيده مفتوحا لتمكين اللصوص من سرقته‪ ،‬وكذا مراقب الطريق‪ ،‬والشخص‬
‫الذي يمسك بالشخص الهارب من غريمه ليمكن هذا األخير من قتله – في هذه الحالة الشخص في الحقيقة موجود على‬
‫مسرح الجريمة‪ ...-‬مما يعني أن معيار الظهور على مسرح الجريمة ليس معيارا حاسما في كل الحاالت‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫الركن المعنوي لجريمة الفاعل المباشر‬
‫يجب أن يتوفر لدى الفاعل المباشر أو الفاعل المادي مع غيره من الفاعلين أو الشركاء – كوننا بصدد‬
‫نظرية المساهمة الجنائية‪ -‬رابطة ذهنية واحدة‪ ،‬وذلك بأن يكون كل المساهمين في الجريمة على علم بكل األفعال التي‬
‫تتضافر لتحقيق الركن المادي للجريمة‪ ،‬ويريدون النتيجة التي تسفر عن جميع األفعال المتضافرة السابقة‪ ،‬والعلم يجب‬
‫أن ينصرف لما هو من عمل الشخص وكذا عمل غيره من باقي المساهمين‪ ،‬وأن يريد كل مهم النتيجة أو النتائج‬
‫المتمخضة عن هذه األفعال‪.‬‬
‫و أن انتفاء الرابطة المعنوية والذهنية لدى الجناة‪ ،‬يخرجنا من مجال المساهمة الجنائية ويجعلنا نسأل كل‬
‫فاعل عن جريمة مستقلة بقدر السلوك الذي أتاه‪ ،‬لذا فإن إطالق الرصاص على مجني عليه واحد من قبل العديد من‬
‫الفاعلين وفي لحظة واحدة يجعلهم مساهمين في جريمة القتل متى توفرت لديهم وحدة الرابطة الذهنية‪ ،‬غير أنه إذا انتفت‬
‫هذه األخيرة‪ ،‬سأل الشخص الذي أصابت رصاصته المجني عليه عن جريمة قتل عمدن وسأل الباقين كل منهم مستقال‬
‫عن محاولة القتل إن لم تصب رصاصاتهم الشخص المجني عليه‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫المحرض كفاعل أصلي‬
‫التحريض هو خلق فكرة الجريمة لدى الشخص الفاعل وجعله يصمم على ارتكابها‪ ،‬ولم يكن المحرض‬
‫فاعال أصليا في القانون الجزائري إال بتعديل قانون ‪ 04-82‬المؤرخ في ‪ ،1982-02-13‬ويعد ذلك خروجا عن االتجاه‬
‫التقليدي الذي أخذت به معظم التشريعات‪ ،‬وكذا خروجا عن توصيات المؤتمر الدولي السابع لقانون العقوبات المنعقد‬
‫بأثينا سنة ‪ 1957‬الذي أوصى بجعل التحريض " جريمة مستقلة" عن المساهمة‪ ،‬وخروجها عن المساهمة األصلية ألن‬
‫التحريض يتقصه التنفيذ‪ ،‬وال بالمساهمة التبعية كون المحرض هو صاحب خلق فكرة الجريمة وهو من جعل الفاعل‬
‫يصمم على ارتكابها‪.‬‬

‫والتحريض هو خلق فكرة الجريمة لدى شخص آخر ذهنه كان خاليا منها‪ ،‬أو هو جعل الفاعل يصمم‬
‫عليها‪ ،‬وذلك بالتأثير على نفس ية هذا الشخص ودفعه لغاية تنفيذ ركنها المادي‪ ،‬بمعنى التحريض يعني خلق فكرة‬

‫]‪[151‬‬
‫الجريمة في ذهن كان خاليا منها أو على األقل زينها له ودفع به على تنفيذها]‪ .[1‬أو هو خلق التصميم لدى الفاعل‬
‫بارتكاب الجريمة‪ ،‬ودفعه نحو ارتكابها‪ ،‬وهو التعريف الذي تبناه المؤتمر الدولي السابع لقانون العقوبات سنة ‪،1957‬‬
‫والتحريض يؤدي إلى نتيجتين األولى نفسية تتمثل في القرار الذي يتخذه الفاعل الذي وجه له التحريض‪ ،‬والنتيجة الثانية‬
‫مادية تتمثل في الجريمة التي ارتكبها بناء على القرار النفسي السابق‪ ،‬ويستوي أن يكون المحرض هو صاحب الفكرة‬
‫اإلجرامية أم اقتصر دوره على تزيين الفكرة التي كانت من خلق من حرض شخصيا‪ .‬وسنحاول تبين أركان التحريض‬
‫كجريمة في الفرع الموالي‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫أركان جريمة التحريض‬
‫التحريض جريمة من جرائم المساهمة الجنائية‪ ،‬وبالتالي فهو كأي جريمة يشترط األركان العامة الثالثة‬
‫لقيامها‪ .‬وهي الركن الشرعي‪ ،‬والركن المادي والركن المعنوي‪.‬‬
‫‪ -1‬الركن الشرعي للتحريض‬
‫الركن الشرعي لجريمة التحريض تضمنته المادة ‪ 2/41‬من قانون العقوبات الجزائري‪ ،‬بنصها‪... ":‬يعد‬
‫فاعال‪...‬كل من حرض على ارتكاب الفعل بالهبة أو الوعد أو التهديد أو إساءة استعمال السلطة‬
‫أو الوالية أو التحايل أو التدليس اإلجرامي‪ .".‬ومن متطلبات الركن الشرعي لجريمة التحريض‪ ،‬أن ينصب التحريض‬
‫على ارتكاب جريمة أو مجموعة جرائم من المنصوص والمعاقب عليها قانونا‪ ،‬لذا فإن خلق العداوة والبغضاء‬
‫والكراهية لدى شخص آخر ال يرقى لمرتبة التحريض‪ ،‬لذا فالموضوع المحدد لعملية التحريض هو ارتكاب جريمة‬
‫بعينها]‪ ،[2‬وأن يكون مباشر وبفعل إيجابي‪.‬‬
‫‪ -2‬الركن المادي للتحريض‬
‫ق وام السلوك في جريمة التحريض هو خلق فكرة الجريمة لدى الفاعل و‪/‬أو إيجاد التصميم لديه على‬
‫ارتكابها‪ ،‬وتقتضي فكرة خلق الجريمة أن ذهن الفاعل كان في األصل خاليا منها‪ ،‬لوال تحريضه من قبل الشخص‬
‫المحرض وجعله يصمم عليها‪ ،‬كما قد تكون الفكرة من الفاعل ابتداء لكن المحرض جعله يصمم على تنفيذها‪ ،‬بعدما كان‬
‫الفاعل مترددا بخصوص ذلك‪ ،‬وكل النشاطات السابقة عبارة عن أفعال إيجابية ال سلبية‪ ،‬وبالتالي يمكن القول بأنه ال‬
‫تحريض عن طريق االمتناع أو بعمل سلبي‪ ،‬أيا كانت داللته اإلجرامية‪ ،‬فسكوت الشخص أمام فاعل يروي له تفاصيل‬
‫الجريمة التي سيرتكبها ال يجعله مرتكبا لجريمة التحريض كون موقفه كان سلبيا في حين التحريض جريمة إيجابيا‪.‬‬
‫والسلوك اإليجابي في جريمة التحريض غير مقيد باستعمال طريقة محددة – وإن كان مقيد بالوسيلة‬
‫المادية‪ ،-‬فقد يكون التحريض عن طريق القول أو الكتابة‪ ،‬وقد يكون باللفظ العادي أو بوسائل االتصال أيا كان نوعها‪،‬‬
‫طالما كانت الوسيلة معبرة عن إرادة المحرض وقصده في خلق فكرة الجريمة لدى الغير وجعله يصمم على ارتكابها‪.‬‬
‫وا ألصل في التحريض أن يكون شخصيا‪ ،‬موجه لشخص أو أشخاص محددين ويمكن تعيينهم‪ ،‬دون اشتراط توفر العلم‬
‫بين األطراف‪ ،‬كون التعارف بينهما ليس من شروط قيام جريمة التحريض‪ ،‬غير أن توجيه التحريض ألشخاص غير‬
‫محددين يعد جريمة مستقلة بحد ذاتها‪ ،‬وهي الجريمة المنصوص والمعاقب عليها في القانون الجزائري بموجب المادة‬
‫‪ 100‬منه]‪ .[3‬كما يجب أن يكون التحريض منصبا على ارتكاب جريمة من جرائم قانون العقوبات دون اشتراط نوعها‬
‫أو ذكر وصفها القانوني للفاعل‪ ،‬وإنما يكفي التحريض على ارتكاب الواقعة المكونة لركنها المادي‪ ،‬وباإلضافة إلى‬
‫كل ما سبق‪ ،‬حددت المادة ‪ 2/41‬الوسائل التي بموجبها يتم التحريض‪ ،‬وهي الوسائل أو األفعال التي بينت على سبيل‬
‫الحصر ال على سبيل المثال‪ ،‬وبالتالي المسألة قانونية ال يجوز تفسيرها تفسير واسعا‪ ،‬كما ال يجوز القياس عليها‪ ،‬وهذه‬
‫الوسائل في قانون العقوبات الجزائري من الوسائل المادية التي يشترط إتيانها قبل ارتكاب الجريمة‪ ،‬ويمكن االستعانة‬
‫فيها بوسيلة واحدة أو أكثركما يجوز جمعها كلها وهــــي‪:‬‬
‫‪ -1‬الهبـــــة‪:‬‬
‫والهبة قد تكون مبلغا من المال‪ ،‬كما قد تكون أي عقار أو منقول أو سلعة من السلع‪ ،‬أو عبارة عن تقديم‬
‫خدمة‪ ،‬ويمكن أن تقدم بطريقة مباشرة أو مجرد الوعد بتقديمها‪ ،‬غير أن كل ما يشترط فيها أن يكون تقديمها أو الوعد‬
‫بتقديمها سابقا على ارتكاب الجريمة‪.‬‬

‫]‪[152‬‬
‫‪ -2‬الوعـــــد‪:‬‬
‫ا لوعد هو أن يقطع الجاني على نفسه وعدا بأداء خدمة أو أداء عمل أو تقديم هبة للفاعل في حال ما إن‬
‫ارتكب الجريمة المحرض على ارتكابها‪ ،‬بشرط أن يقطع مثل هذا الوعد قبل تنفيذ هذه الجريمة‪.‬‬
‫‪ -3‬التهديــــد]‪:[4‬‬
‫التهديد هو أن يقوم الشخص المحرض بالضغط على إرادته بتهديده بارتكاب أفعال أو القيام ببعض‬
‫التصرفات التي من شأنها أن ترهب المهدد وتدفعه الرتاب الجريمة]‪ ،[5‬ويشترط أن يكون التهديد أيضا سابقا على‬
‫ارتكاب الجريمة‪.‬‬

‫‪-4‬إساءة استعمال السلطة أو الوالية‪:‬‬


‫و في هذه الحالة‪ ،‬يشترط أن يكون للشخص المحرض سلطة على المنفذ‪ ،‬وهي السلطة التي قد تكون‬
‫قانونية كسلطة الرئيس على المرؤوس]‪ ،[6‬وقد تكون فعلية كسلطة رب العمل على العامل‪ ،‬أو كأن تكون والية كوالية‬
‫األب على أبناءه‪ ،‬فيستغل مثل هؤالء مثل هذه السلطة لتحريض تابعيهم لتنفيذ الجريمة‪.‬‬
‫‪ -5‬التحايل والتدليس اإلجرامي‪:‬‬
‫التدليس اإلجرامي هو تعزز الكذب بأفعال مادية ومظاهر خارجية تساهم في إقناع الغير باالنصياع‬
‫لرغبة المحرض‪ ،‬وذلك باتخاذه ألفعال مادية كاذبة تشجع وتدفع الغير الرتكاب الجريمة‪.‬‬
‫وبالتالي جريمة التحريض يجب وأن تتم بإحدى هذه الوسائل أو أكثر‪ ،‬وهي الوسائل التي نذكر بأنها‬
‫وردت على سبيل الحصر ال المثال‪ ،‬وهي كلها من الوسائل المادية التي يشترط إتيانه قبل إقدام المنفذ على ارتكاب‬
‫الجريمة التي حرض عليها‪ ،‬وبشرط أن يكون التحريض موجه لشخص أو أشخاص محددين ال لعامة الناس‪ ،‬كون‬
‫التحريض العام سبق القول أيضا أنه جريمة مستقلة قائمة بذاتها ( المادة ‪ 100‬ق ع ج)‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬الركن المعنوي لجريمة التحريض‬
‫جريمة التحريض جريمة عمدية‪ ،‬يجب أن يتوفر لدى الشخص المحرض القصد الجنائي بعنصريه العلم‬
‫واإلرادة‪ ،‬وهو العلم بأن سلوكه يؤدي إلى خلق فكرة الجريمة لدى المنفذ أو على األقل جعله يصمم عليها إن كانت‬
‫الفكرة أصال من المنفذ‪ ،‬وأن يريد هذه الجريمة والنتائج التي تتمخض عنها‪ ،‬لكنه ال يسأل عما زاد من نتائج محتملة لم‬
‫يكن يعلمها وال يريدها‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫الشروع واالشتراك في التحريض‬
‫ب اعتبار التحريض جريمة قائمة بذلتها وفقا للقانون الجزائري‪ ،‬حيث أنها جريمة تنتهي بإقناع الشخص‬
‫الذي حرض بارتكاب الجريمة‪ ،‬وبتقديم إحدى الوسائل المادية المذكورة حصرا في المادة ‪ 2/41‬ق ع ج‪ ،‬فيكون بذلك‬
‫المحرض مقترفا لجريمة التحريض بغض النظر عن ارتكابها من قبل الشخص الذي حرض من عدمه‪ ،‬ففي حال ما لم‬
‫ينفذها سأل فقط المحرض عن جريمة التحريض‪ ،‬وفي حال ارتكبها الفاعل سأل عنها كفاعل مادي مباشر وسأل اآلخر‬
‫كمحرض‪ ،‬لذا نتساءل عما إن كانت جريمة التحريض تقبل الشروع واالشتراك‪ ،‬وه ما نتناوله في النقطتين التاليتين‪.‬‬
‫أوال‪ :‬الشروع في جريمة التحريض‬
‫جريمة التحريض تبدأ بتقديم إحدى الوسائل المذكورة أعاله‪ ،‬وتنتهي بخلق فكرة الجريمة أو تزيينها لدى‬
‫الجاني وخلق التصميم لديه على ارتكابها‪ ،‬وبالتالي هي جريمة يمكن القول بنوع من التجاوز أنها مستقلة – نقول بنوع‬
‫من التجاوز‪ ،‬ألن الحقيقة القانونية أن المشرع جعلها جريمة مساهمة ال مستقلة‪ -‬وتنتهي عند هذا الحد‪ ،‬فالمحرض في‬
‫حقيقة األمر فاعل أصلي لجريمة التحريض‪ ،‬وليس له أي دور في الجريمة األصلية التي يرتكبها المنفذ‪ ،‬لذا فإن عدم‬
‫إتمام المنفذ للجريمة التي حرض عليها‪ ،‬أمر خارج في حقيقته عن إرادة المحرض‪ ،‬لكن ذلك ال ينفي عنه أنه قام‬
‫بجريمة التحريض التي توقفت عند حد الشروع‪ ،‬وهو تفسير البعض للمادة ‪ 46‬من تقنين العقوبات الجزائري]‪ ،[7‬غير‬
‫أننا ال نوافق هذا الرأي‪ ،‬كون جريمة التحريض نتيجتها خلق فكرة الجريمة لدى الجاني وجعله يصمم على ارتكابها‪،‬‬
‫وبالتالي في الحالة السابقة الجريمة كانت تامة وليست مجرد جريمة انتهت في طور الشروع‪ .‬لكن يمكن تصور العدول‬

‫]‪[153‬‬
‫عن جريمة التحريض‪ ،‬في الحالة التي يخلق فيها الجريمة في ذهن الفاعل وجعله يصمم على ارتكابها ويقدم وسيلة من‬
‫الوسائل المحددة بالمادة ‪ ،2/41‬ولكن قبل إقدام الفاعل على التنفيذ يسارع ويسحب وسيلته المادية‪ ،‬وهنا إن كان العدول‬
‫اضطراريا أمكن القول بقيام لشروع في التحريض‪ ،‬وفقا للقواعد العامة‪ ،‬وإن كان اختياريا ال عقاب على الفعل‪ ،‬إعماال‬
‫للقواعد العامة في جريمة الشروع دوما‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬االشتراك في التحريض‬
‫إذا كان هناك محرضا واحد وفاعال واحدا للجريمة‪ ،‬عد كل منهما فاعال أصليا لها‪ ،‬األول بصفته‬
‫محرض والثاني بصفته فاعل أصلي لها‪ ،‬ما لم تتوفر شروط اإلكراه في حالة استعمال التهديد‪ ،‬غير أنه يثار التساؤل‬
‫عما إن كان يمكن تصور تعدد المحرضين‪ .‬إن طبيعة وسائل التحريض التي تعد كلها من الوسائل المادية‪ ،‬تسمح بقبول‬
‫فكرة االشتراك في التحريض‪ ،‬كأن يشتري أحدهما هدية ويقدمها للثاني الذي يقدمها بدوره للمنفذ ويخلق فكرة الجريمة‬
‫في ذهنه ويجعله يصمم على ارتكابها‪ ،‬وبذلك يكون مقدم الهدية شريك في التحريض‪ ،‬بشرط أن يتوفر لديه قصد‬
‫االشتراك في التحريض وتتجه إرادته لذلك‪ ،‬كون جريمة التحريض جريمة عمدية‪ ،‬التي تشرط العلم واإلرادة بالسلوك‬
‫وبالنتائج‪ ،‬لذا فهو ال يسال عن النتائج المتجاوزة لقصده‪ .‬وال يشترط أن يكون عالما بالمنفذ‪ ،‬بل كل ما يشترط أن يكون‬
‫عالما بوجود جريمة التحريض على جريمة‪.‬‬

‫المطلب الثالث‬
‫الفاعل المعنوي كمساهم أصلي‬
‫الفاعل المعنوي كصورة من صور المساهمة الجنائية نصت عليه المادة ‪ 45‬من تقنين العقوبات‬
‫الجزائري‪ ،‬ويقصد بالفاعل المعنوي الشخص الذي يستخدم شخص آخر كأداة الرتكاب الجريمة‪ ،‬وأن يكون هذا‬
‫الشخص غير مسؤول جنائيا بسبب وضعه أو صفته الشخصية‪ ،‬وذلك باستعمال أية وسيلة من الوسائل‪ ،‬سواء كانت تلك‬
‫المبينة في التحريض أو غيرها‪ ،‬وقد عرف المؤتمر الدولي السابع لقانون العقوبات المنعقد في أثينا سنة ‪ 1957‬الفاعل‬
‫المعنوي‪ ،‬أنه ‪ ":‬من يدفع نحو ارتكاب الجريمة منفذا ال يمكن مسائلته جنائيا"‪ .‬لذا فهناك وجه شبه كبير بين المحرض‬
‫والفاعل المعنوي‪ ،‬وهو ما نبينه في فرع‪ ،‬لنتناول في الثاني أركان جريمة الفاعل المعنوي‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫الفرق بين المحرض والفاعل المعنوي‬
‫وبالتالي‪ ،‬الفاعل المعنوي يقترب كثيرا من المحرض‪ ،‬غير أن األخير يحرض شخص مسؤول جنائيا‬
‫مستعمال في ذلك وسيلة مادية من الوسائل المحددة حصرا بنص المادة ‪ ،2/41‬في حين األول‪ ،‬يستعمل شخص غير‬
‫مسؤول جنائيا أو شخص حسن النية وكأنه أداة مادية‪ ،‬حيث قد يكون شخص غير مسؤول جنائيا‪ ،‬مثل الصغير غير بالغ‬
‫سن الرشد والمجنون]‪ ،[8‬أو بسبب وضعه كأن يكون حسن النية]‪ ،[9‬وال يشترط في ذلك استعمال وسيلة محددة‪.‬‬
‫وقد نص المشرع الجزائري على الفاعل المعنوي بموجب المادة ‪ 45‬التي قضت على انه‪ ":‬من يحمل شخصا ال يخضع‬
‫للعقوبة بسبب وضعه أو صفته الشخصية على ارتكاب جريمة يعاقب بالعقوبات المقررة لها‪.[10]".‬‬
‫ل ذا فوجه التشابه بين المحرض والفاعل المعنوي‪ ،‬أن األول يستعمل شخص مسؤول جنائيا‪ ،‬في حين‬
‫الثاني يستعمل شخص كأداة مادية‪ ،‬وعليه فإن المنفذ في التحريض يعاقب باعتباره الفاعل األصلي للجريمة المحرض‬
‫عليها‪ ،‬في حين ال فاعل أصلي للجريمة في حالة فاعل معنوي ألنه شخص منذ البداية غير معاقب عليه ‪ ،‬وفي كال‬
‫الجريمتين ال ينفذان الجريمة بنفسيهما بل بغيرهما‪ .‬لكننا نرى بأن المنفذ في حالة الفاعل المعنوي قد يخضع لتدبير من‬
‫تدابير األمن‪ ،‬بينما حسن النية فال يعاقب النتفاء القصد لديه والخطأ فالجريمة إن كانت تقوم بالخطأ سأل عنها كأن يكون‬
‫ملزم بواجب التحري‪ .‬والحيطة والحذر ‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬

‫]‪[154‬‬
‫أركان جريمة الفاعل المعنوي‬
‫ج ريمة الفاعل المعنوي جريمة شأنها شأن سائر الجرائم األخرى‪ ،‬تحتاج لقيامها األركان الثالثة العامة‪،‬‬
‫وإن كان الركن الشرعي ال يطرح أي إشكال وهو نص المادة ‪ 45‬من تقنين العقوبات الجزائري‪ .‬فإننا سنركز على‬
‫الركنين المادي والمعنوي‪.‬‬
‫أوال‪ :‬الركـن المادي لجريمة الفاعل المعنوي‬
‫عل ى عكس جريمة التحريض‪ ،‬فإن المشرع الجزائري لم يحدد الوسائل التي يلجأ إليها الفاعل المعنوي‬
‫ألجل الدفع بالشخص المستعمل كأداة الرتكاب الجريمة‪ ،‬وعلى ذلك فكل الوسائل يمكن أن تصلح لقيام جريمة الفاعل‬
‫المعنوي‪ ،‬بل وتقوم حتى في ظل انعدم مثل هذه الوسائل‪ .‬بشرط أن يحرض الشخص حسن النية‬
‫أو غير المسؤول جنائيا‪ ،‬على الركن المادي لجريمة من الجرائم المعاقب عليها قانونا‪ ،‬دون شرط تبين وصفها أو‬
‫تكييفها‪ ،‬كما ال يشترط التعارف بين الشخصين‪ ،‬حيث كل ما يلزم أن يعلم الشخص أنه يحرض شخص غير مسؤول أو‬
‫غير معاقب بسبب وضعه أو صفته‪ .‬وبالتالي هي جريمة تقوم بنشاط إيجابي ينصب على خلق فكرة الجريمة لدى‬
‫الشخص ودفعه الرتكابها شأنه شأن التحريض‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬الركن المعنوي لجريمة الفاعل المعنوي‬
‫المنفذ في جريمة الفاعل المعنوي مجرد أداة مادية استخدمت في تنفيذ الجريمة‪ ،‬وبالتالي فال مسؤولية‬
‫وال عقاب عليه‪ ،‬فهو ال بالفاعل األصلي وال بالشريك‪ ،‬بل المسؤول الوحيد هو الفاعل المعنوي وهو مسؤول عن النتائج‬
‫التي أرادها وتلك التي لم يردها أو لم يتوقعها أصال‪ ،‬ألنه كان عليه أن يتوقع بأن يتعامل مع شخص غير مميز وغير‬
‫مدرك وعليه أن يضع في حسبانه أن هذا الشخص قد يتجاوز ما طلب منه‪.‬‬

‫]‪[155‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫المســـاهمة التبـــعية ( االشتراك )‬
‫يقصد بالمساهمة التبعية أو ما يسمى باالشتراك‪ ،‬تعدد الجناة في المرحلة السابقة على البدء في تنفيذ‬
‫الجريمة‪ ،‬سيما في مرحلة التحضير واإلعداد للجريمة‪ ،‬فهي ال تعني قيام الجاني بدور أصلي أو رئيسي في تنفيذ الركن‬
‫المادي للجريمة‪ ،‬وإنما القيام فقط باألدوار الثانوية أو التبعية السابقة عن هذا التنفيذ‪ ،‬غير أنها أفعال ترتبط بالنتيجة‬
‫النهائية المترتبة عن الجريمة برابطة سببية‪ ،‬دون أن تعتبر هذه األفعال أو األعمال في ذاتها بدءا في تنفيذ الجريمة‪،‬‬
‫وبعبارة أخرى أكثر اختصارا‪ ،‬الشريك هو الشخص الذي يقوم بنشاط تبعي غير رئيسي يرتبط بجريمة ارتكبها فاعل أو‬
‫فاعلين أصليين برابطة سببية]‪ .[11‬وبالتالي الشريك في حقيقة األمر ال يرتكب فعال مجرما قانونا في حد ذاته‪ ،‬وإنما‬
‫يكتسب صفته اإلجرامية من الفعل التنفيذي الذي يرتكبه الفاعل األصلي للجريمة‪ ،‬وبالتالي ما دام أن الشريك لم يرتكب‬
‫أي نشاط أو سلوك أو فعل يدخل في التكوين القانوني ( النموذجي ) للركن المادي للجريمة‪ ،‬وبالتالي في حقيقة األمر ال‬
‫يوجد نص قانوني يطبق على هذا الفعل‪ ،‬ما دام النص الذي يعاقب على الجريمة التي ارتكبها الفاعل األصلي ال يطبق‬
‫على فعل الشريك‪ ،‬وهنا في حقيقة األمر أين ظهرت نظريتي االستعارة والتبعية‪ ،‬والخالف الفقهي الذي ساد الفقه حول‬
‫البحث في طبيعة العالقة بين الفاعل األصلي والشريك‪ .‬وقد بين المشرع الجزائري معنى الشريك في نص المادة ‪42‬‬
‫من تقنين العقوبات‪ ،‬بينما بين نص المادة ‪ 43‬من يعد في حكم الشريك‪ ،‬وبعبارة أخرى النص األول بين الشريك الفعلي‪،‬‬
‫بينما بينت المادة ‪ 43‬الشريك حكما – إن صح القول‪ .-‬حيث باستقراء المادتين تتبين أركان االشتراك‪ .‬وسنبين في‬
‫مطلب أركان االشتراك‪ ،‬لنتناول في الثاني بعض األوضاع المتعلقة باالشتراك‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫أركـــان االشتراك‬
‫لكي تقوم جريمة الشريك ويعاقب بهذا الوصف‪ ،‬ال بد من توفر األركان الثالثة العامة المشترطة لقيام‬
‫أي جريمة‪ ،‬غير انه يمكننا القول بأن الشرط المفترض األول هو وقوع الجريمة األصلية التي يرتكبها الفاعل األصلي‪،‬‬
‫وأن تكون األعمال الثانوية التي ارتكبها الشريك مرتبطة بهذه الجريمة برابطة سببية‪ ،‬وهي أفعال االشتراك التي بينتها‬
‫نصوص القانون‪ ،‬ويشترط أخيرا أن يكون الشريك متعمدا هذه المساهمة‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫الركن الشرعي لالشتراك‬

‫]‪[156‬‬
‫نصت المادة ‪ 42‬من تقنين العقوبات الجزائري على أنه‪ ":‬يعد شريكا في الجريمة من لم يشترك اشتراكا‬
‫مباشرا]‪ ،[12‬لكنه ساعد بكل الطرق أو عاون الفاعل أو الفاعلين على ارتكاب األعمال التحضيرية‬
‫أو المسهلة أو المنفذة لها مع عله بذلك‪ .".‬بينما بينت المادة ‪ 43‬من هم في حكم الشريك‪ ،‬وهي المادة التي نصت على‬
‫أنه‪ ":‬يأخذ حكم الشريك من اعتاد أن يقدم سكنا أو ملجأ أو مكان لالجتماع لواحد أو أكثر]‪ ،[13‬من األشرار الذين‬
‫يمارسون اللصوصية أو العنف ضد أمن الدولة أو األمن العام أو ضد األشخاص أو األموال مع العلم بسلوكهم‬
‫اإلجرامي]‪ ،".[14‬وباستقراء المادتين‪ ،‬يمكن القول أن االشتراك هو كل من عاون الفاعل‬
‫أو الفاعلين األصليين في ارتكاب جناية أو جنحة‪ ،‬سواء تمت أو توقفت عند حد الشروع‪ ،‬وأن تنصب هذه المساعدة أو‬
‫المعاونة على المرحلة التحضيرية للجريمة‪ ،‬أو لتسهيل ارتكابها ماديا‪ ،‬أو تسهيل تنفيذها‪ ،‬وبالتالي النظرة المجردة لنوع‬
‫هذه األعمال غير معاقب عليها قانونا وفقا لما تناولناه في نظرية الشروع‪ ،‬غير أنها تنجذب لدائرة التجريم لكونها ترتبط‬
‫بجريمة الفاعل األصلي وكانت سببا معينا أو مسهال لتنفيذها‪ ،‬وهو في الحقيقة تجسيد فعلي لنظرية االستعارة على األقل‬
‫في جانبها التجريمي الموضوعي دون الشخصي – سنبين مسألة استثناء االستعارة الشخصية الحقا‪ ،-‬لذا وما دامت‬
‫أفعال الشريك غير معاقب عليها في حد ذاتها بل الرتباطها بالجريمة األصلية‪ ،‬لذا فهذه األخيرة يجب أن تتوفر فيها‬
‫بعض الشروط‪ ،‬أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يشكل الف عل الذي يقوم به الجاني جريمة من الجرائم المعاقب عليها قانونا‪ .‬لكن بوصف الجناية‬
‫أو الجنحة‪ ،‬إذ ال مساهمة وال اشتراك في المخالفات‪.‬‬
‫‪ -2‬أال يكون فاعل الجريمة األصلية توفر لديه سبب من أسباب اإلباحة‪ ،‬ألنه سبق القول أن مثل هذه األسباب‬
‫يستفيد منها كل من ساهم في ارتكاب الجريمة‪ ،‬سواء كان فاعال أصليا أو مجرد شريك‪.‬‬
‫ك ما تجب اإلشارة إلى بعض العناصر المتمثلة في أن إفالت الفاعل األصلي من العقاب ال يمنع من قيام‬
‫االشتراك وعقاب الشريك في حال امتناع مسؤولية الفاعل األصلي أو قيام مانع من موانع العقاب لديه‪ .‬ألنها أسباب‬
‫شخصية يستفيد بها المتوفرة لديه دون غيره‪ .‬كما أن عدم عقاب الفاعل األصلي بسبب قيام عذر لديه ال يحول دون‬
‫عقاب الشريك‪ ،‬كون العذر أيضا من السباب الشخصية‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫الركن المادي لالشتراك‬
‫ل عقاب الشريك عن األفعال التي ساعد بها الفاعل األصلي‪ ،‬يجب وأن يرتكب أو يأتي إحدى أفعال‬
‫االشتراك المنصوص عليها في المادتين ‪ 42‬و ‪ 43‬من تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬وهي أفعال وردت على سبيل‬
‫الحصر‪ ،‬كوننا بصدد ن ص تجريمي يجب إعمال مبدأ الشرعية بخصوصه‪ ،‬وهي بالتالي أفعال أو أعمال ال يجوز‬
‫تفسيرها تفسيرا واسعا ال القياس عليها‪ ،‬وهذه األعمال هي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬أعمال المساعدة أو المعاونة‬
‫أ عمال المساعدة أو المعاونة‪ ،‬هي كل فعل أو عمل من شأنه أن يعين أو يساعد أو يدعم به الشريك‬
‫الفاعل األصلي‪ ،‬بشرط أن تبقى هذه األفعال في حدود مرحلة ما قبل البدء في تنفيذ الجريمة‪ ،‬أو بعد ذلك دون أن يظهر‬
‫الشريك على مسرح الجريمة‪ ،‬ألن الظهور على مسرح الجريمة (مكان ارتكاب الجريمة) يجعل من الشخص فاعال‬
‫أصليا ال مجرد شريك‪ ،‬لذا فالشريك يجب أن يساعد الفاعل األصلي في المرحلة التحضيرية الرتكاب الجريمة‪ ،‬كشراء‬
‫سالح وتقديمه للفاعل مع علمه بهدف هذا األخير‪ .‬أو أن تكون هذه األعمال معاصرة الرتكاب الجريمة لكن بعيد عن‬
‫مكان تنفيذها‪ .‬أما أعمال المساعدة الالحقة الرتكاب الجريمة‪ ،‬فليست وسيلة من وسائل االشتراك‪ ،‬وإنما يمكن أن تشكل‬
‫جريمة مستقلة بذاتها‪ ،‬غير أن بعض الفقه يرى أنه يمكن االشتراك بأعمال الحقة على ارتكاب الجريمة‪ ،‬بشرط أن يكون‬
‫هناك اتفاق سابق بين الشريك والفاعل األصلي على القيام بها‪ ،‬وهنا يكون الشخص شريكا باالتفاق ال بالمساعدة‪ ،‬مثل‬
‫تدبير الشخص الوسائل الالزمة لتمكين الجناة من الفرار‪ ،‬أو إخفاء معالم الجريمة بعد ارتكابها‪ ،‬وإن لم يكن هناك اتفاق‪،‬‬
‫فهذه األعمال تعد جريمة مستقلة‪ ،‬مثل إخفاء أشياء متحصلة من جناية أو جنحة‪ ،‬أو التستر على الفارين‪ ،‬أو أي جريمة‬
‫يعاقب عليها المشرع بصفة مستقلة‪ ،‬ويعد الشخص فاعال أصليا فيها‪ .‬ال شريك في الجريمة األخرى التي أخفى فيها‬
‫المعالم أو اآلثار‪.‬‬

‫]‪[157‬‬
‫ثانيا‪ :‬إيواء األشرار أو إخفائهم‬
‫إيواء أو إخفاء األشرار في حقيقته يعد عمال من األعمال الالحقة الرتكاب الجريمة األصلية‪ ،‬التي من‬
‫المفروض أن تخضع لما ورد سابقا‪ ،‬غير أنه وتطبيقا للمادة ‪ 43‬اعتبرت من يقوم بمثل هذه األفعال في حكم الشريك‪،‬‬
‫لكن بتوفر الشروط الواردة بهذه المادة‪ ،‬وهذه الشروط المحددة حصرا هي ‪ :‬االعتياد أو تكرار تقديم مسكن أو ملجأ‬
‫ألشرار يقومون بأعمال اللصوصية أو العنف ضد أمن الدولة أو األمن العام أو األشخاص‬
‫أو األموال‪ ،‬واالعتياد يعني قيام الشخص بمثل هذه األعمال ألكثر من مرة واحدة‪ ،‬بمعنى من ارتكب الفعل ألول مرة ال‬
‫يعد كذلك‪.‬‬
‫وقد أضاف المشرع الجزائري في المادة ‪ 91‬من قانون العقوبات صورة أخرى من صور االشتراك‪ ،‬وهي‬
‫المتمثلة في أعمال المساعدة الالحقة أيضا‪ ،‬حيث نصت هذه المادة على أنه‪ :‬المادة ‪ ( 91‬المادة ‪ 60‬من القانون‬
‫‪ 23-06‬المؤرخ في‪ ":)2006-12-20 :‬مع عدم اإلخالل بالواجبات التي يفرضها سر المهنة‪ ،‬يعاقب بالسجن المؤقت‬
‫لمدة ال تقل عن عشر سنوات وال تتجاوز عشرين سنة في وقت الحرب‪ ،‬وبالحبس من سنة إلى خمس سنوات وبغرامة‬
‫من ‪ 20.000‬إلى ‪ 100.000‬دج في وقت السلم‪ ،‬كل شخص علم بوجود خطط أو أفعال الرتكاب جرائم الخيانة أو‬
‫التجسس أو غيرها من النشاطات التي يكون من طبيعتها اإلضرار بالدفاع الوطني ولم يبلغ عنها السلطات العسكرية أو‬
‫اإلدارية أو القضائية فور علمه بها‪ .‬عالوة على األشخاص المبينين في المادة ‪ 42‬يعاقب باعتباره شريكا من يرتكب‬
‫دون أن يكون فاعال أو شريكا أحد األفعال اآلتية‪:‬‬
‫‪ -1‬تزويد مرتكب ي الجنايات والجنح ضد أمن الدولة بالمؤن أو وسائل المعيشة وتهيئة مساكن لهم أو أماكن‬
‫الختفائهم أو لتجمعهم وذلك دون أن يكون قد وقع عليه إكراه ومع علمهم بنواياهم‪،‬‬
‫‪ -2‬حمل مراسالت مرتكبي هذه الجنايات وتلك الجنح وتسهيل الوصول إلى موضوع الجناية أو الجنحة‬
‫أو إخفائه أو نقله أو توصيله وذلك بأي طريقة كانت مع علمه بذلك‪.‬‬
‫وعالوة على األشخاص المعنيين في المادة ‪ 387‬ق ع ج]‪ ،[15‬يعاقب باعتباره مخفيا من يرتكب من‬
‫غير الفاعلين أو الشركاء األفعال اآلتية‪:‬‬
‫‪ -1‬إخفاء األشياء أو األدوات التي استعملت أو كانت ستستعمل في ارتكاب الجناية أو الجنحة واألشياء‬
‫أو المواد أو الوثائق المتحصلة من الجنايات أو الجنح مع علمه بذلك‪،‬‬
‫‪ -2‬إتالف أو اختالس أو تزييف وثيقة عمومية أو خصوصية من شأنها تسهيل البحث عن الجناية أو الجنحة أو‬
‫اكتشاف الدليل عليها مع علمه بذلك‪.‬‬
‫ويجوز للمحكمة في الحاالت المنصوص عليها في هذه المادة أن تعفي أقارب أو أصهار الفاعل لغاية‬
‫الدرجة الثالثة من العقوبة المقررة‪".‬‬
‫الفرع الثالث‬
‫الركن المعنوي لدى الشريك‬
‫جرائم االشتراك من الجرائم العمدية‪ ،‬لذلك يشترط لدى الشريك توفر القصد الجنائي لديه بعنصريه العلم‬
‫واإلرادة‪ ،‬العلم بكل األفعال التي تؤدي إلى تحقيق النتيجة‪ ،‬سواء كانت من أفعاله أو أفعال غيره‪ ،‬وأن يريد النتائج‬
‫المترتبة عنها‪ ،‬وال يسأل عما زاد عن ذلك من نتائج متجاوزة قصده‪ ،‬فهو يسأل فقط في حدود قصده‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫األوضاع الخاصة لالشتراك والعقاب عليه‬
‫ب اعتبار االشتراك جريمة معاقب علها قانونا‪ ،‬فهي تحتاج على دراسة مدى جواز قيام الشروع فيها‪،‬‬
‫وكذا جواز القول باالشتراك في االشتراك‪ ،‬وتحديد العقوبة المقررة للشريك‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫الشروع واالشتراك في االشتراك‬

‫]‪[158‬‬
‫بالنظر لخصوصية جريمة االشتراك التي تعد في األصل جريمة غير معاقب عليها لوال قيام الفاعل األصلي‬
‫بجريمته‪ ،‬فيمكن القول بأن االشتراك جائز في الجنايات والجنح التامة‪ ،‬منا يجوز االشتراك في الجرائم الناقصة (‬
‫جرائم الشروع)‪ ،‬جرائم معاقب عليها أيضا‪ ،‬فيجوز االشتراك في الشروع في جناية‬
‫أو الشروع في جنحة‪ ،‬بشرط أن تكون الجنحة مما يعاقب على الشروع فيها‪ ،‬غير أن ما يحتاج الدراسة هو الشروع في‬
‫االشتراك‪ ،‬واالشتراك في االشتراك‪ ،‬الذين نتناولهما في النقطتين التاليتين‪.‬‬
‫أوال‪ :‬الشروع في االشتراك‪:‬‬
‫ي رى البعض أنه ال يمكن الحديث عن الشروع في االشتراك‪ ،‬سيما في الفروض التي تنتفي فيها رابطة‬
‫سببية بين السلوك والجريمة المتحققة‪ ،‬كون الشروع يفترض أن الفعل المرتكب لم يمتلك القدرة الفعلية على تحقيق‬
‫النتيجة‪ ،‬وبما أن االشتراك ليس جريمة قائمة بذاتها ومستقلة عن الجريمة األصلية‪ ،‬وبالتالي ال يمكن الشروع في‬
‫االشتراك ألن الشروع يستلزم البدء في تنفيذ جريمة وفقا للنص التجريمي األصلي‪ .‬وبالتالي من يباشر عمل من أعمال‬
‫االشتراك‪ ،‬دون أن تتفاعل سببيا مع الجريمة األصلية المرتكبة‪ ،‬ال يمكن اعتباره شريكا في الجريمة ألنه شرع في‬
‫االشتراك فيه‪ ،‬ومثال ذلك إعارة شخص مسدس لشخص آخر ألجل قتل أحد األشخاص‪ ،‬فيقوم الجاني بقتله عن طريق‬
‫الخنق ال باستعمال المسدس‪ ،‬فال يد شريكا كونه انتفت العالقة السببية بين فعله والنتيجة التي تحققت‪ .‬وهي نقطة تقود‬
‫لدراسة أثر عدول الشريك على قيام الجريمة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬عدول الشريك‬
‫ع دول الشريك قبل بدء الفاعل األصلي في تنفيذ جريمته مقبول قانونا‪ ،‬أما ذلك غير جائز بعد البدء في تنفيذ‬
‫الجريمة من قبل الفاعل األصلي‪ .‬غير أن التساؤل يثار حول مسألة عدول الفاعل األصلي عن ارتكاب جريمته‪ ،‬وهنا‬
‫يمكن القول بأن االشتراك غير معاقب عليه في حد ذاته ما لم تقع الجريمة األصلية من قبل الفاعل األصلي‪ ،‬وبالتالي‬
‫الشرط األولي لعقاب الشريك هو ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونا من قبل الفاعل األصلي‪ ،‬غير أنه في حالة عدول‬
‫هذا األخير ال نكون بصدد جريمة‪ ،‬وبالتالي ال اشتراك جنائي في فعل ال يعد جريمة]‪.[16‬‬
‫ثالثا‪ :‬االشتراك في االشتراك‬
‫االشتراك في االشتراك أمر جائز‪ ،‬مثل الصيدلي الذي يقدم مادة سامة لشخص آخر مع علمه أن هذا األخير‬
‫سيسمم بها شخص آخر‪ ،‬ورغم ذلك يريد مساعدته على ارتكاب هذه الجريمة بمثل هذه المادة‪ ،‬فيعد كالهما شريك في‬
‫جريمة القتل بالتسميم‪ .‬وذهب بعض الفقه إلى القول أن االشتراك في االشتراك ال عقاب عليه‪ ،‬كونه مساهمة في فعل ال‬
‫عقاب عليه في حد ذاته‪ ،‬ألنه سبق القول بأن أفعال االشتراك ال عقاب عليها ما لم يرتكب الفاعل األصلي الجريمة‬
‫األصلية ما لم تكن هناك عالقة اتصال مباشر بين الشريك والفاعل األصلي‪ ،‬غير أن هذا الرأي ال أساس قانوني له‪،‬‬
‫كون القانون يعاقب على االشتراك متى وجدت عالقة بين الفعل األصلي وأفعال االشتراك‪ ،‬وأن توفرت رابطة ذهنية‬
‫بين الفاعلين‪ ،‬وبالتالي شريك الشريك يعاقب عن الجريمة التي ارتكبها الفاعل األصلي بوصفه شريكا فيها ال بوصفه‬
‫شريك الشريك‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫عقوبة االشتراك وأثر الظروف على عقوبة الشريك‬
‫نصت المادة ‪ 44‬من تقنين العقوبات الجزائري على أنه‪ :‬يعاقب الشريك في جناية أو جنحة بالعقوبة‬
‫المقررة للجناية أو الجنحة‪ .‬وال تؤثر الظروف الشخصية التي ينتج عنها تشديد أو تخفيف العقوبة أو اإلعفاء منها إال‬
‫بالنسبة للفاعل أو الشريك الذي تتصل به هذه الظروف‪ .‬والظروف الموضوعية اللصيقة بالجريمة التي تؤدي إلى تشديد‬
‫أو تخفيف العقوبة التي توقع على من ساهم فيها يترتب عليها تشديدها أو تخفيفها‪ ،‬بحسب ما إذا كان يعلم أو ال يعلم بهذه‬
‫الظروف‪.‬وال يعاقب على االشتراك في المخالفة على اإلطالق‪.".‬‬
‫و بالتالي يتضح أن كل مساهم مستقل بظروفه الشخصية سواء كانت مشددة أو مخففة أو معفية من‬
‫العقاب أو من المسؤولية‪ ،‬أما بالنسبة للظروف الموضوعية اللصيقة بالجريمة فتسري على كل من ساهم في الجريمة‬
‫سواء بوصفه فاعال أصليا أو مجرد شريك‪ ،‬بشرط توفر العلم بها‪ ،‬أي أن يعلم بها الشريك]‪.[17‬‬

‫]‪[159‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫الركن المعنوي للجريمة‬

‫إ ن مجرد ارتكاب ماديات الجريمة المتمثلة في عناصر ركنها المادي‪ ،‬ال تكفي لقيام الجريمة قانونا‬
‫ومسائلة فاعلها جنائيا‪ ،‬بل يجب أن يتوفر لدى مرتكبها قدر من الخطأ أو اإلثم‪ ،‬وهو ما اصطلح على تسميته بالركن‬
‫المعنوي للجريمة]‪ ،[18‬المتمثل في توفر صلة نفسية بين الفاعل وماديات الجريمة]‪ ،[19‬وبالتالي يمكن القول أنه ال‬
‫جريمة بدون خطا مهما كانت النتائج التي تمخضت عنها‪ ،‬وهو ما يعني أيضا توفر صلة نفسية بين الفاعل والنتيجة التي‬
‫تحققت‪ ،‬بحيث يمكن وصف هذا السلوك بأنه سلوك خاطئ أو مؤثم]‪ .[20‬فالجريمة إذن يجب وأن تقوم على ركنين‬
‫أساسيين‪ ،‬باإلضافة إلى الركن الشرعي‪ ،‬هما الركن المادي المتمثل في ماديات الجريمة التي تعد المظهر الذي تبرز به‬
‫في العالم الخارجي‪ ،‬وركن معنوي يتحقق بموقف اإلرادة من الفعل المادي‪ ،‬وهو الموقف الذي قد يتخذ صورة القصد‪،‬‬
‫كما قد يتخذ صورة الخطأ‪ ،‬وكالهما يفترض القدرة على توجيه اإلرادة نحو ماديات الجريمة‪ ،‬غير أنه في حالة القصد‬
‫تتجه اإلرادة نحو الفعل والنتيجة معا‪ ،‬وفي حالة الخطأ تتجه اإلرادة نحو الفعل دون النتيجة‪ ،‬التي تتحقق بصورة غير‬
‫مقصودة‪.‬‬
‫و المشرع ال يشير إلى هذه العالقة النفسية بين الفاعل والفعل‪ ،‬إال بكلمة واحدة في العادة‪ ،‬كاستعماله‬
‫عبارة " من يرتكب عمدا"]‪ " ،[21‬عن قصد أو بقصد"]‪ ،[22‬أو بغرض]‪ " ،[23‬مع العلم"‪ "،‬أو "بإهمال"]‪ ،[24‬أو "‬
‫بنية"]‪ ...[25‬كون معظم القوانين لم تتصد لتعريف الركن المعنوي للجريمة‪ ،‬لذا فالفضل يعود لفكر الفقه الجنائي‬
‫الحديث في تحديد نطاق الركن المعنوي للجريمة واستجالء غموضه‪ ،‬وجعل القانون يعاقب األشخاص ليس ألنهم "‬
‫فعلوا" وإنما ألنهم " أخطئوا"‪ ،‬وعليه فقد أصبح من المبادئ الراسخة في الوجدان القانوني الجنائي المعاصر‪ ،‬وهو المبدأ‬
‫القاضي بأنه ‪ ":‬ال عقوبة دون خطأ"‪ ،‬وما يزال تحتفظ به القوانين من جرائم غير عمدية‪ ،‬هو مجرد استثناء على المبدأ‬
‫في حدود ال تنال من فعاليته وأهميته]‪ .[26‬وبذلك يعد الركن المعنوي من األركان التي ال تصور لقيام الجريمة بدونه‪،‬‬
‫كقاعدة عامة باعتباره العنصر النفسي لها‪ ،‬فلكي تقوم المسؤولية الجنائية لمقترف الفعل المجرم ال تكفي مجرد النسبية‬
‫المادية للفعل له‪ ،‬وإنما يلزم أن تتوافر رابطة نفسية بينهما تصلح أن تكون أساسا للحكم بتوافر العنصر المعنوي أو‬
‫األدبي للجريمة‪.‬‬
‫أهمية الركن المعنوي‬
‫يعد الركن المعنوي من أهم مكونات البناء القانوني للجريمة‪ ،‬الذي ال يكتمل – هذا البناء القانوني‪ -‬إال‬
‫بهذا الركن‪ ،‬الذي إن لم يتوفر فال نكون أمام جريمة عمدية‪ ،‬وإن كان يمكن أن يجعلنا أمام جريمة غير عمدية إن كان‬
‫الفعل يقبل مثل هذا الوصف‪ ،‬وبتوفر هذا الركن تكتمل الجريمة قانونا ويحق مسائلة فاعلها من جهة‪ ،‬ومن جهة ثانية‪،‬‬
‫تظهر أهمية الركن المعنوي‪ ،‬في أنه الركن الذي يلعب دورا كبيرا في تحديد وتقدير الجزاء المقرر لمرتكب الجريمة‪ ،‬إذ‬
‫يتدرج الجزاء الجنائي في جسامته ومقداره‪ ،‬بقدر درجة اإلثم أو الخطأ التي يكشف عنها الركن المعنوي للجريمة‪ ،‬عكس‬

‫]‪[160‬‬
‫العصور الماضية التي كانت فيه درجة الجزاء ترتبط فحسب بدرجة وجسامة العدوان المادي الذي وقع وما أسفر عنه‬
‫من نتائج دونما أي اعتداد بما توافر لدى الجاني من خطأ‪ .‬كما تكمن أهمية هذا الركن‪ ،‬في كونه ضمانة لتحقيق العدالة‪،‬‬
‫كون توقيع عقوبة على شخص لم تربطه صلة نفسية بجريمة ارتكب مادياتها‪ ،‬يعد مجافاة للعدالة‪ ،‬كون هذه األخيرة‬
‫تقتضي أن يوقع الجزاء الجنائي فقط على المخطئ في أفعاله‪ ،‬والخطأ ال يمكن تصوره إال لدى شخص توفرت لديه‬
‫رابطة نفسية بينه وبين الفعل الذي اقترفه‪ ،‬وهي الرابطة التي تبين اتجاه إرادته لمخالفة أحكام القانون الجنائي بارتكابه‬
‫لهذا الفعل‪ ،‬وبذلك فقط تكون إرادته مخطئة أو آثمة أو منحرفة‪.‬‬
‫عالقة الركن المعنوي بفكرة المسؤولية الجنائية‬
‫د ون استعراض مختلف التطورات التاريخية‪ ،‬يمكننا القول بأن ظهور الركن المعنوي للجريمة‪ ،‬كان‬
‫نتيجة التطورات التي عرفتها فكرة المسؤولية الجنائية‪ ،‬بالرغم من استقالل كل منهما عن اآلخر‪ ،‬كون الركن المعنوي‬
‫ركن من األركان العامة للجريمة‪ ،‬في حين المسؤولية الجنائية‪ ،‬هي حصيلة أركان الجريمة مجتمعة‪ ،‬والتي تؤدي عند‬
‫قيامها أو ثبوتها إلى خضوع الجاني للعقاب‪ .‬وبذلك المسؤولية الجنائية‪ ،‬وعلى عكس الركن المعنوي‪ ،‬نتيجة قانونية لقيام‬
‫الجريمة أو أثر من آثارها ال ركن من أركانها]‪.[27‬‬
‫و كخالصة للتمهيد لدراسة الركن المعنوي للجريمة‪ ،‬يمكن القول أن قانون العقوبات أو القانون الجنائي‪،‬‬
‫يخاطب بأوامره ونواهيه اإلنسان الواعي المدرك صاحب اإلرادة الحرة والسليمة فقط‪ ،‬لذا فالشخص يسأل عن األفعال‬
‫التي يأتيها وهو مدرك لما يقوم به من أفعال ومقدر لمدى خطورتها قانونا‪ ،‬وهذه اإلرادة وهذا اإلدراك هما اللذان يتشكل‬
‫منهما الركن المعنوي للجريمة‪ ،‬وهو القول الذي ينطبق على كل الجرائم سواء كانت عمدية أو غير عمدية]‪ .[28‬األمر‬
‫الذي جعل الفقه يرى بأن الركن المعنوي بصفة عامة‪ ،‬يتطلب مجموعة من العناصر تكاد تكون مشتركة بين في كل‬
‫صور هذا الركن‪ ،‬وهذه العناصر هي‪ :‬إرادة النشاط المكون للركن المادي للجريمة‪ ،‬العلم بكافة العناصر الواقعية‬
‫الجوهرية الالزمة قانونا لقيام الجريمة‪ ،‬العلم بصالحية النشاط إلحداث النتيجة‪ ،‬توافر موقف نفسي للفاعل إزاء النتيجة‪،‬‬
‫فقد يريدها وقد يتوقعها فقط ويعتقد بقدرته على تجنبها‪.‬‬
‫صور الركن المعنوي للجريمة‪:‬‬
‫ل لركن المعنوي للجريمة صورتين‪ ،‬صورة القصد الجنائي ونكون بصدده متى كانت إرادة الفاعل واعية‬
‫وتقصد وتريد إحداث النتيجة المجرمة قانونا‪ ،‬وصورة الخطأ الجنائي ونكون بصددها متى كانت إرادة الفاعل مهملة في‬
‫ارتكاب النشاط المادي وغير قاصدة تحقيق النتيجة المجرمة قانونا‪ ،‬والتي يرتبط توقيع الجزاء الجنائي بحصولها‪ ،‬لذا‬
‫سنحاول تقسيم دراسة الركن المعنوي للجريمة إلى مبحثين‪ ،‬نتناول في األول القصد الجنائي أو الجرائم العمدية أو‬
‫القصدية‪ ،‬لنتناول في الثاني صورة الخطأ الجنائي أو الجرائم غير العمدية‪..‬‬

‫]‪[161‬‬
‫المبحث األول‬
‫القصد الجنائي أو القصد الجرمي ( العمـــــــد)‬

‫بالرغم من أن القصد مشترط في كل الجرائم العمدية‪ ،‬غر أن المشرع لم يعرفه‪ ،‬وترك المهمة للفقه‬
‫الذي تصدى بغزارة لوضع تعريف لهذا العنصر القانوني المهم‪ ،‬لذا سنحاول أن نتناول محاوالت الفقه الزاخرة في هذا‬
‫الشأن في إطار مطلب أول نتناول من خالله مفهوم القصد الجنائي لنتناول في الثاني عناصر القصد الجنائي‪ ،‬وفي‬
‫الثالث أنواع وصور القصد الجنائي‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫مفهوم القصد الجنائي‬
‫ي قتضي موضوع القصد الجنائي وتحديد ماهيته‪ ،‬أن نتناول التعريف به وتبيان عناصره والخالف الفقه‬
‫الذي ثار بشأن ذلك‪ .‬من خالل الفروع التالية‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫التعريف بالقصد الجنائي وتحديد أبعاده‬
‫أوال‪ :‬تعريف القصد الجنائي‬
‫ي عني القصد الجنائي لغة‪ ،‬توجيه اإلرادة نحو تحقيق هدف ما‪ ،‬أما اصطالحا في لغة القانون الجنائي‪،‬‬
‫فيعني توجيه اإلرادة نحو ارتكاب الفعل المحظور قانونا‪ ،‬وهناك من القوانين التي عرفت القصد الجنائي‪ ،‬منها القانون‬
‫الجنائي اللبناني في المادة ‪ 188‬منه التي عرفت القصد بأنه‪ ":‬إرادة ارتكاب الجريمة على نحو ما عرفها القانون"‪ .‬أما‬
‫فقهيا‪ ،‬فالفقهاء اختلفوا منذ عدة قرون حول ما إن كان القصد عنصرا نفسيا بسيكولوجيا‪ ،‬أو مجرد حركة أو امتناع أدى‬
‫إلى تحقيق النتيجة المجرمة قانونا‪ ،‬وتمخض عن هذا الخالف ظهور نظريتين رئيسيتين تنازعتا في تعريف القصد‬
‫الجنائي‪ ،‬النظرية التقليدية للقصد والنظرية الوضعية‪.‬‬
‫‪ -1‬النظرية التقليدية ( الكالسيكية) للقصد‪:‬‬
‫و من أهم زعماء هذه النظرية الفقيه الفرنسي ( إميل غارسون)‪ ،‬وحسبه فإن القصد يعني‪ ":‬إرادة‬
‫الشخص ووعيه وعلمه بأنه يرتكب فعال أو امتناعا مجرم قانونا"‪ ،‬وبالتالي حتى يكون اإلنسان متعمدا‬
‫أ و مرتكبا لجريمة عن قصد‪ ،‬يكفي أن يكون مدركا لخطورة سلوكه‪ ،‬وعالما بأن هذا السلوك محظور قانونا‪ ،‬وما دام‬
‫هذا العلم مفترضا تطبيقا لقاعدة " ال عذر بجهل القانون" فيكفي عمليا حسب أنصار هذا االتجاه‪ ،‬أن يكون السلوك‬
‫المكون لركن المادي للجريمة صادرا عن إرادة حرة غير مكرهة‪ ،‬وعن وعي وإدراك سليم‪ ،‬أي أال يكون الشخص‬
‫منعدم األهلية أو مجنونا أو مكرها]‪ ،[29‬وبعد ذلك ال يهم أن يكون الفاعل صاحب إرادة آثمة أو صاحب خطورة‬
‫إجرامية على المجتمع‪ ،‬أم أن فعله ناتج عن مجرد عدم استقامة أو سوء تقدر أو عدم توقع لنتائج فعله‪ ،‬وبالتالي هي‬
‫نظرية ال تفرق أصال بين العمد ومجرد الخطأ‪ ،‬ونفهم بأنه يرون بأنه للركن المعنوي صورة واحدة هي صورة العمد‪.‬‬
‫وهو وضع النظرية الشخصية دوما التي تركز على اإلرادة دون الفعل‪.‬‬
‫‪ -2‬النظرية الوضعية أو الواقعية‪:‬‬

‫]‪[162‬‬
‫وهي النظرية التي نجد على رأس أنصارها الفقيه اإليطالي ( أنريكو فيري) وهو رائد المدرسة‬
‫الوضعية الحديثة في علم اإلجرام‪ ،‬وبحسبه القصد ال يعني فقط إرادة مجردة‪ ،‬بل القصد يعني الباعث الشرير الذي دفع‬
‫بالشخص إلى ارتكاب الجريمة‪ ،‬فالفعل ال يعاقب عليه القانون إال إذا نتج عن رغبة حقيقية في المساس بالمجتمع‪ ،‬وكلما‬
‫انعدمت اإلرادة اآلثمة وكان الباعث نبيال انتفى القصد وانعدمت المسؤولية الجنائية للفاعل‪ ،‬وهنا نالحظ أننا ال زلنا‬
‫بصدد النظرية الشخصية‪ ،‬المركزة على اإلرادة اآلثمة‪ ،‬والخلط بين الركن المعنوي والمسؤولية الجنائية‪ ،‬وهي نظرية ال‬
‫تستقيم مع ما هو معمول به قانونا‪ ،‬سيما وأن القوانين الحديثة ال تحفل بالبواعث‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬تحديد القصد الجنائي‬


‫ب استقراء االجتهاد القضائي المطبق في الدول الغربية‪ ،‬خاصة في فرنسا‪ ،‬نجد بأن آراء المدرسة التقليدية‬
‫هي المطبقة‪ ،‬كما يبدو ذلك من معظم النصوص القانونية الجزائية‪ ،‬ولعل ذلك راجع لواقعية وبساطة هذه النظرية‬
‫وسهولة تطبيقها في تحديد القصد الذي يعتمد تحديده على‪:‬‬
‫‪ -‬اإلدراك‪ :‬وهو أن اإلنسان ما دام مدركا وغير مجنون وغير مكره أو غير مميز جنائيا فإن إدراكه مفترضا‪.‬‬
‫‪ -‬اإلرادة‪ :‬ال يكفي العنصر الذهني السابق‪ ،‬بل ال بد أن يصدر الفعل عن إرادة حرة غير مكرهة‪.‬‬
‫‪ -‬العلم‪ :‬وهو العنصر المفترض في غالب األحيان‪ ،‬والذي يعني علم الشخص بأنه يرتكب سلوكا محظور‬
‫قانونا‪.‬‬
‫والعناصر الثالثة السابقة من العناصر السهلة االستخالص واالستنتاج‪ ،‬كونها عناصر ملموسة تمكن‬
‫القاضي من استخالص القصد بكل سهولة‪ ،‬دون االعتماد على الجوانب النفسية والبسيكولوجية الصعبة اإلثبات‪ .‬وتبعا‬
‫لما سبق‪ ،‬يمكن تعريف القص د بأنه‪ ":‬إرادة النشاط والعلم بالعناصر الواقعية الجوهرية الالزمة لقيام الجريمة‪ ،‬وبصالحية‬
‫النشاط إلحداث النتيجة المحظورة قانونا مع توفر قصد تحقيق ذلك"‪ ،‬وبالتالي يمكن القول بأن عناصر العمد أو القصد‬
‫الجنائي هي ذاتها عناصر الركن المعنوي‪ ،‬والمتمثلة عموما في‪ :‬إرادة النشاط المكون للركن المادي للجريمة سواء تمثل‬
‫في فعل إيجابي وهو الغالب دوما‪ ،‬أو مجرد امتناع أحيانا‪ .‬العلم بالعناصر الواقعية الجوهرية الالزمة لقيام الجريمة‪.‬‬
‫العلم بصالحية النشاط أو االمتناع إلحداث النتيجة]‪ .[30‬توافر الصلة النفسية بين الفاعل والنتيجة متمثال هذا العنصر‬
‫في قصد تحقيق هذه النتيجة‪ ،‬وينبغي أن يكون هذا القصد واضحا ال لبس فيه على نحو يأخذ فيه صورة العزم واليقين‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫عناصر القصد الجنائي‬
‫كل التعاريف التي قيلت في تعريف القصد الجنائي‪ ،‬تدور حول محورين أو نقطتين أساسيتين‪ ،‬األولى‬
‫وهي " اإل رادة"‪ ،‬والثانية وهي ‪ :‬العلم"‪ ،‬فبخصوص اإلرادة تتجه غالبية التعريفات إلى ضرورة اتجاه إرادة الجاني إلى‬
‫ارتكاب الجريمة‪ ،‬وبخصوص العلم فيشترط أن يعلم الجاني بجميع أركان هذه الجريمة‪ ،‬وبتحقق هذين العنصرين‬
‫مجتمعين يقوم القصد الجنائي وبانتفائهما أو انتفاء أحدهما ينتفي هذا القصد‪.‬‬
‫أوال‪ :‬عــنصر العــلم‬
‫ي عد العلم كعنصر مكون للقصد الجنائي‪ ،‬حالة نفسية تجعل من مرتكب الجريمة عالما بجميع أركانها‬
‫وعناصرها وفقا لما حدده ورسمه المشرع في النص الجنائي أو في النموذج القانوني للجريمة‪ ،‬وينتفي العلم بالجهل بهذه‬
‫العناصر واألركان]‪ ،[31‬وبانتفاء العلم ينتفي القصد‪ ،‬مثلما ينفيه أيضا الغلط]‪ .[32‬غير أنه العلم بعناصر الجريمة‬
‫يقتضي تبيان العناصر التي يقتضي العلم بها‪ ،‬وتلك العناصر التي ال تؤثر في قيام عنصر العلم‪ ،‬التي حتى وغن لم يعلم‬
‫بها الجاني‪ ،‬قام قصده الجنائي‪ ،‬وهو ما نتناوله في النقطتين التاليتين‪.‬‬
‫‪ -1‬العناصر التي يتعين العلم بها‪:‬‬
‫يقوم عنصر العلم كأحد أهم أركان القصد الجنائي‪ ،‬على العلم بالعناصر والوقائع التي تعطي الوصف‬
‫المتميز لجريمة ما مقارنة بسائر الجرائم األخرى‪ ،‬وذلك وفقا لما رسمه المشرع في إطار النموذج التشريعي لها‪ ،‬وعلى‬

‫]‪[163‬‬
‫الع موم يعني العلم اإلحاطة بكل واقعة ذات أهمية قانونية في تكوين الجريمة‪ ،‬سواء كانت عناصر أساسية أو مفترضة‪.‬‬
‫وأهم هذه العناصر والوقائع‪:‬‬
‫أ – محل الجريمة أو الحق المعتدى عليه‪:‬‬
‫العلم بموضوع الجريمة‪ ،‬أو الحق أو المصلحة المعتدى عليها من أهم العناصر الواجبة لقيام الجريمة‬
‫وبالتالي يجب أن يعلم بها الجاني‪ ،‬مثل ملكية الغير للمال المسروق في جريمة السرقة‪ ،‬وكون اإلنسان حي في جريمة‬
‫القتل‪ ...‬وأن كل جهل بهذا العنصر يجعل من العلم منتفيا وينتفي بذلك القصد الجنائي‪.‬‬
‫ب‪ -‬العلم بأن الفعل الذي يأتيه الجاني محظور قانونا‪ ،‬أي أنه يشكل جريمة من جرائم قانون العقوبات‪ ،‬وإن‬
‫كانت مسألة العلم بالقانون قد أثارت العديد من الجدل الفقيه‪.‬‬
‫ج‪ -‬العلم بزمان ومكان ارتكاب الجريمة‪ ،‬لكن متى كان هذين العنصرين من العناصر المكونة للجريمة‪،‬‬
‫كجريمة التجمهر في مكان عام أو جريمة السكر العلني والقذف في مكان عام والمزايدة في زمن الحرب والكوارث‬
‫الطبيعية‪...‬‬
‫د‪ -‬العلم بالظروف المتطلبة قانونا في الجاني أو المجني عليه‪ ،‬كالعلم بحمل المرأة أو افتراض حملها في جريمة‬
‫اإلجهاض‪ ،‬والعلم بأن الشخص جزائري في جريمة الخيانة‪ ،‬والعلم بصفة الموظف في جريمة الرشوة‪ ،‬والعلم بالمرأة‬
‫المتزوجة في جريمة الزنا‪...‬‬
‫ه‪ -‬توقع النتيج ة كون مجرد الغلط في النتيجة ينفي القصد الجنائي‪ ،‬ويسأل الشخص عن جريمة غير عمدية إن‬
‫كان يمكن قيامها بهذا الوصف‪.‬‬
‫‪ -2‬الوقائع التي ال يتعين العلم بها‬
‫من أهم العناصر أو الوقائع التي ال يشترط العلم بها لقيام هذا العنصر الهام من عناصر القصد الجنائي‪،‬‬
‫هي كل المسائل والعناصر التي تخرج عن نطاق تكوين أركان الجريمة‪ ،‬مثل نص قانون العقوبات والظروف المشددة‬
‫للعقوبة واألهلية الجنائية وتوافر شروط العقاب‪.‬‬
‫أ‪ -‬نص قانون العقوبات‪:‬‬
‫ال يشترط لتوفر القصد الجنائي أن يعلم الجاني علما حقيقيا بنص قانون العقوبات أو القوانين المكملة له‪،‬‬
‫بحيث أن كل جهل أو خطا في فهم وتفسير هذه النصوص ال يؤثر على توفر القصد الجنائي تطبيقا للمبدأ الدستوري " ال‬
‫يعذر أحد بجهل القانون"‪ ،‬والتي نصت عليه بعض القوانين صراحة ضمن نصوص قانون العقوبات‪ ،‬كالقانون اللبناني‬
‫في نص المادة ‪ 223‬منه التي قضت انه‪ ":‬ال يمكن ألحد أن يحتج بجهله الشريعة الجزائية أو تأويله إياها تأويال مغلوطا‬
‫فيه‪ ".‬حيث هناك قاعدة افتراض علم الكافة بأحكام قانون العقوبات‪.‬‬
‫ب‪ -‬الظروف المشددة للعقوبة‪:‬‬
‫ال يشترط أيضا لقيام القصد الجنائي لدى الجاني‪ ،‬أن يعلم األخير بالظروف المشددة للعقاب‪ ،‬كونها‬
‫ليست من العناصر التي تدخل في التكوين القانوني للجريمة‪ ،‬بل هي مجرد ظروف تتعلق بمسائل أخرى‪ ،‬في حين أن‬
‫القصد الجنائي يتعلق بأركان الجريمة دون غيرها‪ ،‬لذا فالشخص الذي نسي أنه مسبوق فال يؤثر على قيام ظرف العود‬
‫لديه‪.‬‬
‫ج‪ -‬عناصر األهلية أو المسؤولية الجنائية‪:‬‬
‫مثلما سبق القول‪ ،‬فإن كل المسائل غير المتعلقة بأركان الجريمة ليس لها عالقة بالقصد الجنائي‪ ،‬لذا‬
‫فعناصر األهلية الجنائية أو عناصر المسؤولية الجنائية ال يؤثر العلم أو الجهل بهما في شيء على عنصر العلم المتطلب‬
‫في قيام القصد الجنائي‪ ،‬فمن كان يعتقد بإصابته بمرض عقلي عند ارتكابه الجريمة ثم تبين انه سليم‪ ،‬فإن ذلك ال يؤثر‬
‫على قصده الجنائي‪.‬‬
‫د‪ -‬شروط العقاب‪:‬‬
‫م ا قيل بخصوص الظروف المشددة للعقوبة وعناصر األهلية والمسؤولية الجنائية يمكن قوله بخصوص‬
‫شروط العقاب‪ .‬التي ال يؤثر الخطأ أو الجهل بها بشيء في قيام القصد الجنائي‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬عنصـر اإلرادة‬

‫]‪[164‬‬
‫ا إلرادة قوة داخلية نفسية تتحكم في سلوك اإلنسان وتوجهه‪ ،‬وهي بذلك نشاط يصدر عن وعي وإدراك‬
‫بهدف بلوغ هدف معين‪ ،‬واإلرادة في القانون الجنائي‪ ،‬هي القوة المسيطرة والموجهة للسلوك المادي نحو تحقيق نتيجة‬
‫محظورة قانونا‪ ،‬أو مجرد قيادة هذا السلوك في الجرائم الشكلية‪ .‬وقد ثار خالف فقهي بخصوص عالقة اإلرادة بالنتيجة‪،‬‬
‫ما دامت اإلرادة تسيطر فقط على السلوك وان النتيجة اثر له‪ ،‬ومعنى ذلك أنه ال أثر لإلرادة على النتيجة‪ ،‬فهي كل ما‬
‫تتحكم به هو السلوك‪ ،‬غير أن مناقشة هذه المسألة تنازعته نظريتان أيضا‪ ،‬نظرية العلم ونظرية اإلرادة‪.‬‬
‫نظرية العلم‪ ،‬ويرى أنصارها بأن الرابطة بين النتيجة واإلرادة هي رابطة ضعيفة‪ ،‬فمجرد وجود عالقة ولو‬
‫بسيطة ( مجرد تصور أو توقع للنتيجة) يكفي للقول بإرادة النتيجة‪ ،‬كون هذه األخيرة مجرد نتيجة طبيعية للسلوك ال‬
‫يمكن السيطرة عليها‪ ،‬كونها حصلت كنتيجة الحقة لهذا السلوك وال يمكن لإلرادة أن تسيطر على األفعال الالحقة‬
‫للسلوك‪.‬‬
‫أما أنصار نظرية اإلرادة‪ ،‬فيرون ضرورة أن تكون الرابطة بين اإلرادة والنتيجة رابطة قوية بحيث تتجه‬
‫إرادة الفاعل إليها وترغب في تحقيقها‪ ،‬بحيث تسيطر اإلرادة على النتيجة مثلما تسيطر على السلوك‪.‬‬
‫الفرع الثالث‬
‫لحظة توفر القصد الجنائي وكيفية إثباته‬
‫أوال‪ :‬لحظة توافر القصد الجنائي‬
‫إذا كان القصد الجنائي هو إرادة تحقيق الركن المادي للجريمة مع العلم بعناصره‪ ،‬فيجب لقيامه أن‬
‫يتعاصر مع الركن المادي دون تفرقة بين ما يعد سلوكا وما يعد نتيجة‪ ،‬وإن لم تكن هناك صعوبة مثال في جريمة القتل‬
‫الفورية أين يطلق الشخص النار على آخر فيرديه قتيال‪ ،‬فهنا يعد القصد قد تحقق في اللحظتين معا‪ ،‬لحظة إتيان السلوك‪،‬‬
‫ولحظة تحقق النتيجة الفورية‪ ،‬غير أنه قد يحدث أن يتوفر القصد في إحدى اللحظتين دون األخرى‪ ،‬وذلك ال يمنع من‬
‫القول بتوفره أيضا‪ ،‬كالشخص الذي يندم بعد وضعه السم في طعام شخص آخر‪ ،‬غير أن الوفاة تحدث‪ ،‬فهنا يكون القصد‬
‫متوفرا في حقه بالرغم من قيامه فعال لحظة إتيان السلوك وتخلفه لحظة تحقق النتيجة‪ ،‬أو في الحالة العكسية – أين‬
‫يتحقق القصد لحظة النتيجة دون أن يكون متوفرا لحظة السلوك‪ ،-‬مثل الصيدلي الذي يخطئ في تركيب دواء طلبه منه‬
‫شخص معين‪ ،‬فيضع في هذا الدواء مادة سامة ويسلمه للمريض ثم بعد أن يغادر األخير يكتشف خطأه لكن يمتنع عن‬
‫تنبيهه مع قدرته على ذلك‪ ،‬رغبة منه في تحقق نتيجة الوفاة‪ ،‬ففي هذه الحالة أيضا يعد القصد متوفرا بالرغم من‬
‫معاصرته فقط للنتيجة وتخلفه لحظة إتيان السلوك‪ .‬وبهذا يمكن القول باختصار‪ ،‬أنه يكفي قيام القصد بعنصريه العلم‬
‫واإلرادة في أية مرحلة من مراحل تنفيذ الركن المادي‪ ،‬كون هذا األخير حتى وإن أمكننا نظريا تحليله لعناصر‪ ،‬غير أن‬
‫ذلك ال ينال من حقيقته كوحدة مادية واحدة يكفي توفر القصد فيها في أية لحظة من لحظاتها‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬إثبات القصد الجنائي‬
‫القصد يعد ركن من أركان الجريمة التي ال قيام لها بدونه‪ ،‬لذا يجب إثباته وإقامة الدليل على توفره‪،‬‬
‫وتلك مسألة قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض‪ ،‬غير أن إثبات المسائل النفسية ال يكون بطريق مباشر وإنما بطرق‬
‫غير مباشرة باالستدالل واالستنتاج من ظروف ومالبسات كل قضية على حدة‪ ،‬خاضعا في ذلك للسلطة التقديرية لقضاة‬
‫الموضوع دون رقابة عليهم من محكمة النقض‪ ،‬ألنها مسألة استنتاج ليس هناك مظهر بذاته يقطع بتوفره على سبيل‬
‫الحتم والجزم واليقين‪ .‬ويجب أن يظهر في الحكم وإال كان معيبا ومعرضا للنقض واإلبطال‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫صور القصد الجنائي‬
‫يقسم فقهاء القانون الجنائي القصد الجنائي ( العمد ) عدة تقسيمات‪ ،‬فيقسم إلى قصد عام وقصد خاص‪،‬‬
‫وقصد محدد وقصد غير محدد‪ ،‬وقصد مباشر وقصد غير مباشر‪ ..‬وفي الغالب المشرع ال يرتب أية نتيجة قانونية على‬
‫هذه األنواع‪ ،‬ما عدا بخصوص التقسيم األول‪ -‬القصد العام والقصد الخاص‪ -‬لكن باقي التقسيمات األخرى يرى الفقه أن‬
‫أثرها ينحصر في تقدير العقوبة الموقعة على الجاني‪ ،‬دون أن يكون لها أثر على الجريمة وقيامها‪.‬‬

‫]‪[165‬‬
‫الفرع األول‬
‫القصد الجنائي العام والقصد الجنائي الخاص‬
‫أوال‪ :‬القصد الجنائي العام‬
‫القصد الجنائي العام هو القصد المطلوب في كل الجرائم العمدية‪ ،‬وينحصر في إطار النموذج التشريعي‬
‫المنصوص عليه في النص‪ ،‬وال يمتد للغرض الذي يسعى إلى تحقيقه الجاني‪ ،‬وبغض النظر عن غاية وباعث الجاني‬
‫من وراء اقترافه الجريمة‪ ،‬بل ينحصر فقط في الهدف الضروري والمباشر للسلوك اإلجرامي‪ ،‬وهو بذلك ال يختلف من‬
‫جاني آلخر في الجريمة الواحدة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬القصد الجنائي الخاص‬
‫القصد الجنائي الخاص‪ ،‬هو ذلك القصد الذي نكون بصدده عندما يتطلب القانون باإلضافة إلى القصد‬
‫الجنائي العام‪ ،‬تحقق غاية معينة يبتغيها الجاني‪ ،‬وتكون هي التي دفعته الرتكاب الجريمة‪ ،‬وهي التي يستدل عليها بطرح‬
‫سؤال بسبب ارتكاب الجاني لجريمته‪ ،‬لذا فالغاية التي يتضمنها القصد الخاص في حقيقتها مسألة خارجة أصال عن‬
‫وقائع الجريمة المتطلبة في تكوين نموذجها التشريعي‪ ،‬تؤدي في حال اشتراطها إلى اكتمال الركن المعنوي للجريمة‪.‬‬
‫وال يختلف القصد الجنائي العام على القصد الجنائي الخاص من حيث العناصر المكونة لكل منهما‪ ،‬كون القصد الجنائي‬
‫الخاص يتطلب بدوره عنصري العلم واإلرادة في حدود معينة تدور في الغاية التي يتطلبها المشرع‪ ،‬ونجد المشرع‬
‫عندما يتطلب قصدا خاصا يستعمل عبارات مثل " بقصد" أو " بقصد اإلضرار" أو " بغرض"‪....‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫القصد الجنائي المحدود والقصد الجنائي غير المحدود‬
‫أوال‪ :‬القصد الجنائي المحدود‬
‫نكون بصدد القصد الجنائي المحدود‪ ،‬لما يحدد الجاني بدقة موضوع جريمته ويحدد ويحصر النتائج‬
‫المراد تحقيقها من خاللها‪ ،‬أما ارتكاب الجريمة دون تحديد موضوعها وال النتائج المراد تحقيقها‪ ،‬يجعلنا بصدد قصد‬
‫غير محدد‪ ،‬وكال النوعين يشترطان العلم واإلرادة دون أن يفرق القانون ما يترتب عنهما بخصوص العقوبات‪ ،‬فكالهما‬
‫معاقب عليه لكن كثيرا ما يعد القصد المحدد ظرفا مشددا بالنظر لجسامة النتائج المترتبة عنه‪.‬‬
‫الفرع الثالث‬
‫القصد الجنائي المباشر والقصد الجنائي غير المباشر ( االحتمالي)‬
‫بالرغم من تشابه هذا التقسيم مع السابق‪ ،‬إال أنه يختلف عنه في أساس التقسيم‪ ،‬حيث يعتمد في هذا‬
‫التقسيم مدى اتجاه اإلرادة إلى النتيجة والرغبة فيها أو قبولها‪ ،‬لذا يكون القصد مباشرا عندما تتجه إرادة الجاني الرتكاب‬
‫الجريمة التي أرادها بكل عناصرها إلى تحقيق نتيجة معينة كأثر أكيد لسلوكه مع رغبة في حدوثها‪ ،‬مثل إطالق النار‬
‫على شخص محدد رغبة في قتله‪.‬‬
‫أ ما إذا كان الجاني يتوقع إمكانية حدوث النتيجة ما بارتكابه سلوكه المجرم دون أن يكون متأكدا من‬
‫حدوث هذه النتيجة‪ ،‬باعتبارها ممكنة الوقوع‪ ،‬ورغم ذلك غامر بارتكاب هذا السلوك‪ ،‬فهنا نكون أمام قصد احتمالي غير‬
‫مباشر باعتباره قد قبل النتيجة التي تحققت‪ ،‬بمعنى أننا نكون بصدد قصد احتمالي في جميع الحاالت التي يتوقع فيها‬
‫الجاني النتيجة كأثر ممكن من سلوكه ومع ذلك يتصرف كأنه قابل بحدوثها بدليل عدم تراجعه عن سلوكه‪.‬‬

‫]‪ - [1‬ألن المحرض قد يكون هو صاحب الفكرة اإلجرامية منذ الوهلة األولى‪ ،‬وقد يكون دوره مقتصرا فقط على إيجاد‬
‫التصميم لدى الفاعل الرتكابها‪ ،‬كأن يقترح الفاعل ذاته فكرة الجريمة‪ ،‬ويقوم المحرض بتزيينها له ويولد لديه التصميم على القيام‬
‫بها‪ ،‬إذ لواله لما أقدم الفاعل على ارتكابها‪.‬‬
‫]‪ - [2‬لذا نرى شخصيا وفي ظل غياب نص دقيق موضح للمسألة‪ ،‬أنه يجوز التحريض على فعل يعد جريمة لكن‬
‫مصحوبا بسبب من أسباب اإلباحة‪ ،‬مثل تحريض األب على تأديب ابنه أو الزوج على تأديب زوجته‪ ،‬ألننا بتوفر سبب من أسباب‬

‫]‪[166‬‬
‫اإلباحة ال نكون أمام جريمة‪ .‬وال إشكال أيضا في حالة التحريض على فعل يعد جريمة لكن مرتكبه توفر لديه مانع من موانع‬
‫المسؤولية‪ ،‬وهنا الشخص ال يعاقب بصفته محرضا وإنما بصفته فاعال معنويا‪ ،‬الفكرة التي ستكون موضوع دراستنا الحقا‪.‬‬
‫لكن اإلشكال الذي يطرح‪ ،‬هو حالة التحريض على فعل يشكل جريمة فعال‪ ،‬لكن الشخص الفاعل يكون قد توفر‬
‫لديه مانع من موانع العقاب‪ ،‬إذ مثل هذه الموانع ال تبيح الفعل وإنما تمنع توقيع الجزاء‪ ،‬مثل تحريض الزوج على سرقة زوجته أو‬
‫العكس‪ ،‬فهنا نرى أنه محرض كون موانع العقاب ال تمحي عن الفعل صفته اإلجرامية‪.‬‬
‫]‪ - [3‬نصت هذه المادة التي عدلت بموجب المادة ‪ 60‬من القانون ‪ 23-06‬المؤرخ في‪ ":)2006-12-20 :‬كل‬
‫تحريض مباشر على التجمهر غير المسلح سواء بخطب تلقى علنا أو بكتابات أو مطبوعات تعلق أو توزع يعاقب عليه بالحبس‬
‫من شهرين إلى سنة إذا نتج عنه حدوث أثره‪ ،‬وتكون العقوبة الحبس من شهر واحد إلى ستة أشهر وبغرامة من ‪ 20.000‬إلى‬
‫‪ 100.000‬دج أو بإحدى هاتين العقوبتين في الحالة العكسية‪.‬‬
‫كل تحريض مباشر بنفس الوسائل على التجمهر المسلح يعاقب عليه بالحبس من سنة إلى خمس سنوات إذا‬
‫نتج عنه حدوث أثره‪ .‬وتكون العقوبة الحبس من ثالثة أشهر إلى سنة وبغرامة من ‪ 20.000‬إلى ‪ 100.000‬دج أو بإحدى هاتين‬
‫العقوبتين في الحالة العكسية‪".‬‬
‫]‪ - [4‬التهديد في قانون العقوبات الجزائري جريمة مستقلة بذاتها‪ ،‬وهو التهديد الذي قد يكون كتابة كما قد يكون شفاهة‪،‬‬
‫وقد تضمنت المواد من ‪ 284‬إلى ‪ 287‬النص والعقاب عليه‪.‬‬
‫وهو األمر الذي يجعل الشخص المحرض على ارتكاب الجريمة عن طريق التهديد بصدد تعدد مادي للجرائم‪،‬‬
‫فارتكب جريمة التحريض‪ ،‬وجريمة التهديد ويخضع لتوقيع العقوبة الشد‪.‬‬
‫]‪ - [5‬ن رى أن الفاعل في هذه الحالة ال يسأل جنائيا عن الجريمة التي حرض عليها وارتكبها‪ ،‬كونه توفر له مانع من‬
‫موانع المسؤولية وهو اإلكراه الذي سندرسه عند تناول مسألة المسؤولية الجنائية وموانعها‪ .‬وذلك إذا توفرت شروط اإلكراه‪ ،‬فقد‬
‫يكون بوسع لمحرض مراجعة السلطات قبل التنفيذ‪.‬‬
‫]‪ - [6‬و هنا يمكن التذكير بموضوع تم تناوله في إطار دراسة أسباب اإلباحة‪ ،‬وبالضبط في مجال مدى جواز تنفيذ‬
‫المرؤوس ألوامر رؤساءه غير المشروعة‪ ،‬ففي مثل هذه الحالة إذا ما نفذ المرؤوس أوامر رؤساءه بحسن نية وكان التنفيذ ينطوي‬
‫جريمة متعمدة سأل عنها الرئيس بصفته محرضا‪.‬‬
‫]‪ - [7‬التي نصت على أنه‪ ":‬إذا لم ترتكب الجريمة المزمع ارتكابها لمجرد امتناع من كان ينوي ارتكابها بإرادته وحدها‬
‫فإن المحرض عليها يعاقب رغم ذلك بالعقوبات المقررة لهذه الجريمة‪.".‬‬

‫]‪ - [8‬استعمل المشرع الجزائري عبارة – بسبب وضعه أو صفته الشخصية‪ -‬وهي عبارة نرى أنها تعوزها الدقة كثيرا‪،‬‬
‫فالوضع والصفة ال يعنيان بالضرورة امتناع المسؤولية الجنائية لدى الشخص‪ ،‬بل هما أوسع نطاقا من ذلك‪ ،‬فمن توفر لديه مانع‬
‫من موانع العقاب يعد صاحب وضع‪ ،‬كما أن فكرة الصفة الشخصية مسألة بعيدة كل البعد عن األفكار القانونية‪ ..‬لذا نرى أنه كان‬
‫على المشرع الجزائري استعمال الشخص غير مسؤول جنائيا بصراحة ويضيف لها حسن النية‪ ،‬ألنه في رأينا بموجب هذا النص‬
‫يدخل حتى السكر والتخدير والزوج والزوجة في الجرائم المقيدة بقيد‪.....‬‬
‫]‪ - [9‬يضرب الفقه بعض األمثلة عن حسن النية‪ ،‬كأن يطلب أحدهم من عامل المطعم أن يناوله معطف ليس ملكا له‬
‫موهما إياه أنه مالكه ويعتقد عامل المطعم بصحة ذلك‪ ،‬أو كان يشير أحد األشخاص لحملة الحقائب بالمطار بأن يسوق له حقائب‬
‫الغير ويعتقد العامل أنه صاحبها‪.‬‬
‫]‪ - [10‬باإلضافة للمالحظة السابقة‪ ،‬نالحظ أن المشرع استعمل من ال يخضع للعقوبة بمعنى أصحاب موانع العقاب وال‬
‫حتى موانع المسؤولية ودقة المصطلحات تقتضي هذه المالحظة‪.‬‬
‫]‪ - [11‬وبعبارة أخرى قانونية‪ ،‬يمكن القول عن الشريك‪ ،‬أنه الشخص الذي يساعد الفاعل األصلي على ارتكاب الجريمة‬
‫ولكن بعمل ال يصل إلى ما يشكل الركن المادي للجريمة‪ ،‬أو ال تدخل في السلوك التنفيذي للجريمة على النحو الموصوف قانونا‪.‬‬
‫]‪ - [12‬ن رى أن المشرع الجزائري ما كان ليخسر شيء لو أضاف عبارة " فيها" التي تعود على الجريمة األصلية‪،‬‬
‫لتكون الفقرة على النحو التالي‪ :‬يعد شريكا في الجريمة من لم يشترك اشتراكا مباشرا فيها أو في تنفيذها‪"...‬‬
‫]‪ - [13‬إ ن كان فاعل واحد فإننا ال نظن أن المسكن أو الملجأ يقدم له لالجتماع بل للجوء " ملجأ" ألن فكرة االجتماع‬
‫تتطلب تعدد الجناة والشخص ال يجتمع بنفسه بل يختلي بها‪.‬‬
‫]‪ - [14‬نرى أن المشرع الجزائري هنا لم يترك نوع من أنواع الجرائم وإال شمله النص‪ ،‬لذا ال ندري ما الذي كان‬
‫يمنعه من النص صراحة بالعقاب على " كل من ارتكب جريمة من الجرائم المنصوص عليها قانونا" خاصة الجنايات والجنح‪.‬‬

‫]‪[167‬‬
‫وفي تفسيري الخاص أن كل من ارتكب جنحة أو جناية أو شرع في ذلك – في الجنح إذا كان معاقب على الشروع فيها‪ -‬وقدم له‬
‫هذا المسكن أو الملجأ ‪.‬‬
‫]‪ - [15‬المادة ‪( 387‬المادة ‪ 60‬من القانون رقم ‪ 23-06‬المؤرخ في‪ ":)2006-12-20 :‬كل من أخفى عمدا أشياء‬
‫مختلسة أو مبددة أو متحصلة من جناية أو جنحة في مجموعها أو في جزء منها يعاقب بالحبس من سنة على األقل إلى خمس‬
‫سنوات على األكثر وبغرامة من ‪ 20.000‬إلى ‪ 100.000‬دج‪ .‬ويجوز أن تجاوز الغرامة ‪ 100.000‬دج حتى تصل إلى ضعف‬
‫قيمة األشياء المخفاة‪ .‬ويجوز عالوة على ذلك أن يحكم على الجاني بالحرمان من حق أو أكثر من الحقوق الواردة في المادة ‪14‬‬
‫من هذا القانون لمدة سنة على األقل إلى خمس نوات على األكثر‪ .‬وكل ذلك مع عدم اإلخالل بأية عقوبة أشد إذا اقتضى األمر في‬
‫حالة االشتراك في الجناية طبقا للمواد ‪ 42‬و‪ 43‬و‪." .44‬‬
‫]‪ - [16‬ونشير هنا أن أنصار هذا االتجاه هم أنصار المذهب الموضوعي في البدء في التنفيذ‪ ،‬بينما أنصار المذهب‬
‫الشخصي الذين يعتبرون العدول من األسباب الشخصية‪ ،‬فهم يرون عقاب الشريك عند عدول الفاعل األصلي‪ ،‬كون العدول‬
‫االختيار للفاعل األصلي يشكل ظرفا شخصيا يستقل به وحده‪ ،‬وأن المشرع ينص على استقالل كل فاعل بظروفه الشخصية‪ ،‬غير‬
‫أن العدول في نظرنا يرتبط بماديات الجريمة كونه حال دون تحققها ماديا‪ ،‬وبالتي هو من الظروف الموضوعية التي يستفيد منها‬
‫الجميع‪ .‬وإن كان المشرع الجزائري يعتد بالعلم بها‪ ،‬فإننا نرى أيضا أنه في حال جهل الشريك بعدول الفاعل فإنه يستفيد بهذا‬
‫العدول أيضا‪ ،‬ألننا لسنا بصدد جريمة‪ ،‬واالشتراك أفعال غير معاقب عليها ما لم ترتكب لجريمة األصلية‪.‬‬
‫]‪ - [17‬م ن الظروف الشخصية موانع المسؤولية وموانع العقاب واألعذار القانونية‪ ،‬فهنا كل شخص توفرت لديه يكون‬
‫وحده المستفيد منها‪ ،‬فال يمكن إن توفرت لدى الشريك أن ينتفع منها الفاعل والعكس صحيح‪ ،‬بينما الظروف العينة اللصيقة‬
‫بالجريمة تسري على الكل بشرط أن يكون الكل على علم بها‪ ،‬وال نقصد هنا أسباب اإلباحة إذ هذه األخيرة يستفيد منها الجميع‬
‫بغض النظر عن العلم أو الجهل بها‪ ،‬بل المقصود الظروف العينية المتعلقة بالتشديد والتخفيف في العقاب مثل ظرف الليل في‬
‫جريمة السرقة‪ ،‬فالشخص إذا كانت نيته االشتراك في جنحة سرقة بالنهار وارتكبها الفاعل األصلي مقترنة بظروف التشديد هنا‬
‫يبحث عما إن كان الشريك يعلم بها أم ال فيشدد عليه إن كان عالما بها‪ ،‬وال تشديد إن كان يجهل األمر‪.‬‬
‫]‪ - [18‬ا لمالحظ أن المسميات الفقهية للتعبير عن الركن المعنوي متعددة‪ ،‬سيما في ظل غياب تعريف تشريعي له‪،‬‬
‫فسمي بركن الخطأ أو اإلثم أو الذنب أو اإلذناب أو الخطيئة‪ ،‬والركن األدبي‪ ،‬لكن مهما تعددت هذه المسميات‪ ،‬فإن ذلك ال يؤثر‬
‫على حقيقة الركن المعنوي للجريمة‪ ،‬وال ينقص من محتوى عناصره‪.‬‬
‫]‪ - [19‬كون القانون ال يهتم بالفعل المادي الذي يرتكبه الفاعل بوصفه هذا‪ ،‬كون الحيوان أو الجماد يمكنه أيضا أن‬
‫يحدث أضرارا مادية باألفراد والممتلكات‪ ،‬وأن الوقت الذي كانت فيه الخرافات تدفع بالمجتمع إلى معاقبة غير البشر‪ ،‬وقت قد‬
‫مر‪ ،‬وقد سجل تاريخ القضاء في أوروبا خالل القرون الوسطى العديد من المحاكمات العجيبة‪ ،‬التي أن فيها المتهم من الحيوانات‪،‬‬
‫مثل الذئاب والخنازير والدببة والخيول والجرذان والحشرات والكالب والقطط‪ ،‬كما كانت تستدعى الحيوانات أيضا للشهادة أمام‬
‫المحاكم‪ ،‬فتعتبر شهود إثبات أو نفي بحسب ما يصدر عنها من حركة أو سكوت‪ ،‬بحيث كان سكوتها دليل على البراءة وحركتها‬
‫دليل على اإلدانة‪.‬‬
‫وفي العصور الوسطى دوما‪ ،‬أصدر الملك الفرنسي فرنسوا األول ( ‪ )1494-1574‬قرار يجيز حضور‬
‫المحامين مع الحيوانات الجانية للدفاع عنها‪ ،‬كما أصدر الحاكم "جون مارتوا" أمر بتدمير جرس " كنيسة بيرون" بسبب خيانة هذا‬
‫الجرس‪ ،‬إذ بواسطته حرض المواطنون على التمرد‪.‬‬
‫]‪ - [20‬ف ي العصور السابقة الغابرة الضاربة في جذور التاريخ وحتى القرون الوسطى‪ ،‬لم يكن األمر كذلك‪ ،‬فالمسؤولية‬
‫كانت مادية أو موضوعية تعتمد على الركن المادي للجريمة فقط دون ركنها المعنوي‪ ،‬حيث كانت تقوم مسؤولية الشخص بمجرد‬
‫اقترافه السلوك المادي دون حاجة للبحث عن مدى توفر الخطأ أو الذنب أو اإلثم لديه‪.‬‬
‫]‪ - [21‬ومن صور استعمال المشرع لهذه العبارة‪ ،‬المادة ‪ " 264‬كل من أحدث عمدا جروحا للغير‪ ،"...‬والمادة ‪": 273‬‬
‫كل من ساعد عمدا شخصا على األفعال التي تساعده على االنتحار‪ ،"....‬والمادة ‪ " 321‬كل من نقل عمدا طفال أو أخفاه‪،"...‬‬
‫والمادة ‪ ": 329‬كل من تعمد إخفاء قاصر‪ ،"...‬وأيضا المواد ‪ 87‬مكرر ‪ 160 ،90 ،5‬مكرر‪160 ،4‬مكرر ‪160 ،5‬مكرر‪،6‬‬
‫‪ 160‬مكرر ‪....7‬‬
‫]‪ - [22‬ومن أمثلة ذلك في قانون العقوبات الجزائري‪ ،‬المادة ‪ ...": 2/61‬القيام بالتخابر مع دولة أجنبية بقصد حملها‬
‫على‪ "...‬والمادة ‪ ": 86‬يعاقب باإلعدام ‪....‬بقصد اإلخالل‪"...‬‬

‫]‪[168‬‬
‫]‪ - [23‬ومن أمثلة ذلك في تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬المادة ‪ ... ": 65‬بغرض تسليمها لدولة أجنبية"‪ ،‬المادة ‪": 77‬‬
‫المؤامرة التي يكون الغرض منها‪ "..‬والمادة ‪: 84‬ط كل من يرتكب اعتداء يكون الغرض منه‪ "..‬وأيضا المادة ‪،114 ،88 ،85‬‬
‫‪...176‬‬
‫]‪ - [24‬ومن أمثلة ذلك في تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬المادة ‪ 119‬مكرر‪ ... ":‬تسبب بإهماله‪ ، "...‬المادة ‪... " 162‬‬
‫بسبب اإلهمال‪289 ،288 "...‬‬
‫]‪ - [25‬مثل نص المادة ‪120‬ق ع ج‪.‬‬
‫]‪ - [26‬حيث أن القانون بموجب مبدأ ال جريمة بدون خطأ‪ ،‬أصبح يأخذ بعين االعتبار الصلة النفسية بين الفاعل والفعل‬
‫الذي كان فيما مضى مجردا منظورا له بطريقة مادية موضوعية وبصفة عامة ومجردة‪ ،‬ومنطق األمور يبرر ذلك‪ ،‬فاألصل في‬
‫األشياء اإلباحة‪ ،‬وأن االستثناء هو التجريم الذي يكون بنصوص تشريعية واضحة ودقيقة ومبينة األركان والعناصر لكل ما هو‬
‫محظور على األفراد إتيانه‪ ،‬وما عدا ذلك فهو مباح ما لم يكن يتعارض مع التزامات قانونية منصوص عليها في فروع القانون‬
‫األخرى‪ ،‬أو في العرف وقواعد العدالة وأحكام القانون الطبيعي‪ .‬وأن المشرع بوضعه النصوص التجريمية والنص عليها في‬
‫قانون العقوبات‪ ،‬يضع في اعتباره ألنها ستحقق أهدافها بموجب ما تتضمنه من وعد ووعيد وترهيب بإنزال الجزاء المرفق بها‪،‬‬
‫كونه جزاء يتضمن معنى الردع العام وتحقيق المساواة والعدالة‪ .‬ولعل ذلك ما يظهر منه أن المشرع يركز على الفعل على عكس‬
‫الفاعل‪ ،‬وأن كل ما قام به هو تبيان الركن الشرعي للجريمة ومن خالله الركن المادي‪ .‬األخير الذي ال يزال لغاية اللحظة يتصف‬
‫بالعمومية والتجريد‪ .‬غير أن الركن المعنوي يشكل نقطة تحول المشرع واتجاه نظره نحو الفاعل ال الفعل‪ ،‬وبه يبدأ التركيز على‬
‫الجوانب العقلية والنفسية‪ ،‬وظروفه وأحواله من جنس وسن وما إلى غير ذلك‪ .‬وبنوع من التجاوز حتى نواياه وخواطره وما إن‬
‫كانت تنطوي على خطورة إجرامية‪ ،‬وبذلك يكون الركن المعنوي تجسيدا لالهتمام بشخص الفاعل والتمهيد إلقرار مسؤوليته‬
‫الجنائية وصالحيته لتوقيع الجزاء الجنائي عليه‪ .‬أو الحد من كل ذلك أو منعه – من المسؤولية والعقاب‪ -‬تبعا النعكاسات مقوماتها‬
‫على ظروف الجاني الشخصية والنفسية‪.‬‬
‫و لغاية هذا الركن‪ ،‬تكون الجريمة محكومة بالعديد من المبادئ إذ‪ :‬ال جريمة بدون نص‪ ،‬وال جريمة بدون فعل‪،‬‬
‫وال جريمة بدون خطأ أو إثم‪ ،‬بمعنى أن الجاني بالوصول لهذا الركن وكأنه يعبر عن علمه بتجريم الفعل‪ ،‬وبالرغم من ذلك ارتكبه‬
‫ومستعد لتوقيع الجزاء المقرر له‪.‬‬
‫]‪ - [27‬لذلك فال مجال لمسايرة اآلراء الفقهية المنادية بجعل الركن المعنوي نفسه المسؤولية الجنائية‪ ،‬كما ال ينبغي‬
‫أيضا أن نخلط في دراستنا بين الموضوعين‪ ،‬وذلك بالنظر الستقالل كل منهما عن اآلخر‪ ،‬وبذلك ال يمكن أن تعالج نظرية‬
‫المسؤولية الجنائية في إطار دراسة الركن المعنوي للجريمة‪ ،‬كونها أثر من آثار ارتكاب الجريمة‪ ،‬فيجب دراستها بعد استكمال‬
‫دراسة كل أركان الجريمة كمحصلة عن قيام األخيرة قانونا‪.‬‬
‫]‪ - [28‬بالرغم من أن المشرع يخرج عن هذه القاعدة أحيانا‪ ،‬سيما في مجال المخالفات‪ ،‬األمر الذي أدى بالفقه والقضاء‬
‫خاصة بفرنسا وإنجلترا إلى القول بأن المخالفات مجرد جرائم مادية يكفي لقيامها وقوع الفعل المادي دون اشتراط الركن‬
‫المعنوي‪ ،‬وذلك لكونها مجرد خرق للتنظيمات واللوائح‪ ،‬وال تشترط أي إثم أو عدوان وهما العنصرين المشكلين للركن المعنوي‬
‫لل جريمة‪ ،‬وأن ارتكابها ال يعني أي خرق لقيم المجتمع بل هي خرق لتنظيم أو أمر إداري مبتدع‪ ،‬ولعل أكبر دليل في التشريع‬
‫الجنائي الحديث‪ ،‬ما ورد بنص المادة ‪ 3/121‬من تقنين العقوبات الفرنسي الجديد لسنة ‪ 1992‬والذي دخل حيز النفاذ سنة ‪1994‬‬
‫التي قضت على أنه‪ ":‬ال جناية وال جنحة دون نية ارتكابهما"‪ ،‬فهو نص لم يذكر المخالفات‪ ،‬ويضيف الفقه دعما لموقفه السابق‪،‬‬
‫بان العقوبات المقررة للمخالفات هي في الغالب عقوبات مالية تعبر عن تقدير المشرع لعدم خطورة فاعلها‪ ،‬على عكس المعمول‬
‫به في الجنايات والجنح‪.‬‬
‫]‪ - [29‬بمعنى أال يكون ممتنع المسؤولية الجنائية‪ ،‬وبالتالي االتجاه الكالسيكي هذا هو الذي يخلط أو يدمج بين فكرة‬
‫الركن المعنوي للجريمة وفكرة المسؤولية الجنائية‪.‬‬
‫]‪ - [30‬ق د يرقى هذا العلم لحد اليقين إذ تصبح النتيجة متوقعة كأمر الزم‪ ،‬فيتوفر العمد أو القصد الجنائي في صورته‬
‫المباشرة‪ ،‬وقد يبلغ درجة االحتمال إذ يصبح األصل في علم الجاني هو حدوث النتيجة ما لم يطرأ ما يحول دون ذلك‪ ،‬وبهذا‬
‫االحتماألو التوقع يتوفر القصد الجنائي في صورته غير المباشرة أو المحتملة‪.‬‬
‫]‪ - [31‬الجهل يعني عدم العلم إطالقا بأمر معين‪ ،‬أما الخطأ فهو علم أو تصور خاطئ‪.‬‬
‫]‪ - [32‬والمقصود هو الغلط المادي‪ ،‬ومثاله الصياد الذي يتصور أنه يرى طائر في الغابة‪ ،‬فيطلق عليه النار‪ ،‬ويتبين‬
‫الحقا أنه قتل إنسانا متواري في هذه الغابة‪ ،‬فمثل هذا الشخص ال يقوم في حقه القصد الجنائي لجريمة القتل‪ ،‬كونه وقع في غلط‬
‫مادي ينصب حول حقيقة الفعل الذي وقع بالفعل‪ ،‬وقد نص المشرع اللبناني على هذا النوع من الغلط صراحة في نص المادة ‪224‬‬

‫]‪[169‬‬
‫التي قضت بأنه‪ ":‬ال يعاقب‪ ...‬في جريمة مقصودة من أقدم على الفعل بعامل غلط مادي واقع على أحد العناصر المكونة‬
‫للجريمة"‪ ،‬لذا يشترط في مثل هذا الغلط المادي أن يكون جوهريا متعلقا بواقعة لها أهمية قانونية في قيام الجريمة‪ ،‬ال أن يكون‬
‫غلطا غير جوهريان ومن أمثلة الغلط غير الجوهري هو الغلط في الشخصية‪ ،‬كأن يعتقد الشخص أنه يطلق النار على ( أ) في‬
‫حين هو أطقها فعليا على (ب)‪ ،‬كما ال يعد الغلط في التصويب غلطا ماديا‪ ،‬كإطالق النار على ( أ) فيصاب (ب)‪ ،‬وهو ما نص‬
‫عليه أيضا المشرع اللبناني صراحة في نص المادة ‪ 226‬من تقنين عقوباته‪ ،‬التي قضت ب‪ ":‬إذا وقعت الجريمة على غير‬
‫الشخص المقصود بها‪ ،‬عوقب الفاعل كما لو اقترف الفعل بحق من كان يقصده‪. ".‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫الخطأ الجــــنائي‬
‫الركن المعنوي للجريمة غير العمدية‬

‫الجرائم إما أن تكون عمدية تقوم بتوفر القصد الجنائي هو األصل‪ ،‬وإما غير عمدية تقوم بمجرد توفر‬
‫الخطأ الجنائي]‪ ، [1‬فالجريمة العمدية إن كانت تقوم على قصد إتيان السلوك وترتيب النتائج الضارة المترتبة عليه‪،‬‬
‫فالجريمة غير العمدية أو الجريمة الخطئية‪ ،‬فيكفي فيها إتيان سلوك حتى دون قصد إتيانه أو قصد تحقيق النتيجة‪.‬‬
‫وغالبية المشرعين لم يعرفوا الخطأ‪ ،‬بل اكتفوا بتبيان صوره‪ ،‬وهي الصور التي تتضح في الغالب بمناسبة تجريم‬

‫]‪[170‬‬
‫الجروح الخطأ والقتل الخطأ‪ ،‬وهو ما فعله المشرع الفرنسي في المادتين ‪ 319‬و‪ 320‬من تقنين العقوبات الفرنسي‪ ،‬التي‬
‫أوردها المشرع الجزائري في المادتين ‪ 288‬و‪ 289‬من تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬وهي صور تبين بأن الخطأ هو‬
‫إخالل الج اني بواجبات الحيطة والحذر التي تتطلبها الحياة االجتماعية حتى ولو لم يتوقع النتيجة اإلجرامية‪ ،‬كونه كان‬
‫بإمكانه أن يتوقعها‪ ،‬لذا توصف إرادته في هذه الحالة بأنها آثمة لمجرد أنها لم تلتزم باتخاذ التدابير الالزمة لتفادي وقوع‬
‫النتائج الضارة والمحظورة المترتبة عن سلوكه]‪.[2‬‬
‫وعليه يظهر بجالء الفرق بين الخطأ الجنائي والقصد الجنائي‪ ،‬كون اإلرادة في األول تسيطر على السلوك‬
‫المادي دون النتيجة‪ ،‬هذه األخيرة التي قد ال يكون يتوقعها أصال‪ ،‬أو توقعها واعتقد أنه بإمكانه تجنبها‪ ،‬بينما في القصد‬
‫تسيطر اإلرادة على ماديات الجريمة وتسعى أيضا لتحقيق النتيجة وترغب فيها‪ ،‬لكن هذا القول ال يعني إطالقا انعدام أية‬
‫عالقة بين النتيجة واإلرادة في الجرائم غير العمدية‪ ،‬بحيث أنه إذا ثبت بأن هذه العالقة منعدمة فال تقوم الجريمة وال‬
‫يسأل المتهم على النتيجة ألنه لم يثبت الخطأ في جانبه متى اتخذ قدر معين من الحيطة والحذر‪ ،‬أي اتخاذ جانب من‬
‫الحيطة والحذر كافي لنفي القصد الجنائي‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫ماهية الـــخطأ الجنائي‬
‫الخطأ الجنائي هو انحراف الشخص إراديا غير مكره عن واجبات الحيطة والحذر التي تقتضيها الحياة‬
‫االجتماعية‪ ،‬لذا فإتيانه سلوك متصف بالتهور يجعله سلوك محظور بالرغم من انتفاء قصد إتيانه‪ ،‬ومن ذلك يتضح أن‬
‫الخطأ الجنائي مفهوم غير مفهوم القصد الجنائي‪ ،‬ويتعين تناول ماهيته وعناصره في الفرعين التاليين‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫مفهوم الخطأ الجنائي‬
‫لم يعرف المشرع الخطأ الجنائي غير العمدي تاركا المهمة للفقه‪ ،‬الذي عرف الخطأ بأنه إخالل بالتزام‬
‫عام يفرضه المشرع على األفراد بالتزام الحيطة والحذر فيما يباشرونه من نشاط‪ ،‬وذلك حرصا على المصالح التي‬
‫يحميها القانون]‪ .[3‬وعرفه البعض بأنه " اتخاذ الفاعل سلوكا منطويا على خطر وخمول إرادته في منع هذا الخطر من‬
‫التحول إلى ضرر" أو " إخالل شخص عند تصرفه بواجبات الحيطة والحذر التي يفرضها القانون‪ ،‬وعدم حيلولته تبعا‬
‫لذلك دون أن يفضي تصرفه إلى إحداث النتيجة الجرمية‪ ،‬سواء أكان لم يتوقعها في حين كان ذلك في استطاعته ومن‬
‫واجبه‪ ،‬أم توقعها ولكن حسب غير محق أن بإمكانه تجنبها"‪ ،‬أو هو ‪ ":‬اتجاه اإلرادة إلى السلوك اإلجرامي دون قبولها‬
‫بتحقق النتيجة اإلجرامية التي يفضي إليها هذا السلوك مع عدم الحيلولة دون وقوعها "‪ ،‬وقد عرفته محكمة النقض‬
‫المصرية‪ ،‬بأنه تصرف الشخص تصرفا ال يتفق والحيطة التي تقضي بها ظروف الحياة العادية‪ ،‬فهو بذلك عيب يشوب‬
‫مسلك اإلنسان ال يأتيه الرجل العادي المتبصر الذي أحاطت به ظروف خارجية مماثلة للظروف التي أحاطت بالشخص‬
‫المسؤول‪.‬‬
‫ويمكن أن نستنتج مما سبق بأن الخطأ الجنائي يقوم على فكرة " إمكانية التوقع" كونها الفكرة‬
‫الضرورية التي بدونها ال يقوم الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية وتخرجنا لمجال الحادث الفجائي‪ ،‬خاصة وأننا‬
‫بها نبقى في دائرة اإلرادة الالزمة للركن المعنوي في صورتيه‪ ،‬القصد والخطأ‪ ،‬واستنادا لذلك يتلخص الخطأ غير‬
‫العمدي في عدم توقع الجاني لما يترتب على سلوكه من نتائج‪ ،‬بالرغم من كون هذه النتائج في ذاتها مما يمكن توقعها‪،‬‬
‫أو مما يجب أن يتوقعها‪ ،‬كما قد يرتكز على توقع الجاني لما يمكن أن يفضي إليه سلوكه‪ ،‬لكن رغم ذلك يمضي فيه‬
‫معتقدا أنها نتائج قد ال تحدث‪ ،‬أو ظنا منه أنه اتخذ ما يلزم من احتياطات للحيلولة دون حدوث هذه النتائج‪ ،‬في حين أن‬
‫مثل هذه االحتياطات لم تكن كافية‪ .‬لذا فبعيدا عن التعاريف‪ ،‬سنحاول تنال جوهر الخطأ وأساس العقاب عليه في النقاط‬
‫التالية‪.‬‬
‫أوال‪ :‬جوهر الخطأ‬
‫جوهر الخطأ يختلف من حيث الزاوية التي ينظر منها إليه‪ ،‬فمن وجهة نظر اجتماعية يتمثل جوهر‬
‫الخطأ في إخالل الجاني بواجبات الحيطة والحذر‪ ،‬مما يترتب عليه إضرارا بالحقوق والمصالح التي يحميها القانون‪،‬‬
‫وهو بذلك إتيان سلوك أو اإلحجام عن إتيان سلوك ينطوي على خطر المساس ببعض الحقوق والمصالح التي تتطلب‬

‫]‪[171‬‬
‫درجة من الحرص واالنتب اه حال التعامل معها أو التواجد في نطاقها المادي‪ ،‬ومن وجهة نظر نفسية يعد جوهر الخطأ‬
‫في الغلط الذي ينشأ من الجهل ببعض الحقائق االجتماعية أو القانونية فيما تمليه على األفراد من واجب االلتزام بالسلوك‬
‫الحريص‪ ،‬فتجربة الحياة تزودنا بمجموعة من الحقائق التي تخاطب الكافة‪ ،‬وقد ال تكون هذه الحقائق مكتوبة ومع ذلك‬
‫فهي بمثابة قواعد اجتماعية ترسم حدود السلوك سواء باتباعه أو الواجب تفاديه‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أساس العقاب على الخطأ‬
‫الخطأ وعلى خالف القصد الجنائي ال يعد سببا عاما لقيام المسؤولية الجنائية‪ ،‬بل يعتبر سببا خاصا‬
‫لقيامه ا في جرائم معينة بذاتها‪ ،‬وإن كانت المسؤولية في القصد الجنائي هي مسؤولية أدبية قوامها اإلثم‬
‫أو الخطيئة‪ ،‬فإن المسؤولية الجنائية في الخطأ هي أشبه ما تكون بمسؤولية اجتماعية قوامها اإلضرار بالحقوق‬
‫والمصالح القانونية باإلهمال أو الرعونة أو ما إلى ذلك من صور الخطأ‪ ،‬وبمعنى آخر ال يعاقب القانون الجاني في‬
‫الخطأ عن إرادته اآلثمة بل عما صدر عنه من نشاط صادر عن إرادة خاملة أو غافلة‪ ،‬وبالتالي المسؤولية الجنائية عن‬
‫الخطأ ال تتقرر إال بناء على نص خاص‪ ،‬إن لم يوجد امتنع العقاب عن السلوك كجريمة عمدية‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫عناصر الخـــطأ‬
‫تتحدد عناصر الخطأ في إرادة السلوك سواء كان فعال أو امتناعا‪ ،‬وهو العنصر المشترك بين كافة‬
‫صور الركن المعنوي‪ ،‬والعنصر الثاني انتفاء إرادة تحقيق النتيجة وهو العنصر الحاسم للتمييز بين القصد الجنائي‬
‫والخطأ غير العمدي ‪ ،‬والعنصر الثالث هو انتفاء العلم بصالحية السلوك إلحداث النتيجة كليا أو أن يتخذ هذا العلم أدنى‬
‫درجاته وهي درجة اإلمكان ‪ ،‬وأهم ما نتناوله عنصر العلم ‪.‬‬
‫أوال‪ :‬عنصر العلم‬
‫العلم في الخطأ غير العمدي يمثل عنصرا هاما كونه العنصر المميز للخطأ عن باقي صور الركن‬
‫المعنوي للجريمة ويميز الخطأ حتى في حد ذاته‪ ،‬حيث أن موقف الجاني من العلم بصالحية النشاط إلحداث النتيجة‬
‫المحظورة قانونا يتحدد في إحدى الصور الثالث التالية‪ :‬إما انتفاء العلم كلية على نحو ال يتوقع فيه الجاني حدوث‬
‫النتيجة وليس في مقدوره توقعها‪ ،‬وهي صورة تقترب أكثر لفكرة القوة القاهرة أو الحادث الفجائي‪ ،‬وبالتالي تخرج من‬
‫نطاق صور الخطأ تماما‪ ،‬كالشخص الذي تنفجر عجلة سيارته فجأة لخطأ في الصنع فيصدم شخصا ويرديه قتيال‪ ،‬أو‬
‫كالشخص الذي يصطاد في الليل في منطقة خالية تماما من السكان فيطلق رصاصة على ما رآه يتمشى معتقدا أنه‬
‫فريسة فإذا به شخص‪ ،‬ففي مثل هذين المثالين انتفى علم الجاني بإمكانية إحداث سلوكه للنتيجة التي وقعت ولم يكن‬
‫أصال بإمكانه توقعها‪ ،‬وأما الصورة الثانية فهي انتفاء علم الجاني بصالحية سلوكه إلحداث النتيجة مع عدم توقعه‬
‫حصولها لكن كان بإمكانه أن يتوقع ذلك‪ ،‬كترك األم سما أمام أطفالها مما يمكن أن يأخذه أحدهم‪ ،‬أما الصورة الثالثة‬
‫فتتمثل في توفر علم الجاني بصالحية سلوكه في إحداث النتيجة في أدنى درجات العلم‪ ،‬وهي درجة اإلمكان‪ ،‬لكنه كان‬
‫يأمل في عدم حصولها معتمدا في ذلك على مهارته وخبرته‪ ،‬ويسمى هنا الخطأ مع التبصر أو الخطأ الواعي‪ ،‬كمن يقود‬
‫سيارته بسرعة كبيرة ليال والشارع يخص بالمارة محاوال اللحاق بميعاد فاته ويترتب على ذلك أن يصدم أحد المارة‬
‫ويودي بحياته‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬عنصر اإلدراك‬
‫و هو عنصر ذهني ضروري في كل الجرائم‪ ،‬سواء كانت عمدية أو غير عمدية‪ ،‬فالخطأ مثلما سبق‬
‫القول هو انحراف عن السلك العادي المألوف‪ ،‬لذا يجب أن يكون المخطأ مدركا لتصرفاته‪ ،‬وإال انتفى عنصر هام من‬
‫عناصر الخطأ‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬عنصر اإلرادة‬
‫السلوك الذي يأتيه الشخص في الجرائم غير العمدية يبقى دائما سلوكا إراديا‪ ،‬ألنه أراد أن يتصرف على‬
‫النحو الذي تصرف به‪ ،‬وكل ما في األمر أنه لم يرد فقط تحقيق النتيجة التي ترتبت عن سلوكه‪ ،‬وهو ما يميز الخطأ عن‬
‫العمد‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬عنصر االنحراف‬

‫]‪[172‬‬
‫يشترط لقيام الخطأ إمكانية نسب الضرر لمسببه‪ ،‬لذلك يشترط أن يثبت أن السلوك المنحرف للشخص‬
‫هو الذي سبب النتيجة الضارة كما يجب أن يثبت بأنه سلوكه يشكل سلوك منحرف‪.‬‬
‫لكن السؤال الذي يطرح‪ ،‬هو ‪ :‬ما المعيار الذي يمكننا من التمييز بين السلوك العادي السلوك‬
‫المنحرف؟‪ .‬بصدد البحث عن هذا المعيار‪ ،‬تأثر الفقه الجنائي بأفكار القانون المدني‪ ،‬وهو ما تجلى في فكرة وحدة‬
‫الخطأين المدني والجنائي]‪ ،[4‬وذلك باستعارتهم معيار الخطأ من القانون المدني‪ ،‬وهو معيار الرجل العادي‪ ،‬حيث لكي‬
‫يقاس سلوك الشخص وبحث ما إن كان منحرفا أم ال‪ ،‬يقاس بسلوك الرجل العادي الذي هو رب األسرة العاقل المعتني‬
‫بشؤون نفسه وشؤون أسرته‪ ،‬والذي ال هو بالرجل الخارق الذكاء وال باألبله‪ ،‬بل هو متوسط الحذر والذكاء والسن‬
‫والثقافة‪ ،‬ف إن وجدنا سلوك الشخص مخالف لسلوك هذا الرجل‪ ،‬قلنا بقيام الخطأ‪ ،‬وإن وجدنا بأن الشخص العادي كان‬
‫سيتصرف مثلما تصرف الشخص انتفى الخطأ‪ ،‬دون أن يهمل في ذلك أيضا مختلف الظروف والمالبسات المحيطة‬
‫بالجريمة وهو أمر خاضع لسلطة قضا الموضوع دون رقابة عليهم من محكمة النقض‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫صور الخــــطأ الجنائي ودرجاته‬
‫للخطأ الجنائي صور حددها المشرع‪ ،‬وأثارت الخالف ما إن كانت على سبيل الحصر أو على سبيل المثال‪،‬‬
‫وفي العادة التشريعات متفقة بخصوصها‪ ،‬كما انه للخطأ درجات وحاالت وضوابط وأثارت العديد من الجدل الفقهي‪،‬‬
‫وهو ما نتناوله باختصار في الفرعين التاليين‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫صور الخطأ الجنائي‬
‫حدد المشرع الجزائري صور الخطأ الجنائي بمناسبة نصه على أخطر الجرائم غير العمدية‪ ،‬وهما جريمتي‬
‫الجروح الخطأ والقتل الخطأ‪ ،‬المنصوص والمعاقب عليهما بموجب المادتين ‪ 288‬و‪ 289‬من تقنين العقوبات‬
‫الجزائري]‪ ،[5‬اللتان أوردتا صور الخطأ على سبيل الحصر ال المثال‪ ،‬لذلك ال يجوز القياس عليها وال تفسيرها بصورة‬
‫موسعة إعماال لبدا الشرعية الجنائية‪ ،‬وهذه الصور هي‪ :‬الرعونة‪ ،‬عدم االحتياط‪ ،‬اإلهمال وعدم االنتباه‪ ،‬عدم مراعاة‬
‫األنظمة والقوانين‪.‬‬
‫أوال‪ :‬الرعــــــونة‬
‫وهي الصورة التي يسميها الفقه أيضا ب‪ ":‬الخطأ الفني"‪ ،‬وهي تعني نوع من الطيش والخفة وسوء‬
‫التقدير في عمل يتعين من القائم به أن يكون على دراية وعلم به‪ ،‬أو هي سوء تقدير للكفاءة والقدرة‪ ،‬وهي في العادة‬
‫تنجم عن عدم مراعاة قواعد الخبرة اإلنسانية الخاصة أو المهنية التي توجبها ممارسة مهنة‬
‫أو حرفة معينة‪ ،‬من ناحية‪ ،‬ومن ناحية ثانية‪ ،‬قد تنجم عن مسلك إيجابي يقوم به الجاني كان يتعين عليه االمتناع عن‬
‫القيام به بالكيفية التي تم بها‪ ،‬أو في الوقت الذي تم فيه‪ ،‬كالطبيب الذي يقوم بإجراء عملية جراحية لمريض دون أن‬
‫يراعي في ذلك أبسط األصول المهنية والقواعد العلمية‪ ،‬فيترتب على ذلك موت المريض‪ ،‬أو دون أن يستعين بطبيب‬
‫تخدير‪ ،‬أو يكتفي بتخدير موضعي بينما توجب األصول العلمية أن يكون تخديرا كليا‪ ،‬وكذا صاحب البناء الذي يتقاعس‬
‫عن صيانة عقاره وترميمه فيتسبب في قتل خطا‪ .‬وعليه‪،‬‬
‫ومثلما تقدم‪ ،‬تقوم حالة الرعونة نتيجة موقف أو سلوك سلبي‪ ،‬في الحاالت التي يحجم فيها الجاني عن اتخاذ عمل كان‬
‫توجبه قواعد الخبرة المهنية باتخاذه‪ ،‬كالممرضة التي يستغرقها مشاهدة إحدى المسلسالت التلفزيونية أو مواصلة الثرثرة‬
‫مع زميالتها فال تقوم إعطاء المريض المتواجد في حالة خطر دواءه في الميعاد المحدد بما يؤدي إلى وفاته‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬عـــدم االحتياط‬
‫وتسمى فقهيا أيضا " عدم االحتراز"‪ ،‬وهي حالة تقوم بمجرد االستخفاف باألمر وعدم اتخاذ االحتياطات‬
‫الالزمة لمنع حدوث الضرر الممكن تصور حدوثه من أمر قابل إلحداث مثل هذا الضرر‪ ،‬وبالتالي عدم االحتياط في‬
‫جوهره عبارة عن اتخاذ موقف إيجابي يتمثل في مباشرة الجاني لسلوك كان يتعين عليه االمتناع عن إتيانه‪ ،‬نظرا لما‬
‫يترتب عليه من أضرار‪ ،‬وأن قواعد الخبرة اإلنسانية العامة تأبى إتيان مثل هذه السلوكات في مثل هذه الظروف‪ ،‬كسائق‬

‫]‪[173‬‬
‫السيارة الذي يقود سيارته بسرعة جنونية ف ي شارع مليء بالمارة فيصدم أحدهم فيقتله‪ ،‬أو كاألب الذي يسلم ابنه الصغير‬
‫عجال فيفلت منه ويصدم أحد األشخاص فيقتله‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬اإلهمال وعدم االنتباه‬
‫ا إلهمال هو سلوك يتمثل في عدم بذل الشخص العناية الالزمة في عمل يتطلب مثل هذه العناية‪ ،‬كمن‬
‫يهمل صيانة سيارته ويصدم شخصا بسبب عدم اشتغال المكابح‪ ،‬وبالتالي اإلهمال هو اتخاذ موقف سلبي من عمل كان‬
‫يتعين اتخاذه وفقا لما تمليه قواعد الخبرة اإلنسانية العامة‪ ،‬مما يجعل من هذا االمتناع يرتب نتائج ضارة‪ ،‬كامتناع‬
‫حارس ممر السكة الحديد عن إغالق ممر الراجلين وقت مرور القطار مما يجعله يصدم أحد المارة‪ ،‬أو األم التي تترك‬
‫رضيعها بجوار موقد غاز مشتعل مما يؤدي إلى سقوطه في إناء ماء مغلي‪ .‬أما عدم االنتباه فهو انحراف يتمثل في عدم‬
‫اكتراث الشخص بضرورة اليقظة الدائمة فيسبب ذلك ضررا للغير‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬عدم مراعاة األنظمة والقوانين‬
‫على خالف صور الخطأ السابقة التي تقوم كلها على مخالفة قواعد الخبرة اإلنسانية العامة‬
‫أو األصول العلمية والمهنية‪ ،‬فإن هذه الصورة تعد أبسط وأسهل صور الخطأ لإلثبات‪ ،‬إذ يكفي مقارنة سلوك الشخص‬
‫مع متطلبات القوانين واألنظمة‪ ،‬فمجرد كون السلوك مخالفا للوائح واألنظمة تقوم الجريمة‪ ،‬مثلما هو األمر في مخالفة‬
‫قوانين المرور أو قواعد البوليس المنظمة لحركة سير المركبات واستخدام اآلالت واألسلحة‪ ،‬ويستوي في هذه القواعد‬
‫أن تكون صادرة عن السلطة التشريعية كما هو الشأن بالنسبة للقوانين بالمعنى الضيق للمصطلح‪ ،‬أو عن السلطة‬
‫التنفيذية مثل لوائح التنفيذ والتنظيم والضبط‪ ،‬أو صادرة عن السلطات اإلدارية في الحدود المسموح لها بإصدار مثل هذه‬
‫اللوائح ‪ ،‬وفي هذه الصورة قد يجد الشخص نفسه أمام جريمتين‪ ،‬جريمة مخالفة األنظمة واللوائح حتى وإن لم يترتب‬
‫ومخالفة األنظمة واللوائح‬ ‫عليها أي ضرر‪ ،‬وجريمة أخرى تتمثل فيما أحدثته هذه المخالفة من أضرار للغير‪.‬‬
‫عبارة عن خطأ مفترض ال تلتزم المحكمة بإقامة الدليل على توفره‪ ،‬على خالف صور الخطأ األخرى‪ ،‬فبمجرد‬
‫مخالفة األنظمة والقوانين ينعت سلوك المخالف بالخاطئ‪ ،‬وافتراضه يرقى لمرتبة حد القرينة القاطعة التي ال تقبل إثبات‬
‫العكس‪.‬‬
‫والمالحظ بأن هذه الصورة الوحيدة من صور الخطأ التي ال يشترط فيها المشرع حصول نتيجة معينة‬
‫بل مجرد مخالفة الالئحة أو النظام يقيم الجريمة‪ ،‬بل أن حصول نتيجة محظورة قانونا تجعل الشخص يسأل عن‬
‫جريمتين‪ .‬مما يجعل من هذه الصورة جريمة شكلية أو جريمة سلوك محض‪ ،‬على خالف باقي الصور األخرى التي‬
‫تعد فيها الجريمة غير العمدية جريمة مادية ذات نتيجة ضارة يشترطها المشرع لقيام الجريمة‪.‬‬

‫الفرع الثاني‬
‫ضابط الخطأ الجنائي وحاالته‬
‫اختلف الفقه بخصوص الضابط الحاكم للخطأ‪ ،‬وكالعادة انحصر الخالف بين المذهبين الموضوعي‬
‫والشخصي‪ ،‬وظهر االتجاه التوفيقي‪ ،‬كما حاول الفقه تحديد حاالت الخطأ‪ ،‬وهو ما نبينه في النقطتين التاليتين‪.‬‬
‫أوال‪ :‬ضابط الخطأ‬
‫بعد أن تتحدد صورة الخطأ على النحو السابق‪ ،‬وجب البحث عن المعيار الذي يقاس به هذا الخطأ‪ ،‬وثار‬
‫تساؤل عما إن كان يرجع في ذلك إلى معيار شخصي يتمثل فيما توقعه الجاني بالفعل‪ ،‬أو كان بإمكانه أن يتوقعه‪ ،‬أو‬
‫فيما كان يجب أن يتخذه من احتياطات‪ ،‬أم يرجع في ذلك إلى معيار موضوعي يتمثل في معيار الرجل العادي المتمثل‬
‫في الشخص متوسط الذكاء والحذر والحيطة بعيدا عن حرص الجاني ذاته؟‪ ،‬وهنا كالعادة ظهر المعيار الموضوعي‬
‫المعتمد على " معيار الرجل العادي"‪ ،‬والذي انتقد على أساس أنه معيار مادي ال يالءم فكرة نفسية متمثلة في الركن‬
‫المعنوي‪ ،‬لذا طرح البعض المعيار الشخصي المتمثل في بحث موقف الجاني نفسه في ظروفه اآلنية والواقعية مع‬
‫مختلف جوانب شخصيته وما يتمتع به من ذكاء وقدرات‪ ،‬وبالتالي إن كان الجاني وال أحد سواه يعلم أو يتوقع بصالحية‬

‫]‪[174‬‬
‫سلوكه إلحداث النتيجة قام الخطأ في جانبه‪ ،‬أما إذا كان الجاني متواضع القدرات ومحدود الخبرة وقليل الذكاء يجهل‬
‫بصالحية سلوكه إلحداث النتيجة أو ال يتوقع ذلك فإن الخطأ ينتفي في جانبه‪ ،‬ويميل الفقه إلى اعتبار المعيار الشخصي‬
‫أكثر مالئمة لتقدير فكرة الخطأ واستخالص عنصر العلم لدى الجاني‪ .‬وغالبية الفقه يرى أنه يجب إعمال معيار مختلط‬
‫يجمع ما بين المعيار الشخصي والمعيار الموضوعي‪ ،‬حيث يؤخذ من المعيار الموضوعي معيار الشخص العادي إذا‬
‫وجد ضن نفس الظروف‪ ،‬حيث إذا وجد الجاني قد التزم بقدر من الحيطة والحذر في تصرفه يوافق ما كان يفعله‬
‫الشخص المعتاد الذي وجد في مثل ظروفه‪ ،‬انتفى خطأه‪ ،‬أما إذا بذل قدرا من الحيطة والحذر أقل من ذلك نسب إليه‬
‫الخطأ‪ .‬نحن نرى أن هذا المعيار ما هو إال تكريس لمعيار موضوعي‪ ،‬ونرى أنه بما أننا بصدد الركن المعنوي فالقاضي‬
‫يأخذ في اعتباره دوما المعيار الشخصي باعتبار الركن المعنوي ينطوي أكثر على جوانب نفسية أكثر منها موضوعية‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬حاالت الخطأ‬
‫للخطأ حسب غالبية الفقه‪ ،‬حالتين أيا كانت الصورة التي اتخذها‪ ،‬وهي إما أن يكون خطئا واعيا وإما أن يكون‬
‫خطئا غير واعي‪ .‬فالخطأ الواعي ‪ ،faute consciente‬ويسمى أيضا الخطأ بتبصر أو الخطأ المصحوب بتوقع‪،‬‬
‫هو الحالة التي يتوقع فيها الجاني حصول النتيجة الضارة لكنه ال يريدها‪ ،‬ويأمل في عدم حدوثها‪ ،‬إما نتيجة الحتياط‬
‫اتخذه يحول دون حدوثها في حين لم يكن كافيا‪ ،‬والحالة التي ال يتخذ فيها أصال أي احتياطات للحيلولة دون حدوثها‪ ،‬مما‬
‫يعني أنه يستوي لديه حدوثها من عدمه‪ .‬والحالة الثانية‪ ،‬هي الخطأ غير الواعي ‪ ،faute inconsciente‬ويطلق‬
‫عليه أيضا الخطأ بغير تبصر أو الخطأ غير المصحوب بتوقع‪ ،‬وهي الحالة التي ال يتوقع فيها الجاني حدوث النتيجة‬
‫الضارة‪ ،‬في حين كان يجب عليه أن يتوقع ذلك أو من واجبه أن يتوقعها‪ ،‬وطالما لم يتوقع الجاني النتيجة‪ ،‬فإنه على‬
‫عكس الحالة السابقة ال يتخذ أي إجراءات تحول دون حدوث النتيجة‪.‬‬
‫الفرع الثالث‬
‫الخطأ المدني والخطأ الجنائي‬
‫نصت المادة ‪ 124‬وتقابلها في القانون المصري المادة ‪ 163‬التي نصت على أنه ‪ ":‬كل خطأ سبب‬
‫ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض" ‪ ،‬وبالتالي المشرع المدني لم يحصر صور للخطأ كما لم يحدد لها درجات‪.‬لذا‬
‫ثار تساءل منذ زمن‪ ،‬ما إن كان المشرع الجنائي بدوره يرتب المسؤولية الجنائية عن الخطأ أيا كانت درجته‪ ،‬أم أنه‬
‫خالفا للمشرع المدني يستلزم أن يرقى الخطأ إلى درجة من الجسامة حتى يمكن أن يرتب المسؤولية الجنائية غير‬
‫العمدية ‪ .‬ولقد ساد ولزمن طويل قديما أن الخطأ يقسم إلى ثالث درجات‪ ،‬الخطأ الجسيم الذي تكون نتيجته الضارة‬
‫متوقعة من قبل الجميع‪ ،‬والخطأ البسيط‪ ،‬الذي يكون ضرره متوقع فقط من قبل الرجل المعتاد‪ ،‬والخطأ اليسير جدا وهو‬
‫الخطأ الذي يكون ضرره غير متوقع وغير ممكن إال بانتباه غير عادي يفوق انتباه ما يحظى به الرجل العادي‪ ،‬وهي‬
‫الدرجات الثالث التي يجب أن ينظر إليها في كل حالة على حده آخذين بعين االعتبار للسن ودرجة الثقافة‪ ،‬وكان‬
‫التساؤل في ظل هذه التفرقة ‪ :‬بأي درجة يقوم الخطأ الجنائي ؟ وما إن كان يقوم كل من الخطأ المدني والخطأ الجنائي‬
‫بدرجة واحدة؟ وهو السؤال الذي تنازع إجابته اتجاهان‪.‬‬
‫اتجاه أول ‪ :‬استقالل الخطأ المدني عن الخطأ الجنائي‪ ،‬ويذهب أنصار هذا االتجاه إلى أن ما يقوم به األول‬
‫ال يجب أن يقوم به الثاني‪ ،‬وإن كان الخطأ الجسيم والبسيط قد يقوم بها كال نوعي الخطأ‪ ،‬فإن الخطأ اليسير جدا ال يمكن‬
‫أن يقوم به سوى الخطأ المدني‪ ،‬وذلك بالنظر لما بين الخطأين من فوارق‪ ،‬أهمها‪:‬اختالف الخطأين من حيث الطبيعة‪،‬‬
‫واختالفهما من حيث الجزاء‪ ،‬واختالفهما من حيث عبء اإلثبات‪ .‬واالتجاه الثاني ‪ :‬وحدة الخطأ الجنائي والخطأ‬
‫المدني‪ ،‬يرى أنصار هذا االتجاه أنه ال فارق بين الخطأين وأن ما يقوم به الخطأ المدني يصح أن يقوم به أيضا الخطأ‬
‫الجنائي‪ ،‬خاصة وأن كالهما يقاس بمعيار واحد هو معيار الرجل العادي‪ ،‬وكل ما هو موجود من فروق ينحصر في أن‬
‫القانون المدني لم يبين صور الخطأ المدني في حين المشرع الجنائي حصر صوره ما ذلك إال نتيجة تقيد المشرع بمبدأ‬
‫الشرعية الجنائية‪ .‬وهو االتجاه الذي تحول إليه القضاء الفرنسي وما سايره أيضا القضاء المصري‪.‬‬
‫المطلب الثالث‬
‫الشروع واالشتراك في الجرائم غير العمدية‬

‫]‪[175‬‬
‫ب اختصار شديد‪ ،‬وبالنظر لبساطة المسألة سوف لن نقسم هذا المطلب إلى فروع‪ ،‬حيث أنه ال شروع وال‬
‫اشتراك في الجرائم غير العمدية‪ ،‬خاصة وأن هذه األخيرة في غالبيتها من المخالفات في حين سبق القول بأن الشروع ال‬
‫يكون إال في الجنايات وفي الجنح بموجب نص خاص وال شروع إطالقا في المخالفات‪ ،‬وهو نفس الوضع تقريبا بالنسبة‬
‫لالشتراك‪....‬كما أنه ال ظروف تشديد وال تخفيف بخصوص الجرائم غير العمدية ما عدا ما قضت به المادة ‪ 290‬من‬
‫تقنين العقوبات الجزائري التي تضاعف العقوبة المقررة في حالة ارتكاب الجريمة في حالة سكر أو ارتكاب الجريمة‬
‫ومن بعدها محاولة الهرب من المسؤولية]‪ ،[6‬وإن كان ذلك قد يقيم أيضا جريمة أخرى هي جريمة التهرب من‬
‫المسؤولية أو عدم تقديم مساعدة لشخص في حالة خطر‪.‬‬

‫الفصل الخامس‬
‫تصنيــــف الجرائم‬

‫س بق لنا القول عند تناولنا لتقسيمات الجريمة وتصنيفها بناء على الركن المعنوي للجريمة‪ ،‬الذي تناولنا‬
‫فيه التقسيم الثالثي أو القانوني‪ ،‬وكذا تمييز الجريمة إلى عادية وسياسية وعسكرية‪ ،‬أننا سنرجئ الحديث عن باقي‬
‫التصنيفات والتقسيمات األخرى المعتمدة على الركنين المادي والمعنوي‪ ،‬إال ما بعد استيعاب كنه ومضمون وأبعاد هذين‬
‫الركنين‪ ،‬لذا سنحاول أن نتناول من خالل مبحثين التصنيفات المعتمدة على الركن المادي‪ ،‬واألخرى المعتمدة على‬
‫الركن المعنوي‪ .‬على أننا سنختصر قدر اإلمكان بخصوص بعض التصنيفات التي سبق تناولها في مواضع أخرى من‬
‫هذه الدراسة‪ ،‬وكذا بخصوص الجوانب اإلجرائية المتعلقة بفائدة التفرقة‪ ،‬كونها مسائل يصعب استيعابها قبل دراسة‬
‫قانون اإلجراءات الجزائية‪.‬‬

‫]‪[176‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫تقسيم الجرائم بحسب طبيعة وتكوين الركن المادي‬

‫ب النظر للركن المادي للجريمة‪ ،‬يمكن تقسيم الجرائم عدة تقسيمات‪ ،‬منها ما يأخذ بعين االعتبار عنصر‬
‫الزمن الذي يستغرقه إتمام الركن المادي للجريمة‪ ،‬حيث تقسم الجرائم بالنظر إلى ذلك إلى جرائم وقتية وجرائم مستمرة‪،‬‬
‫كما تقسم بحسب النظر إلى السلوك إلى جرائم إيجابية وجرائم سلبية‪ ،‬أو بالنظر لتعدده إلى جرائم اعتياد وجرائم بسيطة‬
‫أو بالنظر إلى النتيجة إلى جرائم ذات النتائج وجرائم شكلية‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫تقسيم الجرائم إلى وقتية ومستمرة‬
‫وأساس هذا التقسيم‪ ،‬هو الزمن الذي يستغرقه تحقق أركان الجريمة‪ ،‬الركن المادي والركن المعنوي‬
‫معا‪ ،‬واستنادا لذلك تكون الجريمة وقتية إن لم يستغرق ارتكابها سوى برهة زمنية قصيرة‪ ،‬أما إذا امتد ذلك فتعد‬
‫الجريمة مستمرة‪ .‬والعبرة بالزمن الذي استغرقه الركن ال لألثر الذي ترتب عليها‪ ،‬فالقتل نتيجته إزهاق الروح إلى األبد‬
‫وبالتالي هو جريمة مستمرة اآلثار‪ ،‬وليس هذا هو المقصود‪ ،‬وإنما وقتية السلوك التي أزهقت الروح‪ ،‬أما الجريمة‬
‫المستمرة فركنها المادي مصحوبا بالركن المعنوي‪ ،‬يستغرق زمنا طويل نسبيا‪ ،‬سواء كان االستمرار للسلوك دون‬
‫النتيجة أو لهذه األخيرة دون السلوك‪ ،‬فاالستمرار قد ينظر له من خالل الفعل كما قد ينظر له من خالل النتيجة الجرمية‬

‫]‪[177‬‬
‫التي تحققت‪ ،‬بشرط أن تظل إرادة الجاني حاضرة طيلة الوقت الذي استغرقه الركن المادي‪ ،‬وبمعنى آخر مواكبة الركن‬
‫المعنوي للركن المادي‪ ،‬وإال خرجت الجريمة من المعنى الفني للجريمة المستمرة‪ ،‬لذا يميز الفقه بين نوعين من‬
‫االستمرار‪.‬االستمرار المتجدد‪ ،‬وهو االستمرار الذي يستلزم تدخل إرادة الجاني بصفة متجددة وهي حالة مواكبة الركن‬
‫المعنوي لحالة االستمرار وتسمى الجريمة عندئذ ب‪ ،délit continu successif :‬واالستمرار الثابت أو‬
‫المضطرد‪ ،‬وهو االستمرار الذي إذا انطلق بقي بذاته دون حاجة إلى تدخل جديد من قبل إرادة الجاني‪ ،‬وبمعنى آخر‬
‫دون حاجة لمواكبة الركن المعنوي لحالة االستمرار وتسمى الجريمة عندئذ ب ‪ délit continu permanent :‬وهو‬
‫ما يسميه الفقه بأنه الجريمة الوقتية في حد ذاتها في الحالة التي تخلف فيها أثار‪ ،‬وهو رجوع من جديد للتقسيم التقليدي‬
‫بين الجريمة الوقتية والجريمة المستمرة‪ ،‬على أن يفهم بأن االستمرار هو ما يلزم تدخل إرادة الجاني طوال فترة‬
‫االستمرار وأن يفهم من الجرائم الوقتية ما يحدث من آثار فورية حتى ولو كانت ممتدة في الزمن‪.‬وهو ما يحتم علينا‬
‫لمزيد من التوضيح تبيان المعيار المعتمد للتقسيم بين الجرائم الوقتية والجرائم المستمرة‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫معيار التمييز بين الجرائم الوقتية والجرائم المستمرة‬
‫نجد الفقه يتنازعه معياران‪ ،‬األول هو معيار طبيعة االعتداء في حد ذاته‪ ،‬والثاني هو معيار‬
‫االمتداد الفعلي للزمن الذي تستغرقه الجريمة ‪.‬‬
‫أوال‪ :‬معيار طبيعة االعتداء‬
‫و هو المعيار الذي يذهب أنصاره للتفرقة بين الجرائم الوقتية والجرائم المستمرة إلى اعتماد طبيعة‬
‫االعتداء ذاته‪ ،‬وهل هو قابل في حد ذاته لالستمرار من عدمه‪ ،‬فإذا كان االعتداء في طبيعته قابال لالستمرار كانت‬
‫الجريمة مست مرة‪ ،‬مثل جريمة إخفاء األشياء المسروقة حتى ولو استمر اإلخفاء للحظة فقط كون اإلخفاء بطبيعته قابال‬
‫لالستمرار‪ ،‬وإن كان غير قابل لذلك كانت الجريمة وقتية‬
‫ثانيا‪ :‬معيار االمتداد الفعلي للزمن الذي تستغرقه الجريمة‬
‫وهو المعيار الذي يرى أنصاره‪ ،‬إلى أن العبرة في التفرقة بين المؤقت واالستمرار هو االمتداد الفعلي‬
‫للزمن الذي يستغرقه تحقق عناصر الجريمة‪ ،‬فالركن المادي قد يتخذ وضع االستمرار في الجريمة الواحدة مرة وقد‬
‫يتخذ وضع التأقيت في وضع آخر في ذات الجريمة‪ ،‬وكل ذلك بحسب ارتكاب الجاني للواقعة‪ ،‬وبالتالي الجريمة التي قد‬
‫يتمثل بها أنها وقتية يمكن أن تقع مستمرة والعكس صحيح‪ ،‬والعبرة في كل ذلك بالزمن الفعلي الذي استغرقه ارتكاب‬
‫الجريمة بركنيها المادي والمعنوي‪ ،‬لذا يرى أنصار هذا االتجاه أن تقسيم الجرائم إلى وقتية ومستمرة له طابعا نسبيا‪،‬‬
‫فالسرقة في أغلب صورها جرائم وقتية‪ ،‬ومن المتصور أن تكون مستمرة مثل حالة سرقة التيار الكهربائي‪ ،‬وجريمة‬
‫القتل في أغلب صورها جريمة وقتية لكن قد تكون جريمة مستمرة في حالة القتل بالتسميم عن طريق إعطاء جرعات‬
‫من السم على فترات ممتدة عبر الزمن خاصة إن كانت الجرعة الواحدة غير كافية إلحداث الوفاة‪ ،‬لكن مجموع هذه‬
‫الجرعات هو الذي أحدث الوفاة‪ ،‬وجريمة استعمال المزور في أغلب صورها جرائم مستمرة لكن قد تقع وقتية مثل‬
‫الحالة التي يبرز فيها الجاني بطاقة مزورة ويخبئها مباشرة‪ .‬وبالتالي خالصة هذا الرأي أن تقسيم الجرائم إلى وقتية‬
‫ومستمرة ليس تقسيما مطلقا بل نسبيا‪ ،‬حيث ليس هناك جرائم وقتية بطبيعتها أو جرائم مستمرة بطبيعتها ولكن هناك‬
‫جرائم يغلب فيها أن تكون وقتية وأخرى يغلب فيها أن تكون مستمرة‪ .‬غير أن اإلشكال المطروح هو انعدام معيار‬
‫تشريعي من خالله يمكن تحديد ما إن كان الزمن مستمرا أو مؤقتا‪ ،‬وهو ما جعل أنصار هذا االتجاه يتركون المسألة‬
‫للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع يستنتجه من النص المقرر للجريمة ذاته‪.‬‬
‫والجرائم المستمرة ال تنحصر في الجرائم اإليجابية فقط‪ ،‬بل يمكن أن تشمل أيضا الجرائم السلبية مثل‬
‫عدم تسليم طفل لمن له الحق في حضانته‪ ،‬وقد يظهر أحيانا أن الجريمة الوقتية قد تستغرق وقتا زمنيا كجريمة السرقة‬
‫والتزوير‪ ،‬لكن رغم ذلك تبقى مثل هذه الجرائم جرائم وقتية‪ ،‬واالستمرار نسبي قد يستغرق دقائق أو ساعات أو أيام أو‬
‫أكثر كما أن االستمرار قد يلحق السلوك كما قد يلحق النتيجة مثل جريمة إخفاء أشياء مسروقة‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫أهمية تقسيم الجرائم إلى جرائم وقتية وجرائم مستمرة‬

‫]‪[178‬‬
‫لتقسيم الجرائم إلى جرائم مستمرة وجرائم مؤقتة أهمية تتبين من نتائج التفرقة ذاتها‪ ،‬منها نتائج ترتبط‬
‫بالقواعد الجنائية الموضوعية‪ ،‬ومنها ما يتعلق بالقواعد الجنائية اإلجرائية‪.‬‬
‫أوال‪ :‬النتائج المرتبطة بالقواعد الجنائية الموضوعية‬
‫من أهم النتائج المرتبطة بتقسيم الجرائم إلى جرائم وقتية وجرائم مستمرة‪ ،‬من الناحية الموضوعية‪،‬‬
‫مسألة سريان النص الجنائي من حيث الزمان والمكان‪ .‬ففي الجرائم المستمرة يسري القانون الجنائي األشد لو عمل به‬
‫قبل انقطاع حالة االستمرار حتى ولو كانت قد بدأت في ظل القانون القديم األصلح‪ ،‬حيث تعد الجريمة قد وقعت في ظل‬
‫القانون الجديد حتى ولو كان قد بدأت في ظل القانون القديم‪ ،‬وهو األمر الذي ال يعمل به بخصوص الجرائم المؤقتة‪ ،‬أما‬
‫من حيث سريان النص الجنائي من حيث المكان‪ ،‬يتحدد مكان وقوع الجريمة المستمرة بكل مكان قامت فيه حالة‬
‫االستمرار‪ ،‬فأي جزء قام في إقليم الدولة يعد نشاطا إجراميا كامال وليس جزءا من جريمة وقع بعضها على إقليم الدولة‬
‫وبعضها في الخارج‪ ،‬ويضيف البعض أهمية تكمن في وقت تقدير قيام الركن المعنوي‪ ،‬حيث أنه في الجرائم الوقتية‬
‫يجب أن يتعاصر كل من الركن المادي والركن المعنوي‪ ،‬وإن تراخى األخير فال قيام للبنيان القانوني للجريمة المؤقتة‪،‬‬
‫لكن في الجريمة المستمرة يمكن أن يتراخى أحدهما عن اآلخر لذا يقدر الركن المعنوي على عنصر العلم بعد بدء‬
‫السلوك كحيازة الشخص بداية لشيء مسروق عند الحيازة كان حسن النية ثم يعلم بالحقيقة ويستمر في ذلك‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬النتائج المرتبطة بالقواعد الجنائية اإلجرائية‬
‫أ هم النتائج المترتبة على تقسيم الجرائم إلى جرائم وقتية وأخرى مستمرة من ناحية القواعد الجنائية‬
‫اإلجرائية‪ ،‬ما يتعلق بقواعد االختصاص والتقادم‪ ،‬وقوة الشيء المقضي به‪ .‬فبخصوص االختصاص في الجرائم‬
‫المستمرة‪ ،‬تكون مختصة كل المحاكم التي قامت في دائرة اختصاصها حالة االستمرار‬
‫أو بدأت أو انقطعت‪ ،‬على عكس الجرائم الوقتية حيث يتحدد بمكان وقوع الجريمة‪ ،‬وبخصوص التقادم المسقط‬
‫للدعوى‪ ،‬في الجرائم الوقتية يبدأ سريان التقادم بخصوصها من لحظة وقوعها‪ ،‬بينما في الجرائم المستمرة يبدأ التقادم‬
‫من اليوم التالي النتهاء حالة االستمرار فيها وليس من اليوم الذي بدأت فيه حالة االستمرار‪ .‬وبخصوص قوة الشيء‬
‫المحكوم به‪ ،‬في الجرائم المستمرة تنصرف قوة الشيء المقضي به إلى كل حالة االستمرار السابقة على صدور الحكم‪،‬‬
‫وما يحص ل بعد ذلك من قبل إرادة الجاني لإلبقاء على حالة االستمرار يشكل جرائم جديدة تجوز محاكمته عنها دون أن‬
‫يمس ذلك بمبدأ عدم جواز محاكمة الشخص عن الفعل مرتين‪ ،‬على عكس الجريمة الوقتية التي ينصرف فيها الحكم إلى‬
‫الجريمة المقامة عنها الدعوى كلها‪ .‬وبخصوص العفو فإن العفو الصادر عن الجريمة الوقتية‪ ،‬يمحو الجريمة ويمنع‬
‫بالتالي رفع الدعوى العمومية عنها ثانية‪ ،‬في حين العفو الصادر في الجريمة المستمرة فإنه ال يحول دون رفع الدعوى‬
‫العمومية عنها متى تجددت حالة االستمرار‪ ،‬هذا ونشير بأن الفقه يضيف إلى النوعين السابقين‪ ،‬الجريمة الوقتية‬
‫والجريمة المستمرة‪ ،‬نوعا وسطا وهو الجريمة الوقتية المتتابعة‪.‬‬
‫الفرع الثالث‬
‫الجرائم الوقتية المتتابعة‬
‫و هو نوع من الجرائم التي يطلق عليها أيضا مصطلح الجريمة ذات األفعال المتالحقة أو المتكررة‪،‬‬
‫وهي الجريمة التي ترتكب من أجل غرض إجرامي واحد من قبل مرتكبها غير أنها تقوم بأفعال متعددة ومتماثلة يجمع‬
‫بينها وحدة الحق المعتدى عليه‪ ،‬وتستهدف إحداث نتيجة إجرامية واحدة‪ ،‬وبالتالي هي نوع من الجرائم الوقتية تصبح‬
‫متتابعة ويشترط لكي تكون كذلك الشروط التالية‪.‬‬
‫أوال‪ :‬تماثل األفعال وتتابعها‬
‫في األصل كل األفعال التي تتشكل منها الجريمة تعد جريمة مستقلة في حد ذاتها‪ ،‬حيث لو اكتفى الجاني‬
‫بواحد منها عوقب عليه كجريمة‪ ،‬كضرب الجاني للمجني عليه عدة ضربات أو تزييف عدد من األوراق النقدية‪ ،‬وهي‬
‫جريمة بالرغم من أنها تظهر على أنها تعدد الجرائم إال أنه في هذا النوع من الجرائم تعد جريمة واحدة ال توقع عليه من‬
‫أجلها سوى عقوبة واحدة‪ ،‬كون تعدد وتماثل األفعال في هذه الحالة ال يعد تعددا للركن المادي للجريمة‪ ،‬وذلك لوجود‬
‫نوع من التقارب بين تكرار األفعال دون اشتراط أن تقع في وقت واحد وال في مكان واحد‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬وحدة الحق المعتدى عليه‬

‫]‪[179‬‬
‫الشرط الثاني في هذا النوع من الجرائم‪ ،‬هو أن تقع األفعال المتتابعة أو المتماثلة الحاصلة في توقيت‬
‫متقارب على حق واحد محمي قانونا‪ ،‬كجريمة الضرب بعدة ضربات تمس حق واحد هو حق المجني عليه في سالمة‬
‫جسده‪ ،‬وفي جريمة تزوير النقود هو حق الدولة في الثقة في عملتها وسالمة اقتصادها‪ .‬غير أن القفه لم يتفق حول‬
‫اشتراط أن يكون شخص المجني عليه شخصا واحدا‪ ،‬فجانب من الفقه يرى أنه إذا تعدد المجني عليهم أصبحنا بصدد‬
‫تعدد للجرائم‪ ،‬سيما في جرائم األشخاص‪ ،‬بينما ذهب اتجاه ثاني من الفقه أن ال يقضي أن يكون الشخص المجني عليه‬
‫شخصا واحدا‪ ،‬فالوحدة مشترطة في الحق المعتدى عليه ال في األشخاص‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬وحدة المشروع اإلجرامي‬
‫يستتبع الشرطين السابقين‪ ،‬أن يكون ما يجمع األفعال السابقة المتتابعة والمتتالية مشكلة لمشروع وغرض‬
‫إجرامي واحد لدى الجاني‪ ،‬أي خطة إجرامية واحدة تعددت عناصرها ووسائل تنفيذها‪.‬‬
‫وبالرغم من أن هذه الجريمة من الجرائم الوقتية مثلما تدل عليه تسميتها‪ ،‬إال أنه تخضع في أحكامها‬
‫ألحكام تشبه تلك التي تخضع لها الجرائم المستمرة‪ ،‬سيما ما تعلق بما يلزم من زمن طويل نسبيا يستغرقه ارتكاب الركن‬
‫المادي لهذا النوع من الجرائم‪ ،‬ونؤيد هذا الرأي سيما بخصوص النقاط التي تناولناها سابقا بخصوص أهمية التقسيم ما‬
‫بين الجرائم المستمرة والجرائم الوقتية بخصوص القانون األشد وسريان القانون من حيث الزمان والمكان أو من حيث‬
‫القواعد الجنائية اإلجرائية من حيث التقادم وحجية الحكم ‪...‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫الجرائم اإليجابية والجرائم السلبية‬
‫وهو التقسيم الذي يستند إلى طبيعة السلوك اإلجرامي‪ ،‬وما إن كان يتخذ صورة إيجابية أو صورة‬
‫سلبية‪ ،‬وبيان ذلك يتضح من خالل القواعد الجنائية التي يسنها المشرع كونها قواعد قد تتضمن أوامر لألفراد كما قد‬
‫تتضمن نواهي‪ ،‬ففي حال مخالفة األوامر يكون الشخص مرتكبا لجريمة سلبية وفي حال ما كنت تتضمن المخالفة لنهي‬
‫عدت الجريمة جريمة إيجابية‪ .‬فانتهاك النهي يكون بإتيان الجاني لحركة إرادية مادية يسعى من خاللها لتحقيق النتيجة‬
‫المجرمة قانونا‪ ،‬وهو النوع الغالب واألهم من بين أنواع الجرائم‪.‬أما انتهاك األوامر‪ ،‬فيتمثل في امتناع الجاني عن القيام‬
‫بعمل يأمر به القانون ويعد ذلك اتخاذ لموقف سلبي من قبله اتجاه القاعدة الجنائية التي تأمره بالفعل‪ .‬وهناك طائفة ثالثة‬
‫من الجرائم تتوسط الطائفتين السابقتين‪ ،‬وهي الجرائم التي يكون فيها السلوك متكونا من فعل إيجابي وامتناع في ذات‬
‫الوقت‪ ،‬ويرى الفقه أنه نوع إذا نظر إليه بتمعن لوجد أنه يميل للجرائم اإليجابية أكثر‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫وقوع الجريمة اإليجابية عن طريق االمتناع‬
‫ش غلت مسألة ما إن كان يمكن تصور قيام الجريمة اإليجابية عن طريق االمتناع الفقه‪ ،‬وأثارت بذلك‬
‫جدال فقهيا منذ زمن بعي د‪ ،‬وأغلب مجال كان مدارا لمثل هذا الجدل‪ ،‬هو الجريمة القتل والتساؤل عما عن كان يمكن أن‬
‫يتم عن طريق االمتناع أم ال‪ ،‬كامتناع األم عن إرضاع ابنها فيموت‪ ،‬أو امتناع مراقب الشاطئ عن إنقاذ الغريق فيموت‪،‬‬
‫أو امتناع الممرضة عن إعطاء المريض الدواء فتسوء حالته ويموت‪ ،‬وإن كان يمكن أيضا أن يثار اإلشكال بالنسبة‬
‫لجرائم أخرى غير القتل‪ ،‬وعموما تنحصر المسألة في إطار الجرائم ذات النتائج وأن تكون من الجرائم العمدية أيضا‪،‬‬
‫ويضاف لكل ذلك أال يكون الجاني قد قام بعمل حتى ال نكون بصدد جريمة إيجابية‪ ،‬وتمثلت االتجاهات الفقهية في حل‬
‫مسألة الجرائم اإليجابية عن طريق الترك أو االمتناع يمكن أن نميز بين االتجاهات الفقهية الثالث التالي تناولها‪.‬‬
‫أوال‪:‬عدم إمكان العقاب على النتيجة اإليجابية إن كانت نتيجة امتناع‬
‫وهو اتجاه يرى أنصاره أن من امتنع عن فعل ال يمكن القول أنه ارتكبه‪ ،‬أو قصده‪ ،‬وذلك أن االمتناع‬
‫عبارة عن عدم والعدم ال يمكن أن يفضي إال إلى عدم مثله‪ ،‬ونجد هذا االتجاه سائدا في الفقه الفرنسي والقضاء الفرنسي‪،‬‬
‫حيث يرون أن الحاالت التي يمكن أن تتم فيها نتيجة إيجابية عن طريق االمتناع يجب أن يحددها المشرع بموجب نص‬
‫خاص نظرا لخصوصيتها وأشهر قضية في القضاء الفرنسي تدلل على ذلك هو القضية الشهيرة بتسمية حبيسة بواتييه‬
‫‪ LA SEQUESTSTREE DE POITIERS‬حيث رفض قضاة بواتييه إدانة المدعو مونييه بتهمة إستعمال العنف والتعدي‬
‫لما جعل أخته المريضة مرضا عقليا تحيا لعدة سنوات في غرفة ال يدخلها هواء نقي وال ينفذ إليها ضوء إلى غاية أن‬

‫]‪[180‬‬
‫تدهورت حالتها الصحية‪ ،‬وبررت المحكمة قضائها بأنه ال يمكن للعنف والتعدي أن يقوم دون وقوع هذا العنف أو‬
‫التعدي‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬إمكان وقوع الجريمة اإليجابية عن طريق الترك‬
‫و هو اتجاه يرى أنصاره أن السلب مظهر للتعبير عن اإلرادة مثل اإليجاب تماما‪ ،‬وأن موطن الصعوبة‬
‫فقط حسب أنصار هذا االتجاه يكمن في استخالص رابطة السببية بين امتناع الجاني والنتيجة المجرمة التي تحققت‪،‬‬
‫حيث في مثل هذه الحاالت يصعب القطع بتوفر العالقة السببية‪ ،‬لذا نجدهم يشترطون للجزم بقيام مثل هذه الرابطة أن‬
‫يكون الجاني ملتزما التزاما قانونيا أو تعاقديا بالعمل على منع وقوع هذه النتيجة‪ ،‬ويلزم أن يتدخل المشرع لتقرير ذلك‬
‫بموجب نص صريح في القانون‪ ،‬وهو ما له مثيل في القانون اإليطالي لسنة ‪ 1930‬في المادة ‪ 2/40‬التي قضت أنه ‪" :‬‬
‫عدم منع التي يلتزم الشخص قانونا بمنعها يعادل إحداثها " والقانون األلماني لسنة ‪ 1975‬في المادة ‪ 13‬التي قضت أنه‬
‫‪ ":‬من يحجم عن تفادي نتيجة‪ ،‬تشكل عنصرا في جريمة‪ ،‬ال يعاقب بمقتضى أحكام هذا القانون إال إذا كان ملزما قانونا‬
‫بمنع تحقق هذه النتيجة‪ ،‬وكان االمتناع يعادل اإليجاب في تحقيق هذا العنصر"‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬و هو اتجاه يتفق مع الرأي السابق في إمكان تحقق النتيجة اإليجابية عن طريق الترك‪ ،‬غير أنه ال‬
‫يضيف شرط وجوب أن يكون الجاني ملزما قانونا أو تعاقديا بمنع حدوث النتيجة المجرمة‪ ،‬فالقانون حسبهم يعاقب على‬
‫النتائج المجرمة دون أن يعبأ بوسيلة تحققها‪ ،‬وعليه تستوي كل الوسائل من حيث صالحيتها إلحداث النتيجة‪ ،‬وبالتالي ال‬
‫يشترط سلوك معين إلحداث مثل هذه النتيجة‬

‫الفرع الثاني‬
‫أهمية تقسيم الجرائم إلى جرائم إيجابية وجرائم سلبية‬
‫و هو تقسيم أكثر ما يفيد في نظرية المحاولة أو الشروع‪ ،‬حيث يرى غالبية الفقه أن نظرية الشروع‬
‫مقصورة على الجرائم اإليجابية دون الجرائم السلبية التي إما أن تقع كاملة وإما أال تقع‪ .‬وتتجلى حكمة التجريم في‬
‫الجرائم البسيطة في خطورة الفعل في ذاته وما قد ينجم عنه من ضرر على الحق المحمي قانونان‪ ،‬أما حكمة تجريم‬
‫الجرائم االعتياد فتتجلى في حالة االعتياد التي يتواجد عليها الجاني التي تصبح مصدر الخطورة الحقيقية التي ألجلها‬
‫يعاقب على الفعل وليس الفعل في ذاته‪.‬‬
‫المطلب الثالث‬
‫الجرائم البسيطة وجرائم االعتياد‬
‫ه ناك جرائم ال تكمن خطورتها في ارتكاب الفعل مرة واحدة‪ ،‬وهو حال الجريمة البسيطة‪ ،‬بينما تكمن‬
‫خطورتها في تكرار الفعل أكثر من مرة‪ ،‬وحينها ال يكون محل التجريم هو السلوك في حد ذاته‪ ،‬بل االعتياد عليه‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫معيار التفرقة بين الجرائم البسيطة وجرائم االعتياد وأهمية ذلك‬
‫جرائم االعتياد‪ ،‬هي جرائم ال تكتمل قانونا إال بارتكاب الفعل المكون للجريمة أكثر من مرة دون أن‬
‫يحدد المشرع عدد هذه المرات وأن الفقه السائد أن تقع مرتين وأكثر‪ ،‬في حين هناك رأي آخر يخول السلطة التقديرية‬
‫للقاضي في تقدير عدد مرات الفعل الذي تكتمل به الجريمة المستمرة قانونا على ضوء ما يستخلصه من توافر حالة‬
‫االعتياد لدى الجاني‪.‬‬
‫أوال‪ :‬عناصر االعتياد‬
‫االعتياد يكون بتكرار الفعل في إطار زمني معين‪ .‬فبخصوص تكرار الفعل‪ ،‬القانون لم يحدد عدد‬
‫المرات التي يوجب أن يتكرر فيها الفعل‪ ،‬لذا ثار خالف فقهي حول تحديد عدد المرات‪ ،‬بين اتجاه يرى وجوب تحديده‬
‫في عدد معين‪ ،‬وهو اتجاه اكتفى بتكرار الفعل مرتين‪ ،‬والبعض اآلخر في إطار نفس االتجاه أن يتكرر الفعل أكثر من‬

‫]‪[181‬‬
‫ثالث مرات‪ .‬ي حين ذهب اتجاه ثاني إلى عدم تحديد األفعال بعدد معين‪ ،‬ووجوب ترك المسألة للسلطة التقديرية‬
‫لقاضي الموضوع‪ ،‬وحجتهم في ذلك أن العدد ليس مطلوبا في حد ذاته‪ ،‬وإنما هو مجرد قرينة على توافر حالة االعتياد‪،‬‬
‫وقد ذهبت محكمة النقض المصرية إلى تبني االتجاه األول وقررت أن يكون تكراره مرتين على األقل‪ .‬وهناك عنصر‬
‫اإلطار الزمني ‪ ،‬لتوفر حالة االعتياد هو أن يتكرر الفعل دون أن يكون الفعل األول قد سقط بالتقادم‪ ،‬وهو رأي نتبناه‬
‫كثيرا فما دام التقادم المسقط في اعتبار المشرع يعد قرينة على نسيان الجريمة‪ ،‬فمن باب أولى يجب أن يكون كافيا‬
‫لنسيان سلوك غير مجرم لوحده ما لم يتكرر‪ ،‬خاصة وأنه سبق القول أن تجريم هذا النوع من الجرائم يجد أساسه في‬
‫نظر المشرع من خطورة فعل التكرار ال من خطورة السلوك ذاته‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أهمية تقسيم الجرائم إلى جرام بسيطة وجرائم اعتياد‬
‫ت كمن أهمية تقسيم الجرائم إلى جرائم بسيطة وجرائم اعتياد‪ ،‬في كون هذه األخيرة تخضع في أحكامها‬
‫إلى أحكام قريبة من تلك التي تخضع لها الجرائم المستمرة‪ ،‬كون كالهما يستغرق زمنا طويل نسبيا وما يترتب عن ذلك‬
‫من تطبيق القانون من حيث الزمان‪ ،‬إذ يسري القانون الجديد حتى ولو كان أكثر شدة على فعل التكرار إن كان قد وقع‬
‫في ظله‪ ،‬وفي التقادم يسري القانون من أول يوم يلي اكتمال فعل التكرار‪ .‬غير أن أهم فرق‪ ،‬هو أن المضرور ال يحق‬
‫له المطالبة بالتعويض كون ما هو مجرم‪ ،‬هو فعل التكرار والعادة ال ما لحق المجني عليه من أضرار‪.‬‬
‫لكن تبقى هناك صعوبة استخالص البناء القانوني لجريمة االعتياد‪ ،‬حيث يرى بعض الفقه أنه‬
‫هناك صعوبات ثالث تعترض استخالص البناء القانوني لهذه الجريمة ‪ :‬أولى الصعوبات‪ ،‬هي ما إن كانت جريمة‬
‫االعتياد تقوم بتكرار الفعل مرتين أو أكثر دون عبرة بالزمن الزمن الذي يستغرقه هاذان الفعالن أمي نبغي اشتراط مثل‬
‫هذا الزمن‪ ،‬والفقه السائد يرى وجوب أال يمر وقت زمني بين الفعلين يؤدي إلى تقادم هذه الجريمة‪ ،‬وانتقد هذا الرأي‬
‫على أساس أن الفعل الواحد في جريمة االعتياد هو عنصر فيها ال تكتمل به الجريمة قانونا وأنه ال مجال للكالم عن‬
‫التقادم ما لم يكتمل البناء القانوني للجريمة‪ ،‬لذا يجب ترك المسألة للسلطة التقديرية للقاضي‪ .‬وتتمثل الصعوبة الثانية في‬
‫تحديد " ذاتية " الفعل المكون لحالة االعتياد حينما تقترن به بعض الظروف‪ ،‬مثل جريمة اإلقراض بالربا في الحالة التي‬
‫يقرض فيها الشخص عدة قروض آلخر في وقت واحد‪ ،‬وهنا واضح أال تقوم جريمة االعتياد لكن في الحالة التي يقرض‬
‫فيها الشخص بموجب عقد واحد عدة قروض ألشخاص متعددين‪ ،‬فهنا يرى البعض أن الفعل يعد واحد وال تقوم به‬
‫جريمة االعتياد‪ ،‬غير أن البعض يرى أنها عدة قروض وبالتالي ال مناص من قيام جريمة االعتياد‪.‬‬
‫وهنا تجدر اإلشارة إلى أنه هناك تبعا للتقسيم السابق نوع آخر من الجرائم نتناوله في النقطة الموالية‬
‫الفرع الثالث‬
‫جرائم االعتياد‪ ،‬الجرائم المستمرة والجرائم متتابعة األفعال‬
‫التفرقة والنتائج‬
‫أوال‪ :‬التفرقة‬
‫بين األنواع الثالثة السابقة نقاط التقاء‪ ،‬ونقاط تفترق من خاللها عن بعضها البعض‪ ،‬فهي كلها يتطلب تحققها‬
‫وقتا من الزمن مما يبرر خضوعها لنوع متشابهة من األحكام القانونية‪ ،‬غير أن ذلك ال يمنع من وجود فروقات هامة‬
‫بينها نوجزها في النقاط التالية‪:‬تفترض جرائم االعتياد والجرائم المتتابعة األفعال أفعاال متعددة ومتماثلة‪ ،‬في حين‬
‫الجريمة المستمرة كل ما تتطلبه فعل واحد يستغرق مدة من الزمن‪ ،‬جرائم االعتياد كل فعل منها ال يشكل لوحده جريمة‬
‫مستقلة‪ ،‬على عكس جرائم األفعال المتتابعة التي يمكن أن يسأل فيها الجاني عن كل فعل باعتباره يشكل جريمة مستقلة‬
‫بذاتها‪ .‬الجريمة المركبة هي الجرائم التي يكون بنيانها القانوني قائما على عدة أفعال جرمية مختلفة تدخل كعنصر من‬
‫عناصرها أو كظرف مشدد لها كدخول حرمة مسكن للسرقة‪ ،‬هما فعلين مجرمين ومستقلين‪ ،‬غير أنها تعتبر جريمة‬
‫واحدة كون المشرع جمعهما في نموذج قانوني واحد‪ ،‬أما الجريمة المتتابعة األفعال أو المتعاقبة‪ ،‬فهي الجريمة التي‬
‫تتكون من عدة أفعال متتابعة تعتبر كلها جريمة واحد بالنظر لورود كل االعتداءات على ذات المصلحة المحمية تنفيذا‬
‫لمشروع إجرامي واحد‪ ،‬كضرب الشخص عدة ضربات متتابعة أو اختالس أموال الدولة على دفعات والزنا المتتابع مع‬
‫شريك واحد وحيازة عدة قطع من المخدرات وسرقة التيار الكهربائي عدة أيام والبناء المتوالي بدون ترخيص‬
‫ثانيا‪ :‬النتائج المترتبة عن تقسيم الجرائم إلى بسيطة واعتيادية‬

‫]‪[182‬‬
‫من أهم نتائج التفرقة بين الجرائم البسيطة والجرائم االعتيادة‪ ،‬هي نتائج إجرائية‪ ،‬أولها بخصوص تقادم‬
‫الدعوى‪ ،‬حيث يسري التقادم بخصوص جرائم االعتياد من اليوم التالي آلخر فعل من األفعال المكونة للجريمة قانونا‪،‬‬
‫وال عبرة في ذلك بالمدة التي تفصل بين الفعلين المكونين لحالة االعتياد‪ .‬وفيما يتعلق باالختصاص المكاني‪،‬‬
‫االختصاص بنظر جريمة االعتياد ينعقد لكل محكمة من المحاكم ارتكب في دائرة اختصاصها فعل من األفعال المتطلبة‬
‫لتكوين حالة االعتياد‪ ،‬على عكس الجريمة البسيطة تخضع الختصاص محكمة مكان اقترفاها‪ ،‬فيما يتعلق بقوة‬
‫الشيء المقضي به‪ ،‬متى أدين شخص بجريمة اعتياد ليس هناك ما يمنع من رفع الدعوى عليه متى ارتكب بعد الحكم‪،‬‬
‫مرة أخرى الجريمة بفعلين أو أكثر‪ ،‬من دون األفعال التي سبق الحكم عليه بسببها‪.‬وفيما يتعلق بالسريان الزماني‬
‫للنص‪ ،‬النص القانوني الجديد ولو أسوأ من القديم يطبق على جريمة االعتياد في فعلها األخير الذي تقوم به حتى ولو‬
‫كانت األفعال السابقة وقعت في ظل القانون القديم‪.‬‬

‫المطلب الرابع‬
‫الجرائم ذات النتائج والجرائم الشكلية‬
‫ومعيار التقسيم بين النوعين من الجرائم‪ ،‬هو بالنظر لعناصر ومكونات الركن المادي للجريمة‪،‬‬
‫فالجريمة ذات النتيجة هي الجريمة التي تكتمل فيها عناصر الركن المادي‪ ،‬بينما الجرائم الشكلية هي اتجاه إرادة الجاني‬
‫الرتكاب السلوك دون النتيجة وتسمى في هذه الحالة أيضا جرائم السلوك المجرد أو الجرائم الشكلية مقابلة للجرائم‬
‫المادية‪ ،‬وهي الجرائم ذات النتيجة أو جرائم الضرر مقابلة لجرائم الخطر وقد كانت جرائم الخطر موضوع المؤتمر‬
‫الدولي العاشر المنعقد بروما سنة ‪ .1969‬وهو تقسيم سبق تناوله‪ ،‬ونختصر أهميته في النقاط التالية‪ :‬تكمن أهمية التقسيم‬
‫بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية من عدة أوجه أهمها تتعلق بالقواعد الجنائية الموضوعية سيما في مجال الشروع‬
‫في الجريمة ومجال عالقة السببية‪ .‬حيث أنه بخصوص الشروع في الجريمة‪ ،‬فال يكون إال في الجرائم ذات النتائج‬
‫دون ج رائم السلوك المحض أو المجرد أو ما تسمى بالجرائم الشكلية التي ال مجال للكالم عن الشروع فيها‪ .‬وبخصوص‬
‫البحث عن عالقة السببية‪ ،‬فال مجال لبحثها في مجال الجرائم الشكلية النعدام النتيجة فيها وهي التي يحتم البحث ما‬
‫إن كان يربطها بسلوك الجاني عالقة سببية‪..‬‬
‫المطلب الخامس‬
‫الجرائم المركبة والجرائم متتابعة األفعال‬
‫الجريمة المركبة‪ ،‬هي تلك الجريمة التي يتألف النشاط المكون لركنها المادي من أكثر من فعل‪ ،‬كجريمة‬
‫النصب التي ال تكتمل قانونا إال بوقوع فعلين متميزين‪ ،‬هما استخدام الوسائل االحتيالية ومن ثم االستيالء على مال‬
‫الغير‪ .‬وبذلك فمن حيث الجوانب الموضوعية تخضع الجريمة المركبة من حيث سريان النص من حيث الزمان للقانون‬
‫الجديد على كل الجريمة حتى ولو بدأ سريان القانون بعد اقتراف الفعل األول‪.‬‬
‫ومن حيث الجوانب اإلجرائية ينعقد االختصاص في الجرائم المركبة لكل محكمة وقع في دائرة اختصاصها‬
‫فعل من األفعال المكونة للجريمة‪ ،‬حتى بخصوص مبدأ اإلقليمية حيث ينعقد االختصاص لقضاء كل دولة من الدول التي‬
‫وقع بإقليمها فعل من األفعال المكونة لهذه الجريمة‪ ،‬كما أن تقادم الدعوى ال يبدأ في السريان إال من اليوم التالي‬
‫القتراف آخر فعل مكون للجريمة المركبة بل في جريمة النصب في اليوم الموالي ألخر عنصر من عناصر التسليم‪.‬‬
‫أما تعريف الجريمة متتابعة األفعال‪ ،‬هي تلك الجرائم التي تتمثل في أفعال متعددة يجمع بينها بالرغم‬
‫من هذا التعدد تماثل الحق المعتدى عليه ووحدة الغرض اإلجرامي‪ ،‬كمن يصدر عدة شيكات بدون رصيد لشخص واحد‬
‫عن دين واحد‪ ،‬وهي بذلك جريمة تقوم بعدة أفعال يصلح كل منها لتكوين جريمة مستقلة وكل منها يتكون من ركن مادي‬

‫]‪[183‬‬
‫وآخر معنوي لكن تصبح جريمة واحدة لتماثل الحق المعتدى عليه ولوحدة الغرض اإلجرامي وبالتالي ال يطبق عليها‬
‫سوى عقوبة واحدة‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫تقسيم الجرائم بالنظر لركنها المعنوي‬

‫بالنظر للركن المعنوي للجريمة‪ ،‬الذي انتهينا منه منذ قيليل‪ ،‬فهناك تقسيم واحد للجرائم‪ ،‬وهي جرائم عمدية‬
‫وأخرى غير عمدية‪ ،‬وسنحاول بنوع من االختصار تناول كل نوع منها في مطلب مستقل‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫الجرائــــم العمدية‬
‫الجريمة العمدية‪ ،‬هي تلك الجريمة التي يتطلب المشرع لقيامها توفر القصد الجنائي بعنصريه العلم‬
‫واإلرادة‪ ،‬إرادة السلوك – وهي صورة مشتركة بين الجرائم العمدية والجرائم غير العمدية – وإرادة النتيجة‪ ،‬باإلضافة‬
‫إلى العلم بكل العناصر الواقعية الجوهرية الالزمة لقيام الجريمة والعلم بصالحية السلوك إلحداث النتيجة‪ ،‬وهي صورة‬
‫العلم الذي إن اتخذ درجة اليقين كان القصد مباشرا وإن اتخذ درجة االحتمال كنا بصدد القصد االحتمالي أو القصد غير‬
‫المباشر‪ ،‬وأن الغالبية العظمى من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات من الجرائم العمدية‪ ،‬وعادة ما يعبر عنه‬
‫المشرع بعبارات مثل كل من ارتكب " عمدا " أو كل من ارتكب " عالم" وأن كل الجنايات عمدية وأغلب الجنح عمدية‬
‫أما المخالفات فالقليل منها فقط عمدي‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫الجرائم غير العمدية‬
‫وتسمى أيضا بالجريمة الخطئية أو بجريمة اإلهمال‪ ،‬وهي تلك التي ال يتطلب المشرع لقيامها توافر‬
‫القصد الجنائي لدى الجاني كون كل ما يلزم فيها إرادة السلوك مع العلم بكافة العناصر الواقعية الجوهرية الالزمة لقيام‬
‫الجريمة – وهو أيضا عنصر مشترك ما بين الجرائم العمدية والجرائم غير العمدية ‪ -‬دون إرادة النتيجة ‪ ،‬لكن مع العلم‬
‫وبالتالي تختلف الجريمة غير العمدية عن الجريمة العمدية‪ ،‬في كون األولى‬ ‫بصالحية السلوك إلحداث النتيجة‪.‬‬
‫توجب توافر قصد تحقيق النتيجة عكس الجرائم غير العمدية‪ ،‬ومن ناحية ثانية درجة العلم المتطلبة في الجرائم العمدية‬
‫ترقى لمرتبة اليقين أو االحتمال‪ ،‬بينما في الجرائم غير العمدية فتتوقف درجة العلم عند درجة اإلمكان أي العلم بإمكان‬
‫تحقق النتيجة كأثر للسلوك‪.‬‬
‫وهناك نوع من الجرائم قد يثير اللبس بين النوعين السابقي‪،‬ن وهو ما يسمى بالجرائم المادية ‪DELIT‬‬
‫‪ MATERIELS‬التي تقع بمجرد إتيان النشاط المكون لركنها المادي حتى ولو لم يقم الركن المعنوي لدى الجاني‪ ،‬و ال‬
‫حتى مجرد الخطأ أو اإلهمال‪ ،‬بل هي جرائم تقوم بالركن المادي وحده دون الركن المعنوي‪ ،‬كالجرائم المرورية‬

‫]‪[184‬‬
‫والجرائم الضريبية والجرائم الجمركية‪ ،‬وهو ما أثار حفيظة أنصار الفكر الجنائي الحديث الذين يطالبون بجعل اإلثم أو‬
‫الخطأ كأساس للمسؤولية الجنائية‪ ،‬إال أن المبرر يكمن في القول بأن الجرائم المادية ال تعني انتفاء الركن المعنوي وإنما‬
‫يجعل فيها المشرع ارتكاب الفعل المادي قرينة على توفر الخطأ لديه وتنقل عبء اإلثبات من عاتق النيابة إلى عاتق‬
‫المتهم الذي له أن يثبت انتفاء مسؤوليته بانتفاء الخطأ من جانبه‪.‬‬
‫ومن أهم النتائج المترتبة على تفقسيم الجرائم إلى عمدية وغير عمدية‪ ،‬من حيث العقوبة المقررة‪،‬‬
‫فعقوبات الجرائم غير العمدية في العادة عقوبات مخففة مقارنة بالعقوبات المقررة للجرائم العمدية‪ ،‬ومن حيث إمكان‬
‫العقاب على الشروع‪ ،‬فال شروع في الجرائم غير العمدية وال اشتراك فيها‪.‬‬

‫الباب الثاني‬
‫نظرية المسؤولية الجـــنائية‬

‫ال يكفي مجرد ارتكاب الجريمة بأركانها المبينة على النحو السابق العتبار مقترفها مسؤول عنها‬
‫مسؤولية جنائية‪ ،‬وبالتالي استحقاق العقاب المقرر لها بل يجب أن تتوفر فيه العناصر القانونية الالزمة المكونة‬
‫للمسؤولية الجنائية‪ ،‬ألنه هناك فرق كبير بين فكرة الجريمة وفكرة المسؤولية الجنائية‪ ،‬فالجريمة إن كانت تقوم ببنيانها‬
‫القانوني بموجب األركان الثالثة العامة‪ ،‬فإن المسؤولية الجنائية أو كما يسميها البعض " األهلية الجنائية" أو " أهلية‬
‫اإلسناد"‪ .‬ال تقوم وال تتحقق إال إذا كان الفاعل وقت اقترافه الجريمة يتمتع بملكتي " الوعي واإلدراك" من ناحية‪،‬‬
‫وبالقدرة على االختيار أو حرية االختيار من ناحية ثانية‪ ،‬وبدون هذه العناصر تنتفي المسؤولية الجنائية وبالتالي ال‬
‫مجال لتوقيع الجزاء على الفاعل‪ ،‬بالرغم من ارتكابه الجريمة على النحو الموصوف قانونا‪ ،‬وإن كان ذلك ال يمنع من‬
‫خضوعه للتدابير االحترازية أو تدابير األمن كصورة ثانية من صور الجزاء الجنائي‪ ،‬وهي التدابير التي توقع على من‬
‫توفرت في جانبه خطورة إجرامية‪ .‬لذا فأساس توقيع العقوبة هي المسؤولية الجنائية‪ ،‬والخطورة اإلجرامية أساس توقيع‬
‫التدابير االحترازية أو األمنية‪ ،‬وبالتالي المسؤولية الجنائية شرط ضروري إلمكان الحديث عن توقيع العقوبة على‬
‫الفاعل‪ ،‬وقوام المسؤولية الجنائية الوعي واإلدراك من ناحية‪ ،‬واإلرادة وحرية االختيار من ناحية ثانية]‪ .[7‬لذا فنظرية‬
‫المسؤولية الجنائية تقتضي الحديث عن الشخص الفاعل‪ ،‬حيث إن كانت أركان الجريمة تنصرف إلى الفعل المادي‪ ،‬فإن‬
‫نظرية المسؤولية الجنائية تنصرف أكثر إلى الشخص الفاعل‪ ،‬لذا نجد الكثير من الفقه يتناول المسؤولية الجنائية في‬
‫إطار نظرية " المجرم والجزاء"‪ ،‬لذا فضلنا نحن تناول المسؤولية الجنائية ضمن باب مواز لنظرية الجريمة‪ ،‬وكانت‬
‫خطتنا في البداية أن فقسم هذا الباب إلى فصلين‪ ،‬فصل يتعلق بالشخص المجرم المسؤول وموانع هذه المسؤولية‪ ،‬وآخر‬
‫يتعلق بنظرية الجزاء‪ ،‬غير أن قولنا بترك نظرية الجزاء لتكون موضوع مطبوعة مستقلة‪ ،‬جعل من هذا الباب يختل‬
‫توازنه مقارنة بالباب األول‪ ،‬غير أن هدف المطبوعة يتجاوز مراعاة الجوانب الشكلية‪ ،‬ويركز فقط على النواحي‬
‫الموضوعية الهادفة إلفادة الطالب بالتفاصيل التي قد يتم تجاوزها في المحاضرات‪ ،‬لذا فتركيزنا في هذا الباب المختصر‬
‫سيكون من خالل فصلين نتناول في األول فكرة المسؤولية الجنائية ذاتها‪ ،‬على أن نتناول في الثاني موانع هذه‬
‫المسؤولية‪ .‬كون فكرة المسؤولية الجنائية أو الجزائية]‪ ،[8‬تتطلب تحديد مفهومها وذلك بتحديد معناها وأساسها وبيان‬
‫شروطها‪ ،‬من جهة‪ ،‬ومن جهة ثانية تحديد الحاالت التي تنتفي فيها المسؤولية الجنائية أو تمتنع من القيام بالرغم من‬
‫ارتكاب الفعل المجرم قانونا‪.‬‬

‫]‪[185‬‬
‫الفصل األول‬
‫ماهية المسؤولية الجنائية‬

‫ق بل أن نتناول مفهوم المسؤولية الجنائية وبيان أساسها وشروطها وتمييزها عما يشابهها من أفكار‬
‫قانونية‪ ،‬تجدر بنا اإلشارة بأنه هناك العديد من الفقهاء من يتناول دراسة هذه الفكرة في إطار دراسته للركن المعنوي‬
‫للجريمة‪ ،‬وذلك بسبب النقاط القانونية الكثيرة المشتركة بينهما‪ ،‬سيما فيما يخص موانع المسؤولية التي تعد في حد ذاتها‬
‫موانع في الحقيقة لقيام الركن المعنوي للجريمة‪ ،‬وأيضا ارتباطهما معا بفكرتي األهلية الجنائية وفكرة العدالة‪ ،‬وكذا اتخاذ‬
‫المسؤولية الجنائية للعديد من الصور تبعا لتعدد صور الركن المعنوي ذاته‪ ،‬حيث نجد المسؤولية العمدية التي تقابل‬
‫صورة القصد الجنائي و عنصر العمد‪ ،‬والمسؤولية غير العمدية التي تقابل صورة الخطأ‪ ،‬والمسؤولية المتعدية أو‬
‫المتجاوزة القصد تبعا لصورة القصد الجنائي المتعدي‬
‫أ و المتجاوز‪ ،‬وهي نقاط التشابه الكثيرة التي جعلت من البعض يرى بأن الركن المعنوي هو ركن في المسؤولية‬
‫الجنائية‪ ،‬بالرغم من نقاط الخالف الكثيرة بينهما على نحو ما سنتبينه‪.‬‬

‫]‪[186‬‬
‫المبحث األول‬
‫مفهوم المسؤولية الجنائية وتحديد أساسها القانوني‬

‫يقصد بالمسؤولية الجنائية في مجال النظرية العامة للجريمة‪ ،‬االلتزام بتحمل النتائج المترتبة على وقوع الفعل‬
‫المجرم‪ ،‬وهي بهذا الوصف ال تعد ركنا أو عنصرا في الجريمة‪ ،‬بل هي األثر أو النتيجة القانونية لها‪ ،‬وأيا كان الخالف‬
‫الفقهي حول مفهوم المسؤولية الجنائية‪ ،‬فهي باختصار تحمل تبعة األفعال التي يجرمها القانون الجنائي‪ ،‬وفكرة تحمل‬
‫التبعة ال تعني سوى تطبيق العقوبة‪ ،‬غير أن ما تجدر اإلشارة إليه‪ ،‬أنه على خالف الوقت الحاضر الذي تقام فيه‬
‫المسؤولية الجنائية لإلنسان العاقل البالغ فقط‪ ،‬فإن الشرائع القديمة عرفت مسؤولية الحيوان والجماد‪ ،‬بل وحتى الموتى‬
‫في قبورهم‪ ،‬وفسر ذلك بنسبة الجريمة لألرواح الشريرة التي تتقمص هذه األشياء وتسخرها في ارتكاب الجرائم‪ ،‬غير‬
‫أنه حديثا أصبحت المسؤولية ال يمكن أن تسند إال لإلنسان ألنه الكائن الوحيد الذي يمكنه أن يفهم ويستوعب أوامر‬
‫ونواهي القانون‪ ،‬كما أن ما يتضمنه القانون من جرائم ال يمكن تصور ارتكابه إال من قبل اإلنسان وكذلك الشأن بالنسبة‬
‫للجزاءات التي يتضمنها والتي ال يمكن تصور إنزالها إال باإلنسان‪ ،‬وال يتصور تحقيق أغراضها إال إذا نفذت على‬
‫اإلنسان‪ ،‬وكاستثناء أصبحت تتقرر مسؤولية األشخاص المعنوية أو االعتبارية‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫تعريف المسؤولية الجنائية وتمييزها عما يشابهها من أفكار قانونية جنائية]‪[9‬‬
‫يقصد بفكرة المسؤولية الجنائية أهلية اإلنسان العاقل الواعي بأن يتحمل الجزاء العقابي نتيجة اقترافه‬
‫جريمة من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات‪ ،‬كون لفظ المسؤولية مرادف للفظ المسائلة‪ ،‬أي مسائلة‬
‫الشخص عن اختياره الجريمة كسلوك مخالف للقانون ومناقض له‪ ،‬وهو سؤال يحمل معنى اللوم واالستنكار والتهديد‬
‫بتوقيع الجزاء نتيجة اختيار هذا السلوك المجرم‪ .‬لذا فالمسؤولية الجنائية ليست ركنا من أركان الجريمة‪ ،‬بل هي حصيلة‬
‫أو أثر ألركان الجريمة مجتمعة‪ ،‬وهي الحصيلة التي اجتمعت في شخص إنسان عاقل مميز ومريد وله القدرة على‬
‫االختيار‪ .‬وعليه فالمسؤولية الجنائية تتميز عن كل أركان الجريمة‪ ،‬بما فيها الركن المعنوي المشابه لها كثيرا‪ ،‬فالركن‬
‫المعنوي ركن في الجريمة وال يمكن البحث في توفر المسؤولية الجنائية إال بعد أن تقوم األركان العامة الثالثة للجريمة‬
‫بما فيها الركن المعنوي‪ ،‬بل المسؤولية الجنائية وباإلضافة إلى توفر أركان الجريمة‪ ،‬يجب أن يتوفر أيضا عناصر‬
‫الوعي واإلرادة وحرية االختيار لدى الجاني‪.‬‬
‫ك ما تختلف المسؤولية الجنائية أيضا عن فكرة " األهلية الجنائية"‪ ،‬فهذه األخيرة تعني صالحية مرتكب‬
‫الجريمة ألن يسأل عنها‪ ،‬أي إمكانية الشخص أن يكون مسؤوال عن أفعاله‪ ،‬وهي مرتبطة بسن معينة تختلف حوله‬
‫التشريعات الجنا ئية‪ ،‬مما يجعلها شرطا لقيام المسؤولية الجنائية أو عنصرا من عناصرها‪ ،‬فالمسؤولية الجنائية ال تقوم‬
‫إال بتوافر األهلية الجنائية بحيث حيثما تنتفي هذه األخيرة تنتفي المسؤولية الجنائية‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬

‫]‪[187‬‬
‫أساس المسؤولية الجنائية‬
‫المسؤولية الجنائية كفكرة قانونية جنائية يجب وأن تستند إلى أساس خاص يبرر مشروعية توقيع الجزاء‬
‫على الشخص مرتكب الجريمة‪ ،‬ألن المنطق القانوني السليم يستدعي أساسا منطقيا بموجبه وعلى أساسه يمكن مسائلة‬
‫الشخص‪ ،‬وهو األساس الذي مثل البحث فيه مسألة فلسفية انكب على دراستها فقهاء القانون على مدار القرنين‬
‫األخيرين]‪ ،[10‬حيث اختلفوا وانقسموا بخصوص هذا األساس اختالفا شديدا ومتباينا‪ ،‬وهو الخالف الذي يمكن رده إلى‬
‫اتجاهين أو مذهبين أساسيين‪ ،‬تمثلهما مدرستين عريقتين هما المدرسة التقليدية والمدرسة الوضعية‪ ،‬األولى نادت بفكرة‬
‫" حرية االختيار" كأساس للمسؤولية الجن ائية‪ ،‬فيما نادى أنصار المدرسة الوضعية بفكرة " الجبرية أو الحتمية" كأساس‪،‬‬
‫وهو ما نبينه في فرعين‪ ،‬لكن مثلما هو األمر دوما كلما وجد اتجاهين‪ ،‬يوجد اتجاه وسط توفيقي يحاول تفادي مساوئ‬
‫كل اتجاه واألخذ بمزاياه‪ ،‬وهو ما نبينه في الفرع الثالث‪.‬‬

‫الفرع األول‬
‫المــــــذهب التقليدي‬
‫مذهب حرية االختيار‬
‫أساس المسؤولية الجنائية هو المسؤولية األدبية أو األخالقية‬
‫و هو المذهب الذي يقيم أنصاره المسؤولية الجنائية على فكرة أن اإلنسان المكتمل لمداركه العقلية يصبح‬
‫حرا في تصرفاته ويوجه إرادته حيثما يشاء ويريد‪ ،‬وبالتالي يكون مسؤوال عن كل أفعاله وحيثما يوجه إرادته يتحمل‬
‫مسؤوليته‪ ،‬وعليه فالجريمة وليدة إرادة اإلنسان الحرة‪ ،‬لذا فوفقا ألنصار المدرسة التقليدية يجب أن يتوفر عنصري‬
‫اإلرادة وحرية االختيار لتقوم المسؤولية الجنائية للشخص‪ ،‬فاإلرادة وحرية االختيار فقط تمكن من القول بأن اإلنسان‬
‫يسأل عن اختيار أو سلوكه طريق الجريمة‪ ،‬واعتباره مخطئا قانونا‪ ،‬لذا فال يسأل الصغير أو المجنون أو المكره أو‬
‫النائم‪ ،‬ففي كل هذه الحاالت تنعدم المسؤولية الجنائية لعدم قيام اإلرادة وحرية االختيار وبالتالي انتفاء عنصر الخطأ في‬
‫سلوك الشخص‪ ،‬ألن الخطأ يقاس بمدى إدراك اإلنسان لفعله الخاطئ‪ ،‬وللخطأ والمسؤولية الجنائية درجات تقاس وفقا‬
‫للقدر الذي ينقص به اإلدراك واالختيار‪ .‬إذن باختصار‪ ،‬أساس المسؤولية الجنائية وفقا ألنصار المدرسة التقليدية‪ ،‬وفي‬
‫جوهرها هي لوم على سلوك مخالف للقانون كان باستطاعة الفاعل أن يسلك غيره‪ ،‬لذا فهي مسؤولية أدبية و‬
‫أخالقية‪ .‬كون اإلنسان مخير في أفعاله وليس مسيرا وبالتالي عليه دوما أن يسلك الطريق نحو الفعل غير المجرم وأن‬
‫يوجه إرادته نحو ذلك]‪.[11‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫المـــذهب الوضـــعي‬
‫مذهب الجبرية أو الحتــمية‬
‫على عكس االتجاه التقليدي‪ ،‬ذهب أنصار المدرسة الوضعية إلى القول بأن اإلنسان ليس مخيرا وإنما‬
‫مسيرا‪ ،‬وبالتالي تصرفاته ليست وليدة اختياره وحريته‪ ،‬وإنما حتمية عليه لعوامل ال دخل إلرادته فيها‪ ،‬وهي عوامل‬
‫وراثية وخلقية ومزاجية وبيئية واجتماعية‪ ،‬وما اإلرادة إال ثمرة لهذه العوامل التي قد تدفع الشخص إلى ارتكاب الجريمة‬
‫كقدر محتوم مكتوب عليه]‪ ،[12‬غير أنه بالرغم من امتناع حرية االختيار فإن المسؤولية الجنائية ال تمتنع‪ ،‬فيسأل‬
‫الصبي كما يسأل المجنون‪ ،‬شأنهما شأن الشخص العاقل‪ ،‬وكل ما في األمر أن المسؤولية قابلة فقط للتخفيف لكنها ال‬
‫تمتنع‪.‬‬
‫الفرع الثالث‬
‫المذهب التوفـــيقي‬
‫و هو مذهب أقام أنصاره أساس المسؤولية الجنائية على محاسن االتجاهين السابقين‪ ،‬فأقامها على أساس‬
‫التمييز وحرية االختيار‪ ،‬دون إهمال الظروف والعوامل الشخصية واالجتماعية المحيطة بالشخص الجاني‪.‬‬
‫المطلب الثالث‬
‫خصائص المسؤولية الجنائية‬

‫]‪[188‬‬
‫في حقيقة األمر‪ ،‬تتحدد خصائص المسؤولية الجنائية تبعا لألساس الذي تبنى عليه‪ ،‬وبما أن األساس‬
‫السائد في التشريعات الجنائية الوضعية‪ ،‬هو مذهب حرية االختيار‪ ،‬فإن خصائص المسؤولية الجنائية تبعا لذلك‪ ،‬أن‬
‫اإلنسان هو موضوعها‪ ،‬وبذلك تكون مسؤولية شخصية‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫اإلنسان موضوع أو محل المسؤولية الجنائية‬
‫السائد فقها وتشريعا وقضاء أن اإلنسان هو محور أو موضوع أو محل المسؤولية الجنائية‪ ،‬على عكس‬
‫ما كان سائدا قديما‪ ،‬أين عرفت مسؤولية الحيوان والنبات والجماد‪ ،‬كما أن الجريمة سلوك إرادي‪ ،‬واإلرادة جوهر‬
‫الركن المعنوي للجريمة‪ ،‬وهي التي تقف خلف السلوك اإلجرامي وهي اإلرادة التي ال يمكن أن تكون إال إرادة إنسانية‬
‫تصدر عن إنسان‪ ،‬لذا فالمسؤولية الجنائية ال يتحملها إال اإلنسان كونه المدرك والمميز والفاهم لحقيقة األفعال والمختار‬
‫لها‪ ،‬لذا فاإلنسان هو الذي يرتكب الجريمة وهو الذي يتحمل مسؤوليتها‪ ،‬خاصة وأن الجزاءات الموجودة بالقانون ال‬
‫يمكن تصور إنزالها بغير اإلنسان‪ ،‬وال يمكن تصور تحقيقيها ألغراضها إال إذا نفذت فيه‪ ،‬سواء تمثلت هذه األغراض‬
‫في الردع العام أو الردع الخاص‬
‫أو التهذيب أو اإلصالح والعالج‪ .‬غير أن التطور القانوني انتهى إلى االعتراف بالمسؤولية الجنائية لألشخاص‬
‫المعنوية‪ ،‬والذي ال يزال يثير الجدل لغاية اليوم‪ ،‬حول إمكانية مسائلة الشخص المعنوي جزائيا‪ ،‬وهو الجدل الفقهي الذي‬
‫انعكس على التشريعات الوضعية‪ ،‬حيث أنكر اتجاه قيام المسؤولية الجنائية لألشخاص المعنوية‪ ،‬لكن هو أمر مسلم به‬
‫في تقنين العقوبات الجزائري‪ .‬وهو ما تكون لنا عودة إليه‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫شخصية المسؤولية الجنائية‬
‫من المسلمات في القانون الجنائي مبدأ شخصية العقوبة‪ ،‬حيث ال توقع العقوبة إال من تقررت مسؤوليته الجنائية‬
‫عن الجريمة التي وقعت‪ ،‬وبالتالي فالمسؤولية الجنائية شخصية‪ ،‬حيث ال تقوم إال لدى الشخص مرتكب الجريمة أو‬
‫المساهم فيها بوصفه فاعال أو شريكا‪ ،‬فالعدالة الجنائية تأبى تحميل المسؤولية لشخص ال عالقة له بالجريمة المرتكبة‪،‬‬
‫وهو مبدأ إلهي تقرر في القرآن الكريم حيث ليس لإلنسان إال ما سعى‪ ،‬في قوله عز وجل في اآليات من ‪ 36‬إلى ‪ 39‬من‬
‫سورة النجم ‪ :‬وفي اآلية ‪ 286‬من سورة البقرة " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" وفي اآلية ‪ 46‬من سورة فصلت"‬
‫من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها"‪ ،‬وفي اآلية ‪ 15‬من سورة اإلسراء ‪ ":‬ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن‬
‫ضل فإنما يضل عليها وال تزر وازرة وزر أخرى" وفي اآلية ‪ 33‬من سورة لقمان ‪ ":‬ال يجزي والد عن ولده وال مولود‬
‫هو جاز عن والده شيئا"‪ ،‬وفي قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬ال يؤخذ الرجل بجريرة أبيه وال بجريرة أخيه"‪.‬‬

‫غ ير أن مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية لم تعرفه القوانين الوضعية إال حديثا‪ ،‬حيث كانت تعرف‬
‫القوانين القديمة فكرة المسؤولية الجنائية الجماعية‪ ،‬حيث كانت تمتد لتشمل أسرة الجاني وأقربائه وعشيرته‪ ،‬وهو‬
‫الوضع الذي امتد لغاية ما قبل الثورة الفرنسية‪ ،‬غير أنه اليوم أضحى المبدأ من المبادئ الدستورية والجنائية‪ ،‬حيث ال‬
‫يعرف القانون الجنائي المسؤولية عن أفعال الغير مثل القانون المدني‪ ،‬ما عدا في بعض الفروض النادرة مثل الجرائم‬
‫الصحفية‪....‬‬

‫]‪[189‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫شروط المسؤولية الجنائية‬

‫ف ي حقيقة األمر شروط المسؤولية الجنائية تختلف باختالف األساس الذي بنيت عليه‪ ،‬فحيث يكون‬
‫أساسها حرية االختيار فإن شروطها تتمثل في ضرورة توافر اإلدراك وحرية االختيار‪ ،‬وحيث يكون أساسها الجبرية أو‬
‫الحتمية فإنه يشترط لتقرير المسؤولية الجنائية توفر الخطورة اإلجرامية‪ ،‬لذا يجب أن نتناول كل هذه الشروط‪ ،‬حيث‬
‫األصل في أساس المسؤولية الجنائية حرية االختيار فإن شروطها اإلدراك واالختيار‪ ،‬وحيث أساسها الجبرية فإن‬
‫شرطها األساسي توفر الخطورة اإلجرامية – وهو نضيفه فقط لالستيعاب وننبه مرة أخرى هو أنه من الشروط في‬
‫القوانين التي تأخذ بمذهب الجبرية‪ ،-‬وهو ما نبينه في المطلب التالي‪ ،‬بعد أن نبين شرط أساسي يتمثل في التمتع باألهلية‬
‫الجنائية‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫التمتع باألهلية الجزائية‬
‫ا ألهلية الجزائية مجموعة من الصفات والعناصر التي يتوجب أن تتوفر في الشخص حتى يمكن نسب‬
‫الجريمة إليه‪ ،‬بوصفه فاعلها عن وعي وإدراك‪ ،‬وهي ال تثبت إال لإلنسان باعتباره الوحيد من بين الكائنات الذي يملك‬
‫قدرة اإلدراك وحرية االختيار‪ ،‬وكنتيجة لذلك فالجريمة ال يمكن أن يقترفها إال اإلنسان‪ ،‬غير أن صفة اإلنسان وإن كانت‬
‫ضرورية فهي غير كافية لتوفر األهلية الجنائية‪ ،‬فقد ترتكب جريمة من قبل إنسان غير أن أهليته تمتنع لجنونه أو صغر‬
‫سنه‪ ،‬وبالتالي ليكون الشخص آهال لتحمل المسؤولية الجنائية أن يكون حيا وعاقال وبالغا سنا معينة وهو ما نبينه في‬
‫النقاط التالية‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫وقوع الجريمة من إنسان حي‬
‫صفة اإلنسان شرط الزم لوصف السلوك المخالف للقاعدة الجنائية بوصف الجريمة‪ ،‬بحيث هذه األخيرة‬
‫ال يمكن أن ترتكب إال من إنسان‪ ،‬وبالتالي الشرط األول لألهلية الجنائية هو صدور الجريمة عن إنسان‪ ،‬وأن كل فعل‬
‫صادر عن جماد أو حيوان دون أن يكون هناك دور لإلنسان فيه فهو ال يعد جريمة‪ ،‬إذ غير اإلنسان مستبعد من‬
‫الخطاب الجزائي تجريما وعقابا ومسؤولية‪ .‬كما أنه ال يكفي أن تكون الجريمة صادرة عن إنسان‪ ،‬بل يجب أن يكون‬
‫هذا األخير حيا‪ ،‬بالنظر لخاصية شخصية العقوبة التي تعني بداهة سقوطها بوفاة الجاني إذ بذلك تنتفي الغاية من توقيع‬
‫الجزاء كما ينتفي محلها الذي يوقع عليه‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫أن يكون الجاني عاقال وبالغا‬
‫ي عد العقل أساس تحمل المسؤولية‪ ،‬ألن العقل هو مناط اإلدراك‪ ،‬لذلك فالشخص المصاب بمرض أو‬
‫عاهة عقلية الزمته وقت ارتكاب الجريمة انعدمت أهليته وبالتالي مسؤوليته الجنائية‪ ،‬والعقل وفقا التفاق التشريعات‬
‫الجنائية الحديثة يتطلب سنا معينة حتى وإن اختلفت بشأنه التشريعات‪ ،‬فالعقل يتدرج حسب المراحل السنية وهو ال‬
‫يكتمل قانونا إال ببلوغ السن التي يحددها قانون العقوبات‪.‬‬

‫]‪[190‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫التمتع بالوعي وحرية اإلرادة‬
‫( التبعة الجــزائية)‬
‫ال يكفي لقيام المسؤولية الجنائية ارتكاب الفعل المجرم من شخص آهل جنائية‪ ،‬أي إنسان حي بالغ سن‬
‫معينة‪ ،‬بل يجب إضافة إلى ذلك أن يكون متمتع بشرط التبعة الجزائية التي تقوم على عنصري الوعي واإلرادة]‪.[13‬‬
‫الفرع األول‬
‫الوعـــــــي واإلدراك‬
‫يقصد بالوعي أو اإلدراك‪ ،‬قدرة اإلنسان على فهم ماهية سلوكه وتقدير ما قد يترتب عليه من نتائج‪،‬‬
‫ويعني في مجال المسؤولية الجنائية أن يعي الشخص أنه بصدد سلوك محظور قانونا‪ ،‬غير أنه باختياره يوجه إرادته‬
‫نحو القيام به‪ ،‬فيعد بذلك مسؤول جنائيا عنه‪ .‬والقدرة السابقة في حقيقة األمر‪ ،‬هي قدرة واقعية تتعلق بماديات الفعل في‬
‫ذاته ونتائجه‪ ،‬كما هو األمر في الواقع المألوف‪ ،‬وهي القدرة االجتماعية التي تستمد من قواعد الخبرة اإلنسانية العامة‪،‬‬
‫في التمييز بين الخير والشر‪ ،‬والمسموح والممنوح والمباح والمحظور‪ ،‬وهو الفهم الواقعي من حيث الفعل بذاته وما قد‬
‫يرتبه من نتائج‪ ،‬وليس الفهم القانوني‪ ،‬حيث الشخص قد يأتي فعال يجهل أصال أن قانون العقوبات يجرمه‪ ،‬إذ العلم‬
‫بقانون العقوبات والتكييف الذي يتضمنه أمر مفترض‪ ،‬فالعلم ليست له عالقة باإلرادة‪ ،‬كونه ال يعذر شخص بجهل‬
‫القانون‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫حريـــة اإلرادة‬
‫و يقصد بحرية اإلرادة حرية الشخص على االختيار وقدرته على توجيه سلوكاته نحو القيام بالفعل أو‬
‫تركه‪ ،‬وحتى تتوفر حرية اإلرادة يجب أن يكون الفعل مما يمكن القيام به‪ ،‬بحيث إذا كان مستحيال فال محل للقول بحرية‬
‫اإلرادة‪ ،‬وأن يكون أمام الشخص بدائل تمكنه من االختيار من بينها‪.‬كما تعني اإلرادة توجيه الذهن إلى تحقيق عمل‬
‫معين‪ ،‬فهي إرادة قد تكون واعية‪ ،‬كما قد تكون غير واعية‪ ،‬فالمجنون يريد أفعاله والصغير كذلك‪ ،‬غير أن إرادتهما غير‬
‫واعية‪ ،‬واإلدراك يجب توفره وقت إتيان الجريمة‪ ،‬أي األفعال المادية المكونة لها حيث يجب أن يكون معاصرا لها‪ ،‬فإن‬
‫انتفى يكون شرط أساسي من شروط قيام المسؤولية الجنائية قد تخلف وبالتالي ال تقوم‪ ،‬أما قدرة االختيار فتعني قدرة‬
‫الشخص على توجيه إرادته‪ ،‬إذ يفترض تعدد الخيارات أمام الشخص ومن ثم يوجهها الوجهة التي يختارها‪ ،‬األمر الذي‬
‫يجعل منه يختلف عن اإلرادة‪ ،‬فهذه األخيرة تتعلق بالجريمة في ركنيها المادي والمعنوي‪ ،‬بينما حرية االختيار موقعها‬
‫المسؤولية الجنائية كمحصلة ألركان الجريمة مجتمعة‪ ،‬ومعلوم انه قد توجد الجريمة وتتخلف المسؤولية‪ ،‬وحرية اإلرادة‬
‫موجود متى كانت الظروف المحيطة بالجاني تركت له حرية التصرف‪ ،‬بينما هناك ظروف تنقص منها أو قد تعدمها‬
‫مثل اإلكراه أو الضرورة‪ ،‬وبذلك يتعين اإلنقاص من المسؤولية الجنائية أو امتناع قيامها أصال تبعا للمقدار الذي ترك‬
‫لحرية تصرف الشخص‪.‬‬
‫ومثلما ذكرنا سابقا‪ ،‬سنضيف شرط ثالثا يتعلق بشروط المسؤولية في القوانين التي تأخذ بالجبريةن وهو‬
‫شرط الخطورة اإلجرامية‪.‬‬
‫الفرع الثالث‬
‫شرط الخطورة اإلجرامية‬

‫]‪[191‬‬
‫و هي فكرة اعتنقها أنصار المدرسة الوضعية لتأسيس المسؤولية الجنائية‪ ،‬ومنها قرروا استبعاد العقوبات‬
‫التقليدي ة وإحالل التدابير االحترازية محلها لحماية المجتمع من تكرار الجريمة في المستقبل‪ ،‬وتعرف الخطورة‬
‫اإلجرامية بأنها‪ :‬حالة أو صفة نفسية لصيقة بشخص الجاني تنذر باحتمال إقدامه على ارتكاب جريمة أخرى في‬
‫المستقبل‪ ،‬ومن هذا التعريف تتضمن الخطورة اإلجرامية عنصرين‪ ،‬الجريمة السابقة المرتكبة‪ ،‬واحتمال وقوع جرائم‬
‫جديدة في المستقبل‪ .‬فشرط الجريمة السابقة أو التي وقعت شرط أساسي من شروط القول بانطواء الشخص على خطورة‬
‫إجرامية‪ ،‬فضرورة ارتكاب الجريمة وتوقيع التدبير يحكمه مبدأ الشرعية الجنائية‪ ،‬حيث مثلما تخضع العقوبة لهذا المبدأ‪،‬‬
‫فالتدابير االحترازية تخضع له أيضا‪ ،‬وبالتالي بجب توفر هذه الجريمة وإال فال مجال للقول بالخطورة اإلجرامية حتى‬
‫ولو كانت نفسية الجاني تنطوي على خطورة اجتماعية عالية‪ ،‬بالرغم من أن البعض عارض ذلك‪ ،‬بحجة عدم وجوب‬
‫انتظار وقوع ضرر الجريمة ما دامت الخطورة متوفرة‪ ،‬فيمكن توقيع التدابير دون انتظار وقوع الجريمة‪ ،‬دفاعا عن‬
‫المجتمع‪.‬‬
‫وأما الشرط الثاني للقول بتوفر الخطورة اإلجرامية‪ ،‬فيتمثل في احتمال وقوع جريمة جديدة في‬
‫المستقبل‪ ،‬وهو ما تكشف عنه الجريمة السابقة التي تبين الشخصية اإلجرامية لدى الجاني‪ ،‬وتوفر دالالت وإمارات لديه‬
‫يخشى مع توفرها إقدام الجاني على ارتكاب جرائم جديدة في المستقبل‪ ،‬فاإلمارات ضرورية بالنظر لكون الخطورة‬
‫اإلجرامية حالة نفسية يستحيل تبينها وإثباتها ما لم يتدعم بإمارات ودالالت تدل عليها‪ ،‬وفحص شخصية الجاني للبحث‬
‫عن االستعدادات الجنائية لديه وذلك من مختلف نواحي شخصيته‪ ،‬مثل بعض الظروف التي ترتكب فيها الجريمة‪ ،‬أو‬
‫ارتكاب جرائم جسيمة‪.‬‬

‫]‪[192‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫موانع المسؤولية الجنائية‬

‫سبق القول أن جوهر المسؤولية الجنائية يقوم على الوعي واإلدراك الذين يسيران حرية االختيار‪،‬‬
‫وبالتالي تمتنع المسؤولية الجنائية كلما انعدم هذا الوعي أو هذه اإلرادة‪ ،‬ويترتب على ذلك عدم توقيع العقوبة على‬
‫الشخص بالرغم من ارتكابه للجريمة على النحو الموصوف قانونا‪ ،‬وبالرغم من توفر أركانها القانونية العامة والخاصة‪،‬‬
‫مع ما تتضمنه هذه األركان من عناصر قانونية‪ ،‬غير أن امتناع المسؤولية وإفالت الفاعل من العقوبة ال يمنع من‬
‫خضوعه للتدابير االحترازية أو تدابير األمن‪ ،‬كصورة من صور الجزاء‪ ،‬ألنه سبق القول أنه إن كانت المسؤولية أساس‬
‫توقيع العقوبة‪ ،‬فأساس توقيع التدابير هو توفر الخطورة اإلجرامية‪ .‬وبالتالي موانع المسؤولية قد تكون ناشئة عن انعدام‬
‫اإلرادة‪ ،‬مثل حالة اإلكراه وحالة الضرورة – في القوانين التي تجعل منها مانعا من موانع المسؤولية ال سببا من أسباب‬
‫اإلباحة‪ ،-‬وإما أن تك ون ناشئة عن انعدام الوعي مثل صغر السن أو الجنون‪ ،‬وهو ما نتناوله في مبحثين متتاليين‪ ،‬نتناول‬
‫في األول موانع المسؤولية الناشئة عن انعدام الوعي‪ ،‬وفي الثاني تلك المتعلقة بانعدام اإلرادة‪.‬‬
‫لكن قبل ذلك‪ ،‬نود أن نشير أن كون المسؤولية تقوم على كل من اإلدراك وحرية االختيار وتخلف أحد هذين‬
‫العنصرين أو تخلف أحدهما يترتب عليه انتفاء وتخلف المسؤولية الجنائية‪ ،‬أو الحيلولة دون توقيع شق الجزاء ألسباب‬
‫شخصية توفرت في مرتكب الجريمة أو علقت بشخصه‪ ،‬مع بقاء بفعله يتسم بالصفة التجريمية من الناحية القانونية‪ ،‬كما‬
‫قد تقيم مسؤوليته المدنية عنها‪ ،‬وألن موانع المسؤولية الجنائية أسباب شخصية‪ ،‬فهي ال تنتج أثرها إال بخصوص‬
‫الشخص الذي توفرت لديه دون باقي المساهمين أو الشركاء معه في الجريمة‪ ،‬والفرق واضح ما بين مبدأ الشرعية الذي‬
‫يقضي باال جريمة وال عقوبة إال بنص‪ ،‬وفكرة المسؤولية الجنائية المبنية على فكرة الخطأ‪ ،‬فمبدأ الشرعية لما ينظر‬
‫لألفعال المجرمة أنها أفعال ماسة بالقيم الجماعية المشتركة‪ ،‬التي يعد إتيانها مصدرا للوم االجتماعي‪ ،‬كونها تمثل اعتداء‬
‫على القواسم المشتركة بين أفراد المجتمع‪ ،‬وهم األفراد الذين يصنفون إلى محترم ومعاد لهذه القيم والقواسم االجتماعية‬
‫المشتركة‪ ،‬ومبدأ الشرعية يعني ال وجود للجريمة ما لم يكن الفعل مخالف لنص جنائي‪ ،‬وبالتالي وفقا للمبدأ ال فرق بين‬
‫الشخص المسؤول وغير المسؤول‪ ،‬فالشخص الذي توفر لديه مانع من موانع المسؤولية إذا ما أتى هذا الفعل فوفقا لمبدأ‬
‫الشرعية قد أتى جريمة‪ ،‬ما دامت تصرفاته تخالف النصوص الجنائية‪ ،‬وال أحد بمقدوره القول غير ذلك‪ ،‬كون موانع‬
‫المسؤولية في حقيقة األمر ال تمنح الحق لهؤالء بمخالفة قانون الجماعة الذي ارتضته لنفسها‪ ،‬وبالتالي ال تأثر لموانع‬
‫المسؤولية من كونها تصرفات مجرمة‪ ،‬أو أفعال تشكل جرائم‪ ،‬فتعليق المسائلة يتعلق بالشخص ال الفعل وبمن توفر لديه‬
‫السبب دون غيره ممن ساهم معه في ارتكاب الجريمة ما لم يكن يتوفر لديه ذات المانع‪ .‬ويرى البعض أن دراسة موانع‬
‫المسؤولية الجنائية‪ ،‬يبرز فكرتين رئيسيتين‪ ،‬هما الشعور واإلرادة‪ ،‬فالشعور اآلثم واإلرادة اآلثمة هما أساسا المسؤولية‬
‫الجنائية‪ ،‬وكلما انتفى اإلثم عنهما انتفت المسؤولية الجنائية‪ ،‬وذلك ال يعني أنه هناك سببين لمنع المسؤولية الجنائية‪،‬‬
‫وإنما هم ا فكرة واحدة‪.‬وعلى ذلك‪ ،‬فكرة الجريمة مستقلة عن فكرة المسؤولية الجنائية‪ ،‬غير أن ذلك ال يعني االستقالل‬
‫التام بينهما‪ ،‬فالمسؤولية الجنائية ال يمكن أن تستمد وجودها إال من خالل الجريمة‪ ،‬فبدون الجريمة ال يمكن تصور من‬
‫هم مسؤولين عنها‪ ،‬غير أنه باإلضافة لوجود الجريمة‪ ،‬تقتضي المسؤولية الجنائية زيادة عن ذلك وجود فكرة الخطأ‪ ،‬وإذ‬
‫قلنا الخطأ‪ ،‬فذلك يعني بالضرورة حرية اإلرادة‪ ،‬واختيار ارتكاب الجريمة سواء تعمدا أو بغير عمد‪ ،‬وعموما أن يكون‬
‫الشخص في موضوع نفسي يسمح له بالحكم على تصرفاته‪ ،‬فالمشرع ال يولي قيمة قانونية إال للتصرفات التي يأتيها من‬
‫بإمكانه تقييم تصرفاته‪.‬‬
‫لذا فموانع المسؤولية أسباب أو أحوال أو أمور تعترض سبيل المسؤولية الجنائية فتخفف منها‬
‫أو تعدل مسارها أو تعدمها كلية‪ ،‬ومنها ما هو طبعي كصغر السن‪ ،‬وبعضها عارض أو مؤقت مثل الجنون وعاهة العقل‬
‫واإلكراه المعنوي وحالة الضرورة – في بعض القوانين‪ ،-‬وهي موانع شخصية على خالف أسباب اإلباحة‪ ،‬وأنها ال‬

‫]‪[193‬‬
‫تزيل الصفة التجريمية عن الفعل لذا فهي تمنع توقيع العقوبة فقط دون التدابير االحترازية وقيام المسؤولية المدنية‪،‬‬
‫عكس أسباب اإلباحة‪ ،‬غير أنها قريبة جدا من موانع العقاب‪ ،‬كون هذه األخيرة بدورها شخصية‪ ،‬غير أن وجه للخالف‬
‫أن موانع العقاب ال تمحي الجريمة وال تستبعد المسؤولية الجنائية عنها‪ ،‬بل تستبعد العقاب فقط‪ ،‬وذلك لتوفر بعض‬
‫االعتبارات االجتماعية التي يقدر معها المشرع إعفاء الشخص من العقاب خير من توقيعه عليه‪.‬‬
‫ويذهب رأي في الفقه أن موانع المسؤولية الجنائية لم ترد في قانون العقوبات على سبيل الحصر‪ ،‬فهي وردت‬
‫على سبيل المثال لذا يمكن أن تستوعب كل ما يسفر عنه العلم أو الواقع العملي من أسباب أخرى‪ ،‬على عكس اتجاه‬
‫فقهي آخر يرى أن موانع المسؤولية وردت في قانون العقوبات على سبيل الحصر‪ ،‬وأن كل ما في األمر أنها تقبل‬
‫التفسير الواسع والقياس على عكس مسائل التجريم والعقاب‪.‬‬

‫]‪[194‬‬
‫المبحث األول‬
‫موانع المسؤولية الناشئة عن انعدام الوعي‬

‫م ن الموانع التي تمنع المسؤولية الجنائية من القيام قانونا‪ ،‬وتتعلق بانعدام الوعي لدى الشخص الذي‬
‫يتجرد من ملكتي الوعي واإلدراك‪ ،‬وبالتالي من القدرة على فهم داللة أفعاله وإدراك أبعادها القانونية‪ ،‬هما مانعين‬
‫أساسيين‪ ،‬الجنون وصغر السن‪ ،‬وهناك من التشريعات تضيف مانع ثالث يتعلق بالغيبوبة الناشئة عن السكر‬
‫االضطراري‪ .‬وسنتناول كل مانع من هذه الموانع في مطلب مستقل‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫صغر السن كمانع للمسؤولية الجنائية‬
‫سبق القول أن قوام المسؤولية الجنائية يتمثل في الوعي واإلدراك‪ ،‬أي قدرة الشخص على فهم حقيقة‬
‫أفعاله وتمييز ما هو مباح وما هو محظور منها‪ ،‬وذلك بالضرورة ال يمتلكه الشخص دفعة واحدة وال أن يولد معه‪ ،‬بل‬
‫تنمو هذه الملكة بنمو الشخص وتقدمه في السن‪ ،‬فالشخص يولد منعدم الوعي واإلدراك ويبقى كذلك في السنوات األولى‬
‫من عمره‪ ،‬والمسماة بمرحلة الطفولة‪ ،‬لتبدأ هذه الملكة في النمو لديه شيئا فشيء مع تقدم السنين‪ ،‬غير أنها تبقى منقوصة‬
‫في مرحلة الطفولة المنقوصة ومرحلة المراهقة‪ ،‬وهي المسألة التي تراعيها التشريعات الجنائية في خطابها لألشخاص‪،‬‬
‫فهي ال تحاسب األطفال عن أخطائهم الجنائية مثلما تحاسب البالغين‪ ،‬بل أن مسؤولية الطفل أو الصبي غير المميز‬
‫تتدرج بحسب المرحلة السنية التي يمر بهـــا]‪.[14‬‬
‫الفرع األول‬
‫علة عدم مسائلة الحدث‬
‫صغر السن من األسباب المتعلقة بفقدان التمييز‪ ،‬شأنه شأن الجنون والسكر‪ ،‬باعتبار الصغير ال يعقل كنه الفعل‬
‫أو الترك‪ ،‬إذ ليس بمقدوره أن يتخذ موقفا عقالنيا يعتد به القانون ويحاسبه أو يعاقبه عليه‪ ،‬حيث ينظر الصغير لقيم‬
‫المجتمع نظرة مادية غريزية تدنو من الغرائز الحيوانية‪ ،‬والمشرع ال يخاطب الحيوانات‪ ،‬كون مثل هذه القيم تكتسب‬
‫بالتدرج في الضمير اإلنساني لغاية اكتمال النمو العقلي والنفسي‪ ،‬غير أن مثل هذه السن لم يقع عليها اتفاق الفقه‬
‫الحديث‪ ،‬وإن كانت فكرة معاملة األحداث معاملة متميزة قد بدت منذ القدم‪ ،‬ونجد إميل غارسون قد نادى بإخراج‬
‫األحداث من قانون العقوبات‪ ،‬وذلك منذ بداية القرن العشرين‪ ،‬وفعال خرج األحداث من نطاق قانون العقوبات فعال من‬
‫سنة ‪ 1945‬وحذت الكثير من الدول العربية حذو ذلك‪ ،‬حيث يخضع األحداث إلى إجراءات تربوية وإصالحية وحماية‬
‫ومراقبة‪ ،‬مما يبعد فكرة المسؤولية الجنائية عن األحداث‪ ،‬غير أن تقسيم مراحل السن للحدث ال يزال يثير الخالف‬
‫ويطرح اإلشكاليات‪.‬‬
‫وتختلف التشريعات العقابية الوضعية في تحديدها السن التي يعد فيها الشخص قد بلغ سن الرشد‬
‫الجنائي‪ ،‬وبالتالي مسؤول جنائيا‪ ،‬وذلك باختالف السياسة الجنائية التي نتهجها كل دولة‪ ،‬إال أن غالبية التشريعات تعتبر‬
‫الطفل ما دون سن السابعة منعدم التمييز وبالتالي تنعدم مسؤوليته الجنائية عن كل األفعال المحظورة التي يأتيها]‪،[15‬‬
‫وهي السن التي تمتد في قوانين أخرى لحد سن الثانية عشر وحتى سن الخامسة عشر في قوانين أخرى‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫موقف المشرع الجزائري‬
‫قضت المادة ‪ 49‬من تقنين العقوبات الجزائري على أنه‪ ": :‬ال توقع على القاصر الذي لم يكمل الثالثة‬
‫عشر إال تدابير الحماية أو التربية‪.‬ومع ذلك فإنه في مواد المخالفات ال يكون محال إال للتوبيخ‪ .‬ويخضع القاصر الذي‬
‫يبلغ سنه من ‪ 13‬إلى ‪ 18‬إما لتدابير الحماية أو التربية أو لعقوبات مخففة‪ .".‬وباستقراء هذا النص‪ ،‬نجد المشرع‬
‫الجزائري قد قسم المراحل السنية إلى ثالثة مراحل‪ ،‬وتبعا لها تتدرج المسؤولية الجنائية للشخص‪ ،‬المرحلة األولى وهي‬
‫مرحلة ما دون سن الثالثة عشر‪ ،‬والمرحلة الثانية الممتدة من ‪ 13‬حتى ‪ ،18‬ومرحلة المسؤولية الكاملة ما بعد ‪ 18‬سنة‪.‬‬

‫]‪[195‬‬
‫أوال‪ :‬المرحلة األولى‪ :‬ما دون ال ‪ 13‬سنة (مرحلة انعدام المسؤولية )‬
‫و في هذه المرحلة تكون أهلية الشخص قانونا منعدمة تماما‪ ،‬وهي المرحلة التي ال يكون فيها الشخص‬
‫مسؤول إطالقا‪ ،‬والعبرة في تحديد السن هي بيوم ارتكاب الجريمة حتى ولو كان الشخص يوم المحاكمة قد فاق هذه‬
‫السن‪ ،‬وهو ما حددته المادة ‪ 443‬من قانون اإلجراءات الجنائية الجزائري‪ ،‬غير أن انعدام مسؤولية الصبي في هذه‬
‫الفترة ال يمنع من إخضاعه لتدابير الحماية أو التربية التي ترمي لحماية الحدث ال لعقابه‪ .‬وذلك ال يعني أن مسؤوليته‬
‫مخ ففة‪ ،‬بل هي مسؤولية جنائية منعدمة‪ ،‬وتدابير الحماية والتربية مقررة لمصلحته خارج المؤسسات العقابية‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬المرحلة الثانية‪ :‬المرحلة بين ‪(18-13‬المسؤولية الجنائية المخففة ( الناقصة))‬
‫المرحلة الممتدة بين سن الثالثة عشرة والثامنة عشرة‪ ،‬تكون فيها أهلية الشخص ناقصة وتبعا لذلك تكون‬
‫مسؤوليته الجنائية مخففة‪ ،‬وفي هذه المرحلة التي يعد فيها الشص حدثا تطبق عليه إما تدابير الحماية والتربية شأنه شأن‬
‫الصبي غير المميز‪ ،‬أو تطبيق بعض العقوبات المخففة المنصوص عليها ضمن المادة ‪ 50‬من تقنين العقوبات‬
‫الجزائري‪ ،‬التي قضت أنه‪ ": :‬إذا قضي بأن يخضع القاصر الذي يبلغ سنه من ‪ 13‬إلى ‪ 18‬لحكم جزائي فإن العقوبة‬
‫التي تصدر عليه تكون كاآلتي‪-1 :‬إذا كانت العقوبة التي تفرض عليه هي اإلعدام أو السجن المؤبد فإنه يحكم عليه‬
‫وإذا كانت العقوبة هي السجن أو الحبس المؤقت فإنه يحكم‬ ‫بعقوبة الحبس من عشر سنوات إلى عشرين سنة‪-2 .‬‬
‫عليه بالحبس لمدة تساوي نصف المدة التي كان يتعين الحكم عليه بها إذا كان بالغا‪ .".‬كما أضافت المادة ‪ ":51‬في مواد‬
‫المخالفات يقضى على القاصر الذي يبلغ سنه من ‪ 13‬إلى ‪ 18‬إما بالتوبيخ وإما بعقوبة غرامة‪".‬‬
‫ثالثا‪ :‬المرحلة الثالثة‪ :‬مرحلة البلوغ(المسؤولية الجنائية الكاملة)‬
‫مرحلة بلوغ الشخص وفقا لقانون العقوبات الجزائري هي ببلوغه سن الثامنة عشر سنة حسب المادتين‬
‫‪ 49‬من تقنين العقوبات الجزائري وكذا نص المادة ‪ 442‬من تقنين اإلجراءات الجزائية الجزائري‪ ،‬وببلوغ الشخص هذه‬
‫المرحلة السية يكون مسؤول مسؤولية جنائية كاملة‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫الجنون كمانع للمسؤولية الجنائية‬
‫الجنون هو فقدان الشخص لملكاته العقلية على نحو يجرده من الوعي واإلدراك‪ ،‬وكذا القوة على‬
‫التمييز‪ ،‬وقد نصت المادة ‪ 47‬من تقنين العقوبات الجزائري‪ ،‬على أنه‪ ": ":‬ال عقوبة على من كان في حالة جنون وقت‬
‫ارتكاب الجريمة وذلك دون اإلخالل بأحكام الفقرة ‪ 2‬من المادة ‪.[17]".[16] 21‬وبالتالي المشرع اعتبر الجنون أو‬
‫عاهة العقل مانعا من موانع المسؤولية الجنائية‪ ،‬بالنظر لما يرتبه من فقدان للشعور والتمييز واإلرادة‪ ،‬غير أن الجنون‬
‫وإن كان يحول دون مسائلة الشخص بتوقيع العقوبات عليه‪ ،‬فإنه ال يحول دون إنزال التدبير االحترازية عليه باعتباره‬
‫ينطوي على خطورة إجرامية‪ ،‬وبذلك في العادة ما يوضع في المصحات العقلية أو النفسية‪ .‬وسنتناول تفصيل حكم هذا‬
‫المانع‪ ،‬في فرع‪ ،‬لنخصص الثاني لشروط االستفادة منه‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫حكم الجنون وعاهة العقل‬
‫وهو مانع نصت عليه أيضا المادة ‪ 62‬من تقنين العقوبات المصري‪ ،‬والمادة ‪ 1-122‬من تقنين العقوبات‬
‫الفرنسي على أنه ‪ ":‬ال يسأل جنائيا من كان وقت ارتكاب الفعل مصابا بمرض عقلي أو عصبي أو عدم تمييزه أو القدرة‬
‫على التحكم في أفعاله "‪ .‬ونص على الجنون في القانون اللبناني المادتان ‪ 231‬و‪ 232‬من قانون العقوبات‪ ،‬حيث نصت‬
‫األولى على أنه‪ ":‬يعفى من العقاب من كان في حالة جنون أفقدته الوعي واإلرادة"‪ ،‬ما يالحظ على النص وإن كان‬
‫أقامها على أساس فقد الوعي واإلرادة التي تقوم عليهما المسؤولية الجنائية إال أنه أسبق المادة بعبارة " ال عقاب " مما‬
‫قد يفهم منه أن الجنون مانع من موانع العقاب ال مانع من موانع المسؤولية‪ ،‬ولم يبن كل هؤالء المشرعين وال المشرع‬
‫الجزائري مدلوال محددا للجنون أو عاهة العقل‪ ،‬لذا يرى غالبية الفقه‪ ،‬أنه في قانون العقوبات‪ ،‬يقصد بالجنون‪،‬‬
‫االضطراب الحاصل في القوى الع قلية للشخص بعد تمام نموها بما يؤدي إلى فقد القدرة على التمييز واإلدراك‪ ،‬وقد‬
‫يكون الجنون نتيجة مرض يصيب المخ أو ناتج عن شيخوخة طاعنة في بعض الحاالت‪ ،‬كما يمكن أن يكون الجنون‬

‫]‪[196‬‬
‫مطبقا إذا أصاب كل الملكات الذهنية للشخص‪ ،‬وهنا يفقد األهلية ويمنع قيام المسؤولية‪ ،‬وقد يكون متقطعا يأخذ صورة‬
‫نوبات تتخللها فترات إفاقة‪ ،‬وهنا ال يرتب أثره إال إذا ارتكبت الجريمة أثناء إحدى نوبات الجنون دون نوبات‬
‫اإلفاقة]‪.[18‬‬
‫والجنون بمعناه العام‪ ،‬يشمل حالة العته أو البله أو الضعف العقلي وهي الحالة التي تصاحب الشخص‬
‫منذ والدته وتفيد وقوف ملكاته العقلية أو الذهنية دون مستوى النضج الطبيعي‪ ،‬بمعنى يجب النظر لفكرة الجنون كمانع‬
‫من موانع المسؤولية ليس بمعناه القانوني أو بمعناه الطبي الدقيق‪ ،‬بل يجب أن يمتد ليغطي كل الحاالت المرضية التي‬
‫من شأنها أن تؤدي إلى فقد الوعي أو اإلرادة‪ ،‬سواء وصفت بالجنون أو وصفت بغير ذلك‪ ،‬بما يجعله يشمل كل من‬
‫األمراض العقلية والعصبية والنفسية التي تؤثر في المخ فتفقده الوعي واإلرادة المعاصر الرتكاب الجريمة‪ .‬لذا نجد بأنه‬
‫عرف‪ ،‬بأنه فقدان الشخص لملكاته العقلية على نحو يترتب عليه تجرده من الوعي والقدرة على التمييز‪ ،‬وإن كان يؤدي‬
‫إلى امتناع المسؤولية فهو ال يمنع من اعتباره خطرا إجراميا ال يحول دون توقيع التدابير االحترازية كاإليداع في‬
‫مصحة عقلية‪ .‬وقد أخذ حكم المجنون الشخص المصاب بالبارنوياك ‪ Baranoiaque‬وهو الشخص الذي تأتيه نوبات‬
‫هذيان وشك وريبة‪ ،‬فهنا قد يضطر حد قتل من يضطره‪ ،‬ويسمى جنون ‪ Manie‬أو هذيان االضطهاد غير أنه مسؤول‬
‫مثال عن السرقة إذ ال عالقة لها بمثل هذا االضطهاد]‪.[19‬‬
‫غ ير أن أنصار المدرسة الوضعية اإليطالية كانت لههم نظرة أخرى‪ ،‬فاعتبروا المجنون مسؤول جنائيا‬
‫وال يمكن أن يخرج عن نطاق القانون الجنائي‪ ،‬حيث أن مسؤوليته اجتماعية أساسها الخطورة اإلجرامية الكامنة لديه‪،‬‬
‫وبالتالي يجب توقيع التدابير االحترازية عليه وذلك بوضعه في المصحات العقلية حتى يشفى من نونه وتزول خطورته‬
‫اإلجرامية‪ ،‬ورغم أن التشريعات الحالية تميل لالتجاه التقليدي‪ ،‬المتمثل في بناء المسؤولية الجنائية على حرية االختيار‪،‬‬
‫ومن ثم ال يمكن مسائلة المجنون جنائيا النعدام هذه الحرية لديه‪ ،‬وإن كانت تأخذ بفكرة التدابير االحترازية بخصوص‬
‫المجنون وهو ما يعني األخذ أيضا بأفكار المدرسة الوضعية‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫الشروط الواجب توفرها المتناع المسؤولية بسبب الجنون‬
‫حت ى يعد الجنون مانعا من موانع المسؤولية الجنائية‪ ،‬يجب أن تتوفر فيه ثالثة شروط أساسية‪ ،‬هي‪:‬‬
‫‪ -1‬إصابة المتهم فعال بجنون أو عاهة عقلية‪ -2.‬فقد الشعور أو االختيار بخصوص العمل الذي سلكه‬
‫الشخص‪ -3.‬م عاصرة الجنون أو العاهة العقلية لوقت ارتكب الجريمة‪ .‬وهو ما نتناول تفصيله في النقاط الثالث التالية‪.‬‬
‫أوال‪ :‬إصابة المتهم بجنون أو عاهة عقلية‬
‫الجنون من وجهة النظر القانونية‪ ،‬يشمل كافة صور اضطراب القوى الذهنية لدى الشخص‪ ،‬األمر الذي‬
‫يفقده التمييز وحرية االختيار‪ ،‬لذا نجد القاضي الجزائي ال يتقيد بالمعنى الطبي الدقيق للجنون‪ ،‬بل يكفيه أن يتأكد من أن‬
‫أثر العاهة العقلية أفقدت الشخص التمييز أو حرية االختيار لحظة ارتكابه الجريمة‪ ،‬سواء كان ذلك راجعا لمرض‬
‫يصيب المخ‪ ،‬وهو الجنون في معناه الطبي]‪ ،[20‬أو خلل يصيب الجهاز العصبي للشخص‪ ،‬أو أي اضطراب في الصحة‬
‫النفسية له‪ ،‬لكن يستبعد من مدلول الجنون كل صور االختالالت واالضطرابات النفسية‪ ،‬كحاالت الشخصية السيكوباتية‬
‫التي تسيطر على الشخص فتجعله في عداء مستمر مع المجتمع‪ ،‬وكذا حاالت االنفعال الشديد أو حاالت ثورة العاطفة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬فقد الشعور أو القدرة على االختيار‬
‫إن لم يؤدي الجنون أو عاهة العقل إلى إفقاد الشخص لشعوره وقدرة اختياره‪ ،‬فال يعد مانعا من موانع‬
‫المسؤولية‪ ،‬وال يقصد بفقد الشعور واالختيار زوالهما زواال تاما‪ ،‬بل يكفي إضعافهما أو االنتقاص منهما إلى حد التأثير‬
‫على إرادة الجاني‪ ،‬وهي مسألة موضوعية متروكة لتقدير قضاة الموضوع دون معقب عليهم من محكمة النقض‪،‬‬
‫وللقاضي في ذلك حق االستعانة بالخبرة الطبية والنفسية‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬معاصرة الجنون لوقت ارتكاب الجريمة‬
‫حتى يعد الجنون أو العاهة العقلية مانعا من موانع المسؤولية‪ ،‬يجب أن يكون معاصرا لوقت ارتكاب‬
‫الجريمة‪ ،‬أي أن يعتري الشخص لحظة ارتكابه الجريمة ( وبالضبط ارتكاب ركنها المادي)‪ ،‬فال عبرة قانونا بالجنون‬
‫السابق لهذه اللحظة‪ ،‬إذا كان الشخص قد عفي منه وقت ارتكابه الجريمة‪ ،‬وال عبرة أيضا بالجنون‬

‫]‪[197‬‬
‫أو العاهة العقلية التي تطرأ على الشخص بعد ارتكابه الجريمة‪ ،‬بحيث في هذه الحالة يعد سببا يحول دون مواصلة‬
‫إج راءات الدعوى أو امتناع توقيع العقوبة عليه‪ ،‬بحيث إن اعترى الشخص جنون بعد ارتكاب الجريمة وقبل إجراءات‬
‫المحاكمة فإن ذلك يعد حائال يحول دون محاكمته‪ ،‬وإن اعتراه الجنون وقت المحاكمة توقفت إجراءاتها‪ ،‬وإن طرأ بعد‬
‫المحاكمة وصدور الحكم‪ ،‬فإنه يوقف فقط تنفيذ العقوبة لغاية شفائه إن كان جنونا من النوع الذي يشفى‪ .‬غير أنه وفقا‬
‫للقانون الجزائري وتطبيقا للمادة ‪ 21‬من تقنين العقوبات فإنه تنزل به التدابير االحترازية المتمثلة في مؤسسة استشفائية‬
‫لألمراض العقلية]‪.[21‬‬
‫وباستجماع المرض أو العاهة العقلية للشروط الثالثة السابقة‪ ،‬يصبح مانعا من موانع المسؤولية‬
‫الجنائية‪ ،‬يمنع توقيع العقوبة على المصاب به‪ ،‬وهو من الموانع الشخصية التي على غرار موانع المسؤولية كلها ال‬
‫يستفيد منه إال من توفر في حقه‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫موانع المسؤولية الناشئة عن انعدام اإلرادة‬

‫إن امتناع المسؤولية الجنائية – يسميها البعض عوارض المسؤولية‪ -‬ال يشترط أن يكون ماسا بالوعي‬
‫والتمييز فقط‪ ،‬وذلك بأن ينعدما‪ ،‬بل قد يكون اإلنسان مميزا وعاقال وواعيا لحقيقة ودالالت فعله‪ ،‬لكنه قد يكون متجرد‬
‫من إرادته كلية كما في حالة اإلكراه المادي‪ ،‬وقد ينتقص منها فقط على نحو يجعلها إرادة معيبة غير حرة‪ ،‬مثلما هو‬

‫]‪[198‬‬
‫األمر بالنسبة لإلكراه المعنوي وحالة الضرورة‪ -‬في القوانين التي تجعل منها سببا من أسباب اإلباحة‪ -‬وكذا الغيبوبة‬
‫الناشئة عن التخدير أو السكر االضطراري في بعض الدول‪ ،‬لذا سنتناول هذا المبحث من خالل مطلبين‪ ،‬نتناول فيهما‬
‫فقط حالة اإلكراه بنوعيه‪ ،‬وكذا حالة الغيبوبة الناشئة عن السكر‪ ،‬دون حالة الضرورة التي تناولناها في مجال أسباب‬
‫اإلباحة‪ ،‬وأنه يشترط فيها ذات الشروط التي سبق تناولها حتى ولو كانت مانعا من موانع المسؤولية‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫اإلكــــــــــراه‬
‫اإلكراه نوعان‪ ،‬إكراه مادي وهو الذي تنعدم فيه إرادة الشخص كلية‪ ،‬ومثاله أن يمسك شخص بيد‬
‫شخص آخر ويجبره على التوقيع على محرر مزور‪ ،‬أو على شيك بدون رصيد‪ ،‬وهو نوع من اإلكراه يعدم اإلرادة‬
‫كلية‪ ،‬وفي هذه الحالة ال يسأل الشخص عن جرائمه‪ .‬وهناك إكراه معنوي‪ ،‬وهو إكراه ال يعدم اإلرادة تماما‪ ،‬وإنما‬
‫يجردها فقط من حريتها‪ ،‬كالتهديد بإنزال األذى بشخص إن لم يرتكب جريمة ما‪ ،‬واإلكراه كمانع من موانع المسؤولية‬
‫تضمنته المادة ‪ 48‬من تقنين العقوبات الجزائري]‪.[22‬وسنحاول أن نتناول نوعا اإلكراه وأنواعه‪ ،‬قبل أن نتناول‬
‫الشروط المتطلبة فيه حتى يكون مانعا من موانع المسؤولية‪.‬‬
‫الفرع األول‬
‫نوعـــــــا اإلكراه‬
‫هناك نوعين لإلكراه‪ ،‬إكراه مادي أين تنعدم إرادة الفاعل في حقيقة األمر وال يكون لها وجود‪ ،‬ويلحق‬
‫باإلكراه المادي حالة القوة القاهرة والحادث الفجائي‪ ،‬وبين اإلكراه المعنوي أين تبقى اإلرادة لكن مجال االختيار أمامها‬
‫يكون ضيقا إلى أبعد الحدود‪ .‬أو هو وجود الشخص في وضع ال يمكن معه إال ارتكاب الجريمة‪ ،‬والمشرع الفرنسي في‬
‫نص المادة ‪ 64‬لما عالج مسألة اإلكراه والجنون عالجها بطريقة توحي انه يعتبرهما من أسباب اإلباحة حيث يشرع في‬
‫المادة بالنص‪ ":‬ال جناية وال جنحة"‪ .‬واإلكراه في معناه العام‪ ،‬هو حمل الغير على إتيان ما يكره‪ ،‬وفي المجال الجنائي‬
‫هو حمل الشخص على إتيان جريمة‪ ،‬سواء كانت في صورة فعل أو امتناع‪ ،‬وهو كما سبق على نوعين‪ ،‬مادي وهو ما‬
‫يقع في الغالب على جسم الغير ويعطل دائما إرادته‪ ،‬وأما المعنوي أو األدبي فينصب على معنويات الغير ويحد كثيرا‬
‫من حرية االختيار‪ ،‬واختالف النوعين في الطبيعة يترتب عليه بالضرورة اختالف في الحكم القانوني‪ ،‬ويرى البعض أن‬
‫األول يعد مانع من قيام الجريمة والثاني مانع من موانع العقاب‪.‬‬
‫أوال‪ :‬اإلكـــراه المــادي(‪)La contrainte physique‬‬
‫ا إلكراه المادي هو أن يحمل الجاني بالقوة المادية التي يكون مصدرها فعل اإلنسان على إتيان الفعل أو‬
‫االمتناع المكون للجريمة‪ ،‬أي دفع الشخص باستعمال قوة مادية ليس بمقدوره دفعها‪ ،‬كحجز الشاهد حتى ال يشهد في‬
‫المحكمة بالجريمة المستدعى لإلدالء بشهادته فيها‪ ،‬ومن يباشر اإلكراه المادي في حقيقة األمر يباشر سلب إلرادة من‬
‫وقع عليه اإلكراه فيحمله على إتيان عمل أو االمتناع عن القيام بعمل‪ .‬ومن غير العدل والمنطق معاقبة الشخص أو‬
‫مسائلته عن فعل لم يكن إلرادته دور في ارتكابه‪ ،‬غير أن كالهما يعد مرتكبا للجريمة كفاعل أصلي للجريمة‪ ،‬غير أن‬
‫أحدهما مسؤول عنها واآلخر غير مسؤول عنها‪ ،‬كوننا نتكلم عن مانع من موانع المسؤولية‪ ،‬مما يعني أن الجريمة أمر‬
‫وقوعها ثابت‪ ،‬وعرف اإلكراه المادي‪ ،‬بأنه قوة مادية تشل اإلرادة وتعدمها بصفة عارضة أو مؤقتة وتفقد اإلنسان‬
‫سيطرته على أعضاء جسمه وقد تدفعه إلى ارتكاب ماديات إجرامية‪ ،‬أو هي قوة مادية تفرض على اإلنسان عمل ما ال‬
‫يجب عليه أن يعمله‪ ،‬أو تمنعه من عمل ما يجب عليه عمله‪ ،‬وقد يكون مصدر تلك القوة خارجي‪ ،‬كقوة الطبيعة أو‬
‫الحيوان أو اإلنسان‪ ،‬وهو الغالب‪ ،‬وقد يكون مصدرها داخليا‪ ،‬كان يصاب الشخص بشلل مفاجئ فيسقط على طفل‬
‫فيقتله‪ ،‬أو يأخذ النوم إنسان في قطار فيتجاوز المسافة التي ألجلها دفع أجرة القطار‪ ..‬والقاعدة أن من يسأل في حالة‬
‫اإلكراه المادي هو الشخص المكره ال الذي وقع عليه اإلكراه‪ ،‬كون قصده الجنائي في مثل هذه الحالة يكون قد انتفى‪ ،‬بل‬
‫أن الركن المادي في حقيقته لم يقم به الشخص الذي وقع عليه اإلكراه بل من مارس هذا اإلكراه‪ .‬ويشترط لكي يرتب‬
‫اإلكراه أثره أن تكون القوة التي تعرض لها المكره قوة غير متوقعة وغير مستطاع مقاومتها‪ ،‬وإال عد المكره مرتكبا‬
‫لجريمة غير عمدية‪ .‬األمر الذي يتطلب منا تناول القوة القاهرة والحادث الفجائي في النقطتين التاليتين‪.‬‬
‫‪ -1‬القوة القاهرة ‪la force majeur‬‬

‫]‪[199‬‬
‫القوة القاهرة في هذا المقام تلحق في حكمها باإلكراه المادي حسب البعض ‪ -‬نحن نرى أنها حالة‬
‫الضرورة وليست إكراها ماديا ‪ -‬كون الجاني في كلتا الحالتين ال يأتي نشاطا إراديا غير أنه في حالة اإلكراه سلب‬
‫اإلرادة يكون بفعل نشاط إنساني‪ ،‬بينما في حالة القوة القاهرة يكون بفعل قوى الطبيعة أو فعل الحيوان‪ ،‬ويضيف البعض‬
‫حتى حالة فعل الشخص الغير مسؤول جنائيا‪ ،‬كما أن الفرق الجوهري هو أنه في حالة اإلكراه المادي يكون هناك فاعل‬
‫ألي للجريمة وهو من مارس اإلكراه‪ ،‬بينما في حالة القوة القاهرة ال يكون أمامنا مسؤول‪ ،‬غير أنهما يشتركان في‬
‫الشروط بحيث كالهما يشترط عدم إمكان التوقع ‪ imprévisible‬وأال يكون بإمكان الشخص مقاومة هذه‬
‫القوة‪ ،irrésistible .‬وإن انعدم أحد هذين الشرطين سؤل الشخص بحسب األحوال عن جريمة عمدية أو غير عمدية‬
‫فمن يركب حيوان يعلم أنه جامح وصعب المراس ويتعمد ذلك ويحدث بذلك أضرارا للغير‪ ،‬أو المرأة المتزوجة التي‬
‫كان بإمكانها مقاومة مغتصبها ولم تفعل تكون قد ارتكبت جريمة الزنا‪.‬‬
‫‪ -2‬الحادث الفجائي ‪cas fortuit‬‬
‫الحادث الفجائي قوة غير متوقعة تنشأ عن فعل اإلنسان أو قوى الطبيعة التي ال تترك مجاال أمام‬
‫الشخص ليعمل فيه اختياره‪ ،‬كدفع طفل أمام سائق سيارة كان متبعا كافة التعليمات القانونية أو سائق السيارة الذي‬
‫يصاب بعمي ألوان مفاجئ فيدهس شخصا كان مارا أمامه بالطريق‪ ،‬وهو بذلك شأنه شأن القوة القاهرة ال يكون أحدا‬
‫مسؤوال عنه‪ ،‬غير أنه خالفا لحالتي اإلكراه المادي والقوة القاهرة هنا الشخص يمارس نوعا من النشاط لكنه نشاط‬
‫مشروع غير مجرم وال ينطوي على خطأ‪ ،‬ويشترط فيه أيضا أال يكون متوقعا وال يمكن مقاومته‪ .‬لذا فشروط اإلكراه‬
‫المادي أن يكون غير متوقع‪ ،‬إذ التوقع أو إمكانية التوقع تمكن الشخص من تجنبه‪ ،‬وأن يكون مستحيل الدفع‪ ،‬ولم يرد أن‬
‫يكون مصدره إنسان‪ ،‬حيث أن هذا االتجاه يرد أسباب اإلكراه المادي إلى عوامل الطبيعة أو الحيوان‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬اإلكـراه المعـــنوي‪La contrainte morale‬‬
‫اإلكراه المعنوي‪ ،‬هو ممارسة ضغط على إرادة اإلنسان لحمله على ارتكاب جريمة معينة‪ ،‬فهو وإن لم يقض‬
‫على وجود اإلرادة نهائيا من الناحية المادية‪ ،‬فهو شل حركتها وأفقدها قوتها على االختيار‪ .‬أو هو ضغط شخص على‬
‫إرادة شخص آخر لحمله على توجيهها إلى سلوك جرمي]‪ .[23‬وهناك من الفقه من يصور حالة اإلكراه المعنوي‬
‫الخارجي ويضيف لها اإلكراه المعنوي الداخلي‪ ،‬المتمثل في حالة االنفعال الشديد والهوى الذي يذهب بقوى الضبط‬
‫والسيطرة لدى الفرد وهي القوى الكابحة‪ ،‬غير أن مثل هذه الحاالت وإن كانت تمنع قوى اإلرادة‪ ،‬إال أن المشرع‬
‫الفرنسي والجزائري لم يأخذا بها‪ ،‬خاصة وان الحقيقة الواعية تؤكد أن غالبية الجرائم هي نتيجة مثل هذه الحاالت‪ ،‬لذا‬
‫فالقانون ال يجعلها مانع من موانع المسؤولية‪ ،‬بل يلقي على اإلنسان عبء مقاومتها]‪ .[24‬وقد يكون مصدر اإلكراه‬
‫المعنوي‪ ،‬تأثير خوف أو من وقوع خطر أو ضرر جسيم على وشك الوقوع وليس باإلمكان اإلفالت منه أو دفعه إال‬
‫بارتكاب الجريمة‪ ،‬كتسليم شخص لوديعة مودعة لديه تحت تأثير التهديد بالقتل مما يحول دون ارتكابه لجريمة خيانة‬
‫األمانة‪ ،‬أو أن تأتي المرأة المتزوجة فعل الزنا تحت التهديد دون أن تكون مرتكبة لجريمة الزنا‪ .‬لذا نجد جانب من الفقه‬
‫يرى أن اإلكراه المعنوي ال يختلف في طبيعته عن اإلكراه المادي‪ ،‬وأن الخالف الوحيد بينهما ينحصر في الوسيلة‬
‫المؤثرة في اإلرادة‪ ،‬بينما جانب آخر ‪ -‬ونؤيده ‪ -‬يرى أنه في اإلكراه المادي حقيقة الركن المادي للجريمة تنسب لمن‬
‫مارس اإلكراه وأن المكره في حقيقته لم يمارس أي ركن مادي‪ ،‬على عكس اإلكراه المعنوي أين نجد الشخص المكره‬
‫من قام بالركن المادي للجريمة‪ .‬بينما هناك من يرى في اإلكراه المعنوي ما هو إال صورة من صور حالة الضرورة ‪.‬‬
‫ويرى البعض أن اإلكراه المعنوي يضغط على اإلرادة إال أنه ال يعدمها‪ ،‬وهو من هذه الناحية يختلف عن القوة القاهرة‬
‫واإلكراه المادي‪ ،‬فا لحقيقة أن المكره معنويا ينتقص لديه االختيار ويظل مميزا ومدركا لماهية أفعاله ونتائجها‪ ،‬فاالختيار‬
‫هو الذي ضيق من مجاله إلى أقصر الحدود‪ ،‬حيث يجد الشخص نفسه أمام خيارين ال ثالث لهما‪ ،‬وهو إما الرضوخ‬
‫لإلكراه وارتكاب الجريمة‪ ،‬وإما يقبل بوقوع الخطر أو التهديد أو الشر أو الضرر الذي هدد به‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫الشروط الواجب تطلبها في اإلكراه كمانع للمسؤولية الجنائية‬

‫]‪[200‬‬
‫حتى يعد اإلكراه مانعا من موانع المسؤولية الجنائية‪ ،‬يجب أن يستجمع شرطين أساسيين بدونهما ال‬
‫تتوفر فيه صفة المانع من المسؤولية‪ ،‬الشرط األول‪ ،‬وهو أن يكون مصدر اإلكراه اإلنسان‪ ،‬وأما الشرط الثاني‪ ،‬فهو أن‬
‫يكون سبب اإلكراه غير متوقع ويستحيل دفعه‪ .‬وهو ما نتناوله في النقطتين التاليتين‪.‬‬
‫أوال‪ :‬أن يكون مصدر اإلكراه إنسان‬
‫حتى يكون اإلكراه مانعا من موانع المسؤولية الجنائية‪ ،‬يجب أن يكون مصدره إنسان‪ ،‬وهو المصدر‬
‫الذي يجعل اإلكراه يتميز عن بعض األفكار القانونية األخرى التي حتى وإن كانت تشترك معه من حيث كونها تمنع قيام‬
‫المسؤوليه إال أن مصدرها غير اإلنسان‪ ،‬كحالة القوة القاهرة التي تعد الطبيعة مصدرا لها كالزالزل والفيضانات‬
‫والعواصف‪ ،‬كما قد يكون مصدرها الحيوان‪ ،‬كحالة جموح دابة‪ ،‬كما قد تتمثل في المرض الذي يصيب اإلنسان أو‬
‫النعاس الذي يعتريه فيرتكب جريمة مدفوعا بذلك‪ ،‬فهي أيضا مانعا للمسؤولية‪ .‬كما يختلف اإلكراه عن الحادث الفجائي‬
‫الذي ال يجرد الشخص من إرادته بل يجرد فعله من عنصر الخطأ‪ ،‬كمن يقود سيارته محترما لقواعد السير وإذا‬
‫بشخص أرعن يعبر الطريق أمامه فجأة في غير المكان المخصص لعبور الراجلين‪ ،‬غير ملتزم بأدنى قواعد التبصر‬
‫واالنتباه فيصدمه ويتسبب ذلك في وفاته‪ ،‬فهنا يعد السائق بصدد حادث فجائي كان سببه خطأ المضرور ذاته وبذلك‬
‫تمتنع مسؤوليته الجنائية‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أن يكون سبب اإلكراه غير متوقع ويستحيل دفعه‬
‫ي جب أن يكون اإلكراه المسلط على الشخص غير متوقع بالنسبة له‪ ،‬حتى يعتد به كمانع من موانع‬
‫المسؤولية الجنائية‪ ،‬وعدم التوقع مسألة موضوعية يستقل بتقديرها قضاة الموضوع تبعا لظروف كل قضية على حدة‪،‬‬
‫هذا من جهة‪ .‬ومن جهة ثانية‪ ،‬يجب أن يكون دفع هذا اإلكراه من قبل الشخص المكره مستحيال‪ ،‬فإن كان يمكن دفعه‬
‫يمتنع الزعم بأنه أعدم إرادة الشخص‪ ،‬فال يمكن لشاب قوي البنية مثال أن يحتج باإلكراه المسلط عليه من قبل صبي‬
‫صغير محدود القدرات‪ .‬هذا ويضيف البعض‪ ،‬أال يكون للجاني يد في حصول هذا اإلكراه‪ ،‬وفي حقيقة األمر شرط عدم‬
‫التوقع يغني عنه‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫الغيبوبة الناشئة عن السكر االضطراري‬
‫الغيبوبة كمانع من موانع المسؤولية أخذت به العديد من التشريعات الجنائية‪ ،‬غير أننا سنركز على القانون‬
‫المصري ونعطيه كنموذج‪ ،‬مع مقارنته أحيانا مع القانون اللبناني‪ ،‬على اعتبار ن األول مصدر للثاني‪ ،‬وفي هذا القانون‬
‫نصت المادة ‪ 62‬على حالة الغيبوبة بنصها ‪ " :‬ال عقاب على من يكون فاقد الشعور‬
‫أ و االختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل‪ ....‬لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيا كان نوعها إذا أخذها قهرا عنه أو‬
‫على غير علم منه بها"‪ ،‬ويستفاد من هذا النص بمفهوم المخالفة استبعاد حالة تناول هذه العقاقير‬
‫أو المواد المخدرة بإرادة الشخص‪ ،‬حيث المادة اشترطت تناولها قهرا أو بغير علم من الشخص ‪.‬ومن شروط تطبيق هذه‬
‫الحالة هو أن يؤدي تناول هذه العقاقير إلى فقد الشعور وقت ارتكاب الجريمة مع تناولها قهرا‬
‫أو عن غير علم بحقيقة هذه العقاقير‪ .‬وبينت المادة ‪ 235‬من قانون العقوبات اللبناني ذلك بالنص ‪ ":‬يعفى من العقوبة‬
‫من كان حين اقتراف الفعل بسبب طارئ أو قوة قاهرة في حالة تسمم ناتجة عن الكحول أو المخدرات أفقدته الوعي أو‬
‫اإلرادة‪ .‬وإذا نتج التسمم عن خطأ الفاعل كان هذا مسؤوال عن كل جريمة غير مقصودة ارتكبها‪ .‬ويكون مسؤوال عن‬
‫الجريمة المقصودة إذا توقع حين أوجد نفسه في تلك الحالة بسبب خطأه إمكان اقترافه أعماال إجرامية‪ .‬وإذا وجد نفسه‬
‫في تلك الحالة قصدا بغية ارتكـــاب الجريمة شددت عقوبته وفقا للمادة ‪."257‬‬
‫الفرع األول‬
‫المقصود بالسكر أو التسمم‬
‫يقصد بالسكر أو التسمم كمانع من موانع المسؤولية‪ ،‬الحالة التي يفقد فيها الشخص الوعي واإلرادة‬
‫بصفة مؤقتة وعارضة على إثر تعاطيه لكمية من سائل مسكر أو مادة مخدرة كافية إلحداث هذا األثر‪ .‬أما الكحول‬
‫والمخدرات‪ ،‬فيقصد بها كل المواد الكحولية أيا كانت تسميتها أو نوعها‪ ،‬وأيا كانت نوعية أو شكل المواد المخدرة دون‬
‫التقيد بالجدول المبين ب قانون المخدرات‪ ،‬كما يستوي الوسيلة التي يتعاطى بها الشخص الكحول أو المخدرات‪ ،‬سواء كان‬

‫]‪[201‬‬
‫ذلك عن طريق الفم أو الشم أو الحقن أو امتصاص مسام الجلد له أو أية وسيلة أخرى‪ .‬والسكر وتناول المخدرات حالة‬
‫مؤقتة دوما وليست مثل الحالة المرضية الناتجة عن اإلدمان كما أنها ليست حالة دائمة كالجنون‪.‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫السكـــــر اإلرادي‬
‫السكر الذي يؤدي إلى الغيبوبة ويمنع قيام المسؤولية الجنائية‪ ،‬هو السكر الالإرادي أو الذي يتناوله الشخص‬
‫مكرها أو عن طريق الخطأ‪ ،‬لذا نجد الفقه قد أثار مسألة تناول عقاقير مخدرة أدت إلى غيبوبته‬
‫أو سكر بإرا دة الشخص الحرة‪ ،‬وحدود المسؤولية في هذه الحالة‪ ،‬خاصة وأن المسؤولية تقوم على مدى القدرة على‬
‫اإلدراك والتمييز‪ ،‬والشخص في مثل هذه الحاالت يكون فاقدا للقدرة على التمييز واإلدراك‪ ،‬ومن بين ما جاء به الفقه‬
‫هو عقد الشخص العزم على ارتكاب الجريمة ثم يعمد إلى السكر لبث الجرأة فيه لتنفيذ الجريمة‪ ،‬هــنا يرى أن عقد‬
‫العزم قد تم قبل تناول المادة وبالتالي يسأل‪ ،‬وإن كنا التبرير يجب أن ينصب حول وقت الجريمة الذي كان فيه الشخص‬
‫فاقدا للقدرة على التمييز واإلدراك‪ ،‬وهذا ال يعني أننا ال نحمل مسؤولية لهذا الشخص‪ ،‬لكن يجب أن نبحث عن أساس‬
‫آخر لها‪ ،‬أما ما عدا هذا الفرض فالفقه ميز بين أربعة آراء‪.‬‬
‫أوال‪ :‬المسائلة على أساس اإلهمال وعدم االحتياط‬
‫وهو اتجاه يرى أنصاره‪ ،‬أن الشخص الذي يتناول المخدر أو المسكر مع علمه بطبيعة ما يتناوله‬
‫وبإرادته‪ ،‬يعد مسؤوال مسؤولية جنائية على أساس اإلهمال وعدم االحتياط‪ ،‬ألن المسكر أو المخدر أفقد الجاني الشعور‬
‫والقدرة على التحكم‪ .‬لكن أخذ على هذا الرأي المالحظات التالية‪ :‬أنه رأي يؤدي إلى اإلعفاء من المسؤولية بناء على‬
‫فقدان الشعور واإلدراك‪ ،‬وهي مسألة متطلبة في كل من نوعي الجرائم العمدية وغير العمدية‪ ،‬إذن ال يمكن القول‬
‫بالمسؤولية أيضا على أساس اإلهمال وعدم االحتياط كون هاتين الصورتين من صور الخطأ تقوم بدورها على اإلدراك‬
‫والتمييز‪ .‬القول بهذا الرأي‪ ،‬يؤدي إلى عدم مسائلة الشخص في الحالة التي ال تحتمل فيها الجريمة االرتكاب إال عمدا‪،‬‬
‫مثلما هو الشأن بالنسبة لجريمة االغتصاب في القانون المصري وكذا جريمتي القذف والسب ‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬المسائلة عن جرائم عمدية‬
‫وهو رأي يرى أنصاره معاقبة من يفقد إفاقته عمدا مع علمه بذلك‪ ،‬ويسأل عن جريمة عمدية رغم‬
‫انعدام القصد الجنائي لديه‪ ،‬وإنما القانون يحمله نتيجة قصده االحتمالي‪ .‬وقد وجهت انتقادات لهذا الرأي أيضا‪ ،‬تمثلت‬
‫أساسا في كون القصد االحتمالي يستلزم توفر النية لدى الجاني قبل ارتكاب الجريمة‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬موقف محكم النقض المصرية‬
‫و هو رأي يقوم على التفرقة بين الجرائم التي ال تتطلب سوى القصد الجنائي العام‪ ،‬وتلك التي تتطلب‬
‫قصدا جنائيا خاصا‪ ،‬فالجاني يحمل مسؤولية الجرائم العمدية التي تقوم على القصد الجنائي العام‪ ،‬بالرغم من فقده‬
‫الشعور نتيجة السكر والغيبوبة االختيارية‪ ،‬بينما الجرائم التي تتطلب قصدا جنائيا خاصا‪ ،‬فال يحمل الجاني مسؤوليتها‬
‫سوى على القصد العام إن كانت مثل هذه الجرائم ممكن أن تتحول إلى ذلك‪ ،‬وإن لم تكن تحتمل ذلك فال يسأل الشخص‬
‫جنائيا ‪.‬كجريمة القتل العمد التي يرى الفقه أنها جريمة عمدية تتطلب قصدا خاصا‪ ،‬وفي حال فقد هذا القصد الخاص‬
‫وتحوله إلى قصد عام تصبح جريمة الضرب المفضي إلى الموت‪ ،‬وهي جريمة تتطلب فقط قصدا جنائيا عاما‪ ،‬وهو‬
‫موقف قضائي مصري يرى فيه الفقه المصري‪ ،‬أنه موقف يفتقر إلى السند القانوني‪ ،‬زيادة على خلطه بين األهلية‬
‫الجنائية والركن المعنوي للجريمة‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬قيام المسؤولية على أساس العمد المفترض‬
‫تجنبا لالنتقادات السابقة التي وجهت لآلراء الثالثة السابقة‪ ،‬حاول البعض‪ ،‬أن يبني مسؤولية الشخص‬
‫فاقد الشعور نتيجة المخدر أو السكر الذي تناول عمدا مع علمه بحقيقة المادة‪ ،‬على أساس العمد المفترض افتراضا ال‬
‫يقبل إثبات العكس‪ ،‬وأن يفترض بأن الجاني أثناء ارتكابه جريمته كان مالكا لشعوره‪ ،‬وبالتالي يكون مسؤوال عن‬
‫الجريمة ا لتي ارتكبها‪ ،‬سواء كانت جريمة عمدية أو غير عمدية‪ ،‬ذات قصد عام أو ذات قصد خاص‪ .‬مما يعني تحمل‬
‫الشخص المسؤولية عن الجريمة التي ارتكبها كما ولو كان في حال إفاقة تامة‪.‬‬

‫]‪[202‬‬
‫و يرى البعض الميل للرأي الذي يرى وجوب ما إن كانت الجريمة تحتمل العقاب على صورتي العمد‬
‫و الخطأ‪ ،‬أم يعاقب عليها في صورة العمد فقط‪ ،‬فإن كانت تحتمل الصورتين يسأل الشخص مسؤولية غير عمدية‪ ،‬وإن لم‬
‫تكن كذلك امتنعت مسؤوليته الجنائية في ظل عدم وجود نص صريح يقرر مثل هذه المسؤولية وال يجب اصطناع أنواع‬
‫جديدة من المسؤولية ال وجود لها من حيث الواقع وال سند لها إذا قيل أنها مسؤولية مفترضة‪.‬‬

‫[‪ - ]1‬األصل في الجرائم إما عمدية تقوم بالقصد الجنائي‪ ،‬وإما الجرائم غير العمدية التي تقوم عن طريق الخطأ إال‬
‫أحوال استثنائية‪.‬‬
‫[‪ - ]2‬وقد عبر عن ذلك المشرع اللبناني بالنص‪ ":‬تكون الجريمة غير مقصودة سواء لم يتوقع الفاعل نتيجة فعله‪...‬‬
‫وكان باستطاعته أو من واجبه أن يتوقعها‪"...‬‬
‫[‪ -]3‬حيث يرى البعض أن المشرع في هذا النوع من الجرائم يغلب جانب اإلرادة على جانب الضرر‪ ،‬حيث يتدخل‬
‫للعقاب عن اإلرادة المخطئة بغض النظر عن حجم وقيمة الضرار التي ترتبت عن الفعل‪.‬‬
‫[‪ - ]4‬قبل سنة ‪ 1912‬كان القضاء الفرنسي ومعه فريق من الفقهاء الجنائيين يفرقون بين الخطأ المدني والخطأ الجنائي‪،‬‬
‫على أساس ن الخطأ المدني خطأ متدرج في جسامته أو في خطورته حيث يصنف ‪ :‬خطأ جسيم‪ ،‬خطا يسير‪ ،‬خطأ بسيط‪ ،‬في حين‬
‫أن الخطأ ال يكون جنائيا إال إذا وصل حدا من الجسامة‪ ،‬غير أنه حاليا وتقريبا في كل الدول نجد بأن الفقه والقضاء يأخذ بوحدة‬
‫الخطأ المدني والجنائي‪ ،‬فإذ انتفى هذا األخير انتفى معه الخطأ المدني‪.‬‬
‫[‪ - ]5‬المادة ‪ ( 288‬المادة ‪ 60‬من القانون رقم ‪ 23-06‬المؤرخ في‪ ":)2006-12-20 :‬كل من قتل خطأ أو تسبب في‬
‫ذلك برعونته أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو إهماله أو عدم مراعاته األنظمة يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثالث سنوات‬
‫وبغرامة من ‪ 20.000‬إلى ‪ 100.000‬دج"‬
‫المادة ‪ ( 289‬المادة ‪ 60‬من القانون رقم ‪ 23-06‬المؤرخ في‪ ":)2006-12-20 :‬إذا نتج عن الرعونة أو عدم‬
‫االحتياط إصابة أو جرح أو مرض أدى إلى العجز الكلي عن العمل لمدة تجاوز ثالثة أشهر فيعاقب الجاني بالحبس من شهرين‬
‫إلى سنتين وبغرامة من ‪ 20.000‬إلى ‪ 100.000‬دج أو بإحدى هاتين العقوبتين‪".‬‬
‫[‪ - ]6‬إذ نصت هذه المادة على أنه‪ ": :‬تضاعف العقوبات المنصوص عليها في المادتين ‪ 288‬و‪ 289‬إذا كان مرتكب‬
‫الجنحة في حالة سكر أو حاول التهرب من المسؤولية الجنائية أو المدنية التي يمكن أن تقع عليه وذلك بالفرار أو بتغيير حالة‬
‫األماكن أو بأية طريقة أخرى‪.".‬‬
‫[‪ - ]7‬لذا يمكننا القول بأن المسؤولية الجنائية أو المسؤولية الجزائية هي صلة أو رابطة الوصل بين الجريمة والجزاء‪،‬‬
‫أو هي الركن األساسي الموجب لتوقيع العقوبة‪.‬‬
‫[‪ - ]8‬الخالف حول تسمية المسؤولية بالجنائية أو الجزائية تابع للخالف الحاصل حول تسمية قانون العقبات ذاته‪ ،‬ما بين‬
‫القانون الجنائي أو القانون الجزائي‪،‬وهو الخالف الذي تناولناه بخصوص تسمية قانون العقوبات‪ ،‬فاالتجاه الذي سمى قانون‬
‫العقوبات بالقانون الجنائي يسمي المسؤولية بالمسؤولية الجنائية‪ ،‬واالتجاه الذي سمى قانون العقوبات بالقانون الجزائي يسمي‬
‫المسؤولية بالمسؤولية الجزائية‪.‬‬
‫[‪ - ]9‬نقول أفكار قانونية جنائية حتى نحصر دراستنا في إطار القانون الجنائي‪ ،‬ألن عدم الحصر يقودنا أصال لدراسة‬
‫كل أنواع المسؤولية وهي وحدها أنواع متعددة ال يمكننا حصرها في نطاق هذه الدراسة‪ ،‬فهناك المسؤولية المدنية بأنواعها‬
‫والمسؤولية اإلدارية والمسؤولية األخالقية‪ ...‬لذا نحاول تمييز المسؤولية الجنائية فقط عن بعض األفكار القانونية الجنائية‬
‫المشابهة‪.‬‬
‫[‪ - ]10‬والبحث في أساس المسؤولية الجنائية له أهمية كبرى بحيث يمكن من تحديد خصائص هذه المسؤولية‪ ،‬وكذا‬
‫تبيان عناصرها‪ ،‬غير أن بحث مسألة أساها مسألة عسيرة كونها عبارة عن بحث فلسفي لم يحسم الجدل حوله بعد‪ ،‬غير انه يمكن‬
‫القول اختصارا أن المسؤولية الجنائية نشأت في أول عهودها في صورة مسؤولية مادية أو موضوعية ترتبط بالفعل دون الفاعل‪،‬‬
‫لذا لم تكن مقتصرة على اإلنسان فقط‪ ،‬بل كانت تمتد لتشمل الحيوان والنبات والجماد‪ ،‬كما أنه بخصوص اإلنسان لم تكن مقتصرة‬
‫على مرتكب الجريمة وحده‪ ،‬بل كانت تمتد لتشمل ذويه وجماعته وحتى جثته بعد موته‪ ،‬كل ذلك دون النظر إلرادة مرتكب‬
‫الجريمة وحرية اختياره‪ ،‬بل النظر كان منصبا فقط على الفعل الذي ارتكبه الفاعل‪ ،‬غير أنه وفي تطور الحق‪ ،‬بدأت تتسرب‬
‫لفكرة المسؤولية الجنائية أفكار اإلرادة وحرية االختيار‪ ،‬وبينت بعض الدراسات القديمة ذلك حتى في عهد الفراعنة‪ ،‬كما ساهم‬

‫]‪[203‬‬
‫القانون الكنسي في قيام المسؤولية األخالقية التي تقوم على أساس حرية اإلنسان في االختيار‪ ،‬غير أن القوانين األوروبية رغم‬
‫ذلك ظلت لغاية القرن الثامن عشر تحاسب الصغير والمجنون والنبات والحيوان والجماد‪ ،‬على عكس الشريعة اإلسالمية التي‬
‫أسست المسؤولية على اكتمال العقل والقدرة على االختيار‪ ،‬وقررت اإلعفاء من المسؤولية في حاالت صغر السن والجنون والعته‬
‫واإلكراه والسكر والغيبوبة‪.‬‬
‫[‪ - ]11‬ونجد على رأس هذا االتجاه‪ ،‬الفقيه اإليطالي شيزاري بيكاريا الذي بين األمر في كتابه " الجرائم والعقوبات"‬
‫الصادر سنة ‪ ،1764‬الذي ضمنه مبدأ ضرورة قيام المسؤولية الجنائية على حرية االختيار‪ ،‬باإلضافة إلى مبدأ نفعية العقوبة‬
‫وشرعية الجرائم والعقوبات‪ ،‬التي تعد أهم المبادئ التي نادى بضرورة بناء قانون العقوبات عليها‪ ،‬وهو المذهب الذي يقيم‬
‫المسؤولية الجنائية على أساس أن اإلنسان مخير بين السلوك المطابق للقانون والسلوك المخالف له‪ ،‬وبالتالي تتقرر مسؤوليته إذا‬
‫ما سلك طريق السلوك المخالف للقانون كونه كان بوسعه اختيار الطريق غير المخالف له‪ ،‬فاختيار الشخص طريق الجريمة وهو‬
‫قادر على اجتنباه يعني أنه مذنب أو مخطأ‪ ،‬وهو االتجاه الوضعي الذي تأخذ به غالبية القوانين الجنائية المعاصرة‪ .‬ووفقا لهذا‬
‫االتجاه فإن األساس التقليدي للمسؤولية الجنائية هو حرية االختيار‪ ،‬التي ترتبط بالحرية األخالقية للمجرم وقت ارتكابه جريمته‪،‬‬
‫وانه ال يكون مسؤوال جنائيا إال إذا كان مسؤول أخالقيا‪ ،‬حيث يكون متمتعا باإلدراك واالختيار اللذان يعدان شرطا لقيام‬
‫مسؤوليته‪ ،‬وتخلفهما أو تخلف أحدها يترتب عليه تخلف المسؤولية الجنائية‪ ،‬كون جوهر المسؤولية المآخذة واللوم من أجل إتيان‬
‫سلوك مخالف للقانون‪ ،‬واللوم ال يمكن تصوره إال إذا كان الشخص أمام طريقين أو مفترق الطرق‪ ،‬ما بين الخير والشر واختار‬
‫طريق هذا األخير‪ ،‬عن وعي وإدراك‪.‬‬
‫[‪ - ]12‬يرى الفقيه أنريكو فيري أحد رواد المدرسة الوضعية‪ ،‬أنه هناك نظام سماه " نظام التشبع الجنائي" الذي يعني‬
‫أنه إذا وجدت عوامل عضوية ونفسية في شخص معين‪ ،‬وأضيفت لها عوامل خارجية مادية معينة وأخرى اجتماعية‪ ،‬فال بد‬
‫للشخص حينئذ من وقوع عدد من الجرائم في هذا الوسط االجتماعي‪ ،‬وهذا العدد من الجرائم ثابت وال يتغير كونه بلغ درجة‬
‫التشبع‪ ،‬وهو بذلك يشبه السلوك اإلنساني بالظاهر الطبيعية‪ ،‬التي تقوم على أسس علمية وهو مسلك المدرسة لوضعية التي تتناول‬
‫الجريمة والمجرم منهجا علميا تجريبيا‪.‬‬
‫وهي مدرسة وجدت تحت تأثير أفكار أوغست كونت‪ ،‬الذي نادى بخصوص المسؤولية الجنائية باستخدام المنهج‬
‫العلمي‪ ،‬القائم على المالحظة والتجربة وإعمال مبدأ السببية الحتمية الذي يحكم مختلف الظواهر‪ ،‬والبحث العلمي يكشف عن‬
‫األسباب المؤدية للنتائج‪ ،‬فتصرفات اإلنسان محكومة بأسبابها‪ ،‬فهي دوما نتيجة حتمية ألسباب مؤدية إليها وال يتصور العقل أال‬
‫تكون كذلك‪ ،‬وهي أسباب السلوك التي شرع أقطاب المدرسة الوضعية ( مثل لومبروزو‪ ،‬فيري وجاروفالو) يبحثون عنها‪ ،‬في‬
‫سلوك الشخص‪ ،‬وانتهوا في أبحاثهم أن هذه العوامل قد تكون داخلية ( تكوين عضوي ونفسي وذهني وأمراض‪ ،)...‬وقد تكون‬
‫خارجية ( مادية وبيئية ومناخية‪ ،)...‬وهي العوامل التي متى توفرت ستدفع حتما لإلجرام‪ ،‬وتنعدم بتوافرها حرية اإلنسان في‬
‫االختيار ويكون مدفوع جبرا الرتكاب الجريمة‪ ،‬وال مجال له حتى للتردد بين اقترافها وعدم اقترافها‪ ،‬وحرية االختيار لدى أنصار‬
‫هذه المدرسة‪ ،‬مجرد وهم وخيال وال وجود لدليل علمي يؤكدها‪ ،‬بل الجبرية التي لها مسببات تقوم على أسس علمية ال يرقى إليها‬
‫الشك‪ ،‬وبالتالي المسؤولية لديهم مسؤولية قانونية هدفها القضاء على الخطورة اإلجرامية لدى الجناة‪ ،‬يجب أن تتخذ ضده تدابير‬
‫اجتماعية للدفاع عن المجتمع‪ ،‬وبالتالي المسؤولية الجنائية تتقرر لكل من قد يضر بالجماعة حتى ولو كان صغيرا‬
‫أو مجنونا‪ ،‬ما دام يمثل مصدر خطورة إجرامية أو اجتماعية‪ ،‬وذلك بإنزال التدابير االحترازية ضدهم‬
‫[‪ - ]13‬هناك تشريعات نصت على هذين الشرطين صراحة‪ ،‬مثلما هو الشأن بالنسبة لقانون العقوبات اللبناني في المادة‬
‫‪ 210‬منه‪ ،‬التي قضت أنه‪ ":‬ال يحكم على أحد بعقوبة ما لم يكن قد أقدم على الفعل عن وعي وإرادة"‪.‬‬
‫[‪ - ]14‬بحيث على أساس التدرج في السن‪ ،‬يكون اإلدراك واالختيارـ وبناء على ذلك تتحدد قواعد المسؤولية الجنائية‪،‬‬
‫ففي الوقت الذي ينعدم فيه اإلدراك تنعدم فيه المسؤولية الجنائية‪ ،‬وفي الوقت الذي يكون فيه اإلدراك ضعيف تكون المسؤولية‬
‫ناقصة أو مخففة‪ ،‬وهي المسؤولية التي تكتمل باكتمال اإلدراك وذلك عند بلوغ الشخص سن البلوغ الجنائي‪.‬‬
‫[‪ - ]15‬وهي السن التي كان يعتمدها حتى القانون الروماني‪ ،‬والسن المتفق عليها أيضا لدى فقهاء الشريعة اإلسالمية في‬
‫تطبيقهم‬
‫للحديث الشريف ‪ ":‬رفع القلم عن ثالثة‪ :‬الصبي حتى يحتلم‪ ،‬والنائم حتى يستيقظ‪ ،‬والمجنون حتى يفيق‪".‬‬
‫[‪ - ]16‬وقد نصت المادة ‪ 21‬من تقنين العقوبات الجزائري المادة ‪ ( 21‬القانون رقم ‪ 23-06‬المؤرخ في ‪ 20‬ديسمبر‬
‫‪ ": )2006‬الحجز القضائي في مؤسسة استشفائية لألمراض العقلية هو وضع الشخص بناء على أمر أو حكم أو قرار قضائي في‬
‫مؤسسة مهيأة لهذا الغرض بسبب خلل في قواه العقلية قائم وقت ارتكاب الجريمة أو اعتراه بعد ارتكابها‪ .‬يمكن أن يصدر األمر‬
‫بالحجز القضائي بموجب أي أمر أو حكم أو قرار بإدانة المتهم أو العفو عنه أو ببراءته أو بانتفاء وجه الدعوى‪ ،‬غير أنه في‬
‫الحالتين األخيرتين‪ ،‬يجب أن تكون مشاركته في الوقائع المادية ثابتة‪ .‬يجب إثبات الخلل العقلي في الحكم الصادر بالحجز القضائي‬

‫]‪[204‬‬
‫بعد الفحص الطبي‪ .‬يخضع الشخص الموضوع في مؤسسة استشفائية لألمراض العقلية لنظام االستشفاء اإلجباري المنصوص‬
‫عليه في التشريع الجاري‪ ،‬غير أن النائب العام يبقى مختصا فيما يتعلق بمآل الدعوى العمومية‪".‬‬
‫[‪ - ]17‬قرار مؤرخ في‪ 1981-03-30 :‬في الملف ‪ ":21200‬يختلف حكم الجنون بحسب ما إذا كان الحقا للجريمة أو‬
‫معاصرا لها‪ ،‬فالجنون الالحق للجريمة يوقف المحاكمة حتى يزول ويعود إلى المتهم من اإلدراك والرشد ما يكفي لدفاعه عن‬
‫نفسه‪ ،‬أما الجنون المعاصر للجريمة فإنه يرفع العقاب عن مرتكبها النعدام اإلدراك فيه‪ ،‬ومسؤوليته الجزائية عمال بأحكام المادة‬
‫‪ 47‬من قانون العقوبات‪ ،‬لذلك يعتبر مشوبا بالقصور ويستوجب النقض قرار غرفة االتهام القاضي بأن ال وجه للمتابعة بناء على‬
‫تقرير طبي أثبت الجنون يوم الفحص دون أن يبين ما إذا كان المتهم مجنونا يوم اقتراف الجريمة‪".‬‬
‫قرار في‪ 1993-12-19 :‬في الملف ‪": 101792‬ال يجوز إعفاء المتهم بسبب الجنون إال استنادا لتقرير خبير‪،‬‬
‫ومن ثم فإن قضاة الموضوع الذين استبعدوا تقرير الخبير المعين من قبل قاضي التحقيق للحكم بإعفاء المتهم من العقوبة‪ ،‬يكونوا‬
‫قد خالفوا القانون ما دام أن التقرير المذكور يشير بوضوح أنه – المتهم‪ -‬كان مسؤوال كامل المسؤولية حين ارتكابه الجريمة‪".‬‬
‫[‪ - ]18‬والجنون في حقيقته ال نعني به المرض بالمعنى الدقيق‪ ،‬لذا نجد بعض التشريعات مثل التشريع الليبي سمته‬
‫العيب العقلي‪ ،‬في نص المادة ‪ 83‬من قانون عقوباته‪.‬‬
‫والجنون في العصور القديمة لم يكن ينظر له نفس النظرة التي يحظى بها اليوم‪ ،‬فقد فسر قديما تفسيرا دينيا‪،‬‬
‫واعتبر المجنون أن أرواح شريرة تتقمصه‪ ،‬وأن عالجه ال يمكن أن يكون إال بالصالة للتخلص من تلك الحالة‪ ،‬غير أنه مع‬
‫القانون الروماني أصبح المجنون غير مسؤول جنائيا ‪,‬انه يحتاج للعالج أكثر من احتياجه للعقاب‪ ،‬على عكس الوضع الذي آل إليه‬
‫األمر في العصور الوسطى حيث اعتبر المجنون من جديد بأنه مس من الشيطان ال يحول دون مسائلته جنائيا‪ ،‬وهو ذات الوضع‬
‫الذي ساد في فرنسا إلى ما قبل الثورة الفرنسية‪ .‬إال أنه عد مانعا من موانع المسؤولية في القانون الفرنسي لسنة ‪ ،1810‬وذلك‬
‫باالستناد ألساس المسؤولية الجنائي المتمثل في حرية االختيار التي تقوم على التمييز واإلدراك والقدرة فعال على االختيار‬
‫[‪ - ]19‬وال يراد بالجنون المعنى اللغوي أو الطبي له‪ ،‬بل يجب األخذ بمعنى واسع له يغطي كل حاالت االضطرابات‬
‫العقلية أو الذهنية التي تؤثر على المخ ويترتب عليها فقد اإلدراك أو القدرة على االختيار‪ ،‬وهو الذي استقر عليه األمر في الفقه‬
‫والقضاء الفرنسي في ظل غياب تعريف قانوني له‪ ،‬وهو ما دفع المشرع المصري على النص عليه ب" عاهة العقل"‪ ،‬ويعني‬
‫الجنون لغة ذهاب العقل أو فساده أو عدم القدرة على التحكم في التصرفات واألفعال وتقدير عواقبها‪ ،‬وأما معناه الطبي فهو غير‬
‫مستقر بالنظر لما يلحق بالعلوم الطبية والعقلية والنفسية من تطورات‪ ،‬ومن التعاريف الذي أعطيت له أنه‪ ":‬انحطاط تدريجي‬
‫وبات في الملكات العقلية" أو عدم قدرة الشخص على التوفيق بين أفكراه وشعوره وبين ما يحيط به ألسباب عقلية‪ ،‬والجنون ليس‬
‫مرضا في ذاته وإنما هو عارض من أعراض مرض عقلي‪ ،‬وهو نتيجة تغير غير طبيعي في المخ‪ ،‬نتيجة ألسباب متعددة‪ ،‬على‬
‫عكس عاهة العقل التي تخرج به عن حالته الطبيعية وتشمل الجنون‪ ،‬بما فيها السفه والعته وكذا األمراض العصبية التي ينجم عنها‬
‫عدم أداء الجهاز العصبي لنشاطه على نحو طبيعي مما يؤثر على القدرة على اإلدراك واالختيار‪ ،‬ويضاف لها الصرع والهستيريا‬
‫وازدواج الشخصية واليقظة النومية‪.‬‬
‫[‪ - ]20‬ويشمل الجنون مختلف األمراض العقلية التي تصيب المخ فتؤدي به إلى االنحراف عن وظيفته العادية المتمثلة‬
‫في اإلدراك والسيطرة على مراكز اإلرادة في جسم اإلنسان‪ ،‬وبذلك يتسع الجنون ليشمل العته والضعف العقلي المتمثل في عدم‬
‫اكتمال الملكات الذهنية وتوقفها عن نضجها الطبيعي‪ ،‬كما يضم الجنون أيضا مرض الصرع والهستيريا وازدواج الشخصية‬
‫واليقظة النومية‪ ،‬ويشمل قانونا أيضا التنويم المغناطيسي الذي يؤثر على إرادة النائم فيؤثر فيها أو يعدمها نهائيا‪ ،‬وفي مثل هذه‬
‫الحالة المنوم قد يسأل بوصفه محرضا على الجريمة أو فاعال معنويا لها‪ ،‬والحل األخير هو موقف المشرع الجزائري كون الذي‬
‫نوم يصبح مجرد وسيلة أو أداة مادية في يد المنوم‪.‬‬
‫ويرى البعض أن الصم والبكم يأخذان حكم الجنون بالرغم من أنهما ليس كذلك‪ ،‬ويستندون في ذلك على القول بأن السمع‬
‫والكالم هما أداة التفاهم وعن طريقها تتم المدارك وتفتح الملكات الذهنية‪ ،‬فمن يولد فاقدهما آو يفقدهما قبل تكملة ملكاته الذهنية‬
‫يبقى في مستوى عقلي دون المستوى الطبيعي من القدرة على اإلدراك واالختيار الالزم لتحمل المسؤولية الجنائية‪ ،‬غير أنه رأي‬
‫ال يمكن التسليم به‪ ،‬خاصة في ظل الواقع العملي‪.‬أما األمراض النفسية‪ ،‬التي تصيب النفس باالضطراب وتكون باعثا الرتكاب‬
‫الجرائم‪ ،‬فاستقر القضاء على أنها ليست حاالت موانع للمسؤولية‪ ،‬كونها ال تفقد الشعور واإلدراك‪ ،‬وكونها ال تؤثر في سالمة‬
‫العقل وصحة اإلدراك‪ ،‬ومنها الشخصية السيكوباتية وثورة العاطفة وشدة االنفعال‪ .‬والشخصية السيكوباتية شخصية شاذة في‬
‫تكوينها النفسي ال تتكيف وال تتالءم مع قيم وتقاليد المجتمع وتدفع المصاب بها إلى ارتكاب الجرائم‪ ،‬غير أنها ال تأثير لها على‬
‫اإلدراك واالختيار‪ ،‬وبالتالي ال تأثير لها على المسؤولية الجنائية‪ ،‬وذهبت محكمة النقض المصرية قد قضت في إحدى قرارتها أنه‬
‫المصاب بالحالة المعروفة باسم الشخصية السيكوباتية وإن عد من الناحية العملية مريضا مرضا نفسيا إال أنه ال يعتبر في عرف‬
‫القانون مريضا بجنون أو عاهة في العقل مما يصح معه اعتباره فاقد الشعور أو االختيار في عمله‪ ،‬كما انه ال تأثير لثورة العاطفة‬

‫]‪[205‬‬
‫وشدة االنفعال في القدرة واالختيار‪ ،‬وبالتالي فالحب الشديد والكره الشديد والغيرة واالنتقام وكل حاالت هياج النفس وشدة‬
‫االنفعال‪ ،‬وإن كانت باعث أو دافع الرتكاب الجرائم‪ ،‬إال أنها ال تعدمن قبيل عاهة العقل‬
‫[‪ - ]21‬وإن كانت مسألة وجوب اقتراف الجريمة وقت إصابة الشخص بالجنون ال تثير إشكاال بالنسبة للجرائم الوقتية‪،‬‬
‫فإن األمر ليس كذلك بالنسبة للنوع اآلخر من الجرائم‪ ،‬حيث أنه في الجرائم المستمرة يجب أن تظل حالة الجنون قائمة لدى‬
‫الشخص‪ ،‬فإذا ما استرجع الشخص ملكاته الذهنية في مرحلة من مراحل الجريمة المستمرة سؤل عنها‪ ،‬وفي جرائم االعتياد فال‬
‫يحتسب في تكوين ركن االعتياد سوى الجرائم التي يأتيها الشخص وهو في كامل قواه العقلية‪ . .‬هذا بخصوص حالة الجنون‬
‫المعاصرة الرتكاب الجريمة‬
‫كما أن عاهات العقل منها الدائم المستمر التي ال يفيق منها المصاب‪ ،‬وبعضها عرضي متقطع يصيب الشخص في‬
‫فترات دورية تتخللها فترات إفاقة‪ ،‬وفيه الشخص ال يسأل عن الجرائم التي حدثت في فترات اإلصابة دون الجرائم التي ارتكبت‬
‫في فترات الصحو‪ ،‬غير أن ذلك كان محل انتقاد طبي وفقهي حيث يصعب التمييز بين الفترتين‪ ،‬كما انه من اآلفات‬
‫العقلية ما يكون عاما أو شامال لكل الملكات العقلية أو الذهنية‪ ،‬مثل الجنون‪ ،‬وهذا النوع بين اآلثار الجنائية‪ ،‬بينما النوع الثاني فهو‬
‫ال يصيب كل الملكات الذهنية والعقلية بل يصيب فقط ناحية منها دون باقي النواحي‪ ،‬ومنها ما يصيب اإلدراك مثل البرانويا أو ما‬
‫يسمى بالجنون المتخصص‪ ،‬وهنا تتملك الشخص وتتسلط عليه فكرة ثابتة أو اعتقاد معين يكون خاطئا‪ ،‬مثل جنون االضطهاد‬
‫وجنون العظمة‪ ،‬ومنها ما يصيب اإلرادة‪ ،‬حيث يصبح للشخص دوافع شاذة ال يملك قدرة على مقاومتها‪ ،‬وقد تدفعه إلى ارتكاب‬
‫أنواع معينة من الجرائم‪ ،‬فهناك ما يعرف بجنون السرقة‪ ،‬ويسمى في هذه الحالة ‪ Kleptomanie‬وجنون الحريق الذي يطلق‬
‫عليه مصطلح ‪ ،Pyramanie‬والنوع المعين من هذه الجرائم يمكن القول بعدم قيام المسؤولية الجنائية بخصوصه‪،‬لكن اإلشكال‬
‫الجرائم األخرى التي ترتكب مع هذه الجرائم‪ ،‬والتي أثارت جدال فقهيا يشبه الجدل الذي أثاره الجنون المتقطع‬
‫[‪ - ]22‬التي نصت على أنه‪ ": ":‬ال عقوبة على من اضطرته إلى ارتكاب الجريمة قوة ال قبل له بدفعها‪".‬‬
‫[‪ - ]23‬كما عرف بأنه‪ ":‬قوة إنسانية توجه إلى نفسية إنسان فتضغط على إرادته وتحمله على ارتكاب الجريمة‪ ،‬تحت‬
‫تأثير الخوف من خطر أو ضرر جسيم وشيك الوقوع"‬
‫[‪ - ]24‬انظر‪ :‬د‪ /‬محمد الرازقي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.298 :‬‬

‫]‪[206‬‬

You might also like