Professional Documents
Culture Documents
مقدمــــــة
ي عد قانون العقوبات من أهم القوانين التي تستعين بها الدولة في فرض االنضباط واألمن داخل المجتمع،
على اعتباره القانون المتضمن ألشد أنواع الجزاءات القانونية وأكثرها لتحقيق فكرة الدرع العام قبل الردع الخاص.
وكانت لهذا القانون ذات األهمية حتى قبل ظهور الدولة ،باعتباره من أقدم فروع القانون والذي وجد مع وجود
الجماعات البشرية األولى ،وصاحب مختلف مراحل تطورها ،وبذلك اتسم في كل مرة بسمات المرحلة التي تطبع النظام
المتبع في المجتمع ،بجوانبه االجتماعية والثقافية واالقتصادية والسياسية ،حيث في كل مرة كانت تجد فيه الجماعات
المكلفة بالحكم – أيا كان نوعها -الوسيلة المثلى لفرض سياستها وأهدافها ،وكذا الحفاظ على مصالحها .والسبب الذي
جعل هذا الفرع القانوني الهام يحتل مثل هذه المكانة ،ومثل هذه الدرجة من األهمية ،راجع باألساس إلى الجزاء الذي
تتضمنه قواعده ،باعتبارها جزاءات تصيب الشخص المكلف في حياته أو حريته ،وأقلها أن تصيبه في ماله ،وبذلك
كانت عبارة عن وسائل قهر وإلزام وردع ،ووسيلة في يد السلطة الحاكمة في فرض رؤاها في كيفية سير األفراد
والجماعات .وعلى إثر ذلك ضم هذا الفرع القانوني في ثناياه نوعين من األحكام ،أحكام تجريمية وأخرى عقابية ،وأن
دراسته دراسة وافية تقتضي اإللمام بهما معا ،بالنظر للتالزم الموجود بين النوعين أو الشقين من األحكام .وبهذا فإنه
من البديهي أن دراسة القانون الجنائي العام ،تقتضي دراسة النظرية العامة للتجريم ،والنظرية العامة للجزاء
( الجريمة والجزاء) ،وهي المسألة األولى التي تعطي لقانون العقوبات خاصته األولى المتمثلة في تضمنه لعلمين ،هما
علم اإلجرام وعلم العقاب ،الذي يستدعي في كرة مرة اإللمام بالعلوم الجنائية لفهم أبعاد القانون الجنائي .هذا من جهة.
ومن جهة ثانية ،تطبيق القانون الجنائي يستدعي نوعا آخر مخالف تماما للقواعد السابقة ،التي تعد في جوهرها
قواعد موضوعية ،وهذا النوع اآلخر هو القواعد اإلجرائية ،والتي تشكل في ذاتها فرعا قانونيا آخرا ،وهو قانون
اإلجراءات الجنائية مع ما يتسم به من خصوصيات ،وما يحكمه من مبادئ ،والذي يعد وسيلة تفعيل وتطبيق القانون
الجنائي بشقيه العام والخاص ،والذي بدونه ال مجال للحديث عن دور وأهمية القسم العام ،وهذا األمر يجعلنا أمام مشكلة
أخرى ،وهي أن دراسة هذا الفرع القانوني في قسمه العام يقود بداهة لدراسة جوانبه اإلجرائية ،األمر الذي يزيد
دراستنا تشعبا وتوسعا .ويجعل الدارس والمدرس لهذا الفرع القانوني أمام ثالثة فروع قانونية ،النظرية العامة للجريمة،
النظرية العامة للجزاء ،وقانون اإلجراءات الجزائية .واألكثر من ذلك ،الفروع الثالثة السابقة تستعدي أيضا اإلحاطة
بفرع قانوني آخر يتعلق بنظرية تنفيذ الجزاء ،وهو المحكوم في الجزائر بقانون تنظيم السجون وإعادة اإلدماج
االجتماعي للمساجين ،والموضع السليم لدرسته هو النظرية العامة للجزاء الجنائي.
والغريب في األمر أن دراسة هذه الفروع في مجملها مقررة لطلبة السنة الثانية ،في حين القسم الخاص للقانون
الجنائي – وفي جزء منه فقط -مقرر لطلبة السنة الثالثة ،وهي مسألة نرى وجوب إعادة النظر فيها .غير أن ذلك ال
يمنعنا من محاولة تقديم هذه المحاضرات بنوع من الشرح والتفصيل ،معتمدين أسلوبا نتجنب من خالله التفصيل الممل
وكذا اال ختصار المخل ،خدمة وإعانة للطالب في استيعابه لمضامين وأبعاد هذا الفرع القانوني الهام من فروع القانون،
ونخصص هذه المطبوعة أوال للنظرية العامة للجريمة والتي ال غنى فيها عن تناول األحكام العامة لقانون العقوبات
ذاته ،لنتبعها – بعون هللا -بمطبوعة أخرى نخصصها للنظرية العامة للجزاء الجنائي ،وثالثة نخصصها للشرح أحكام
قانون اإلجراءات الجزائية ،علها تكون عونا مفيدا لطالب السنة الثانية حقوق.
هذا وننبه مسبقا ،بأننا سنعمد وفي كثير من األحيان ،إلى اإلشارة للخالف الفقهي الذي قد يشوب فكرة من أفكار
هذا القانون في هوامش هذه الدراسة ،والتي ننصح في كل مرة االطالع عليها وأخذ فكرة عنها ،على اعتبار متن
الموضوع يخصص فقط لما استقر عليه الفقه في الغالب ،أو لما تبناه التشريع المعاصر ،مركزين على القانون
الجزائري واإلشارة في كل مرة تقضي فيه المسألة ذلكن إلى القانون المقارن .كما نشير في آخر الدراسة إلى أهم
المراجع المعتمد عليها في إعداد هذه المحاضرات ،دون إدراجها في موضعها على النحو الذي يقتضيه إعداد البحوث
][1
األكاديمية ،وذلك تقتضيه ظروف أخرى متعلقة بحقوق التأليف ،ال إهماال للجوانب المنهجية والشكلية في إعداد البحوث
والدراسات.
وسنتناول هذه الدراسة من خالل بابين أساسيين ،نتناول في األول النظرية العامة للجريمة ،لنتناول في الثاني
النظرية العامة للمسؤولية الجنائية ،على أن نسبق كل ذلك بباب تمهيدي نتناول فيه األحكام العامة لقانون العقوبات ذاته،
ونعنونه بمعالم قانون العقوبات .وننبه مسبقا بأن قد يكون هناك اختالل في توازن البابين ،على أساس أننا فضلنا
تخصيص مطبوعة لنظرية الجزاء ،في حين غالبية الفقه يتناولها في إطار نظرية المسؤولية الجنائية ،لكن الفائدة
الموضوعية المتوخاة من إعداد هذه المطبوعة ،تتجاوز بكثير الفائدة المحققة من مراعاة الجوانب الشكلية .هذا وال يفوتنا
أن نتمنى أن تكون هذه المطبوعة عونا علميا لطلبتنا األعزاء في دراستهم للمادة خالل هذه السنة ،وعونا مفيدا في
مشاريعهم العلمية المستقبلية.
][2
باب تمهيدي
معالم قانـون العقوبات
قانون العقوبات يشمل نوعين من األحكام الموضوعية ،النوع األول عبارة عن المبادئ واألحكام العامة
الحاكمة للتجريم والعقاب ،والتي تعد بلورة للنظريات الجنائية التي تبلورت فقهيا وقانونيا على مر عصور طويلة من
الزمن ،سيما وأن هذا القانون ،من أقدم القوانين على وجه األرض ،بل يمكن رده إلى ما قبل ذلك ،عند بدأ الخليقة[.]1
وهو النوع من األحكام الذي يطبق على كل الجرائم أيا كان نوعها – على أساس أن قانون العقوبات يعرف التقسيم
الثالثي للجرائم ،حيث يقسمها إلى جنايات وجنح ومخالفات ،-وأيا كان مرتكبها – حيث أن الجريمة قد تكون مشروعا
فرديا يسهر على اقترافه فاعل واحد ،أو عدة فاعلين ،وهو ما يعرف بالمسؤولية الجنائية أو االشتراك -سواء كان وطنيا
أو أجنبيا – تعبيرا عن مبدأ سيادة قانون العقوبات على إقليم الدولة ،حيث يطبق على الوطنيين واألجانب على حد سواء-
،ويسمى هذا القسم عادة بالنظرية العامة للجريمة ،كما يشمل أيضا على األحكام العامة والمبادئ التي تحكم الجزاء،
ويسمى هذا الجزء بالنظرية العامة للجزاء الجنائي .وكال الشقين يكونان ما يسمى بالقسم العام لقانون العقوبات ،الذي
يعد من المقررات لبرنامج السنة الثانية في دراستهم لقانون العقوبات.
كما يشتمل على أحك ام خاصة ،تبين الجرائم بمفرداتها وأركان وظروف وعناصر كل منها ،والعقوبة المقررة
لها ،ويسمى هذا الشق ،بقانون العقوبات الخاص ،أو القسم الخاص لقانون العقوبات ،الذي يعد مقررا على طلبة السنة
ثالثة حقوق .على اعتبار أن هذا القسم ما هو إال تطبيق للنظرية العامة لكل من الجريمة والجزاء .وعلى العموم،
الموضوع الرئيسي للقانون الجنائي أو قانون العقوبات ،وإن كان الظاهر منه أنه دراسة للنظرية العامة للجريمة ،فهو
يبحث أساسا على المسؤولية الجنائية على اعتبار الجريمة سلوك يرتكبه شخص يجب أن يكون مسؤوال عن فعله حتى
يوقع عليه العقاب .وفي معالجة هذا الموضوع ،ظهر خالف فقهي كبير في الفقه القانوني الجنائي ،حيث نجد المدرسة
األلمانية اتجهت اتجاها فلسفيا في دراسة الموضوع ،حيث يحللون الموضوع على خمسة عناصر أساسية ،هي الفعل
المتمثل في السلوك ،النموذج وهو الوصف القانوني المجرد للتجريم ،ال قانونية الفعل وهي مطابقة الفعل للنموذج ومن
ثم تقرير الطبيعة الالمشروعة لهذا الفعل ،اإلثم وهو العالقة ما بين الفعل والموقف النفسي اآلثم ،وأخيرا العقاب وهو
الثر أو النتيجة أو ثمرة العوامل األربعة األولى .أما الفقه الفرنسي ومعه الفقه العربي ،له تحليل أكثر بساطة للموضوع،
حيث يبدأ تحليل المسؤولية الجنائية من الجريمة إلى المجرم ،ومن الشروط الموضوعية للجريمة إلى الشروط الشخصية
للجاني ،ولكن في األخير يلتقون مع التحليل األلماني حيث يلتقون في فكرة الجريمة ،اإلثم ،األهلية للعقاب – أي
المسؤولية الجنائية -ثم العقاب نفسه] .[2لكن قبل كل ذلك ،وفي البحث عن تحديد معالم قانون العقوبات ،شاب الخالف
الفقهي الطويل الذي يطبع هذا الفرع القانوني الهام ،حول تسمية القانون في حد ذاته وتحديد مضامينه وأبعاده ،وكذا
تناول تطوراته وتحديد طبيعته وعالقته بمختلف فروع القانون األخرى .لذا فإن دراسة معالم قانون العقوبات ،تقتضي
منا التعريف به أوال ،وتناول محتواه وتحديد طبيعة قواعده ،وكذا إبراز عالقته مع مختلف القوانين األخرى ،وتبيان
أهدافه .وذلك في فصل أول ،نعنونه بماهية قانون العقوبات ،لنتناول في فصل ثاني ،نشأة وتطور قانون العقوبات ،وذلك
بتناول تطور الفكر الجنائي بصفة عامة ،وقانون العقوبات الجزائري بصفة خاصة.
][3
الفصل األول
ماهيـــة قانون العقوبات
ق انون العقوبات من القوانين التي تجسد بها الدول الحماية القانونية لمصالحها ومصالح المجتمع
األساسية والجوهرية ،والتي تكفل األمن والسكينة واالستقرار لكافة أفراد هذا المجتمع ،وإقامة العدل بين أفراده ،وهو
بذلك ضرورة وحتمية لكل مجتمع أيا كان توجهه وطرق حكمه وتسييره ،على اعتبار الجريمة سلوك إنساني مالزم
للمجتمعات في كل مكان وفي كل زمان ،لذا نجد قانون العقوبات الزم التطور البشري ،وعايش تحوالته الفكرية
واالقتصادية واالجتماعية والعلمية ،األمر الذي انعكس على تسميته وتحديد معناه وتبيان محتواه ،وحصر العالقة
الموجودة بينه وبين مختلف الفروع القانونية األخرى ،تبعا للتطورات التي عرفها هذا القانون ،وهو ما يقتضي منا تناول
هذا الفصل ضمن مبحثين ،نخصص األول لمفهوم قانون العقوبات ،أين نتناول تحديد معنى مسمياته المختلفة ،وحصر
مضمونه وتبيان أقسامه ،لنخصص الثاني للبحث في طبيعة هذا القانون.
][4
المبحث األول
مفهوم قانــون العقوبات
يتفق الفقه الجنائي حول مضمون قواعد قانون العقوبات وخصائصه وأهدافه ،والتي نتناولها ضمن المبحث
الثاني من هذه الدراسة ،غير أنه يختلف حول تسميته وتعريفه وعالقته بمختلف الفروع القانونية األخرى ،وتبعا لذلك
حول تحديد طبيعته– وهو موضوع المبحث الثاني ،-غير أننا سنقتصر دراستنا في هذا المبحث على مطلبين ،خصص
األول لتعريف قانون العقوبات ،والثاني لمحتوى هذا القانون.
المطلب األول
تعريف قانـــون العقوبات
قبل التطرق للتعاريف التي أعطيت لقانون العقوبات ،واالختالف الفقهي الكبير في ذلك ،نشير بأن
الخالف انصب أوال حول تحديد تسمية هذا القانون .لكن دون أن ينعكس ذلك على تحديد محتوى ومضمون هذا القانون،
وهو األمر الذي نتبينه من خالل الفروع التالية.
الفرع األول
في تسمية قانون العقوبات
تطلق في العادة تسمية "قانون العقوبات " على هذا الفرع من فروع القانون] ،[3والذي يضم في
حقيقته كل من الجرائم والعقوبات المقررة لها ،وذلك من قبل تسمية الكل باسم الجزء ،أو مثلما نرى ،من قبيل تسمية
التابع للمتبوع ،على اعتبار أن الجريمة سابقة في الوجود على ارتكاب الجريمة ،كما أن ارتكاب هذه الجريمة ال يعني
بالضرورة توقيع عقوبة ،فقد يوقع على شخص تدبير أمني أو احترازي ،أو قد ال يطبق الجزاء أصال ،سواء تمثل في
عقوبة أو في تدبير أمني ،في الحاالت التي قد يتوفر فيها للشخص مانع من موانع العقاب ،أو سبب من أسباب اإلباحة،
أو حتى في الحاالت التي ال يعرف فيها مرتكب الجريمة أو ال تتمكن فيه النيابة العامة من إثباتها عليه ،وهنا تكون
الجريمة أمر واقع ،في حين شق العقوبة لم يطبق .األمر الذي يجعلنا نرى بأتن تسمية هذا القانون ،بقانون العقوبات
تسمية قاصرة على أن تستوعب مضامينه وخصوصياته .خاصة وأنها ركزت على شق العقاب دون شق التجريم ،وفي
جزء منه دون اآلخر – كون الجزاء يشمل العقوبات والتدابير ،على نحو ما سنرى .-وهنا جاء اتجاه فقهي ،ينادي
بإطالق تسمية " القانون الجزائي" على هذا القانون ،ليصبح يشمل شق الجزاء بنوعيه العقوبات والتدابير ،لكنه يظل
قاصر على أن يشتمل شق التجريم ،وهو األهم في نظرنا .وتبقى تسمية قاصرة عن استيعاب المضمون الكلي لهذا
القانون ومحتوياته ،لذا يفضل بعض الفقه ،تسمية " القانون الجنائي" باعتباره قانون الجرائم ،وأن هذا النوع –
الجنايات -أهم وأخطر األنواع ،مقارنة بالجنح والمخالفات ،غير أننا نرى بأن هذه التسمية تعد أيضا تسمية للكل باسم
الجزء ،حيث أنها ركزت على جانب التجريم – في حين األولى ركزت على جانب العقاب -وفي نوع واحد فقط من بين
ثالثة أنواع من الجرائم ،وهي الجنايات ،مثلما ركزت التسمية األولى على نوع فقط من أنواع الجزاء ،وهي العقوبة،
وبالتالي التسمية قاصرة جدا ،كونها أهملت نوعين من الجرائم ،زيادة على إهمالها لشق العقاب برمته.
غير أن هذه االنتقادات الموجهة لكل تسمية من التسميات الثالث السابقة ،لم تمنع الفقه في عمومه ،من
استعمالها تبعا لتوجه المشرع في بلده ،ووفقا لما ألفه في استعمال المصطلحات ،غير أن اإلشكال في رأينا يكمن في
موقف المشرع نفسه ،فإن كان من الجائز أن نستعمل مصطلح من المصطلحات الثالثة السابقة ،فعل األقل أن يعممه
المشرع ،غير أننا نرى بأن غالبية التشريعات ،بما فيها التشريع الجزائري ،تسمي القانون الموضوعي ،بقانون
العقوبات ،بينما تميل لشق الجزاء بخصوص اإلجراءات ،حيث نجد المشرع الجزائري ،يطلق تسمية " قانون العقوبات"
على القانون موضوع دراستنا في هذا السداسي ،ومصطلح " قانون اإلجراءات الجزائية" بخصوص الشق اإلجرائي
موضوع دراستنا في السداسي الثاني من السنة الجامعية ،وهنا يثار التساؤل عن المغزى من عدم توحيد المصطلحات،
وإن كانت بعض التشريعات تطلق عليه مصطلح " اإلجراءات الجنائية" نسبة للجنايات.
][5
الفرع الثاني
تعريف قانون العقوبات
يعرفه البعض] ، [4بأنه " :مجموعة القواعد القانونية التي تبين الجرائم وما يقرر لها من أو يقابلها من عقوبات
أو تدابير أمن ،إلى جانب القواعد األساسية والمبادئ العامة التي تحكم هذه الجرائم والعقوبات والتدابير" ،بينما يرى
البعض] ،[5أنه ":مجموعة القواعد القانونية التي تحدد رد الفعل االجتماعي ضد الجرائم ،وتترجم مجموعة الحلول
الوضعية للظاهرة اإلجرامية" .في حين يرى آخرون ،أن قانون العقوبات يمعناه الواسع ،مجموعة القواعد التي تحدد
التنظيم القانوني للفعل المجرم ورد فعل المجتمع إزاء مرتكب هذا الفعل ،سواء بتطبيق عقوبة أو تدبير أمن ،كما يشمل
أيضا القواعد اإلجرائية التي تنظم الدعوى الجنائية .وبذلك يشمل المعنى الواسع كل من القواعد الموضوعية التي تجرم
وتعاقب على األفعال ،سواء تمثلت في قانون العقوبات أو في القوانين المكملة له ،وكذا القواعد اإلجرائية المتمثلة في
مجموعة القواعد الواجب اتخاذها بخصوص الدعوى العمومية ،وصدور األحكام والطعن فيها ،وحتى تنفيذ العقوبة التي
ينظمها قانون تنظيم السجون وإعادة اإلدماج االجتماعي للمحبوسين] .[6بينما المعنى الضيق لقانون العقوبات ،فيطلق
مرادفا لتقنين العقوبات أو مجموعة القواعد الموضوعية فقط الخاصة بالتجريم والعقاب .والتي تعني فقط الدور المزدوج
لهذا لقواعد هذا الشق ،حيث تبين من جهة ،األفعال والتصرفات المجرمة ،ومن جهة ثانية ،ردة الفعل االجتماعي إزاءها
أو في مواجهتها ،سواء كان ذلك بعقوبة أو تدبير من تدابير األمن أو التدابير االحترازية].[7
و يرى البعض ،بأن الدور المزدوج لقواعد قانون العقوبات ،هي التي تبين االختالف الفقهي والتشريعي
الحاصل حول تسمية هذا القانون ،وهي التسميات التي تعبر فعال عن ماهية هذا القانون ،حيث يمكن القول بأن الجريمة
أيا كان نوعها والجزاء أيا كان نوعه ،وجهان لعملة واحدة ،فالتعبير بالجريمة يعني أنه هناك جزاء مقابل ،والتعبير
بالجزاء يعني أن هناك جريمة قد وقعت ،حيث ال جريمة دون جزاء ،وال جزاء دون وقوع جريمة ،من حيث المبدأ.
غير أننا نفضل تسمية القانون الجنائي – والدليل على ذلك تسمية المادة التي نحن بصدد دراستها – على تسمية قانون
العقوبات ،حيث بإمكان التسمية األولى أن تشمل الشق اإلجرائي باإلضافة إلى الشق الموضوعي ،في حين أن تسمية
قانون العقوبات ،في رأينا تشمل الشق الموضوعي فقط دون الشق اإلجرائي .وبالتالي يمكننا القول بأن مسألة التسمية
تقودنا لدراسة محتوى هذا القانون ،وهو موضوع دراستنا في الفرع الموالي.
المطلب الثاني
محتوى القانون الجنائي
ي جمع الفقه في عمومه ،على أنه لقانون العقوبات نوعين من المحتوى ،محتوى قانوني وهو أساس
والهدف المباشر لهذا الفرع القانوني ،ومحتوى علمي وهو محتوى غير مباشر منه تستمد القواعد القانونية المنظمة
لشقي التجريم والعقاب .وهو ما نبينه باختصار في الفرعين التاليتين.
الفرع األول
المحتوى القانوني للقانون الجنائي
تكمن مهمة قانون العقوبات بالدرجة األولى ،في تبيان األفعال التي يرى المشرع أنها تضر بالمصلحة
العامة وبالنظام العام القائم] ،[8ويضع قائمة بها ،وهي التي تشكل بذاتها فرعا من فروع القانون الجنائي ،ويسمى ب":
القانون الجنائي الخاص" ،أو القسم الخاص من القانون الجنائي أو قانون العقوبات ،وهي القسم الذي يبين كل جريمة
على حدا وما يميزها من أركان وظروف وعناصر ،وما يتقرر لها من عقوبات
أو تدابير احترازية أو أمنية .وإلى جانب القواعد السابقة ،هناك مجموعة أخرى من القواعد التي تحدد القواعد والمبادئ
العامة التي تحكم القانون الجنائي في مجمله ،من أركان عامة للجريمة ،وقواعد المسؤولية الجنائية وموانعها ،وتصنيف
الجرائم ،وأسباب اإلباح ة ،وموانع العقاب ...وهي مجموعة القواعد التي تشكل فرع من فروع القانون الجنائي ،المسمى
][6
بالقسم العام ،أو القانون الجنائي العام ،الذي يعد موضوع دراستنا في هذا البحث .غير أن تطبيق الفرعين السابقين من
فروع القانون الجنائي ،يقتضي إجراءات معينة بموجبها تتدخل الدولة عن طريق أجهزتها من وقت ارتكاب الجريمة
لغاية توقيع العقوبة على مقترفها ،وتبين ماهية هذه األجهزة ،وطرق تدخلها وكيفيات ذلك ،وهو القسم المسمى بقانون
اإلجراءات الجزائية].[9
وبالتالي يتحدد المحتوى القانوني للقانون الجنائي ،أو قانون العقوبات ،بثالثة فروع قانونية فرعية
يتضمنها هذا القانون ،وهي القسم العام ،أو القانون الجنائي العام] ،[10والقانون الجنائي الخاص] – [11المقرر في
برنامج السنة الثالثة حقوق إلى جانب علم اإلجرام -وقانون اإلجراءات الجزائية أو الجنائية] ،[12المقرر في السداسي
الثاني من السنة الثانية حقوق .وهي أقسام وفروع تتكامل فيما بينها ،لتشكل في األخير الجزء الكبير من السياسة الجنائية
والعقابية للدولة ،من حيث تبيانها للتجريم وما قرر من عقوبات ،واألحكام والمبادئ العامة التي تحكم العمليتين –
التجريم والعقاب ،-باإلضافة إلى قواعد إجرائية تنقل الشق السابق من حالة السكون إلى حالة الحركة ،أو من الحالة
النظرية المجردة ،إلى الحالة الواقعية العملية .هذا من ناحية.
و من ناحية ثانية ،يتحدد المضمون القانوني لقانون العقوبات ،في كونه وباإلضافة إلى احتواءه لقسم عام
وآخر خاص ،أنه هناك قوانين عقوبات تكميلية وأخرى خاصة.
فقانون العقوبات التكميلي ،يجد علته في كون القسم الخاص من قانون العقوبات ال يتضمن كل الجرائم التي
قررها المشرع ،فهناك عدد كبير من الجرائم نصت عليها قوانين أخرى مستقلة ،مثل قانون المنافسة واألسعار وقانون
الصحة والقانون الجمركي ...وهي مجموعة القوانين التي يطلق عليها مصطلح قانون العقوبات التكميلي أو القوانين
الملحقة بقانون العقوبات ،مما يستتبع بالضرورة خضوعها لألحكام العامة المتضمنة بالقسم العام لقانون العقوبات.
ولجوء المشرع إلى هذه الطريقة المتمثلة في التجريم والعقاب بموجب نصوص قانونية مستقلة ،يجد أساسه في عدم
قدرته على حصر كل الجرائم في موضوع واحد هو قانون العقوبات ،خاصة إذا كانت هذه الجرائم تحمي مصالح
متغيرة أو طارئة تخضع للتعديل والتغيير كلما دعت الضرورة لذلك ،في حين أن قانون العقوبات يتسم باالستقرار
النسبي ،لذا فهو يجرم في العادة األفعال الشائنة والمستهجنة في المجتمع في كل وقت من األوقات وال يتدخل إال في
حال تغيرات اقتصادية
أو اجتماعية أو علمية حديثة توجب إلغاء بعض الجرائم أو إدراج البعض اآلخر.
وأما قوانين العقوبات الخاصة ،فهي حسب الفقه طائفة ثالثة من الجرائم ،التي يتم النص عليها في
قوانين خاصة ،اصطلح على تسميتها بقوانين العقوبات الخاصة ،منها قانون العقوبات العسكري وقانون العقوبات
االقتصادي وقانون العقوبات التجاري .وأصبحنا نسمع بقانون العقوبات اإلداري وقانون الجنائي الدستوري ،...وهي
كلها قوانين تحمي مصالح تتميز بطابع خاص يبرر إخضاعها لقواعد قانونية خاصة ،سواء من الناحية الموضوعية أو
من الناحية اإلجرائية ،كونها تخضع لبعض األحكام التي قد تختلف كلية
أو جزئيا عن األحكام العامة الموضوعية واإلجرائية ،لكن العالقة بينهما تظل قائمة ويجب الرجوع لألحكام العامة في
كل حالة لم يرد بشأنها نص في هذه القوانين الجنائية الخاصة ،تطبيقا لقاعدة الخاص يقيد العام .ولتجنب الخلط بين
القوانين الجنائية الخاصة والقوانين التكميلية لقانون العقوبات العام ،يدرج الفقه الفرقين األساسيين التاليين:
-1القوانين المكملة لقانون العقوبات ،تحمي مصالح من ذات نوع وطبيعة المصالح المحمية بموجب القسم
الخاص من قانون العقوبات ،مما ال يجيز الخروج بشأنها عن األحكام العامة المنصوص عليها بالقسم العام لقانون
العقوبات ،في حين تحمي قوانين العقوبات الخاصة مصالح وحقوق تتميز بطبيعة خاصة تستوجب الخروج نوعا ما (
بصفة كلية أو بصفة جزئية) عن األحكام العامة لقانون العقوبات سواء في قسمه الموضوعي أو في قسمه اإلجرائي .
-2الجرائم الم نصوص عليها في قوانين العقوبات التكميلية ،تخضع بحسب األصل لألحكام العامة الواردة
بالقسم العام لقانون العقوبات ،إال إذا نص فيها على ما يخالف ذلك ،أما قوانين العقوبات الخاصة فتضم أحكامها
الموضوعية واإلجرائية الخاصة بها ،وال يرجع فيها إلى األحكام العامة إال في الحاالت التي ال يرد فيها نص خاص.
][7
الفرع الثاني
المحتوى العلمي للقانون الجنائي
حتى يستطيع القانون الجنائي أن يحقق أهدافه على أتم وجه ،يجب أن يستعين بالعلوم الحديثة وما تقدمه
له من مساعدة مبنية أساسا على معطيات علمية ،من أهم هذه العلوم المسماة بالعلوم الجنائية المساعدة ،علم التحقيق
الجنائي وعلم اإلجرام ،اللذان يعدان ركائز العلوم الجنائية أو السياسة الجنائية بصفة عامة .وإن كان يستفيد القانون
الجنائي أيضا ببعض العلوم ا ألخرى حتى وإن كانت من طبيعة غير جنائية ،كعلم النفس وعلم االجتماع ،والعلوم
االقتصادية وغيرها من العلوم اإلنسانية ،خاصة وأن الجريمة بدورها ظاهرة إنسانية ،فهمها يقتضي فهم السلوك
اإلنساني ككل ،وذلك ال يتسنى إال باالستعانة بكل هذه العلوم في رسم السياسة الجنائية .وهو ما نبينه باختصار في النقاط
التالية .والتي ال نقصد بها عالقة قانون العقوبات بباقي فروع القانون األخرى ،التي سنتناولها في نقطة مستقلة ،وإنما
هي علوم متضمنة بطريقة غير مباشرة في إطار هذا القانون ذاته .والمسماة بالعلوم الجنائية نسبة لهذا الفرع القانوني،
ويقصد بها تلك العلوم التي تبحث في الجريمة والمجرم ،من حيث تحديد أسباب اإلجرام وصفات المجرم ووسائل
معالجته وتقويمه ،وأهداف العقوبة وأغراضها ،وبالتالي نقطة االشتراك بينها وبين القانون الجنائي ،هي االهتمام
المشترك بالجريمة والمجرم والعقوبة ،واألهم مكافحة الجريمة ،وهي المحاور األساسية للقانون الجنائي وسبب وجوده.
غير أن وسيلة القانون الجنائي في مكافحة الجريمة ،هي تحديد األعمال المجرمة وتقدير الجزاء المناسب لها ،بينما
وسيلة العلوم الجنائية ،هي البحث العلمي القائم على الدراسات التجريبية القائمة على المالحظة واستخالص النظريات
والقوانين العلمية التي تحكمها ،والتي تجعل من المشرع الجنائي يضع النصوص القانونية وفق سياسة جنائية معينة التي
تعد محصلة النتائج العلمية التي توصلت إليها العلوم الجنائية] .[13وسنبين أهم هذه العلوم في النقاط الثالث التالية.
أوال :علـــم اإلجرام
علم اإلجرام ،هو العلم الذي يدرس الجريمة كظاهرة اجتماعية ،ويتناول بالتحليل والبحث أسباب
الجريمة ودوافعها المختلفة ،والذي يشمل أيضا ثالثة فروع من العلوم ،هي علم طبائع المجرم ،ويتناول بالدراسة
أسباب الجريمة الكامنة في تكوين الجاني الخلقي والجسدي ،وعلم النفس الجنائي ،وهو العلم الذي يهتم بالبحث في
األسباب النفسية الدافعة الرتكاب الجرائم ،وتطور الفكرة اإلجرامية في نفسية الجاني ،باإلضافة إلى علم االجتماع
الجنائي ،وهو العلم الذي يركز على أسباب الجريمة الراجعة إلى المجتمع والظروف االجتماعية المحيطة بالجاني،
باإلضافة إلى علم آخر تفرع عن علم اإلجرام ،وهو علم اإلجرام اإلكلينيكي ،الذي يركز على دراسة كيفية فحص
الجاني جسديا ونفسيا وعقليا ،للتعرف على أسباب انحرافه] .[14خاصة وأن علماء اإلجرام لهم معاييرهم الكتشاف
تصرفات وسلوكات األفراد ،ودراسة الجريمة دراسة علمية من حيث أسبابها وطرق مكافحتها ،ومن هنا كانت العالقة
واالستفادة بين القانون الجنائي وعلم اإلجرام عالقة تعاونية أو تبادلية ،حيث أن المعطيات األولية ،من تعريف للجريمة،
وتقديم المادة البشرية األساسية موضوع الدراسة والبحث والتحليل ،ورسم القيود والحدود التي يتعين على علم اإلجرام
عدم تعديها في دراسته للمجرم ،ومنعهم من التدخل في الشؤون القانونية وخاصة الجنائية].[15
ثانيا :علــــم العقاب
ع لم العقاب ،هو العلم الذي يهتم بدراسة أهداف العقوبة والتدابير وتحديد أغراضها االجتماعية ،ودراسة
القواعد واألساليب الكفيلة بتحقيق أغراضها ،ودراسة أساليب تقويم الجناة أثناء فترة تنفيذ العقوبة
أو التدبير ،كما وهو العلم الذي يعني مجموعة القواعد التي تحدد األساليب التي تتبع في تنفيذ العقوبات والتدابير
االحترازية ،حتى تحقق الغرض الذي يستهدفه المجتمع منها ،في إطار الفلسفة التي يتبناها ويعمل في إطارها.
ثالثا :علــم (التحقيق الجنائي) البوليس الفني
وهو العلم الذي يهتم بدراسة تحديد الجاني والتعرف على مرتكب الجريمة وكيفية وقوعها ،بدءا من
دراسة البصمات ،وكيفية رفع آثار الجريمة ،وفحصها وتحليلها ...وهو علم شهد تطورات مذهلة في السنوات
][8
األخيرة] ، [16حيث استفاد كثيرا بالتطورات العلمية والتكنولوجية التي وفرتها للبحث الجنائي ،سواء فيما يتعلق بدراسة
مسرح الجريمة ،أو التعرف على الجناة ،من وجود لفكرة البصمات الوراثية ،واألدلة اإللكترونية والمعلوماتية
والبيولوجية...وعلم التحقيق الجنائي يضم في الواقع العديد من التخصصات التي تتعاون في مجملها ألجل اكتشاف
الجريمة ومرتكبيها ،ففي إطار هذا العلم ،هناك " الطب الشرعي" الذي ساعد على اكتشاف أسباب الوفاة مثال ووقتها،
ومدى وقوع االعتداء من عدمه ،وطريقة هذا االعتداء وما إن كان عن طريق العنف أو غيره ،وأي وسيلة كانت سببا
في إحداث الجريمة ،والتعرف حتى على المجني عليهم والجناة على حد سواء ،سيما في ظل استفادة هذا العلم من
التطورات العلمية الحاصلة في الثورة البيولوجية والمعلوماتية .كما يوجد " علم السموم" الذي يساعد على التحقق من
أن مادة معينة أو مخدر ما كان السبب في حد وث الجريمة ،وتحليل المواد المخدرة في جرائم المخدرات ،كما يوجد ما
يسمى بعلم البصمات] ،[17وما يسمى " بالشرطة العلمية" وهي كلها علوم تسهل من مهام رجال البحث والتحري،
والقاضي في إصدار حكمه .كما يستعين القانون الجنائي بالكثير من العلوم األخرى ،مثل علم االجتماع القانوني ،الذي
يهدف إلى دراسة الواقع االجتماعي للقانون منذ نشأته مرورا بمختلف مراحل تطوره ،وكذا العوامل والظروف المحيطة
بإصدار التشريعات العقابية ودراسة آثارها االجتماعية ،والعوامل االجتماعية التي تؤثر في إصدار القوانين وعمل
أجهزة العدالة ،وهو بذلك يلعب دورا بارزا في تقديم الحقائق االجتماعية بطريقة موضوعية للمشرع لكي يصدر بناء
عليها قوانينه ،مما يكفل عالقة الصلة بين القانون والمجتمع الذي نشأ لتنظيمه ،وكذا علم اإلحصاء ،الذي يعتني بإعطاء
حقائق رقمية للمتخصصين في التشريع حتى يكنوا على دراية واقعية بكل ما يتصل بالجريمة والمجرمين ،من عدد
الجرائم والمجرمين أو دراسة نوعية معينة منهم ،ومدى انتشار الجريمة في زمان ما أو مكان ما ...خاصة وأن
الدراسات اإلحصائية من أفضل السبل للحكم على نجاح السياسة الجنائية.
][9
المبحث الثاني
الطبيعة القانونية لقانون العقوبات
المقصود من تحديد طبيعة قانون العقوبات ،البحث فيما إذا كان يعد فرعا من فروع القانون العام أو
فرعا من فروع القانون الخاص ،وعموما ،البحث في موقع هذا الفرع الهام من فروع القانون بين فروع القانون األخرى
التي تشكل النظام القانوني ألي دولة؟ خاصة إن كنا نعلم ،أن النظام القانوني ،هو مجموعة من القواعد القانونية التي
تنظم مجموعة من المصالح ،هذه األخيرة التي قد تكون عامة كما قد تكون خاصة ،ووفقا لذلك ينقسم القانون إلى قانون
عام وقانون خاص ،فإذا كانت المصلحة التي تحميها القاعدة القانونية مصلحة عامة ،كنا بصدد فرع قانوني عام ،وإن
كانت المصلحة المراد حمايتها مصلحة خاصة أو فردية ،كنا بصدد فرع قانوني خاص ،وبذلك يكون القانون العام عبارة
عن مجموعة القواعد القانونية التي تحمي المصالح العامة وتنظم العالقات العامة ،كالقانون الدستور ،والقانون اإلداري،
والقانون المالي أو الجبائي أو الضريبي ،والقانون الدولي العام ،بينما القانون الخاص ،هو مجموعة الفروع أو القواعد
القانونية التي تنظم العالقات فيما بين األفراد ،وتحمي مصالحهم ،كالقانون المدني ،والقانون التجاري الذي يهدف إلى
تنظيم طائفة من أفراد المجتمع وهم التجار ،ونوع محدد من األعمال وهي األعمال التجارية ،وقانون األسرة الذي يهتم
بشؤون هذه األخيرة ...وبالتالي السؤال السابق ،وإن طرحناه بصيغة أخرى ،ما موقع القانون الجنائي من تقسيمات
القانون ،فهل قواعد قانون العقوبات تحمي مصالح عامة ،وبالتالي هو فرع من فروع القانون العام ،أم يقتصر دوره
على حماية مصالح فردية خاصة ،وبالتالي هو فرع من فروع القانون الخاص؟ وهو السؤال الذي نرى بأن اإلجابة عليه
تكون بتناول عالقة قانون العقوبات بكل فروع القانون ،سواء الخاصة
أو العامة منها ،لنحكم بعدها عن طبيعة قواعده وموقعها من هذا التقسيم ،أم تتنوع أصال بذاتية واستقاللية تميزها عن
سائر القواعد القانونية األخرى .أم مجرد قانون مكمل لباقي فروع القانون األخرى وال يمكنه أن يتدخل ويلقى مجاال
للتطبيق إال عند عجز هذه القوانين عن كفالة حماية قانونية فعالة لقواعدها وأحكامها .وذلك من خالل مطلبين ،نتناول في
األول ،عالقة قانون العقوبات بفروع القانون األخرى بمختلف تقسيماتها ،وفي الثاني تحديد مكانة هذا القانون في النظام
القانوني للدولة .على أن نخصص الثالث ،وعلى غير العادة ،لخصائص هذا القانون وأهدافه ،ونقول على غير العادة،
كونه جرت العادة على أن يتم تناول الخصائص ضمن المفهوم .لكن لطبيعة هذا القانون تركنا تناول الخصائص إلى ما
بعد تحديد طبيعة هذا القانون التي بإمكانها أن توضح بذاتها العديد من خصائص هذا القانون وكذا أهدافه المرتبطة بهذه
الخصائص.
المطلب األول
عالقة قانون العقوبات بفروع القانون األخرى
سنحاول من خالل هذا الفرع ،وباختصار ،أن نحدد عالقة قانون العقوبات بكل فروع القانون األخرى،
سواء كانت عامة أو خاصة ،ومن خالل ذلك يمكننا الحكم عن طبيعته وما إن كان قانونا عاما
أو خاصا ،أو له ذاتية واستقاللية تميزه عن سائر الفروع األخرى .وذلك من خالل الفروع التالية .أين نتناول عالقة
قانون العقوبات بفروع القانون العام ،في فرع ،وفي آخر ،عالقته بفروع القانون الخاص ،وما دمنا بصدد تحديد
العالقات ،فإننا نخصص فرعا لعالقة قانون العقوبات بقواعد الدين واألخالق.
الفرع األول
عالقة قانون العقوبات بفروع القانون العام
باالطالع على محتوى غالبية الفروع القانونية التي تعد من القانون العام ،نجد بأن لقانون العقوبات
عالقة مباشرة ووطيدة بمختلف هذه الفروع ،حيث أنه وباالطالع على القانون الدستوري – كأهم القوانين العامة في
الدولة -نجد بأن القانون الجنائي هو المخول للحماية أهم المبادئ واألحكام التي يتضمنها القانون الدستوري ،سواء تعلق
األمر بالحقوق والحريات ،حيث أن القانون العقوبات يجرم كل األفعال والسلوكات التي تمثل اعتداء على هذه
األخيرة] ،[18وسواء تعلق األمر بحق الدولة في االحتفاظ بشكل الحكم ،حيث يعاقب قانون العقوبات على جرائم الخيانة
][10
والتجسس وكل أنواع االعتداءات التي تمس بأمن الدولة سواء من جهة الداخل أو من جهة الخارج] ،[19كما يجرم كل
االعتداءات الواقعة على االقتصاد والدفاع الوطنيين] ،[20وتجريم كل االعتداءات والمؤامرات ضد سلطة الدولة
وسالمة أرض الوطن] ....[21وهي أمور تبين بكل وضوح العالقة الوطيدة بين القانونيين الجنائي والدستوري ،الذي
يعد أهم القوانين العامة في الدولة أيا كان شكل الحكم فيها ،ومثل هذه العالقة الوطيدة جعلت الفقه ينظر لفرع قانوني
جديد سماه ب ":القانون الجنائي الدستوري"].[22
أما بخصوص القانو ن اإلداري ،الذي يعد من أهم القوانين العامة للدولة ،والذي عن طريقه تسير الدولة
مصالحها ومرافقها ،نجد لقانون العقوبات عالقة جد وطيدة به ،باعتباره يجسد حماية جد فعالة من االعتداءات التي
تكون السلطة اإلدارية أو اإلدارة العامة عرضة لها ،بدءا من ضمان سير المرافق العامة وتنظيم ممارسة السلطة
اإلدارية في الدولة والرقابة على الموظفين وضمان احترامهم لحقوق وحريات األفراد ،ضمن ما سماه المشرع الجزائي
ب ":تواطؤ الموظفين" ( المواد من 112حتى ،)115والرقابة على السلطات اإلدارية والقضائية وحدود ممارستهما
لسلطاتهما ( المواد من 116حتى ،)118االختالس والغدر] ،[23الرشوة واستغالل النفوذ باعتباره من جرائم
الموظفين ،إساءة استعمال السلطة ضد األفراد واألشياء العمومية ( المواد من 135حتى ،)142وهي كلها تهدف إلى
ضمان احترام السلطات لمهامها ،وفي المقابل هناك جرائم من خالقها يحمي قانون العقوبات الموظف ،ويجعله يؤدي
مهامه في ظل من الحماية الفعالة ،كحمايته من أفعال اإلهانة والتعدي ( المواد من 144حتى ،)148حماية أختام الدولة
( المادة 155وما بعدها) ،وهي كلها أمور تبين لنا العالقة الوطيدة بين القانون اإلداري القانون الجنائي ،للدرجة التي بدأ
فيها البعض أيضا ينظر لقانون عقوبات إداري.
وعلى العموم لقانون العقوبات عالقة وطيدة بمختلف فروع القانون العام ،سواء تعلق األمر بالقانون
الضريبي أو الجبائي وما قرره من تجريم ألفعال التهرب والغش الضريبي ،والقانون المالي وما يقرره من تجريم
لالعتداءات ا لواقعة على هذا المال ،كما تظهر عالقته الوطيدة بالقانون الدولي العام ،وذلك من خالل فرعين قانونيين
هامين ،هما القانون الجنائي الدولي ،الذي ينظم العالقات الجنائية فيما بين الدول ،خاصة في مجال تسليم المجرمين
وطرد األجانب والتعاون الدولي لمكافحة الجرائم ...وفرع قانوني آخر حديث نسبيا ،وهو القانون الدولي الجنائي،
الذي ينظم جملة من األفعال التي تشكل جرائم ماسة بكل الدول ،والتي تسعى لمكافحتها على النطاق العالمي الواسع في
إطار نوع من التنسيق والتعاون ،مثل جرائم الحرب والجرائم ضد اإلنسانية ،وجرائم المخدرات بمختلف أنواعها،
واالتجار بالرقيق ،وعموما كل أنواع اإلجرام الدولي المنظم].[24
و بالتالي يمكن القول مما سبق ،بأنه للقانون الجنائي عالقة جد وطيدة مع كل فروع القانون العام في
الدولة ،األمر الذي جعل الرأي الفقيه الجنائي الغالب يستقر عليه ،ودون البحث في عالقة قانون العقوبات بفروع القانون
الخاصة ،معتبرا هذا القانون جزء من النظام القانوني العام للدولة ،وهو النظام الذي تتضامن قواعده فيما بينها لتنظيم
المجتمع ،وحماية المصالح االجتماعية العامة ،وتنظيم عالقات ذات طبيعة عامة ،سواء كانت بين مؤسسات الدولة فيما
بينها ،أو بين ه ذه المؤسسات واألفراد ،وبالتالي القانون الجنائي ،شأنه شأن القانون الدستوري والقانون الدولي العام،
والقانون اإلداري والقانون المالي ،من فروع القانون العام .غير أننا سنحاول رغم ذلك محاولة استقراء عالقة قانون
العقوبات بفروع القانون الخاصة ،حتى ال يفهم من الكالم السابق أن هذه العالقة منعدمة.
الفرع الثاني
عالقة قانون العقوبات بفروع القانون الخاص
من أهم فروع القانون الخاص في كل النظم القانونية ،نجد القانون المدني الذي يعد الشريعة العامة
للقوانين الخاصة ،والذي تفرعت عنه باقي القوانين األخرى ،ومنها القانون التجاري وقانون األحوال الشخصية ،وهي
الفروع التي تقتصر دراستنا عليها في تبيان عالقتها بقانون العقوبات .فبخصوص القانون المدني وما ينظمه من حقوق
مثل الملكية والحيازة والعقود ،نجد بأن قانون العقوبات يوفر حماية لكل هذه المواضيع التي تعد من صمم اهتمامات
القانون ا لمدني ،فهو يحمي الملكية سواء المنقولة منها أو العقارية من أفعال السرقة والنهب والنصب وخيانة األمانة
][11
واإلتالف والحرق ومن كل أشكال التعدي األخرى ،ويحمي العقود من التزوير ...وبالتالي قانون العقوبات هو الموفر
للحماية القانونية الفعالة للنظم المقررة في التقنين المدني ،وبالتالي العالقة بينهما جد ظاهرة.
وبخصوص القانون التجاري المنظم لفئة التجار وأعمالهم التجارية ووسائل قيامهم بمهاهم المتمثلة في
األوراق التجارية ،نجد بأن قانون العقوبات يحمي هذه األوراق من التزوير ،ومن كل أفعال تنال من الثقة المفروضة
فيها ،ك ما يحمي العالمات التجارية والمنافسة ،ويعاقب على انعدام الفواتير ومخالفة األسعار ...األمر الذي يبين أيضا
العالقة المتينة بين القانونين.
وبخصوص قانون األحوال الشخصية ،نجد بأن قانون العقوبات هو المقرر للحماية الجنائية لألسرة من
خالل تجريم االعتداءات التي تشكل تهديدا لها ،مثل تجريمه لألفعال التي تشكل هتكا لعرض األسرة ،كجريمة الزنا
وهتك العرض ،ويحمي البناء من خالل تجريمة لفعلي اإلهمال والترك وعدم دفع النفقة المقررة ،وتعريض حياة القصر
للضياع ...بل نجد قانون العقوبات قد خصص فصال كامال للجنايات والجنح التي ترتكب ضد األسرة في المواد من
304إلى 309منه .وتبرز هنا أيضا العالقة الظاهرة بينه وبين قانون األسرة.
و بالتالي نتوصل إلى القول بأنه لقانون العقوبات عالقة بسائر فروع القانون الخاص ،مثلما وجدنا بأنه له
عالقة مع سائر فروع القانون العام ،األمر الذي ال يمكننا حتى هذه اللحظة من الحكم على طبيعة هذا القانون وما إن
كان فرعا قانونيا عاما أم فرعا قانونيا خاصا؟ وهو السؤال الذي يقودنا لنقطة ثانية نبحث من خاللها عن مكانة قانون
العقوبات في النظام القانوني للدولة .وهو موضوع دراستنا في المطلب الثاني ،غير أننا ما دمنا بصدد تحديد عالقة
قانون العقوبات بمختلف فروع القانون ،فإننا ال تود أن نفوت عالقته بقواعد الدين واألخالق.
الفرع الثالث
عالقة قانون العقوبات بالدين واألخالق
تفرض كل من قواعد الدين واألخالق ،مجموعة من الواجبات وااللتزامات على الفرد نحو ربه ونحو
غيره من األفراد ،ونحو نفسه أيضا ،وعادة ما تقوم مثل هذه االلتزامات والواجبات على أساس مبادئ البر واإلحسان
والخير والعدالة ،وكل ما يهدف إلى سمو النفس البشرية ،وذلك تحت التهديد بمجموعة من الجزاءات غير القانونية ،منها
الجزاءات الدينية ،أو في استهجان الرأي العام أو حتى ذاتية ،تتمثل في وخز الضمير ،لذا فعالقة قواعد الدين واألخالق
تأثير كبير ال ينكر على قواعد قانون العقوبات ،حيث كثيرا ما يستلهم منها المشرع الجنائي بعض قواعد التجريم
والعقاب ،كما أنه بها يستهدي القاضي ويسترشد عند تقييمه للمسؤولية وتقديره للعقاب ،وعليه فعالقة االلتقاء بين الدين
واألخالق وقانون العقوبات أيضا وثيقة في مجال عالقة الفرد بغيره من األفراد ،وإن كان لكل من القواعد مجاله
ونطاقه .بالرغم من وجود عالقة تعارض بينهما أحيانا ،حيث قد يهتم قانون العقوبات ببعض المجاالت التي ال تهتم بها
قواعد الدين واألخالق ،مثل قواعد المرور ،كما قد تهتم قواعد الدين واألخالق ببعض المجاالت التي ال يهتم بها قانون
العقوبات ،مثلما هو الشأن بالنسبة لجريمة الزنا إال في بعض الجوانب الوضعية المبتدعة .وهو ما جعل بعض الفقه،
يرى أن دائرة قانون العقوبات ال تتطابق مع دائرة قواعد األخالق ،فهي أضيق منها من وجه ،وأوسع منها من وجه
آخر ،وإن كان هناك منطقة تؤثر فيها قواعد الدين واألخالق على قواعد قانون العقوبات.
المطلب الثاني
مكانة قانون العقوبات في النظام القانوني للدولة
بعد إجرائنا للعالقة الموجودة بين القانون الجنائي ومختلف فروع القانون األخرى ،سواء كانت عامة أو
خاصة ،تبين لنا أن عالقته موجودة بكل فرع القانون هذه أيا كانت طبيعتها ،مما يجعلنا لم نجب بدقة عن السؤال ولم
نحدد طبيعته .وهو ما أثار جدال فقهيا واسعا بين اتجاهين ،يرى أحدهما بأن قانون العقوبات ما هو إال فرع من فروع
القانون العام ،والثاني ،يرى أنه فرع من فروع القانون الخاص ،ولكل من االتجاهين حججه ،وهو الخالف الذي نتناوله
باختصار في فرع ،لنتناول في آخر االتجاه الغالب في الفقه.
الفرع األول
][12
الخالف حول مكانة قانون العقوبات
انقسم الفقه بخصوص مكانة قانون العقوبات بين قائل بأنه فرع من فروع القانون العام ،وآخر قائل بأنه
فرع من فروع القانون الخاص ،ولكل اتجاه حججه وأسانيده ،والتي نحاول تناولها باختصار في النقطتين التاليتين].[25
أوال :قانون العقوبات فرع من فروع القانون العام
يرى أنصار هذا االتجاه ،أن قانون العقوبات حتى وإن كانت له عالقة بفروع القانون الخاص ،ألنه تطبيقه يمس
العالقة بين الفرد والدولة وأن المتهم في الدعاوى الجزائية يحاكم باسم الشعب ،وأنه غالبية األفعال التي يعاقب عليها
موجهة ضد مصالح المجتمع ،كجرائم أمن الدولة ،وجرائم اختالس المال العام ورشوة الموظفين ،وهي المواضيع التي
ال جدل حول اعتبارها مواضيع من القانون العام ،وأن الجرائم التي يظهر أنها تمثل مصلحة لألفراد ،كالقتل والضرب
والسرقة ،فهي جرائم تمس بطريق غير مباشر مصلحة المجتمع أيضا ،كون هذه األخيرة تقتضي تأمين حقوق أفراده
األساسية مثل حقهم في الحياة والسالمة الجسدية والملكية ،وأن تأمين هذه الحقوق الخاصة تشكل في مجموعها تأمين
مصالح المجتمع األساسية .وبالتالي ،تكون المصالح التي يحميها قانون العقوبات دوما مصالح اجتماعية عامة ،حتى وإن
تضمنت بالتبعية حماية حقوق يظهر أنها خاصة .كما يعد القانون الجنائي من فروع القانون العام ،بالنظر لزاوية
العالقات التي ينشئها بعد وقوع الجريمة ،والتي ترتب قيام حق الدولة كممثلة للمجتمع في متابعة مرتكب الجريمة
ومعاقبته ،عن طريق جهاز عام وهو جهاز النيابة العامة ،مما يجعل قانون العقوبات بكل قواعده فرع من فروع القانون
العـــــام.
ثانيا :قانون العقوبات فرع من فروع القانون الخاص
على عكس االتجاه األول ،يرى أنصار هذا االتجاه ،بأن قانون العقوبات أقرب للقوانين الخاصة ،سيما
إذا نظرنا للتالزم الدائم بين الدعوى العمومية والدعوى المدنية التبعية ،وأن معظم نصوصه تجرم وتعاقب حقوقا خاصة
باألفراد وتتدخل كلما عجزت القوانين الخاصة عن فرض الحماية الكافية ألحكامها ،وبالتالي الجدل الفقهي لم يفصل في
طبيعة قانون العقوبات ،هنا ظهر اتجاه غالب في الفقه ،رأى أنه لقانون العقوبات ذاتية واستقاللية عن كل فروع
القوانين ،سواء كانت خاصة أو عامة .وهي المسألة التي نتناولها في الفرع الموالي.
الفرع الثاني
ذاتية قانــــون العقوبات
يرى غالبية الفقه فصال للجدل السابق ،أن قانون العقوبات وبالرغم من عالقته بكامل فروع القانون
الخاص ،إال أنه فرع من فروع القانون العام في الدولة ،غير أنه يختلف عنها باستقالله عنها ،وبذاتية تميزه عن غيره
من فروع القانون العام األخرى ،وليس مجرد حارس للقوانين األخرى سواء كانت عامـــــة أو خاصة .فوظيفة القانون
الجنائي داخل النظام القانوني للدولة ،ليست مجرد وظيفة احتياطية باعتباره يتضمن قواعد جزائية تتدخل في حالة عجز
القوانين األخرى على بسط حماية لنفسها ،فيتدخل لفرض االحترام لهذه القواعد ،مما يجعله قانون تابع لغيره ذو طبيعة
احتياطية تدخله مرهون بعجز القواعد األخرى ،األمر الذي يجعله مجرد حارس أو شرطي للقوانين األخرى ،يتم
االستنجاد به فقط في حالة عجز القواعد األخرى] .[26وإن كان هذا القول يعد جزءا من الحقيقة ،غير أنه ليس الحقيقة
كلها ،كون القانون الجنائي يشكل وحدة قانونية تتشكل من مجموعة من القواعد القانونية ذات الطبيعة الخاصة ،التي ال
تشبه أي فرع قانوني آخر ،خاصة وأنه يتميز ببعض القواعد التي لم يسبق لباقي القوانين أن عرفتها ،ويرتب التزامات
تجهلها ه ذه القوانين ،كااللتزام باحترام اآلخرين ومساعدتهم ،وفكرة الشروع التي في حقيقتها ال تعد اعتداء على أي حق
من الحقوق أيا كانت طبيعتها ،ويتطلب العمد كقاعدة والخطأ كاستثناء ،ويركز في الكثير من األحيان على بعض
الظروف األخرى ،مثل شخصية الجاني والمجني عليه ،وزمان ومكان ارتكاب الجريمة ،ووسيلة ارتكاب الجريمة،
ومثل هذه المسائل ليست ذات أهمية في فروع القانون األخرى ،كما أن القانون الجنائي وإن استعار مفهوما أو فكرة من
فرع قانوني آخر ،فإنه ال يتقيد بالمفهوم المعطى لها في هذا الفرع من فروع القانون ،بل قد يوسع أو يضيق منه بحسب
هدفه في حد ذاته بعيدا عن هدف القانون اآلخر ،كمدلول الملكية والحيازة والشيك والموظف العام ،واهتمامه بفكرة
الخطورة اإلجرامية ،وهي كلها أفكار تميزه وتجعل له ذاتية مستقلة عن سائر فروع القانون األخرى سواء كانت عامة
أو خاصة .وإن كان فعال من القانون العام كون ه يهدف بالدرجة األولى لحماية النظام العام والمصلحة العامة ،وهو األمر
][13
الذي انعكس بوضوح على خصائص هذا القانون وأهدافه ،التي ال يتميز بها أي قانون آخر سواه ،وهي الخصائص التي
سنتناولها في الفرع الموالي ،مع أهداف هذا القانون ،مذكرين بأننا تعمدنا ترك الخصائص لما بعد تحديد الطبيعة وذلك
على غير العادة – حيث في الغالب ما تعالج الخصائص مع التعريف ضمن المفهوم.-
المطلب الثالث
خصائص وأهداف قانون العقوبات
ن ظرا لطبيعة قواعد قانون العقوبات وما تميز به محتوى وذاتية واستقاللية ،جعلته يتميز بجملة من
الخصائص التي تعطي لهذا القانون نوع من التميز عن باقي فروع القانون األخرى ،وتؤكد فعال فكرة ذاتيته واستقالليته
التي توصلنا إليها في النقطة السابقة ،وتجعله يحقق أهداف مغايرة تماما لألهداف المتوخاة من باقي فروع النظام
القانوني في الدولة ،لذا سنحاول أن نتناول هذا الفرع من خالل فرعين ،نخصص األول لخصائص قانون العقوبات،
والثاني ألهدافه.
الفرع األول
خصائص قانون العقوبات
يتميز قانون العقوبات بجملة من الخصائص التي تميزه عن باقي فروع القانون األخرى ،وتؤكد
استقالليته عنها وتمتعه بذاتية ،ومن أهمها ،أنه قانون ذو طابع سيادي أحادي المصدر متصف بنوع من الثبات
واالستقرار والتعقيد ،وهو ما نفصله في النقاط التالية.
أوال :قانون العقوبات ذو طابع سيادي
م ن أهم الخصائص التي ينفرد بها قانون العقوبات عن سائر الفروع القانونية األخرى ،هو طابعه
السيادي الذي من خالله تعبر الدولة عن سيادته على إقليمها وبسط نفوذها عليه ،من خالل مبدأ اإلقليمية الحاكم لتطبيق
هذا القانون كقاعدة – على نحو ما سنراه -ومن خالله تعبر الدولة عن سيادتها على األفراد أيا كانت جنسيتهم وتفرض
عليهم السلوكات التي تتماشى وأهدافها ،وعن طريقه تفرض النظام واالستقرار واألمن داخل المجتمع ،كما أنه القانون
الوحيد الذي يطبقه القاضي الوطني الذي يمتنع عليه كقاعدة تطبيق قوانين العقوبات األجنبية.
ثانيا :قانون العقوبات أحادي المصدر
ن ظرا الرتباط قانون العقوبات بسيادة الدولة ،وبناءه على مبدأ فريد من نوعه هو " مبدأ شرعية الجرائم
والعقوبات" الذي يقضي بأنه ال جريمة وال عقوبة إال بنص صريح في القانون وأن يكون هذا األخير صادر عن سلطة
مختصة بإصداره وفقا للدستور ،ووفقا إلجراءات محددة ومبينة دستوريا مخافتها يترتب عليه بطالن النص .مما يجعل
منه قانوني أحادي المصدر ،على عكس القانون المدني الذي تقضي المادة األولى منه بتعدد مصادره ،وهي الخاصية
التي جعلت من قانون العقوبات يتميز بأخرى ناجمة عنها ،وهي أنه قانون جامد.
ثالثا :قانون العقوبات قانون جامد
م ن الخاصية السابقة التي تحصر مصدر قانون العقوبات في النص التشريعي المكتوب ،فإن التجريم
وال عقاب والتعديل والتغيير في أحكامه ،يتطلب المرور بمراحل معقدة وطويلة وتتطلب فترة زمنية أطول مما تتطلبه
باقي فروع القانون األخرى ،مما يجعله قانون يتميز بالجمود والثبات واالستقرار النسبي .خاصة وأن تجريم فعل جديد
أو إلغاء جريمة موجودة يتطلب فترة زمنية طويلة ال نظير لها مع أي قانون آخر.
][14
الفرع الثاني
أهداف قانون العقوبات
بالنظر للذاتية الخاصة التي يتمتع بها قانون العقوبات وطبيعته السيادية ،ووضعه الخاص في النظام
القانوني للدولة ،فإننا نجده يهدف إلى تحقيق مرامي سامية ورئيسية ،يمكن لنا أن نوجزها في حماية مصالح المجتمع
وتحقيق األمن والطمأنينة ألفراده ،وتحقيق العدالة ،كل ذلك عن طريق فكرتي الردع العام والخاص ،وهو ما نبينه
باختصار في النقاط األربعة التالية].[27
أوال :حماية المصالح االجتماعية المشتركة
ي هدف قانون العقوبات أساسا إلى حماية المصالح االجتماعية المشتركة لجموع األفراد الذين ينتمون
للمجتمع ،سواء كانت هذه المصالح جسدية ،كالحق في الحياة وسالمة البدن من جرائم القتل والضرب والجرح وكل
أشكال اإليذاء األخرى ،أو مادية اقتصادية ،كحماية األموال وكل أنواع الملكية والحيازة من السرقة والنصب واالحتيال
واإلتالف ...أو أدبية معنوية ،كحماية الشرف واالعتبار من جرائم القذف والسب والشتم والتحقير...
ثانيا :تحقيـق العدالة
قواعد قانون العقوبات قواعد عامة ومجردة ،كونها تهدف إلى تجريم السلوكات التي يرى المشرع أنها
ضارة بمصالح المجتمع ،دون أن يميز في ذلك بين األفراد الذين يرتكبونها ،مقرا عقوبة واحدة للجميع ،ومبينا أحكام
تدرج المسؤولية بصفة موضوعية ومجردة ،ومراعيا ألوضاع الجناة والمجني عليهم وموازاة ذلك مع مصالح المجتمع،
مبنيا على العديد من األفكار القانونية التي تعد تجسيدا لفكرة العدالة في معناها الواسع ،كمبدأ الشرعية ومبدأ مادية
الجريمة ،وفكرة الذنب أو اإلثم ،وشخصية المسؤولية والعقوبة ...وهو في ذلك يرمي لتحقيق المساواة والعدالة داخل
المجت مع ،وهي الهدف الذي يقود لهدف آخر ال يقل أهمية وهو توفير األمن والطمأنينة لألفراد ،الذي نتناوله في النقطة
الموالية.
ثالثا :توفير الطمأنينة لألفراد
يعد قانون العقوبات صدرا لتحقيق األمن والطمأنينة للمخاطبين بأحكامه ،بالنظر لما تتضمنه قواعده من
تحديد مسبق لما هو محظور على األفراد إتيانه ،وبناءه على مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات ،وهو المبدأ الذي يوفر
األمان لألفراد من تعسف وتحكم السلطة التنفيذية والقضائية ،وبناء عليه قررت العديد من المبادئ األخرى التي تعد
مصدرا لالستقرار النفسي لألفراد أهمها تقادم الجرائم والعقوبات ،عدم رجعية نصوص القانون العقوبات للماضي.
رابعا :تحقيق الردع العام والردع الخاص
الردع العام يتحقق بما تلحقه أحكام قانون العقوبات من تخويف وترهيب ألفراد المجتمع بما تتضمنه من
عقوبات ،ومن رؤيتهم إنزال هذه العقوبات على الجناة ،أما الردع الخاص ،فيتحقق بإنزال الجزاء على مقترفي الجرائم
كنتيجة لعدم امتثالهم ألوامر ونواهي قانون العقوبات ،لتكون مانعا لهم من معاودة اإلجرام].[28
الفصل الثاني
تطور قانون العقوبات
مــر قانون العقوبات في تطوره بالعديد من المراحل ،وهي التي ميزت تطور المجتمعات البشرية،
وعرف الكثير من التطورات واالنقالبات ،غير أننا سنركز دراستنا فقط على أهم المراحل التي تساعدنا على فهم مبادئه
ومضامينه التي ترسخت اليوم كنظريات .وفي تمييز مراحل تطور قانون العقوبات يمكن القول بأنها ثالث مراحل
أساسية ،هي مرحلة المجتمعات القديمة ما قبل ظهور وقيام الدولة ،وبعدها مرحلة ظهور هذه األخيرة وقيامها –الدولة،
ثم مرحلة ظهور المدارس الفقهية وأثرها على تطور قانون العقوبات ،غير أننا سنحاول أن نتناول هذا التطور ضمن
][15
مبحثين أساسيين ،نخصص األول لمحلة ما قبل ظهور المدارس الفقهية ،والثاني لتطور قانون العقوبات مع ظهور
المدارس الفقهية ،كون األخيرة هي التي ساهمت في تطوره ووصله للشكل الذي هو عليه حاليا.
][16
المبحث األول
قانون العقوبات في المجتمعات القديمة
يقصد بالمجتمعات القديمة ،تلك المراحل الزمنية الطويلة التي مرت بها المجتمعات البشرية قبل أن
تنتظم في شكل دول ،وفي هذا الوقت أكد الباحثين أن البشرية عرفت أربعة نظم أساسية ،هي نظام األسرة ،نظام
العشيرة ،نظام القبيلة ،ثم فكرة المدينة التي كانت أساسا لقيام الدول .ورغم بساطة تكوين هذه الجماعات البشرية
الصغيرة وطريقة عيشها التقليدية ،إال أنها عرفت الجريمة ورد الفعل المقابل ضدها ،وهو ما أكدته الكتب السماوية منها
الشريعة اإلسالمية الغراء ،حيث بينت أن أول فعل بشري مثير على وجه األرض كانت جريمة قتل ،حيث قال عز وجل
في اآلية 29من سورة المائدة ":،فطوعت له نفسه قتل أخيه فأصبح من الخاسرين" في إشارة إلى قتل ابن آدم " قابيل"
ألخيه هابيل .واالهتمام بالجريمة ورد الفعل المقابل ،أي الجزاء ،كانت النواة األولى لالهتمام بقانون العقوبات ،مثلما هو
األمر عليه اليوم ،حيث أن أساس قواعد قانون العقوبات " الجريمة والجزاء" المشكلة للشق الموضوعي للقاعدة
الجزائية .وسنحاول تقسيم تطور قانون العقوبات في المجتمعات القديمة إلى مرحلتين أساسيتين ،هما مرحلة ما قبل
ظهور الدولة ،ومرحلة ظهورها ،وذلك في المطلبين التاليين ،مركزين فقط أهم التطورات التي شكلت مالمح القوانين
العقابية المعروفة في العصر الحديث ،دون تلك التفاصيل التي انفردت بها هذه المجتمعات ولم يبق لها اثر اليوم.
المطلب األول
قانون العقوبات في فترة ما قبل ظهور الدولة
قبل ظهور الدول ،عرفت المجتمعات البدائية التقليدية األولى نظم اجتماعية بسيطة ،تمثلت في األسرة،
القبيلة ،ثم العشيرة .والتي عرفت بعض النظم واألفكار التي انعكست على مبادئ ونظريات قانون العقوبات ،وطورت
في مراحل تطوره الالحقة .وهو ما نحاول اإلشارة إليه باختصار وبتناول أهم األفكار التي جاءت بها هذه التطورات،
وذلك في الفرعين التاليين.
الفرع األول
مجتمع األسرة وقانون العقوبات
كانت بداية االهتمام بقانون العقوبات ،وتشكل نواته األولى ،عن طريق األعراف التي تشكلت
بخصوص فكرة " العدوان" ،حيث كان كل اعتداء على فرد من أفراد األسرة يعد كاعتداء على سائر أفرادها ،سواء
كان ا عتداءا داخليا أو خارجيا من فرد أو أفراد من أسر أخرى ،في الحالة األولى يقرر رب األسرة الجزاء المقرر على
الفرد مقابل اعتداءه على أسرته ،والذي قد يصل حد النفي من األسرة أو القتل ،وفي حالة االعتداء الخارجي كان الجزاء
عبارة عن ثأر جماعي] .[29وما يمكن قوله عن هذه الفترة من حياة البشرية ،أن الجرائم كانت قليلة وعادة ما تنحصر
في جرائم األشخاص فقط ،وعلى الخصوص جريمة القتل ،وذلك راجع لبساطة الحياة في تلك المجتمعات وقلة األموال
التي يحتمل االعتداء عليها ،مما انعدم معه جرائم األموال ،وكان رد الفعل على الجرائم التي كانت موجودة غريزيا
يتمثل في انتقام المجني عليه أو أهله ،على الجاني أو أهله ،وهو االنتقام الذي يساوي أو يفوق – في غالب األحيان-
الضرر الذي لحق بهم ،مما جعل من حلقات االنتقام تتسلسل وتتاولى حيث كل انتقام يعقبه انتقام مضاد وهكذا ،األمر
الذي يترك بصمة واضحة وكبيرة في مجال تطور قانون العقوبات..
الفرع الثاني
مجتمع العشيرة وقانون العقوبات
بالنظر لكون العشيرة عبارة عن انضمام بعض األسر لبعضها البعض] ،[30خاصة تلك التي تربط
بينها روابط النسب ،ورثت العشيرة النظام العقابي الذي كان سائدا في مرحلة األسرة ،وطورته نوعا ما بما يالءم
مصالح العشائر الجديدة ،خاصة وأن سلطات رب األسرة في توقيع الجزاء ،انتقلت إلى رئيس العشيرة في حال ما إن
كان الجاني ينتمي لهذه العشيرة ،وحلت فكرة االنتقام الجماعي" بين أسر العشيرة الواحدة ،مما هدد أمن العشائر وأحلوا
محله فكرة الطرد من العشيرة حتى ال يعرض وحدتها للخطر ،واهتدوا أيضا لفكرة نظام القصاص الذي كان له تأثير
كبير في الحد من شهوة االنتقام الفردي والمبالغة في الثأر .غير أنه في حاالت االعتداءات الخارجية بقيت الحروب بين
العشائر وسيلة لتوقيع الجزاء واالنتقام من جناة العشائر األخرى ،وتفكيرا في الحد من ويالت هذه الحروب اهتدت
][17
العشائر لفكرة الدية والصلح ،الدية وهي مبلغ من المال تدفعه عشيرة المعتدي لعشيرة المعتدى عليه نظير تنازلها عن
الثأر ،مما قلل من الحروب التي كانت تثار من حين آلخر بين هذه العشائر ،وقربت بينها ،األمر الذي جعلها تتحد في
نظم اجتماعية أوسع هي نظم القبيلة والمدن] .[31سيما بظهور الديانات التي ساهمت في هذا التوحد واالندماج ،وقوت
من سلطات الحكام التي اصطبغت بصبغة دينية ،األمر الذي جعل من الجرائم التي يقرها تصطبغ بصبغة دينية أيضا،
وتجعل من العقوبة التي تنزل بالجاني ،إرضاء لآللهة قبل أن تكون انتقاما أو ثأرا .مما مكن الكهنة ورجال الدين في
التجريم والعقاب .ويمكن القول أن هذا التطور يسمح لنا القول بأن سلطات التجريم والعقاب انتقلت من رب األسرة إلى
رب العشيرة إلى رجل الدين أو الكاهن ،وأن العقوبة إرضاء لآللهة قبل أن تكون عبارة عن انتقام أو ثأر من الجاني.
ومع ظهور الدول عملت على تعديل مضامين التجريم والعقاب بما يبسط هيبتها ويؤكد هيمنها ويفرض سادتها
وسلطانها ،وكانت وسيلتها الوحيدة في ذلك قانون العقوبات ،وقد كان لها ذلك فعال.
المطلب الثاني
قانون العقوبات ومرحلة ظهور الدولة
مع البدايات األولى لظهور الدولة ،عملت األخيرة على اإلبقاء على نظامي الصلح والدية ،وتعديلها بما
يخدم أهدافها ويحافظ على مصالحها ،لذا أول ما قامت به أن جعلت منهما نظامين إجباريين ،بعدما كانا في المجتمعات
القديمة نظامين اختياريين ،وفي شق التجريم عملت على التوسع في الجرائم العامة على حساب الجرائم الخاصة ،مما
مكنها من القضاء على سلطات رؤساء العشائر والقبائل ،وقامت من جديد بتعديل النظم التجريمية والعقابية بما يخدم
مصالحها اآلنية ،ويقوي نفوذها ويحقق أهدافها .وعكس المجتمعات القديمة أين كان االهتمام بالعقوبة أكثر من االهتمام
بالجريمة ،فإنه مع ظهور الدولة انعكس الوضع ،وبدأ االهتمام بالجريمة أكثر من العقاب ،فبعدما عملت على إحداث
الجرائم العامة الماسة بنظام الدولة ،ووسعت من نطاقها على حساب الجرائم الخاصة ،ربطت الجريمة بنظام وأمن
المجتمع – وهي الفكرة السائدة في النظام الجنائية الحديثة -وبما أن الجريمة مساس وتعريض لمصالح الدولة وسيادتها
للخطر ،فإن رد الفعل عليها حق للدولة فقط ،لها أن تقرر نوعه ومقداره ،وبالتالي أصبح النظام العقابي شأن من شؤون
السلطة وحدها دون غيرها .كما ظهرت فكرة الردع ووقاية المجتمع من اإلجرام ،كأهداف للجزاء الجنائي عوض
ا النتقام والثأر ،والردع قد يكون خاص يتمثل في تكفير الجاني عن إثمه ،أو عام يتمثل في تخويف وترهيب باقي أفراد
المجتمع ،ليتأكد بذلك الدفاع عن أمن وسالمة المجتمع ،غير أن هذه األهداف جعلت الدول القديمة تبالغ في قسوة
العقوبات ،وهنا ظهرت عقوبات اإلعدام بكثرة ،مع عقوبات أخرى كثيرة تنطوي على الكثير من صنوف التعذيب ،مثل
اإلحراق وتمزيق األطراف والتغليل بالسالسل .األمر الذي جعل القرون الوسطى ،التي شهدت نشأة وظهور الدول تمر
بمرحلة سواد حالك في المجال العقابي ،في الغالب ما يتجاوزه الشراح األوروبيين ،إلخفاء حقيقة الوضع المأساوي في
المجتمعات األوروبية ،من جهة ،ولتغطية أفضال الشريعة اإلسالمية على المجتمعات من جهة ثانية .خاصة وأنها
الشريعة التي أنارت هذه الحقبة التاريخية وطورتها وأرست حضارة ظاهرة ال تخفى معالمها .وهو ما يقدونا إلى تناول
فكرة أثر الدين على تطوير قانون العقوبات] ،[32من خالل فرعين ،نتناول في األول قانون العقوبات والديانة
المسيحية ،وفي الثاني الشريعة اإلسالمية وأثرها في تطوير قانون العقوبات.
الفرع األول
قانون العقوبات والديانة المسيحية
ورثت الدول األوروبية القوانين الجزائية المصبوغة بصبغة دينية ،نتيجة انتشار الديانة المسيحية ،وهو
الوضع الذي استغلته الكنيسة وحاولت اإلبقاء عليه وتدعيمه ،ومحاولتها السيطرة على أجهزة العدالة بالنظر لكونها
صاحبة االختصاص ،باعتبار الجرائم اصطبغت بصبغة دينية ،الوضع الذي جعل الكنيسة تنازع الدولة في مسألة
االختصاص القضائي ،والتجريم والعقاب ،وهنا انقسم قطاع العدالة إلى قسمين ،عدالة كنسية يرعاها رجال الدين،
وعدالة دنيوية ترعاها الدولة ،ونتج عن ذلك صراع طويل ومرير انتهى في نهاية المطاف إلى تغليب دور المحاكم
الدنيوية على حساب المحاكم الكنسية ،مما زد من تعسف وتحكم أهواء الحكام ،وظلت العقوبات تتصف بالقسوة ،ابتلى
فيها الناس بعدالة ال ترحم ،هدفها وهمها الوحيد ردع الشعوب وتخويفهم وبث الرعب فيهم حفاظا على كيان الدولة،
ورغم ذلك بقيت الجرائم والعقوبات تتسم بصبغة دينية ،وساد اعتقاد في أوروبا أن أي كارثة أو مشكلة تحل بالمجتمع
][18
سببها غضب اآللهة عن الجريمة التي أغضبتها ،لذا يجب إنزال أشد العقوبات على من يغضب اآللهة ،واعتبرت العقوبة
في القانون الكنسي تكفير عن ذنوب الجاني وإرضاء لآللهة .ومما زاد األوضاع تعقيدا ،مبالغة القضاة في إرضاء
الحكام ،وتكريس الطبقية بين الناس وسيادة الالمساواة ،ومما أزم األوضاع أكثر اعتبار الحكام أنفسهم مفوضون في
األرض للحكم باسم اآللهة ،فكانت هذه الفترة في أوروبا في الحقيقة من أسوأ الفترات التي عرفتها العدالة الجنائية
وقانون العقوبات على اإلطالق ،امتدت لنهاية القرون الوسطى ،وبالضبط إلى ما قبل الثورة الفرنسية سنة .1789غير
أن األمر اختلف في الناحية الثانية من العالم بإطالل فجر الشريعة اإلسالمية.
الفرع الثاني
أثر الشريعة اإلسالمية في تطوير قانون العقوبات
على عكس الجانب المظلم للعدالة الجنائية وقانون العقوبات السائد في أوروبا في القرون الوسطى ،فإن
الجهة األخرى المقابلة كانت تنعم بتطبيق أكثر النظم القانونية الجنائية إحكاما ،حيث كانت تطبق الشريعة اإلسالمية،
التي نرى أنها على عكس التطورات السابقة ،اهتمت بالجريمة قبل اهتمامها بالعقوبة ،حيث قسمت الجريمة شرعا إلى
ثالثة أقسام مختلفة لكل منها قواعدها وأحكامها ،ولكل نوع منها عقوباتها الخاصة ،وأصناف الجرائم في الشريعة
اإلسالمية هي :جرائم الحدود التي حددت على سبيل الحصر في القرآن الكريم ،ويعاقب عليها بعقوبة تسمى الحد المقرر
كحق هلل عز وجل ،وهي جرائم قررت لحفظ النفس والنسل والعرض والمال والعقل والدين ،لذا قابلتها جرائم :السرقة،
الزنا ،القذف ،شرب الخمر ،الردة ،البغي والحرابة .والنوع الثاني من الجرائم ،هي جرائم القصاص والدية وهي جرائم
قررت حفاظا على مصالح األفراد ،والنوع الثالث ،وهو الجرائم التعزيرية التي تعني تأديب على الذنوب التي لم يأتي
فيها حد من الحدود ،أو القصاص والدية .كما اهتمت الشريعة اإلسالمية بفكرة المسؤولية الجنائية وطرق اإلثبات
وغيرها من األفكار التي لم تكن معروفة في القانون العقابي في الشق اآلخر من العالم.
وما يمكننا قوله عن دور الشريعة اإلسالمية ،نبرزه باختصار فيما قاله العالمة أحمد عبد الرزاق السنهوري ":
لو وطئت أكنافها وعبدت سبلها لكان لنا في هذا التراث الجليل ما ينفخ روح االستقالل في فقهنا وفي قضائنا وفي
تشريعاتنا ،ثم ألشرفنا نطالع العالم بهذا النور الجديد فنضيء به جانبا من جوانب الثقافة العالية في القانون " ،وهي
حقيقة لم يقف عندها فقهاء الشريعة اإلسالمية فقط وإنما حتى الفقه األوروبي المقارن ،خاصة في المؤتمر الذي عقدته
شعبة الحقوق الشرعية من المجتمع الدولي للحقوق المقارنة في كلية الحقوق جامعة باريس في 2جويلية 1951بعنوان:
" أسبوع الفقه اإلسالمي " ،حيث تم التأكيد على أن مبادئ الفقه اإلسالمي لها قيمة حقوقية تشريعية ال يمارى فيها ،كما
أن اختالف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات ومن
األصول الحقوقية التي هي مناط اإلعجاب ،والتي بها يستطيع الفقه اإلسالمي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة
والتوفيق بين حاجاتها وفي أثناء مناقشات هذا المؤتمر أبدى نقيب المحامين في باريس آنذاك دهشته بقولــه " :أنا ال
أعرف كيف أوفق بين ما كان يحكى لنا عن جمود الفقه اإلسالمي وعدم صالحيته كأساس تشريعي يفي بحاجات
المجتمع الحضري المتطور ،وبين ما نسمعه اآلن في محاضرات ومناقشات ،مما يثبت خالف ذلك تماما ببراهين
النصوص والمبادئ"
هذا ،ويمكننا أن ننبه طلبتنا األعزاء ،أن االهتمام في هذه المراحل كان منصبا باألساس على فكرة
العقوبة والجزاء ،وهو أمر تبينه غالبية الدراسات ،في حين أننا نرى األهم أن يتم التركيز على جانب الجريمة وهو ما
أهمل تماما ،لكن بدراستنا لمختلف التطورات أمكننا أن نستنتج المالحظات التالية بخصوص تطور نظرية الجريمة ،في
مقابل تطور نظرية الجزاء السابقة ،فالجرائم في المجتمعات البشرية القيديمة ،وبالنظر لبساطة طرق عيشها،لم تكن
متعددة بالشكل الحالي ،حيث أهم ما عرفته المجتمعات البشرية قديما خاصة في مرحلة األسرة وبداية تشكل العشائر،
هو الجرائم الواقعة على األشخاص وأهمها جريمة القتل ،ثم مع القوة التي بدأت تتخذها المكونات القديمة وتقوية طرق
عيشها ووسائل تبادلها ،بدأت تظهر الجرائم المالية ،وبظهور الدين ظهرت الجرائم التي تشكل اعتداء على الديانات،
أما من حيث تكوين البنيان القانوني وبظهور الدولة ونظم الحكم المختلفة ظهر ما يعرف اليوم بالجرائم السياسية.
للجريمة ،فلم يكن ينظر في المجتمعات القديمة للجانب النفسي للجريمة أو لمرتكبها ،وبمعنى قانوني أدق ،لم يكن ينظر
للركن المعنوي للجريمة ،حيث كانت مجرد فعل مادي يسأل من صدر عنه دون اعتداء بإرادته أو قصده ،فالجريمة وفق
][19
هذه المجتمعات كانت تتكون من ركن واحد هو ركن مادي .أما بداية بروز الركن المعنوي للجريمة واتخاذه مكانته
كركن أساسي في الجريمة ،كان مع ظهور القانون الروماني القديم ،لكن دوره كان مقتصرا على تحديد المسؤولية
وتقدير العقاب ال كركن بالمعنى القانوني الدقيق ،بناء عليه يكتمل البنيان القانوني للجريمة .غير أن هذا الركن اتخذ
مكانته الطبيعية إلى جانب الركن المادي ،بظهور الديانة المسيحية ،حيث تعد الجريمة في نظر الفقه الكنسي أن يكون
الجاني أراد الخطيئة واتجهت نيته إليه ا ،لكن مع الشريعة اإلسالمية تبلور بطريقة واضحة ،ومن بعده المسؤولية الجنائية
وموانعها وأسباب اإلباحــــة.
أما النقطة الثانية التي من خاللها يمكننا التطرق لتطور قانون العقوبات ،هي فكرة مبدأ الشرعية
أو على األقل مبدأ التجريم والعقاب ،حيث أنه في المجتمعات القديمة لم يكن المبدأ معروفا وبالتالي كان التعسف ومبدأ
الالمساواة ،وكان األفراد يفاجئون بجرائم لم يكن أمرها مجرما من قبل وتوقع عليهم عقوبات لم ينذروا بها من قبل
وعدم المساواة بن الجناة حيث كانت تتحكم في ذلك وضعهم االجتماعي والطبقي.
المبحث الثاني
قانون العقوبات وظهور المدارس الفقهية
بالرغم من أن ظهور الدولة لم يأتي بالكثير من الجديد لتطور القانون العقابي ،إال أن الوضع المظلم
والحالك الذي عرفته أوروبا في القرون الوسطى ،عرف ظهور العديد من التيارات الفكرية الجنائية المنادية لإلصالح،
وهي التيارات التي تولدت عنها العديد من المدارس الفقهية الجنائية التي الزال فكرها يدرس لغاية اليوم ،وتركت
][20
بصماتها الراسخة على قانون العقوبات ،بالرغم من أن كل مدرسة من هذه المدارس قامت على أسس فلسفية تختلف
تمام على المدارس األخرى ،ورغم هذا االختالف ،إال أنها ساهمت في إصالح تشوه واعوجاج العدالة الجنائية
األوروبية ،وأنقذتها من غرقها في الظلمة والفساد الذي كانت تعرفه ،وخلصتها من القوانين العرفية والمنشورات الملكية
التي كانت تكرس التعسف والتحكم والحكم وفق أهواء الحكام والملوك ،وتقنن الالمساواة والطبقية ،وكان ذلك نتيجة
إلشعال مشاعر الفالسفة والمفكرين التي حركت أقالمهم لتشعل كتاباتهم بوادر الثورة على األوضاع ،والمناداة بقانون
أكثر إنسانية ينبذ عم المساواة والتفرقة وتحكم القضاة واستبداد الحكام ،سيما في ظل تشبع المجتمعات األوروبية آنذاك
بفلسفة العقد االجتماعي ،للفقيه جون جاك روسو التي أوضح مضامينها في كتابه العقد االجتماعي ،وفلسفة الفقيه
مونتسكيو بظهور كتابه روح القوانين سنة 1748الذي أول ما أكد فيه هو نسبية قانون العقوبات وضرورة اختالفه
باختالف المجتمعات والعصور ،كما هاجم بشدة النتائج المترتبة عن االنتقام الجماعي وبصفة خاصة قسوة العقوبات،
األمر الذي شجع على إيجاد مناخ فكري جنائي نادى بقانون عقوبات يراعي روح العصر ورغبة المجتمعات في التغيير
والتجديد واإلصالح ،وكثرت التيارات الفكرية في أهم الدول األوروبية ،وأهمها إيطاليا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا ،التي
شكلت العديد م ن المدارس الفقهية ،التي ساهمت بصفة مباشرة في بلورة القانون الجنائي كنظام متكامل ،وأهم هذه
المدارس ،المدرسة التقليدية األولى ( المدرسة الكالسيكية) ،والمدرسة التقليدية الحديثة ،والمدرسة الوضعية ،والعديد من
المدارس الوسطية أو التوفيقية ،وأخيرا ظهور مدرسة الدفاع االجتماعي ،وعموما يمكن تلخيص هذه االتجاهات في
المدارس التقليدية ،ونقيضتها المدرسة الوضعية ،وبينما المدارس التوفيقية ،وهو األمر الذي نعالجه من خالل المطالب
الثالثة التالية..
المطلب األول
المدارس التقليدية
المدرسة التقليدية من أهم وأولى المدارس الفقهية التي اهتمت بقانون العقوبات وساهمت في تطويره
بشكل كبير ،خاصة وأنها شهدت العديد من التطورات في حد ذاتها ،وهي التطورات التي أسفرت عن ظهور مدرستين
تقليديتين ،سميت األولى بالكالسيكية أو بالتقليدية األولى أو القديمة ،وسميت الثانية بالمدرسة التقليدية الحديثة ،وكانت
هناك محاوالت إلنشاء مدرسة تقليدية ثالثة ،غير أن دراستنا ستتركز على المدرستين األوليتين ،في الفرعين التاليين.
الفرع األول
المدرسة التقليدية األولى (المدرسة الكالسيكية)
نشأت هذه المدرسة في منتصف القرن الثامن عشر] ،[33بعد صدور كتاب " الجرائم والعقوبات"
للمفكر اإليطالي بيكاريا سنة ،1764الذي ألفه في مجتمع اتسم بقسوة العقوبات والتجريم على األهواء وانتفاء المساواة
في التطبيق تبعا الختالف الطبقات ،حيث نادى في كتابه بوجوب المساواة والقضاء على الطبقية ،واإلقالل من قسوة
العقوبات ،ونادى بمبدأ قانونية الجرائم والعقوبات ،وهي األفكار التي اتبعها في إيطاليا فيال تيجري ،وفي ألمانيا
فويرباخ ،وفي إنجلترا بنتام ،الذي أدخل فكرة المنفعة كأساس لتقدير العقوبة ،وأن تكون العقوبة بقدر من اإليذاء واأللم
للمجرم بقدر يفوق اللذة التي حصل عليها من ارتكاب جريمته ،كما ركز على األثر الرادع للعقوبة ،خاصة الردع العام
الذي يعد أساس إحجام الناس على ارتكاب الجرائم ،وعموما يمكن تلخيص األسس الفلسفية التي قام عليها فكر المدرسة
التقليدية على المبادئ التالية التي كان لها أثر في قانون العقوبات الفرنسي الصادر سنة :1910
-1إقرار مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات ،وإبطال سلطة القاضي في خلق الجرائم ،والتقليل من سلطته التقديرية
في تحديد العقوبات.
-2أساس المسؤو لية الجنائية حرية االختيار ،حيث توجه أوامر ونواهي قانون العقوبات للشخص المميز
المدرك لتصرفاته.
-3الحد من قسوة العقوبات ،ورأى بيكاريا الذي يعد أول من وضع أسس في فلسفة العقاب ووضع نظرية
متكاملة تحدد أساس حق الدولة في العقاب ،وانتقد قسوة العقوبات التي رأى أنه ال فائدة منها حيث يعمل الجناة على
اإلفالت منها ،بل فكر في أن العقوبة يجب أن تكون بقدر يفوق ما يحصل عليه الجاني من جريمته ،حيث إذا فكر في
ارتكاب جريمة وازن بين ما يعود عليه من نفع جراء ارتكابه هذه الجريمة ،وما ينزل عليه من عقاب ،حيث إن وجد
][21
األلم الذي ينزل به جراء العقوبة يفوق النفع الذي يحصل عليه من اقتراف الجريمة امتنع عن ارتكابها ،بينما جاك
روسو وفي كتابه العقد االجتماعي ،فيرى رد العقوبة إلى أدنى الحدود ،حيث أن الشخص لما تنازل عن حريته للجماعة،
لم يتنازل إال عن القدر الالزم لحماية هذه الحرية ،وتبنى جيريمي بنتام فكرة المنفعة االجتماعية أيضا ،التي نادى بها
بيكاريا ،حيث رأى أنه ال فائدة من قسوة العقوبات ما لم تكن تنطوي على مصلحة ،وبالتالي نادى هؤالء ،بالمساواة بين
الناس في العقاب ،والتقليل من قسوة العقوبات واألخذ بفكرة حرية االختيار كأساس للمسؤولية الجنائية.
الفرع الثاني
المدرسة التقليدية الحديثة
وهي المدرسة التي قامت على أفكار الفيلسوف األلماني إيمانويل كانت ،والتي كان لها أثر كبير على
الفكر القانوني الجنائي ،حيث نادى بفكرة العدالة المطلقة ،وأسس العقوبة على اعتبارات إرضاء الشعور بالعدالة ،حيث
أن الجاني أنزل شرا بالمجتمع ،وإرضاء شعور هذا المجتمع بالعدالة يجب أن يقابله إنزال شر بالجاني ،حتى ولم لم
تتحقق مصلحة للمجتمع في ذلك ،وقد صاغ في ذلك مثاال شهيرا ،هو أنه المجتمع الذي يهجر فرد أو يعدمه وبالرغم من
أنه افتقد لهذا العضو ولم ينل أية فائدة من ذلك ،إال أن تنفيذ العقوبة تنزل رضاء بالعدالة بهذا المجتمع .وقد تأثر بأفكار
هذا المفكر ،روسيه وأرتوال ومولي ه في فرنسا ،وكيرار وكرمينيان في إيطاليا ،وهوس في بلجيكا ،وميترماير في ألمانيا،
وتكونت من أفكار الجميع المدرسة التقليدية الحديثة ،وجمعوا بين فكرة العدالة التي نادى بها كانت ،وفكرة المنعة التي
نادى بها بنتام ،وأسسوا العقوبة على فكرة العدالة التي تحقق منفعة للمجتمع ،حيث ال يعاقب الجاني بعقوبة تتجاوز
الحدود التي تتطلبها مصلحة المجتمع ،كما انتقد رواد هذه المدرسة فكرة المساواة المطلقة التي ال تأخذ بعين االعتبار
شخصية الجاني وظروفه الشخصية ،حيث أدخلوا فكرة الظروف المخففة ونادوا تبعا لذلك بالتوسع بعض الشيء في
السلطة التقديرية للقاضي حتى يراعي الظروف الشخصية للجاني].[34
المطلب الثاني
المدرسة الوضعية ( أو اإليطالية)
المدرسة الوضعية نشأت بإيطاليا مع صدور كتاب " اإلنسان المجرم" للطبيب اإليطالي لمبروزو سنة
،1876وتبعه القاضي جارو فالو الذي ألف كتابا عن علم اإلجرام ،وفيري الذي وضع مبادئ نظريته في رسالة تخرجه
من كلية الحقوق ،بعنوان " آفاق جديدة في قانون العقوبات" ،وكونت آراء الثالثة المدرسة الوضعية ،التي تعد أول
محطة حولت األنظار من االهتمام بالجريمة كفعل ضار وقع في المجتمع ،إلى شخص المجرم باعتباره محدث هذا الفعل
ال ضار ،ومصدر الخطورة في العودة مستقبال لإلجرام ،وإحداث المزيد من الوقائع الضارة األخرى بالمجتمع ،وبالتالي
وجوب أن يهدف رد فعل المجتمع هذه الخطورة اإلجرامية ،وذلك بتطبيق التدابير االحترازية للقضاء على الخطورة
الكامنة لدى المجرم .خاصة وأنها المدرسة التي نفت بداية " حرية االختيار" عن الجاني ،فهو مدفوعا دائما بعوامل
داخلية دفعته الرتكاب الجرائم ،سواء كانت هذه العوامل الداخلية ،ذات أصل وراثي أو جثماني أو اجتماعي ،والتي
تدفعه جبرا إلى ارتكاب الجرائم ،وبالتالي العقوبة سوف لن يكون لها أثرا رادعا ويجب أن يتجرد مضمونها من فكرة
الردع ،كون الردع يستلزم التسليم بحرية اإلرادة] ،[35والجاني ليس حرا بل مدفوعا ،بمعنى ليس مخيرا بل مسيرا.
وأن الخطورة اإلجرامية هذه يجب أن تواجه بتدابير احترازية كفيلة بالقضاء عليها ،وإصالح الجاني أو إقصائه من
المجتمع إن تعذر إصالحه ،لذا تمحورت أفكار هذه المدرسة حول المبادئ التالية:
-1ضرورة قيام قانون العقوبات على أسس شخصية ،حيث يجب أن يأخذ بعين االعتبار شخصية الجاني وليس
ماديات الجريمة ،فالجريمة ليست عبارة عن مظهر مادي خارجي ،وإنما انعكاس لخطورة إجرامية كامنة لدى الجاني.
-2إنكار حرية االختيار ،والقول بأن المجرم مسير وليس مخير ،فهو مدفوع الرتكاب الجرائم نتيجة خطورته
اإلجرامية ،لذا فمسؤوليته ال تقوم على أساس حرية االختيار ،وإنما على فكرة الخطورة اإلجرامية .حيث يرى أنصار
هذه المدرسة أنه هناك خطرون وليس مذنبون ،والخطر يجب أن يوضع في مكان ال يمكنه من االعتداء على غيره ،لذا
يجب تقرير التدابير االحترازية عوض العقوبات.
-3تصنيف المجرمين تبعا لعوامل الخطورة اإلجرامية لديهم ،وتقرير تدابير احترازية خاصة بكل طائفة من
هذه الطوائف ،فالمجرمين يصنفون إلى مجرم بالطبيعة ،ومجرم معتاد ،ومجرم بالعاطفة ،ومجرم بالمصادفة ،فالمجرم
][22
بالطبيعة والمجرم باالعتياد مدفوعين إلى ارتكاب الجرائم بعوامل تكوينية ،يستحيل شفائها ،يتعين اتخاذ تدابير اإلبعاد
من المجتمع ضدهم ،والمجرم المجنون فهو مدفوع إلى اإلجرام نتيجة مرض عقلي ،يتعين إيداعه إحدى دور األمراض
العقلية ،والمجرم بالعاطفة هو المجرم الذي يندفع إلى ارتكاب الجريمة نتيجة عدم توازن في حالته العاطفية ،يتعين أن
يعوض أضرار الجريمة زيادة على توقيع تدابير احترازية عليه ،والمجرم صدفة ،وهو الذي دفعته الرتكاب الجريمة
عوامل وظروف اجتماعية طارئة ،وبالتالي يمكن إصالحه بتدبير احترازي يعالج الظروف االجتماعية التي دفعته
الرتكاب الجريمة.
-4رد فعل المجتمع يجب أن يكون عبارة عن تدبير احترازي هدفه إما اإلصالح أو اإلقصاء من المجتمع ،ال
على العقوبة الهادفة إلى الردع والقائمة على اعتبارات العدالة.
وإن كانت أفكار المدرسة الوضعية لم تطبق بالكامل في القوانين والنظم الجنائية ،إال أن بعض أفكارها
كانت أساس للعديد من األفكار القانونية ،مثل منح القاضي السلطة التقديرية في تقدير العقوبة المالئمة لشخصية الجاني،
وهو ما يسمى مبدأ تفريد العقاب الذي يعد من أهم المبادئ الجنائية المطبقة في كل التشريعات الجزائية الحديثة ،وفكرة
غرض العقوبة اإلصالحي والعالجي التي أصبحت محور لسياسات تنفيذ العقوبات في التشريعات الوضعية.
المطلب الثالث
المدارس التوفيـــقية
أسفر الجدل الذي حصل بين المدرستين التقليدية والوضعية ،إلى ظهور مدارس وسطية أو توفيقية،
حاولت التوفيق بين آراء المدرستين ،متفادية إسراف المدرسة الوضعية في دراسة المجرم على حساب الجريمة ،وإنكار
حرية اختياره تماما ،وإفراغ العقوبة من معاني الردع تماما وتوجهها نوح اإلصالح والعالج وحتى اإلقصاء ،وعلى
النقيض من ذلك ،مغاالة المدرسة التقليدية في االهتمام بالجريمة دون المجرم ،أي االهتمام بالفعل دون الفاعل ،وحرية
إرادته ،وإفراغ العقوبة من كل معاني اإلصالح والعالج والتهذيب ،وتوجهها فقط نحو تحقيق العدالة والمساواة والمنفعة
االجتماعية.
وكانت من أهم المدارس التوفيقية ،المدرسة الثالثة التي أنشأها في إيطاليا كارنفالي وأليمينا ،واالتحاد
الدولي لقانون العقوبات الذي أسسه فان هامل برنس وفون ليست ،ونقطة االشتراك بين هذه المدارس ،هي االعتراف
بحرية اإلرادة لدى الجاني وإقامة المسؤولية الجنائية على أفكار التمييز واإلدراك ،وأن أهداف العقوبة متعددة ،فهي
تهدف إلى تحقيق الردع ،كما تسعى إلى إصالح الجاني وتهذيبه وعالجه أيضا ،لذا يمكن إقرار التدابير االحترازية إلى
جانب العقوبات التقليدية ،وبذلك أصبحت الغلبة ألفكار المدارس التوفيقية في التشريعات العقابية الحديثة] ،[36بما فيها
المشرع الجزائري ،الذي أسس المسؤولية الجنائية على حرية اإلرادة والتمييز واإلدراك ،حيث ال تقوم هذه المسؤولية
في حالة صغر السن والجنون واإلكراه ( المواد من 47إلى 51من تقنين العقوبات الجزائري) ،وإلقراره للتدابير
األمنية إلى جانب العقوبات ( المواد 22-19من تقنين العقوبات الجزائري) .ومن بين أعهم المدارس التوفيقية ،نجد
مدرسة ا لدفاع االجتماعي ،ومدرسة االتحاد الدولي لقانون العقوبات ،الذين سنتناولهما من خالل الفرعين التاليين.
الفرع األول
مدرسة الدفاع االجتماعي
االهتمام بالشخص الجاني عوض الجريمة
و هي المدرسة التي تأسست على يد الفقيه اإليطالي جراماتيكا بعد الحرب العالمية الثانية ،حيث أنشا
مركزا للدراسات التي تتمحور حول فكرة أو نظرية " الدفاع االجتماعي" ،وأسس مجلة سميت ب " مجلة مؤتمرات
الدفاع االجتماعي" في إيطاليا سنة ،1947وفي بلجيكا سنة ،1949و ،1954ونشرت سنة 1955برنامجا تضمن الحد
األدنى لسياستها .وهي المدرسة التي تقوم أساسا حول األفكار التالية:
-1يجب أن يكون هدف قانون العقوبات ،حماية المجتمع من مخاطر السلوكات المجرمة ،وال أن تكون وظيفته
مجرد القصاص من الجاني وتخويفه وترهيبه بالعقوبات ،لذا يجب أن يتم إقرار وسائل أخرى إلى جانب العقوبات
التقليدية ،وهي تدابير الدفاع االجتماعي ،لتصبح العقوبة تدبيرا للدفاع االجتماعي ،وقانون العقوبات قانونا للدفاع
][23
االجتماعي .وهي بذلك تدافع عن أفراد المجتمع كافة ،بما فيهم الجناة ذاتهم ،وال تهتم كثيرا بالبحث في األساس الفلسفي
لمسؤولية الجاني.
-2تتقرر تدابير الدفاع االجتماعي بدراسة علمية دقيقة تكشف أسباب انحراف الجاني الختيار التدبير المالئم
للتطبيق عليه.
-3إيالء أهمية كبيرة لمتابعة الجاني ومساعدته بعد إخضاعه لتدابير الدفاع االجتماعي ،وذلك بتقديم الرعاية
والمساعدة له للتغلب على األسباب التي أدت به إلى االنحراف ،وبذلك يمكن إعادة اإلدماج االجتماعي للمجرمين
كأعضاء صالحين فيه.
-4كما يمكن تطبيق تدابير الدفاع االجتماعي حتى قبل إقدام الشخص على ارتكاب الجريمة ،وذلك من خالل
الكشف المبكر عن األشخاص الذين تتوفر لديهم نفسيا واجتماعيا عناصر يترجح معها ارتكابهم جرائم في المستقبل .بل
األكثر من ذلك ،نادى جراماتيكا بالعديد من الوسائل التي يجب أن تبنى عليها السياسة الجنائية ،لدرجة أنه انتقدت من
زميله مارك آنسل الذي ظل فترة طويلة سكرتيرا عاما للحركة ،واعتبر آراء جراماتيكا آراء شخصية متطرفة خاصة
وأن األول نادى بإلغاء قانون العقوبات.
الفرع الثاني
مدرسة االتحاد الدولي لقانون العقوبات
وهو االتحاد الذي تأسس سنة 1880من قبل مجموعة من الفقهاء أهمهم :أدولف برنز ،فون ليست ،فان
هامل ،وأخذوا بأهم األفكار التوفيقية بين المدارس السابقة ،وتركزت فلسفته على دعامتين أساسيتين ،هي أن مهمة قانون
العقوبات الكفاح ضد الجريمة باعتبارها ظاهرة اجتماعية ،وأن يراعي القانون الجنائي النتائج التي تسفر عنها الدراسات
األنثروبولوجية واالجتماعية ،وهو ما يدل على االتجاه العلمي لالتحاد الدولي ورفضهم التام لفكرة التسليم بالحتمية،
وطالب هؤالء الفقهاء رجال القانون بضرورة أال يغرقوا في األفكار الفلسفية ،بل وجوب التفكير في الشعور الداخلي
للفرد بحريته ،وهي األفكار التي أثرت في بعض التشريعات أهمها قانون الدفاع االجتماعي البلجيكي الصادر سنة
،1930الخاص بالمجرمين الشواذ والعائدين ،كما ظهرت حركات فقهية حديثة نتيجة أفكار هذا االتحاد ،أهمها الحركة
التي ظهرت في إسبانيا باسم علم اإلجرام الحديث.
المبحث الثالث
تطور قانون العقوبات الجزائري
الجزائر من بين الدول التي عرفت تطورات كبيرة على مستوى قانون العقوبات ،خاصة وأنها من
الدول اإلسالمية التي طبقت أحكام الشريعة اإلسالمية في مرحلة معينة من تاريخها ،كما عرفت بعض التطورات في
الفكر الجنائي نتيجة استعمارها من قبل االحتالل الفرنسي ولفترة طويلة من الزمن ،لتكون أهم المراحل المميزة لتطور
قانون العقوبات في الجزائر ،ثالث مراحل ،مرحلة تطبيق أحكام الشريعة اإلسالمية ،مرحلة تطبيق القانون الفرنسي،
ومرحلة االستقالل التي شهدت تطبيق قانون عقوبات وطني ،وهو ما نتناوله في المطلب الثالثة التالية.
المطلب األول
مرحلة تطبيق أحكام الشريعة اإلسالمية
ع رفت الجزائر تطبيق أحكام الشريعة اإلسالمية في الفترة التي أعقبت الفتوحات اإلسالمية لشمال
إفريقيا ،حيث طبقت الشريعة على كل المجاالت بما فيها المجال الجزائي ،بما فيها شقي التجريم والعقاب ،حيث عرفت
تقسيم الجرائم وفقا للتقسيم الشرعي لهان جرائم الحدود ،جرائم القصاص ،والجرائم التعزيرية ،وهو ما نبينه في الفروع
الثالثة التالية.
الفرع األول
][24
جرائــــم الحدود
جرائم الحدود جرائم محدودو ومبينة على سبيل الحصر بالكتاب ( القرآن الكريم) ،والتي يعاقب عليها
بعقوبة تسمى " الحد" الذي يعني لغة المنع ،أي منع الجاني من معاودة ارتكاب الجريمة ،والحد عقوبة قررها الخالق
نتيجة الجريمة التي تشكل اعتداء على حق هلل عز وجل ،سيما وأنه باالطالع على هذا النوع من الحدود يبين أنها تهدف
لحفظ النفس والنسل والعرض والمال والعقل وحفظ الدين .واألصل أن الحد مقرر كقاعدة بموجب نص قرآني ،واستثناء
بموجب السنة النبوية الشريفة مثلما هو الشأن بالنسبة لجريمة شرب الخمر ،وجريمة الردة ،حيث تكفل النص القرآني
بتبيان شق التجريم ،بينما تكفلت السنة بتبيان الحد المقرر لها كعقوبة .وعقوبة الحد ال تقبل العفو أو التنازل عنها كونها
حق مقرر هلل عز وجل ،وهي مقررة لجرائم تامة ال لمجرد الشروع فيها أو المحاولة ،فإن توقفت عند حد الشروع
اعتبرت معصية توجب عقوبة تعزيرية ال تطبيق الحد ،وما يميز هذا النوع من العقوبات أنها ذات حد واحد ال حدين،
كما هو الحال في التشريعات الوضعية الحديثة ،وبالتالي فال سلطة تقديرية للولي في تطبيقها ،وباختصار جرائم الحدود
سبعة ،هي :حد الزنا] ،[37حد السرقة] ،[38حد القذف] ،[39حد البغي] ،[40حد الحرابة] ،[41حد الردة] ،[42حد
شرب الخمر] ،[43وبالتالي الحدود في الشريعة اإلسالمية هي الجلد والقتل والقطع .الجلد في مائة جلدة في الزنا،
وثمانون في القذف ،وبين األربعين والثمانين في شرب الخمر ،والقطع في السرقة ،والقطع على خالف والصلب في
الحرابة ،والقتل في الردة.
الفرع الثاني
جرائم القصاص والدية
وهي جرائم تقع على نفس اإلنسان أو ذاته ،وبالتالي هي اعتداءات واقعة على األفراد ويجوز التنازل أو
العفو عنها من المجني عليه أو من ذويه عكس جرائم الحدود التي ال يقبل فيها العفو والتنازل ،غير أن العفو عنها ال
يمنع ولي األمر ال عقاب عليها بعقوبة تعزيرية إذا رأى أنه من شأنها تؤدي إلى إفساد في األرض] ،[44وجرائم
القصاص والدية هي :القتل العمد ،الجناية شبه العمد ،القتل الخطأ ،الجناية على ما دون النفس عمدا ،الجناية على ما
دون النفس خطأ ،وعقوبتها القصاص أي عقاب الجانب بنفس فعلته ،والدية هي دفع مقابل مالي يمثل بدل النفس أو
العضو يدفع من الجاني أو ذويه عوضا عن دمه أو عضوه ( طرفه) وتختلف الدية بختالف المجني عليه قدرا وجنسا
كما هناك ما يشبه اليوم العقوبات التبعية وهي الكفارة والحرمان من الوصية أو الميراث ،وعموما يمكن القول أن
القصاص عقوبة مقررة للجرائم العمدية أما الدية فهي عقوبة مقررة جرائم الخطأ.
الفرع الثالث
الجرائم التـــعزيرية
التعزير هو تأديب عن ذنوب لم يشرع فيها حد من الحدود ،وال هي من جرائم القصاص والدية ،ولم
يرد بخصوصها نص ال في القرآن وال في السنة يقررها كجريمة قائمة أصال ،غير أنه هناك نصوص في القرآن تبين
بعض أنواع الجرائم التعزيرية ،مثل الرشوة وخيانة األمانة والسب والربا ودخول البيوت والمساكن....ولكن بصيغة
النهي عن مثل هذه األفعال كونها إفساد في األرض أو من شانها ن تؤدي إليه ،وهي جرائم عكس النوعين السابقين
واردة على سبيل المثال ال الحصر ،حتى يمكن ترك أمر التجريم عن التعازير لولي األمر وفق تطورات الحياة
االجتماعية وما يراه مناسبا ألمنها ونظامها وسكينتها ،ووفقا الختالف األزمنة واألمكنة والمصالح ،لكن بالخضوع
للمبادئ واألحكام العامة للشريعة اإلسالمية وعدم الخروج عنها .وطبقت أألحكام السابقة في الجزائر منذ الفتوحات
اإلسالمية للبالد لغاية دخول المحتل سنة 1830حيث ساد تطبيق قانون عقوبات المستعمر ،وبطريقة تختلف حتى عن
القانون المطبق في فرنسا ،وهو ما نبنه باختصار في المطلب الثاني.
المطلب الثاني
مرحلة تطبيق القانون الفرنسي
بدخول االستعمار الفرنسي للبالد واحتاللها سنة ،1830شرع في تطبيق تشريعاته ومنها قانون
العقوبات الفرنسي ،وتكرس ذلك فعليا مع صدور أمر سنة 1841يقضي بتطبيق قانون العقبات الفرنسي على المسائل
][25
الجزائي في الجزائر ،غير أن هذا التطبيق لم يكن بالطريقة التي يطبق بها في فرنسا ،حيث عمد المحتل على إحداث
أحكام تمييزية وبعض الجرائم الخاصة الذي ال يعرفها القانون الفرنسي نفسه ،وهي جرائم جاءت بصيغة عامة وهادفة
لمحاربة حركات التحرر ومعاداة االستعمار وعنونت ب ":األفعال المعادية للوجود الفرنسي في الجزائر" ،وعرف
تطبيق فكرة المسؤو لية الجماعية المنافية لقواعد قانون العقوبات ،حيث كانت تعاقب العروش بأكملها بغرامات جماعية
عن كل فعل يمس باالحتالل أو يعارض وجوده.
ثم تراجع المستعمر عن هذا التمييز سنة 1944وألغى القوانين التميزية واالستثنائية وأخضع
الجزائريين ( األهالي) لقانون العقوبات وقانون اإلجراءات الجزائية الفرنسيين ،غير أنه مع اندالع الحرب التحريرية،
تراجع عن ذلك وظهرت من جديد القوانين االستثنائية والقواعد التمييزية والعنصرية ،وعرفت الجزائر عقوبات
االعتقال اإلداري والمراقبة البوليسية والعقوبات الجماعية وإقامة المحاكم االستثنائية وتوسيع اختصاص المحاكم
العسكرية بشكل ليس معموال به في قانون اإلجراءات الجزائية الفرنسي.
المطلب الثالث
مرحـــلة االستقالل
باستقالل الجزائر سنة 1962عملت الجزائر على سن تشريعات مستقلة ،غير أن المسألة استغرقت وقتا
بالنظر للوضع الخاص الذي تمر به الدول المستقلة حديثا ،حث لم يصدر قانون العقوبات الجزائري إال سنة
،[45]1966لذا استمر العمل بالقانون الفرنسي ما عدا ما تعارض منه مع السيادة الوطنية ،بموجب القانون 157-62
المؤرخ في ( 1962-12-31المادة األولى منه) ،في الفترة الممتدة من 1962-07-05لغاية 15يونيو 1966تاريخ
دخول تقنين العقوبات الجزائري حيز التنفيذ .لكن دون أن يمنعه ذلك من إصدار بعض التشريعات التي واجه بها بعض
األوضاع الخاصة ،كإصداره المرسوم 85-63المؤرخ في 193-03-16المتضمن قمع الجرائم المرتكبة ضد التشريع
المتعلق باقتناء وحيازة وصنع األسلحة والذخائر والمتفجرات ،والكثير من المراسيم األخرى التي هدف منها المشرع
الحفاظ على األمن في هذه الفترة الحساسة من تاريخ البالد] .[46ومع سنة 1966أصدرت الجزائر قانون العقوبات
وقانون اإلجراءات الجزائية] ،[47وإن كان المشرع قد استمد غالبية أحكامهما من القانون الفرنسي ،مع تضمينه
خصوصيات المجتمع الجزائري ومراعاة اعتبارات إتباع الدين اإلسالمي في البالد ،وحتى في بعض القواعد
الموضوعية األخرى مثل مسؤولية الشخص المعوي وقواعد االشتراك والشروع في الجريمة ....وقد عدل قانون
العقوبات الجزائري منذ صدوره لغاية سنة 2006سبعة عشر ( )17مرة] .[48وما زلنا نسمع بأنه في طور المراجعة
لغاية اليوم .هذا وبعد تناولنا في الباب التمهيدي السابق تحديد أهم معالم قانون العقوبات ،سنشرع في دراسة الباب األول
من هذه الدراسة،والمتعلق بالنظرية العامة للجريمة باعتبارها تمثل شق التكليف في القاعدة الجزائية ،على أن نتبعه بباب
ثاني نخصصه لنظرية المسؤولية الجنائية .تاركين موضوع النظرية العامة للجزاء الجنائي ليكون موضوع لمطبوعة
أخرى مستقلة ،شأنه شأن مطبوعة قانون اإلجراءات الجزائية.
] - [1حيث يمكننا القول بأن نهي هللا عز وجل آلدم وزوجه عن التقرب للشجرة بمثابة سلوك مجرم ،وأن عدم االلتزام
من قبليهما بهذا النهي ارتكاب لهذه الجريمة ،وإنزالهما لألرض عقوبة لهذا الفعل ،وأن قتل قابيل ألخيه هابيل جريمة ،وعقابه كان
أنه لم يدر كيف يواري سوءة أخيه ،ونشير بأن هذا وجه للتشبيه فقط مع الوضع الحالي لقانون العقوبات ،بعيدا عن األبعاد الدينية
لهذه الوقائع.
] - [2المراد قوله ،أن الجريمة فعل وأن مقترفها شخص فاعل ،وهناك خالف فقهي بخصوص أي من العنصرين
السابقين له األولوية على اآلخر ،فهل يجب التركيز على الفعل ،أم على الفاعل ،وهنا ظهرت نظريتين أساسيتين ،النظرية
الشخصية المركزة على الشخص الفاعل ،والنظرية الموضوعية المركزة على الفعل ( الجريمة) ،ولكل منهما بصماته في كل
من أفكار القانون الجنائي ،الذي أصبح يتأرجح بين الشخصية والموضوعية ،وأحيانا يرجح الجانب الموضوعي وفي فكرة
أحيان أخرى يركز على الجانب الشخصي.
][26
] - [3وهي التسمية المفضلة من قبل الفقه والتشريع الجزائري ،سيما في شق القواعد الموضوعية ،غير أنها ليست
بالتسمية المعتمدة في لشق اإلجرائي ،المسمى قانون اإلجراءات الجزائية.
وأطلق على هذا الفرع من فروع القانون تسميات متعددة ،نذكر منها قانون العقوبات droit pénalوالقانون الجنائي
droit criminelوالقانون الجزائي ،droit sanctionnaireوكل من هذه التسميات قد ترتكز على أحد التقسيمات المهمة
لقانون العقوبات ،أو على أحد اآلثار المترتبة عليه وأهمها الجزاء أو العقوبة ،وبالتالي كل تسمية قاصرة على اإلحاطة بكل
محتويات هذا الفرع من فروع القانون ،فضال على أنها تسميات تهمل تماما فكرة الجريمة ،وإن لم تهملها مثل تسمية القانون
الجنائي المستمدة من فكرة " الجناية " فإنها تهمل نوعين آخرين من أنواع الجرائم وهي الجنح والمخالفات
] - [4كما عرف بأنه ":مجموعة من القواعد القانونية تحدد صور السلوك التي تعد جرائم وتبين العقوبات أو التدابير
االحترازية أو الوقائية المقررة إزاءها".
]- [5وهو تعريف ركز على أن دور قانون العقوبات يضع حلوال للظاهرة اإلجرامية ،غير أنه وإن كان وسيلة لمكافحة
الجريمة غير أنه لم يضع حلوال لها ،كون المسألة في العادة من صميم اهتمامات علم اإلجرام وعلم العقاب ،بينما قانون العقوبات
يجازي الخروج عن أوامره ونواهيه ،التي حتى وإن كانت تهدف إلى ردع الناس عن ارتكاب الجرائم ،غير أنه ال يضع حل
للظاهرة اإلجرامية .خاصة وأن أصحاب التعريف ذاتهم ،وفي شرحهم لهذا التعريف ،يركزون على شق التجريم والعقاب.
] - [6قانون رقم 04-05مؤرخ في 06فبراير سنة ،2005يتضمن قانون تنظيم السجون وإعادة اإلدماج االجتماعي
للمحبوسين ،الذي ألغى األمر رقم 02-72المؤرخ في 10فبراير سنة 1972والمتضمن قانون تنظيم السجون وإعادة تربية
المساجين.
] - [7ويمكننا القول ،بان قانون العقوبات من الظواهر القانونية اللصيقة بالمجتمعات البشرية المنظمة ،ومن مظاهر
التعبير عن إرادتها الجماعية المعبرة عن قيمها ،باعتباره يرمي لحماية المصلحة العامة وإقرار النظام في المجتمع ،من جهة ومن
جهة ثانية ،صون حريات األفراد ومصالحهم الخاصة ،وهو من بين أقدر فروع القانون على معالجة كل النواحي األساسية
الالزمة للسير الحسن للحياة في أي مجتمع أيا كانت طبيعته ونظام حكمه ،باعتبار باقي القوانين األخرى تنظم جانب من جوانب
الحياة االجتماعية دون غيرها ،خاصة وأنه القانون الذي عن طريقه يفرض المشرع إرادته بخصوص تحديد أنواع السلوك التي
يرى تجريمها وعن طريقه يحدد الجزاءات المترتبة عن مخالفة هذه اإلرادة ،وعلى ذلك نجد قواعد قانون العقوبات كقاعدة عامة،
تنطوي على شقين أو عنصرين ،أحدهما يحدد النص التجريمي ،ليتولى الثاني تعيين الجزاء المترتب عن مخالفة الشق األول ،غير
أنه كاستثناء ال يشترط ذلك ،فقد تتجزأ القاعدة الجنائية بين أكثر من فرع قانوني واحد ،فيما يعرف بالقواعد الجنائية المجزئة أو
الموزعة ،بموجبها يكتفي المشرع بتحديد شق الجزاء في النص الجزائي ويحيل في شق التكليف
أو التجريم إلى قانون آخر .ويرى بعض الفقه في شق الجزاء بأنه عبارة عن مجرد قاعدة ثانوية في القاعدة الجنائية ،كون شق
العقاب ال يطبق على األشخاص إال في حال تم خرق الشق األول المتعلق بالتجريم وتطبيقه بذلك مشروط بمخالفة الشق األول
الذي يغلب عليه طابع النهي مقارنة مع طابع التكليف بالرغم من أن القوانين القديمة كانت تغلب عليها صفة األمر " ال تقتلوا" أو
" ال تسرقوا " بينما التشريعات الحديثة أصبحت تميل الستعمال الصيغ العامة المعبرة عن تحديد الفعل سواء كان سلبا أو إيجابا
محددا النموذج المكون للجرم والمحدد ألركانه وعناصره ،في حين يرى بعض الفقه بأن قانون العقوبات قانون عقابي ،فهو في
نظرهم ال يجرم بل يعاقب فقط ،مما يجعله من طبيعة جزائية بحتة .والحقيقة أن الشقين مرتبطين ،بحيث ال جزاء دون ارتكاب
جريمة ،فالتجريم يستفاد بالضرورة من النص على العقاب حتى وإن لم يكن مستفاد بصفة صريحة بل ضمنيا المشرع ال يتدخل
للعقاب ما لم يكن هناك ارتكاب لجرم ،األمر الذي دفع بالبعض إلى القول بأن عنصر التجريم عنصرا مفترضا في القاعدة التي
تنص على العقوبة ،غير أن الحقيقة أن الشقين يرتبطان ارتباطا منطقيا وزمنيا ،ذلك أن التجريم يستتبع بالضرورة الجزاء والعالقة
الزمنية أساسها أن الجزاء يتبع زمنيا االنتهاك الفعلي لعنصر التجريم كون شق العقاب ال يطبق عمليا ما لم يسبقه عنصر التجريم
غير أننا نرى بأنه بالرغم من ارتكاب عنصر التجريم إال أن شق العقاب قد ال يلقى التطبيق كحاالت توافر سبب من أسباب
اإلباحة أو مانع من موانع العقاب أو مانع من وانع المسؤولية .ويمكن تعريف قانون العقوبات ،بأنه مجموعة من القواعد القانونية
التي تضعها الدولة بواسطة السلطة التشريعية
أو من تفوضه هذه السلطة في وضعها ،لتحدد بها ما يعتبر من سلوك اإلنسان جريمة وتعين فيها ما يترتب عن هذا السلوك من
آثار جنائية.
] - [8وإن كنا سوف نرى الحقا ،أن الجريمة ال تعتبر بالضرورة فعال إيجابيا أو نشاطا ،وإنما يمكن أن تقوم بموجب
سلوك سلبي أو امتناع عن أمر أمر به القانون ،وتسمى الجريمة التي تقوم على أفعال بالجرائم اإليجابية ،ويسمى النوع الثاني
القائم على االمتناع بجرائكم االمتناع أو الجرائم السلبية .هو ما سيكون موضوع تفصيل مستقل.
][27
] - [9الذي يعرف بأنه ":مجموعة القواعد القانونية التي تنظم االختصاص بين الهيئات القضائية ،من رفع الدعوى
العمومية إلى صدور األحكام النهائية ،"...والتي يرى البعض أنها وحدها كفيلة للردع بالنظر لما تنطوي عليه من وقت ومشقة
وتعقيد ،تجعل األفراد يحجمون عن ارتكاب الجرائم ،كونها تشكل ثقال نفسيا على المتهمين ،ومن جهة ثانية ،تتكفل بحماية حقوق
وحريات هــــؤالء.
وما يمكننا التنبيه إليه ،باعتبار المسألة تشكل فكرة جوهرية في نظرنا ،أنه من بين أكثر القوانين تأثرا بسياسة الدولة
ونظام حكمها ،نجد القانون الجنائي – وإن كان غالبية الفقه يحاول دوما القول بأنه إن دخلت السياسة من الباب فيجب أن=
=يخرج القانون من النافذة -بالنظر لمساس قواعده بسلوك اإلنسان عامة ،وبحرياته بصفة خاصة ،مما يجعل بالضرورة السياسة
الجنائية المتعلقة بالتجريم والعقاب تتأثر بطريقة أو بأخرى بالنظام السياسي السائد في الدولة ،خاصة فيما بين نظم الحكم
الديمقراطية= =ونظم الحكم االستبدادية – وفي مقابلها :نظم الحم الليبرالية ونظم الحكم االشتراكية -وهو ما برهن عليه في الكثير
من األحيان ،الساسة والمثقفين والفالسفة ،واعتبروا القانون الجنائي من بين كل فروع القانون األخرى ،تجسيدا لإليديولوجية
السياسية السائدة في الدولة ،وهو مركز النقاش الفقهي القانوني دوما ،وحتى القضائي ،خاصة في ظل حقيقة التبادل المعرفي بين
الفقه والقضاء منذ القدم وعلى طول مراحل التاريخ .وهنا نجد الفقه يسمي قانون العقوبات ،بقانون اللصوص ،حيث يرى المشرع
دوما أنه يخاطب خارجي الطريق القويم ومصادر الخطر في المجتمع ،وعناصر اإلشكال لنظم الحكم ،وفي مقابل ذلك ،نجد قانون
اإلجراءات الجزائية ،يسمى بقانون الحريات العامة ،أو قانون الشرفاء ،باعتباره المظهر الذي تتجسد من خالله الحماية
الدستورية لحقوق وحريات األفراد والجماعات ،وتطبيقا للمبادئ الدستورية المنظمة لمختلف مراحل الدعوى العمومية ووصولها
لهدفها النهائي المتمثل في ممارسة الدولة لحقها في العقاب ،وحق الفرد في الدفاع عن نفسه.
] - [10في تقنين العقوبات الجزائري ،القسم العام تنظمه المواد من 1إلى 60مكرر ،1والمشكلة للجزء األول من قانون
العقوبات ،المعنون ب ":المبادئ العامة" ،الذي تضمن األحكام التمهيدية ضمن ثالث مواد متعلقة بمبدأ الشرعية الجنائية ( المادة
)1ونطاق سريان القانون الجنائي من حيث الزمان والمكان ( المادتان 2و ،)3ثم كتاب أول خصص للعقوبات وتدابير األمن في
المواد من 4إلى ،18ثم باب أول مكرر جديد يتعلق بالعقوبات المطبقة على األشخاص المعنوية في المواد من 18مكرر إلى 18
مكرر ،3ثم الباب الثاني المخصص لتدابير األمن في المواد من 19إلى ،22والكتاب الثاني خصص األفعال واألشخاص
الخاضعون للعقوبة ،والذي قسم على بابين ،خصص األول للجريمة من المادة ،40 27والثاني خصص لمرتكبي الجريمة في
المواد من 41حتى 60مكرر. 1
] - [11وهو القسم المشكل لباقي مواد تقنين العقوبات ،من المادة 61حتى 467مكرر .1وهو القسم الذي في العادة ما
يكون عرضة للتعديل،حيث شهد سبعة عشر تعديل منذ صدور تقنين العقوبات الجزائري سنة ،1966من بينها ستة تعديال فقط
مست القسم العام ،لذا ففي العادة ما يتميز القسم العام لقانون العقوبات بالثبات واالستقرار مقارنة بالقسم الخاص منه ،وحتى مقارنة
بقانون اإلجراءات الجزائية.
] - [12الصادر بموجب األمر رقم 155-66المؤرخ في 08يونيو 1966المتضمن قانون اإلجراءات الجزائية المعدل
والمتمم.
ويطلق بعض الفقه على كل من قانون العقوبات وقانون اإلجراءات الجنائية مصطلح القانون الجنائي ،وفي
حقيقة األمر القانونان متكامالن ،وأن وجود أي منهما شرط لتطبيق اآلخر ،بل وال سبيل لتطبيق قانون العقوبات إال من خالل
قانون اإلجراءات الجنائية ،فقانون العقوبات يحدد الجرائم والعقوبات ،وقانون اإلجراءات الجنائية هو الذي يبين وسائل التحقق من
وقوع الجريمة ومحاكمة مرتكبيها وتوقيع العقوبات عليهم ،فقانون العقوبات يصبح مشلوال في غياب قانون اإلجراءات الجنائية،
وهذا األخير يفتقر ف ي وجوده لقانون العقوبات .ونجد في العادة الفقه يطلق اسم القواعد الموضوعية على قواعد قانون العقوبات
في مقابل قواعد قانون اإلجراءات الشكلية أو اإلجرائية ،غير أن موضوع القاعدة ال يبين دوما طبيعتها ،فقانون اإلجراءات يحتوي
على بعض القواعد الموضوعية ،والعكس صحيح ،لذا فطبيعة القاعدة القانونية تتحدد بوظيفتها فإن كانت تتعلق بالتجريم والعقاب،
فهي قواعد موضوعية ،وإن كانت تتعلق باإلجراءات فهي قواعد إجرائية .وهناك مبدأ يقضي أنه ":ال جزاء بغير دعوى"
وبالتالي تظهر العالقة بين القانونين إلى الحد الذي يمكن من القول أنه كل منهما يكمل اآلخر ،ويستحيل وجوده بدونه ،غير أن
قانون اإلجراءات هو المحرك لقانون العقوبات.
] - [13السياسة الجنائية فرع من فروع العلوم القانونية الحديثة ،وهو العلم الذي يعبر عما هو كائن وما يجب أن تكون
عليه سياسة التشريع في أي دولة ،والسياسة الجنائية هي المرآة الصادقة لألوضاع السائدة في أي مجتمع عبر مراحله المختلفة،
وقد عرفت بأنها ":مجموع الوسائل التي من شأنها – إذا استخدمت على نحو معين -تنظيم مكافحة الظاهرة اإلجرامية في
المجتمع ، ".كما عرفت بأنها ":العلم الذي يهتم بتحديد األفعال التي تقضي المصلحة االجتماعية العقاب عليها ،أو تخرجها من
دائرة العقاب ،".ولكل سياسة جنائية محاور أربعة :تشريع ،تجريم ،عقاب ،والتنفيذ العقابي .كما يقصد بعلم السياسة الجنائية ،العلم
][28
الذي يبحث في أفضل األساليب العلمية والعملية التي تنتهجها الدولة لمكافحة ظاهرة الجريمة ،وقانون العقوبات بذلك يعد أداة من
أدوات هذه السياسة ،فهو الذي يجرم األفعال على ضوء نظرة الدولة للجريمة وعلى ضوء المصالح االجتماعية الجديرة بالحماية،
كما يحقق أهداف السياسة الجنائية من الناحية العقابية
] - [14حيث هناك العديد من الدراسات والنظريات والمدارس ،التي اهتمت بتفسير السلوكات اإلجرامية ،وأثر مختلف
العوامل فيها ،سواء كانت عوامل داخلية ،مثل العوامل الوراثية والعنصر والجنس والسن ومستوى الذكاء ،أو كانت عوامل
خارجية ،من بيئة ومجتمع ،وثقافة واقتصاد.
كما عرف علم اإلجرام ،بأنه :العلم الذي يدرس الجريمة باعتبارها ظاهرة اجتماعية ،ومعرفة العوامل المؤدية
إليها ،سواء كانت عوامل فردية ترجع إلى الجاني ،أو عوامل اجتماعية ترجع إلى المجتمع والبيئة ،لذا فعلم اإلجرام ال يدرس
الجريمة باعتبارها ظاهرة قانونية ،بل ظاهرة إجرامية لها مكوناتها وأسبابها ،والمجرم أساس المشكلة اإلجرامية ،يقتضي دراسة
خلقه اإلجرامي الكامن فيه ،لذا فهو يستعين بالعديد من الفروع التي تتكامل ويتشكل منها ،أهمها علم البيولوجيا الجنائية ،علم
النفس الجنائي ،علم االجتماع الجنائي...
] - [15خاصة وان البعض يرى أنه هناك نوع من سوء التفاهم بين رجال القانون الجنائي وعلماء اإلجرام ،كون كل
فريق يود أن تكون معاييره هي األصلح ،فعلماء اإلجرام يحلمون أن تسود العدالة الجنائية دون قانون وال قاض ،ويرون أن الحكم
هو العالم القادر وحده على تشخيص المجرم وعالجه ،وحاولوا وضع إمبريالية علمية أقلقت نوعا ما رجال القانون ،باسم
المحافظة على الحريات العامة والكرامة اإلنسانية ،وحاولوا حفظ حق " إعادة النظر" على عمل علماء اإلجرام ،ومنعهم من
التدخل في الشؤون الجنائية ،غير أن كال االتجاهين متطرفين ،حيث يجب على رجل القانون االستعانة بأعمال عالم اإلجرام
العلمية وترجمتها بقواعد قانونية ،بناء على ما قدمه رجل القانون لعالم اإلجرام من معطيات ومادة أولية بشرية ،وبالتالي
العالقة بينهم عالقة تعاون متبادل.
و علم اإلجرام ،أو علم الجريمة ،هو علم متعدد النظم العلمية أو متعدد المصادر واألبعاد العلمية ،فهو يستمد موضوعاته
من الكثير من العلوم األخرى ،كعلم النفس والطب وعلم االجتماع ،واألنثروبولوجيا ،ويدرس علم اإلجرام الجريمة دراسة علمية
تجريبية وكل الموضوعات المتصلة بها ،حيث يجمع المعلومات والمعطيات لفهم الجريمة وتحليلها ،ويستهدف تكوين معرفة ثابتة
وموثوق بها وصادقة حول الجريمة باعتبارها معرفة مستمدة من التجارب العلمية .لذا فهو يتصل بوضع القانون الجنائي اتصاال
وثيقا.
] - [16يرى البعض أن الطب الشرعي والبوليس الفني ،علمان يساعدان كثيرا على كشف الجناة ونسبة الجرائم إليهم،
كونهما علمان يستعينان باألساليب العلمية في الكشف ،من بصمات وتشريح للجثث والتصوير وتحليل المواد المختلفة ،وهما
العلمان اللذان حققا تقدما كبيرا بالنظر الستعانتهما واستفادتهما من التطورات العلمية الحديثة والتكنولوجيا الحديثة ،التي كان لها
الفضل
الكبير في كشف بعض أنواع الجرائم التي كان يستحيل الكشف عنها من قبل لوال تقدم هذه العلوم.
] - [17وإن تركز هذا العلم في البداية على دراسة بصمات األصابع ،فهو اليوم يعرف العديد من أنواع البصمات
األخرى ،حيث كشف العلم عن البصمة الوراثية ،والبصمة الصوتية ،وقزحية العين وما إلى غير ذلك من البصمات اإللكترونية
والرقمية التي سهلت كثيرا في الكشف عن الجرائم بمختلف أنواعها ،وطرق ارتكابها ،وأيا كان مستوى نرتكبها ووسيلته في
ذلك.
] - [18في حقيقة األمر كل المصالح الجوهرية واألساسية لألفراد والمجتمع تأخذ هذه المكانة باعتراف الدستور بها ،لذا
فالحق في الحياة والسالمة الجسدية والحفاظ على الحياة الخاصة وأسرارها ،والحق في الملكية والسكن والعمل ...وإن كانت كلها
حقوق معترف بها في القانون الدستوري ،فغن االعتداء عليها نجده مجرما بنصوص عقابية مشكلة للجزء الغالب لهذا القانون،
وهو القسم الخاص منه .وهو األمر ذاته بالنسبة للحريات ،سواء تعلق األمر بحرية التعبير أو حرية االنتخاب...
] - [19راجع المواد من 61إلى 64من قانون العقوبات الجزائري المعنونة بجرائم الخيانة والتجسس.
] - [20المواد من 65إلى 76المعنونة ب ":جرائم التعدي األخرى على الدفاع الوطني أو االقتصاد الوطني"
] - [21راجع المواد من 71إلى 83والمعنونة ب ":االعتداءات والمؤامرات والجرائم األخرى ضد سلطة الدولة
وسالمة أرض الوطن" ،كما عاقبت المواد من 84حتى 87على جنايات التقتيل والتخريب المخلة بالدولة ،والمادة 87مكرر وما
بعدها التي تعاقب على األفعال الموصوفة بأفعال إرهابية أو تخريبية ،والمادة 88وما بعدها التي تعاقب على جنايات المساهمة
في حركات
التمرد ،وهي كلها أفعال تمس بالدولة ككيان وبالسلطة ونظام الحكم ،بطريق مباشر أو غير مباشر.
][29
] - [22وأهم المراجع في هذا المجال :د /أحمد فتحي سرور ":القانون الجنائي الدستوري" ،دار الشروق ،القاهرة،
مصر.2002 ،
] - [23االختالس والغر كانت تجرمه وتعاقب عليه المادة 119من تقنين العقوبات ،والمادة 126تجرم وتعاقب على
جريمة الرشوة ،اللتان ألغيتا والكثير من المواد األخرى ذات العالقة سنة 2006بصدور القانون رقم 01-06المؤرخ في-20 :
2006 -02المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته.
] - [24القانون الدولي الجنائي :ينظم الجرائم الدولية التي تعد انتهاكات للمصالح الدولية ككل ،وهي جرائم تتجاوز
حدود الدول وتتضمن دوما عنصرا خارجيا (أجنبيا) إما بسبب جنسية مرتكب الجريمة أو جنسية المجني عليه أو بمس مكان
ارتكابها ،وهو القانون الذي يعبر عهنه البعض بقانون العقوبات عبر الوطني ،بدال من عبارة القانون الجنائي الدولي .وهو ينظم
الجرائم ذات البعد الدولي أو ذات الطبيعة الدولية ،ومنها الجرائم المنظمة العابرة للحدود الوطنية .وهي طائفة من الجرائم ترتكب
في ظروف أكثر تعقيدا من الجرائم العادية التي يحددها القانون الجنائي الوطني ،وهو ليس من القوانين الدولية بل من القوانين
الداخلية التي تهتم بدراسة مسألة اإلجرام الدولي.
بينما القانون الدولي الجنائي يهتم بمكافحة الجرائم التي سميت من قبل البعض بالجرائم العالمية التي اتفقت غالبية
التشريعات على العقاب عليها ومكافحتها بشكل تعاوني جماعي ،وذلك من خالل اللجوء إلى إبرام االتفاقيات الدولية واستحداث
آليات للتعاون الدولي وعموما تبني سياسة تجريمية موحدة لمواجهتها .وعموما يمكن القول بأن القانون الجنائي الدولي هو القانون
الذي يهدف إلى تحقيق المصالح الهامة للمجتمع الدولي بتجريم االنتهاكات التي تمس مصالحه الجديرة بالحماية الجنائية ،أهمها
حفظ األمن والسلم الدوليين وحماية حقوق اإلنسان .وهو يستمد مصدره من أحكام القانون الدولي العام ،أو يستمد وجوده من
االتفاقيات الدولية أو العرف الدولي أو غيره من المصادر ،التي تستهدف حماية حقوق اإلنسان وحرياته األساسية والتصدي لما
يواجه األسرة الدولية من مشكالت تهدد السالم واألمن العالميين .وخاصة االتفاقيات التي تعد حسب البعض بأنه ما هي إال عبارة
عن اتفاقيات كاشفة عن قواعد قانونية موجودة ،واالتفاقيات أصبح ذات أهمية كبرى في مجال مكافحة الجريمة ومعاملة
المجرمين ،هذا ما جعل الدمج يسود الفقه فترة طويلة من الزمن بين القانون الدولي الجنائي والقانون الجنائي الدولي سيما في
اتحادهما في المصدر.ويرى البعض بان الذاتية واالستقاللية للقانون الدولي الجنائي تجسدت بصفة جلية وواضحة بموجب أحكام
محكمة نورمبرغ العسكرية ومحكمة طوكيو ،حيث أن األحداث الدولية التي أسفرت عن تلك المحاكمات شكلت نقطة تحول في
القانون الدولي العام الذي شهد ظهور فرع قانوني جديد وهو القانون الدولي الجنائي .وعرف القانون الدولي الجنائي العديد من
التعريفات ،من بينها أنه ":مجموعة القواعد القانونية التي تتعلق بالعقاب على الجرائم الدولية التي تشكل انتهاكا للقانون الدولي،
وتحدد قوا عده بموجب اتفاقيات بين الدول ،ال داخل مواد التشريع الداخلي لكل دولة ".وعموما هو فرع قانوني يهدف إلى حماية
المبادئ واألحكام المقررة في القانون الدولي العام ،والتي تتابع وتحكم في الجرائم وتحيلها على المحكمة الجنائية الدولية ،بالرغم
من أنه ال تزال الكثير من الجرائم ذات الطابع الدولي محل نقاش فقهي ما إن كانت تخضع للمحكمة الجنائية الدولية أم ال ،مثل
جرائم االتجار بالمخدرات ،والجرائم اإلرهابية.
بينما يرى البعض أنه ال تفرقة بين القانون الجنائي الدولي والقانون الدولي الجنائي ،وإنما هناك قانون جنائي عالمي وهو
قانون اتفاقي نابع عن رغبة الدول في التضامن فيمتا بينها والتعاون لمكافحة اإلجرام الداخلي ،وبموجبه في الجرائم التي ينظمها
يحق لكل الدولة القبض والمحاكمة على الشخص المرتكب لمثل هذه الجرائم .أو هو " مجموعة القواعد التي تحكم تنازع القوانين
الجنائية من حيث األشخاص والمكان".
] - [25في حقيقة األمر الفقه عالج المسألة بشكل اسع وبطريقة مختلفة عن التي تناولناها ،وبذلك ظهرت العديد من
النظريات التي يكفي المقام لتفصيلها ،بل اإلشارة لها فقط ،فظهرت نظرية التبعية ،وهي نظرية االتجاه التقليدي التي ترى أن
طبيعة قانون العقوبات جزائية محضة وظيفته تكمن فقط في التدخل لمد الحماية لفروع القانون األخرى ،وفي ذلك عبر بنتام " إن
القانون المدني هو الذي يقرر الحق ...والقانون الجنائي هو الذي يأمر بعقاب من ينتهك هذا الحق" ،وهناك نظرية االستقاللية،
ومؤداها أن قانون العقوبات مستقل بمبادئه وأفكاره ونظرياته ،وكلما تدخل لمد فرع قانوني آخر بالحماية ،فإن مفهوم هذه
المصلحة ينسلخ من هذا الفرع القانوني ويعطى لها مفهوم جنائي مغاير ،وهناك النظرية التوفيقية ،التي يرى أنصارها أن قانون
العقوبات يضم خليطا من القواعد القانونية ،البعض منها يقرر جزاءات على مخالفة القواعد القانونية المنصوص عليها في فروع
القانون= =األخرى ،والبعض اآلخر يقرر جزاءات خاصة به يحمي بها بعض االلتزامات التي يتضمنها ،وهو بذلك تبعيا في
بعض جوانبه ومستقال في بعض الجوانب األخرى.
] - [26يرى البعض أن جميع القوانين في البداية كانت قوانين جنائية ،ومع التطور تم االستغناء على القوانين الجزائية
بقوانين مدنية ،ومن هنا جاء مصطلح " المدنية" La civilisationحيث أن كلما حلت القوانين المدنية محل القوانين الجزائية،
فإن ذلك يعني أن المجتمع يتطور نحو األفضل ،مما يجعل من القانون الجنائي قانونا يتضمن قواعد قانونية تتضمن شق الجزاء
][30
دون الشق اآلخر ،المتضمن المصلحة المراد حمايتها ،وهي مصلحة منصوص عليها في القوانين األخرى ،والتي يجب أن تفسر
في القانون الجنائي وفقا للمفهوم المعطى لها في هذه القوانين ،وفقا لذلك ،يمكن تقسيم القانون الجنائي عدة تقسيمات ،تبعا للمصالح
والحقوق التي يحميها ،فيمكن تسميته بالقانون الجنائي المدني في الحاالت التي يمد فيها القانون المدني بالحماية ،كحاالت االعتداء
على الملكية أو العقد بالتزوير مثال ،والقانون الجنائي التجاري ،في الحاالت التي يحمي فيها المصالح التجارية ،والقانون الجنائي
اإلداري والمالي والجبائي.
وإن كنا ال نوافق هذا الرأي ،إال أن الواقع يشهد فعال تفرع القانون الجنائي إلى العديد من الفروع األخرى ،حيث بدأنا
نشهد في اآلونة األخيرة ظهور العديد من المؤلفات الفقهية لفقهاء قانون كبار ،مثل القانون الجنائي الدستوري ،والقانون الجنائي
الدولي ،والقانون الجنائي اإلداري....
] - [27في حين نجد بعض الفقه يحصرها في ثالثة وظائف رئيسية ،إذ يرى أن قانون العقوبات يؤدي وظيفة جزائية،
وأخرى أدبية ،وثالثة حماية المجتمع وحقوق المواطنين ،فالوظيفة الجزائية تتمثل في كون قانون العقوبات المتميز عن غيره من
القوانين بفرضه لجزاءات الهادفة لتحقيق بعض األغراض األخالقية والنفعية ،أخالقيا بمقابلة الجريمة بجزاء إلرضاء الشعور
العام بالعدالة ،ونفعيا بتحقيق الردع العام والردع الخاص ،أما الوظيفة األدبية فقانون العقوبات يعد تعبير عن القيم والمصلح
االجتماعية ،وكذا حماية حقوق المجتمع والمواطنين
] - [28حتى وإن كان لمفهوم الردع في قانون العقوبات معنى مغاير ،إال أنه يمكننا القول بأن الوظيفة األساسية لقانون
العقوبات هي تبيان المحظورات والممنوعات ،وأوامر ونواهي قانون العقوبات في حقيقتها تنطوي على شيء من اإلكراه النفسي
والمعنوي ،والضغط على اإلرادة اإلنسانية وتصدها وتمنعها من بروز المعطيات اإلجرامية لديها ،لذا قانون العقوبات في حقيقته
يقوم بالتخويف والردع ،كما يقوم أيضا بنوع من التربية االجتماعية ،حيث أن التعرف على المحظورات تعني تعرف الفرد على
القيم المحترمة في المجتمع ،كون القواعد الجنائية في حقيقتها تجريم لبعض األفعال المخالفة في جانب من الجوانب لهذه القيم،
سواء تعلق األمر باألمن العام لهذا المجتمع ،أو نظامه وآدابه العامة ،أو أمنه أو سكينته أو صحته ...وما تدخل المشرع لتجريم
فعل أ و امتناع إال ألنه عبر عن إرادة المجتمع في عدم تقبله ذلك ،األمر الذي يجعل الفرد يدرك ممنوعات وحرمات المجتمع الذي
يعيش به ،لذا فوظيفة مثل التربية االجتماعية والردع والتخويف ال تتحقق إال بالنصوص الجنائية المكتوبة الصادرة عن الجهة
المختصة بإصدارها حسب دستور الدولة ونظام حكمها.
وإن كانت حقيقة أن اإلنسان اجتماعي بطبعه ،وعليه االمتثال لقيم هذا المجتمع ،غير انه ال ينبغي لهذا المجتمع أن
يتعسف كثيرا في حرمان األفراد من حرياتهم واستقالليتهم ،لذا يجب العمل على إقامة نوع من التوازن بين مصلحة المجتمع وبين
حقوق وحريات األفراد ،وهما النقيضين – في الحقيقة -الذين يعمالن في المجتمع في آن واحد ،لذا يجب أن يكون هناك= =حكما
يضع الحدود الفاصلة بين هذين المتعارضين ،وهو المشرع المعبر عن إرادة الجماعة من جهة ،وحامي حريات األفراد وحقوقهم
من جهة ثانية ،لكن في إطار الشرعية الجنائية
] - [29حيث كان االنتقام الوسيلة األولى للعقوبة في العصور البدائية ،وكان أسلوبا مسيطرا على تصرفات اإلنسان،
ومن بعده التأديب الذي كان ينزله رب األسرة بالجاني ،ويمكن تلخيص هذه المرحلة في األفكار التالية :العدوان أو الجريمة كان
نوعان ،خارجي وداخلي ،والجزاء تمثل في االنتقام الفردي والجماعي أو الثأر ،بخصوص الجريمة :سلطة التقرير لرب األسرة
وهي نوعان االعتداءات الداخلية واالعتداءات الخارجية ،وبخصوص الجزاء ،توقيع الجزاء في حال االعتداءات الداخلية من
سلطات رب األسرة ،وفي االعتداءات الخارجية ساد نظام الثأر الجماعي بين األسر ،بالنظر لقيام العالقات األسرية على أساس "
رابطة لدم" التي تعد اليوم من أهم أسس للجنسية في القوانين المعاصرة.
] - [30في مرحلة الحقة من مراحل تطور البشرية تكونت العشائر من مجموعة أسر تعتقد في انتمائها ألصل واحد
سواء كان نباتا أو حيوانا كان يطلق عليه مصطلح :التوتم" الذي كان بمثابة إله العشيرة الذي تقدم له القرابين ،ومن مجموعة
عشائر تكونت القبائل إما على أساس ديني مثلما هو الشأن بالنسبة لتكون العشائر ،وإما بسبب الحروب التي كانت تفرز غالب
ومغلوب يسيطر فيه األول على الثاني ،ومن مجموعة القبائل تكونت بعدها المدن القديمة كمدينة روما وأثينا واسبرطة التي
تحولت في مرحلة الحقة إلى دول حديثة ،وكل على رئس كل عشيرة أو قبيلة أو مدينة رئيس أو حاكم أو أمير يتولى تصريف
شؤونها.
] - [31ويمكن تلخيص مبادئ هذه الفترة في :تطوير النظم األسرية وتحول سلطات توقيع العقاب ،االهتمام بشق الجزاء
دون الجريمة ،تطور فطرة االنتقام الجماعي ،ظهور فكرة القصاص .في االعتداءات الداخلية ،وفكرة الحروب في االعتداءات
الخارجية .قلل منها بفكرة الدية والصلح.
] - [32القول بالدين ال يعني بالضرورة أننا بصدد الكالم عن المسيحية أو الشريعة اإلسالمية ،بل عن كل األديان
والمعتقدات التي سادت البشرية حتى قبل ظهور هاتين الديانتين ،ويمكن القول أن أهم ما لعب دورا هاما في تطوير قانون
][31
العقوبات ،كان الدين ،فعن طريقه تمت تقوية سلطات الحكام وادعائهم أنهم يستمدون مثل هذه السلطات من قبل اإلله مباشرة كون
الحاكم ممثال لإلله على األرض ،وكانوا يصورون الجريمة على أنها أرواح شريرة تتقمص شخص الجاني وتؤدي إلى إغضاب
اآللهة ،ومن الضروري إلرضاء اآللهة أن يقوم الجاني بالتكفير عن جريمته وذلك بإنزال العقوبة عليه حتى ترضى اآللهة،
واتخذت بذلك العقوبة فكرة االنتقام الديني الذي تحت غطائه ظلت العقوبات تتسم بطابع القسوة والشدة كأسلوب لردع الجناة
وإرضاء اآللهة وامتصاص غضبها ،ورغم ظهور ديانات سماوية بعد االعتقادات الدينية القديمة ونزول اليهودية والمسيحية إال أن
الحكام استمروا عن مبادئ مثل هذه الديانات للتنكيل بخصومهم وردع الخراجين هن حكمهم ،لتستمر بذلك العقوبات متسمة
بالقسوة والشدة.
] - [33يعتبر القرن الثامن عشر ،حسب البعض ،المرحلة االنتقالية ما بين المجتمعات التقليدية والعصر الحديث ،وهو
القرن الذي شهد العديد من الثورات االجتماعية في أوروبا ،كما شهد في المجال الجنائي ما سماه هذا الفقه بالثورة األولى التي
تمثلت في المدرسة الكالسيكية.
] - [34ويمكن تلخيص أفكار هذه المدرسة في أنه جع أنصارها ما بين فكرتي العدالة والمنفعة االجتماعية ،فالعقوبة ال
تكون مشروعة إال في الحدود التي تجتمع فيها العدالة والمصلحة ،ولم يسلموا بين فكرة المساواة المطلقة في فكرة المسؤولية ،بل
يجب مراعاة ظروف الجناة كل على حدا لتقرير المسؤولية الجنائية ،وتأثرت العديد من التشريعات بآراء هذه المدرسة آنذاك ،مثل
القانون الفرنسي لسنة 1832التي ألغت العقوبات القاسية وقرر نظم التخفيف وفرق بين الجرائم السياسية والجرائم العادية ،كما
أخذ بأفكار هذه المدرسة أيضا قانون العقوبات القانون الجنائي األلماني الصادر سنة ،1870وقانون العقوبات اإليطالي لسنة
1889
] - [35حيث رأت هذه المدرسة أن الجريمة ظاهرة تعود أسبابها إما لظروف عضوية ونفسية ،أو بيئية أو اجتماعية،
والقول بحرية االختيار هروب من التعمق في دراسة أسباب الجريمة وذلك بإلقاء اللوم على الجاني ،وأن ذلك يؤدي إلى الجمود
وعدم مواجهة الجريمة باعتبارها نتيجة حتمية ال مناص من وقوعها.لكن فكرة الحتمية التي نادت بها هذه النظرية هي عبارة عن
وهم أثبت الواقع عدم صحته
] - [36وهي كلها مبادئ قانونية راسخة اليوم في التشريعات الجنائية المعاصرة ،بما فيها التشريع الجزائري.
] - [37الزنا هو وطأ الرجل للمرأة في حرام من دون أن تكون تحل له ،فكل وطأ محرم يشكل في الشريعة اإلسالمية
جريمة الزنا ،دون أن تفرق الشريعة بين المتزوج وغير المتزوج عكس القانون الجزائري الوضعي ،حيث ال تقوم هذه الجريمة
إال إذا كان أحدهما متزوجا ( المادة 339تقنين العقوبات الجزائري) ،وحد جريمة الزنا في الشريعة اإلسالمية هو الجلد مائة جلدة
لغير المحصن ،والرجم للمحصن ،وذلك لقوله عز وجل في اآلية الثانية من سورة النور ":الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد
منهما مائة جلدة وال تأخذكم بهما رأفة في دين هللا إن كنتم تؤمنون باهلل واليوم اآلخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين"
] - [38السرقة من جرائم الحدود في الشريعة اإلسالمية ،وبينت حدها اآلية 38من سورة المائدة ،وهو قطع اليد": ،
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكال من هللا وهللا عزيز حكيم".
] - [39القذف في لشريعة اإلسالمية هو رمي المسلم المحصن بالزنا أو نفي النسب ،على عكس القانون الوضعي الذي
يمثل االدعاء علنا بواقعة ( المادة 296قانون العقوبات الجزائري) ،وبينت حد هذه الجريمة اآلية 4من سورة النور ":والذين
يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة وال تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون".
] - [40البغي عموما – وبالرغم من اختالف الفقه اإلسالمي حول تعريفه -فهو الخروج عن طاعة أولي األمر ظلما
وتعديا ،أو هو االمتناع عن طاعة السلطان فيغير معصية ،وبينت حده اآلية 9من سورة الحجرات ":وإن طائفتان من المؤمنين
اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على األخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر هللا إلى أمر هللا فإن فآءت فأصلحوا
بينهما بالعدل وأقسطوا إن هللا يجب المقسطين"
] - [41الحرابة مشتقة من لفظ الحرب ،بمعنى القتل أو أخذ المال قهرا أو على سبيل المغالبة ،ويسمى فاعلها المحارب
أو قاطع الطريق ،وهي من جرائم الحدود لقوه تعالى في اآليتان 33و 34من سورة المائدة ":إنما جزؤا الذين يحاربون هللا
ورسوله ويسعون في األرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلف أو ينفوا من ا{ض ذلك لهم خزي
في الدنيا ولهم في اآلخرة عذاب عظيم ( )33إال الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن هللا غفور رحيم (")34
] - [42الردة هي إنكار لما علم من الدين ،كأن يكفر المسلم صراحة أو بفعل يدل على خروجه من الدين اإلسالمي،
وهي عموما الرجوع عن اإلسالم ،وبين الشرع عقوبتها في سورة آل عمران اآلية 82وفي اآلية 217من سورة البقرة ،حيث
قال عز وجل في األولى ":ومن يتبع غير اإلسالم دينا فلن يقبل منه وهو في اآلخرة من الخاسرين" ،وفي الثانية ":ومن يرتد
][32
منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعملهم في الدنيا واآلخرة وأولئك أصحب النار هم فيها خالدون" وقوله صلى هللا
عليه وسلم ":من بدل دينه فاقتلوه "...وبالتالي الحد هو القتل.
] - [43جريمة الخمر حرمه الشرع قطعا ،غير أنه لم يبين عقوبتها أو الحد المقرر لها ،لذا قرر النبي صلى هللا عليه
وسلم الجلد كحد لها ،بقوله ":من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه" وثبت أن شارب الخمر جلد أربعون جلدة في عهد أبا
بكر ،كما ثبت الجلد ثمانون جلدة في عهد عمر رضي اله عنهما.
] - [44يقول عز وجل في اآلية 179من سورة البقرة ":ولكم في القصاص حيواة يأولي األلبـب لعلكم تتقون" وقوله
أيضا في اآلية 178من سورة البقرة ":يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد واألنثى
باألنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" ،وقوله تعالى في اآلية 45من سورة المائدة ":وكتبنا
عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين واألنف باألنف واألذن باألذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو
كفارة له ومن لم يحكم با أنزل هللا فأولئك هم الظلمون" ،قله عز وجل في اآلية 92من سورة النساء ":ومن قتل مؤمنا خطئا
فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إال أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان
من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من هللا وكان
هللا عليما حكيما".
] - [45األمر رقم 156-66المؤرخ في 08يونيو 1966المعدل والمتمم.
] - [46مثل المرسوم 399-63المؤرخ في 1963-10-07المتضمن تصنيف العتاد الحربي واألسلحة والذخائر غير
المعتبرة كعتاد حربي ،والمرسوم رقم 441-63المؤرخ في 1963-11-08 :المتضمن تنظيم شروط اقتناء وحيازة أسلحة الصيد
وذخائرها والتنازل عنها ،المرسوم الصادر بتاريخ 1963-03-18المتعلق بتجريم األفعال الماسة باألمالك الشاغرة ،قانون
القضاء العسكري الصادر باألمر ...28-71
] - [47األمر رقم 155-66المؤرخ في 08يونيو 1966المعدل والمتمم.
] - [48أول تعديل كان سنة 69بموجب األمر 74-69المؤرخ في ،1969-09-16 :ثم سنة 1973بموجب األمر -73
48المؤرخ في ،1973-11-25ثم أألمر رقم 47-75المؤرخ في 17 :يونيو ،1975القانون 03-78المؤرخ في -02-11
،1978القانون 04-82المؤرخ في ،1982-02-13القانون 26-88المؤرخ في 12يوليو ،1988القانون 05-89المؤرخ في
،1989-04-25القانون 02-90المؤرخ في ،1990-02-06القانون 15-90المؤرخ في 14يوليو ،1990األمر التشريعي رقم
11-95المؤرخ في ،1995-02-25األمر 22-96المؤرخ في 09يوليو ،1996األمر 10-97المؤرخ في ،1997-03-06
القانون 09-01المؤرخ في 26 :يونيو ،2001القانون 15-04المؤرخ في ،2004-11-10 :القانون رقم 06-05المؤرخ في
،2005-08-23القانون 01-06المؤرخ في 2006-02-20المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته ،القانون 23-06المؤرخ في
.2006-12-20
][33
الباب األول
النظرية العامة للجريمة
مقدمــــــة
الجريمة قديمة قدم وجود اإلنسان على األرض ،حيث وقعت أول جريمة قتل على األرض والبشرية ال
تزال في بدء والدتها ،فالجريمة متواجدة ما وجد بني البشر ،حتى ولو عاشت البشرية كلها في المدينة الفاضلة التي
تخيلها فالسفة اليونان ،لذا فوجود القانون العقابي حتمية لجميع المجتمعات البشرية ،كون الجريمة مرادفة للسلوك
االجتماعي وتابعة لوجود البشر والمجتمع ،األمر الذي جعل من الجريمة موضوعا هامة تحدث فيه الفالسفة والفقهاء
على حد سواء .لكنها فكرة ال تزال لغاية اليوم تثير الجدل والنقاش الفقهي الحاد ،سواء فيما يتعلق بتحديد ماهيتها ،أو
بتكوينها القانوني من حيث األركان والعناصر والظروف ،وذلك راجع باألساس إلى أن فكرة الجريمة اختلطت حولها
المفاهيم االجتماعية والسلوكية والقانونية ،وتعددت المذاهب داخل الدراسة القانونية ذاتها.
ل ذا فدراسة النظرية العامة للجريمة ،تقتضي منا قبل الخوض في تحليلها وتناول تفاصيل أركانها العامة،
تباعا وفقا لما أوردها الفقه ،والتمييز بين هذه األركان وما يشابهها من أفكار وما ثار حولها من جدل فقهي ،أن نتناول
في فصل أول من هذا الباب ،ماهية الجريمة كموضوع أساسي للقاعدة الجنائية الموضوعية ،والتي تمثل الشق األول
منها ،سواء تمثلت في أمر أو نهي ،خاصة وان الشق الثاني من القاعدة المتمثل في الجزاء ما هو إال أثر يترتب عن
مخالفة الشق األول ،حيث ال يمكن الكالم عن هذا الجزاء ،إال في حال عدم االمتثال لشق التجريم ،سواء بمخالفة النهي
وإتيان سلوك يخالفه ،أو بعدم االمتثال لألمر ،وعدم إتيان الفعل الذي أمر به قانون العقوبات .وعلى ذلك ،سنحاول
الشروع في دراسة هذا الباب من خالل فصل تمهيدي نتناول فيه ماهية الجريمة كموضع أساسي محوري لقانون
العقوبات .لنخصص ثالثة فصول أخرى متتالية لكل ركن من أركانها العامة ،وآخر لدراسة أسباب اإلباحة يكون تاليا
مباشرة للفصل المتعلق بدراسة الركن الشرعي ،ونختمه بخامس نبين فيه تصنيف الجرائم أو تقسيماتها .على أساس أن
هذا التقسيم
أو التصنيف يرتبط ارتباطا وثيقا بأركان الجريمة ،لذا حاولنا تأخيره لغاية استيعابنا لهذه األركان العامة.
][34
فصل تمهيدي
مـــاهية الجـــريمة
بالرغم من كون الجريمة العنصر األهم في القاعدة الجنائية ،باعتبارها الشق الذي يترتب عليه تطبيق
الشق الثاني من ذات القاعدة ،ومن بعده االحتكام للقاعدة اإلجرائية في وضع القاعدة الموضوعية موضع التنفيذ ،وأن
السياسة الجنائية في األصل يكمن اهتمامها بهذا الشق ،حيث يجسد نظرة المشرع لما ال يجب أن يسود المجتمع من
سلوكات ،وانصباب اهتمامه بالدرجة األولى على بحث النموذج القانوني المجرم ،كون األثر مسألة غير متعبة أساسا،
حيث وضع الجزاء المناسب مسألة سهلة نسبية ،غير أننا نادرا ما نجد القانون الجنائي أو قانون العقوبات يهتم بوضع
تعريف عام للجريمة ،كون التعريف الخاص لكل جريمة على حدا موجود في النص الذي يبين ركنها المادي وباقي
عناصرها األخرى ،مفضال ترك المهمة للفقه ،خاصة وأن المعروف أن وضع التعاريف ليس من أعمال المشرع بل من
مهام الفقه ،لدرجة أن قال البعض وضع التعاريف لعبة الفقهاء ،ونرى أن مسلك المشرع في ذلك مسلكا سليما كون
وضع تعريف قد يقيد حركيته في التجريم والعقاب ،ويجعله عرضة للوقوع في التناقضات ما بين أحكام قانون العقوبات
الواحد ،غير أن ذلك ال يمنعنا من التركيز على أهمية هذا التعريف ،كونه الخطوة األولى لإلحاطة بمقومات وخصائص
وأركان الجريمة ،وكذا التمييز بينها وبين األفكار المشابهة لها في ميادين القانون األخرى ،أو في الحياة االجتماعية ،كما
أن غياب التعريف القانوني الجامع والمانع انعكس على تصنيف أنواع الجرائم ووضع تقسيمات قانونية لها ،وجعل الفقه
يختلف حول هذه المسألة ،مثلما اختلف حول أركان الجريمة وعناصرها ،بل وحتى حول عدد هذه األركان ،وهو ما
يتوضح ل نا من خالل نقاط هذا الفصل ،الذي سنحاول أن نتناوله من خالل التعرض لمفهوم الجريمة في حد ذاتها
كتصور قانوني وأساس عمل المشرع الجنائي ،لنتمكن فيما بعد باإلحاطة بأركانها وعناصرها ومختلف مقوماتها ،وذلك
من خالل مبحث ثاني نتناول فيه التحليل القانوني لفكرة الجريمة.
][35
المبحث األول
مفـــــهوم الجريمة
سبق القول بأن المشرع لم يهتم بوضع تعريف للجريمة] ،[1مفضال كالعادة ترك المهمة للفقه ،األمر
الذي جعل من الموضوع ساحة للجدل واالختالف الفقهي ،وجعل المسألة من أكثر المواضيع الجنائية إثارة للخالف
والجدل ،وهو األمر الذي يميز قانون العقوبات كلما تعلق األمر بوضع التعاريف ،وقد تبينا ذلك في نقاط البحث
السابقة ،وسنتبينه الحقا كلما تعلق األمر بوضع تعريف لفكرة جنائية من أفكار قانون العقوبات ،غير أن ميزة الخالف
الفقهي الجنائي حول وضع التعاريف ،هي أنه يمكن من إيجاد نقاط مشتركة خاصة في ظل كثرة المدارس واالتجاهات،
من مدارس موضوعية وأخرى شخصية ،ومن اهتمام قانوني وآخر علمي ،وكذا الهتمام غالبية العلوم بفكرة الجريمة
كسلوك يمكن أن يميز سائر مجاالت الحياة ،فاهتم بها علماء اإلجرام وعلماء العقاب والفقه والقضاء الجنائي ،وإن كانت
مثل هذه العلوم من العلوم الجنائية المساعدة ،فإن فكرة الجريمة أيضا موضوع اهتمام سائر فقهاء الميادين االجتماعية
األخرى ،شأنها شأن أية فكرة اجتماعية .لذا سنحاول من خالل مطلب أول ،تبين أهم التعريفات الفقهية لفكرة الجريمة،
لنحاول بناء على ذلك تبين أهم خصائصها ،في مطلب ثاني ،األمر الذي يمكننا فيما بعد من التمييز بينها وبين األفكار
القانونية المشابهة لها ،وذلك في مطلب ثالث.
المطلب األول
تعريـف الجريــمة
م ن أكثر المواضيع التي شغلت الفقه الجنائي ،هي محاولته وضع تعريف للجريمة ،األمر الذي انعكس
على تعدد هذه التعاريف وتنوعها ،إلى حد جعلها في منأى عن الحصر ،غير أنه يمكننا رد هذه التعريفات إلى اتجاهين
أساسيين ،اتجاه اجتماعي ويركز أنصاره على فكرة الجريمة كسلوك اجتماعي ضار بالمجتمع ،واتجاه قانوني يركز
على اعتبار الجريمة فكرة قانونية مجردة ،وهو ما نبينه من خالل الفرعين التاليين.
الفرع األول
االتجاه االجتماعي في تعريف الجريمة
ي ميل أنصار هذا االتجاه في تحليلهم للجريمة ومحاولة وضع تعريف لها ،إلى التركيز على جوانبها
االجتماعية ،باعتبارها سلوكا اجتماعيا صادرا عن إنسان قبل أن تكون فكرة قانونية ،حيث لكل إنسان دوافعه الخاصة
في ارتكابه للجريمة وهذه الدوافع تختلف من شخص آلخر ،بل تختلف لدى الشخص الواحد من جريمة ألخرى،
وبالتالي فإن أي محاولة لوضع تعريف للجريمة يجب أن تنطلق من دراسة وتحليل سلوك اإلنسان ودوافعه .وهو اتجاه
تبناه أيضا علماء اإلجرام ،الذين سبق لهم أن توصل بهم الحد للقول بعدم الحاجة ال لقانون العقوبات وال لقاضي يطبق
هذا القانون ،بل أن المسألة تحتاج إلى مخابر يتولى فيها العلماء البحث في الجريمة وأسبابها ودوافعها ،ووضع العالج
المناسب لها ،وبالتالي هو اتجاه إن صلح كعامل مساعد في رسم السياسة الجنائية ،فإنه ال يصلح لقانون العقوبات الذي
يبنى على أفكار قانونية مجردة.
][36
الفرع الثاني
االتجاه القانوني في تعريف الجريمة
على عكس االتجاه السابق ،الذي يركز على الجريمة كسلوك إنساني ،فإن أنصار االتجاه القانوني
يركزون في محاوالتهم لوضع تعريف للجريمة على نصوص قانون العقوبات ذاته ،باعتبار أن الجريمة تستمد وجودها
القانوني من هذه النصوص ،وبالتالي تصبح الجريمة فكرة قانونية مجردة أكثر من اعتبارها سلوك إنساني أو اجتماعي،
وداخل هذا االتجاه ذاته ،هناك اختالف فقهي ،حيث نجد البعض يركز على الجانب الشكلي للجريمة ،في حين يركز
البعض اآلخر على جوانبها الموضوعية ،وبذلك ظهر اتجاهين قانونيين في تعريف الجريمة] ،[2أحدهما شكلي واآلخر
موضوعي .وهو ما نتناوله في النقطتين التاليتين.
][37
العقوبات ،وأثرها العقاب عليه ،حيث أن العقاب أثر لعدم مشروعية الفعل ،وأن يمثل هذا السلوك إضرارا بالمصالح
الجوهرية للمجتمع ،بخرقها عن طريق اإلضرار بها ،أو بتهديها بخطر.
الفرع األول
الجريمة سلوك مادي إنساني معاقب عليه
ي مكن أن نستنتج من هذه الخاصية وحدها العديد من الخصائص الفرعية األخرى ،فهي أوال وقبل كل
شيء سلوك ،فحتى تعد الواقعة جريمة يجب أن تنطوي على قدر معين من السلوك ،سواء قل أو كثر ،وسواء تمثل في
فعل إيجابي أو في سلوك سلبي ،حيث أن الجريمة تقوم بالفعل كما تقوم باالمتناع ،ونكون بصدد الفعل اإليجابي عند
مخالفة نواهي قانون العقوبات ،ونكون بصدد السلوك السلبي عند عدم إتيان أوامر قانون العقوبات ،أو القيام باألمر على
نحو مخالف لما تطلبه القانون ،وبالتالي اعتبار الجريمة سلوك يقودنا لمبدأ هام يقوم عليه قانون العقوبات ،وهو مبدأ
مادية الجرائم ،حيث أن القانون الجنائي ال يحفل وال يعبأ بالنوايا مهما كانت شريرة ،وال سلطان له على الضمائر وما
تحدث به األنفس .هذا من ناحية .ومن ناحية ثانية ،يجب أن يكون هذا السلوك المادي ،سلوكا إنسانيا ،صادر عن
إنسان يتمتع بالتمييز والقدرة على االختيار ،حتى يمكن مسائلته قانونا – وإن كان يمكن مسائلة الشخص المعنوي ،فإن
ذلك في أحوال ضيقة تمثل استثناء وأثارت العديد من الجدل الفقهي الذي حسم في شق منه وال يزال يثير الكثير من
الجدل في نواحي كثيرة منه -حيث أن قانون العقوبات كقاعدة يخاطب الشخص الطبيعي البالغ العاقل المميز المختار،
سواء اتخذت هذه اإلرادة صرة العمد أو الخطأ ،وزيادة عن ذلك ،يجب أن تنتفي أسباب اإلباحة في الفعل .وهو ما يجسد
فكرة الركن المعنوي للجريمة .وكذا تجسيد لفكرة المسؤولية الجنائية .وزيادة على اعتبار الجريمة سلوك مادي صادر
عن إنسان ،وأن يكون هذا اإلنسان واعي ومدرك ومختار ،يجب أن يجد مصدر تجريمه في نصوص قانون العقوبات،
الذي يعد الوسيلة الوحيدة للتجريم والعقاب ،وهو ما يجسد فكرة قانونية الجرائم والعقوبات،
أو مبدأ الشرعية الجنائية .وإن كانت الخصائص السابقة قد جسدت فعليا أركان الجريمة الثالث األساسية ،فإنه هناك
خاصية أخرى تجسد خصوصية الجريمة وتميزها عن غيرها من صور المخالفات المنصوص عليها في الفروع
القانونية أألخرى ،وهي أن يكون الفعل المادي الصادر عن اإلنسان المسؤول جنائيا ،يخرق
أو يهدد المصالح الجوهرية أو األساسية للمجتمع .وهي الخاصية الثانية ،التي نتناولها في النقطة الموالية.
الفرع الثاني
الجريمة خرق أو تهديد لمصالح وقيم المجتمع الجوهرية
من أهم ما يمز الجريمة عن صور المخالفات القانونية األخرى ،المنصوص عليها في فروع القانون
المخ تلفة غير القانون الجنائي ،أنها سلوك يصل في جسامته إلى حد اإلخالل بمصالح وقيم المجتمع األساسية ،كنظامه
وأمنه وصحته وسكينته وآدابه وطمأنينته ،وحقوق وحريات أفراده ،وهي المسألة التي تبرر للمشرع الجنائي التدخل
بالتجريم الذي يعد استثناء عن قاعدة أساسية أصلية هي أنه األصل في األشياء اإلباحة ،وسواء شكل هذا اإلخالل تعديا
فعليا أو مجرد تهديد كحاالت الشروع] .[5هذا وبعد أن حددنا بعض التعريفات التي أعطيت للجريمة ومكنتنا من تحديد
أهم خصائصها ،يتوجب علينا أن نميزها عما يشابهها من صور المخالفات القانونية األخرى ،وأهمها الجريمة المدنية
والجريمة التأديبية.
المطلب الثالث
تمييز الجريمة عن صور المخالفات القانونية المشابهة
ي ميز الفقه الجريمة الجنائية عن بعض صور المخالفات األخرى ،على أساس أنه يوجد تشابه بين هذه
األفكار ،ومن أهمها المخالفة المدنية والمخالفة التأديبية ،ويسميهما الجريمة المدنية والجريمة التأديبية ،وإن كنا نرى أن
لفظ " الجريمة" ال ينصرف إال إلى األفعال المجرمة بموجب قانون العقوبات ،وما باقي الصور األخرى سوى مجرد
مخالفات ال تترتب عليها ذات النتائج التي تترتب على الجريمة بالمفهوم القانوني الجنائي الصحيح.
الفرع األول
الجريمة الجنائية والجريمة التأديبية
][38
الجريمة الجنائية ،على النحو الذي تقدم ،تعد واقعة مضرة بالمصلحة العامة أو بالمصالح الجوهرية أو
األساسية للمجتمع ،في حين الجريمة التأديبية تمس مصلحة فئة معينة من األشخاص ،أو مصلحة هيئة معينة ،أو الوظيفة
العامة ،مخالفا بذلك اللوائح والنظم والقوانين األساسية التي تنظم هذه الهيئات أو النقابات
أ و الجمعيات أو المهن .فالجريمة التأديبية مساس بأخالق أو آداب أو قيم أو أعراف جهة معينة أو فئة معينة من فئات
المجتمع ،فتطبق على الشخص العقوبات المقررة لهذه المخالفات بحسب درجتها ،والتي تكون محددة مسبقا مثل اإلنذار
أو الخصم من الراتب أو اإلنزال في الرتبة أو الفصل أو حتى الحرمان من ممارسة المهنة بصفة مؤقتة أو دائمة .وهي
تختلف عن الجريمة الجنائية من حيث المصدر والنتيجة والجزاء.فمصدر الجريمة الجنائية مثلما سبق القول هو النص
الجنائي المكتوب ،بينما مصدر الجريمة التأديبية فهو كل مسلك يشكل إضرارا بالمصالح الجماعية للطائفة التي ينتمي
إليها الشخص ،وهي مسالك غير محددة في العادة مسبقا على سبيل الحصر ،ومن حيث النتيجة ،فإن الجريمة التأديبية
أضيق نطاقا من الجريمة الجنائية ،فاألولى ال تمس إال مصالح الطائفة أو الهيئة التي ينتمي إليها المخالف ،بينما تمس
الثانية مصالح المجتمع بأسره ،وعلى اختالف طوائفه .ومن حيث الجزاء تتسع أكثر شقة التباين بين كل من الجريمتين
سواء من حيث الجهة التي توقع الجزاء أو من حيث طبيعة هذا األخير
الفرع الثاني
الجريمة الجنائية والجريمة المدنية
يختلفان من جوانب عديدة ،سواء تعلقت باألركان أو اآلثار ،فبالنظر للألركان أهم عنصر لالختالف أن
الجريمة الجنائية تخضع لمبدأ الشرعية الجنائية ،في حين الجريمة المدنية مبدأ الشرعية أو التحديد المسبق للخطأ غير
وارد ،إذ أي ضرر يسبب للشخص يعد مرتكبه ملزما بالتعويض ،وهو ما ال يمكن حصره مسبقا من قبل المشرع على
عكس الجرائم الجنائية ،كما أن العقوبة في الجريمة الجنائية محددة سلفا ،على خالف التعويض في الجريمة المدنية الذي
يخضع لقيمة الضرر الذي أصاب الشخص ولتقدير القاضي .على ضوء طلبات الشخص المضرور ودفاع الشخص
المسبب للضرر .كما أنه بالنسبة للركن المادي ،فالجريمة الجنائية يمكن تصور قيامها بدون وجود أي ضرر يذكر ،مثل
جرائم الشروع أو حمل األسلحة بدون ترخيص – وإن كنا نرى الضرر في هذه الجريمة مخالفة نظم الدولة في التعامل
بهذا النوع الخطير من الوسائل -في حين في الجرائم المدنية يجب حصول ضرر معين .وعموما يختلفن من حيث
المصدر والنتيجة الجزاء ،فمن حيث المصدر تجد الجريمة المدنية مصدرها في كل فعل يسبب ضررا للغير ،وهي بذلك
أفعال غير قابلة للحصر ،أما مصدر الجريمة الجنائية هو نص قانون العقوبات وحده دون غيره من المصادر األخرى،
ومن حيث النتيجة فكل جريمة مدنية إال وتسبب ضررا يكون معيارا للقاضي في تحديد وتقدير التعويض المستحق
للشخص المضار ،في حين يمكن أن تقوم الجريمة الجنائية دون أن تسبب أي ضرر للغير ،سيما في الجرائم الشكلية.
ومن حيث الجزاء ،فهو في الجريمة المدنية مجرد التعويض ،ويستفيد منه الشخص المضار ،بينما الجزاء في الجريمة
الجنائية هو العقوبة أو تدابير األمن التي ال توقع لصالح المجني عليه ،وال يستفيد منها إطالقا بصفة شخصية ،وإنما
توقع باسم ولصالح المجتمع ،ولكن ال يجب الخلط في ذلك مع الدعوى المدنية التي تقام بالتبعية للدعوى العمومية.
والجريمة الجنائية وإن كانت مستقلة تماما عن الجريمة المدنية ،غير أن ذلك ال يمنع من القول بأن
الفعل الواحد قد يشكل الجريمتين معا في الكثير من األحيان ،وهو ما يبرره وجود الدعوى المدنية التبعية المالزمة في
غالب األحيان للدعوى العمومية ،على نحو ما هو مبين في قانون اإلجراءات الجزائية .غير أن المسألة السابقة طرحت
خالفا فقهيا حادا من زاوية أخرى ،وهي المتعلقة بوحدة الخطأين المدني والجزائي،
أو بازدواجيته ،وهو ما نرى تفصيله عند دراسة الركن المعنوي للجريمة في صورة الخطأ.
][39
المبحث الثاني
التحليل القانوني للجريمة
التحليل القانوني للجريمة في حقيقة األمر يتطلب تبيان أركانها وعناصرها ،وكذا تبيان مختلف
تقسيماتها ،خاصة وانه من خالل تناول ماهية الجريمة تبين لنا أنها تتحلل إلى العديد من األركان والعناصر ،كما أنها
تختلف من حيث طبيعته ا وأنواعها ،لذا سنحاول وباختصار أن نتناول التحليل القانون للجريمة من خالل مطلب ،لنتناول
في الثاني تقسيمات الجريمة ،وهنا نشير فقط بأننا سنتناول التقسيم المستند لنص القانون دون التقسيمات الفقهية المستندة
لرأي الفقه ،كونها تقسيمات وتصنيفات مستندة ألركان الجريمة وال يمكننا استيعابها على حين تناول هذه األركان
بالدراسة.
المطلب األول
البنيان القانوني الجريمة
ينتقد بعض الفقه فكرة تجزئة الجريمة إلى أركان ،حيث يرى أن الجريمة وحدة واحدة إما أن تقع كاملة أو ال
تقع بالمرة ،فهي ليست كال مكون من أجزاء أو أركان منفصلة عن بعضها البعض ومستقل كل منها عن اآلخر ،كما أن
الخالف في مرات أخرى انصب على حقيقة وجود الركن الشرعي أو الركن القانوني ،حيث يرى جانب من الفقه أن
القول بوجود الركن الشرعي للجريمة يتعارض والمنطق القانوني السليم ،حيث النص الجنائي هو الذي أوجد الجريمة أو
خلقها ،وا لخالق ال يمكن أن يكون جزءا مما خلق ،فالنص سبب والجريمة مسبب عنه .غير أن الجريمة واقعة قانونية
حرص الفقه الجنائي منذ القدم على اعتبارها واقعة مركبة ومعقدة يجب تحليل عناصرها ودراسة كل عنصر على حدا،
وبالرغم من الخالف الحاد الذي دار حول عدد هذه العناصر ،إال أن الفقه استقر في نهاية المطاف على تصور ثالثي
ألركان الجريمة ،وهي األركان التي ال يمكن للجريمة أيا كان نوعها أن تقوم بدونها ،بحيث تخلف ركن منها أو أكثر
يؤدي إلى عدم قيام الجريمة أصال .غير أن إجماع الفقه حول عدد أركان الجريمة ،لم يمنع خالفهم حول طبيعة هذه
األ ركان ،فمنهم من صنفها إلى أركان جوهرية يتوقف قيام الجريمة على توفرها ،وأخرى ثانوية ال تؤثر في قيام
الجريمة ،بل في تحديد نوع العقاب أو درجته ،ومنهم من صنفها إلى أركان عامة وأخرى خاصة ،العامة وهي التي
تشترك فيها كافة الجرائم أيا كان نوعها وطبيعتها ،والخاصة وهي تلك األركان التي يتطلبها المشرع بصدد كل جريمة
على حدا .غير أن الواقع العملي والقانوني كشف بأن البناء القانوني ألي جريمة ال يكتمل إال بتوافر سائر أركانها ،سواء
كانت عامة أو خاصة ،أو حتى كانت أركانا مفترضة ،األمر الذي يقتضي منا تناول هذا الخالف باختصار في الفروع
التالية .حيث نخصص األول لفكرة البنيان القانوني للجريمة ،لنميز في الثاني بين أركانها.
الفرع األول
التطور التاريخي للتناول الفقهي لمضمون البنيان القانوني للجريمة
تقوم الجريمة على أركان وشروط يلزم توفرها جميعا حتى يكتمل البنيان القانوني للجريمة ،ورغم ذلك
قد يتطلب األمر بعض الظروف التي يترتب عليها تغيير في قدر العقاب المستحق ،سواء كان نحو التخفيف أو نحو
التشديد ،لذا فمسألة دراسة البنيان القانوني للجريمة يتطلب دراسة ،يتطلب دراسة التناول الفقهي لمسألة البنيان القانوني
للجريمة .حيث أن مصطلحات مثل أركان أو عناصر الجريمة ال يرجع إلى زمن بعيد ،حيث كان الفقه خاصة الفرنسي
منه في ظل النظام الجنائي القديم ما قبل التقنين يسعى إلى استظهار القواعد الجنائية غير المكتوبة دون االهتمام بصياغة
النظريات والمبادئ ،كما لم يظهر أيضا تعبير أركان أو عناصر الجريمة في أعقاب الثورة الفرنسية ،حيث وقفت
المؤلفات الفقهية بعدها عند حد إلقاء الضوء فقط على بعض المبادئ األساسية في قانون العقوبات ،غير أن ذلك لم يمنع
][40
من بداية إشارتهم لبعض األفكار التي بدأت فيما بعد تشكل عناصر للجريمة مثل فكرة الفعل ( السلوك المشكل للركن
المادي ) وفكر ة العمد ( الركن المعنوي فيما بعد) ،وأنه باجتماع الفعل مع العمد تقوم الجريمة .غير أنه مرحلة التقنين
التي شهدتها فرنسا وإن كان فيها قد ركز المشرع الفرنسي بدوره على الفكرتين السابقتين ،فكرة الفعل وفكرة العمد،
خاصة في تقنين 1791الذي عرف التقسيم الثالثي للجرائم ،وفي مطلع القرن التاسع عشر استخدم المستشار باريس
BARRISرئيس الغرفة الجنائية بمحكمة النقض الفرنسية -الفترة من 1806إلى -1824في تعليماته ،عبارات عناصر
الجريمة ،حيث جاء في إحداها ":كل جريمة تتكون من عنصرين :فعل يتمثل في الماديات ،وعمد يقود إلى هذا الفعل
ويحدد الجانب المعنوي فيه " وكان ذلك إيذانا لبداية استعمال العنصر المادي والعنصر المعنوي .ثم جاءت مرحلة
أخرى بدأت مسألة التطور التاريخي لبنيان الجريمة يأخذ أبعادا جديدة ،حيث استخدم في هذه المرحلة فقيهين هما "
شوفو وهيلي " تعبير عناصر الجريمة في إطار التحليل القانوني لمقومات الجريمة ،سيما في مجال قانون العقوبات
الخاص ،غير أنهم استعملوا عبارات مترادفة تدل على نفس المعنى وهذه المترادفات هي " :العنصر " " ،الشرط"" ،
الواقعة" ،لكن لم يساهم ذلك كثيرا في وضع نظرية عامة لعناصر الجريمة كفكرة عامة ،بل أعمالهم تركزت على القسم
الخاص في كل جريمة على حدا ،ولزم األمر لكي تتأصل األركان العامة للجريمة أن يمر الفكر الفقهي الجنائي
بمرحلتين :مرحلة التوجه نحو البحث في المسائل النظرية المكونة للجريمة كنظرية عامة في القانون الجنائي ،متبعين
في ذلك أسلوب التحليل والتأصيل ومبتعدين عن أسلوب الشرح والتفسير ،واستعمل سنة 1851الفقيه فيكتور مولينييه
عبارات المستشار باريس من جديد مقررا ":إن كل واقعة مجرمة ومعاقب عليها قانونا تتألف من عنصرين :عنصر
مادي يتمثل في األعمال الخارجية ،وعنصر معنوي مرجعه الفاعل ويعد أساسا ألدانته ،غير أن هذا الفقيه لم يعالج
الركن المعنوي في إطار عناصر الجريمة بل من حيث األشخاص ،وبذلك كان أول من قسم النظرية العامة للقانون
الجنائي إلى قسمين قسم الجريمة وقسم المجرم.
أ ما المرحلة الثانية ،فيها تم ضم العناصر المادية مع العناصر المعنوية إلى بعضها البعض لتتشكل
العناصر العامة للبنيان القانوني للجريمة من طرف الفقيه الفرنسي TREBUTIENالذي استعمل عبارة العناصر
التكوينية ELEMENTS CONSTITUTIFSللجريمة في بابين واستعمل في الباب الثالث الواقعة المادية كعنصر أول
للجريمة ،وفي الباب الرابع اإلرادة اآلثمة كعنصر ثاني للجريمة ،لكن رغم ذلك ترددت كتابات الفقهاء بين استعمال
الركن المادي للجريمة للتعبير عن الجريمة أما العنصر المعنوي كتعبير عن المجرم ،غير أنه مع الفقهي إدموند فيلي
عاد وحصر كل الجوانب المادية والمعنوية تحت عنوان واحد وهو " الجريمة" ،وهو ما اتبعه جارو وبعض الفقه
الفرنس ي فيما بعد ،وإن كان جارو قد أضاف بعض العناصر األخرى للجريمة ،وبالتالي يمكن القول بأن البنيان القانوني
مر في تكوينه بين النظرية أو النهج التقليدي الذي يقسم عناصر الجريمة إلى العناصر التكوينية المادية والمعنوية ،ونهج
وضعي ودون أن يهمل تماما النهج التقليدي من حيث العناصر ،غير أنه قسم الموضوعات الهامة لقانون العقوبات إلى
الجريمة والمجرم .في حين أن أهم تطور عرفه البنيان القانوني للجريمة ،هو أنها تقوم على أركان وعناصر وشروط،
من هذه األركان ما هو عام وما هو خاص ،باإلضافة إلى بعض العناصر والشروط األخرى ،التي نتناولها في الفرعين
التاليين.
الفرع الثاني
األركان العامة واألركان الخاصة للجريمة
يرى غالبية الفقه أن الجريمة تقوم على جملة من األركان ،منها العامة ومنها الخاصة ،أو الجوهرية والثانوية.
األركان العامة تعد الهيكل المشترك لكل الجرائم ،في حين األركان الخاصة هي تلك التي تميز كل جريمة عما عداها
من جرائم أخرى ،أو بمعنى آخر هي ذات األركان العامة منظور إليها بخصوص جريمة معينة ،أو هي العناصر
الخاصة التي تدخل في تكوين األركان العامة ،ويرى بعض الفقه أنه لتقريب الصورة يمكن القول أن األركان العامة هي
لقب الشخص أو إسم العائلة و األركان الخاصة هي االسم الذي يميز كل فرد عن باقي أفراد العائلة ،ويرى بعض الفقه
تسمية األركان العامة واألركان الخاصة ،باألركان الجوهرية واألركان الثانوية ،األولى وهي ترتبط الجريمة
بوجودها وأن تخلفها يمنع من قيام الجريمة ،في حين الثانوية تخلفها ال يمنع من قيام الجريمة ،وإنما أثرها يقتصر على
تحديد نوع العقاب أو درجته ،وهو ما ينكره البعض ،حيث يرى أن الركن ال يقبل التقسيم إلى أساسي وثانوي ،بل هو
][41
جوهري في كل أحواله وإال ما كان ليكون ركنا ،لذا فمصطلح الركن ال ينصرف إلى لألركان التي تقوم عليها الجريمة،
وما يطلق علي ه األركان الثانوية ما هو في حقيقته سوى ظروف لتشديد أو تخفيف العقوبات ،وهو موقف الفقه التقليدي.
لكن أيا كان الخالف الفقهي ،من مجموع األركان العامة والخاصة تكتسب الجريمة اسمهما وتميزها عن غيرها ،ومحور
االهتمام في النظرية العامة هو األركان العامة ،في حين تلقى األركان الخاصة اهتمام الفقه الجنائي عند دراسة القسم
الخاص لقانون العقوبات.
غير أن اإلشكال الفقهي ينصب حول عدد هذه األركان ،ففي حين يرى الفقه التقليدي أن الجريمة تقوم على
ركنين ،الركن المادي الركن المعنوي ،إذ ال بد لكل جريمة سلوك معين يشكل الركن المادي وارتباط ذلك بالخطأ في
مفهومه الواسع بإرادة الجاني ،ليكون للجريمة وجه موضوعي يتمثل في الركن المادي ووجه شخصي يتمثل في الركن
المعنوي لها .فإن غالبية الفقه ترى بأنه للجريمة ثالثة أركان عامة ،حيث يضيفون للركنين السابقين الركن الشرعي أو
الركن القانوني ،بالرغم مما أثاره هذا الركن من خالف ،سنبينه عند دراسة الركن الشرعي للجريمة.
الفرع الثاني
الشروط أو األركان المفترضة للجريمة
منذ زمن حاول الفقه أن يبين أنه هناك داخل البنيان القانوني للجريمة مقومات غير تلك المتألفة منها أركانها،
وقيل أنه بمقارنة األركان الخاصة للجريمة باألركان العامة نجد بعض المقومات التي يتعذر ردها لألركان العامة
للجريمة وهي في الغالب مقومات مقررة في قوانين غير جنائية ،ويلزم توافرها زمنيا ومنطقيا قبل ارتكاب الفعل ،وأن
تخلفها يؤدي حتما لعدم اكتمال البنيان القانوني للجريمة وعدم تطابق الفعل مع النموذج التشريعي المنصوص عليه في
القاعدة الجنائية ،مثل ملكية الغير للمال في جريمة السرقة ،وقيام إحدى العقود المدنية المشترطة في جريمة خيانة
األمانة ،وصفة الموظف في جريمة الرشوة واالختالس وصفة المواطن في الخيانة ،وصفة األجنبي في
التجسس]....[6وهي كلها مقومات يفترض توفرها مسبقا وهي ما كانت سببا في ظهور فكرة " االفتراض" ،وسميت "
العناصر المفترضة" أو " الجانب المفترض في الجريمة " "األركان المفترضة" أو " الشروط المفترضة في الجريمة"،
وهي تلك التي عرفت بأنها ":مجموعة المراكز القانونية والواقعية التي تسبق في وجودها قيام الجريمة "] ،[7كما
عرفت بأنها :مراكز قانونية تحميها القاعدة الجنائية ،وأن الركن هو اعتداء على هذا المركز وبذلك الشرط في حد ذاته
ال يمثل أي عدوان بل بالركن يتحقق العدوان ،كونه سابق في وجوده عن تحقق أركان الجريمة األخرى وهو في األصل
أجنبي عن سلوك الجاني ،غير أن المكان األصيل لدراسة األركان الخاصة واألركان المفترضة هو القسم الخاص
لقانون العقوبات ،حيث كل نص تجريمي يبين ما يشترطه من هذه األنواع من األركان ،والتي تختلف بالضرورة من
جريمة ألخرى ،وإن تشابهت فذلك بفعل الصفة ،غير أن األركان العامة ،هي موضوع دراسة القسم العام ،كونها أركان
تجمع بين كافة أنواع الجرائم ،أيا كانت طبيعتها ونوعها وتكييفها ،وإن كانت هناك بعض االستثناءات فهي أمور شاذة
تحفظ وال يقاس عليها .وهذه األركان الثالثة هي ،الركن الشرعي أو القانوني ،الركن المادي والركن المعنوي.
ونشير بأنه كثيرا ما تدق لدى الفقه مسألة التفرقة بين أركان الجريمة والشروط الموضوعية للعقاب،
ومنهم من يلحق هذه الشروط باألركان ،باعتبارها داخلة في البنيان القانوني للجريمة ألنه كل شخص يرتكب جريمة،
فبالضرورة يستحق العقاب ،غير أن البعض يراه أمرا مستقال ومستقبل غير محقق الوقوع منفصل عن السلوك
اإلجرامي إذ هي شروط الزمة الستحقاق العقاب ال لوجود الجريمة قانونا ،وأن الجريمة تتحقق قانونا قبل تحقق هذه
الشروط .كما يخرج من نطاق النظام القانوني للجريمة القيود الواردة على حق النيابة العامة في تحريك الدعوى
العمومية ،كونها قيود إجرائية تقع على النيابة العامة فتقيد حقها في تحريك الدعوى العمومية ،وال تمس وقوع الجريمة
قانونا ،وال عالقة لها بالمكونات القانونية أو المادية للجريمة.
المطلب الثاني
التصنيفات القانونية للجريمة
أعطى الفقه الجنائي العديد من التقسيمات للجرائم ،وصنفها العديد من التصنيفات ،بحسب المعيار
المعتمد من قبل الفقه ،الذي ال يخرج في العادة عن محاولة تصنيفها أو تقسيمها بناء على ركن من أركانها ،بحيث نجد
للجريمة العديد من التقسيمات بالنظر إلى ركنها المادي ،حيث قسمت على جرائم إيجابية وأخرى سلبية بحسب نوع
][42
السلوك الذي يأتيه الجاني ،وجرائم وقتية وأخرى مستمرة بحسب الوقت الذي يأخذه هذا السلوك ،وإلى جرائم مركبة
وأخرى ذات أفعال متتابعة بحسب الشكل الذي يأخذه السلوك ،وإلى جرائم بسيطة وجرائم اعتياد بحسب عدد المرات
التي يتكرر فيها الفعل ،وقسمت الجريمة بحسب ركنه المعنوي إلى جرائم عمدية وجرائم غير عمدية ،أو جرائم قصد
وجرائم خطا ،وأخرى متعدية القصد ..غير أنها تقسيمات وتصنيفات تستند باألساس إلى أركان الجريمة التي لم نتطرق
بعد لدراستها ،األمر الذي يصعب من فهم واستيعاب هذه التقسيمات ،فإننا نرجئ الحديث عنها إلى غاية التفرغ من
دراسة كامل أركان الجريمة ،ون كتفي في هذا المقام بدراسة التقسيم المستند لنص القانون ،والمسمى بالتقسيم القانوني
الذي تبنته غالبية التشريعات ،حيث عمدت على تقسيم الجريمة ثالثة أنواع ،لذا سمي أيضا بالتقسيم الثالثي .كما
سنحاول اإلشارة إلى تقسيم موضوعي آخر ( وهو قانوني أيضا) يتمثل في التمييز بين الجريمة العادية والجريمة
السياسية.
الفرع األول
التقسيم القانوني ( الثالثي ) للجريمة
و هو تقسيم يرتبط ارتباطا وثيقا بنص القانون ،أين اعتمدت غالبية التشريعات على تقسيم الجرائم تقسيما
ثالثيا ،إلى جنايات ،جنح ومخالفات ،ومعيار التقسيم يستند على معيار جسامة الجريمة وخطورتها ،وهي الخطورة الذي
ستمد بدورها من العقوبة المقررة للجريمة ،بالرغم مما أثاره هذا التقسيم من خالف فقهي جعلت بعض التشريعات تشذ
عن القاعدة ،متبنية إما تقسيما ثنائيا أو رباعيا] ،[8بالنظر لالنتقادات التي وجهت لهذا المعيار والصعوبات التي أثارها
تطبيقه .لذا سنحاول تناول أساس هذا التقسيم في نقطة ،وتبيان آثاره في الثانية ،لنحاول أن نتبين االنتقادات التي وجهت
إليه والصعوبات التي يثيرها في أخرى.
أوال :أساس التقسيم الثالثي
سبق القول بأن أساس هذا التقسيم هو نص قانون العقوبات ذاته ،غير أنه تقسيم يجد أساسه التاريخي في غير
أنه تقسيم يجد أساسه تاريخيا في لفظ الجناية Crimeجاء من الالتينية من مصطلح Cernereالمأخوذة من Crible
التي تعني غربال ومن فعل غربل ،Criblerكما أنه في الرومانية Crimenتعني االتهام العام بالجرائم الخطيرة ،لذا
يجب غربلة ومراجعة كل أوجه االتهام الموجهة ضد المتهم ،وكلمة جنحة Délitجاءت من المصطلح الالتيني
Délinquereوبالفرنسية Délinquanceالتي تعني ترك أو جنح عن الطريق السوي ،وفي القانون الفرنسي القديم
كان التمييز قائما بين المجرمين الخطرين المحترفين ،مثل قطاع الطرق ،وبين المجرمين األقل خطرا ،والمجرمين الذي
يخالفون أوامر وتعليمات الشرطة المحلية ،مما حذا بالتشريع الفرنسي القديم ،إلى تبني التقسيم الثالثي للجرائم ،في
محاولة منه إلخضاع ثالثة أنواع من المجرمين لثالثة أنظمة قانونية مختلفة ،المجرمين الذين يرتكبون جرائم خطيرة
تدعو بما ال يدع مجال للشك في عدم توبتهم ،والمجرمين األقل خطورة القابلين لإلصالح وهنا ظهر مصطلح
Correctionأو ،correctionnelleومن بعدهم المجرمين األقل شأنا ،وهو التقسيم الذي تبعته الكثير من التشريعات
الوضعية المعاصرة .ومن بينها المشرع الجزائري الذي تبناه في نص المادة 27من تقنين العقوبات ،واستمد معيار
العقوبة من نص المادة 5من ذات القانون ،وهو أمر ننتقده بشدة من الناحية المنهجية حيث نصت المادة 27من قانون
العقوبات الجزائري على أنه ":تقسم الجرائم تبعا لخطورتها إلى جنايات وجنح ومخالفات ،وتطبق عليها العقوبات
المقررة للجنايات أو الجنح أو المخالفات .[9]".وتجسيد معيار الخطورة يرجع في استعمال النص عبارة " تبعا
لخطورتها" ،وفي الوقت الذي كان يفترض أن نجد ما يدل ويبين هذه الخطورة في المواد الالحقة ،غير أن المشرع
فرض علينا الرجوع والعودة إلى نص المادة 5في المبادئ العامة واألحكام التمهيدية ،عند النص على العقوبات المطبقة
على األشخاص الطبيعية] .[10وعلى ذلك يمكن القول أن الجرائم هي :الجنايات والجنح والمخالفات ،ومسألة تمييز
أنها وحدها التي خصص لها ثالث أنواع من العقوبات األصلية دون غيرها من الجنايات عن باقي الجرائم
الجنح والمخالفات التي تتميز بنوعين فقط من العقوبات األصلية ،كما أن الجنايات تتميز بعقوبة اإلعدام والسجن المؤبد
دون باقي األنواع األخرى ،كما أن تقييد الحرية فيها وحدها يسمى سجنا بينما يسمى حبسا في الجنح والمخالفات،
الغرامة قبل تعديل سنة 2006كانت تميز الجنح والمخالفات دون الجنايات ،إال أن المشرع الجزائري أضاف بموجب
هذا التعديل المادة 5مكرر التي أجازت القضاء بالغرامة في السجن المؤقت ،وبمفهوم المخالفة ال يجوز القضاء
][43
بالغرامة في حالة الحكم باإلعدام أو المؤبد ،بل في حالة السجن من 5سنوات إلى عشرين سنة سجن.بينما التمييز بين
الجنح والمخالفات ،صعب مقارنة بتمييز الجنايات عن الجنح والمخالفات التي تعد مسألة سهلة نسبيا ،غير أن اتحاد
الجنح والمخالفات في نوع وجنس العقوبات األصلية ،يجعل مسألة التمييز أعقد نوعا ما ،حيث كالهما يتضمنان الحبس
والغرامة ،وهنا معيار مدة الحبس وقيمة الغرامة هو الفاصل ومعيار التحديد ،حيث الحد األقصى لعقوبة الحبس في
المخالفات شهران ،في حين في الجنح خمس سنوات ،والحد األقصى للغرامة في المخالفات هو 20ألف دج،
ثانيا :االنتقادات الموجهة للتقسيم القانوني ( الثالثي)
بالرغم من بساطة ووضح التقسيم القانوني الذي يتبنى تقسيم الجرائم على جنايات وجنح ومخالفات ،إال
أنه لم يسلم من النقد ،من حيث أنه قسيم غير منطقي وسطحي ،ويفتقر إللى أساس علمي ،وهي أهم االنتقادات التي
وجهت له .فقيل أنه تقسيم غير منطقي ،كونه يرتب تحديد نوع الجريمة بناء على العقوبة المقررة لها ،في حين أن
الم نطق يقتضي أن ترتب العقوبة على نوع الجريمة وجسامتها .غير أنه تم الرد على هذا االنتقاد ،أنه غير سليم ،حيث
أن المشرع قبل وضعه العقوبات ،استعرض أوال األفعال وقدر جسامتها ،ومن ثم وضع العقوبات التي تناسب جسامة
الجريمة ،حيث أنه من غير الصحيح تصور المشرع أنه وضع العقوبات أوال ثم رتب عليها أنواع الجرائم .كما قيل انه
تقسيم يفتقر ألساس علمي ،كونه تقسيم يستند إلى األثر المترتب عن الجريمة دون أن يأخذ في االعتبار طبيعة
الجريمة ،وال أي أساس علمي في ذلك .وهو االنتقاد الذي مع التسليم بصحته ،إال أن بساطة المعيار والسهولة العملية
في تطبيقه تستدعي التغاضي عن هذا النقد .وقيل أيضا أنه تقسيم سطحي ،حيث يرى البعض ،أن التقسيم القانوني أو
الثالثي للجريمة ،تقسيم سطحي ،كونه يفرق بين الجنايات والجنح ،في حين أن الجنايات وأغلب الجنح يتفقان في القصد
الجنائي ،كما قد تصبح الجنح في حال توفر بعض الظروف المشددة جنايات ،والجنايات تصبح جنحا إذا كانت هناك
ظروف مخففة ،زيادة عما تخلقه التسمية من صعوبات كبيرة في التطبيق ،لذا فهو تقسيم سطحي .وهو النقد الذي نرى
وجهاته إلى حد بعيد ،لكن ليس فقط في حاالت توفر ظروف التشديد
أو التخفيف ،بل أيضا في العديد من األوضاع القانونية في قانون العقوبات ،وحتى في قانون اإلجراءات الجزائية ،حيث
نادرا ما يفرق المشرع الجزائري تفرقة لها وزنها ما بين الجنايات والجنح ،باإلضافة إلى الصعوبات التي يثيرها تطبيق
عقوبات غير المحددة بنص المادة ،5وهو ما نبينه عند دراسة الصعوبات التي يثيرها التقسيم الثالثي للجرائم.
ثالثا :النتائج المترتبة على التقسيم القانوني أو الثالثي للجريمة
ب الرغم من االنتقادات التي وجهت للتقسيم القانوني أو الثالثي للجريمة ،إال أنها لم تنل من أهميته ،وبقي
من أهم التقسيمات المعتمدة في غالبية التشريعات العقابية في العالم ،ورتب عليه المشرع الجنائي أهمية قانونية بالغة،
سواء على الصعيد الموضوعي المتمثل في قواعد قانون العقوبات ،أو على الصعيد اإلجرائي المتمثل في قواعد قانون
اإلجراءات الجزائية ،في القانون الجزائري وغيره من القوانين الجنائية المقارنة -مع بعض االختالفات بين هذه النظم
موضوعيا وإجرائيا .-وهو ما نبينه في النقطتين التاليتين ،حيث نخصص األولى للنتائج القانونية للتقسيم القانوني على
الصعيد الموضوعي ،لنتناول في الثانية نتائجه القانونية على الصعيد اإلجرائي.
-1النتائج القانونية للتقسيم القانوني على الصعيد الموضوعي
للتقسيم القانوني للجرائم ،أو التقسيم الثالثي نتائج قانونية بالغة على الصعيد الموضوعي ،المتمثل في
أحكم قانون العقوبات الجزائري ،حيث هناك العديد من األوضاع القانونية في قانون العقوبات تطبق على نوع من أنواع
الجرائم دون األنواع األخرى ،غير أننا نؤكد مسبقا أن مثل هذه األوضاع غالبا ما تخص الجنايات والجنح معا ،دون
المخالفات ،وهو ما يقودنا للعودة إلى وجاهة النقد الثالث الذي وجه للتقسيم الثالثي ،من كونه تقسيم سطحي ،حيث أنه
هناك شبه كبير بين الجنايات والجنح .األمر الذي يجعلنا بطريقة نظرية نجعل منه تقسيما ثنائيا ،حيث تتبع الجنح
الجنايات دوما وتستثنى المخالفات في هذه األوضاع الموضوعية ،وأهمها ما يتعلق بالشروع والمساهمة الجنائية
وظروف التخفيف والتشديد من عود وأعذار وما إلى غير ذلك ،وحتى بالنسبة لبعض الجرائم ،وهو ما نبينه في النقاط
التالية.
أ -جريمة المحاولة أو الشروع:
][44
المشرع الجزائري ومثله الكثير من المشرعين ال يعاقبون على جريمة المحاولة أو الشروع إال
بخصوص الجنايات والجنح دون المخالفات ،بل في القانون الجزائري ال شروع في الجنح إال بنص خاص تطبيقا للمادة
31من قانون العقوبات الجزائري ،وبالتالي كل الجنايات يتصور الشروع فيها تطبيقا للمادة 30من ق ع ج ،في حين
الجنح بموجب نص خاص وفقا للفقرة األولى من المادة ،31في حين ال شروع إطالقا في مجال المخالفات ،تطبيقا
للفقرة الثانية من المادة 31ق ع ج].[11
ب -المساهمة الجنائية أو االشتراك:
في الفقه وكقاعدة عامة – وإن كانت المسألة قد أثارت نوعا من الجدل الفقهي ستكون لنا عودة له في
دراسة المساهمة الجنائية -ال مساهمة أو اشتراك في المخالفات ،على عكس الجنايات والجنح ،فهذه األخيرة وحدها مما
يرتب المشرع على تعدد فاعليها أيا كان صورتهم أثارا قانونية ،غير أنه وعلى عكس الفقه ،فإن المشرع الجزائري
فصل في مسألة انه ال اشتراك أو مساهمة في ارتكاب المخالفات ،وهو ما بينه نص المادة 44من قانون العقوبات
الجزائري ،التي نصت على معاقبة الشريك في الجناية أو الجنحة دون المخالفات].[12
ج -جريمة االتفاق الجنائي ( تكوين جمعية أشرار):
في العادة ما يتخوف المشرع الجنائي سواء في الجزائر أو غيرها من الدول ،من ظاهرة التعدد
الشخصي في ارتكاب الجريمة ،أو بعبارة أخرى من ظاهرة اإلجرام الجماعي ،وهو األمر الذي جعله يخرج عن
القواعد العامة ويعاقب على بعض الجرائم التي لم يشرع في تنفيذها بعد ،خروجا على القواعد العامة التي تقضي بأال
جريمة دون فعل مادي ،وذلك في الجرائم المسماة االتفاق الجنائي أو تكوين جمعية أشرار ،حيث مجرد تأليف االتفاق أو
الجمعية يعد جريمة معاقب عليها قانونا ،بغض النظر عن ارتكابها لجرائم من عدمه ،وهي الجريمة التي بينها المشرع
الجزائري في نصي المادتين 176و 177من قانون العقوبات] ،[13اللتان عدلتا سنة ، 2006حيث قبل هذا التعديل
كان يعاقب على تكوين جمعية األشرار في الجنايات فقط في حين بعد التعديل أصبح يعاقب عليها في مجال الجنح أيضا،
لكن بشروط ،وهو ما يؤكد مرة أخرى وجاهة النقد القائل بالتشابه الكبير بين الجنايات والجنح.
د -تطبيق النص الجنائي:
ت ظهر أهمية التقسيم القانوني للجرائم أيضا في مجال تطبيق النص الجنائي ،سيما ما يتعلق بجانب
المكان ،أي تطبيقه من حيث المكان ،إذ غالبية المبادئ المساندة لمبدأ اإلقليمية أو التي تعد استثناء عليه ،مثل مبدأ
الشخصية ومبدأ العينية ،وحتى مبدأ العالمية ،وكذا امتداد النص للتطبيق على السفن والطائرات يتعلق بالجنايات والجنح
دون المخالفات ،وهو ما بينته بالخصوص المواد ،590 ،583 ،582من قانون اإلجراءات الجزائية ،وال يفهم من هذه
النصوص أن المسألة إجرائية ال تتعلق بهذا الموضع من البحث ،بل تتعلق بمسألة تطبيق النص الجنائي من حيث المكان
واألشخاص ،وهي مسألة موضوعية بحتة.
ه -وقف تنفيذ العقوبة:
وقف تنفيذ العقوبات من النظم القانونية الممنوحة للقضاة يفيدون بها بعض األشخاص بالرغم من
إدانتهم ،وذلك بجعل العقوبة النفاذة موقوفة النفاذ ،وهو نظام يطبق في مجال الجنايات والجنح دون المخالفات ،وإن كان
تضمنته قواعد اإلجراءات الجزائية مثل الماد 592إال أنه مسألة موضوعية تتعلق بشق الجزاء.
و -الظروف المخففة:
الظروف المخففة المتمثلة في سلطة القاضي بالنزول عن الحد المقرر قانونا للجريمة من عقوبات ،نظام
كان يطبق فقط في مجال الجنايات والجنح دون المخالفات ،وهو أمر معمول به في غالبية التشريعات العقابية المقارنة،
غير أنه بتعديل المادة 53سنة 2006وإدراج العديد من المواد الجديدة أصبح باإلمكان منح الظروف المخففة حتى في
مجال المخالفات ،وهو ما بينته المادة 53مكرر 6من هذا التعديل].[14
ي -ظروف التشديد ( ظرف العود):
غالبية التشريعات الجنائية تجعل من ظرف العود ،كظرف مشدد للعقوبة ،مطبقا فقط في مجال الجنايات
والجنح ،غير أنه في القانون الجزائري – مثلما فعل مع ظروف التخفيف -جعل من ظرف العود مطبقا أيضا في مجال
المخالفات ،وهو ما كان مبينا بنص المادة 58من قانون العقوبات التي ألغيت بموجب تعديل سنة ،2006غير أنه ال
][45
يزال منصوص عليه في المادة 445التي عدلت بدورها سنة ،[15]2006وفي المادة 465من ذات القانون المعدلة
أيضا بموجب نفس التعديل].[16
ز -المصادرة:
غ البية الدول تجعل من المصادرة عقوبة ال تطبق إال تكميلية ال تطبق إال في مجال الجنايات والجنح
دون المخالفات ،غير أنه في قانون العقوبات الجزائري ،يمكن القضاء بالمصادرة حتى في مواد المخالفات ،وذلك وفقا
للمادة 15مكرر 1فقرة أخيرة من قانون العقوبات الجزائري المعدلة بموجبها سنة .2006
-2النتائج القانونية للتقسيم القانوني على الصعيد اإلجرائي
مثلما تترتب العديد من النتائج القانونية على الصعيد الموضوعي عن التقسيم القانوني ،فإن ذات التقسيم يرتب
العديد من النتائج القانونية على الصعيد اإلجرائي ،وهي نتائج أكثر أهمية وأثرا ،خاصة وأنها تتعلق بمسائل تخص
االختصاص وسير الدعوى وكيفية البحث والتحري والتحقيق فيها ،وبخصوص األحكام ذاتها وطرق الطعن فيها...
وهي مسائل يمكن القول أنه يتعذر على اإللمام بها في دراسة الشق الموضوعي.
أ -االختصاص النوعي:
بحسب التقسيم الثالثي يتوزع االختصاص النوعي ،حيث تنظر الجنايات أمام محكمة الجنايات المنعقدة
بمقر المجلس في دورات محددة قانونا ،في حين تنظر الجنح والمخالفات من قبل األقسام الجزائية بالمحاكم.
ب -التحقيق والبحث والتحري
في العادة ما تولي جهات الضبطية القضائية المختصة بالبحث والتحري في الجرائم نشاطاتها على
الجنايات وعلى الجنح بصفة أقل ،ونادرا بخصوص المخالفات ،كما أن التحقيق الذي يجريه قاضي التحقيق وجوبي في
الجنايات ،واستثنائي في الجنح حيث ال يحقق فيها قاضي التحقيق إال بطلب النيابة العامة ،ونادرا ما يكون هناك تحقيق
في المخالفات.
ج -تقادم الدعوى العمومية:
تنقضي الدعوى العمومية في مواد الجنايات بمرور 10سنوات ،وفي مواد الجنح بمرور ثالث سنوات،
وفي مواد المخالفات بمرور سنتين ( المواد 10 ،9 ،8من قانون اإلجراءات الجزائية الجزائري).
د -تقادم العقوبة:
تتقادم العقوبة المحكوم بها في مواد الجنايات بمرور 20سنة ،وفي الجنح بمرور 5سنوات وفي مواد
المخالفات بمرور سنتين ( المواد 615 ،614 ،613قانون اإلجراءات الجزائية الجزائري).
ه ذا ونشير بأنه هناك العديد من االختالفات اإلجرائية المتبعة بخصوص األنواع الثالثة السابقة من
أنواع الجرائم ،والتي ارتأينا أن ال نتناولها تفصيال ،حيث أن تناولها يقتضي شرحها ،وأن هذا الشرح يقود على دراسة
مادة قانون اإلجراءات الجزائية على حساب مادة القانون الجنائي العام.
ثالثا :الصعوبات التي تعترض التقسيم الثالثي
يثير التقسيم الثالثي للجرائم بعض الصعوبات أثناء التطبيق ،خاصة في الحاالت التي يقضي فيها
القاضي بعقوبة ير التي قضى بها المشرع ،ممارسة في ذلك سلطته التقديرية كالتشديد في حالة العود،
و التخفيف في حالة إفادة المحكوم عليه بظروف التخفيف ،أو في الحاالت التي يقضي فيها المشرع بعقوبة تطبيق أصال
على نوع آخر من الجرائم ،ففي مثل هذه الحاالت يطرح إشكال يتعلق بمدى تغير الوصف القانوني للجريمة تبعا لتغير
العقوبة المقضي بها قضاء أو شرعا ،وإن كانت اإلجابة عن السؤال السابق قد أثارت العديد من الجدل الفقهي في الدول
األخرى ،إال أن المشرع فصل في المسألة بموجب نصي المادتين 28و 29من تقنين العقوبات الجزائري.
حيث قضت المادة ":28ال يتغير نوع الجريمة إذا أصدر القاضي فيها حكما يطبق أصال على نوع آخر منها
نتيجة لظرف مخفف للعقوبة أو نتيجة لحالة العود التي يكون عليها المحكوم عليه ،".حيث أن القاضي وهو يمارس
سلطته التقديرية في تطبيق العقوبات ،وقضى بعقوبة أشد في حال توفر ظروف التشديد مثل حالة العود مثال ،أو قضى
بعقوبة أخف كتوفر ظروف التخفيف ،فإن وصف الجريمة المقرر بالنص ال يتغير] .[17أما ووفقا للمادة 29التي
][46
نصت على أنه ":يتغير نوع الجريمة إذا نص القانون على عقوبة تطبق أصال على نوع آخر أشد منها نتيجة لظروف
مشددة ،".فإن تدخل المشرع بالتشديد أو التخفيف يترتب عليه تغير في وصف الجريمة].[18
الفرع الثاني
الجريمة العادية والجريمة السياسية
(تقسيم الجرائم على عادية وسياسية)
باإلضافة إلى التقسيم الثالثي للجريمة الذي يعد تقسيما قانونيا ،فإن الجريمة وفقا للنصوص القانونية
أيضا تفرق إلى جرائم سياسية وجرائم عادية أو جرائم القانون العام وهي التفرقة المعروفة حتى لدى الرأي العام غير
المتخصص قانونا ،كونه تفرقة قديمة من جهة ،والعتبارها من ضرورات الحياة العامة من جهة ثانية ،حيث رجل
الشارع أيا كانت قناعته وتوجهاته ،فهو يفرق بين المجرم العادي والمجرم السياسي ،سواء كان يشفق عليه ويتعاطف
معه أو العكس ،وسواء كان يتبنى أفكاره أو يعارضها ،لذا المشرع وفي كل مكان من العالم ،ومنذ القدم يعامل المجرم
السياسي معام لة خاصة ،سواء كانت تميل للرأفة أو للتشديد والقسوة بحسب األحوال السياسية السائدة في البلد ،والمختلفة
من مكان آلخر ومن زمان آلخر ،غير أنه من وجهة النظر القانونية البحتة ،فإن التفرقة بين الجرائم العادية والجرائم
السياسية تعترضه صعوبات جمة ،النعدام المعيار الواضح الذي بإعماله يمكن التفرقة بين النوعين من أنواع الجرائم،
وكذا خضوع الفكرة نفسها للمسائل السياسية المتغيرة بطبيعتها ،وما تفرضه المعطيات السياسية في هذا الشأن ،وهو
األمر المعروف على طول مراحل الزمن والتطور البشري ،لذا حاول كل من علماء اإلجرام وفقهاء القانون إيجاد
معايير اختلفت حولها وجهات النظر بالنظر لحساسية الموضوع .وإن كانت الجريمة السياسية قد عرفت منذ أن عرف
اإلنسان السلطة ،ال كتعبير سياسي وإنما كقوة ضاغطة ،أيا كان شكل هذه السلطة ،سلطة الدولة أو رب األسرة أو رئيس
العشيرة أو القبيلة ،ومهما تبدل شكل هذه السلطة عبر العصور واألزمنة ،خاصة وان كل فعل أو عدوان كان يمس كيان
ودعائم السلطة يرد بكل قوة وبطش ،ودون رحمة أو رأفة ،خاصة عندما تم تأسيس مشروعية السلطة على نظرية الحق
اإللهي ،حيث عد االعتداء على السلطة اعتداء يغضب اآللهة ،وردع الشخص تكفير عن ذنبه وإرضاء لهذه اآللهة ،لذا
يجب سحق المعتدي والقضاء عليه .لذا الجريمة السياسية قديمة قدم النشاط اإلنساني وتمتد بجذورها إلى جذور سلطة
الدولة] ، [19وكان سبب وجودها التنازع على السلطة بين األفراد حتى قبل ظهور الدولة ،لتتطور بعد ذلك وتأخذ العديد
من الصور واألشكال ،تبعا لتطو ر الحضارة اإلنسانية .وقد كشفت القوانين المكتشفة في بالد الرافدين ووادي النيل وبالد
الفرس والهند والصين واليابان ،بأن الجريمة السياسية كانت معروفة في هذه العصور ،حيث كانت تتمثل في الجرائم
التي تمثل اعتداء على سلطة الملوك والفراعنة أو تحط من كرامتهم أو تمس ولو من بعيد بألوهيتهم التي فرضوها على
الناس وزعموا أنهم يستمدون سلطتهم من اآللهة ،ومن عصاهم فقد عصى هذه اآللهة ،كما عرفت حتى في مجتمع القبيلة
في شخص رجل القبيلة الممثل لكيانها ،وكان معيار التمييز بين الجرائم السياسية والجرائم العادية هو جسامة العقوبات
المقررة للنوع األول] .[20وفي مطلع القرن التاسع عشر انتشرت الحركات التحررية في أوروبا ،وأخذت المنظمات
السياسية تتشكل في كل مكان لقلب األنظمة االستبدادية المتحكمة ،وتكررت االنقالبات السياسية في البلد الواحد بصور
مفاجئة وسرية ،وبذلك أخذ الشعور الشعبي يفرق بين المجرم الذي ينقاد لدوافعه الدنيئة وذلك الذي يسعى لتحقيق هدف
قومي أو سياسي شريف ،وهو األمر الذي قد يجعل من مجرم األمس هو حاكم اليوم ،والعكس بالعكس ،وهنا بدا االتجاه
نحو معاملة المجرم السياسي معاملة خاصة وأخذ الرأفة في عقابه .وزاد االهتمام بالجرائم السياسية وقمع مرتكبيها بعد
الحرب العالمية األولى ،عند ظهور أنظمة الحكم الفاشية والنازية والشيوعية ،أين عملت هذه األنظمة بكل ما أوتيت من
قوة لمحاربة المعارضة السياسية وقمعها ،وتم قلب المفاهيم التحررية والحضارية والتطورية واإلنسانية التي خلفها
القرن الماضي ،والتي جعلت من القانون الجنائي ال يتأثر بالسياسة ،فتغير األمر وصار هذا القانون مرآة تعكس األفكار
السياسية واالجتماعية واالقتصادية لألفكار النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا ،وتم التشديد في عقوبات الجرائم
السياسية وإنشاء محاكم خاصة بها وإطالق حرية القاضي في العقاب عليها وتم التوسع في مفهوم هذا النوع من الجرائم
ومن أمثلة ذلك أن قانون العقوبات السوفييتي أصبح يشمل 105جريمة سياسية مقابل 43جريمة عادية فقط .لذا فاألمر
][47
يتطلب منا أن نتناول مفهوم الجريمة السياسية باختصار في نقطة ،لنتناول في الثانية أنواعها ،وفي الثالثة أهمية تمييز
الجريمة السياسية عن الجريمة العادية.
أوال :مفهوم الجريمة السياسية
ال قت دراسة فكرة الجريمة السياسية جهودا فقهية معتبرة وضخمة سعيا وراء إيجاد مفهوم قانوني حاسم
لها ،لكنها فشلت في مجملها ،وذلك بالنظر لمصطلح " السياسة " التي ال تعني مفهوما ثابتا وال تفصح عن محتوى
مستقر ،حيث يرى بعض الفقه أنها ليست مادة وإنما لون ،وال تصلح ألن تكون معيارا أو صفة أو نوعا ،وإنما هي
مفهوم متقلب ومتبدل تتبدل وفقا لتغير وتبدل األوضاع والظروف واألشخاص والمصالح ،وال يمكن أن تكون أساسا
لنظرية معينة ،في حين من صفات المفاهيم القانونية الثبات واالستقرار ،األمر الذي جعل التشريعات تتورع عن وضع
تعريف قانوني للجرائم السياسية وتركت األمر للفقه .ومع غزو اإلجرام السياسي ،يرجع الفضل في استعمال هذا
المصطلح إلى الوزير والمؤرخ والكاتب الفرنسي GUIZOTفي كتابيه " المتآمرون والقضاء السياسي" و" اإلعدام في
المواد السياسية" المنشورين على التوالي سنتي 1821و .1822غير أن وضع تعريف قانوني دقيق للجريمة السياسية
بقي أمر متعذر نسبيا ،لدرجة يرى البعض أنه ليس هناك أمل في وضع تعريف ثابت ومستقر للجريمة السياسية .لذا نجد
الفقه قد حاول وضع معايير تمكن من االستناد عليها في وضع تعريف للجريمة السياسية ،غير أن هذه المعايير بدورها
مثل كل منه حقبة زمنية معينة بما يسودها من ظروف سياسية وما استقر فيها من أوضاع اجتماعية ،ولعل أهم المعايير
كان المعيار الشخصي والمعيار الموضوعي ،ومثلما هو األمر في كل مرة هناك من أخذ من كل معيار ووضع معيارا
ثالثا مختلطا أو مزدوجا ما بين المعيارين السابقين.
-1المعيار الشخصي:
و يعد من أقدم المعايير التي استند عليها في وضع تعريف للجريمة السياسية ،الذي يركز على الغاية أو
الباعث الذي يحرك الفاعل الرتكاب الجريمة ،فإذا كان هذا الباعث سياسيا أو كانت الغاية التي يهدف إليها غاية سياسية،
عدت الجريمة حينئذ جريمة سياسية ،أيا كان الفعل اإلجرامي وأيا كان الحق المعتدى عليه ،وما عدا ذلك فهي جريمة
غير سياسية أو جريمة عادية ،وعرف الدافع أنه :العلة المباشرة الرتكاب الجرم
أو الهدف األخير أو القصد النهائي من ارتكاب الجرم] .[21وبالتالي ،وفقا لهذا االتجاه ،المجرم السياسي هو المجرم
صاحب دوافع نبيلة وأهداف راقية ،خالفا للمجرم العادي الذي يندفع للجريمة بدافع أناني وأهداف دنيئة وبربرية ،حيث
أننا نجد المجرم السياسي يندفع لجريمته ألجل تحقيق النفع أو الصالح العام ،ولذلك يوصف إجرامه ،أنه إجرام تطوري
وتقدمي يتم بدافع الغيرة واإليثار ،وهو بذلك يدفع بعجلة التاريخ إلى األمام ،عكس المجرم العادي الذي يوقفها ،فالمجرم
السياسي يهدف إلى تمهيد الطريق لالرتقاء بالذات اإلنسانية ،وهو بذلك يسبق التاريخ ،حيث لو ترك األمر لوحده لحدث
تلقائيا ،ألنه لكل نظام سياسي أو اجتماعي مرحلة ال يصلح إال لها .لذا يرى البعض بأنه يجب النظر إلى شعور الشعب
وما إن كان قد حركه دافع المجرم السياسي.
غير أن هذا االتجاه لم يسلم من النقد ،حيث قيل أن الدافع ذو طبيعة نفسية ،لذا فمسألة إثباته مسألة صعبة،
وبالتالي فمن األفضل األخذ به كظرف للتشديد آو التخفيف ،ال كركن للجريمة .وأن األخذ بالدوافع دون المعايير المادية
ال يوفر حماية فعالة لمصالح المجتمع .وأن األخذ بالدافع يجعل كل مجرم يدفع بأن دافعه من الجريمة سياسيا ،حتى ولو
كانت جريمته عادية .مما يوسع من نطاق الجرائم السياسية ،حيث تشمل جرائم بعيدة كل بعد عن المعنى السياسي سوى
ألنها ارتكبت لغرض سياسي .لذا ظهر المعيار الموضوعي في أعقاب هذه االنتقادات.
-2المعيار الموضوعي:
وهو المعيار الذي ظهر في ظروف كانت قد ظهرت فيها األنظمة االشتراكية ،وسادت فيها الحركات
السياسية والصراعات الطبقية ،التي حاولت قلب األنظمة السياسية القائمة ،مستغلة في ذلك المعيار السابق المركز على
الباعث السياسي كباعث نبيل في محاولة للترفق بها إذا فشلت في تحقيق أهدافها ،مما ضاعف من حجم بؤرة اإلجرام
السياسي ،وعمت الفوضى في أوربا وربوع العالم كله أيا كان شكل النظام ،وهي الظروف التي مهدت أيضا لقيام
الحربين العالميتين ،لذا بدأت الحكومات تكافح الجريمة السياسية بكل ما أوتيت من قوة ،فأخذت الجرائم السياسية مكانتها
في خريطة قانون العقوبات كأخطر الجرائم ،وهجرت التشريعات الجنائية المعيار الشخصي ،وبدأت تأخذ بمعيار جديد
][48
هو المعيار المادي أو الموضوعي ،الذي صور في ثالثة أسئلة :هل وقع الضرر على الدولة مباشرة؟ ،هل وقع على
حقوقها السياسية أو االجتماعية؟ ،وهل المقصود من عقاب المجرم حماية النظام السياسي أو االجتماعي؟ ،ووفقا لهذا
المعنى ،تعد جرائم سياسية ،كل األعمال التي يقصد منها االعتداء على نظام الدولة أو مؤسساتها العامة ،أو تعطيل
وظيفة السلطة العامة فيها ،سواء أصابت مصالحها السياسية أو أصابت حقوق األفراد السياسية ،ومن ثم تعد طبيعة
الحق المعتدى عليه هي التي تحدد معيار التمييز بين الجرائم السياسية والجرائم األخرى العادية .وبهذا ضاق نطاق
الجرائم السياسية إلى حد بعيد ،حيث لم تعد الجريمة سياسية لمجرد أن دافع أو باعث مقترفها دافعا سياسيا ،بل ألن الحق
المعتدى عليه حق سياسي يشكل اعتداء على الدولة ذاتها ،وأن هدف العقاب يكمن في حماية النظام السياسي أو
االجتماعي ،وهو المعيار الذي أخذ به المشرع الفرنسي فقها وقضاء.
و بالتالي تعد جريمة سياسية وفقا للمعيار الموضوعي ،كل اعتداء على المؤسسات العامة في الدولة
والنظم الدستورية واالعت داء على الحقوق السياسية ،وأخذ بهذا المعيار الفقيه الفرنسي جارو Garraudالذي عرف
الجريمة السياسية وفقا لهذا المعيار ،بأنها " :الجريمة التي تفضي على وجه الحصر إلى تقويض النظام السياسي أو
تعديله أو اإلخالل به" ،حتى ولو كان الحق المعتدى عليه من الحقوق السياسية الفردية كحق االنتخاب وممارسة
الواجبات العامة كدفع الضرائب واالشتراك في أعمال المجالس المحلية ،وكل ما يقع على الحقوق السياسية لألفراد.
و يبدو من الوهلة األولى أن المعيار الموضوعي أفضل من المعيار الشخصي ،غير أن ذلك لم يمنع من
أن توجه إليه العديد من ا النتقادات ،نذكر منها :إهماله للجانب الشخصي للمجرم ،وبالتالي مساواته بين مجرم دوافعه
نبيلة وآخر دوافعه دنيئة ،بالرغم مما ينطوي عليه ذلك من إجحاف .وبالتالي هي نظرية شديدة الوطأة على الخصوم
السياسيين ألنها ترمي إلى حماية النظام القائم دون النظر إلى دوافع المجرم السياسي .وبالتالي هي نظرية تأخذ مصلحة
الدولة ونظام الحكم دون الحالة الروحية للمجرم ،وهو ما يفسح المجال للحكام لالستبداد والتعسف في استعمال السلطات
الممنوحة لهم ،في سبيل االنتقام والثأر من خصومهم السياسيين .وهو معيار ضيق من نطاق الجرائم السياسية حيث
حصره ا في االعتداءات الحاصلة على النظام السياسي دون االعتداءات الحاصلة على الحقوق المالية واالقتصادية.
وأنها نظرية ال تنظر لإلجرام السياسي إال من ناحية ركنها المادي دون ركنها المعنوي ،وال تعبأ بنبل الباعث ،مما أدى
إلى نتائج شاذة ،حيث أن العميل الذي يبيع وطنه بالخيانة والتجسس يستفيد من المزايا المقررة للمجرم السياسي ،فيصبح
الخائن كالقيادي الثائر ،وهنا ظهر معيار مختلط أو مزدوج يجمع بين محاسن كل اتجاه ويتجنب مساوئهما مثلما هو
األمر دوما.
-3المعيار المزدوج أو المختلط:
أمام االنتقادات التي وجهت لكل من المعيار الشخصي والمعيار الموضوعي ،هجرت التشريعات
المعاصرة مسألة األخذ بمعيار دون اآلخر ،حيث لم تأخذ بالمعيار الشخصي فقط المعتني بحماية الحقوق والحريات
الفردية ،وال بالمعيار الموضوعي إلفراطه في حماية المصالح االجتماعية على حساب المصالح والحقوق والحريات
الفردية ،ب ل جمعت مزايا كال المعيارين ،وهجرت كل ما يعيبهما ،وقامت بذلك بالموازنة بين حماية مصالح المجتمع
وحماية الحقوق والحريات الفردية .حيث يرى البعض في تقديره للمسألة ،أن طغيان االتجاه الفردي فوضى ،وطغيان
االتجاه االجتماعي استبداد].[22
غير أنه بعيدا عن المعايير السابقة ،عرف المؤتمر الدولي لتوحيد القوانين العقابية المنعقد في كوبنهاجن
سنة 1935الجرائم السياسية ،بأنها كل جريمة ترتكب اعتداء على نظام الدولة السياسي وحقوق المواطنين
السياسية] .[23وهناك من الفقه من يعتبر جرائم سياسية تلك الجرائم الماسة فقط بأمن الدولة الداخلي كالدستور
والسلطات الثالث في الدولة دون االعتداءات المخلة بأمن الدولة الخارجي التي يسميها في هذه الحالة بالجرائم الوطنية.
وعرفها البعض ،معبرا عن الفقه اإلنجليزي ،أنها الجريمة التي تالزم االضطراب السياسي وتشكل جزءا منه ،والبعض
عرفها ،بأنها الجريمة التي ترتكب وتكون السياسة هي الغرض
أو الدافع لها– نرى انه تعريف يستند إلى المعيار الشخصي ال المزدوج ،-في حين عرفها البعض ،أنها:
األعمال التي يقصد منها بطرق جنائية تعديل أو تحرير أو هدم أو قلب النظام السياسي وإثارة اضطرابات سياسية أو
][49
كراهية لنظام الحكم ،في حين يرى البعض اآلخر ،أن الجريمة السياسية هي تلك األفعال المحرمة التي تصطدم مع
النظام السياسي للدولة ،سواء من جهة الخارج أو من جهة الداخل].[24
والمشرع الجزائري ،شأنه شأن سائر التشريعات األخرى لم يرد تعريفا للجرائم السياسية ،بل لم
يشر أصال لهذه التسمية ،غير أنه نص على أهمها تحت عنوان " الجنايات والجنح ضد أمن الدولة" ،دون أن يخصص
عقوبات خاصة بها ،بل أنه شدد من عقوبتها حيث أن غالبية عقوبات اإلعدام والسجن المؤبد محصورة بهذا الباب مع
هذا النوع من الجرائم المسماة ضد أمن الدولة ،وإن كانت المادة 69من دستور 96قضت بعدم جواز تسليم الجئ
سياسي يتمتع قانونا بحق اللجوء دون أن تسميه مجرما ،وفي قانون اإلجراءات الجزائية وفي نص المادة 698حظ
تسليم المجرمين في الجنايات والجنح ذات الصبغة السياسية ،أو في الحاالت التي يتبين منها أن التسليم مطلوب لغرض
سياسي ،وهو النص الذي بموجبه نتمكن من القول بأن المشرع الجزائري يميز بين المجرم العادي والمجرم السياسي
في مسألة التسليم فقط .وأن معيار الدستور هو معيار شخصي ،بينما في قانون اإلجراءات التزم بمسألة طبيعة الجريمة
من كونها ذات صبغة سياسية وهو ما يجعلنا نرى أن المشرع الجزائري في نص هذه المادة تبنى المعيار الموضوعي.
ثانيا :أنواع الجرائم السياسية
ا لوضع السياسي واالجتماعي ونظام الحكم في كل دولة هو الذي يحدد أنوع الجرائم السياسية ،وذلك
طبقا لمتطلبات حاجاته في مواجهة هذا النوع من الجرائم ،وتبعا للظروف التي يمر بها أيضا ،لذا تقسم الجرائم السياسية
في العادة إلى جرائم سياسية ماسة بأمن الدولة الداخلي وأخرى ماسة بأمن الدولة الخارجي ،وهناك من قسمها إلى جرائم
سياسية خالصة وأخرى نسبية وأخرى مختلطة ،فالجريمة السياسية الخالصة ،هي تلك الجريمة الماسة بأمن الدولة
الداخلي ،أو تلك الوا قعة على الدستور ،وعلى السلطات الثالث في الدولة ،وأما الجرائم السياسية النسبية ،فهي تلك
الجرائم التي تقع في آن واحد على مصلحة الدولة ومصالح األفراد ،وهي في األصل جرائم عادية ترتبط بالجرائم
السياسية ارتباطا وثيقا وينتج عن هذا االرتباط إما تعدد جرائم مادي أو حقيقي وإما تعدد جرائم معنوي أو صوري .وأما
الجرائم السياسية المختلطة ،فهي جرائم االغتيال السياسي كونها عبارة عن قتل عادي لغاية سياسية ،جرائم فوضوية
بغرض وضع المجتمع في موضوع يحتاج فيه إلى وجود الدولة ،وكذا اإلرهاب وتزوير النقد ألغراض سياسية.
ثالثا :الفائدة القانونية من تحديد الجرائم السياسية
إ ن الفائدة القانونية أو النتائج القانونية المترتبة عن تقسيم الجرائم إلى سياسية وعادية ،يتمثل فقط في
إبراز موقف اآلراء المنادية بضرورة ووجوب معاملة المجرم السياسي بنظرة مغايرة عن تلك المعروفة والمعمول بها
في مجال الجرائم العادية ،لذا سنركز أكثر على األفكار التي ترى في المجرم السياسي شخص غير سائر المجرمين
العاديين ،وما ترتب عن ذلك من نتائج انعكست على التجريم والعقاب في هذا النوع من الجرائم ،المسماة سياسية.
و نشأت فكرة التمييز بين الجرائم السياسية الجرائم العادية ،في القانون الفرنسي لسنة 1810حيث أظهر
تخفيفا اتجاه الجريمة السياسية ،وقدمت العديد من الدراسات في فرنسا تخص دراسة شخصية المجرم السياسي ،حيث
بينت اختالفات عميقة في شخصية كل من المجرم السياسي والمجرم العادي ،ولذلك صدر في فرنسا قانون -04-28
1832إلنشاء نوع خاص من العقوبات للمجرم السياسي ،وألغى دستور 1848عقوبة اإلعدام بخصوص الجريمة
السياسية ،وأصبحت عقوبة الجريمة السياسية هي النفي البسيط والنفي إلى قلعة واإلبعاد والتجريد من الحقوق السياسية.
-1فبخصوص شخصية المجرم:
يمكن القول أنه ببروز ظاهرة اإلجرام السياسي ،وشيوعه في المجتمعات وشرعت الدراسات في تحليله
والبحث في أسبابه وكيفية معاملته ،ظهرت اتجاهات ترى وجوب التفريق بين شخصية المجرم السياسي والمجرم
العادي ،حيث رأى أنصار المدرسة الموضوعية ،أن المجرم السياسي غير المجرم العادي ،حيث أن األخير تنطوي
أفعاله على الغش والحيلة والخديعة ،ويصدر إجرامه بدوافع دنيئة وأنانية ،مستهدفا إيذاء الوجود اإلنساني ومنافيا كل
القيم اإلنسانية األصلية ويعبر دوما عن ارتداد إلى الحالة البدائية وشريعة الغاب السائدة بها ،في حين أن اإلجرام
السياسي هو إجرام تطوري تقدمي ينتج عن دوافع الغيرة واإليثار ،وبواعث اإلصالح االجتماعي والرغبة في دفع عجلة
التاريخ إلى األمام ،واالرتقاء بالذات اإلنسانية وبمصالح الجماعة ،وهو ليس بإجرام حقيقي وإنما إجرام موهوم أو
مزعوم ،إذ أنه ال يستهدف سوى المساس بالنظام السياسي أو االجتماعي القائم وتعديله أو تبديله أو السير به قدما ،وفي
][50
هذا الصدد رأى غارفالو إدخال الجرائم السياسية في عداد الجرائم االصطناعية التي ال تمس مشاعر االستقامة الموجودة
بصدر كل إنسان ،أما فير رأى بأنه ال يجب أن تصبح النصوص الجنائية مجرد أداة في يد السلطة السياسية ،في إشارة
منه إلى عدم العقاب على الجرائم السياسية ،وأما لمبروزو ،فيرى أن اإلجرام السياسي هو لون من ألوان اإلجرام
المتطور الذي يدفع الحياة السياسية واالجتماعية إلى األمام ،بالرغم مما يتسم به لمبروزو من تشدد اتجاه
ويرى عل ماء اإلجرام المحدثون ،أن المجرم السياسي يمثل النموذج الحي الصادق وهو المجرم العقائدي المجرمين.
الذي يجب أن ينظر إليه كنموذج قائم بذاته ،حيث يتميز عن سواه في شعوره الصادق العميق ،ألن فعله أماله عليه
ضميره ويعتبره جزء من رسالته التي التزم القيام بها ،مرتكزا في ذلك على سلسلة القيم التي ترتكز عليها القواعد
القانونية النافذة ،لذا يجب معاملة إجرامه معاملة خاصة.
غير أنه يجب أال ننخدع إلى هذا الحد وراء دوافع اإلجرام السياسي ومجرميه ،فهؤالء أيضا قد تحركهم
دوافع األنانية والحيلة والمكر والخداع والغش ،سالكين هذا النوع من اإلجرام ،رغبة في الوصول إلى تحقيق دوافعهم
األنانية تحت مظلة وجوب الرأفة بهم في حال أفشلت عملياتهم ،وقد اثبت الواقع قيام العديد من حركات التمرد
والحروب وكان ظاهرها يوحي على بواعثها السياسية ،وأما مضمونها كان مجرد محاولة جماعات معينة للسيطرة على
الحكم وبس ط نفوذهم على السلطة والشعب ،أو لتحقيق مآرب خاصة تنطوي على الغش والكذب والخداع ،بل وأكثر من
ذلك ،لتغطية جرائم فظيعة يرتكبونها أو في محاولة للوصول على السلطة حتى يتسنى لهم بسط حمايتهم على شبكاتهم
لذا نجد الدول ورغبة اإلجرامية وهو هدف شبكات المافيا اليوم المتاجرة بالمخدرات والممتهنة لإلجرام المنظم.
منها في تقوية أركانها سعت إلى مقاومة التيارات االجتماعية وحركات التحرر التي بدأت تنشط في المستعمرات في
بداية القرن العشرين ،وتغيرت النظرة إلى الجرائم السياسية ،وأخرج من نطاقها ما سمي بالجرائم اإلرهابية والجرائم
االجتماعية وجرائم التجسس والخيانة وكل ما يمس أمن الدولة من جهة الخارج.وهو ما تنبهت له فعال بعض
التشريعات ،حيث أنه مع طغيان اعتبارات مصالح الدولة ،مع المذهب الفردي الذي ساد القرن التاسع عشر ،لم يبق
موقف القانون من الجريمة السياسية موقف المتساهل والعاطف ،بل هبت التشريعات خاصة في القرن العشرين إلى تبني
التشدد التغليظ في عقاب المجرمين السياسيين ،ونادى تيار فقهي جنائي بأنه ليس من العدل أن يراعى الباعث في
الجرائم السياسية وحدها دون غيرها ويهمل في باقي الجرائم األخرى أين يسود مبدأ أن القانون ال يعتد بالبواعث ،وأن
المبالغة في المسألة يجعل من دراسة شخصية المجرم موضوعا ثالثا يضاف إلى دراسة الجريمة والعقوبة.
][51
ركن من هذه األركان العامة في فصل مستقل ،على أن نتناول في فصل مستقل كل التقسيمات والتصنيفات التي أعطيت
للجريمة بناء على الركنين المادي والمعنوي دون الركن القانوني حيث سبق تناول أهم التقسيمات المستندة لهذا الركن.
الفرع الثالث
الجريمة العادية والجريمة العسكرية
م ثلما تقسم الجريمة استنادا للركن المعنوي تقسيما ثالثيا ،وتتم تفرقة الجريمة العادية عن الجريمة
السياسية ،فإنه هناك تقسيم آخر يستند أيضا لنصوص القانون أو للركن الشرعي ،وهو تقسيم الجريمة إلى جريمة عادية
وجريمة عسكرية ،وهو موضوع دراستنا في هذا الفرع .ويمكن القول عموما ،وقبل تناول مفهوم الجريمة العسكرية
ومعيار التمييز بينها وبين الجريمة العادية ،أنها تلك الجرائم التي تشكل اعتداء على المصالح العسكرية المحمية بقانون
القضاء العسكري.
أوال :مفهوم الجريمة العسكرية
ا لجريمة العادية هي تلك التي تقع بالمخالفة لنص جنائي يجرم الفعل ويعاقب عله ،سواء ورد هذا النص
في صلب قانون العقوبات أو في القوانين المكملة له ،أما الجريمة العسكرية ،فهي بحسب األصل تلك التي تقع من
شخص يتمتع بالصفة العسكرية بالمخالفة للواجبات العسكرية أو النظام العسكري ككل ،وهي بذلك ال تختلف كثيرا عن
الجرائم العادية ،سوى في انعقاد النظر في الجرائم العسكرية لقضاء استثنائي هو القضاء العسكري ،والجريمة العسكرية
في جوهرها صورة تقترب من الجريمة التأديبية ،وربما تميزت عنها فقط بجسامتها بالنظر ألهمية وخصوصية النظام
العسكري ،وبخطورة الجزاءات المقررة لها ،ويميز بعض الفقه ،بين الجريمة العسكرية في مفهومها الحقيقي والتي يرى
أنها وحدها التي تبرر تطبيق أحكام القانون العسكري وبين الجريمة العسكرية حكما ،بالرغم من أنه في الحالتين ينعقد
االختصاص للقضاء العسكري.
][52
-1من الناحية الموضوعية :
تخضع الجرائم العادية لألحكام الموضوعية المنصوص عليها في قانون العقوبات ،بينما تسري على
الجرائم العسكرية األحكام الموضوعية المنصوص عليها في النظام العسكري تجريما وعقابا ،كما أن مبدأ الشرعية
الجنائية غير معمول به بصفة مماثلة لتلك المعروف بها في قانون العقوبات ،حيث غالبا ما تعد نصوص القانون
العسكري واسعة تستوعب العديد من السلوكات على نحو يستوعب أفعال غير محصورة مسبقا ،كما أن الجزاءات
تختلف ما بين ما هو منصوص عليه في قانون العقوباتوما هو منصوص عليه في القانون العسكري ،مثل جريمة الطرد
من الخدمة العسكرية وتنزيل الرتبة والحرمان من األقدمية ،وأن الحكم في جريمة عسكرية ال يشكل ظرف عود في
الجريمة العادية.
-2من الناحية اإلجرائية:
ينعقد االختصاص في نظر الجرائم العادية للمحاكم الجنائية العادية ،بينما ينعقد االختصاص في الجرائم
العسكرية للجهات القضائية العسكرية ،وتبعا لذلك تختلف المراحل التي يمكن أن تتم عبرها مرحلة المحاكمة منذ
االستدالل إلى غاية المحاكمة فيها مرورا بالتحقيق وتنفيذ العقوبات ...غير أن أهم مسألة تكمن في حظر تسليم المجرمين
العسكريين مثلما تقتضيه أغلب االتفاقيات الدولية في هذا الصدد وهو أمر مسلم به فقها استنادا لعرف دولي مستقر.
الفصل األول
الركن الشرعي أو القانوني للجريمة
مبدأ الشرعية الجنائية
Le principe de la légalité criminelle
إنه لمن قبيل المسلمات أن الدولة كنظام من صنع البشر قامت لتحقيق الخير لجموع البشر الذين ينتمون
إليها ،ولتحقيق ذلك ،قامت بوضع مجموعة أسس فلسفية تحكم تصرف اإلنسان في حياته وتكون بمثابة دليل للعمل يحدد
له جوانب الخطأ من الصواب ،كما قامت بالبحث عن نقطة توازن معقولة بين نقيضين يعمالن في المجتمع في آن
واحد ،وهما الرغبة في تدعيم السلطة لكي يتسنى ويتيسر للحكام أداء المهام المنوطة بهم ،ومن جهة ثانية ،الرغبة في
تدعيم حريات األفراد والجماعات
و أيا كان الخالف بين النظريات والفلسفات المتصارعة في هذا الشأن ،فإنه هناك قدر من الوظائف
المسندة للدولة متفق عليه ،ألنه يعد من أركان وجود الدولة ،ووسيلتها في مواجهة العدوان الخارجي والمحافظة على
النظام الداخلي ،وهو أول واجب صاحب نشأة الدولة واعتبر عنصرا من عناصر وجودها .وأسند تحقيق هذه الوظائف
إلى سلطات ثالثة محددة ظهرت في مرحلة من مراحل تطور الدولة ،حينما اشتد الصراع بين الفكر والسلطة ،وهي
السلطة التشريعية التي أسندت إليها مهمة سن القوانين بالقدر الذي يحفظ وجود الدولة ويضمن استمرارها ،وسلطة
قضائية ،ووظيفتها األساسية تطبيق هذه القوانين في إطار مبدأ المساواة وبالقدر التي تحفظ فيه الحريات الفردية ،المسألة
التي ألجلها نالت استقالليتها ،وأخيرا ،سلطة تنفيذية أنيط بها ممارسة المهام السياسية في الدولة ،وبالشكل الذي تحفظ به
وجود واستمرار هذه األخيرة .ووجدت هذه السلطة ،القانون الجنائي المجال األنسب الذي يحفظ لها ذلك ،بالنظر لما
تتسم به قواعده من صرامة وما تتصف به من حزم ،بالنظر لما ينطوي عليه من جزاءات تنال في الغالب من حقوق
اإلنسان األساسية ،أهمها حقه في الحياة والحرية والتملك.
وإن كان قد سبقت اإلشارة إلى أن بعض الفقه انتقد بشدة فكرة اعتبار النص القانوني ركنا من أركان
الجريمة ،في حين ه و خالقها ومصدر وجودها ،وال يمكن للعقل أن يتصور اعتبار الخالق عنصرا فيما خلق ،لذا اتجه
][53
بعض الفقه إلى اعتبار الركن القانوني هو " الصفة غير المشروعة للفعل" ،التي إن لم تتوفر ليس لنا حاجة للبحث عن
األركان األخرى ،حيث هو الركن الذي بموجبه تتحدد األركان األخرى ،حيث يبين السلوكات والتصرفات المجرمة،
وبذلك يكون قد حدد الركن المادي للجريمة ،كما يبين العالقة النفسية بين هذا الفعل ومرتكبه ،وبذلك يكون قد حدد الركن
المعنوي للجريمة ،وبذلك يعد النص القانوني مصدر الصفة غير المشروعة للفعل والمبين للنموذج القانوني لها ،كما
يرصد لها الجزاء المناسب من جهة نظر قانون العقوبات ،أو القوانين المكملة له.
لذا أضحى الركن الشرعي عبارة عن فكرة قانونية ومبدأ قانوني ثابت من مبادئ القانون الجنائي،
وأضحى من مسلمات الفقه الجنائي المعاصر ،التي تقوم عليه سائر األفكار والمبادئ الجنائية األخرى ،بالرغم مما تميز
به من طريقة في الظهور وتطور عبر العصور وأسس قام عليها ونتائج رتبها جعلت منه يستقر في غالبية القوانين
الجنائية الحديثة ،ويرتقي إلى مصاف المبادئ الدستورية التي تقوم عليها جل النظام الديمقراطية في العالم ،بل ومن
مقومات دولة القانون المعا صرة .ومؤدى المبدأ ،أن يحدد المشرع سلفا األفعال المعتبرة جرائم من بين السلوكات التي
يقوم بها اإلنسان ،فيحدد النموذج القانوني لكل جريمة وكذا الجزاء المقرر لها ،مما يضمن حقوق وحريات األفراد في
مواجهة السلطة العامة ،كما يحمي في ذات الوقت المصلحة العامة ،من خالل إسناد سلطة التشريع للمشرع وحده دون
غيره ،مما يكفل عدم اعتداء السلطات على اختصاصات بعضها البعض ،وانفراد المشرع باالختصاص في مسائل
الحقوق والحريات التي ال مساس بها أكثر من المجال الجنائي .لذا فدراسة هذا المبدأ تقتضي منا تناول ظهور المبدأ
وتطوره تاريخيا ،لن تناول في الثاني ماهية هذا المبدأ والنتائج القانونية المترتبة عليه .ونخصص مبحثا ثالثا ألسباب
اإلباحة باعتبارها تمثل أسباب تعود بالشخص لخارج مجال التجريم غير المحكوم بمبدأ الشرعية الجنائية.
المبحث األول
ظهور مبدأ الشرعية الجنائية وتطوره
لإللمام بمدلول مبدأ الشرعية الجنائية ،يتعين البحث في الظروف التاريخية التي مهدت لظهوره ،ومكنته
من احتالل المكانة والقيمة الدستورية والقانونية التي يحتلها اليوم ،وكذا البحث في األسس والمبادئ الفلسفية التي قام
عليها .حتى يتسنى لنا بعد ذلك استيعاب ماهيته وما يرتبه من نتائج ،لذلك سنتناول هذا المبحث من خالل مطلبين،
نخصص األول لظهور المبدأ وتطوره التاريخي ،لنخصص الثاني لماهية المبدأ والنتائج القانونية المترتبة عليه.
المطلب األول
ظهور مبدأ الشرعية الجنائية وتطوره التاريخي
مبدأ الشرعية الجنائية لم يظهر بظهور قانون العقوبات ،كما أنه لم يتطور بذات الطريقة ،كونه ظهر في
مرحلة متأخرة من مراحل تطور هذا القانون ،وهي المراحل المتعددة التي تضرب بجذورها في أغوار تاريخ البشرية،
وهو األمر الذي جعلت هذا القانون يعاني من ويالت التعسف والتحكم واالستبداد لفترة زمنية طويلة ،غير أن األمر إن
كان كذلك بخصوص التشريعات الوضعية األوروبية فاألمر مختلف بخصوص الشريعة اإلسالمية التي عرفت المبدأ منذ
القرن السادس ميالدي .لذا سنحاول أن نتناول ظهور المبدأ في فرع ،لنتناول في الثاني تطوره التاريخي ،ونخصص
الثالث لتبيان أسسه الفلسفية.
الفرع األول
ظهور مبدأ الشرعية الجنائية
يرجع البعض – وهو كثيرون -تاريخ المبدأ وأول ظهور له إلى فالسفة عصر التنوير والنهضة في
أوربا ،في القرن الثامن عشر ،غير أن الحقيقة هو أنه مبدأ ظهر قبل ذلك بكثير ،حيث عرفته الشريعة اإلسالمية في
الوقت الذي كانت فيه أمم أوروبا غارقة في الظالم وتعاني من تحكم وتعسف السلطات ،وحتى وإن عرفته بعض
التشريعات الغابرة ما قبل الميالد ،مثل شريعة حمورابي ،إال أنه سوى بلورة لقيم السلطة آنذاك] .[25وفي الشريعة
اإلسالمية قد دلت على المبدأ العديد من اآليات القرآنية الكريمة ،مثل قوله عز وجل في اآلية 15من ســورة اإلسراء ":
وما كنا معذبين حتى نبعث رسوال" ،وقوله عز وجل في اآلية 59من سورة القصص ":وما كان لربك مهلك القرى
حتى يبعث في أمها رسوال يتلو عليهم آياتنا" ،وقوله أيضا في اآلية 165من سورة النساء " :لئال يكون للناس حجة بعد
][54
الرسل" ،وقوله عزل وجل في اآلية 38من سورة األنفال ":قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف" ،وفي اآلية
95من سورة المائدة ":عفا هللا عما سلف ومن عاد فينتقم هللا منه" .وأما في أوروبا ،سادت فترة طويلة من الزمن كانت
فيها إرادة الحاكم وأهوائه هي القانون وذلك في ظل نظام مستبد ،فلم يوجد آنذاك مبدأ يعبر عن سيادة القانون ،مما أثر
الفالسفة والمفكرين على السلطة القضائية ،التي كانت تحاكم وتجرم بناء على رسائل الملوك والحكام وفي غياب أية
نصوص قانونية ،مما وسع من دائرة التجريم وهز ميزان العدالة تحت وطأة التعسف والجور والطغيان ،وجسامة وشدة
العقوبات ووحشية تنفيذها ،مما كان له أثر بالغ في ثورة ما يسمى " بثورة الحريات الكبرى" التي ثارت ضد هذا الجور
والطغيان فأشعلت كتاباتهم الثورة الفرنسية سنة . 1789غير كان قد سبقهم في ذلك "مونتسكيو" الذي يعد أول ما ندد
بالظلم والطغيان في كتابه الخالد " روح ا لقوانين" حيث نادى بمبدأ الفصل بين السلطات لوضع حد العتداء السلطة
القضائية على اختصاصات السلطة التشريعية ،التي كانت تقرر الجرائم والعقوبات وفقا ألهوائها ،وأكد على ضرورة "
الشرعية النصية" ألجل وضع سياج منيع على الحقوق والحريات .ومن بعده بيكاريا في كتابه " الجرائم والعقوبات"،
المنشور سنة 1764مستندا على فلسفة روسو التي قررها بكتابه العقد االجتماعي ،كما لخص كل من أفكار مونتسكيو
وجون جاك روسو وأبرز في كتابه قيمة مبدأ الشرعية باعتباره الوسيلة الفعالة لتخليص القانون الجنائي من تحكم القضاة
وتعسف الحكام ،ورأى بأن ال سبيل لتخليص األفراد من طغيان القضاة وتعسفهم في مجال التجريم والعقاب هو القانون،
حيث ال يؤاخذ الشخص إال عن جريمة يكون قد حددها النص مسبقا وبين عقوبتها ومقدارها ،كما اشتق بيكاريا من
نظرية العقد االجتماعي أيضا " مبدأ المصلحة االجتماعية أساس لمشروعية العقاب" وبذلك :تجرم األفعال التي تعد
عدوانا على المجتمع فقط ،وأن يكون الجزاء متناسبا مع الضرر .وبالتالي يكون مبدأ الشرعية الجنائية أول من نادى به
مونتسكيو ومن بعده روسو وبيكاريا ،واهم عامل دفع لذلك كان التعسف واالستبداد الذي كان سائدا في أوروبا في هذه
الحقبة الزمنية.
الفرع الثاني
التطور التاريخي لمبدأ الشرعية الجنائية
المبادئ التي نادى به كل مونسكيو وروسو وبيكاريا كانت سببا في ظهور مبدأ الشرعية الجنائية إلى
الوجود ،بصيغته األولى ،لذا امتد في التطور المتسع والمتسارع وعرف طريقه إلى مجتمعات وحضارات أخرى،
وكانت أهمها وثائق الثورة الفرنسية ،لكن وقبل ذلك كان المحامي العام السيد سيفران في خطابه أمام البرلمان سنة
1766في قرونوبل قد قدم خطابا أهم ما جاء فيه ":أن القوانين أو القواعد الجنائية يجب أن تعطي للقاضي لوحة مدققة
عن الجرائم والجزاءات ،بحيث يتعين على القاضي فقط اختيار الجزاء المحدد" وتأكد المبدأ بعد ذلك في إعالن حقوق
اإلنسان والمواطن الذي أصدر في أعقاب الثورة الفرنسية في المادة 5منه التي نصت على انه ":ال يمنع الفرد عن
إتيان ما هو غير محظور بنص القانون" ،وقضت المادة 8منه بأنه ":ال يعاقب الشخص إال طبقا لقانون محدد وصادر
قبل ارتكاب الفعل ،ثم أكده بعد ذلك دستور الثورة الفرنسية لسنة 1791وبعده دستور 1793ودخل المبدأ منذ ذلك
الوقت المجال التشريعي] . [26وأخذ القانون اإلنجليزي بمبدأ الشرعية الجنائية منذ صدور ميثاق هنري األول ،ثم
تضمنه دستور كالريندون وأكده بعد ذلك الع هد األعظم الذي قرر سمو قواعد القانون في إنجلترا والذي أصدره الملك
جون سنة ،1215حيث نصت المادة 29منه على أنه " :ال يمكن إنزال عقاب ما بأي إنسان حر إال بمحاكمة قانونية
من أنداده طبقا لقانون البالد" ،وأكد عليه اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان لسنة 1948في المواد 10 ،9و ،11كما
تضمنه أكثر من 50اتفاقية أو إعالن يتعلق بحقوق اإلنسان والحريات الفردية ،ليستقر بعدها في غالبية الدساتير
والقوانين الجزائية ،بوصفه ضمانة أساسية للحقوق والحريات ،وصار ركيزة دستورية هامة ،وقد نصت عليه غالبية
الدساتير الجزائرية ،ففي دستور 1976تضمنته المادتان 45و ، 169والمواد 133 ،131 ،44 ،43من دستور
،1989والمادة 46من دستور 96المعدل والمتمم ،كما نصت عليه المادة األولى من قانون العقوبات الجزائري ،من
كون ال جريمة وال عقوبة وال تدابير أمن بغير قانون ،وقضت المادتان 2و 3على مبدأين من يعدان نتيجتين من نتائجه
وهما مبدأ عدم الرجعية ومبدأ اإلقليمية .ونص المشرع الفرنسي على المبدأ في نص المادة 3-111بأنه ":ال يعاقب أحد
على جناية أو جنحة ما لم تكن أركانها معرفة بقانون ،كما ال يعاقب شخص على مخالفة ما لم تكن أركانها محددة
بمقتضى الالئحة" ،ورأى جانب من الفقه الفرنسي أن المكان الطبيعي للنص على مبدأ الشرعية الجنائية هو الدستور،
][55
وأن النص عليه في التقنين العقابي ما هو إال من التزيد الذي ال مبرر له ،وال لزوم له ،بل وتأباه فنون الصياغة القانونية
والبالغة التشريعية ،كونه مبدأ يحرص على حماية الحريات الفردية ،وان مكان النص على هذه الحريات هو الدستور
لذا يجب رفع مبدأ الشرعية الجنائية إلى مصاف المبادئ الدستورية ،وأن إيراد المبدأ في الدستور يغني عن ترديده في
قانون العقوبات .وقبل أن نتقل من فكرة الظهور والتطور ،نشير بان هذا التطور مكن من استنتاج األسس الفلسفية لهذا
المبدأ الدستوري الجنائي الهام ،وهي األسس التي نتناولها في الفرع الثالث التالي.
الفرع الثالث
األسس الفلسفية لمبدأ الشرعية الجنائية
م بدأ الشرعية الجنائية وجد نتيجة صراع مرير وطويل ضد التعسف والتحكم والطغيان واستبداد الحكام
وتعسف السلطات ،وبني على العديد من األسس الفلسفية التي دفعت به إلى الوجود ،حيث يعد اثر من آثار العقد
االجتماعي ،وثمرة من ثمار مبدأ الفصل بين السلطات ،أساسه المسؤولية األخالقية وقوامه مبدأ العدالة .فهو
أثر من آثار العقد االجتماعي ،حيث أنه يرتبط ارتباطا وثيقا بهذه النظرية التي جاء بها جون جاك روسو ،كون العقاب
يعد أيضا محصلة تنازل كل فرد عن جزء من حقه الخاص في الدفاع عن نفسه ،لتتواله السلطة العامة نيابة عنه ،وهو
المعنى الشكلي لمبدأ الشرعية الجنائية .وهو ثمرة من ثمار مبدأ الفصل بين السلطات ،الذي نادى به الفيلسوف الفرنسي
مونسكيو ،حيث مؤدى الفصل بين السلطات أن تحصر مصادر التجريم والعقاب في القانون الذي تصدره السلطة
التشريعية ،والذي ال تملك السلطة القضائية إزاءه إال التطبيق] .[27وأساس مبدأ الشرعية الجنائية المسؤولية األخالقية،
حيث مسؤولية الشخص تتحدد بناء على الذنب والخطأ المنسوب إليه ،والصادر عنه بناء على اإلدراك وحرية االختيار،
حيث جوهر الخطيئة إدراك عدم مشروعية الفعل ثم إرادة ارتكابه ،وهو ما يقتضي أن تكون عدم مشروعية الفعل قد
حددتها النصوص العقابية مسبقا ،وأنه حتى تتحدد مسؤولية الشخص الجنائية وتقوم ،ينبغي توفر االختيار الحر بين
المحظور والمباح من األفعال ،لذا يجب أن يعرف اإلنسان سلفا ما هو محظور عليه .وقوام مبدأ الشرعية الجنائية ،مبدأ
العدالة الذي يعد من الركائز األساسية لقيام دولة القانون ،وهو ما يؤكد فعال أن مبدأ الشرعية الجنائية أثر من آثار العقد
االجتماعي وثمرة من ثمار مبدأ الفصل بين السلطات ،أساسه المسؤولية األخالقية وقوامه مبدأ العدالة ،ومرتبط ارتباطا
وثيقا بمبدأ سيادة القانون] .[28غير أنه في الشريعة اإلسالمية يعد اسمي منه في التشريعات الوضعية ،كونه يقوم على
قاعدتين أساسيتين ،هما " ال حكم ألحكام العقالء قبل ورود النص" ،وقاعدة " األصل في األشياء اإلباحة".
المطلب الثاني
مفهوم الشرعية الجنائية
ل مبدأ الشرعية الجنائية معنى ومدلول وعناصر ،وأقسام سنحاول أن نتبينها باختصار في النقاط التالية،
حيث نبين المقصود منه ،وعناصره ،وذلك بالقدر الذي نحتاجه لباقي نقاط دراستنا فقط.
الفرع األول
المقصود بمبدأ الشرعية الجنائية
األصل أن يقصد بمبدأ الشرعية الركن الشرعي للجريمة – وهو ما نحن بصدد دراسته -كما انه يفهم
منها مبدأ المشروعية ،لذا وجب علينا أن نفرق بين الشرعية والمشروعية في نقطة ،لنتناول في الثانية تعريف مبدأ
الشريعة الجنائية .إذ في الكثير من األحيان يستخدم المصطلحين للداللة على نفس المعنى ،غير أنه هناك اختالفات بين
المصطلحين ،حيث أن الشرعية تعني تنصرف في المجال الجنائي إلى معاني قانونية ،تتمثل في حصر مصادر التجريم
والعقاب في نصوص قانونية محددة ،وهي بذلك تتعلق بالنص الجنائي وبالعناصر الشكلية والموضوعية التي تضمن
شروط صحة النص .كما يقصد بالشرعية تلك المبادئ التي تكفل احترام حقوق اإلنسان وإقامة التوازن بينها وبين
المصلحة العامة ،والتي يتعين على الدولة التقيد بها عند ممارستها لصالحياته العامة .بينما يقصد بالمشروعيـــــة،
انتفاء التعارض بي ن الواقعة القانونية وبين نصوص التجريم والعقاب ،وباألحرى انتفاء التعارض بين النصوص
والمصالح واألموال المشمولة بحماية هذه النصوص ،فهي بذلك تنصرف إلى أسباب اإلباحة ،حيث ال يوصف الفعل
بعدم المشروعية إذا توفرت شروط تطبيق سبب من أسباب اإلباحة التي بينها القانون ،فالمشروعية تتعلق بالفعل ،في
حين أن الشرعية تتعلق بالنص .ويرى البعض ،في هذا المعنى ،أن مبدأ الشرعية الجنائية في حقيقة األمر ما هو إال
][56
جانبا واحدا من مبدأ أكثر شموال ،وواجب التطبيق على أي نشاط تقوم به الدولة ،الذي يجسد دولة القانون ويفرقها عن
الدولة البوليس ية .حيث يتوجب على كل السلطات في الدولة احترام القانون والعمل في إطاره ،وااللتزام بأحكامه في
قيامها بمهامها ،وعادة ما يقال الشرعية اإلدارية للداللة على هذا المعنى – عمل سلطات الدولة في نطاق القوانين،-
تميزا عن مبدأ شرعية الجرائم والعقاب الحاكم للقانون العقابي .غير أنه وبعيدا عما سبق ،سنحاول أن نبين تعريف مبدأ
الشرعية ومضمونه وتحديد عناصره وتبيان أقسامه في النقاط التالية.
أوال :تعريف مبدأ الشرعية الجنائية
أعطيت العديد من التعاريف لمبدأ الشرعية الجنائية ،حيث اختلفت باختالف الزوايا التي ينظر منها إليه،
فاليونانيون قد عبروا عن هذا المبدأ بأنه " الترابط السياسي الذي يضع كل مواطن مكانه في المجتمع" ،في حين عبر
عنه المجتمع الدولي لرجال القانون المنعقد في نيودلهي سنة 1959بأنه ":اصطالح يرمز إلى المثل والخبرة العلمية
القانونية التي يجمع عليها رجال القانون في جزء كبير من العالم" ،ورأى المؤتمورن أن المبدأ يقوم أو يعتمد على
عنصرين أساسيين ،هما أنه مهما كان فحوى القانون ،فإن كل سلطة في الدولة هي نتاج القانون وتعمل وفقه ،والثاني،
افتراض أن القانون نفسه يعتمد على مبدأ سام هو احترام حقوق اإلنسان ،واستخلص المؤتمرون تعريفا ليمدا الشرعية
في أنه " :ذلك الذي يعبر عن القواعد والنظم واإلجراءات األساسية لحماية الفرد في مواجهة السلطة ،ولتمكينه من
التمتع بكرامته اإلنسانية" ،كما عرف بالعديد من التعاريف التي يمكننا أن نجملها فيما يلي " :نص التجريم الواجب
التطبيق على الفعل" " ،النص القانوني الذي يبين الفعل المكون للجريمة ويحدد العقاب الذي يفرضه على مرتكبها"،
وهناك من قال بأن الشرعية بإيجاز ،تأسيس الجرائم على اعتبارات من مصلحة المجموع واحترام الحريات الفردية،
وهناك من قال أنه :سيادة القانون وخضوع الجميع له حكاما ومحكومين] ،[29وسيادة القانون في مجال التجريم والعقاب
يعني وجوب حصر الجرائم والعقوبات في القانون المكتوب ،وذلك بتحديد األفعال التي تعد جرائم وبيان أركانها ،من
جهة ،ثم العقوبات المقرر لها ونوعها ومدتها ،من جهة أخرى.وهناك من عرفه ،أن الشرعية الجنائية تقضي وجوب
وجود نصوص قانوني ة صادرة عن سلطة مختصة لضبط سياسة التجريم والجزاء والمتابعة الجزائية].[30
ثانيا :مضمون الشرعية الجنائية
القانون الجنائي بمختلف فروعه يخضع لمبدأ الشرعية ،منذ تجريم الواقعة ووقوعها مرورا بمحاكمة
الشخص وتوقيع العقوبة عليه وتنفيذها ،وفي كل هذه المراحل يخضع القانون المسائل التي تمس بالشخص وحريته
وكرامته سواء تعلق األمر بالتجريم أو العقاب أو اإلجراءات أو التنفيذ العقابي تكون النصوص خاضعة لمبدأ الشرعية
الجنائية] . [31ومقتضى مبدأ الشرعية الجنائية ،أن تراعيه السلطات الثالث في الدولة في كل تصرفاتها وأعمالها
القانونية ،فمن جهة القاضي ال يملك تجريم فعل لم يرد نص بتجريمه أو توقيع عقوبة لم يرد بها نص أو استنتجها عن
طريق القياس ،ومن ناحية ثانية ،فسلطة التجريم والعقاب من اختصاص السلطة التشريعية ،وهي وحدها صاحبة
االختصاص ،وأن تكون النصوص التي تضعها محددة وال نصرف إلى الماضي ،وال تملك السلطة التنفيذية ممارسة هذا
االختصاص دون تفويض ،وفي الحدود الضيقة التي بينها القانون لهذا التفويض .فمبدأ الشرعية الجنائية يفرض نفسه
على المشرع مثلما يفرض نفسه على القاضي ،فاألول يحتكر سلطة التجريم والعقاب ،بينما الثاني يقع عليه عبء
التطبيق السليم لهذه النصوص ،احتراما لإلرادة العامة ،على أن تكون النصوص الجنائية واضحة وضوحا كامال بما
يسمح للقاضي بتطبيقها السليم دون خطأ ،حيث إذا جاء النص مبهما أو غامضا ،فإن ذلك يمنح القاضي سلطة تحكمية
التي أريد القضاء عليها بموجب هذا المبدأ ،لذا فالشرعية تستعبد فكرة النصوص التي تشمل ما يسمى بالحاالت
أو النماذج المفتوحة Types ouvertsوهي النصوص الذي ما أريد تطبيقها نجد بأنه يدخل تحت نطاقها العديد من
الحاالت المتشابهة ،كالنص " كل فعل ضار بالشعب" أو " كل تصرف يمس المصلحة العامة أو من شأنه المساس
باألمن العام أ و النظام القائم" ،وفي مجال اإلجراءات على المشرع البحث عن توازن مرضي بين حقوق االتهام وحقوق
الدفاع ،ألن القانون يحمي الحقوق الفردية بقدر حمايته للمصلحة العامة ،أو مصلحة المجتمع ،ووجود هيئات قضائية
قانونية مشكلة قبل ارتكاب الجريمة ،حيث يقتضي المبدأ أن يعرف الشخص المحكمة المختصة مسبقا بمقدار معرفته
بالجريمة والعقوبة ،وافتراض البراءة ،ووقوع عبء اإلثبات على النيابة العامة ،وعالنية الجلسات حتى يتسنى للرأي
العام مراقبة استقاللية السلطة القضائية ،واستقاللها عن السلطة التنفيذية.
][57
الفرع الثاني
أقسام الشرعية الجنائية
ف ي حقيقة األمر الشرعية الجنائية جزء من الشرعية العامة ،لكن مساسها بالحقوق والحريات هو الذي
جعلها تبرز على غيرها من أقسام الشرعية األخرى في الدولة ،حيث كلما أطلق لفظ الشرعية ،انصرفت األذهان إلى
الشرعية الجنائية مباشرة ،وتعني الشرعية الجنائية ،شرعية التجريم والعقاب وشرعية المتابعة الجزائية ،وهي بذلك
تتكون من قسمين رئيسيين ،هما الشرعية الموضوعية وتشمل شرعية التجريم والعقاب ،والقسم الثاني ويتمثل في
الشرعية اإلجرائية التي تختص باإلجراءات الواجبة في متابعة الجاني منذ وقوع الجريمة لغاية الحكم عليه نهائيا بحكم
نهائي بات حائز لقوة الشيء المقضي به ،ويضيف البعض شرعية التنفيذ العقابي.
أوال :الشرعية الموضوعية( شرعية التجريم والعقاب)
و هي الحلقة األولى أو القسم األول من أقسام الشرعية الجنائية ،وهو ما يعبر عنه بال جريمة وال عقوبة
وال تدبير أمن بغير نص ،مما معناه حصر مصادر التجريم والعقاب في النص التشريعي الصادر عن السلطة المختصة
بذلك وفقا لألحكام الدستورية في الدولة ،وهو ما نص عليه المشرع الجزائري في نص المادة األولى من تقنين
العقوبات ،وفي العادة ما يقصد بالشرعية الجنائية هذا القسم دون سائر األقسام األخرى .وبالتالي مقتضى هذا القسم من
أقسام الشرعية الجنائية ،حماية اإلنسان من خطر التجريم والعقاب بغير األداة التشريعية المعبرة عن إرادة الشعب،
وزيادة على ذلك أن يكون هذا القانون قبل ارتكاب الفعل ،ودون أن يطبق بأثر رجعي ،معبرا عن ذلك بعدم رجعية
النصوص الجنائية كقاعدة عامة ،وحظر القياس على القاضي ،في مجال التجريم والعقاب ،وإن كان يجوز ذلك في غير
مسألتي التجريم والعقاب ،سيما فيما يخدم مصلحة المتهم ،وكذا إلزام القاضي بمبدأ التفسير الضيق وذلك بإتباع قواعد
خاصة في التفسير الكاشف فقط عن إرادة المشرع عند وضع النص .وإن سمح للسلطة التنفيذية بالتجريم في بعض
المجاالت فإن ذلك يعد استثناء والعتبارات تقدرها السلطة التشريعية ذاتها وفي الحدود الضيقة التي بينها الدستور ووفق
الضوابط التي حددها – هي األمور التي نتبينها أكثر عن تناولنا لنتائج مبدأ الشرعية .-غير أن الشرعية الموضوعية
تبقى حلقة من حلقات الشرعية الجنائية ،ال تكفي وحدها لحماية حرية اإلنسان في حاالت القبض عليه أو حبسه أو اتخاذ
إجراءات المتابعة ضده ،أو محاكمته ،ومن هنا يبدو قصور القسم األول للشرعية الجنائية ،طالما كان من الممكن
المساس بحرية المتهم بغير قانون وبعيدا عن قاعدة ال جريمة وال عقوبة إال بنص ،خاصة في حالة إهدار قرينة البراءة
وإلزام الشخص على إثبات براءته مع الوضع الذي يفترض اإلدانة ،لذا كان يجب تكملة الحلقة السابقة ،بحلقة أخرى
أكثر أهمية ،وهي الشرعية اإلجرائية.
ثانيا :الشرعية اإلجرائية
وهي أن تكون الجهات واألجهزة واإلجراءات التي تتبعها هذه األخيرة مقررة بموجب نصوص قانونية،
وهي الحلقة التي تكفل احترام الحرية الشخصية للمتهم ،وافتراض براءته في كل إجراء من اإلجراءات التي تتخذ ضده،
وبذلك تكون الشرعية اإلجرائية امتداد طبيعي لشرعية الجرائم والعقوبات ،بل في الواقع أكثرها أهمية وأعظمها شأنا،
فهي اإلطار الذي ال يمكن تطبيق القاعدة الموضوعية إال من خالله ،وتقوم الشرعية اإلجرائية أساسا على افتراض
براءة المتهم ،وأال يتخذ ضده أية إجراء إال بنص في قانون اإلجراءات الجنائية ،والثالث يتمثل في ضرورة إشراف
القضاء على كل اإلجراءات المتخذة ضده باعتبار القضاء الحارس الطبيعي للحقوق والحريات] .[32حيث أن قرينة
البراءة ال تسقط إال بحكم بإدانة المتهم ،وهنا فقط يصبح أمر المساس بحريته أمرا مشروعا بحكم القانون ،غير أن ذلك
ال يعد حقا مطلقا ،بل يجب أن يتحدد نطاقه وفقا للهدف من الجزاء الجنائي ،ومن هنا تظهر أهمية الحلقة الثالثة من
حلقات الشرعية الجنائية ،وهي شرعية التنفيذ العقابي.
ثالثا :شرعية التنفيذ العقابي
شرعية التنفيذ العقابي تعد الحلقة الثالثة من حلقات الشرعية الجنائية ،حيث تقتضي أن يجري تنفيذ الحكم
الصادر ضد المتهم وفقا للكيفيات التي حددها القانون ،تحت رقابة وإشراف القضاء ،خاصة في ظل االهتمام المتزايد
بهذه المرحلة الذي بدا مع مدرسة الدفاع االجتماعي ،وتبلور مع منظمة األمم المتحدة التي قامت بإصدار القواعد
النموذجية الدنيا لمعاملة المساجين ،التي بينت بدقة المبادئ التي تحكم مرحلة التنفيذ العقابي ،مما يعد شرعية لهذا التنفيذ،
][58
وبالتالي يمكننا القول أن هذه الحلقة لم تبق مجرد مبدأ دستوري بل ارتقت لمرتبة المبادئ الدولية مع صدور قرار عن
الجمعية العامة لألمم المتحدة توصي الدول بضرورة العمل بالقواعد النموذجية الدنيا السابقة ،وهو القرار رقم -2858
في ،1971 -12-20والقرار 8/32في 1974-11-06وهي القواعد التي عنيت الدول بإدراجها في قوانينها ،باعتبار
القانون األداة التشريعية الصالحة للشرعية الجنائية ،وهو ما قام به المشرع الجزائري في قانون تنظيم السجون ،خاصة
القانون األخير قانون تنظيم السجون وإعادة اإلدماج االجتماعي للمحبوسين رقم 04-05المؤرخ في .2005-02-06
وتقوم شرعية التنفيذ العقابي على ضرورة تحديد أساليب التنفيذ وضماناته وأهدافه المنصوص عليها بالقانون المعبر عن
إرادة الشعب والذي سمح بالمساس بحرية الشخص أو حياته ،وأن يكون تنفيذ العقوبة خاضعا إلشراف قاضي يطلق
عليه قاضي تنفيذ العقوبات.
] - [1غير أن هذا ال يمنع من القول ،بأنه هناك قلة من القوانين الجنائية قد اهتمت بوضع تعريف للجريمة ،مثلما هو
الشأن بالنسبة لقانون العقوبات اإلسباني لسنة 1928أين عرفت المادة األولى منه الجريمة بأنها :عمل أو امتناع عن عمل إرادي
يعاقب عليه القانون" ،وقانون العقوبات المغربي لسنة 1963الذي عرف الجريمة بأنها " :عمل أو امتناع مخالف لقانون الجنائي
ومعاقب عليه بمقتضاه " ،فإن باقي القوانين األخرى لن تول المسألة اهتماما ،مما جعل من مسألة تعريف الجريمة مسألة فقهية.
والسبب في ترك المشرع المهمة للفقه ،سببه مثلما يرى البعض ،أن وضع التعاريف هي لعبة الفقهاء ،ومن جهة ثانية حتى ال
يتورط المشرع في وضع تعريف قد ال يكون ال بالجامع وال بالمانع مما يجعله مقصرا قانونا ،ويجعله يقلل من تطبيق القواعد
واألسس التي وضعها المشرع بعد ذلك في القانون.
] - [2وإن كان هناك من يرى بأن التعريفات القانونية للجريمة تجعلنا نسميها ب":الجريمة المقننة"وهي تشمل كل
التعريفات الفقهية المستمدة لوجهة نظر قانونية ،وهي السلوكات سواء كانت أوامر أو نواهي نصت عليها القاعدة الجنائية ،أما
الجريمة غير المقننة ،فهي كل مخالفة لصحيح األمور وأعرافها وفقا لألعراف والبيئة ،سواء نص عليها المشرع أم لم ينص،
وبذلك يكون مفهومها أوسع من مفهوم الجريمة المقننة ،وهناك نوع ثالث وهي ":الجريمة الحية" ،ويقصد بها تلك الجريمة التي
وقعت بالفعل وفقا للنموذج القانوني ،حيث لم تبق مجرد نص بل قام بها الجاني فعال ،والجريمة النظرية هي الجريمة المقننة وفقا
لوجودها القانوني ال الواقعي أي التي لم ترتكب بعد ،بل وفق تصور المشرع لها.
] - [3وهو موقف تق ليدي للفقه الفرنسي ،الذي يركز على الركن الشخصي أي المعنوي ،وبموجب هذا االتجاه فقط يمكن
التمييز بين الشخص المسؤول والشخص غير المسؤول جنائيا ،واعتبر هذا االتجاه الركن المعنوي بأنه ركن البغي أو العدوان،
مثل= =بالنيول ومانيول الذين عرفوا الجريمة أنها ":خرق القانون الذي سنته الدولة من أجل سالمة المواطنين بواسطة عمل
خارجي لإلنسان إيجابي أو سلبي وليس مباحا بواسطة القيام بالواجب أو استعمال الحق ،ومعاقبا عليه من قبل القانون
الجنائي".
] - [4االتجاه الموضوعي في تعريف الجريمة أو في غيره من نقاط البحث القادمة ،وهو االتجاه األلماني ،الذي يعرف
الجريمة تعريف موضوعي محض ،وباختصار يعرفونها بأنها " :الخرق المادي ألحكام القانون الجنائي" ،ويستبعدون تماما
العنصر الشخصي المتمثل في مرتكب هذه الجريمة ،والمهم لديهم انه هناك جريمة وقعت بغض النظر عن شخصية مرتكبها،
ويركزون فقط على الركنين المادي والقانوني .وهو بالتالي اتجاه يقودنا لفكرة " موضوعية الجريمة L’objectivité de
" l’infractionالذي يعني النظرة للجريمة كواقعة من الوقائع المدنية ،مما يخرجنا من إطار القانون الجنائي ،إلى النظر إلى
الجريمة بنظر فقهاء القانون الخاص ،أو فقهاء القانون المدني ،كونه يهمل أهم عنصر يركز عليه القانون الجنائي أكثر من أي
قانون آخر وهو شخصية الجاني وما يكمن لديه من مقدار للخطورة اإلجرامية ،وسبق القول بأن أهم ما يعطي للقانون الجنائي
ذاتيته انه يهتم بعنصر العمد والخطأ وهي مسائل شخصية وليست وقائع مادية ينظر إليها بنظرة موضوعية مجردة ،حيث يركز
على الماديات ويهل تماما المسائل الشخصية ،حيث ال اهتمام لدى أنصاره باإلرادة واإلثم والبغي والعدوان ..وإن كان ألنصار
هذه المدرسة فضل كبير في نظرية الشروع ،وظهور فكرة الجرائم المادية ،ويرون بأن الركن المعنوي مجال دراسته مختلف
تماما ،وهو ال يتعلق باألفعال والوقائع المادية التي تعد أساس ومحور قانون العقوبات ،إذ المشرع لم يتدخل لتجريم فعل من
األفعال إال بالنظر لخطورته وأثاره الضارة على المصالح االجتماعية ،خاصة وأن التجريم يتم بنظرة عامة مجردة دون أخذ بعين
االعتبار للشخص الفاعل الذي يكون مجهوال عند وضع النصوص الجنائية ،وهو أمر وجيه نسبيا في نظرنا .لكن ذلك ال يجب
أن يجعلنا ننسى بأنه ،وفقا للمنطق القانوني ،بأن الجريمة وإن كان معاقبا عليها ،فهي ألنها تمثل عرضا من أعراض اإلرادة اآلثمة
][59
والتفكير اآلثم ،األمر الذي يقود لعدم إهمال الجانب الشخصي تماما ،إذ هذا الجانب يجب أن يبقى نصب األعين عند دراسة
الجريـــــــمة.
] - [5ف ي الحقيقة المشرع حكما يعتبر الفعل تهديدا بالمصالح الجوهرية للمجتمع ،وهي الخاصية المرتبطة بسابقتها
والتي تضفي على الجريمة كفكرة قانونية حقيقتها االجتماعية ،حيث الجريمة في حقيقتها ال تعد مساس أو تهديد بالمساس بقيم
جوهرية خالدة للمجتمع ،بل بما يراه المشرع حكما أنها كذلك كونه سبق القول بنسبية الجريمة ،فالتطور قد ينقلب على هذه القيم،
فالتطور الحاصل مثال في المجتمع األوروبي انقلب على " قيم العفة" حيث كانت جريمة الزنا أمرا مجرما في هذه المجتمعات،
غير أن قيمة التحرر تغلبت على قيمة العفة ،ودخل قيم التحرر من القيم الجوهرية للمجتمع وأخرجت قيمة العفة ،وهو األمر دوما
في مجال التطور االقتصادي والسياسي واالجتماعي ،التي أثبتت كلها حركة الخروج والدخول من النظم القيمية للمجتمع ،هذه
األخيرة التي أضحت بدورها في حركة تطور مستمرة ،لذا فالمشرع عند تقريره قيمة معينة ما فإنه يكون متحكما ال حكما مما قد
يؤدي إلى شعور األفراد اإلحساس بصدقية تأثيم هذه األفعال ويؤثر سلبا في نهاية األمر على أداء القاعدة الجنائية وعلى وظيفة
الردع التي يسعى لتحقيقها الجزاء الجنائي ،وقد أدرك الفقيه اإليطالي جاروفالو منذ زمن بعيد هذه الحقيقة ،وذلك بتقسيمه الجرائم
إلى طائفتين أساسيتين هي طائفة الجرائم الطبيعية وطائفة الجرائم االصطناعية
] - [6وقد تتعلق بصفة المجني عليه ،كالقاصر في جريمة االعتداء على قاصر أو خطفه ،وصفة الميت في جريمة
االعتداء على حرمة الموتى ،كما قد تتعلق بزمان أو مكان ارتكاب الجريمة ،كزمن الحرب ،والطريق العام ،والمكان
العمومي...في جرائم السكر العلني والقذف والفعل العلني المخل بالحياء ...أو زمن الحرب في بعض الجرائم،"...
] - [7ويرى بعض الفقه أن الشروط المفترضة ،هي أوضاع قانونية أو واقعية سابقة على وجود الجريمة ،في حين يرى
البعض أن الرأي السابق غير صحيح من حيث اعتبارها أركان بل هي ظروف متعلقة بالركن المادي للجريمة ،أحيانا تقوم به
الجريمة وأحيانا به يمكن تحديد نوعها ،كصفة الطبيب في جريمة اإلجهاض .وهي بذلك ال تعد من عناصرها ومحل دراستها
النظرية العامة للجزاء .ويرى البعض أن الشروط المفترضة بالرغم من أنها من المكونات القانونية للجريمة ،فهي ال تعد من
مكوناتها المادية بل هي سابقة على الوقوع المادي للجريمة ،فهي بذلك تخضع للقواعد غير الجنائية على عكس الركن المادي
للجريمة.
] - [8وهو التقسيم الذي تأخذ به أغلب التشريعات الجنائية ،أساسه اختالف الجرائم بحسب جسامتها ،وهي الجسامة
التي تكشف عنها العقوبة المقررة للجريمة ،وهي الجسامة التي تتحدد بناء العتبارات تتعلق في العادة بالركن المادي أو الركن
المعنوي أو الركن الوصفي .ونجد غالبية التشريعات قد نهجت هذا النهج ،الذي يعد في حقيقته نهجا فرنسيا في األساس ،والذي
يقسم الجرائم على جنايات ،Crimesوجنح ،Délitsومخالفات ،Contraventionsوبعض التشريعات فضلت التقسيم الثنائي
إلى جنح ومخالفات فقط ،مثل القانون الجنائي اإلسباني واإليطالي لسنة ،1930والقانون النرويجي والهولندي والبرتغالي.
] - [9حيث أن نص المادة 27هو الذي بين هذا المعيار ،في حين شرح المعيار ورد بالمادة 5من تقنين العقوبات،
ومنهجيا كان يجب تبيان التقسيم قبل تحليل الخطورة أو الجسامة الواردة في المادة .5
] - [10المادة ( 5القانون رقم 23-06المؤرخ في 20ديسمبر ": )2006العقوبات األصلية في مادة الجنايات
هي )1:اإلعدام )2،السجن المؤبد )3،السجن المؤقت لمدة تتراوح بين خمس ( )5سنوات وعشرين ( )20سنة.العقوبات األصلية
في مادة الجنح هي )1 :الحبس مدة تتجاوز شهرين إلى خمس سنوات ما عدا الحاالت التي يقرر فيها القانون حدودا أخرى،
)2الغرامة التي تتجاوز 20.000دج .العقوبات األصلية في مادة المخالفات هي )1:الحبس من يوم واحد على األقل
إلى شهرين على األكثر )2،الغرامة من 2000دج إلى 20.000دج".ونشير أنه قبل سنة 2006كان تطبيق عقوبة السجن يحول
دون توقيع عقوبة الغرامة معها ،غير أن المشرع الجزائري أدرج في هذا التعديل نص المادة 5مكرر سمحت بالجمع بين
العقوبتين ،حيث نجد المادة 5مكرر ( القانون رقم 23-06المؤرخ في 20ديسمبر ": )2006إن عقوبات السجن المؤقت ال
تمنع الحكم بعقوبة الغرامة ".
] - [11حيث نصت المادة 30على أنه " :كل المحاوالت الرتكاب جناية تبتدئ بالشروع في التنفيذ أو بأفعال ال لبس
فيها تؤدي مباشرة إلى ارتكابها "....في حين نصت المادة 31على أنه " :المحاولة في الجنحة ال يعاقب عليها إال بناء على نص
صريح في القانون .والمحاولة في المخالفة ال يعاقب عليها إطالقا".
] - [12ونصت المادة على أنه ":يعاقب الشريك في جناية أو جنحة بالعقوبة المقررة للجناية أو الجنحة ...وال يعاقب
على االشتراك في المخالفة على اإلطالق".
] - [13حيث نصت المادة ( 176القانون رقم 04-15المؤرخ في )2004-11-10 :من ق ع ج على أنه " :كل جمعية
أو اتفاق مهما كانت مدته وعدد أعضائه تشكل أو تألف بغرض األعداد لجناية أو أكثر ،أو لجنحة أو أكثر ،معاقب عليها بخمس
][60
سنوات حبس على األقل ،ضد األشخاص أو األمالك تكون جمعية أشرار ،وتقوم هذه الجريمة بمجرد التصميم المشترك على القيام
بالفعل ".في حين بينت المادة 177من ذات القانون المعدلة بموجب المادة 60من القانون رقم 23-06المؤرخ في-12-20 :
2006العقوبات المقررة لهذه الجريمة.
] - [14التي نصت على أنه ":في حالة منح الظروف المخففة في مواد المخالفات ،فإن العقوبات المقررة قانونا بالنسبة
للشخص الطبيعي ال يجوز تخفيضها عن حدها األدنى"..
] - [15التي نصت على أنه ":يعاقب العائد في مادة المخالفات المنصوص عليها في هذا الباب بالحبس مدة قد تصل إلى
أربعة أشهر وبغرامة قد تصل إلى 40.000دج".
] - [16حيث نصت على أنه ":يعاقب العائد في مادة المخالفات المنصوص عليها في هذا الباب بما يأتي"...
] - [17فمثال إذا أفاد القاضي شخص متهم بالسرقة الموصوفة وهي جناية عقوبتها خمس سنوات سجن فما فوق،
بظروف التخفيف وقضى عليه بعقوبة ثالث سنوات ،فيجب أن تكون سجنا والجريمة جناية ،حيث ال يمكنه تغيير وصف الجناية
إلى جنحة على اعتبار أنه قضى بعقوبة تطبق أصال على الجنح.
] - [18مثل الحاالت التي يرتأى فيها المشرع تشديد عقوبة الجنحة وتوقيع عقبات الجناية عليها ،فإن ذلك يغير من
وصف الجريمة ،مثل التشديد في عقوبة جنحة السرقة التي تتحول في هذه الحالة إلى جناية السرقة الموصوفة.
] - [19حيث يرى البعض أن اإلجرام السياسي قديم قدم السلطة ،لذا فهي عرفت منذ أقدم العصور التي بدأت فيها تتبلور
الفكرة األولى للدولة ،لذا رأى البعض أنها من أعمق المآسي التي عرفها التاريخ واإلنسان.
] - [20و قد عرفت أوروبا في العهد الملكي والعصر الكنسي شهدت أوروبا في هذه الحقبة من الزمن أهم الشواهد
المرعبة على معاقبة المجرم السياسي ،ولم تتغير العقوبة على المجرم السياسي حتى بعد الثورة الفرنسية التي بزغ معها فجر
األمل حيث ظل يعاقب باإلعدام ،بالرغم من حلول الدولة محل الذات الملكية ،ولم تلغ عقوبة اإلعدام إلى مع الجمهورية الفرنسية
الثانية عام
،1848غير أن التشديد زادت حدته ما بين الحربين العالميتين ،خاصة مع وصول األحزاب المتطرفة إلى الحكم.
] - [21ع لى الرغم من أن أنصار هذه المدرسة ذاتهم اختلفوا حول المصدر حيث منهم من اعتمد على الباعث أو الدافع،
ومنهم من اشترط الفرض أو الغاية ،وهناك من جمع بينهما ،غير أنهم يتفقون في النهاية على االعتماد بالدرجة األولى والخيرة
على نفسية المجرم وحالته الروحية.
] - [22و ال يدرج البعض المعيار المختلط كمعيار ثالث ،بل يسميه المعيار السياسي ،الذي يبنى على نوعية نظام الحكم
والمعتقدات السياسية السائدة فيه ،ومدى استقرار النظام فوفقا لهذه المتغيرات تتغير طبيعة المجرم السياسي ،فهو عنصر ضروري
للتطور في النظم الديمقراطية وعنصر خطر في األنظمة الفردية االستبدادية ،وبواعثه تكون مبعث التخفيف في عقابه في النظم
الديمقراطية ،وبالعكس من ذلك في النظم الديكتاتورية..
] - [23حيث عرفت بأنها:
« Sont des délits politiques , les infractions dirigées contre l’organisation et le
fonctionnement de l’Etat, Ainsi celles qui sont dirigées contre le droit qui en résultent pour les
» citoyens
] - [24كم عرفت أنها :الفعل غير المشروع الذي يرمي به مباشرة أو بطريق غير مباشر إلى تغيير الوضع السياسي
في الدولة ،وتتميز عن الجريمة السياسية في أن الباعث إليها يكون سياسيا] ،[24وهو اتجاه تبنى المعيار الشخصي أيضا.
كما عرفت ":الجريمة السياسية عمل سياسي يحرمه القانون ،فهي صورة للنشاط السياسي الذي استعجل صاحبه طريق
القانون ،فحملته العجلة في تحقيق أهدافه أو الميل إلى العنف في مواجهة الخصوم على أن يستبدل باألسلوب الذي يرخص له
القانون أسلوبا يحظره ،ويخلص من ذلك أن األصل في الجريمة السياسية أن تتجه إلى العدوان على الحقوق السياسية للدولة ،وأن
تحمل على ارتكابها دوافع سياسية تتصل بتوجيه النشاط السياسي للدولة على نحو معين
] - [25ي رى البعض أن مبدأ الشرعية الجنائية لم يظهر إال مع اللحظة التي تحددت فيها سلطات الدولة ،وانفصلت كل
منه عن األخرى ،ففي عهد الملكية المطلقة كانت أوامر الملك هي القانون وله مطلق اإلرادة في مجال التجريم والعقاب ،وفي
القرون الوسطى انتقلت هذه السلطة للقضاة وظل الحال كذلك حتى اشتد نقد الفالسفة والكتاب لهذا الوضع.
] - [26ي رى البعض أن مبدأ الشرعية الجنائية لم يكن معروفا قبل الثورة الفرنسية ،وإن كان عرف في مراحل معينة
من التاريخ ،إال انه لم يكن بالشكل الحالي ،ويرى هذا االتجاه أن األمر يختلف بخصوص اإلجراءات ،حيث لم تترك إطالقا للتحكم
واألهواء ،حيث كان هناك مبدأ فقهي قديم سائد ،يعبر ":العدالة ال شيء غير الشكلية".
][61
] - [27حيث يرى البعض بأن مبدأ الشرعية الجنائية يتدخل بشكل أو بآخر بمبدأ الفصل بين السلطات ، ،حيث إن منح
القاضي اختصاص التجريم والعقاب نكون قد سلبنا المشرع اختصاصه ،كونه ممثل اإلرادة العامة ووحده المختص بتقييد الحقوق
والحريات ،وأن المشرع وحده الذي تنازل له األفراد على مقدار معين لتقرير ذلك نيابة عنهم ،عن طريق القانون الجنائي الذي
يعد المصر الوحيد للتجريم والعقاب.
] - [28إن كانت هذه هي نظرتنا وتلخيصنا لفلسفة مبدأ الشرعية ،فإن بعض الفقه يرى أن المبدأ يقوم على دعامتين
أساسيتين ،هما حماية الحرية الشخصية وحماية المصلحة العامة ،حيث قام المبدأ أصال لحماية الحريات الشخصية من صنوف
التعسف والتحكم االستبداد الذي عانت منه ردحا طويال من الزمن ،حيث مثل هذا المبدأ يكفل األمن والطمأنينة لألشخاص
بتوضيحه المحظور من المباح مسبقا ،حتى يتم تفادي عنصر المفاجأة الذي كان سائدا في القدم ،وفيما يتعلق بالمصلحة العامة،
فمبدأ الشرعية الجنائية بما يقرره من مبدأ انفراد التشريع في مسائل التجريم والعقاب واإلجراءات وكل ما يتعلق بالحقوق
والحريات الشخصية ،يعبر عن فعلية ممارسة ممثلي الشعب االختصاص في مجال الحريات والحقوق ،وفي هذا قضت المحكمة
الدستورية العليا في مصر ،أنه ":القيم الجوهرية التي يصدر القانون الجنائي لحمايتها ،ال يمكن بلورتها إال من خالل السلطة
التشريعية التي انتخبها المواطنون لتمثيلهم ،وأن تعبيرها عن إرادتهم يقتضيها أن تكون بيدها سلطة التقرير في شأن تحديد األفعال
التي يجوز تأثيمها وعقوباتها لضمان مشروعيتها ،".وهو األمر الذي يقود في النهاية في تنمية الروح االجتماعية وتحقيق التماسك
االجتماعي وبما يحفظ أيضا ثقة الشعب في دولته وفي األخير تحقيق األمن القانوني الذي يعد أساس االستقرار في المجتمع.
] - [29ومبد الشرعية الجنائية يعد تجسيدا لدولة القانون ،التي يمكن تلخيص معناها بما قررته المحكمة الدستورية العليا
في مصر في قولها " :الدولة القانونية هي التي تتقيد في كافة مظاهر نشاطها – أيا كانت طبيعة سلطاتها -بقواعد قانونية تعلو
عليها وتكون بذاتها ضابطا ألعمالها وتصرفاتها في أشكال مختلفة ،ذلك أن ممارسة السلطة لم تعد امتيازا شخصيا ألحد ،ولكنها
تباشر نيابة عن الجماعة ولصالحها ...فدولة القانون هي التي يتوافر لكل مواطن في كنفها الضمانة األولية لحماية حقوقه
وحرياته ،ولتنظيم السلطة وممارستها في إطار من المشروعية ،وهي ضمانات يدعمها القضاء من خالل استقالله وحصانته،
لتصبح القاعدة القانونية محورا لكل سلطة ،ورادعا ضد العدوان.
] - [30غالبية الفقه الجنائي يعرف مبدأ الشرعية الجنائية ،بأنه ":نص التجريم الواجب التطبيق على الفعل" ،أو هو :
النص الجنائي الذي يضفي على الفعل أو االمتناع الصفة غير المشروعة ،إذ أن السلوك ال يكتسب وصفه كجريمة ،إال منذ أن
تقرر له ذلك بموجب نص قانوني جزائي .غير أن هذا التعريف انتقد بشدة ،من حيث أنه من غير المعقول ،حسب بعض الفقه ،أن
يكون النص القانوني ركنا في الجريمة في حين هو خالقها ومصدر وجودها ،وال يمكن للعقل تصور اعتبار الخالق مجرد عنصر
فيما خلق ،وهو االنتقاد الذي دفع ببعض الفقه إلى إعطاء مدلول آخر للركن الشرعي ،واعتباره " الصفة غير المشروعة للفعل"،
التي إن لم تتوفر له ال حاجة لنا للبحث عن األركان األخرى ،حيث أنه الركن الذي بموجبه يحدد المشرع التصرفات والسلوكات،
سواء كانت أفعاال أو امتناعات التي يقدر عدم مشروعيتها ،وبذلك يكون قد حدد الركن المادي للجريمة ،كما انه بموجبه تحدد
العلقاة بين هذه التصرفات والشخص المجرم ونفسيته وإرادته اتجاهها ،وبذلك يكون المشرع قد حدد الركن المعنوي للجريمة،
وبذلك يكون النص مصدر للصفة غير المشروعة للفعل ،المبين في قانون العقوبات والقوانين المكملة له ،مبينا النموذج القانوني
الذي ينبغي أن يكون عليه الفعل أو االمتناع حتى يعد مجرما ،أو تصميمه وبناءه القانوني ،وكذا الجزاء الجنائي المقرر له قانونا.
وبذلك ال يكون النص خالقا للجريمة وإنما مبينا للتصميم أو النموذج الذي يجب أن يتخذه السلوك حتى يعد جريمة .خاصة وأننا
نرى أن الفعل أو السلوك سابق في وجوده عن النص ،وبالتالي المشرع لم يخلق الفعل ،بل بين الحاالت التي يكون فيها إتيانه
غير مشروع ،كون األصل في األشياء اإلباحة ،واالستثناء التجريم.
] - [31ويرى البعض أن الكثير من الدراسات الفقهية يفهم منها أن مبدأ الشرعية الجنائية ،ينطبق فقط على القانون
الجنائي الموضوعي في مفهومه الضيق ،stricto sensuدون التركيز على القانون اإلجرائي ،أي قانون اإلجراءات الجزائية،
وهو مفهوم خاطئ يرجع باألساس لمسألة دراسة مبدأ الشرعية الجنائية في إطار دراسة القانون الجنائي الموضوعي ،لذا يرى هذا
االتجاه أن نقول " ال جريمة وال عقوبة وال إجراءات جنائية إال بناء على قانون" ،ونرى نحن ،أن يمتد األمر حتى مرحلة
ا لتنفيذ العقابي ،ليكون المبدأ يعبر على أنه ال جريمة وال جزاء وال إجراء وال تنفيذ إال بنص قانوني.
] - [32لذا نجد الفقه يرى بأن قانون العقوبات هو قانون اللصوص ،بينما قانون اإلجراءات الجزائية هو قانون الشرفاء
أو قانون الحقوق والحريات.
][62
الفرع الثالث
االنتقادات الموجهة لمبدأ الشرعية الجنائية:
ف ي الحقيقة ،مبدأ الشرعية الجنائية لم يكن محل انتقادات في القرن التاسع عشر ،أو على األقل خالل
جزء كبير منه ،غير أنه تم البدء بتوجيه االنتقادات له مع ظهور المدرسة الوضعية اإليطالية ،والمدارس الالحقة لها،
غير أن هذه االنتقادات لم تنل من قيمة وأهمية المبدأ ،بوجود الرأي الغالب في الفقه في جانب المدافعين عنه ،األمر الذي
كرسه كمبدأ قانوني ودستوري ودولي ،وهو ما نبينه باختصار في النقطتين التاليتين.
أوال :معارضي مبدأ الشرعية الجنائية
من بين االنتقادات التي وجهت له ،أنه أخذ على المبدأ عدم قدرته على إعطاء تعريف دقيق ومرض للجرائم،
حيث هناك العديد من األفعال التي تعد ال اجتماعية وال أخالقية وال يستطيع المشرع اإلحاطة بها ،وحصرها من خالل
نصوصه ،مما يجعل الكثير من المجرمين يفلتون من العقاب ،لذا يرى البعض اإلفالت من المبدأ أو على األقل إعطاء
سلطة واسعة للقاضي في تفسير النصوص والقياس عليها .كما أخذ عليه ،إهماله لشخصية الجاني ،كونه هناك الكثير من
األشخاص الخطرين الذي يجب الحجز عليهم حتى قبل ارتكابهم للجرائم .وهناك العديد من األشخاص ال يمكن القضاء
على الخطورة اإلجرامية لديهم حتى بعد انقضاء مدة عقوبتهم ،ومع هذا النوع ال يستطيع ال المشرع وال القاضي التحديد
المسبق لمدة العقوبة الواجبة التطبيق عليهم ،إذ ذلك مرهونا بزوال حالة الخطورة اإلجرامية لديهم .وهي االنتقادات التي
كان لها صدى عميق على التشريعات الجنائية النازية والشيوعية لغاية سنة ،1958حيث استبعد تطبيق المبدأ نهائيا،
وجزئيا في التشريع اإليطالي الفاشي.
ثانيا :أنصار مبدأ الشرعية الجنائية
االنتقادات السابقة ،أقلقت كثيرا أنصار مبدأ الشرعية ،ودفعهم لعقد العديد من المؤتمرات الدولية للدفاع عنه،
مثل المؤتمر الدولي للقانون الجنائي المنعقد في باريس سنة ،1937والمؤتمر الدولي للقانون الجنائي الذي انعقد في
الهاي في أوت من سنة 1937كذلك .وتم الرد على االنتقادات السابقة ،حيث رأوا أن إلغائه أو التقييد منه ،يعيدنا إلى
عهد استبدادية القضاة ،بل إلى أخطر من ذلك ،حيث أنه في تلك العصور كانت هناك على األقل بعض المعايير للقضاة
ونوع من الضمير يمكنهم من التوفيق بين مصالح المجتمع ومصلحة المتهم على األقل ،في حين اليوم ال يراعي القضاة
إال المعايير السياسية التي تغلبت على مصالح األفراد ،مثلما حدث مع الشيوعية والفاشية وكل األنظمة الديكتاتورية،
وأما بخصوص االستن اد لحالة الخطورة للقول بمعاقبة األشخاص بمجرد ظهورها لديهم ،فتم الرد بالقول :من الذي يحدد
هذه الخطورة ،فإذا قلنا القاضي فإننا عدنا لعهد التحكم واألهواء ،وإن قلنا المشرع فذلك يعني عودة لمبدأ الشرعية
الجنائية ،كما أنه ال يمكن التسليم بالنقد القائل بأن المبدأ يهمل شخصية الجاني ،وذلك بالنظر لما يوفره مبدأ تفريد العقوبة
المعمول به في جل األنظمة العقابية ،الذي يخفف من حدة مبدأ الشرعية الجنائية ،بإعطاء نوع من الحرية للقاضي في
مراعاة شخصية الجاني عن طريق وضع حدين للعقوبة يختار بينهما القاضي ،وفقا لشخصية الجاني وظروف ارتكابه
للجريمة وحالته .وكذا إقرار نظام التشديد في العقوبة والتخفيف فيها.
المبحث الثاني
][63
النتائج المترتبة على مبدأ الشرعية الجنائية
ي رى الفقه أنه تترتب على مبدأ الشرعية الجنائية ثالثة مبادئ أساسية هي :انفراد التشريع في تحديد
الجرائم والعقوبات ،والتزام التفسير الضيق للقواعد الجنائية ،وعدم رجعية القاعدة الجنائية للتطبيق على ما حدث في
الماضي من وقائع .غير أنه يمكننا القول باختصار ،أن مبدأ الشرعية الجنائية في شقه الموضوعي ،يقتضي في
نظرنا ،أنه ال جريمة وال جزاء إال بنص قانوني صادر عن السلطة المختصة بإصداره وفقا للقانون ،وأن
يكون هذا النص ساريا من حيث الزمان والمكان ،وزيادة عن ذلك أال يمون الشخص خاضعا لسبب من أسباب
اإلباحة ،وهو رأي يمليه علينا وضع تقنين العقوبات الجزائري الذي تناول مبدأ الشرعية الجنائية في المادة األولى
وأردفه بالمادتين 2و 3المتعلقتين بسريان النص الجنائي زمانا ومكانا .لذا سنحاول أن نبين هذا المبحث من خالل ثالثة
مطالب ،نخصص األول للنتائج القانونية العامة لمبدأ الشرعية الجنائية ،في حين الثاني نخصصه لسريان النص الجنائي
من حيث الزمان كونه اإلطار الذي يبين أهم نتائج مبدأ الشرعية المتمثلة في عدم رجعية القوانين الجنائية ،على أن
نخصص الثالث لسريان النص الجنائي من حيث المكان .ونرجئ البحث عن أسباب اإلباحة إلى مبحث ثالث مستقل،
على اعتبار أسباب اإلباحة تخرجنا من نطاق التجريم وتعيدنا على نطاق اإلباحة التي ال يحكمه مبدأ الشرعية الجنائية.
المطلب األول
النتائج القانونية العامة لمبدأ الشرعية
النتائج القانونية العامة التي يرتبها مبدأ الشرعية الجنائية ،هي انفراد التشريع بمجال التجريم والعقاب ،أي أن
يكون النص الجنائي المكتوب الصادر عن السلطة المختصة بإصداره وفقا للدستور وحده المختص بسن قوانين تتعلق
بالتجريم والعقاب ،وأنه يحظر على القاضي اللجوء إلى التفسير الواسع أو القياس في هذا المجال بالذات ،وهو ما نبينه
في الفروع الثالثة التالية.
الفرع األول
انفراد التشريع بالتجريم والعقاب
مبدأ الشرعية الجنائية يقوم أساسا على فكرة العقد االجتماعي ومبدأ الفصل بين السلطات ،وان المجال
الخطير المتمثل بكل ما يمس بحقوق وحريات األفراد يجب أن تمارسه السلطة التشريعية التي تمثل الشعب ،خاصة وأن
هذه السيادة جاءت بعد صراع مرير بين السلطة والفرد ،وهو الصراع الذي انتقل بعدها ما بين الحكومة والبرلمان،
لغاية انتصار البرل مان واستئثاره بمسائل التشريع وإصدار القوانين ،وأضحى سيادة القانون من مبادئ قيام دولة القانون،
غير أن الوضع الحالي في جل الدول واألنظمة ،اشتراك كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية في إصدار القواعد
القانونية ،حيث تصدر السلطة التشريعية القوانين بينما تختص السلطة التنفيذية في إصدار اللوائح ،غير أن ذلك ال ينال
من مبدأ انفراد التشريع ،كون القواعد التشريعية التي تصدرها السلطة التشريعية يجب أن تخضع للدستور ،واللوائح
التي تصدرها السلطة التنفيذية يجب أن تخضع للدستور ولقواعد السلطة التشريعية وقوانينها ،وأن تدرج القواعد
القانونية سمة من سمات الشرعية الجنائية .وهو موقف كل من فقهاء العصر الحديث ودول النظم الديمقراطية ،وقد عبر
المجلس الدستوري الفرنسي عن ذلك في عبارة قصيرة أوردها في قرار صادر عنه سنة ،1973جاء فيه أن سلب
الحرية يتعلق بالمشرع .بينما أكدت المحكمة الدستورية العليا في مصر ،أنه ":الدستور لم يعقد للسلطة التنفيذية
اختصاصا ما بتنظيم شيء مما يمس الحقوق التي كفلها الدستور ،وان هذا التنظيم يتعين أن تتواله السلطة التشريعية بما
تصدره من قوانين ،فال يجوز لها أن تسلبه من اختصاصاها وتحيل األمر برمته إلى السلطة التنفيذية دون أن تقديها في
ذلك بضوابط عامة وأسس رئيسية تلتزم بالعمل في إطارها.".
وانفراد التشريع بالتجريم والعقاب وفقا لما يقضي به مبدأ الشرعية الجنائية ،يعني اختصاص المشرع وحده
بمعالجة المسائل التي تدخل في اختصاصه ،دون أن تزاحمه في ذلك السلطة التنفيذية بما تملكه من سلطة التشريع عن
طريق اللوائح ،غير انه يمكنها عن طريق اللوائح تنظيم وتنفيذ ما أقره من المشرع من قواعد عامة ،ومن المسائل التي
تدخل في اختصاص المشرع وحده كل ما يتعلق بتنظيم ممارسة الحقوق والحريات ورسم حدودها ،فال تملك السلطة
التنفيذية التدخل في هذا المجال دون إذن من المشرع].[1وألن التشريع يعد صادرا من أقدرا السلطات على استجالء
جوانب الصالح العام ،والتعبير عن مقتضياته ،كون السلطة التشريعية تعبر عن إرادة الشعب ،هو فقط الذي يمكن أن
][64
يضمن التوازن بين الحقوق والحريات الفردية وبين مقتضيات المصلحة العامة ،لذا فإن منطقة الحقوق والحريات
محرمة على غير المشرع ،متروكة له وحده باعتباره ممثال للشعب ،ويمارس انفراده هذا طبقا للدستور ،وأن يفعل ذلك
بالكيفية التي حددها الدستور – القواعد القانونية -وال يمكن أن تشاركه السلطة التنفيذية في ذلك ،إال في الحدود التي
ينص عليها التشريع طبقا للدستور.
الفرع الثاني
إتباع قواعد خاصة في تفسير النصوص الجنائية
ي قصد بالتفسير تلك العملية الذهنية التي يمكن عن طريقها التوصل إلى المعنى الحقيقي للنص القانوني،
حتى يتسنى للقاضي تطبيق النص على الوقائع المعروضة عليه للفصل فيها ،خاصة في الحالة التي تكون فيها
النصوص غامضة وتحتمل التأويل أو تثير اللبس ،لذا يتعين على القاضي البحث عن المعنى الذي أراده المشرع من
خالل وضعه لهذا النص ،والتفسير عملية قضائية تخص كل النصوص القانونية ال الجزائية فقط ،حيث كل نص يحتاج
إلى استجالء معناه ومحتواه ،لدرجة أن بعض الفقه رأى انه :ال قضاء بدون تفسير .غير أن القواعد الجنائية ،وبالنظر
لمساسها بحقوق وحريات األفراد ،نجد الدستور قد خصها بقواعد معينة يجب أن يتم إتباعها في حالة إرادة تفسيرها،
خاصة وان اإلخالل بمثل هذه القواعد يخل بمبدأ الشرعية الجنائية ذاته .لذا فكيفية تفسير النصوص الجنائية التي
بطبيعتها تعد نصوصا عامة ومجردة ،تكون بحاولة تطبيقها على الوقائع التي تحدث بالنظر لكل واقعة على حدة،
فالمشرع إن كان يضع النصوص الجنائية ،فالقاضي هو الذي يقع عليه إثبات تطبيقها ،لذا فمن الواجب عليه النظر فيما
إن كانت الواقعة التي حدثت تندرج تحت النص الذي سنه المشرع .والتفسير هو البحث عن المعنى الحقيقي للنص العام
المجرد ،بحيث يمكن تطبيقه على الوقائع المادية ،وهو شأن كل قاعدة جنائية حتى ولو لم يكن يشوبها غموض أو إبهام،
حيث كل قاعدة جنائية ال بد لها من تفسير وشرح] .[2وتقيدا بمبدأ الشرعية الجنائية ،وتحقيقا للعدالة الجنائية ،فإن تفسير
النصوص الجنائية بمختلف أنواعها تخضع لبعض القواعد الخاصة ،حتى ال يكون التفسير اعتداء على مبدأ الشرعية
الجنائية وبالتالي اعتداء على الحقوق والحريات .لذا يرى غالبية الفقه ،بأن القاضي في تفسيره النصوص الجنائية يجب
أن يتبع أسلوب التفسير الضيق أو الحرفي ،وأنصار هذا االتجاه وصلوا حتى دعوة إسناد عملية التفسير للسلطة
التشريعية حتى ال يتحول القاضي إلى مشرع] ،[3وهو تبرير يجد سنده في العصر الذي وجد فيه المبدأ ،حيث ظهرت
المدرسة الكالسيكية كرد فعل عن التحكم والتعسف الذي كان يمارسه القضاة آنذاك ،لكن يرى البعض أن هذا األمر وهم
وال يستند ألي أساس قانوني سوى على العامل الزمني الذي نشأ فيه مبدأ الشرعية الجنائية ،خاصة وان القاضي وهو
يفسر النصوص الجنائية ،ال يعطي رأيه الشخصي وإنما يبحث عن المعنى الحقيقي للقانون ،وعن المعنى الموضوعي
للنص كما أ راده المشرع ،ومن جهة ثانية ،إلزام القاضي بالتفسير الضيق يفترض قانونا أن تكون النصوص الجنائية
الصادرة عن المشرع دقيقة شكال ومضمونا ،وهو غير الموجود في الواقع ،إذ كثيرا ما تتصف النصوص الجنائية بعدم
الدقة ،وينطوي في بعض الحيان على بعض المتناقضات الظاهرية ،ثم أن إرادة المشرع التي ضمنها النص ،ليست مبدأ
جامدا محكومة بالوقائع االجتماعية السائدة وقت صياغة النص ،بل هي إرادة متطورة بتطور الوقائع االجتماعية التي
تعد بلورة إلرادة المشرع ،أو المصلحة تبلور إرادة المشرع وتبعا لها يتحدد نطاق تطبيق نصوصه ،والقانون لم يصنعه
المشرع ليومه فقط ،بل صنع للمستقبل ،وعلى هذا النحو ترك أمر التفسير ألجل تحديد معنى النصوص القانونية في
ضوء التحوالت والتغيرات االجتماعية ،والقاضي في ذلك ملزم دائما باإلرادة المفترضة للمشرع افتراضا منطقيا في
ضوء الوقائع االجتماعية الجديدة ،مع احترامه للصيغة التي استعملها المشرع في صياغة النصوص احتراما لمسألة
االستقرار القانوني ،خاصة وان القانون في الكثير من األحيان يبنى على أفكار متحركة ومتطورة بطبيعتها ،كأفكار
النظام العامة واآلداب العامة ،ومسالة االختراعات العلمية والتطورات التكنولوجية ،ومفهوم المنقول والعقار ...وبالتالي
القاضي في تفسيره للنصوص الجنائية ،يجب أن يبحث عن إرادة المشرع من خالل الصيغة التي عبر من خاللها عن
هذه اإلرادة ،وأن يراعي مجمل األحكام الدستورية المتعلقة بالمسألة حتى يكون تفسير القاضي مطابقا للدستور.
الفرع الثالث
حظر القياس في المسائل الجزائية
][65
ا لقياس هو ":إلحاق واقعة غير منصوص علي حكمها بواقعة أخرى منصوص على حكمها الشتراك
الواقعتين في علة الحكم" ،ذلك أن الحكم يتبع علته وجودا وعدما ،في حين يتوسع بعض الفقه في تعريف القياس ،بحيث
ال يقاس فقط على واقعة بعينها منصوص على حكمها ،ولكن على النظام القانوني في مجمله ،ووفقا لذلك هناك نوعين
وهو من القياس ،قياس شرعي Analogie légaleوقياس قانوني .Analogie juridiqueالقياس الشرعي،
قياس واقعة لم يرد نص بحكمها على واقعة أخرى منصوص عليها ،الشتراك الواقعتين في نفس العلة ،فيطبق على
الواقعة غير المنصوص على حكمها نفس حكم الواقعة المنصوص عليها .وأما القياس القانوني ،هو أن تلحق واقعة
غير منصوص على حكمها ليس بواقعة أخرى بعينها ،ولكن بمجمل المبادئ العامة وروح القوانين ،وتدخل في هذا
االعتبار ،المعطيات األخالقية والدينية واالجتماعية ،وهو الذي كان معموال به في العصر السابق على الثورة الفرنسية،
واختفى في القرن التاسع عشر مع ظهور مبدأ الشرعية الجنائية ،لكنه عاد للظهور ثانية في القرن العشرين مع ظهور
الفقه الجنائي الحديث والمذاهب السياسية االستبدادية ،فرأى أنصار المذهب الوضعي أن ضرورات الدفاع االجتماعي
ضد الظاهرة اإلجرامية تقتضي األخذ بالقياس ،وأثر كذلك المذهب الماركسي الذي ال يأخذ بعين االعتبار إال بالمصلحة
متناسيا حرية الفرد.
و إن كان القياس عموما يعد وسيلة من الوسائل التي تستهدف استكمال النقص الذي يشوب النصوص
القانونية ،وذلك عن طريق إيجاد حل لمسألة لم ينظمها القانون عن طريق استعارة الحل من مسألة مماثلة وضع لها
المشرع حال ،فإنه في المجال الجنائي القياس غير جائز بناء على مبدأ ال جريمة وال عقوبة إال بنص ،حيث يبعد القياس
ضمنيا ،حيث تقييد الحقوق والحريات بيد المشرع وحده مما ينزع من القاضي مكنة اللجوء للقياس في هذه المسائل،
حتى ولو كان النص قاصرا أو القانون مشوب بقصور أو بثغرات ،كون مسألة التجريم والعقاب تمس بالحقوق
والحريات الفردية ،التي يعد أمر التشريع فيها من اختصاص المشرع وحده دون أن يزاحمه في ذلك احد .وإن أمكنت
مزاحمته أحيانا وفي بعض االستثناءات ،من قبل السلطة التنفيذية بما تملكه من اختصاص التشريع سيما في مجال
المخالفات ،فإن ذلك محكوم بنصوص الدستور ،وفي نطاق القواعد العامة للقانون الصادر عن السلطة التشريعية ،لكن
مسألة القياس تجريما وعقابا ،مسألة مستبعدة تماما .خاصة وأن القياس مهمة مناطة بالقاضي الذي ال يملك إزاء
النصوص العقابية سوى التطبيق .دون خلق الجرائم والعقوبات عن طريق القياس.
غير انه تجدر اإلشارة ،إلى أن القياس المحظور ،هو القياس في مجال التجريم والعقاب ،بالنظر لما
تنطوي عليه المسألة من تقييد ومساس بحريات األشخاص وحقوقهم ،سواء تعلق األمر بخلق جريمة جديدة
أ و ظرف تشديد جديد أو عقوبة جديدة ،غير أن النصوص التي تخدم صالح المتهم يجوز فيها القياس ،كأسباب اإلباحة
وموانع المسؤولية أو موانع العقاب ،أو األعذار القانونية المعفية أو المخففة ،ففي هذه الحاالت يعد القياس استصحاب
على األصل العام ،المتمثل ف ي أن األصل في األشياء اإلباحة ،وإن كان القياس ممنوع في التجريم والعقاب كونه قياس
عن استثناء ،فإن القياس في األصل يجوز .خاصة وان القياس في مثل هذه الحاالت يخدم الحريات والحقوق وال يمس
بها أو يقيدها ،ومبدأ الشرعية يقتضي حظر القياس خوفا من اإلفتتات على هذه الحقوق والحريات ،وما عدا ذلك فهو
جائز] . [4وإن غابت بعض األحكام القضائية في الجزائر التي تؤكد عن المسألة ،فإنه محكمة النقض الفرنسية أكدت
بجواز القياس متى كان في صالح المتهم ،حيث سبق وان قاس المشرع الفرنسي على جريمة السرقة بين األزواج
واألصول والفروع التي ال ت وجب سوى التعويض المدني ،على جريمة النصب وخيانة األمانة ،قبل أن تتجسد كنصوص
في تقنين العقوبات ونقل المشرع الجزائري المسألة على قانونا العقابي] .[5كما اعتبر المشرع الفرنسي حالة الضرورة
من أسباب اإلباحة عن طريق القياس على باقي أسباب اإلباحة بالرغم من عدم وجود نص يقرر ذلك ،غير أنه
بخصوص هذه المسألة ،فإن المشرع الجزائري لم يتبناها .غير أن المشرع الفرنسي وفي قانون عقوباته الجديد لسنة
1992والذي دخل حيز النفاذ سنة 1994أدخل حال الضرورة ضمن أسباب اإلباحة بموجب نص المادة .7-122
المطلب الثاني
تطبيق النص الجنائي من حيث الزمان
عدم الرجعية كأثر من آثار مبدأ الشرعية الجنائية
][66
م ن قبيل المسلمات أن النصوص القانونية بما فيها ذات الطابع الجنائي ليست بالنصوص األبدية ،بل
خاضع للتعديل واإللغاء تبعا إلرادة المشرع في مواجهة ظاهرة اإلجرام ،والقاعدة القانونية المعروفة عادة ،أن النص
القانوني ال يطبق على ما حدث من وقائع قبل دخوله حيز النفاذ وال بعد أن تم إلغاءه ،بل يحكم فقط الوقائع والتصرفات
التي حدثت في مرحلة سريانه أو فترة نفاذه ،والنص الجنائي تحكمه قاعدة عامة معروفة في جل األنظمة القانونية وهي
القاعدة التي تعد مكملة لمبدأ الشرعية الجنائية ،أو نتيجة من نتائجه أو أثر من آثاره ،وهي قاعدة عدم رجعية النص
الجنائي للتطبيق على الماضي ،أو قاعدة األثر المباشر والفوري للنصوص الجنائية ،غير أنه مثلما هو الشأن بالنسبة
لكل قاعدة ،فإنه يرد عليها استثناء ،وهذا االستثناء في المجال الجنائي يعد في حد ذاته مبدءا لم تعرف له فروع القانون
األخرى نظيرا ،أال وهو مبدأ " رجعية القانون األصلح للمتهم" ،أو ما عبر عنه المشرع " بالقانون األقل شدة" .وبذلك
تكون المادة الثانية من قانون العقوبات قد تضمنت القاعدة العامة المتمثلة في عدم رجعية النصوص الجنائية ،وذلك في
الفقرة األولى منها ،في حين تضمنت الفقرة الثانية منها االستثناء الذي قلنا انه مبدءا في حد ذاته ،وهو رجعية القانون
األصلح للمتهم ": ،ال يسري قانون العقوبات على الماضي إال ما كان منه أقل شدة".
الفرع األول
قاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية
تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية الذي يقضي بأن تكون عملية التجريم والعقاب بموجب النصوص
التشريعية المكتوبة ،الصادرة عن السلطة المختصة بذلك احتراما لمبدأ الفصل بين السلطات ،وتطبيقا لدولة القانون،
وتحقيقا لمبدأ سمو هذا القانون ،فإن كل ذلك ،وحتى المنطق يقضي أن يكون هذا القانون موجودا ،أي أن يكون النص
سابقا عن الواقعة التي اقترفها الجاني ،كون مبدأ الشرعية يقتضي ضمنيا تخيير الشخص بين ما هو مباح وما هو
محظور ،فعلى األقل المحظور يجب أن يكون مبينا مسبقا .لذا فالمنطق يقتضي أن كل قانون ال يحكم إال الوقائع التي
حدثت في ظل نفاذه وسريان ه ،وال يمتد تطبيقه على ما وقع أو حدث من وقائع سابقة عن نشره وترتيب آثار سريانه]،[6
وفي الحقيقة القاعدة ال يختص بها القانون الجنائي وحده ،بل هي قاعدة معروفة في كل القوانين األخرى ،بمختلف
أقسامها وفروعها ،غير أن اختصاص هذه األقسام والفروع وعدم مساسها بالحقوق والحريات الفردية لم يجعل من عدم
الرجعية مسألة تنال االهتمام مثل االهتمام الذي القته في المجال الجنائي ،وبالتالي تقضي القاعدة أن القانون يحكم فقط
األفعال التي تكون ال حقة أو على األقل معاصرة للحظة سريانه ،دون تلك التي حصلت قبل ذلك ،ولحظة سريان القانون
قد يكون بالنص صراحة على هذا التاريخ ،أو وفقا للقواعد العامة في سريان النصوص القانونية ،وذلك في خالل 24
ساعة من نشره في الجريدة الرسمية أو من وصول هذه األخيرة للمناطق البعيدة أو التي كانت تشهد ظروفا استثنائية
حالت دون وصول الجريدة الرسمية في وقتها.
وبالتالي تعد قاعدة عدم الرجعية ،أو قاعدة األثر الفوري أو األثر المباشر لقانون العقوبات ،من القواعد
األساسية المكملة لمبدأ الشرعية الجنائية ،والتي تقضي وتهدف إلى عدم مفاجأة األشخاص بتجريم أفعال كانت مباحة
وقت ارتكابها ،غير أنه للقاعدة استثناء نصت عليه الفقرة الثانية من تقنين العقوبات الجزائري ،وهي قاعدة رجعية
القانون األقل شدة – على حسب تعبير المشرع الجزائري -أو قاعدة القانون األصلح للمتهم حسب التسمية التي يطلقها
الفقه الجن ائي .وهي االستثناء الذي يعد في حقيقته مبدءا في قانون العقوبات ،الذي نتناوله في النقطة الموالية.
الفرع الثاني
القانون األصلح للمتهم (القانون األقل شدة)
إن كانت قاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية ،قاعدة تعرفها غالبية الفروع القانونية األخرى ،فإن
قاعدة رجعية القانون األقل شدة ،وفقا لتعبير المشرع الجزائري ،أو القانون األصلح للمتهم وفقا لتعبير فقهاء القانون
الجنائي ،تعد في نظرنا قاعدة جنائية خالصة ،يختص بها قانون العقوبات دون غيره من فروع القانون األخرى ،التي إن
أراد المشرع سريانها على الماضي نص على ذلك صراحة ،في حين أنها في المجال الجنائي تعد مسألة قانونية،
][67
القاضي ملزم بإعمالها دون الحاجة للنص عليها ،وذلك أن صالحية القانون للمتهم بأي وجه من األوجه يعد عودة نحو
األصل وهو البراءة ،وبالتالي األصل ال يحتاج على نص بل يقتضيه المنطق] .[7غير أنه لتطبيق فكرة القانون األصلح
للمتهم شروط وضوابط ومعايير يتعين تناولها في النقاط التالية.
أوال :شروط تطبيق القانون األصلح للمتهم
ليستفيد المتهم من القانون األصلح للمتهم يجب أن نشير إلى بعض المسائل الهامة ،فالقول بهذا االستثناء
يعني بالضرورة انه يوجد هناك قانونان ،القانون القديم وهو الذي في ظله ارتكب المتهم جريمته ،وقانون جديد صدر
قبل أن يصدر حكم نهائي بات في القضية ،وإال لوال صدور هذا القانون الجديد لما طرحت مسألة القانون األصلح للمتهم
على بساط البحث ،ومن ثم يجب أن يكون هذا القانون يحمل ما يوحي أنه أصلح للمتهم ،إذ إذا كان أسوأ فال مجال
لتطبيقه أصال ،وبالتالي يمكن تلخيص شروط تطبيق القانون األصلح للمتهم في الشرطين التاليين :أن يكون القانون
الجديد قد صدر قبل صدور حكم نهائي بات في القضية ،وأن يكون القانون الجديد أقل شدة أو أصلح للمتهم من وجهة
نظر القانون ال من وجهة نظر المتهم .وهو ما نبينه في نقطتين مستقلتين ،غير أننا ننبه بأن هناك شرط ثالثا ضمني ال
نحاول تفصيله ،على اعتبار أنه شرط بديهي ،وهو أن نكون فعال أمام تنازع للقوانين أي أن يصدر قانون جديد قبل
صدور حكم نهائي بات على الشخص ،ألننا إن كنا أمام قانون واحد فهو الواجب التطبيق سواء كان شديدا أو كان في
مصلحة المتهم.
-1أن يكون القانون الجديد أقل شدة للمتهم ( أو أصلح للمتهم):
و هي أن يكون القانون الجديد الذي صدر ليزاحم القانون القديم الذي حدثت في ظله الجريمة أصلح
للمتهم ،وبالتالي فالمسألة تتعلق بتنازع القوانين ،وعلى القاضي أن يختار منهما أي قانون يحقق مصلحة المتهم بإعمال
معايير وضوابط قانونية تمكنه من الحكم على صالحية القانون ،حيث األمر غير متروك لتقدير المتهم وال الختياراته،
إذ ما قد يراه المتهم في صالحه ،قد ال يكون كذلك من وجهة نظر القانون ،كما أن مسألة اختيار القانون األصلح للمتهم
مسألة موضوعية يستقل بتقديرها قاضي الحكم في ظل الظروف المحيطة بالقضية وشخصية الجاني] ،[8إذ لهذه
األخيرة دور كبير في تحديد القانون األصلح للمتهم ،سيما في الحاالت الغامضة التي أثارت الكثير من الجدل في الفقه
حول تحديد صالح القانون للمتهم ،لذا وجدت الكثير من األسس والضوابط الموضوعية المستندة أحيانا لبعض الظروف
الشخصية ،التي من شأنها تمكين القاضي من إجراء مقارنة قانونية بين القانونين وتحديد أيهما أصلح لحالة المتهم في
ظل ظروفه التي ارتكب فيها الجريمة.
أ -الضوابط المعمول بها لتحديد القانون األصلح للمتهم:
سبق وأن رأينا انه من خصائص القاعدة أو النص الجنائي أنه يتألف من شقين أساسيين ،شق التجريم
وشق الجزاء ،وأن األولوية للشق األول على الثاني ،كون األخير ما هو إال أثر مترتب عن اقتراف شق التجريم
المتضمن النهي أو األمر ،وأن توقيع الجزاء تحصيل حاصل ،لذا فمسألة تنازع القوانين من حيث الزمان ،والبحث في
أي منهما أصلح للمتهم ،قد ينظر فيه لشق التجريم ،كما قد ينظر فيه لشق الجزاء ،ووفقا للقانون األولوية دوما لشق
التجريم على شق الجزاء ،أي أولوية شق التجريم على شق الجزاء إعماال للمادتين 27و 5من قانون العقوبات
الجزائري] ،[9وتنازع القانونيين قد يكون من حيث شق التجريم وقد يكون من حيث شق العقاب ،أي أن التعديل الذي
مسه القانون الجديد قد يتعلق بأي منهما ،وقد يكون متعلقا بكال الشقين ،لذا أوجد الفقه والقضاء معايير تساعد القاضي
بخصوص الشق األول – شق التجريم -وأخرى تعينه في المقارنة بخصوص شق الجزاء.
أ-1/الضوابط المستمدة من األحكام الخاصة بالتجريم
تطبيقا للمادة 27من تقنين العقوبات الجزائري ،التي قسمت الجرائم إلى جنايات ثم جنح ثم مخالفات،
وبالنظر للمادة 5من ذات القانون التي بينت العقوبات األصلية لكل من هذه األنواع ،فإن القاضي ملزم بإتباع الترتيب
الوارد بهذه المواد ،وبذلك يكون القانون الجديد أصلح للمتهم في الحاالت التي نعطي عليها أمثلة في النقاط التالية ،مع
العلم أن المسألة تنأى عن الحصر ،كون شق التجريم ترتبط به العديد من األفكار المتعلقة باإلباحة والمسؤولية وموانعها
والنظريات المعمول بها بخصوص الشروع واالشتراك والمساهمة ،وما إلى غير ذلك من أفكار ،غير أن أهم الحاالت
التي يمكن الحكم فيها على القانون أنه أصلح للمتهم نذكر:
][68
-ح الة إباحة القانون الجديد للفعل الذي كان مجرما بالقانون القديم ،وهي من أهم الحاالت التي يمكن فيها للمتهم
االستفادة من القانون الجديد حتى ولو كان صدر عليه حكم نهائي بات ،أي دون انتظار تحقق الشرط الثاني لتطبيق
قاعدة القانون األصلح للمتهم.
-إ ضافة القانون الجديد للنص القديم سبب من أسباب اإلباحة أو مانع من موانع المسؤولية يستفيد منه المتهم في
الظروف المحيطة بالجريمة ،أو إضافة مانع من موانع العقاب – وإن كان هذا الشق يتعلق بالجزاء ال بشق التجريم-
-إ ضافة النص الجديد للجريمة ركنا لم يكن مشترط في النص القديم ،ويستفيد من هذه اإلضافة المتهم ،أي
تخلف في حقه الركن الجديد الذي اشترطه النص الجديد.
-إعادة تكييف الفعل من الوصف األشد إلى الوصف األخف ،كأن كان الفعل جناية وأصبح جنحة ،أو كان
جنحة وأصبح مخالفة .وذلك بغض النظر عن مدة العقوبة.
-إلغاء فكرة العقاب على الشروع في الجريمة ،إذ كان النص القديم يعاقب على الشروع في الجنحة وألغاه
النص الجديد ،وكان المتهم في وضع المتابعة ألجل الشروع في الجريمة وفقا للنص القديم.
ه ذا ونشير أن الحاالت السابقة تعد من بين الحاالت األكثر ووضحا ،وال يعني سردها بأنها الوحيدة،
فأمر القانون األصلح للمتهم قد يتعلق بكافة أفكر القانون الجنائي ،واإللمام بها يتعين التفرغ من دراسة القانون بأكمله
أ - 2/الضوابط المستمدة من األحكام الخاصة بالجزاء
و هي الحاالت التي يكون فيها التعديل الوارد بالنص الجديد متعلقا بشق الجزاء ،دون الشق المتعلق
بالتجريم ،وهي الحاالت التي تنأى بدورها عن الحصر وتتعلق بكامل نظرية الجزاء الجنائي ،غير أوضح الحاالت التي
درج الفقه على إعطاءها سنوضحها ،غير أننا نؤكد بأن القاضي ملزم في تحديد القانون األصلح للمتهم بنظرة المشرع
العامة وترتيبه للجزاءات وأنواعها وقيمتها ومدتها ،ال بما يراه المتهم انه أنسب وأصلح له ،لذا فالترتيب الوارد بالمادة 5
من تقنين العقوبات الجزائري ملزم للقاضي وإن كان في الغالب ال يخدم مصلحة المتهم .ومن أهم ما درج الفقه على
إعطاءه من حاالت وأمثلة نذكر.
-ح االت تخفيف النص الجديد للعقوبة ،ويجب مراعاة التخفيف المتدرج المنصوص عليه في المادة 5من
قانون العقوبات الجزائري ،حيث نجد اإلعدام ،المؤبد ،السجن المؤقت من خمس سنوات إلى عشرين سنة ،الحبس من
شهرين إلى خمس سنوات ،الغرامة التي تتجاوز 20.000دج ،الحبس من يوم إلى شهرين ،الغرامة من 2000دج إلى
20.000دج].[10
-ف ي حالة اتحاد العقوبة في الجنس والنوع ،فالقانون األصلح هو الذي ينقص من المدة ،كان كانت العقوبة في
كال القانونين السجن أو الحبس ،فإن القانون األصلح الذي ينقص من المدة ،وإن كانت العقوبة الغرامة في كال
القانونيين ،فإن القانون األصلح هو الذي ينقص من مقدارها.
-ك ما يعد القانون الصلح للمتهم ،القانون الذي ينقص من عدد العقوبات ،كأن كانا عقوبتين فجعلهما واحدة،
أو كانت إجباريتين فأعطى الخيار للقاضي.
-إ ذا جاء القانون الجديد بوقف التنفيذ ،أو أضاف مانع من موانع العقاب ،أو عذر مخفف سواء كان قضائي أو
قانوني.
-إ لغاء القانون الجديد للعقوبات التبعية أو التكميلية بعدما كان القانون القديم يتضمنها.
-غير أنه هناك إشكال ،يت مثل في كون العقوبات في غالبية التشريعات مبنية على نظام الحدين ،حد أدنى وحد
أقصى وللقاضي السلطة التقديرية في الحكم بينهما ،أو حتى النزول عن الحد األدنى إعماال لظروف التخفيف ( المادة
53من قانون العقوبات وما بعدها من مواد مكررة) ،وهنا يكون أي قانون أنزل أحد الحدين سواء كان األدنى أو
األقصى هو األصلح للمتهم ،وأي منهما رفع هذين الحدين هو األسوأ ،غير أن اإلشكال يكمن في الحالة التي يعدل فيها
الحدين ،وهنا ال إشكال في الذي ينزل بهما معا ،فهو دوما األصلح ،كما أنه ال إشكال بخصوص القانون الذي يصعد
بهما معا فهو دوما األسوأ ،لكن اإلشكال في الذي يرفع من أحدهما وينزل من اآلخر ،كالرفع من الحد األدنى والنزول
بالحد األقصى ،أو العكس ،فهنا ثار جدل فقهي انتهى واستقر في نهاية المطاف أن القاضي ينظر فيه إلى حالة المتهم،
فإن كانت ظروفه الشخصية تستحق التخفيف فالقانون الذي ينزل بالحد األدنى أصلح له حتى وإن رفع من الحد
][69
األقصى ،وذلك لكونه جدير بالحد األدنى ،مهما زاد الحد األقصى ،وإن كانت ظروفه الشخصية تقود للتشديد كان يكون
عائدا فالقانون الذي ينزل بالحد األقصى هو الصلح له حتى وإن رفع من الحد األدنى كونه جدير بالحد األقصى.
كما يثور اإلشك ال حول القانون الذي يجمع بعض القواعد التي تعد في صالح المتهم ،والبعض اآلخر منها في
ضد مصلحته ،فهنا الحل يكمن في البحث عما إذا كان القانون قابل للتجزئة من عدمها ،والقابلية للتجزئة تعني إمكانية
تطبيق بعض قواعده في معزل عن األخرى ،على عكس القانون الذي يتضمن قواعد تعد كل واحد ال يقبل التجزئة ،مثل
القانون الذي يجعل العقوبة التكميلية التي كانت وجوبية وجعلها جوازية ،مع رفعه لمدتها ،فهنا يجب النظر لظروف
القضية على حدا ،فإن كانت ظروف الجاني تقتضي التخفيف اعتبر القانون الجديد أصلحا له بالرغم من كونه رفع من
مدة العقوب ة التكميلية كونه أجدر بتطبيق ظروف التخفيف ،والعكس غير صحيح ،لذا فمسألة تقدير القانون األصلح
للمتهم ،في القوانين القابلة للتجزئة بناء على العالقة المنطقية بين مختلف النصوص القانونية ،والسياسة الجنائية ،وفي
ضوء اعتبارات شخصية ينظر فيها لشخصية الجاني ،وليس بنظرة موضوعية مجردة ،وبناء على ذلك يقدر القاضي
القانون ،ويمتنع عليه تطبيق القانون الشد بأثر رجعي ،عكس القانون األصلح.
وهناك إشكالية أكثر تعقيدا ،تتمثل في تنازع ثالثة قوانين ،خاصة إذا ارتكبت جريمة في ظل قانون أشد ،ثم
صدر قبل الحكم النهائي قانون أقل شدة ،وقبل صدور حكم نهائي في القضية صدر قانون ثالث أشد من سابقه وفي ظله
سيحاكم المتهم ،فأي قانون من بين هذه القوانين الثالثة سيطبق؟ ،السائد فقها وقضاء ،هو تطبيق القانون الثاني الذي يعد
األصلح للمتهم ،خاصة وأن عدم صدور حكم على المتهم في ظل هذا القانون مرده تأخر اإلجراءات والمحاكمة ،وهي
مسألة ال دخل للمتهم فيها ،لذا ال يجب أن نحمله عبء تأخر اإلجراءات وبطء المحاكم في إصدار األحكام ،إال أنه
بالرغم من وجاهة هذا الرأي ومنطقيته ،إال أن الفقه يرى األخذ بوجهة النظر هذه بحذر وتحفظ ،كون التنازع في
األصل يقوم بين قانونين ال أكثر ،وهما القانون الذي حدثت في ظله الواقعة المتابع الشخص من أجلها ،والقانون الساري
وقت المحاكمة ،لذا فليس للمتهم المطالبة بالقانون الثاني -الوسط -ألنه وضع المتهم في ظل سريان هذا القانون لم يتغير،
حيث لم يرتكب في ظله الجريمة ،كما أنه ال يحاكم في ظله.
كما أن إشكال بطء اإلجراءات قد يتسبب في بعض األوضاع غير المنطقية ،حيث أن مسألة التنازع بين
القوانين وقاعدة تطبيق القانون األصلح للمتهم ،تثير إشكال في الحالة التي ترتكب فيها جريمتين من نفس النوع ،من
شخصين ،في حين يكون قد صدر على أحدهما حكم نهائي بات حائز لقوة الشيء المقضي فيه ،وفي هذه الحالة ينتفي
ركن هام من أركان تطبيق القانون األصلح للمتهم ،في حين تأخرت مع اآلخر اإلجراءات ،ولم يصدر ضده حكم نهائي،
وبالتالي صدر قانون جديد يعد أصلحا له ،ففي هذه الحالة سيستفيد منه ،مما يخلق وضعين قانونيين شاذين ،حيث يسرى
على واقعتين من نفس النوع حدثتا في ذات الوقت قانونيين مختلفين ،مما يؤدي إلى الحكم على المتهمين بعقوبتين
مختلفتين ،إحداهما أشد من األخرى ،أو أن يدان أحدهما ويبرأ اآلخر ،خاصة لو أن القانون الجديد قد أباح الفعل ،وهنا
يرى البعض أنه ال سبيل إلى إصالح هذا الوضع ،إال عن طريق إجراء العفو ،وهو إجراء في جوهره وطبيعته يختلف
عن مسألة التخفيف من العقوبة أو إلغائها أو إباحة الفعل .لذا نجد بعض التشريعات تضمنت معالجة لهذه المسألة ،وذلك
بإعادة النظر في القضية ككل ،مثل القانون الدنمركي في المادة الثالثة من تقنين عقوباته ،والمادة 24من قانون العقوبات
اإلسباني ،والمادة 6من قانون العقوبات البرتغالي ،والمادة 2من قانون العقوبات البولندي ،وهو االتجاه الذي تبناه
المؤتمر الدولي للقانون الجنائي المنعقد في برلين سنة .1935
-2أال يكون قد صدر حكم نهائي بات في القضية
الشرط الثاني لتطبيق القانون األصلح للمتهم ،بعد توفر الشرط األول المتمثل في تزاحم قانونين ،هو أال
يكون قد صدر في القضية حكم نهائي بات ،والحكم النهائي البات هو الحكم الذي ال يقبل أي طريق من طرق الطعن،
سواء العادية أو غير العادية ،وهو أمر بديهي ومنطقي ،حيث ال يجب أن يتم المساس بقرارات العدالة النهائية احتراما
لألوضاع والمراكز القانونية التي خلقتها ،واحتراما لمبدأ حجية الشيء المقضي به المعمول بها في القانون أي كان
نوعه ،وفي المجال الجنائي تجنبا لمحاكمة الشخص عن الفعل الواحد مرتين.
غير أن هذا الشرط ،وكما سبقت اإلشارة ،ال يمس بالحالة التي يباح فيها فعل كان مجرما بموجب قانون
قديم عدل أو ألغي ،بالرغم من أن الموضوع قد أثار خالفا وجدال فقهيا حادا ،إال أنه استقر في نهاية المطاف ،على إفادة
][70
المتهم بالقانون الذي جاء باإلباحة ،بحجة أنه ال فائدة من العقاب على فعل أصبح مباحا في نظر المجتمع ،غير أن غالبية
الدول العربية تضمنت قوانينها العقابية حال قانونيا صريحا للمسألة ،تبنت فيه الرأي السابق ،ومن أمثلتها المادة 3/5من
تقنين العقوبات المصري ،والمادة 2من تقنين العقوبات اللبناني ،والمادة 2من تقنين العقوبات السوري ،على عكس
المشرع الجزائري الذي لم يضمن قانونه نصا خاصا بالمسألة أسوة بالمشرع الفرنسي.
ثانيا :االستثناءات الواردة على قاعدة رجعية القانون األصلح للمتهم
إ ن كانت قاعدة رجعية القوانين األصلح للمتهم في المجال الجنائي ،تمثل استثناء على قاعدة عدم رجعية
القوانين ،فهذا االستثناء ترد عليه استثناءات – بمعنى العودة للقاعدة -وهي أنه ال رجعية للقوانين اإلجرائية والمحددة
المدة حتى ولو كانت أصلح للمتهم .كون القوانين اإلجرائية قوانين تنظم مرفق العدالة وال خيار للمتهم وال فائدة له في
التنظيم ،والمسألة تخص الدولة ال األفراد ،والقوانين المحددة المدة التي يسنها المشرع لمواجهة ظروف وحاالت مؤقتة
تقتضي طبيعتها وظروفها ذلك ،ال يمكن تقييدها باستثناء الرجعية كون ذلك يفقدها الهدف الذي ألجله سنها المشرع،
وتكون سببا لتهرب األفراد ومناورته لغاية انتهاء مدة القانون لالستفادة بفكرة القانون األصلح للمتهم .وهو ما نوضحه
في النقطتين التاليتين.
-1القوانين المؤقتة أو المحددة المدة()Les lois temporaires
وهي القوانين التي يصدرها المشرع لمواجهة فترات استثنائية معينة أو أوضاعا محددة ،وهي مستثناة
من رجعية القانون األصلح للمتهم ،حتى ولو لم يكن قد صدر ضده حكم نهائي حائز لقوة الشيء المقضي به ،والقول
بخالف ذلك يفقد هذه القوانين معناها والهدف الذي كان يتوخى منها .غير أن ما تجدر اإلشارة إليه ،هو أن القوانين
المؤقتة تختلف عن القوانين االستثنائية Les lois exceptionnellesأو القوانين الظرفية Lois de circonstances
ح يث أنها قوانين فعال مؤقتة بطبيعتها ،غير أنها سنت لمواجهة ظروف معينة دون أن تحدد مدة معينة للعمل بها ،بل
ذلك مرهون بالمدة التي يستغرقها الظرف الذي سنت ألجله ،وهو الظرف الذي في العادة ما يكون سياسيا أو اقتصاديا،
حيث ال ينتهي العمل بها إال بصدور قانون يلغي العمل بها ،على عكس القوانين المؤقتة التي تتضمن تاريخ سريانها،
وهنا يرى الغالبية تطبيق قاعدة القانون األصلح للمتهم ،حيث ال يمكن اتهام الشخص بتحايله اتجاهها رغبة منه في كسب
الوقت حتى إلغائها ،كونه ال يعلم بتاريخ إلغائها ،على عكس القوانين المؤقتة التي يعمل فيها المتهم ذكائه ويتحايل على
القوانين حتى ينتهي العمل بها استفادة من قاعدة القانون الصلح للمتهم ،لذا حرم منها في غالبية القوانين الجنائية.
-2القوانين اإلجرائية:
ت ثار مسألة تنازع القوانين اإلجرائية من حيث الزمان ،وهي القوانين التي يحكمها مبدأ األثر
أ و السريان الفوري ،غير أن المبدأ تعترضه بعض الصعوبات العملية في التطبيق ،ويرى فقهاء القرن التاسع عشر أن
كل إجرا ء يجب أن يكتمل في ظل القانون الذي شرع أثناء سريانه ،وبالبعض يرى المقارنة بين القوانين اإلجرائية
وتطبيق األصلح منها مثلما هو الشأن بالنسبة للقوانين الجنائية الموضوعية ،غير أن غالبية الفقه يرى وجوب التطبيق
الفوري للقوانين اإلجرائية دون رجعية ،وال مجال إلعمال مبدأ القانون األصلح للمتهم بخصوص هذا النوع من
القوانين ،كونها قوانين صدرت ألجل المصلحة العامة ،ومن أجل مصلحة المتهم أيضا وبالتالي يفترض فيه انه أفضل
من سابقه من حيث التنظيم القضائي وإظهار الحقيقة بكل جوانبها ،وأن القوانين اإلجرائية ال تعد حقا مكتسبا يطالب
باالحتفاظ بها ،غير أن ذلك أثار جدال فقهيا ،وهو الجدل الذي لم يكن بسهولة وضع هذا الحل الذي تتفق عليه غالبية
القوانين .لذا رأى البعض بأنه يجب أن يكون هناك معيار تبنى عليه مسألة التفرقة بخصوص التطبيق الفوري للقوانين
اإلجرائية ،سيما الوقائع التي خضعت لحكم ابتدائي ،حيث يرى البعض أن يكون هذا الحكم معيارا للتمييز ،حيث يطبق
القانون الجديد إن لم يكن قد صدر حكم ابتدائي في القضية ،وإن كان قد صدر فيها حكما ابتدائيا فيجب اتباع اإلجراءات
في ظل القانون القديم تجنبا لكثرة المصروفات وحفاظا على الحقوق التي يكون قد اكتسبها المتهم من خالل هذا الحكم.
كما أن طرق الطعن في األحكام القضائية ،يحكمها القانون الذي صدرت في ظله ،كونه القانون الذي يكشف عن طبيعة
هذا الحكم ونوعه ومدى قابليته للطعن من عدمه ونوعية هذا الطعن ،ومواعيده ،واألشخاص الذين يجوز لهم ذلك
وأسباب بناء الطعن ،حيث يظل الشخص خاضعا لطرق الطعن التي كان منصوصا عليها في القانون الذي صدر في
ظله الحكم ،حتى وإن كان القانون الجديد قد ألغاها.
][71
كما أن نصوص التقادم تثير بعض الخصوصية بالنظر للطبيعة الخاصة لهذه النصوص ،سواء تعلقت
بتقادم الجريمة أو الدعوى أو العقوبة ،كونها نصوص يمكن القول أنها ذات طبيعة موضوعية ،وبذلك يمكن إخضاعها
لقاعدة القانون األصلح للمتهم ،حيث القانون الذي يزيد من مدة التقادم يعد األصلح أو الذي يرسي التقادم بعدما كان
النص القديم ال يخضع الفعل للتقادم في أي جانب من جوانبه .وإن اعتبرت النصوص المتعلقة بالتقادم ،من النصوص
اإلجرائية ،فهنا يسري عليها ما سري على النصوص اإلجرائية من حيث قاعدة األثر الفوري لها ،أم هناك حل خاص
يجب اعتماده نظرا للطبيعة الخاصة المتعلقة بالتقادم؟.في الواقع حدث نقاش فقهي حاد بخصوص هذه المسألة ،ولم يتفق
الفقه إال على نقطة واحدة ،وهي أن القانو ن الجديد ال يطبق على تقادم اكتملت مدته وفتح باب التقادم من جديد،كون ذلك
يتعارض ومبدأ عدم الرجعية ،بينما بخصوص التقادم الذي لم يكتمل ،اعتبره القضاء الفرنسي من القوانين الموضوعية
التي تخضع للقانون األصلح للمتهم ،غير أنه سرعانما تراجع القضاء وجعله من القوانين اإلجرائية التي تخضع للتنفيذ
الفوري دون رجعية].[11غير أن المسألة لم تتوقف عند هذا الحد ،بل ظهرت أفكار فقهية أخرى ،تصب في غالبها في
اتجاه جعل هذه القوانين المتعلقة بالتقادم تخضع لما تخضع له سائر القوانين اإلجرائية.
ثالثا :مسألة تحديد تاريخ ارتكاب الجريمة
مسألة تنازع القوانين من حيث الزمن ،واختيار األصلح منهما للتطبيق على المتهم ،تقتضي تحديد تاريخ
ارتكاب الجريمة ووقته ،حيث معرفة تاريخ وقوعها وما إن كان في ظل سريان القانون القديم
أو سريان القانون الجديد من شأنه أن يحسم كل خالف ،خاصة إن كنا نعلم أن بعض الجرائم ترتكب في وقت قصير من
الزمن ،والبعض اآلخر تتراخى عبر الوقت ،حيث يستغرق الركن المادي للجريمة في هذا النوع وقتا من الزمن ،قد
يطول وقد يقصر ،بحيث قد ترتكب بعض األفعال في ظل القانون القديم ،وبعضها اآلخر في ظل القانون الجديد ،فهنا
يثور تساؤل حول أي القانونيين يطبق؟ ومن الطبيعي القول بأن القانون الواجب التطبيق ،هو القانون الذي حدث في ظله
الركن المادي للجريمة ،وبالتالي وقت وقوع هذا الركن هو المحدد للقانون الواجب التطبيق ،حيث يكون القانون الساري
المفعول وقت وقوعه ،لكن اإلشكال أن السلوك قد يقع في ظل قانون وتحدث النتيجة في ظل قانون آخر جديد ،فهل يجب
أن نأخذ بعين االعتبار زمن اقتراف الفعل أو زمن تحقق النتيجة؟ .هنا ظهرت ثالثة آراء فقهية ،األول يرى أن العبرة
بتاريخ اقتراف السلوك اإلجرامي ،وبالتالي القانون الواجب التطبيق هو القانون الساري وقت إتيان السلوك ،والبعض
الثاني يرى أن العبرة بتحقق النتيجة ،وبالتالي القانون الواجب التطبيق هو القانون الساري المفعول وقت تحقق هذه
النتيجة ،والرأي الثالث يأخذ باالتجاهين السابقين معا ،حيث يجب أن نقارن ما بين القانونيين أيهما أصلح للمتهم ويطبق،
ونرى أنه الرأي األصوب كون الجريمة اكتمال وتحقق في ضوء القانونيين ،ونكون بصدد تنازع نبحث فيه عن القانون
الصلح للمتهم .غير أن البعض ،يرى األخذ بالرأي األول ألن الجريمة في نظره يكتمل ارتكابها عند اقتراف السلوك
المادي ،وال عبرة بالنتائج ،فالفعال يسأل عنه بغض النظر عن حدوث النتيجة خاصة في الجرائم العمدية.
و بخصوص الجرائم المستمرة التي ال يرتكب فيها الفعل المادي دفعة واحدة بل يأخذ وقت من الزمن فيه
قد يعدل القانون أو يصدر قانون آخر يثير مسألة تنازع القوانين من حيث الزمان ،واالستمرار قد يكون متتابع كانتحال
األلقاب أو الصفات ،وهنا إلرادة الجاني دور في حالة االستمرار ،وهناك جرائم مستمرة دائمة كجريمة تزييف النقود،
أو تقليد األختام ،وفيها اآلثار وحدها المستمرة وليس الركن المادي الذي حدث دفعة واحدة ،ويعامل هذا النوع من
الجرائم معاملة الجرائم الوقتية .أما النوع األول المتمثل في الجرائم المستمرة المتتابعة ،حيث تختلف عن سابقتها ،إذ
فيها الفعل المادي ال يرتكب دفعة واحدة ،وإنما يرتكب باستمرار حيث كل لحظة تمر تعد الجريمة مرتكبة فيها برمتها،
حيث في هذه الحالة يكفي أن تستمر الجريمة ولو للحظة واحدة بعد صدور القانون الجديد ليطبق حتى ولو كان اشد
بالنسبة للمتهم ،وهناك إشكال آخر بخصوص هذه الحالة ،يتمثل في حالة اشتراط القانون لفترة من الزمن كعنصر
أساسي في السلوك ،مثل اإلهمال العائلي واالمتناع عن دفع النفقة المقررة قضاء ،حيث يشترط اإلهمال أو االمتناع أن
يتم لفترة من الزمن ،قدرها المشرع في هاتين الجريمتين بشهرين ،فالرأي الراجح فيها أن يطبق القانون الجديد في
الحالة التي تتم فيها المدة هذه في ظله ،حيث يشترط أن تمر فترة الشهرين في ظل القانون الجديد حتى تعد الجريمة
مرتكبة في ظله.
وفي جرائم االعتياد ،التي تفترض تكرار الفعل الواحد أكثر من مرة ،فما حكم الفعل إذا ارتكب عدد من
المرات في ظل القانون القديم ،ومرة واحدة في ظل القانون الجديد ،ففي رأي الفقه ال يأخذ بعين االعتبار إال حاالت
][72
التكرار التي ارتكبت في ظل القانون الجديد ،واعتبار الحاالت الواقعة قبل صدوره كأن لم تكن وال تأخذ بعين االعتبار
في تكوين حالة التكرار أو االعتياد .وإن كانت أحكام القضاء تظهر عكس ذلك ،حيث يرى القضاء أن القانون في مثل
هذه الجريمة يعاقب على حالة الخطورة الكامنة لدى الجاني ،وأن الفعل األخير في الحقيقة هو الذي يبين هذه الخطورة
اإلجرامية ،وبالتالي يمكن اعتبار أن الفعل األخير هو الذي كون حالة االعتياد وبالتالي هو الذي كشف عن الخطورة
اإلجرامية لدى الجاني التي تستحق العقوبة.
و في حالة العود ،غالبية الفقه يرى أن الحكم الصادر في ظل القانون القديم ال يعد سابقة كوننا نرتب آثار
قانونية عن قانون لم يعد معموال به ،كما تثار مسألة وقت ارتكاب الجريمة بخصوص حالة تعدد الجرائم ،سواء كان
تعدد صوري أو تعدد حقيقي ،الذي سمى أيضا بالتتابع اإلجرامي أو الجرائم المتتابعة ،كالسرقة على عدة دفعات...
المطلب الثالث
نطاق تطبيق النص الجنائي من حيث المكان
تنازع القوانين الجنائية من حيث المكان
إن كانت فكرة تنازع القوانين الجنائية من حيث الزمان تخص قانونيين صادرين من نفس المشرع،
داخل البلد الواحد ،فإن تنازع القوانين الجنائية من حيث المكان تتعلق بقوانين مختلفة لدول مختلفة ،فالجريمة كمشروع
يمكن أن يمتد تنفيذه ألكثر من إقليم واحد ،وتسهر على ذلك عصابات إجرامية من جنسيات مختلفة ،وقد تمس الجريمة
الواحدة بمصالح العديد من الدول ،لذا كان يتعين تحديد نطاق تطبيق القانون الجنائي للدولة ،باعتباره قانون يجسد
سيادتها ،وهي السيادة التي تتجسد أوال على إقليم الدولة ومواطنيها ،وفي بعض األحيان تتبع هؤالء إلى خارج هذا
اإلقليم ،وفي أحيان أخرى فكرة اإلقليم ذاتها في القانون الجنائي ذات مدلول مختلف عما تعارف عليه الناس وفقا للقانون
الدستوري والقانون الدولي.
لهذه األسباب – وألسباب كثيرة أخرى متعددة -فإن مسألة تحديد نطاق السريان المكاني للنص الجنائي،
تتحدد باختصار بتطبيق أربعة مبادئ أساسية تأخذ بها غالبية التشريعات الجنائية المعاصرة ،وإن كان بعضها ليس
بصفة صريحة مثل مبدأ العالمية -من بين هذه المبادئ ما هو أصلي تنعقد له األولوية على سائر المبادئ األخرى ،كمبدأ
اإلقليمية ،ومنها ما هو احتياطي كمبدأ الشخصية والعينية اللذان ال يعدان من المبادئ التي تكمل مبدأ اإلقليمية وتسد
النقائص التي يواجهها تطبيق هذا األخير ،ومنها ما يجسد فكرة التعاون الدولي ،وتدويل مواجهة ظاهرة اإلجرام ،مثلما
هو الشأن بالنسبة لمبدأ العال مية .لذا وعلى عكس البعض ،الذي يرى أن مبدأ اإلقليمية القاعدة ويفرده بنقطة ،ويشمل باقي
المبادئ في نقطة أخرى باعتبارها استثناءات له ،فإننا سنحاول أن نبين كل مبدأ من هذه المبادئ في نقطة مستقلة،
باعتبارها تتكامل فيما بينها بما يضمن مكافحة الجريمة ومتابعة مرتكبيها وضبطهم ومحاكمتهم على نحو فعال .غير أننا
سنتناول مبدأ اإلقليمية في فرع مستقل ،لنتناول في فرع آخر المبادئ األخرى المكملة له ،والتي يسميها البعض مبادئ
احتياطية ،وسبق لنا نحن ،أن قلنا انها مبادئ تتعاون وتتكامل فيما بينها.
الفرع األول
المبـــدأ األصلي( مبدأ إقليمية النص الجنائي)
ي عني مبدأ إقليمية تطبيق النص الجنائي ،أن قانون العقوبات يسري على كل الجرائم أيا كان نوعها التي
ترتكب على إقليم الجمهورية ،وأيا كانت جنسية مرتكبها أو المرتكبة عليه] ،[12وطنيا أو أجنبيا ،ولهذا المبدأ بعض
المبررات التاريخية التي جعلت منه من أقدم المبادئ – وإن كان البعض يرى أن األقدم هو مبدأ الشخصية وذلك صحيح
في نظرنا -كما ينطوي على العديد من المبررات السيادية المتعلقة بسيادة الدولة على إقليمها ،باإلضافة لما له من فوائد
عملية في إثبات الجرائم ومتابعة مرتكبيها ومحاكمتهم محاكمة فعالة تحقق أفكار الردع العام والخاص ،كل ذلك انعكس
على طريق تطبيق هذا المبدأ ،حيث تمت معاملة بعض األوضاع أو باألحرى بعض المركبات معاملة اإلقليم ،بالرغم
من اختالفها التام عنه ،مثلما هو الشأن بالنسبة للطائرات والسفن ،كما أنه وبالرغم من أولية وأصالة وسيادة مبدأ
اإل قليمية ،إال أنه ترد عليه بعض االستثناءات التي تمليها القوانين واألعراف الدولية ،سواء كانت سياسية أو دبلوماسية
أو قنصلية ،وبعض األحكام الدستورية األخرى ،مما جعل من بعض الجرائم المرتكبة على اإلقليم الوطني غير خاضعة
للقانون الوطني ،وهو ما اصطلح في معالجته باستثناءات مبدأ اإلقليمية ،وهي المسائل التي نوضحها في النقاط التالية.
][73
أوال :معنى ومبررات مبدأ اإلقليمية
يقصد بمبدأ إقليمية النص الجنائي ،تطبيق التشريع الوطني الجنائي على كافة الجرائم المرتكبة على إقليم الدولة
الجزائرية ،بصرف النظر عن جنسية مرتكبها أو المرتكبة عليه ،وبغض النظر عن المصلحة
أو الحق المعتدى عليه ،سواء كانت مصلحة أو حق وطني أو أجنبي ،لذا يرى البعض أنه للمبدأ شقين
أو وجهين ،أحدها سلبي ويتمثل في انحسار تطبيق القانون الوطني خارج اإلقليم ،واآلخر إيجابي يتمثل في تطبيق
القانون الجنائي الوطني على إقليم الدولة دون مزاحمة من أي تشريع أجنبي آخر .وقد تضمنت المادة 3من تقنين
العقوبات الجزائري النص على مبدأ إقليمية النص الجنائي ،بنصها على ":يطبق قانون العقوبات على كافة الجرائم التي
ترتكب في أراضي الجمهورية.كما يطبق على الجرائم التي ترتكب في الخارج إذا كانت تدخل في اختصاص المحاكم
الجزائية الجزائرية طبقا ألحكام قانون اإلجراءات الجنائية"].[13
أما المبررات التي جعلت من غالبية التشريعات الجنائية تأخذ بمبدأ إقليمية النص الجنائي ،فإننا نذكر أهمها في
النقاط التالية]:[14
-1يعد مبدأ إقليمية تطبيق النص الجنائي ،مظهر من مظاهر ممارسة الدولة لسيادتها على إقليمها ،وبالتالي
تطبيق قانونها على كل ما يقع عليه من أفعال رأت تجريمها ،أيا كان مرتكبها أو المرتكبة عليه ،وأيا كانت المصلحة
المتعدى عليها وطنية أو أجنبية.
-2مبدأ إقليمي ة النص الجنائي يقود إلى تطبيق قانون مكان ارتكاب الجريمة ،ويقضي باختصاص المحاكم
الجنائية بنظر الدعوى ،وهو أنسب مكان لمحاكمة المتهم ،حيث فيه تتوفر أدلة اإلثبات ،وبه غالبا ما يوجد المتهم.
-3محاكمة المت هم في المكان الذي ارتكب فيه جريمته ،وتوقيع الجزاء عليه في هذا المكان ،يرسخ فكرة الردع
العام الذي يسعى لتحقيقه الجزاء الجنائي.
-4كما أنه من مصلحة المتهم تطبيق قانون البلد الذي ارتكب فيه جريمته ،الفتراض علمه بهذا القانون ،مما
يحقق أغراض مبدأ الشرعية الجنائية ويحقق العدالة من خالل عدم مفاجئة المتهم بقوانين يجهلها.
لذا فالقانون الجنائي الجزائري يطبق على كافة إقليم الجمهورية الجزائرية ،وفقا لما هو متعارف عليه
في أحكام القانون الدولي العام] ،[15ووفقا لنص المادة 12من دستور 1996المعدل والمتمم التي بينت معنى اإلقليم،
وإن كان القانون الجنائي يعطي له مدلوال آخرا ،حيث نصت هذه المادة على أنه ":تمارس سيادة الدولة – ونالحظ أن
المادة عبرت عن الموضوع بالسيادة وال تتعلق فقط بالقانون الجنائي -على مجالها البري ومجالها الجوي ،وعلى مياهها،
كما تمارس الدولة حقها السيد الذي يقره القانون الدولي على كل منطقة من مختلف مناطق المجال البحري التي ترجع
إليها .".وزيادة على ما ذكر بالهامش أدناه حول اإلقليم ،فيمكن أن نضيف أن قوانين العقوبات ال تهتم ببيان نطاق إقليم
الدولة ،بل تفرض سلفا أ ن هذه الفكرة معروفة ومحددة بواسطة القانون الدولي ،واإلقليم في العادة يشمل اإلقليم البري
الذي تحدده االتفاقيات الدولية ،ويشمل المياه التي تحت جوف األرض واألنهار والقنوات التي تمر به سواء كانت أنهارا
وطنية أو دولية ،وأما اإلقليم البحري فبينته اتفاقية سنة 1958المتعلقة بالبحر اإلقليمي التي بينت في مادتها األولى على
أن سيادة الدولة تمتد خارج إقليمها البري ومياهها الداخلية إلى حزام من البحر مالصق لشواطئها يسمى البحر اإلقليمي،
وبخصوص اإلقليم الجوي وقعت اتفاقية باريس سنة 1919مبينة أنه لكل دولة سيادة كاملة وانفرادية على طبقات الهواء
التي تعلو إقليمها البري وبحرها اإلقليمي وحتى مستعمراتها – كون االتفاقية وقعت وقت الحركات االستعمارية -وأكدت
على ذلك من جديد اتفاقية شيكاغو سنة 1944التي اعتبرت مادتها األولى الهواء عنصرا تابعا إلقليم الدولة ،غير أنه
مبدأ اهتز أمام التطور العلمي مما أدى إلى التفكير في تحديد اإلقليم الهوائي بارتفاع محدد ،لذا أصدرت الجمعية العامة
لألمم المتحدة في 1966-12-19في دورتها 21القرار رقم 3222بالموافقة على مشروع اتفاقية تنظم استعمال
واستغالل الدول للطبقات العليا في الجو بما فيها القمر والكواكب األخرى ،ونصت هذه االتفاقية في مادتها 11على أن
طبقات الجو العليا تخرج عن سيادة كل دولة ،غير أنها اتفاقية لم تحدد المسافة التي تكون بين الفضاء الجوي وطبقات
الجو العليا.
ثانيا :تحديد مكان وقوع الجريمة
][74
من المتفق عليه قانونا أن مكان وقوع الجريمة يتحدد بالمكان الذي يقع فيه ركنها المادي سواء اجتمعت
أركانه الثالثة وهنا ال إشكال ،لكن من المتصور أن تتوزع هذه العناصر على أكثر من إقليم واحد فهنا يثار اإلشكال
حول تحديد أي منها يكون مكانا لوقوع الجريمة ،هنا السائد أن قوانين كل الدول التي توزعت عليها الجريمة يكون
م ختصا بنظر الجريمة ،وهو الوضع أيضا في الجرائم المستمرة حيث يكون قانون كل إقليم قامت فيه حالة االستمرار
مختصا بنظر الجريمة ،غير أن جرائم االمتناع تعد مرتكبة في اإلقليم الذي حصل فيه االمتناع وكان من الواجب أن
يقوم فيه الجاني بما هو مطلوب منه قانونا ،كما أنه يعد إقليم ارتكبت فيه الجريمة اإلقليم الذي حدثت فيه النتيجة
اإلجرامية -أو آلثار المباشرة للفعل -حيث أنه إذا أرسل شخص صندوق متفجرات لشخص آخر فتحه فانفجرت عليه
وسافر لبلد آخر للعالج وتوفي هناك يكون مختصا بلد العالج أيضا باإلضافة للبلدين اآلخرين .األول هو بلد السلوك
والثالث بلد النتيجة والثاني بلد عالقة السببية] .[16لكن ال عبرة بالنتائج الحاصلة بعد حدوث النتيجة وإن كانت تشكل
جريمة مستقلة فيتحدد االختصاص بمكان وقوع هذه الجريمة ،مثل إخفاء متحصالت السرقة أو إخفاء الجثة التي يعتد
بها قانونا وال األعمال التحضيرية غير المعاقب عليها.
غير أن اإلشكال يكمن في حالة الشروع في الجريمة ،وهنا يرى بعض الفقه أن االختصاص ينعقد
للدولة التي شرع في التنفيذ فيها وكذا للدولة التي كان من المفترض حصول النتيجة فيها ،في حين يرى جانب آخر من
الفقه ،منتقدا الرأي األول أنه ال يجب أن ينعقد االختصاص لقانون الدولة التي كان يفترض حدوث النتيجة بها ،وهو
رأي نؤيده كثيرا خاصة وإن كنا نرى أن المجني عليه قد ال يكون عالما أصال بأنه كان عرضة لجريمة شرع في
ارتكابها عليه ،كما أنه يثور اإلشكال بخصوص المساهمة الجنائية ،والتي على نحو ما سنرى تنقسم إلى مساهمة جنائية
أصلية ومساهمة جنائية تبعية ،ففي األولى يكون كل الجناة فاعلين أصليين ،وهو ما ال يثير أي إشكال حسب البعض إذا
ما وقعت الجريمة على إقليم الدولة ،لكننا نرى أنه في حالة التحريض قد نكون بصدد مساهمة جنائية أصلية حيث يعد
الفاعل األصلي كل من المحرض والمنفذ ،وبالتالي إن كان التحريض في بلد والتنفيذ في بلد آخر فإننا نرى اختصاص
غير أنه في حالة المساهمة الجنائية التبعية ،أين نكون قانون كل من البلدين ونفس الشيء بالنسبة للفاعل المعنوي.
بصدد فعل أصلي وآخر فعل االشتراك ،ونرى أن غالبية القوانين تتبع عمل الشريك بعمل الفاعل األصلي حيث يرى أنه
إذا وقع الفعل األصلي أو جزء منه في إقليم دولة ما فإن قانونها يمتد للتطبيق على فعل االشتراك ،وأن قانون الدولة التي
وقع فيها فقط فعل االشتراك ال ينطبق تماما ،ونؤيد هذا الرأي كون أفعال االشتراك ال عقاب عليها في حد ذاتها كونها
أفعال مباحة تنجذب إلى دائرة التجريم بالنظر لفعل الفاعل األصلي.
ثالثا :االمتداد الحكمي لفكرة اإلقليم
سبق القول ،أن المشرع الجزائري ،عامل السفن والطائرات معاملة خاصة ،في الحاالت التي ترتكب
عليها جرائم ،وعالجهما ضمن إطار مبدأ اإلقليمية – وإن كان ذلك في قانون اإلجراءات الجزائية -وذلك ضمن المادتين
590و ،591مبينا اختصاص القانون الجزائري بخصوص الجرائم التي ترتكب على متن السفن والطائرات ،وحاالت
وشروط ذلك ،مفرقا بين تلك الجزائرية واألجنبية – سواء بخصوص الطائرات أو السفن -أخذا ببعض الحدود التي
يمكن تبري رها أحيانا ،وأخرى يعجز الشخص عن تفسيرها بعد مقارنة المادتين معا بما تتضمنه من أحوال.
-1بالنسبة للسفــن:
نصت المادة 590من قانون اإلجراءات الجزائية الجزائري على أنه " :تختص الجهات القضائية
الجزائرية بالنظر في الجنايات والجنح التي ترتكب في عرض البحر على بواخر تحمل الراية الجزائرية آيا كانت
جنسية مرتكبيها .و كذلك الشأن بالنسبة للجنايات والجنح التي ترتكب في ميناء بحرية جزائرية على ظهر باخرة
تجارية أجنبية ،".من هذه المادة ،يتضح بأن المشرع الجزائري ،فرق ما بين السفن الوطنية والسفن األجنبية،
وبخصوص األخيرة فرق بين السفن األجنبية الحربية والسفن األجنبية المدنية ،واستعمل عبارة السفن التجارية التي نرى
ووجوب استبدالها بالمدنية.
أ -بالنسبة للسفن الجزائرية:
متى كانت السفينة جزائرية ،فإن قانون العقوبات الجزائري يكون مختصا في حال توفر الشروط التالية
مجتمعة] ،[17وأن تخلف شرط من هذه الشروط يقود لعدم تطبيقه ،وهي:
][75
-1أن تكون السفينة تحمل الراية الجزائرية.
-2أن تكون الجريمة جناية أو جنحة ،وبالتالي تستبعد المخالفات.
-3أن يكون مكان ارتكاب هذه الجناية أو الجنحة والباخرة في أعالي البحار ،كون هذه المنطقة غير خاضعة
ألية سلطة ،ألنه لو ارتكبت الجناية أو الجنحة في المياه اإلقليمية أو موانئ الجزائر ،فاختصاص للقانون الجزائري يكون
بموجب المادة 3من قانون العقوبات ،ال بموجب المادة 590من قانون اإلجراءات الجزائية ،وإن ارتكبت في مياه
إقليمية أجنبية يكون االختصاص لقانون هذه الدولة تطبيقا لمبدأ إقليميتها.
-4ال عبرة بجنسية الجاني أو المجني عليه ،وال بالمصلحة أو الحق الذي مست به الجناية أو الجنحة.
ب -بالنسبة للسفن األجنبية:
استعمل المشرع الجزائري بخصوص السفن األجنبية مصطلح " السفن التجارية" تمييزا لها عن السفن
الحربية ،هذه األخيرة التي تعامل معاملة خاصة ،وكان عليه أن يستعمل مصطلح " السفن المدنية" كون التجارية قد يفهم
منه سفن البضائع دون سفن األشخاص أو السفن السياحية ...وحتى يكون القانون الجزائري مختصا بنظر الجرائم
المرتكبة على السفن األجنبية ما عدا الحربية منها ،يجب أن تتوفر الشروط المنصوص عليها في الفقرة الثانية من الماد
590من قانون اإلجراءات الجزائية ،وهي:
– 1حسب المادة 590أن تكون السفينة األجنبية تجارية ،أي ليست حربية – وهو المغزى من الشرط-
والسفينة األجنبية هي التي تحمل جنسية أو راية دولة أخرى.
-2أن يكون الفعل يشكل جناية أو جنحة ،وبالتالي تستبعد المخالفات.
-3أنه ال عبرة بجنسية الجاني أو المجني عليه ،وال بالمصلحة التي تم االعتداء عليها ،كون المادة لم تشترط
ذلك.
-4أن يكون مكا ن تواجد السفينة األجنبية ميناء بحرية جزائرية ،وهو ما يفهم منه أن تكون راسية ،ونحن
نتساءل عن عدم النص على المياه اإلقليمية الوطنية باعتبارها من اختصاص قانوننا ،على األقل مثلما نزع المشرع
اختصاصنا لما تكون بواخرنا في المياه اإلقليمية لدول أخرى ،فينزع اختصاص قانون هذه الدول لما تكون بواخرها في
مياهنا اإلقليمية....غير أن األمر يمكن مواجهته بالمادة 3التي تشكل القاعدة العامة متى كانت الباخرة األجنبية بالمياه
اإلقليمية الوطنية.
-2بالنسبة للطائرات:
مثلما فعل المشرع الجزائري بالنسبة للسفن ،فإنه فعل بالنسبة للطائرات ،حيث يتعلق األمر بالطائرات
المدنية دون الحربية ،وفرق فيها بين الطائرات الجزائرية والطائرات األجنبية ،وكل منها يجب أن تستجمع جملة من
الشروط حتى يكون القانون الجزائري مختصا ،وذلك ما بينته المادة 591من قانون اإلجراءات الجزائية الجزائري،
التي نصت على أنه " :تختص الجهات القضائية الجزائرية بنظر الجنايات والجنح التي ترتكب على متن طائرات
جزائرية أيا كانت جنسية مرتكب الجريمة .كما أنها تختص أيضا بنظر الجنايات
أو الجنح التي ترتكب على متن طائرات أجنبية إذا كان الجاني آو المجني عليه جزائري الجنسية أو إذا هبطت الطائرة
بالجزائر بعد وقوع الجناية أو الجنحة .وتختص بنظرها المحاكم التي وقع بدائرتها هبوط الطائرة في حالة القبض على
الجاني وقت هبوطها أو مكان القبض على الجاني في حالة ما إذا كان مرتكب الجريمة قد قبض عليه في الجزائر فيما
بعد".
أ -بالنسبة للطائرات الجزائرية:
حتى يكون القانون الجزائري مختصا بالتطبيق على الطائرات الجزائرية يجب أن تتوفر الشروط التالية:
-1أن تكون الطائرة جزائرية ،أي حاملة للراية الجزائرية،
-2أن يكون الفعل المرتكب يشكل جناية أو جنحة ،وبالتالي ال عبرة بالمخالفات.
-3ال عبرة بجنسية الجاني ،وبالضرورة إذن ال عبرة بجنسية المجني عليه ،وال بمكان ارتكاب الجريمة،
فالقانون الجزائري يتبع طائراتنا أينما حلت حتى في قلب عواصم الدول األخرى ،على عكس ما فعله المشرع
بخصوص البواخر.
][76
ب -بالنسبة للطائرات األجنبية:
ي كون قانون العقوبات مختص بالتطبيق على الجرائم المرتكبة على الطائرات المدنية األجنبية ،إذا
توفرت الشروط التالية مجتمعة:
-1أن تكون الطائرة أجنبية أي حاملة لجنسية دولة أخرى.
-2أن يكون الفعل بالضرورة يشكل جناية أو جنحة وتستبعد المخالفات.
-3أن يكون الجاني أو المجني عليه جزائريا ،أو هبوط الطائرة بالجزائر بعد ارتكاب الجريمة حتى وإن لم يكن
الجاني أو المجني عليه جزائريا].[18
وتكون المحكمة التي يتواجد بنطاق اختصاصها مكان هبوط الطائرة بالمحاكمة ،أو مكان القبض عليه
إن تم القبض عليه الحقا.
ثالثا :االستثناءات الواردة على مبدأ اإلقليمية:
بالرغم من أن مبدأ إقليمية النص الجنائي يقتضي أن تخضع كل الجرائم المرتكبة على إقليم الجمهورية
الجزائرية للقانون الجنائي الجزائري ،أيا كانت جنسية الجاني أو المجني عليه ،وبغض النظر عن المصلحة أو الحق
المعتدى عليه ،غير أنه إعماال لبعض األحكام الدستورية واألعراف الدبلوماسية وبعض قواعد القانون الدولي العام ،وما
تتضمنه من أعراف واتفاقيات دولية ،فإنه ترد بعض االستثناءات على مبدأ إقليمية النص الجنائي ،التي تستبعد الجرائم
التي يرتكبها بعض األشخاص من الخضوع لقانون العقوبات الجزائري] ،[19إذ ارتكبها مثل هؤالء األشخاص أثناء أو
بمناسبة تأدية مهامهم ،ومن بين هؤالء األشخاص نذكر:
-1رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الجزائريين:
تستثني غالبية القوانين الجنائية ،بما فيها قانون العقوبات الجزائري جرائم رئيس الجمهورية التي
يرتكبها أثناء ممارسته لمهامه الرئاسية أو بمناسبتها ،وذلك طبقا لألعراف الدستورية ،وال يمكن محاكمته عنها إال بعد
زوال صفة الرئاسة عنه ،غير أن ما تجدر اإلشارة إليه أن الدستور الجزائري لسنة 1996المعدل والمتمم ،تضمن
حكما لم تكن تعرفه الدساتير السابقة ،وهو الحكم الذي جاءت به المادة 158منه :التي نصت على أنه ":تؤسس محكمة
عليا للدولة تختص بمحاكمة رئيس الجمهورية عن األفعال التي يمكن وصفها بالخيانة العظمى ،ورئيس الحكومة عن
الجنايات والجنح التي يرتكبانها بمناسبة تأدية مهامهما.[20]"...
و قضت هذه المادة أن كيفية تشكيل المحكمة وعملها وسيرها وتنظيمها ،سيبين عن طريق األحكام
التنظيمية ،غير أنه ولحد الساعة لم يصدر أي نص يبين ذلك .مما يجعلها من النص مجرد نص نظري.
-2أعضاء المجالس النيابية العليا ( :البرلمان ومجلس األمة في الجزائر])[21
و نقصد بالمجالس النيابة العليا ،تمييزا لها عن المجالس الشعبية اإلقليمية أو المحلية ،مثل المجالس
الشعبية الوالئية والمجالس الشعبية البلدية ،ونجد كل الدول تقرر الحصانة ألعضاء السلطة التشريعية] ،[22وال يعني
ذلك نزع الصفة التجريمية عن الفعل المعاقب عليه الذي يرتكبونه ،وإنما متابعتهم ال تتم إال بإتباع إجراءات دستورية
خاصة ،وهو ما بينته المواد 111 ،110 ،109من دستور 1996المعدل والمتمم ،حيث تضمنت المادة 109مبدأ
الحصانة البرلمانية ،بنصها ":الحصانة البرلمانية معترف بها للنواب وألعضاء مجلس األمة مدة نيابتهم ومهمتهم
البرلمانية ،ال يمكن أن يتابعوا أو يوقفوا ،وعلى العموم ال يمكن أن ترفع عليهم أية دعوى مدنية أو جزائية أو يسلط
عليهم أي ضغط ،بسبب ما عبروا عنه من آراء وما تلفظوا به من كالم أو بسبب تصويتهم خالل ممارسة مهامهم
البرلمانية .[23]".وهنا فعال استثناء بخصوص نوع محدد من الجرائم .كونها مادة أرست فكرة الحصانة البرلمانية
المعترف بها لنواب السلطة التشريعية ،خاصة المتعلقة بمهامهم الرئيسية وهي مناقشة القوانين والتصويت عليها ،غير
أن المادة 110من دستور 1996المعدل والمتمم ركزت على فكرة المتابعة الجزائية عن الجنايات والجنح ،وفكرة
التنازل عن الحصانة البرلمانية ،أو رفعها ،بينما بنت المادة 111حالة تلبس النائب بارتكاب جناية أو جنحة.
فقضت المادة 110بأنه ":ال يجوز الشروع في متابعة أي نائب – المقصود نواب الغرفة السفلى-
أو عضو مجلس األمة بسبب جناية أو جنحة إال بتنازل صريح منه أو بإذن حسب الحالة من المجلس الشعبي الوطني أو
][77
مجلس األمة الذي يقرر رفع الحصانة عنه بأغلبية أعضائه ،".وبالتالي يمكن للنائب سواء كان نائبا في الغرفة السفلى،
أو عضو من أعضاء مجلس األمة في حال اتهامه بارتكاب جناية أو جنحة ،أن يتنازل صراحة عن حصانته البرلمانية،
والمقصود بعبارة " صراحة" أنه تنازل مكتوب تضمنه النيابة العامة ملف القضية ،أو برفع الحصانة عليه من قبل
أغلبية باقي األعضاء ،وفي هذه الحالة تجوز متابعته كأي شخص من األشخاص ،غير أن ما تجدر اإلشارة إليه ،أن
المادة 110لم تبين الموقف من الحالة التي يرتكب فيها عضو البرلمان أو عضو مجلس األمة لمخالفة ،فهل عدم ذكر
في حين هذا النوع من الجرائم يعني عدم المسائلة عنها أصال ،أم تجوز فيها المتابعة دون اإلجراءات السابقة.
بينت المادة 111حالة تلبس عضو البرلمان أو عضو مجلس األمة بارتكاب جناية أو جنحة] ،[24حيث قضت أنه ":
في حالة تلبس أحد النواب أو أحد أعضاء مجلس األمة بجنحة أو جناية يمكن توقيفه ويخطر بذلك مكتب المجلس الشعبي
الوطني أو مكتب مجلس األمة حسب الحالة فورا .يمكن المكتب المخطر أن يطلب إيقاف المتابعة وإطالق سراح النائب
أو عضو المجلس األمة على أن يعمل فيما بعد بأحكام المادة 110أعاله.".
][78
موانع العقاب ف ي مثل هذه الحاالت ،لذا فاألشخاص المساهمين مع صاحب الحصانة يمكن متابعتهم وعقباهم متى كنوا ال
يتمتعون بالحصانة ،سواء كانوا من المواطنين أو من األجانب تطبيقا لمبدأ اإلقليمية ،كما أن حق الدفاع المشروع مقرر
للمعتدى عليهم حتى ضد أصحاب الحصانة .كما أنه هناك اتفاقية فيينا لسنة 1961وتشمل أعضاء السلك الدبلوماسي
والبعثات السياسية الخاصة وممثلو المنظمات الدولية أو اإلقليمية بصرف النظر عن درجاتهم وألقابهم ويستوي أن تتعلق
الجرائم بممارسة مهامهم أو بمناسبة متابعة شؤون حياتهم الخاصة ،أما فيما يخص الخدم فتقتصر الحصانة على ما
يصدر منهم من جرائم بمناسبة ممارستهم لمهامهم شريطة أال يكونوا من رعايا الدولة التي توجد بها مقر البعثة أو
المنظمة أو السفارة].[27
-6رجال القوات األجنبية المرابطة في التراب الوطني:
ويستمدون حصانتهم بخصوص عدم متابعتهم عن الجرائم التي يرتكبونها في الدول التي يرابطون فيها.
وهي مقررة للقوات الموجودة بأرض الدولة بترخيص منها ،مثل قوات الطوارئ الدولية التابعة لمنظمة األمم المتحدة،
أو قوات وطنية لدولة أخرى ،وهي الحصانة التي يتمتع بها أفراد هذه القوات بمناسبة ما يقع منهم من جرائم بمناسبة
تأديتهم لمهامهم ،أو داخل المناطق المخصصة لهم.
و على العموم ،الحصانة أو اإلعفاء من المتابعة الجزائية وفقا للقانون الجزائري ال يغني عن إخطار
الجهات الرسمية التي يتبعها الشخص مرتكب الجريمة والمتمتع بالحصانة الدبلوماسية ،التي في العادة ما تتابعهم تأديبيا
وقد يتجاوز األ مر لحد تعويض ضحاياهم مدنيا ،وتبقى كل معاهدة أو قانون أساسي للمنظمة ،وكذا األعراف الدبلوماسية
أو مبدأ المعاملة بالمثل تحدد طرق وكيفيات ذلك.
الفرع الثاني
المبادئ المكملة لمبدأ اإلقليمية
على عكس العصور السابقة ،أضحت الحدود تشكل محاسن للعصابات اإلجرامية وليست عوائق ،خاصة مع
تقدم المواصالت وتحول العالم على قرية صغيرة ،وتدويل الجريمة ،فأصبحت الحدود عائقا بالنسبة للسلطات في بحثها
وتعقبها للمجرمين ،وازدياد حركات الهجرة التي تصعب من عمليات التكيف مع قوانين الدول التي يستقر بها هؤالء
المهاجرين ،كما أنهم انفصلوا عن جذورهم وال يستطيعون التكيف مع الحياة الجديدة بسهولة ،وال يستطيعون التكيف مع
مجتمع جديد وحياة جديدة وعادات وتقاليد جديدة زيادة على حواجز اللغة والثقافة وحتى الدين ،فانفصالهم عن حياة
اعتادوا عليها وعايشوها يحدث لهم نوع من الصراع بين القيم القديمة والقيم الجديدة المستحدثة فتضعف مقاومتهم شيئا
فشيئا ،كما أنه للحربين العالميتين والحروب اإلقليمية األخرى دور كبير في بروز ظاهرة العنف واإلرهاب الذي لم يعد
مقتصرا فقط على األفراد والمنظمات ،بل شملت حتى الدول ،وهي كلها مسائل لفتت االنتباه إلى ضرورة توسع دائرة
القانون الجن ائي لمحاربة هذا النوع من اإلجرام ،وهو ما جعل مبدأ اإلقليمية وحده غير كاف لمواجهة الظاهرة
اإلجرامية ،وكان لزاما عليه االستعانة ببعض المبادئ األخرى المكملة ،والتي نتناولها في النقاط التالية.
أوال :مبدأ الشخصية الجنائية
مبدأ الشخصية الجنائية أسبق في الظهور من مبدأ اإلقليمية ،حيث كان يعد األصل فيما مضى ،كون
النص الجنائي كان يتبع رعايا الدولة أسينما حلوا ،سيما في ظل فكرة اإلقليم لم تكن قد تجسدت بعد بالشكل المعروف
اليوم ،لكن مع ظهور الدولة وارتكاز سيادتها على فكرة الحدود اإلقليمية ،انحصر نطاق تطبيق مبدأ الشخصية الجنائية
فاسحا المجال أمام مبدأ اإلقليمية ليصبح المبدأ الرئيسي الحاكم لسريان النص الجنائي .ويعرف مبدأ الشخصية الجنائية
بأنه تطبيق النص الجنائي على كل جاني يحمل جنسية الدولة أينما حل وأينما وجد ،وأيا كان اإلقليم الذي ارتكب عليه
جنايته ،وبعبارة أكثر اختصارا ،هو وجوب تطبيق القانون الجنائي لكل دولة على الحاملين لجنسيتها أينما حلوا].[28
ونص المشرع الجزائري على مبدأ الشخصية الجنائية في المادتين 582و 583من قانون اإلجراءات الجزائية ،مفرقا
بين الفعل الذي يرتكبه الجزائري بالخارج وما إن كان جناية أو جنحة ،وهو األمر الذي يقودنا لتناول المبدأ من خالل
نقطتين تبعا للتمييز السابق.
-1الجنايات ومبدأ الشخصية الجنائية
][79
وهو شق من مبدأ الشخصية الجنائي الذي يركز على الرعية التي ترتكب فعال يوصف بالجناية في
الخارج ،وقد تضمنه المادة 582من قانون اإلجراءات الجزائري] ،[29التي أوردت جملة من الشروط إذا ما توفرت
مجتمعة طبق على هذا الجاني القانون الجزائري بالرغم من أنه ارتكب جنايته بالخارج ،وهذه الشروط هي:
-أ ن يكون الفعل الذي ارتكبه الشخص في الخارج يوصف بأنه جناية وفقا للقانون الجزائري ،ويتضح من
النص أنه ال عبرة للتكييف المعطى له من قبل تشريع القطر الذي وقعت عليه ،سواء كان جناية أو جنحة،
أو فعل مباح أصال وهو أمر ننتقده بشدة].[30
-أن ي كون الجاني يحمل الجنسية الجزائرية ،أو أن يكون قد اكتسبها بعد ارتكابه الجريمة].[31
-أن يكون ارتكاب الجناية قد تم خارج اإلقليم الجزائري ،ألنه لو كانت عليه لطبق مبدأ اإلقليمية وفقا للمادة 3
من قانون العقوبات.
-أ ن يعود هذا الجاني الجزائري إلى أرض الوطن سواء جبرا أو طواعية ،ألنه وفقا لهذه المادة ال يمكن أن
يحاكم غيابيا.
-أال يكون الجاني قد حوكم في الخارج عن هذه الجناية ،وأال يكون قد قضى عقوبتها في حال كان قد حوكم
عنها ،أو سقطت عنه هذه العقوبة بالتقادم أو حصل على عفو عنها في دولة ارتكابها.
-2الجنح ومبدأ الشخصية الجنائية
وهو مبدأ يخص الجزائري الذي يرتكب خارج اإلقليم الجزائري فعال يوصف بأنه جنحة سواء في نظر
القانون الجزائري أو في نظر القطر الذي ارتكبت فيه ،فهنا يكون خاضعا للقانون الجزائري بشروط يجب أن تتوفر
جملة واحدة ،وهي شروط بينتها المادة 583من قانون اإلجراءات الجزائية الجزائري] ،[32وهــي:
-أن يكون الفعل الذي اقترفه الجزائري يوصف بأنه جنحة ،سواء في القانون الجزائري أو في القانون األجنبي
المطبق على اإلقليم الذي ارتكبت فيه].[33
-أن ترتكب هذه الجنحة في الخارج.
-أ ن يكون مرتكبها جزائريا وقت اقترافها أو اكتـــسب الجنسية الجزائرية بعد ذلك وفقا للمادة 584من ق إ ج
ج.
-أن يعود الجاني للجزائر أو يسلم غليها ،حيث ال يجوز محاكمته غيابيا.
-أال يكون قد حكم عليه في الخارج أو قضى عقوبته أو تقادمت أو حصل على عفو عنها.
-وزيادة على ذلك ،إن كانت الجنحة ضد األفراد ،يجب تقديم شكوى من الشخص المضرور أو بالغ من
سلطات القطر الذي ارتكبت فيه الجنحة حتى يمكن للنيابة العامة تحريك الدعوى العمومية.
و في حالتي مبدأ الشخصية تجري المتابعة بناء على طلب النيابة العامة لمحل إقامة الجاني بالجرزائر أو
محل القبض عليه ،وذلك ما تضمنته المادة 587من قانون اإلجراءات الجزائية التي نصت على أنه " :تجري
المتابعة بناء على طلب النيابة العامة لمحل إقامة المتهم أو مكان آخر محل إقامة معروف له أو مكان القبض عليه".
ثالثا :مبدأ العينية ( مبدأ الذاتية)
وهو المبدأ المكمل الثاني لمبدأ اإلقليمية بعد مبدأ الشخصية ،وسمي بمبدأ العينية أو الذاتية ألنه يمس بمصالح
الدولة ذاتها أو بعينها ال بمصالح أفرادها ،سواء كانوا جناة أو مجني عليهم ،وأنه يطبق خصيصا على األجانب دون
حاملي جنسية الدولة ،ألنه هؤالء يخضعون لمبدأ الشخصية ،وعموما ،نقصد بهذا المبدأ تطبيق القانون الوطني
الجزائري على كافة الجرائم المرتكبة بالخارج – ال بأرض الوطن ،ألنه في هذه الحالة الخيرة نطبق مبدأ اإلقليمية-
والتي تمس بالمصالح األساسية للدولة المرتبطة بسيادتها واقتصادها والثقة الموالة في نقودها ،وأن الضحية في هذا
النوع من الجرائم هي الدولة ذاتها ،وبهذا المبدأ تكون تمارس نوعا من الدفاع الشرعي عن مصالحها ،كما يعد – المبدأ-
تعبيرا عن بسط الدولة لسلطانها التشريعي على كل الجرائم التي تمس بهيبتها ومصالحها ،ولكن في الحاالت التي ال
تلقى فيها هذه الجرائم اهتمام من سلطات القطر الذي ارتكبت فيه .وهو األمر الذي دفع بالمشرع الجزائري على غرار
غالبية التشريعات الجنائية المعاصرة للنص على هذا المبدأ في المادة 588من قانون اإلجراءات الجزائية] ،[34وهو
النص الذي ال يطبق إال إذا توفرت الشروط التالية مجتمعة:
][80
-1أن يكون الجاني أجنبيا ،ألنه لو كان جزائريا لطبق مبدأ الشخصية سواء بموجب المادة 582إذا كان الفعل
يشكل جناية ،أو المادة 583إذا كان الفعل يشكل جنحة.
-2أن ترتكب الجريمة في الخارج ،ألنه لو ارتكبت في الوطن فيطبق مبدأ اإلقليمية.
-3على أن توصف الجريمة على أنه جناية أو جنحة.
-4أن تكون هذه الجريمة ماسة بالسالمة الوطنية] ،[35أو أن تكون تزييفا للنقود أو األوراق المصرفية
المتداولة في الجزائر وقت ارتكاب الجريمة].[36
-5أن تحصل الج زائر على تسليمه لها أو أن يلقى القبض عليه في الجزائر .إذ ال يجب أن يحاكم غيابيا.
ثالثا :مبدأ العالمية Universalité de la répression
ويقصد بهذا المبدأ -بالرغم من عدم النص عليه صراحة في القانون الجزائري -سريان القانون الجنائي
الوطني على كافة الجرائم ذات الطابع العالمي أو الدولي متى ضبط الجاني أو ألقي عليه القبض في الجزائر ،حيث ال
يمكن محاكمته غيابيا ،أيا كانت جنسية هذا الشخص ،على أال يكون جزائريا ،ألنه في هذه الحالة يطبق مبدأ الشخصية،
وأيا كانت جنسية ال مجني عليه ،وأيا كان مكان ارتكاب الجريمة ،بشرط أال يكون الجزائر ألنه في هذه الحالة يطبق
القانون الجزائري على أساس مبدأ اإلقليمية ال مبدأ العالمية ،وبشرط أال تطلب دولة أخرى تسليمه لها باعتباره من
رعاياها أو أن الجريمة مست بها بمبدأ من المبادئ السابقة ،حيث في هذه الحالة تصبح األولى بمحاكمته .ويبرر هذا
المبدأ رغبة الدول في التعاون من أجل مكافحة نوع معين من الجرائم التي تهم المجتمع الدولي] ،[37والتي تشكل
عدوانا على مصلحة مشتركة بين الدول ،كجرائم القرصنة واالتجار في الرقيق أو في المخدرات ...وقد تجسد من خالل
اتفاقيات قد تلزم الدول المنضمة لها أن تدرج المبدأ في قانونها الداخلي مثلما هو الشأن بالنسبة التفاقية جنيف الرابعة
لسنة 1949المتعلقة بجرائم الحرب وغيرها من االنتهاكات الواردة بهذه االتفاقية
] - [1وقد قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر في هذا الصدد في حكم لها مؤرخ في 1999-01-02 :في القضية
رقم 31للسنة 17قضائية دستورية ،أنه ":األصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق هو إطالقها ،باعتبار أن جوهر
تلك السلطة هو المفاضلة التي يجريها بين البدائل المختلفة التي تتصل بالموضوع محل التنظيم التشريعي ،موازنا بينها ،مرجحا ما
يراه أنسبها لفحواها ،وأحراها بتحقيق األغراض التي يتوخاها ،وأكفلها ألكثر المصالح وزنا في مجال إنفاذها ،وليس ثمة قيد على
ممارسة المشرع لسلطته هذه ،ما لم يكن الدستور قد فرض في شأن ممارستها ضوابط محددة".
] - [2والتفسير أنواع تختلف باختالف الجهة القائمة به ،فهناك تفسير تشريعي الذي يقوم به المشرع نفسه وهو ما
يسمى ب ":التفسير الصحيح" حيث يأخذ قوة القانون ،وتفسير قضائي ،وهو الذي يقوم به القضاة ،بصدد تطبيقهم النصوص
الموضوعية على الوقائع المعروضة عليهم ،وهو غير ملزم إال في حدود القضية التي صدر فيها بالنسبة ألطرافها والمحكمة التي
قامت به ،وتفسير فقهي وهو شروح فقهاء القانون ،وهو يعد في حقيقته عرض لوجهات النظر وله أهمية كبرى في إثراء الفكر
القانوني ،كما يساعد القضاة في التفسير.
وللتفسير مناهج ،منها المنهج الحرفي Littéralأو المنهج التقليدي أو الضيق ،الذي يرتبط به المفسر ارتباطا وثيقا
بالنص ،وجعل النص يغلب على روح القانون ،وهو أضيق أنواع التفسير ،والمعتمد كثيرا حتى عبر بأنه " ال اجتهاد مع النص"،
وهو المنهج الذي نادى به بيكاريا القائل " القضاة ال يجب عليهم أن يفسروا القانون لسبب وحيد هو أنهم ليسوا مشرعين"،
ويقول مونتسكيو في هذا الشأن ":القاضي هو عبارة عن الفم الذي ينطق به القانون" ،و" أن الحكم القضائي هو
عبارة عن النص المحدد للقانون" .
وهناك المنهج الغائي Téléologiqueالباحث في الغاية أو الهدف من القانون ،معتمدا على اإلرادة الصريحة
أو المفترضة للمشرع الجنائي ،حيث القاضي في تفسيره للنصوص يجب أن يعكس وجهة نظر المشرع الحقيقية ،ويرى البعض
أن تفسير تقريري من خالله نقرر إرادة المشرع ،وهو المنهج المعتمد حاليا في أغلب األنظمة القانونية كونه يتفق مع الفكر
القانوني والثقافي العام ويتناسب أكثر مع تطور الحياة االجتماعية المعاصرة .وهناك المنهج القياسي Analogiqueحيث ال
يقصد به عند بعض الفقه القياس فقط وإنما القياس على النظام القانوني ككل.
][81
] - [3وهو موقف الفقيه بيكاريا في كتابه الجرائم والعقوبات.
] - [4غير أنه هناك اتجاه فقهي يرى عدم جواز القياس حتى بالنسبة للقواعد األصلح لمتهم ،حيث يرون أن القواعد التي
تتضمن سببا من أسباب اإلباحة أو مانع من موانع المسؤولية أو مانع من موانع العقاب ،ال تعتبر قواعد قائمة بذاتها ،وإنما تدخل
كجزء مكمل للقواعد التجريمية وتحد من تطبيق تلك القواعد ،وتعكس نطاق تطبيقها ،وبالتالي منع القياس بالنسبة لقواعد التجريم
والعقاب ال بد أن يطال النصوص التي تقرر إعفاء من اإلعفاءات.
] - [5في القانون الجزائري المادة 368و 369الخاصة بالسرقة بين األزواج والفروع واألصول ،وكذا المادة 373
المتعلقة بالنصب ،والمادة 377المتعلقة بخيانة األمانة .غير أن المشرع المصري لم يجعلها من موانع العقاب ،بل جعلها من
الجرائم المقيدة بقيد الشكوى ،وذلك ما تضمنته المادة 312من تقنين العقوبات المصري.
] - [6حيث أنه من المسلمات أن القواعد القانونية الجنائية ال تنشأ لكي تبقى سارية المفعول إلى األبد ،إذ هي قواعد تمر
بمراحل تشبه مراحل حياة اإلنسان ،من والدة وحياة وموت ،فيولد القانون بإصداره ويحيا بتطبيقه ويموت بإلغائه ،وبمقتضى هذه
المسلمة ،تتعاقب القوانين في الزمان فينتهي سريان بعضها باإللغاء ليبدأ سريان بعضها اآلخر إلى زمن قد يقصر وقد يطول،
حسب إرادة المشرع ،وهو التعاقب الذي ينشا عنه تنازع بين أحكام القانون الملغى والقانون النافذ ،بخصوص بعض المسائل التي
تتوالى على تنظيمها تلك القواعد.
هي مسألة تعالج في حقيقة األمر ضمن مسألة " تنازع القوانين الجنائية من حيث الزمان" Conflit des lois pénales
dans le tempsأو يعبر عنها البعض بمسألة القانون الجنائي المرحلي Droit pénale transitoireخاصة وان مبدأ عدم
الرجعية مبدأ غير مطلق كونه ترد عليه استثناءات على النحو الذي سنتناوله .وهي من أهم المبادئ التي يقوم عليها القانون
الجنائي الحديث ،في غالبية الدول ،سيما ذات التوجه الديمقراطي ،وهي من النتائج المترتبة عن مبدأ الشرعية الجنائية ،بل مبدأ
من المبادئ التي توازيه ،حيث أن مقتضى مبدأ الشرعية الجنائية أن يكون األفراد المخاطبين بالقاعدة الجنائية على بينة بما هو
محظور عليهم مسبقا ،وهو ما يعني أن أفعالهم جاءت الحقة للنص ال العكس ،وأن القول برجعية النص يخل بل يهدم تماما
مضمون الشرعية ذاتها.ومبدأ عدم الرجعية يقيد السلطة التشريعية ذاتها ،حيث ال تملك هذه األخيرة أن تجرم وتعاقب على أفعال
سبق إتيانها قبل النص ،وأن القول بخالف ذلك يعد اعتداءا على حريات وحقوق األشخاص من قبل السلطة التشريعية ذاتها ،التي
خولها مبدأ الشرعية الجنائية السهر على هذه الحقوق ،ودون مبدأ الرجعية تكون هي المعتدية.
] - [7وفي تأسيس هذا االستثناء ،ومحاولة إيجاد سند أو أساس فلسفي أو قانوني اختلف الفقه – مثلما جرت عليه العادة
لدى فقهاء القانون الجنائي ،فمن الفقه من يرى أن تقرير مثل هذا االستثناء يجد أساسه في اعتبارات إنسانية ،بينما رد البعض أن
األصح أن االستثناء يجد سنده في مبدأ الشرعية الجنائية ،حيث يجب أن تراعي النصوص الجنائي ما يرعى الحقوق الشخصية
ويرأف بها .وقضت المحكمة الدستورية العليا في مصر ،أن رجعية القانون األصلح للمتهم نتيجة حتمية لقاعدة عدم رجعية
القوانين الجنائية.
] - [8ي رى الفقه أن مسألة تحديد القانون الصلح للمتهم ،تتحدد بناء على أسس أو معايير موضوعية بحتة ،أو بناء على
ضوابط قانونية يتقيد بها القاضي ،فالقاضي وهو يفاضل بين أكثر من قانون ويبحث في أي منهما أصلح للمتهم ،ال يعمل رأيه
الشخصي ،وال يخضع لطلبات المتهم بتطبيق قانون دون اآلخر بحجة انه يرى فيه انه األصلح له ،كما أن مسألة القانون األصلح
للتهم ال تقاس بالعمومية والتجريد والحكم على القانون برمته ،بل بالنظر لكل قضية على حدا ولظروف كل جاني دون غيره ،فما
يعد قانونا أصلحا في قضية قد ال يعد كذلك في قضية أخرى ،وما يعد قانونا أصلحا لهذا المتهم ،قد ال يعد كذلك بالنسبة لمتهم آخر
ارتكب ذات الجرم .الواقعية تعني النظر لكل جريمة على حدا بناء على أركانها وظروفها ومالبساتها ،وشخصية مقترفها،
فالقانون الواحد قد يعد أصلحا لمتهم بالنظر لظروفه الشخصية ،وأسوأ آلخر بناء على ذات الظروف ،فالقانون القديم مثال إذا كان
ينص على إيقاف التنفيذ وجاء آخر جديد ألغى وقف التنفيذ وأنقص العقوبة ،فالقانون الجديد أصلح لشخص مسبوق ،لكنه أسوأ
لشخص غير مسبوق ألنه كان يستحق وقف العقوبة ،وبالتالي القانون القديم هو األصلح له .وبالتالي فمسألة تطبيق القانون الصلح
للمتهم هي مسألة مقارنة بين قانونين متنازعين ،فيما يخص الشدة ،حيث يجب أن يحدد القانون
الصلح للمتهم ،سواء تعلقت الشدة بشق التجريم أو تعلقت بشق العقاب.
] - [9ومعنى ذلك أنه إذا حدث تنازع بين قانونين ،أحدهما كان يعاقب على الفعل باعبتراه جناية عقوبتها خمس سنوات
سجن ،وصدر قاتنون جديد يجعل من العقوبة جنحة لكن عقوبتها 6سنوات حبس ،فالقانون الجديد أصلح كونه جنح الفعل والجنحة
أقل
شدة من الجنائية بغض النظر عن شق العقاب ،بالرغم من ان مدة الحبس أطول من مدة السجن.
][82
] - [10قد يظهر أن عقوبة الحبس المتعلقة بالمخالفات المتمثلة في الحبس من يوم واحد إلى شهرين أخف من عقوبة
الغرامة التي تتجاوز 20.000دج ،وأن الشخص لو خير بينها الختار الغرامة أضعاف مضاعفة عوض الحبس ولو ليوم واحد\،
غير أن هذا الترتيب المشرع هو الذي أورده ،وبالتالي القاضي ملزم بتطبيقه والمتهم غير مخير بخصوصه ،كون عقوبة الغرامة
التي تتجاوز 20.000دج هي عقوبة جنحة ،وعقوبة الحبس من يوم إلى شهرين هي عقوبة مخالفة ،وبالتالي األخيرة أخف من
األولى من وجهة نظر المشرع ،والقاضي ملم بتطبيقها.
= غير أن محكمة النقض الفرنسية قضت في إحدى قراراتها ،أن عقوبة الحبس دوما اشد من عقوبة الغرامة حتى ولو
صدرت في مادة المخالفات .وليس للحكم نظير في القضاء الجزائري ،لذا يعمل بالترتيب الوارد بالمادة .5حتى وإن كان يظهر
انه ال يخدم مصلحة المتهم.
] - [11حيث أنه من الصعوبات العملية ،الحالة التي تكون فيها الجريمة على سبيل المثال تتقادم بمضي خمس سنوات
وفي نهاية السنة الرابعة أوقف المتهم وأدين ،لكن قبل أن يصبح الحكم نهائيا ،صدر قانون جديد يجعل من مدة التقادم في هذه
الجريمة ثالث سنوات ،ففي هذه الحالة وتطبيقا للقانون الصلح للمتهم الذي يطبق فيها في أي حالة كانت عليها الدعوى ما لم
يصدر حكما
باتا ،أن نحكم بتقادم الجريمة بالرغم من الحكم باإلدانة كان مطابقا للقانون الذي صدر في ظله.
] - [12األجنبي حتى يحاكم في الجزائر على جريمة اقترفها بالجزائر ،يجب أن يثبت بأنه لم يحاكم عنها في الخارج أو
أن يثبت في حال محاكمته عنها في الخارج أنه قضى عقوبتها أو سقطت عنه بالتقادم ،وذلك تطبيقا للمادة المادة 589من ق إ ج
ج =التي نصت على أنه" :ال يجوز مباشرة إجراء أية متابعة من أجل جناية أو جنحة اقترفت في الجزائر ضد أجنبي يكون قد
أثبت أنه قد حوكم نهائيا من أجل هذه الجناية أو الجنحة في الخارج وأن يثبت في حالة اإلدانة أنه قضى العقوبة أو تقادمت
أو صدرعفو عنها ".
] - [13نرى أن صياغة المادة تنقصها بعض الدقة ،حيث كان يتعين على المشرع الجزائري أن يضيف عبارة جزائري
لكلمة قانون العقوبات ،وتضاف عبارة الجزائرية لعبارة أراضي الجمهورية.
كما كان يتعين على المشرع الجزائري اإلشارة صراحة لباقي المبادئ األخرى في الفقرة الثانية ،كون المسألة
موضوعية وليست إجرائية ،فهي تتعلق بتطبيق النص من حيث المكان .وهو من صميم اهتمامات القانون الموضوعي ال
اإلجرائي.
] - [14نحن تناولنا المبررات بهذا الشكل تسهيال الستيعابها ،غير أن الفقه في غالبيته يبني مبررات المبدأ على ثالثة
زوايا أو ثالثة اعتبارات ،أوال :االعتبار الدولي وهو أن قانون العقوبات القانون المعبر عن سيادة الدولة على إقليمها واعتبارات
السيادة تتعارض وتطبيق تشريع جنائي لدولة ما على إقليم دولة أخرى ،ثانيا :االعتبار العقابي وهو أن تطبيق مبدأ اإلقليمية يحقق
الغرض من العقوبة المتمثل في تحقيق الردع العام الذي يعد هدفا أساسيا للعقوبة ،ومن المناسب أن نعاقب على الجريمة المرتكبة
في أقرب مكان لوقوعها كونها أخلت بالنظام العام في هذا المكان بالذات ،وخلقت فيه اضطرابا اجتماعيا فال بد أن يحاكم الجاني
ويعاقب في هذا المكان وتنفذ فيه العقوبة حتى يكون عبرة مما يحقق التخويف والردع الذي يهدف إليه القانون الجنائي ،ثالثا:
االعتبار اإلجرائي وهو مبدأ يؤدي لحسن سير العدالة وتسهيل إجراءات البحث والتحري ،كما أن القاضي الوطني يفترض فيه
العلم بقانون بلده وجهله بالقانون األجنبي ،مما يسهل عملية اإلجراءات الجنائية ،من تحقيقات وبحث وتحري ومحاكمة ،وتسهيل
اإلثبات ،حيث في هذا المكان تتوفر أدلة اإلثبات والشهود ويمكن سماع أقوال المجني عليه ،األمر الذي يصعب إن كان التحقيق
والمحاكمة يجري بعيدا عن المكان الذي وقعت فيها الجريمة ،فيحقق مبدأ اإلقليمية بذلك اقتصاد في الجهد والوقت.
] - [15إقليم الدولة وفقا للقانون الدولي العام ،هو أوال :اإلقليم األرضي ،وهو مساحة اليابسة التي تحدها الحدود
السياسية للدولة وكذا ما يوجد تحت هذه المساحة من طبقات ،وسواء كانت هذه األرض متصلة أو منفصلة مثلما هو الحال بالنسبة
للدول التي تتكون من عدة جزر ،ويشمل كل ذلك السهول والوديان والهضاب والمرتفعات والبحيرات وكذا ما في باطن األرض
من مواد طبيعية ،كما ال يمنع أن يكون إقليم الدولة الواحدة في عدة قارات ،ويضاف إلى ذلك المياه اإلقليمية المتمثلة في ذلك
الجزء الواقع بين الساحل وبين خط وهمي مواز لذلك الساحل ،واإلقليم الجوي الذي يشمل كل ما يعلو اإلقليم األرضي
والمائي.ثانيا :اإلقليم المائي أو البحري للدولة ،ويشمل مساحات الماء الداخلية من أنهار وطنية وأجزاء تابعة للدولة من األنهار
الدولية والبحيرات والبحار المغلقة والقنوات والمضايق والخلجان والموانئ البحرية ،والبحر اإلقليمي المالصق لشواطئ الدولة،
ودرجت العادة أن تحدد كل دولة بصفة منفردة مياهها اإلقليمية .ثالثا :اإلقليم الجوي ،ويشمل كل طبقات الهواء التي تعلو اإلقليم
األرضي والمائي دون طبقات الجو العليا واألجرام السماوية التي تخضع التفاقية دولية تسمى االتفاقية الخاصة بتنظيم استغالل
واستعمال الدولة للطبقات العليا في الجو الصادرة عن الجمعية العامة لألمم المتحدة في مشروعها في .1966/12/19 :
][83
بينما المفهوم الجنائي لإلقليم ،يشمل باإلضافة إلى ما سبق ،اإلقليم الحكمي الذي يعني امتداد اإلقليم للطائرات والسفن
وبخصوصه ،هناك اتفاقية جنيف الموقعة سمة 1958قسمت السفن إلى سفن عامة وأخرى خاصة ،ومن قبيل السفن العامة السفن
الحربية وما في حكمها كالسفن المقلة للوفود الرسمية وسفن التموين ،وتتمتع السفن العامة بحصانة عامة في أعالي البحار وال
تخضع ألي اختصاص إال الختصاص الدولة التي ترفع علمها ( المادة 9من اتفاقية جنيف) ،كما تسري ذات الحماية والحصانة
إذا كانت هذه السفن مبحرة أو راسية في المياه اإلقليمية لدولة أخرى ،بشرط أن تحترم قوانين الدول األخرى وإال حق طردها (
المادة 3من اتفاقية جنيف) ،أما السفن الخاصة كالسفن التجارية وسفن الصيد وما في حكمها ،فإن االختصاص ينعقد للدولة التي
تحمل السفينة علمها ،إال في الحاالت التي حددتها النصوص القانونية ( مثلما هو األمر بالنسبة للمادتين 590و 591ق إ ج ج ).
أما بخصوص الطائرات ،نظمتها اتفاقية طوكيو لسنة ،1963ويسري ذات الفرق الذي رأيناه بخصوص السفن العامة والسفن
الخاصة على الطائرات ،حيث القاعدة أن الجرائم التي ترتكب على متن الطائرات من اختصاص قانون= =الدولة التي تحمل
الطائرة علمها ،سواء كانت داخل حدود إقليمها أو خارجه .ما عدا االستثناءات المبينة بنصوص قانون اإلجراءات الجزائية.
] - [16وإن كان في الحقيقة اإلشكال أثار العديد من الخالفات الفقهية ،حيث ظهرت نظرية السلوك التي يرى أنصارها
أن العبرة بالمكان الذي حدث فيه السلوك وال عبرة بالنتائج ،ونظرية النتيجة وعكس االتجاه األول يرى أنصارها أن العبرة
بالمكان الذي حدثت فيه النتيجة التي بدونها ال يكون للجريمة وجود ،ونظرية ثالثة تسمى النظرية المختلطة ،التي تعتد بمكان كل
من السلوك والنتيجة ،حيث يختص القانون الذي ارتكبت فيه الجريمة كلها أو جزء منها ،وهو اتجاه يقترب من آخر يرى أن مكان
ارتكاب الجريمة هو المكان الذي وقع فيه الجزء المميز و الرئيسي أو األساسي الذي أخذ به المشرع الفرنسي في نص المادة
693من قانون إجراءاته والمشرع الجزائري في نص المادة 586من قانون اإلجراءات.
] - [17وهي شروط نرى أنها وجيهة ومعقولة وواجه بها المشرع فكرة عدم إفالت الجناة من العقاب ،وال يجب أن يفهم
من عبارة " أعالي البحار " أنه أهمل األماكن األخرى ،بل أن المياه اإلقليمية محكومة بالقاعدة العامة التي تضمنتها المادة 3من
تقنين العقوبات ،والمياه اإلقليمية األجنبية محكومة بمبدأ اإلقليمية المنصوص عليه في قانون الدولة التي تتبعها هذه األقاليم ،لتبقى
أعالي البحار المكان الوحيد غير الخاضع لسلطة أي قانون ،وواجهه المشرع الجزائري بنص المادة 1/590من قانون
اإلجراءات الجزائية ،لكن اإلشكال هو الذي سنبينه بعد حين ،عند تناولنا للفقرة الثانية من ذات المادة.
] - [18ن رى أنه كان على المشرع الجزائري أن يستعمل حرف " الواو" بين اشتراط الجنسية للجاني أو المجني عليه،
وهبوطها بالجزائر ،ألنه بالشكل الذي هي عليه المادة يختص القانون الجزائري بمجرد هبوط الطائرة بالجزائر حتى ولو لم يكن
الجاني أو المجني عليه جزائريا ،وهو وضع صعب لفرض تطبيق القانون الجزائري ،كما انه صعب إذا كان الجاني أو المجني
عليه جزائريا والطائرة أجنبية ولم تحط بالجزائر ،فهنا كيف للقانون الجزائري أن يتتبع هذه الطائرة خارج اإلقليم الوطني.
] - [19وتتمثل غالبية هذه االستثناءات في حصانة مقتضاها عدم تطبيق قانون العقوبات لبلد ما على بعض الجرائم
بالرغم من ارتكابها على إقليم الدولة ،وذلك تحقيقا لبعض االعتبارات المعينة ،الحصانة Immunitéهي حماية شخص أو فئة
معينة أو تقرير امتياز معين ،لضمان أداء وظائف معينة على الوجه األكمل وتزول الحصانة بانتهاء المهمة أو الوظيفة ،وهناك
حصانة داخلية تختلف باختالف النظام الداخلي للدولة وفلسفة التشريع فيها ،وحصانات مقررة وفقا للقانون الدولي ،المعتمدة عن
طرق اتفاقية فيينا المؤرخة في 1961-04-18وتشمل رؤساء الدول األجنبية وأفراد أسرتهم وحاشيتهم المرافقة لهم وكذلك
الممثلين الدبلوماسيين للدول األجنبية وزوجاتهم وأوالدهم والعاملين معهم إذا كانوا من غير رعايا الدولة العاملين بها،
وتشمل الحصانة جميع الجرائم التي يرتكبونها سواء تعلقت بأعمال وظيفتهم أو لم تتعلق.
] - [20ونالحظ على صياغة هذه المادة أنه يسودها بعض الغموض ،خاصة باختصاص هذه المحكمة في الجرائم التي
يرتكبها رئيس الجمهورية ،حيث يفهم من الفقرة األولى منها أنها تختص فقط باألفعال التي توصف بالخيانة العظمى ،في حين
الفقرة الثانية يفهم منها اختصاصها أيضا بنظر الجنايات والجنح التي يرتكبها كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ،وهو
الوزير األول في التعديل الدستوري األخير .ويظهر أن المادة ميزت أوال أفعال الخيانة العظمى بالنظر لخطورتها ،ثم ضمنت
الفقرة الثانية باقي الجنايات والجنح التي يمكن أن يرتكبها رئيس الجمهورية أثناء تأدية مهامه.
وأفعال الخيانة العظمى ،هي أفعال التعاون مع العدو ضد السالمة األمنية واالقتصادية للوطن ،أو األفعال التي تشكل
مساسا بالوحدة الترابية له .ونحن ال نرى بأن وضع رئيس الجمهورية في الجزائر هو استثناء على مبدأ إقليمية النص الجنائي ،بل
هو معاملة إجرائية من نوع خاص ،ألن االستثناء يعني عدم الخضوع أصال للقانون الوطني ،في حين أنه في هذه الحالة
ن رى أنه يخضع للقانون الجزائري لكن أمام جهة قضائية غير الجهات القضائية التي تحاكم سائر األفراد.
] - [21والمقصود السلطة التشريعية أيا كانت تسميتها في الدول األخرى ،مثل الكونغرس ومجلس الشيوخ في الواليات
المتحدة األمريكية ،والكريملن في روسيا ،أو مجلس اللوردات في إنجلترا ،أو مجالس الملك في المملكات....
][84
] - [22حول مفهوم الحصانة البرلمانية ،يمكن القول أنها وضع خاص مقرر للحيلولة دون خضوع أعضاء الهيئة
التشريعية لقانون العقوبات الوطني بالخصوص – في غالبية دول العالم -بخصوص الجرائم القولية أو الكتابية التي تتعلق بتأدية
مهامهم النيابية ،من قذف وسب وإفشاء أسرار أو بالغات كاذبة أو إهانة السلطات ،وذلك لتمكينهم من أداء مهامهم النيابية في
حرية كاملة سيما في الجوانب المتعلقة بمراقبة عمل السلطة التنفيذية ،دون خوف من تعقبهم أو مالحقتهم قضائيا ،كون سيف
المالحقة والعقاب حتى ولو كان نظريا من شأنه أن يحد واقعيا من حرية هؤالء ،ويدفعهم للتردد قبل توجيه أي نقد للسلطة
التنفيذية ،وهي حصانة لصيقة بصفة النائب يتمتع بها طيلة فترة نيابته ،لكن يجب أن ترتبط بما يصدر عنه بمناسبة تأدية مهامه،
وهنا كل ما يشترط أن يحصل اإلذن من الهيئة التشريعية ،في الجرائم غير المتعلقة بالمهام الوظيفية النيابية
] - [23إن كانت مسألة الحصانة البرلمانية مسألة مفهومة ،خاصة وأن غالبية الدول تعترف بها ألعضاء السلطة
التشريعية ،وهي الحصانة التي قررت في حقيقة األمر ألجل هدف إبعاد النواب عن كل أنواع الضغوطات بمناسبة مناقشة القوانين
وسياسات الحكومة العامة وغيرها من المهام التي تدخل ضمن مهام السلطة التشريعية ،وبالتبعية تقييد تحريك الدعاوى العمومية
إلجراءات خاصة تبعد النائب أن يكون عرضة للمتابعات الكيدية ،سيما في الدول التي تعرف التعددية الحزبية ،وما قد يقود إليه
ذلك من متابعات تعسفية لنيل الخصوم من بعضهم البعض ،إال أن مسألة حظر رفع الدعاوى المدنية عليهم أمر يبقى غير مفهوم،
خاصة وأ ن عضو البرلمان مواطن يتعامل مع باقي المواطنين كبائع وكمشتري ومستأجر ومؤجر ودائن ومدين ،فكيف نمنع
تحريك الدعاوى المدنية ضده طيلة مهملته النيابية وأثر ذلك على تقادم حقوق الغير...
] - [24التلبس بالجنايات والجنح بينت حاالته وأحكامه وإجراءاته المادة 41وما بعدها من قانون اإلجراءات الجزائية
الجزائري ،حيث قضت المادة السابقة أنه ":توصف الجناية أو الجنحة بأنها في حالة تلبس إذا كانت مرتكبة في الحال أو عقب
ارتكابها.
كما تعتبر الجناية أو الجنحة متلبسا بها إذا كان الشخص المشتبه في ارتكابه إياها في وقت قريب جدا من وقت وقوع
الجريمة قد تبعه العامة بصياح أو وجدت في حيازته أشياء أو وجدت في حيازته أشياء أو وجدت أثار أو دالئل تدعو إلى افتراض
مساهمته في الجناية أو الجنحة.
وتتسم بصفة التلبس كل جناية أو جنحة وقعت ولو في غير الظروف المنصوص عليها في الفقرتين السابقتين ،إذا كانت
قد ا رتكبت في منزل أو كشف صاحب المنزل عنها عقب وقوعها وبادر في الحال باستدعاء أحد ضباط الشرطة القضائية
إلثباتها.".
] - [25ويرى البعض أن الحصانة الرئاسية تمتد لزوج الرئيس ،أما باقي األعضاء فهم يتمتعون بحصانة دبلوماسية
بشرط إبالغ القائمة المتعلقة بأسمائهم قبل الزيارة لسلطات الدولة المعنية بالزيارة.
] - [26قد حدث سنة 1873أن ملك هولندا كان في زيارة لسويسرا وهو متخف فارتكب مخالفة حكم عليه بغرامة
وأثناء التنفيذ عليه كشف عن شخصيته فلم ينفذ الحكم عليه ،كما حدث سنة 1997أن قرر القضاء األمريكي منع المحاكمة عن
سلطان بروناي بتهمة إقدامه على احتجاز ملكة جمال أمريكا في قصره.
] - [27ويمكن التنازل عن الحصانة ويالحق الدبلوماسي ،وقد حدث في فرنسا وأن قام سفير دولة الزائير في فرنسا
جريمة قتل خطا أودت بحياة طفلين ،وحالت الحصانة دون مالحقته أمام القضاء الفرنسي في مرحلة أولى ،لكن وأمام الغضب
الكبير الذي أبداه الرأي العام الفرنسي ،اضطرت دولة زائير إلى استدعاء سفيرها وقرر بعدها رئيس جمهورية هذه الدولة التنازل
عن الحصانة الدبلوماسية ،وعاد السفير لفرنسا وسلم نفسه بإرادته إلى السلطات الفرنسية أين حوكم وقضي عليه بثالث سنوات،
وبالتالي ال يجوز للسفير التنازل بإرادته عن الحصانة ما لم تجزه دولته
] - [28يفرق بعض الفقه بخصوص مبدأ الشخصية الجنائية بين شقه اإليجابي وشقه السلبي ،وذلك ألن قوانين دول
هؤالء الفقهاء تبني المبدأ على زاوية النظر ما إن كان الشخص جانيا أو مجنيا عليه ،في الحالة األولى يكون إيجابيا وفي الحالة
الثانية يكون سليا ،وهو الوضع غير المعمول به في القانون الجزائري الذي ال يولي أهمية إال للشخص الجاني.
] - [29التي نصت على أنه ":كل واقعة موصوفة بأنها جناية معاقب عليها من القانون الجزائري ارتكبها جزائري
خارج إقليم الجمهورية يجوز أن تتابع ويحكم فيها في الجزائر .غير أنه ال يجوز أن تجري المتابعة أو المحاكمة إال إذا عاد الجاني
إلى الجزائر ولم يثبت أنه حكم عليه نهائيا في الخارج وأن يثبت في حالة الحكم باإلدانة أنه قضى العقوبة أو سقطت عنه بالتقادم
أو حصل على العفو عنها" ،وقد أكد على ذلك قرار صادر عن المحكمة العليا في ": 1969-01-21تخول المادة 582المحاكم
الجزائرية االختصاص لمتابعة كل واقعة موصوفة بأنها جناية في القانون الجزائري والحكم فيها إذا ارتكبها جزائري خارج إقليم
الجمهورية".
] - [30كيف للمشرع الجزائري التدخل بعقاب شخص جزائري عن فعل يسمح به قانون الدولة التي يتواجد بها ،وقد
يكون يأذن به ،ال ألمر سوى ألنه الفعل موصوف في القانون الجزائري بأنه جناية ،وهذا الشخص قد يكون مولود ألب جزائري
][85
في الخارج ،ولم ير في حياته الجزائر ،لذا كان على األقل أن يضيف المشرع الجزائري شرط ن يكون الفعل موصوف كذلك في
هذا القانون بأنه جناية أو على األقل جنحة.
] - [31وذلك حتى ال يكون حمل الجنسية الجزائرية ألجل مالذا للمجرمين ،وهو شرط نصت عليه المادة 584من
قانون اإلجراءات الجزائية التي قضت انه " ":يجوز أن تجري المتابعة أو يصدر الحكم في الحاالت المنصوص عليها آنفا في
المادتين 582و 583حتى ولو لم يكن المتهم قد اكتسب الجنسية الجزائرية إال بعد ارتكابه الجناية أو الجنحة.".
] - [32التي نصت على أنه ":كل واقعة موصوفة بأنها جنحة سواء في نظر القانون الجزائري أم في نظر تشريع القطر
الذي ارتكبت فيه يجوز المتابعة من أجلها والحكم فيها في الجزائر إذا كان مرتكبها جزائري.
وال يجوز أن تجري المحاكمة أو يصدر الحكم إال بالشروط المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة .582
وعالوة على ذلك فال يجوز أن تجري المتابعة في حالة ما إذا كانت الجنحة مرتكبة ضد احد األفراد إال بناء على طلب
النيابة العامة بعد إخطارها بشكوى من الشخص المضرور أو ببالغ من سلطات القطر الذي ارتكبت الجريمة فيه"
وأكد على ذلك قرار صادر عن المحكمة العليا في ": 1981-07-كل واقعة موصوفة بأنها جنحة في نظر القانون
الجزائري أو في نظر تشريع القطر الذي ارتكبت فيه يجوز المتابعة من أجلها والحكم فيها في الجزائر إذا كان مرتكبها جزائريا
ولم يبرر هذا ألخير أنه حوكم نهائيا عليها أو في حالة صدور عقوبة ضده أن هذه العقوبة نفذت عليه أو أنها تقادمت أو صدر
في شأنها إجراء بالعفو".
] - [33وهنا نشير بأنه إن كان الفعل يشكل جناية في القانون الجزائري وجنحة في القانون األجنبي طبقت المادة 582
ال المادة ،583غير أن االنتقاد الذي يمكن توجيهه هذه المرة ،هو ن المشرع اكتفى بوصف الجنحة في أحد القانونين فقط ،مما
يعني أن الفعل إذا كان مباحا في الجزائر ومجرم في الخارج طبق النص ،والعكس صحيح ،وهنا نعود لذات النقد الذي قدمناه
بخصوص الجنايات ،ونقول ما دخل القانون الجزائري للعقاب على فعل مباح في الخارج ال لشيء سوى ألنه مجنح في الجزائر؟
وما دخل القانون الجزائري للعقاب على فعل مباح في الجزائر ومجنح في الخارج؟؟؟؟؟.
وإن كان الفعل يوصف على أنه جناية في القانون الجزائري ،وجنحة ف القانون األجنبي طبق نص المادة 582ال
نص المدة 583
] - [34التي نصت على أنه " ":كل أجنبي ارتكب خارج اإلقليم الجزائري بصفة فاعل أصلي أو شريك جناية أو جنحة
ضد سالمة الدولة الجزائرية أو تزييف النقود أو أوراق مصرفية وطنية متداولة قانونا بالجزائر تجوز متابعته ومحاكمته وفقا
ألحكام القانون الجزائري إذا ألقي القبض عليه في الجزائر أو حصلت الحكومة على تسليمه لها.".
] - [35م صطلح المساس بالسالمة الوطنية مصطلح واسع جدا ،حيث يفهم منه كل الجرائم المتعلقة بأمن الدولة ووحدتها
الترابية وحماية اقتصادها ،المنصوص عليها من المادة 61حتى 96من تقنين العقوبات الجزائري.
] - [36ال عقاب على تزييف النقود التي خرجت من نطاق التداول ،حيث أضحت ال قيمة اقتصادية وال قانونية لهان
وبالتالي فهي ليست بحاجة لفرض حماية جنائية عليها ،وبخصوص تزوير وتزييف النقود في القانون الجزائري راجع المادة 197
وما يليها من تقنين العقوبات.
] - [37ويرجع األصل التاريخي للمبدأ للفقيه جوستنيان وإن كان يرى الفقه أن أول من صاغ المبدأ في مطلع القرن
السابع عشر كان جروسيوس في التزام الدولة التي تقبض على الجاني إما بعقابه أو تسليمه
الفصل الثاني
أسباب اإلباحة أو أسباب التبرير
][86
سبق لنا القول في تعريفنا لمبدأ الشرعية الجنائية ،أنه مبدأ يقتضي أال جريمة وال جزاء إال بنص قانوني
مكتوب صادر عن سلطة مختصة بإصداره طبقا ألحكام الدستور ،وأن يكون هذا النص ساريا من حيث الزمان
والمكان ،وفقا لما تم تبيانه في الفصل األول ،وباإلضافة إلى ذلك ،يجب أال يكون قد توفر لدى مرتكب الفعل سبب من
أسباب اإلباحة التي تنفي عن الفعل صفة الالمشروعية التي يقتضيها مبدأ الشرعية الجنائية ،وتؤدي إلى صيرورته
مباحا ،وذلك بالرغم من تطابقه مع النموذج التشريعي للجريمة ،لذا فهذه األسباب يمكن القول باختصار أنها عبارة عن
حاالت تتوفر في أحوال معينة يقدرها المشرع ويقرر بمقتضاها إخراج الفعل من دائرة التجريم إلى دائرة اإلباحة .األمر
الذي يقتضي منا تناول ماهية هذه األسباب
أ و الحاالت ،وتبيان تقسيماتها وآثارها ،وتمييزها عما يشابهها من أفكار ،وذلك في مبحث ،لنتناول في الثاني أسباب
اإلباحة ،سبب بسبب ،وفقا لما تضمنه قانون العقوبات الجزائري ،ونضيف إليه بعض األسباب األخرى التي تأخذ بها
بعض األنظمة الجنائية في القانون المقارن .وأهمها رضاء المجني عليه وحالة الضرورة.
المبحث األول
ماهية أسباب اإلباحة وآثارها القانونية
أسباب اإلباحة أو أسباب التبرير ،عبارة عن ظروف موضوعية عينة لصيقة بماديات الجريمة ،أي
بالركن المادي للجريمة ،وال عالقة لها إطالقا بشخصية الجاني ونفسيته ،بمعنى اقتران أسباب اإلباحة بالركن المادي
][87
للجريمة ،ال بالركن المعنوي له ا ،وهي إذا ما توافرت أخرجت الفعل من دائرة التجريم إلى دائرة اإلباحة ،أي تؤدي إلى
صيرورة الفعل مباحا بعدما كان مجرما ،وأسباب اإلباحة على عدة أنواع ،بحسب التقسيمات المختلفة التي أوردها الفقه،
غير أن المشرع حصرها بعددها وموضوعها وجوهرها ،وتتشابه مع العديد من األفكار الجنائية المشابهة لها ،غير أنها
تختلف عنها ،وأهم ما تختلف فيه عن هذه األفكار من حيث اآلثار القانونية المترتبة عليها ،وهي المسائل التي سنحاول
توضيحها في المطالب التالية.
المطلب األول
معنى أسباب اإلباحة وتقسيماتها
تحديد المعنى الدقيق ألسباب اإلباحة أو أسباب أو حاالت التبرير ،يقتضي منا تناول المقصود بها ،ومن
ثم تمييزها عما يشابهها من أفكار ،وكذا تحديد أهم آثارها القانونية ومختلف التقسيمات التي أعطيت لها ،وذلك في
الفروع التالية.
الفرع األول
المقصود بأسباب اإلباحة
أسباب اإلباحة عبارة عن ظروف موضوعية عينية حددها المشرع ،وجعل من أهم آثارها نفي الصفة
التجريمية عن الفعل بعدما كان مجرما ،أي نفي الصفة غير المشروعة عن الفعل بالرغم من تطابقه مع النموذج
التشريعي للجريمة التي تضمنها النص العقابي ،لذا يمكن تعريفها بأنها :الحاالت التي ترفع عن الفعل صفة الجريمة
وتجعله مباحا بالرغم من تطابقه مع الواقعة المجرمة بنص القانون ،وذلك ألن القانون ذاته هو الذي سمح بارتكاب هذا
الفعل في ظل توفر مثل هذه الظروف ،كونها ظروف إذا ما اقترنت بالفعل جردته من معنى العنوان – والعدوان هو
سبب التجريم بداية ،-لذا يمكن اعتبار أسباب اإلباحة عبارة عن قيود ترد على النص التجريمي فتعطل مفعوله ،وتخرج
الواقعة المتضمنة في النص من دائرة التجريم إلى دائرة اإلباحة .أي تجعل من الفعل مشروعا بعدما كان يتصف بعدم
المشروعية .وبالتالي إن كان األصل في األفعال اإلباحة ،واالستثناء التجريم ،فأسباب اإلباحة استثناء على هذا االستثناء
( التجريم) ،وبالتالي هي العودة إلى األصل ،أي األصل في األشياء اإلباحة .وبالنظر لما يترتب عن أسباب اإلباحة من
آثار ،كان يتعين علينا تناول مصدرها ،قبل مسألة تمييزها عما يشابهها من أفكار .وذلك في النقطتين التاليتين.
أوال :مصادر أسباب اإلباحة
ب النظر لما يترتب على أسباب اإلباحة من آثار قانونية ،وأهمها تقييد النص التجريمي بالرغم من قيمته
وأهميته وأهدافه ،فالمنطق يوجب أن يكون المشرع هو المحدد والمقدر للظروف التي يعتبرها سببا من أسباب اإلباحة،
ما دام هو الذي حدد األفعال التي تشكل جرائم ،لذا فمن المنطقي أن تكون أسباب اإلباحة محددة على سبيل الحصر في
قانون العقوبات ،غير أن هذا الحصر يتعلق بموضوعها ال بمصدرها ،إذ سبق القول عند دراسة نتائج مبدأ الشرعية
الجنائية ،أنه تستثنى هذه القواعد العامة ( مثل حظر التفسير والقياس وأحادية المصدر) في حال تعلق األمر بمصلحة
المتهم ،إذ يجوز بالتالي أن يكون مصدر اإلباحة غير قانون العقوبات ،وذلك ال يخل بقولنا بوجوب أن تكون محددة
حصرا بموضوعها ،كما يجوز اللجوء إلى القياس في مجال أسباب اإلباحة ،وكذا التفسير الواسع لها ،إذ مبدأ الشرعية
الجنائية يقضي بأن يكون القانون المصدر الوحيد ،ويحظر القياس والتفسير الواسع في مسائل التجريم والعقاب ،ال في
المجاالت التي تخدم صالح المتهم ،كأسباب اإلباحة وموانع المسؤولية وموانع العقاب .لذا فأسباب اإلباحة يمكن أن تجد
مصدرها في الشريعة اإلسالمية أو العرف أو فروع القانون غير الجنائية ،أو مبادئ العدالة وأحكام القانون الطبيعي،
على أن ترد بموضوعها إلى حالة من الحاالت التي تضمنها قانون العقوبات ،وذلك ما يتضح عند دراستنا لهذه األسباب
تباعا.
ثانيا :تمييز أسباب اإلباحة عما يشابهها من أفكار جنائية
مفهوم أسباب اإلباحة وما تمت إليه اإلشارة من آثارها – بطريقة عرضية -تجعلها تشتبه بالعديد من
األفكار األخرى التي يتضمنها القانون الجنائي ،وأهمها موانع المسؤولية وموانع العقاب ،وأحيانا بعض الموانع
اإلجرائية ،غير أن قولنا أن أسباب اإلباحة عبارة عن ظروف موضوعية لصيقة بالركن المادي للجريمة ،وغير ذات
عالقة بشخصية الجاني ونفسيته ،يجعلها تختلف اختالفا كبيرا عن موانع المسؤولية وموانع العقاب ،كما تختلف عن
][88
الموانع اإلجرائية المتعلقة بقانون اإلجراءات ،في حين أسباب اإلباحة أسباب متعلقة بالقنون الموضوعي المتمثل في
قانون العقوبات ،وهو ما نبينه من خال ل النقاط الثالثة التالية ،وذلك باختصار ،على اعتبار أن هذه الموانع سيحين
موضع دراستها بالقدر والتفصيل الالزم للموضوع.
-1أسباب اإلباحة وموانع المسؤولية:
م وانع المسؤولية عبارة عن حاالت بتوفرها تتأثر أهلية الشخص أو قدرته على االختيار واإلدراك ،على
اعت بار المسؤولية الجنائية تقوم على التمييز والقدرة على االختيار والحرية فيه ،وبالتالي كلما زالت هذه المكنات كان
الشخص غير مسؤول جنائيا ،كصغر السن أو الجنون أو اإلكراه المسلط عليه ،وهو ما بينه المشرع الجزائري في
المواد من 47إلى 51من تقنين العقوبات .وهو ما يبين بوضوح بأن موانع المسؤولية ،عبارة عن عوامل داخلية
شخصية تتعلق بشخصية الجاني ال بالركن المادي للجريمة] ،[1على عكس أسباب اإلباحة التي تتعلق بالركن المادي
للجريمة .هذا من جهة .و من جهة ثانية ،أسباب اإلباحة تنصب على النص فتعطل مفعوله ،مما يحول دون قيام
ال جريمة أصال ،على عكس موانع المسؤولية التي ال أثر لها على قيام الجريمة ،بل فقط على تخلف شرط من شروط
مسائلة الشخص .وبالتالي الختالف أسباب اإلباحة عن موانع المسؤولية ،العديد من اآلثار القانونية التي يرتبها القانون
الجنائي ،وأهمها:
أ -إن إثبات أسباب اإلباحة أمر يسير مقارنة بإثبات موانع المسؤولية ،كون األولى عبارة عن ظروف
موضوعية لصيقة بالجريمة يسهل إثباتها ،على عكس موانع المسؤولية التي تعد أسباب نفسية داخلية أمر إثباتها صعب،
كونه يتطلب تحليل نفسية الجاني وحالته النفسية ،وهو أمر يتجاوز قدرات القاضي ،لذا يلجا بخصوصها في العادة
للخبرة النفسية ،عدا حالة اإلكراه.
ب -تطبيق أسباب اإلباحة يمتد لكل شخص ساهم في الجريمة ،سواء بوصفه فاعال أصليا أو شريكا ،أي يستفيد
منها كل شخص ساهم في الجريمة ،وذلك باعتبارها ظرفا لصيقا بالجريمة ،بينما موانع المسؤولية باعتبارها موانع
لصيقة بشخصية الجاني ،فال يمكن أن يستفيد منها إال من توفرت لديه.
ج -أسباب اإلباحة تمحي عن الفعل صفته التجريمية ،وبذلك تحول دون تطبيق أي جزاء من أي نوع كان ،في
حين موانع المسؤولية ال تحول دون تطبيق التدابير االحترازية].[2
د -أسباب اإلباحة مادامت تنفي الجريمة ،فهي تنفي المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية] ،[3بينما موانع
المسؤولية ال تنفي قيام المسؤولية المدنية ،حيث يلزم الشخص أو مسؤوله المدني بتعويض ما سببته أفعاله من أضرار
مادية].[4
-2أسباب اإلباحة وموانع العقاب:
موانع العقاب أيضا عبارة عن موانع شخصية تتعلق بالشخص الجاني ،إذا ما توفرت ترتب عنها عدم
عقاب الشخص ،وال يستفيد منه إال من توفرت في حقه ،وال تمتد إلى غيره من المساهمين معه في الجريمة ،كما ال تنفي
قيام هذه الجريمة ،بل تظل جريمة في نظر المشرع إال أن المانع يحول دون توقيع الجزاء فقط ،وهي ال تحول دون قيام
المسؤولية الجنائية ،وال المسؤولية المدنية ،وهي بذلك تختلف تماما عن أسباب اإلباحة على النحو الذي سبق تباينه].[5
][89
المساهمين معه في الجريمة .على عكس أسباب اإلباحة .وإن كانت الموانع اإلجرائية في بعض الحاالت قد يستفيد منها
غير الشخص الذي قررت لصالحه ،مثل حاالت الحصانة السياسية أين تستفيد منها كل الحاشية المرافقة للشخص ،وفي
حاالت الحصانة الدبلوماسية التي يستفيد منها كل أعضاء السفارة أو القنصلية.
ثالثا :أساس اإلباحـة وتحديد طبيعتها
بكل إيجاز ،يرى البعض أن أساس اإلباحة هو انتفاء موجب التجريم ،كون المشرع وفقا للقواعد العامة
ال يجرم إال األفعال التي تشكل اعتداء على المصالح االجتماعية التي يرى ضرورة حمايتها ،لذا فإن رأى هذه األفعال
في بعض الظروف ال تؤثر على الحقوق المحمية ،أو إذا كانت تضر ببعض الحقوق وتحمي البعض اآلخر مما يوليه
الرعاية أكثر ،فإنه يغلب جانب اإلباحة على جانب التجريم ،حيث قد تكون صيانة لما يجب حمايته ،مثل تدخل الطبيب
على جسم اإلنسان بالرغم من حماية القانون ألجسام وأبدان أفراد المجتمع ،وهو الوضع في كل حالة يرى فيها المشرع
أن حماية حق أولى بالرعاية من حماية حق آخر ،فهنا يرفع الصفة التجريمية عن الفعل ،وكلما حدث تنازع بين حقين
فإنه يقرر حماية للحق األعز شأنا واألرجح كفة،
أو الحق الذي يعد من الناحية االجتماعية أغلى وأهم ،كلما استحال حماية حق دون إهدار اآلخر ،لذا يجب إهدار أدني
الحقين قيمة .لذا فأسباب اإلباحة من طبيعة موضوعية – ذات طبيعة مادية ملموسة -ال شخصية ،فهي تنتج أثرها
بعيدا عن الموقف النفسي للفاعل ،وسواء كان يعلم بوجودها أو يجهل ذلك ،وسواء كان حسن النية وقت اقتراف الفعل أو
سيئ النية ،حتى ولو كان يطفئ غال أو حقدا ،كمن يرى شخص يقتل اآلخر فدافع عنه وقتل المعتدي بالرغم من الغل
والحقد الذي كان يجمعهما] .[8كما ال يقتصر أثر أسباب اإلباحة على الفاعل وحده ،بل تمتد إلى شركائه ،تجسيدا لقاعدة
" للفرع حكم األصل".
وبوجه عام ،يمكن القول أن أسباب اإلباحة تنحصر في ثالثة أسباب ،هي القيام بما أمر أو أذن به القانون ،وهو
ما يسميه ا لفقه والقانون العربيين باستعمال الحق وأداء الواجب أو ممارسة الرخصة ،ومن هذه الناحية يمكن القول أن
أسباب اإلباحة واردة قانونا على سبيل الحصر ،غير أن من حيث الواقع فهي في مناي عن حصرها ألنها تتعدد بقدر
تعدد الحقوق والرخص والواجبات .كما أن أسباب اإلباحة تستلهم وجودها من فروع القانون األخرى المعروفة في
النظام القانوني للدولة ككل ،بمعنى تجد أسباب اإلباحة مصدرها في فروع القانون األخرى ،على اعتبار أنه رغم تعدد
فروع القانون في النظام القانوني الواحد ،فإن هذه الفروع تتكامل وال تتناقض أحكامه ،إذ ال يمكن للقانون أو المشرع أن
يأمر أو يبيح فعل معين في فرع من فروع القانون ،ليجرمه في فرع قانوني آخر ،لذا يجب التسليم بأن ما يبيحه أو يأمر
به فرع من فروع القانون فهو قيد على نص التجريم ،في الحدود وبالشروط التي يبينها هذا الفرع من فروع القانون،
وفي ذلك ال وجود ألدنى مساس بمبدأ الشرعية الجنائية ،كون المسألة تتعلق باإلباحة ال بالتجريم ،خاصة وأنه سبق لنا
القول بان كل المسائل التي تخدم مصلحة المتهم ،تعد من استثناءات نتائج مبدأ الشرعية الجنائية ،خاصة ما تعلق بأسباب
اإلباحة أو موانع المسؤولية أو موانع العقاب .لذا فالقياس جائز في مجال أسباب اإلباحة ،فيجوز إضفاء حكم سبب من
أسباب اإلباحة على حكم آخر توفرت فيه ذات العلة التي تقررت ألجلها اإلباحة .خاصة وأن القياس في مجال أسباب
اإلباحة ،حسب البعض ،ال يدخل في مسائل القانون الجنائي ،بل هو من مجاالت فروع القانون األخرى ،وأن القياس
بحسب األصل جائز في هذه الفروع القانونية ،لذا ال يجوز للفقه الجنائي أن يرفض هذا القياس .لذا فيمكن أن تخضع
أسباب اإلباحة لمبدأ الرجعية وذلك كقاعدة عامة ألنها أصلح للمتهم ،على العكس إذا ما كان يتشدد في تطبيقها فال تسري
على الماضي.
الفرع الثاني
تقسيمات أسباب اإلباحة
وتحديـــد آثـــــارها
يقسم الفقه أسباب اإلباحة العديد من التقسيمات ،وذلك بتعدد الزوايا التي ينظر منها إليها ،فقسمت بحسب
نطاقها ( أو يمكن القول بحسب المستفيد منها) إلى أسباب إباحة مطلقة وأسباب إباحة نسبية ،وقسمت بحسب موضوعها
( بحسب أنواع الجرائم) إلى أسباب إباحة عامة وأسباب إباحة خاصة ،وقسمت بحسب طبيعتها بحسب موضع النص
عليها في القانون ،وبهذا الخصوص هناك من القوانين من تأخذ بسببين وهناك من تأخذ بأكثر من ذلك ،غير أن االتفاق
][90
التشريعي حاصل بخصوص الدفاع الشرعي ،وما أمر أو أذن به القانون ،والخالف ينحصر في العادة حول رضاء
المجني عليه ،وحالة الضرورة.
أوال :تقسيم أسباب اإلباحة بحسب نطاقها ( بحسب المستفيدين منها)
ب النظر لنطاق أسباب اإلباحة أو األشخاص المستفيدين منها ،قسمت أسباب اإلباحة إلى أسباب إباحة
مطلقة وأسباب إباحة نسبية ،األولى وهي تلك األسباب التي يستفيد منها بصفة مطلقة كل شخص وجد في الظروف
المنصوص عليها ضمن النص المقرر للسبب ،ومثاله الدفاع الشرعي الذي قرر لكل شخص يدافع عن نفسه أو نفس
الغير أو عن ماله أو مال الغير ،بينما أسباب اإلباحة النسبية ،فهي تلك األسباب التي تقتصر االستفادة منها على أشخاص
تتوفر فيهم صفة معينة تعد من شروط تطبيق سبب اإلباحة ،كالطبيب في إجراء العمليات الجراحية ،والزوج في تأديب
زوجته ،واألب في تأديب ابنه ،والموظف في حال تنفيذ أوامر القانون...
ثانيا :تقسيم أسباب اإلباحة بحسب موضوعها
قسمت أسباب اإلباحة بحسب موضوعها ،أو بالنظر إلى الجرائم المقترنة بها ،إلى أسباب إباحة عامة
وأسباب إباحة خاصة ،األولى وهي تلك األسباب التي يمكن تصور قيامها بخصوص كل أنواع الجرائم ،مثل الدفاع
الشرعي] ،[9وأما أسباب اإلباحة الخاصة ،فهي تلك التي تتقرر بالنسبة لبعض الجرائم دون البعض اآلخر ،كإباحة
القذف أثن اء الدفاع أمام المحاكم ،والجرح بالنسبة للطبيب في العمليات الجراحية ،والضرب الخفيف غير المبرح بالنسبة
لتأدب الزوجة من قبل الزوج ،أو تأديب اإلبن من قبل الولي...
ثالثا :تقسيم أسباب اإلباحة بحسب طبيعتها
وهو التقسيم الذي يستند في تقسيمه ألسباب اإلباحة على موضوع النص عليها ،وبعبارة أخرى ما إن
كان يعتد بها المشرع من عدمه ،كون أسباب اإلباحة متعددة ،تتفق غالبية التشريعات حول بعضها ،مثلما هو األمر
بالنسبة للدفاع الشرعي وما أمر به القانون ،وال تتفق حول البعض اآلخر ،مثلما هو الشأن بالنسبة لحالة الضرورة
ورضاء المجني عليه .وأحيانا حول ما أذن به القانون.
و بصفة عامة ،يمكن القول أن أسباب اإلباحة هي :ما أمر أو أذن به القانون وتسمى في دول أخرى
باستعمال الحق وأداء الواجب أو استعمال الحق الشخصي وممارسة السلطة ،الدفاع الشرعي ويسمى أيضا الدفاع
المشروع ،وهي التسمية التي اعتمدها المشرع الجزائري ،حالة الضرورة ،ورضاء المجني عليه الذي ضاق نطاقه في
الوقت الحالي .وفي قانون العقوبات الجزائري ،أسباب اإلباحة تضمنتها المادة 39كقاعدة عامة ،وأضافت المادة 40
نوعا خاصا من أنواع الدفاع الشرعي والتي يسميها الفقه حاالت الدفاع الشرعي الممتازة .وسنتناول ذلك تفصيال بعد أن
نبين في الفرع الموالي آثار أسباب اإلباحة.
الفرع الثالث
آثـــــار أسباب اإلباحة
ي مكن تبين آثار أسباب اإلباحة من التمييز الذي قمنا به بينها وبين موانع المسؤولية وموانع العقاب ،إذ
في حال ما توفر سبب من أسباب اإلباحة في الفعل ،فإنه تترتب عليه العديد من اآلثار القانونية التي تفاديا للتكرار
نوجزها في النقاط التالية:
-1توفر سبب من أسباب اإلباحة ،يجعل من الفعل الذي يعد في الحاالت العادية جريمة فعال مباحا ،أي الفعل
الذي يشكل بحسب األصل جريمة إذا ما اقترف في الظروف العادية ،إذا ما اقترن بسبب من أسباب اإلباحة عد فعال
مباحا ،مما ينفي كل مسؤولية عنه ويحول دون توقيع أي جزاء على مقترفه .سواء تمثل في عقوبة أو تدبير أمن.
-2انتفاء المس ؤولية الجنائية في حالة توفر سبب من أسباب اإلباحة يقود أيضا إلى انتفاء المسؤولية المدنية ،إذ
ال يمكن للشخص أن يعوض عن فعل يسمح به القانون وقد يأمر به أحيانا .أو يرخص به في الكثير من األحيان.
][91
-3كقاعدة عامة ،يستفيد من أسباب اإلباحة كل من ساهم في الفعل المقترن به ،باعتبار أسباب اإلباحة تنصب
على الفعل ذاته ال على الفاعلين .كونها أسباب موضوعية عينية ال ذاتية أو شخصية.
-4الجهل بأسباب اإلباحة أو الغلط فيها ال يحول دون استفادة الشخص منها ،كون أسباب اإلباحة ظروف
عينية موضوعية ،في حين الجهل والغلط أسباب نفسية وشخصية ،وال يجوز إعمال هذا النوع في مجال ماديات
الجريمة.
المبحث الثاني
أسباب اإلباحة في قانون العقوبات الجزائري
نصت المادة 39من تقنين العقوبات الجزائري ،على أنه ":ال جريمـة:
-1إذا كان الفعل قد أمر أو أذن به القانون،
-2إذا كان الف عل قد دفعت إليه الضرورة الحالة للدفاع المشروع عن النفس أو عن الغير أو مال مملوك
للشخص أو مملوك للغير بشرط أن يكون الدفاع متناسبا مع جسامة االعتداء[10]".
وبالتالي أسباب اإلباحة وفقا لقانون العقوبات الجزائري ،سببين ،األول وهو ما أمر أو أذن به القانون،
وجرت العادة أن يقسم هذا السبب إلى قسمين ،يتم تناول حاالت إذن القانون منفصلة عن حاالت أوامر القانون ،والثاني
الدفاع الشرعي أو المشروع ،وهو ما نتناوله في المطالب الثالثة التالية:
المطلب األول
تنفيذ ما أمر به القانون كسبب من أسباب اإلباحة
][92
د راسة تنفيذ أوامر القانون كسبب من أسباب اإلباحة ،تقتضي منا دراسة ماهية هذا السبب في حد ذاته،
من خ الل تبيان المقصود واألساس والعلة من تقريره ،وكذا تحديد أبعاده وذلك في فرع أول ،لنتناول في الثاني ،الشروط
المتطلبة في أوامر القانون حتى تعد سببا من أسباب اإلباحة.
الفرع األول
معنى أوامر القانون التي تعد سببا من أسباب اإلباحة
ال نقصد بأوامر القانون كأسباب لإلباحة بأن مثل هذه األوامر تشكل دوما جرائم غير أنها مباحة ،بل نقصد تلك
الحاالت التي يرى فيها المشرع انه من األجدر تعطيل مفعول النص الجنائي وإباحة الخروج عليه تحقيقا لمصلحة
اجتماعية معينة ،بالرغم من الفعل ينطوي على جريمة لو ارتكب في الظروف العادية بعيدا عن هذا األمر] ،[11لذا
يأمر فيها القانون بإتيان بعض األفعال ،التي لوال هذا األمر لعدت جرائم في الظروف العادية ،كاألمر باإلدالء بالشهادة
أمام الجهات القضائية الجزائية وإباحة ما يترتب عن هذه الشهادة من إفشاء لألسرار ،وإلزام الطبيب بإفشاء ما يعاني
منه مرضاه من أمراض معدية ،بالرغم من التزام الطبيب بالسر المهني ،واحترام الحياة الخاصة لمرضاه ،وتنفيذ عقوبة
اإلعدام من الموظف المكلف بذلك ،وحبس وسجن األشخاص تنفيذا لألحكام القانونية والقضائية ،التي لوالها لعد الفعل
جريمة حبس تعسفـــي ( المادة 291وما بعدها) ....ففي مثل هذه الحاالت ،لوال أمر القانون ،لعدت األفعال السابقة
جرائم معاقب عليها ،وتجد مثل هذه األوامر القانونية سندها في تقدير المشرع بأن األمر ينطوي على تحقيق مصلحة
اجتماعية أج در من المصلحة التي كانت محمية قانونا ،مما ينفي عن الفعل صفته التجريمية ،ويحول دون قيام أية
مسؤولية من أي نوع كان.
وثارت مسألة البحث في معنى أوامر القانون ،وما إن كان يقصد بها أوامر القانون الجنائي فقط أم غيره من
القوانين األخرى ،واستقر الرأي على أن المقصود هو القانون بمعناه الواسع ،بما فيه األوامر اإلدارية] ،[12وهنا ثار
تساؤال آخر ،يتمثل في مدى اعتبار األوامر اإلدارية التي يصدرها الرئيس لمرؤوسيه سبب من أسباب اإلباحة في
الحاالت التي تكون فيها متسمة بعدم المشروعية ،فهل في مثل هذه الحاالت ينفذها المرؤوس وتعد سببا من أسباب
اإلباحة؟ أم يمتنع عن تنفيذها بحجة عدم مشروعيتها ،وفي هذه الحالة يجوز أصال للمرؤوس أن يفحص مشروعية
األوامر الصادرة له من رؤساءه؟ ،بصدد اإلجابة عن التساؤالت السابقة ،انقسم الفقه إلى ثالثة اتجاهات ،األول يرى في
األوامر اإلدارية غير المشروعة سببا من أسباب اإلباحة ،والثاني يرى العكس ،واتجاه وسط راجح يرى وجوب التفرقة
بين وضعين ،وضع الالمشروعية الظاهرة والالمشروعية غير الظاهرة.
أوال :تنفيذ األمر اإلدارية غير المشروع سبب من أسباب اإلباحة
و ينطلق هذا االتجاه من أن تنفيذ األوامر اإلدارية الصادرة من الرؤساء للمرؤوسين أمر واجب ،وذلك
بغض النظر عن مشروعيتها من عدمها ،ألن خضوع المرؤوس ألوامر رؤساءه أمر واجب ،وال يملك أصال حق
مراقبة مشروعية األوامر المعطاة له ،وال حق له في االمتناع عن تنفيذها وإال قامت مسؤوليته التي إن لم تكن جزائية
فهي إدارية أو تأديبية ،ألن القول بغير ذلك يعطل سير المرافق العامة بانتظام واطراد ،وبالتالي على المرؤوس متى
أعطي أمرا إداريا من رئيسه أن ينفذه ،حتى ولو كان غير مشروع ،وأن هذا التنفيذ يعد سببا من أسباب اإلباحة ،وال
يجوز للشخص المنفذ عليه هذا األمر أن يرده بالدفاع الشرعي.
ثانيا :تنفيذ األوامر اإلدارية غير المشروعة جريمة
على عكس أنصار االتجاه السابق ،يرى أنصار هذا االتجاه أن تنفيذ المرؤوس لألوامر اإلدارية غير
المشروعة الصادرة إليه من رؤساءه يعد جريمة ،وبالتالي يجوز للشخص المنفذ عليه هذا األمر أن يرده عن طريق
الدفاع الشرعي متى توفت شروطه .ونرى نحن أنه نفس موقف المشرع الجزائري من خالل ما يتبين من استقراء
المواد من 107لغاية 110مكرر] .[13هناك قرار عن المحكمة العليا صادر في 1981-06-07يقضي بأنه ":إن
تنفيذ الموظف ألوامر غير قانونية واردة عن مسؤوليه ال تدخل في إطار األعذار القانونية المنصوص عليها في المواد
من 277إلى 283ق ع ج .وما دامت ال تدخل في نطاق األعذار التي تعد أسباب شخصية خاصة ،فهي ال تعد أيضا
سبب من أسباب اإلباحة.
ثالثا :مدى وضوح حالة عدم المشروعية من عدمها
][93
الرأي الوسط والراجح بين الرأيين السابقين ،هو الرأي الذي يفرق أنصاره بين حالتي وضوح عدم
مشروعية األمر اإلداري الصادر للمرؤوس من عدمها ،ففي الحالة التي تكون فيها ظاهرة يجب على المرؤوس االمتناع
عن تنفيذ األمر اإلداري غير المشروع الصادر إليه ،وإال عد مرتكبا لجريمة يجوز ردها من قبل المنفذ عليه األمر،
على عكس الحالة التي ال تكون فيها عدم المشروعية ظاهرة ،فهنا يكون تنفيذ المرؤوس لألمر الصادر إليه سببا من
أسباب اإلباحة التي ال يجوز مقاومتها من قبل المنفذ عليه األمر.
الفرع الثاني
شروط أوامر القانون كسبب من أسباب اإلباحة
ب عيدا عن الجدل السابق ،فإن الفقه أوجد بعض الشروط الواجب مراعاتها في تنفيذ أوامر القانون حتى
تكون سببا من أسباب اإلباحة ،وهي:
-1أ ن يكون األمر قد نص عليه القانون صراحة ودون لبس أو غموض ،وأن يصدر في الحاالت التي يجوز
فيها إصدار مثل هذا األمر ،وبالشروط والقيود والحاالت الواردة بالنص ،مثل تفتيش المساكن.
-2أن يصدر األمر من جهة مختصة بإصداره.
-3أن يصدر لشخص مختص بتنفيذ األمر.
-4أن تكون هناك عالقة وظيفية بين الرئيس والمرؤوس.
-5أن يكون تنفيذ األمر بحسن نية.
وعموما ،يجب أن تكون الحالة التي أتي فيها الموظف العام العمل مطابقا من كل وجوهه لألوضاع التي
تضمنها القانون ،وأن يكون فيها العمل مقرر بموجب نص قانوني ،أو أمر رئاسي من رئيس يوجب القانون طاعته،
بشرط أن يكون القائم به مختصا بمباشرته ،وأن تتحقق دواعي إتيان العمل ،وان يباشر على النحو الذي رسمه القانون،
غير أنه في أوامر الرؤساء ،فيجب إثبات تلقيه األمر من رئيسه وأن يكون هذا األمر مستوفي لشروط صحته ،سواء
كانت شروط شكلية أو شروط موضوعية ،فالشروط الشكلية أن يفرغ األمر في الشكل الذي يوجب القانون إفراغه فيه،
كما يجب أن يك ون صادرا عن رئيس مختص لمأمور مختص أيضا ،وهو ما يختلف باختالف الحاالت واألوضاع ،وأن
يكون األمر مما يدخل في اختصاص الرئيس إصداره ،حيث هناك أوامر مقصورة على نوع من الرؤساء اإلداريين دون
البعض اآلخر ،كما أن المنفذ يختلف باختالف الحاالت ،فليست كل األوامر مما يمكن لكل الموظفين تأديتها ،فتنفيذ حكم
اإلعدام له المكلفين به ،والتفتيش له أشخاصه .. ،وإن كان القانون يشترط صدور األمر كتابة فال يجوز صدوره شفاهة.
مع احترام الشروط الموضوعية ،التي يقصد بها المقدمات التي يشترط فيها القانون اتخاذ األمر ،فتنفيذ حكم اإلعدام
يقتضي وجود حكم نهائي بات استنفذ كل طريق الطعن وإجراءات طلب العفو ،والعديد من اإلجراءات األخرى ،حتى
يمكن تنفيذ حكم اإلعدام .وباستكمال األمر لشروطه الشكلية والموضوعية يكون على المرؤوس واجب تنفيذه ،حتى ولو
تخلفت بعض شروطه إذا كان القانون يفرض على المرؤوس واجب الطاعة دون إمكانية مراقبة مشروعية األمر ،مثلما
هو الشأن بالنسبة لألوامر العسكرية ،وهنا يرى البعض أن المرؤوس يتحلل فقط من واجب التحري على الشروط
الموضوعية ،لكن الشروط الشكلية يجب عليه التأكد من توفرها قبل التنفيذ وإال سئل عن الفعل وعوقب إن كان يشكل
جريمة ،خاصة ما يتعلق بأنه من األوامر التي تدخل ضمن اختصاصه وصادر ممن يملك سلطة أمره ،وانه مستوفي
للشكليات التي حددها القانون ،بل يرى البعض أن المرؤوس يجب عليه االمتناع عن تنفيذ أوامر الرئيس إذا كانت
الشروط الموضوعية ظاهرة البطالن ،حتى ولو كانت الشروط الشكلية متوفرة ،مثل الحالة التي يطلب فيها الرئيس
العسكري من الجندي إطالق الناري على جار تشاجر معه أو إلقاء القبض على أحد الناس وقتله ،أما في حالة عدم
مشروعية العمل ،وهو كأن يكون خارج عن اختصاص الموظف العام ،أو قام به تنفيذا ألمر غير واجب الطاعة ،ففي
هذه الحاالت يسأل الموظف عن فعله ويعاقب ،غير أن بعض القوانين ،ومنها القانون المصري في مثل هذه الحالة
يتحرى عن " حسن نية الموظف" في المادة 63من تقنين العقوبات ،وحسن النية في هذه الحالة مسألة موضوعية تستقل
محكمة الموضوع بتقديرها ،مستعينة في ذلك بكل الطرق الممكنة قانونا ،بشرط أن يبذل الموظف جهدا في التحري من
مشروعية األمر وأن يكون اعتقاده بالمشروعية مبنيا على أسباب معقولة ،أخذا بعين االعتبار كل المالبسات والظروف
المحيطة ،ووضع الموظف وقدراته ،لذا فالمسألة تختلف باختالف األحوال واألوضاع ،والمعيار هو معيار الرجل
][94
العادي في وظيفة الموظف وظروفه والمؤثرات التي ازدحمت عليه .وتوفر حسن النية لدى الموظف ينفي قصده
الجنائي ،غير أن يعاقب إن كان الفعل يمكنه القيام جريمة غير عمدية.
و على العموم بخصوص تنفيذ األوامر غير المشروعة ،فهنا يجد الموظف نفسه أمام واجبين متناقضين،
األول هو إطاعة أوامر الرئيس ،والواجب الثاني هو إطاعة القانون ،وذلك بعدم تنفيذ األمر المخالف للقانون ،أي تنازع
بين القانون اإلداري وقانون العقوبات ،وهنا يجب احترام قانون العقوبات ،وإال قامت مسؤولية المرؤوس إن لم يثبت أنه
اكره معنويا من قبل رئيسه ،أو اعتقد خطئا بمشروعية األمر الصادر إليه ،وهنا ينتفي لديه القصد الجنائي لكن هنا يمكن
مسائلته عن جريمة خطئية ،إن كانت الجريمة تقبل القيام عن طريق الخطأ ،وأن يتحرى عن المشروعية .وهو نفس
الوضع بالنسبة للقانون الفرنسي الجديد في نص المادة ، 4-122التي يفهم منها مسائلة المرؤوس في حال ارتكاب فعل
غير مشروع.
المطلب الثاني
ما أذن به القانون كسبب من أسباب اإلباحة
على غرار ما قمنا به في المطلب األول ،سنحاول أن نبين المعنى من هذا السبب وشروطه ،لنتناول في
الثاني بعض تطبيقاته .
الفرع األول
معنى إذن القانون كسبب من أسباب اإلباحة
إن تقرير حق لشخص يبيح له بالضرورة استعماله حتى ولو كانت صورة هذا االستعمال يشكل جريمة ،ألن
الحق الذي يمنع استعماله ال يعد حقا ،وهي مسألة بديهية ال تحتاج إلى نص يقررها ،لذا فكل فعل ارتكب بنية سليمة
عمال بحق مقرر بمقتضى الشريعة ،أو بحكم فرع من فروع القانون ،يعد سببا لإلباحة ،لذا سنحاول أن نتناول معنى
اإلذن وشروط ممارسته في النقاط التالية.
أوال :معنى اإلذن القانوني كسبب من أسباب اإلباحة
ه ي حاالت يجيز أو يسمح فيها القانون لشخص بالقيام ببعض األفعال التي لو ارتكبت خارج هذا اإلذن
لعدت جرائم معاقب عليها قانونا ،غير أنها على عكس أوامر القانون ،هي حاالت تعد مجرد رخصة من المشرع
للشخص أن يمارسها أو أن يتركها ،ففيها يمكن إعمال الرأي الشخصي على عكس أوامر القانون التي يلزم الموظف
بتنفيذها وإال قامت مسؤوليته .وموضع هذه الحاالت في العادة هو بعض القوانين الخاصة التي تسمح ببعض األفعال
التي تعد في نظر قانون العقوبات جرائم ،إعماال لمبدأ الخاص يقيد العام ،وعلة ذلك أن اإلذن في الحاالت المسموح بها
يحقق فائدة أجدر من الفائدة التي يحققها النص الحامي للحق .لذا مصدر هذه الحاالت ال يقتصر على قانون العقوبات،
بل يمكن أن يكون مصدره العرف أو الشريعة اإلسالمية.
وبخصوص مصادر اإلذن – أو الحق مثلما تستعمله قوانين المشرق -فإن المتفق عليه أن القانون هو
المصدر العام لكل الحقوق ،كون فكرة الحق ترتبط ارتباطا وثيقا بفكرة القانون ،فال يمكن تصور حق دون أن تكون
هناك قاعدة قانونية تقرره أو على األقل محموال على قاعدة من قواعد القانون ،والمقصود بالقانون كافة فروعه سواء
كانت مكتوبة أو غير مكتوبة ،في الحدود التي يسمح فيها القانون لهذه الفروع من تقرير الحقوق ،سواء كانت مبادئ
الشريعة اإلسالمية أو العرف أو قواعد العدالة وأحكام القانون الطبيعي ،بل قد يكون القانون الجنائي ذاته أو قانون
اإلجراءات الجزائية مصدرا للحقوق ،مثل تقديم البالغات أو الشكاوى في بعض الجرائم ،حيث لوال هذا النص العتبر
الفعل قذفا ،أو من الشريعة اإلسالمية التي تبيح لألب أن يؤدب ابنه وللزوج أن يؤدب زوجته ،كما قد يكون العرف،
مثلما هو الشأن بالنسبة ل ألعراف الرياضية ،كما يجد الحق مصدره في العقد في الزواج ،أو في اإلرادة المنفردة
كالتنازل عن المال ،أو في أمر القضاء كالترخيص بتوقيع الحجز على األموال ،أو في قرارات السلطات العامة ،مثل
الترخيص بحمل السالح إذ لوال هذا الترخيص لكنا بصدد جريمة .لذا فكل ما يشترط في مصدر الحق أن تكون القاعدة
القانونية نافذة في النظام القانوني للدولة ،وال تكون قاعدة قد ألغيت ،أو األعراف الفاسدة التي تنشأ مخالفة لقاعدة قانونية،
وال بقواعد القانون األجنبي إن لم يكن يعترف له القانون بالسريان في الدولة ،وال في قواعد الشريعة اإلسالمية التي لم
][95
يرد المشرع تطبيقها بغض النظر عن سالمة مسلكه من الناحية الدينية من عدمه .كإعدام الشخص من القضاء ال يجيز
القضاء وإن كانت الشريعة اإلسالمية تقضي بغير ذلك ،والمقتص يعد مرتكبا لجريمة قتل عمد.
ثانيا :شروط اعتبار اإلذن سبب من أسباب اإلباحة
لكي يعد اإلذن سببا من أسباب اإلباحة يجب أن يستجمع اإلذن الشروط التالية:
-1أن يكون لإلذن مصدر من المصادر التي يعتد بها القانون] ،[14كالتشريع أو العرف أو الشريعة اإلسالمية،
وفي الحالة التي يكون فيها مصدر اإلذن قرار إداري ،يجب أن يراعي هذا القرار قواعد إصداره شكال وموضوعا وإال
اعتبر مصدره محرضا في القانون الجزائري والصادر له فاعال أصليا].[15
-2أن يمارس اإلذن في حدود المصلحة التي منح ألجلها].[16
-3أن يستخدم ا إلذن بحسن نية ،وحسن النية أال يتجاوز الشخص في استعماله اإلذن الحدود التي ألجلها منح
اإلذن.
-4أن يمارس اإلذن من الشخص الذي منح له وفي المكان المحدد له ،كون اإلذن شخصي ال يمكن التنازل
عنه ،ومقيد بحيز مكاني ال يجوز تجاوزه.
الفرع الثاني
بعض تطبيقات إلذن كسبب من أسباب اإلباحة
من أهم تطبيقات اإلذن كسبب من أسباب اإلباحة ،وبالرغم من تعدد مصادره نجد حق التأديب ،وأهمها
تأديب القصر وتأديب الزوجة .وممارسة األعمال الطبية وكذا األلعاب الرياضية وحتى اإلذن بارتكاب بعض الجرائم في
حدود معينة كإباحة القذف والسب في حالة الدفاع أمام الجهات القضائية .وهو ما نبينه باختصار في النقاط التالية.
أوال :حق تأديب القصر
في الكثير من األحيان تقتضي األحوال شيء من الحزم مع الصغار لحسن تنشئتهم ،مما يقتضي تأديبهم
لتقويم سلوكهم أو لتعليمهم ،وهو التأديب الذي قد ينطوي نوعا ما على بعض الجرائم ،كالضرب والشتم أو الحبس ،غير
أنها جرائم ال يعاقب عليها القانون ،ألن التأديب في مثل هذه األمور ،يعد ضرورة يقرها العرف والشرع والقانون ،بل
وتأديب القصر ممن له الحق ال يعد فقط حق ،بل حسب البعض يعد حقا وواجبا في نفس الوقت ،كون القانون المدني يقر
حق رقابة القصر " مسؤولية متولي الرقابة" بل ويحمل هؤالء ما يقع من هؤالء القصر .غير أن تأديب القصر يتطلب
ب عض الشروط بحيث إذا تخلف أحد هذه الشروط ،وقع الفعل تحت طائلة العقاب،المتمثلة في:
-1الصفة في القائم بالتأديب:
و هو شرط ينطوي على شقين ،أحدهما يتعلق بمن يستحق التأديب واآلخر خاص بمن يباشر هذا الحق،
فمن يستحق التأديب هم القصر واألحداث ،وهم وفقا للقانون المدني ممن يخضع لرقابة متولي الرقابة ،وأما الشخص
القائم بالتأديب هم األشخاص المكلفون برعاية الحدث ،سواء كان مصدر التكليف الشرع
أو القانون أو االتفاق ،والمنصب على التربية والـتأديب سواء كان أب أو أم أو جد أو جدة ،أو الوصي كما يثبت هذا
الحق أيضا للمعلم بالنظر للتالزم بين التأديب والتعليم حتى أنه قديما كان يسمى المعلم مؤدبا ،ويمتد الحق حتى لملقن
الحرفة أو المهنة ،وما عدا ذلك ال يمتد حق التأديب لغير هؤالء.
-2وقوع ما يوجب التأديب:
ح ق التأديب يقضي أال ينزل بالحدث أذى بغير سبب ،ومؤدى التأديب هو انحراف الحدث عن السلوك
الواجب ،سواء تعلق األمر بما ينص عليه القانون أو الشرع أو العرف ،سواء كان ضرر االنحراف على الغير أو على
الحدث ذاته ،حتى ولو تعلق بإفطار رمضان أو ترك الصالة أو مخالطة األشرار أو امتنع عن تلقي الدروس أو
مراجعتها ،وما عدا ذلك يمتنع إيذاءه قوال وفعال ،ويعد ذلك ظلما وقد يعاقب عليه القانون].[17
-3التزام حدود التأديب:
حيث ال يجوز أن يتجاوز التأديب مداه ،والتزام مبدأي المشروعية والمالئمة ،المشروعية وتعني
استعمال وسيلة مقبولة للتأديب ،فالقتل ال يمكن تصوره وسيلة للتأديب ،أو بتر عضو من أعضائه ،بل هو ضرب بسيط
ال يحدث كسرا أو جرحا أو يترك أثرا وال ينشأ عنه مرضا ،والضرب ذاته قد يباح للبعض ويحظر للبعض اآلخر ،إذ
][96
هو مباح للولي أو الوصي ،ومحظور على المعلمين كون القانون في هذه الحالة جعل من الضرب وسيلة غير مشروعة.
أما المالئمة فيراد بها التناسب بين وسيلة التأديب والغاية المرجوة منه ،لذا فعلى القائم بالتأديب اختيار الوسيلة األكثر
مالئمة من الوسائل المتاحة له للت أديب ،فله اللجوء لبعض الوسائل في بعض الظروف ،وفي ظروف أخرى وسائل
أخرى ،وفي كل ذلك يجب مراعاة التوازن ،حيث ال يكون هناك اختالل فاحش بين وسيلة التأديب واألمر الذي
استوجبه.
-4حسن النيــــة:
وهي التزام الشخص الغاية التي تقرر ألجلها حق التأديب ،حيث كلما هدف التأديب غاية أخرى غير
التي ألجلها تقرر حق التأديب ،وقع تحت طائلة العقاب ،فال ضرب لألب أبناءه لحملهم على السرقة
أو التسول أو نكاية في والدتهم ،وحتى وإن كانت الغاية مشروعة ،فال يجوز أن تخرج من غاية التأديب في الحالة ذاتها،
فاألم المطلقة التي تأدب أوالدها لحمل والدهم على دفع النفقة يعد جريمة ،بالرغم من أن الغاية مشروعة ،فالتأديب غير
جائز كلما انحرف عن موجب التأديب.
ثانيا :تأديب الزوجة
و هو حق يستمد من الشريعة اإلسالمية ،في حين أن القانون لم ينص عليه صراحة ،غير أن الرأي في
الفقه والقضاء استقر على قبوله في مصر كسبب من أسباب اإلباحة إذا توفرت فيه شروطه] ،[18وهي الصفة في
التأديب ،وأن يكون هناك موجبا لتأديب الزوجة ،والتزام حدود التأديب ،وأن يكون ذلك أيضا بحسن نية ،وهو ما نتناوله
في النقاط الربعة التالية.
-1الصفة في التأديب:
تأديب الزوجة من الحقوق الذاتية الشخصية الخالصة للزوج دون غيره ،فال يجوز لغيره ذلك ،سواء
كان من أهله أو حتى من أهلها ،وهو من الحقوق التي ال تقبل اإلنابة ،حيث لو قام بذلك وأدبت الزوجة من المنيب
عوقب هذا األخير كفاعل أصلي والزوج كشريك أو محرض حسب األحوال ،ويثبت حق تأديب الزوجة بثبوت رابطة
الزوجية ويزول بزوالها ،والعبرة بوقت التأديب ال بوقت اقتراف الفعل الذي أوجب التأديب ،فليس للزوج تأديب زوجته
بعد الطالق عن أفعال توجب التأديب اقترفتها وقت قيام العالقة الزوجية .وصاحب الحق في تأديب الزوجة هو الزوج
المسلم الذي تزوج بموجب أحكام الشريعة اإلسالمية ،ويرى البعض أن سكوت النص عن هذا الحق يمنع هذا األمر على
الزوج .وهو ما جعلنا نرى صعوبة التمسك به في القانون الجزائري.
-2موجب التأديب:
ه و حق مقرر لزوج إذا بدر من الزوجة معصية ،وهو كل إخالل بواجب من واجبات الزوجة ،سواء
كان واجبا عاما من الواجبات الملقاة على الناس جميعا ،أو واجبا خاصا باعتبارها زوجة ،وذلك بحسن معاشرة زوجها
وطاعته والحفاظ على أمواله ورعاية أوالده ،بشرط أال يكلفها الزوج أمرا مخالفا للدين
أو الشرع أو القانون ،فإن أمرها بمثل هذه األمور ،فلها مخالفته ،وإن أدبها يكون قد ارتكب جريمة معاقب عليها قانونا.
-3التزام حدود التأديب:
تأديب الزوج لزوجته تبعا للشريعة اإلسالمية أن يكون بإحدى الطرق الثالث التالية :الوعظ ،الهجر في
المضجع ،الضرب ،لذا فليس للزوج أن يعتمد غير هذه الوسائل مما قد يلحق بالزوجة أذى شديد في نفسها أو في بدنها،
وأن يراعي التدرج في وسائل التأديب ،الوعظ ثم الهجر وأخيرا الضرب ،والموعظة هي التبصرة وإبداء النصح وحثها
على اإلقالع عن المعاصي ،وهي الموعظة التي تختلف باختالف األحوال ونوع الزوجة والمعصية التي ارتكبتها ،كما
أن التأديب يراعى فيه مقاصد اإلسالم فال يكون بالكالم الفاحش وال أمام المأل ،والهجر في المضجع هو اإلعراض عن
المرأة في فراشها باعتباره مظهرا من مظاهر غضب الرجل وسخطه ،ومدة الهجر لدى الفقهاء شهر ،وال يجوز في أن
تبلغ األربعة أشهر في أي حال من األحوال] .[19ثم الضرب الذي يعد أقصى مراتب التأديب ،حيث ال يمكن اللجوء إليه
إال باستمرار العصيان ،ودأبت عليه الزوجة ،لكن اللجوء مقيد بان يسلك الزوج أوال طريق الوعظ والهجر في المضجع،
وأال يكون الضرب مهلكا أو متلفا أو شائنا ،أو مبرحا حتى ولو ثبت أن الضرب الخفيف معها ال يجدي ،بل أنه في الفقه
اإلسالمي خالف حتى حول وسيلة الضرب وعدد الضربات.
][97
-4حسن النية:
و هو أن يضع الزوج نصب عينيه الغاية من فعله وهي التأديب ،فال يجوز له ضربها بغضا لها
أ و طمعا في مالها أو انتقاما من أهلها ،أو لحملها على ارتكاب معصية ،بل ويعاقب حتى ولو بدرت منها معصية
تستوجب التأديب ،لكن يثبت أن هدف الزوج لم يكن التأديب وإنما غرض من األغراض السابقة].[20
ثالثا :حق مزاولة األعمال الطبية
يقصد بهذا الحق ،مزاولة كل عمل طبي ينطوي على المساس بجسم اإلنسان إما بهدف عالجه مما
يعتريه من مرض ،أو لتخفيف آالمه ،أو لوقايته من مرض ،أو لمجرد الكشف عما يشوبه من خلل ،كما يشمل باإلضافة
إلى ذلك ،كافة األعمال المرتبطة بذلك والمعتبرة ضرورية لتنفيذ األفعال السابقة ،فال يشكل جريمة الجروح التي يرتكبها
الطبيب وال استئصاله أعضاء المريض المعيبة ،بشرط االلتزام باألصول الطبية المرعية في هذا الصدد ،بل أن الطبيب
مخول له حيا زة المواد المخدرة وإدخال المواد الضار والمخدرة جسم اإلنسان متى كانت ضرورية لممارسة أعماله ،وال
يعد مرتكبا لجريمة هتك العرض في حالة الكشف عن عورات مرضاه .والعلة من تبرير حق مزاولة األعمال الطبية،
وجعلها سببا من أسباب اإلباحة ،في نظر الفقه مزدوجة ،فهي حق لمن يزاوله وذلك باعتراف القانون ،وبالتالي وجب
االعتراف بالمشروعية على وسائل استعماله ولو كانت تشكل بحسب األصل جريمة ،ومن ناحية ثانية العلة تكمن في
رضاء المريض ،فإن كان رضاء المجني عليه ال يعد سببا عاما لإلباحة ،فإنه في مجال األعمال الطبية يعد أساسا إلباحة
العمل ،ويرى البعض أن أساس اإلباحة في هذه الحالة ،هو انتفاء القصد الجنائي لدى الطبيب ،غير أن أساس اإلباحة
وفق رأي الغالبية ،هو تبرير القانون ،وعلته الحقيقية رضاء المريض ،لذا فعدم رضاء المريض ال يجعل من الفعل
مباحا ،إال إذا تعلق األمر بحالة الضرورة وهنا يكون مانعا من موانع المسؤولية ال سببا من أسباب اإلباحة ،وهو ما ال
نؤيده بخصوص موقف المشرع الجزائري .وشروط ممارسة األعمال الطبية التي تعد سببا من أسباب اإلباحة ،أن تكون
من األعمال التي يرخص بها القانون ،وأن تكون بقصد العالج ،وأن يرضى المريض بذلك ،وأن يراعى في ممارستها
األصول المهنية والقواعد العلمية المرعية لمزاولة المهنة
أو العمل الطبي .وهو ما نفصله اختصارا في النقاط التالية.
-1ترخيص القانون:
ل كي يعتبر ممارسة األعمال الطبية من أسباب اإلباحة ،يجب أن يكون من األعمال المرخص بها قانونا،
وأن يكون صادرا ممن رخص له بذلك ،ممن يحوزون على المؤهل العلمي الذي يخولهم ذلك.
-2رضاء المريض:
يتعين العتبار العمل الطبي سببا من أسباب اإلباحة ،أن يكون المريض قد رضي به .وهو شرط طبيعي
يقتضيه ما لجسم اإلنسان من حرمة تمنع المساس به بدون رضاء صاحبه ،حتى ولو كان هذا المساس يتضمن رعاية
الجسم وضمان سيره سيرا طبيعيا .والرضاء قد يكون صادرا من المريض نفسه ،أو ممن يمثله قانونا ،وهو الرضاء
الذي قد يكون صريحا كما قد يكون مفترضا ،إذا تعذر على المريض نفسه ذلك ،كان يكون فاقدا للوعي أو لم يكن له من
يمثله قانونا ،كما قد يكون ضمنيا من دخول المريض بنفسه غرفة العمليات الجراحية ،غير أن الرضا ال يستخلص من
مجرد ذهاب المريض إلى المستشفى أو إلى عيادة الطبيب ،إذ أن المريض قد يرضى ببعض األعمال الطبية دون
البعض اآلخر] .[21غير أن الحصول على رضاء المريض ،يقتصر على األعمال الطبية التي قد تشكل جريمة من
جرائم قانون العقوبات ،مثل الجرح وإعطاء مواد ضارة أو إحداث عاهة ،دون األعمال الطبية ال تنطوي على جريمة
من الجرائم ،غير انه ال يعتد برضاء المريض كسبب من أسباب اإلباحة في حاالت القتل بدافع الشفقة أو بدافع الرحمة،
حتى ولو كان ذلك بإلحاح منه ،وحتى ولو كان بدافع تخليصه من آالم حادة مبرحة ال يقدر على تحملها ،أو ألي سبب
آخر مبعثه المريض نفسه ،فال يزال لغاية اليوم مثل هذا القتل غير مبرر بالرغم من وجود بعض األحكام غير القاطعة
بأن البراءة كانت فيها لهذا السبب.
-3قصد العالج:
لكي تعتبر الجريمة المترتبة عن ممارسة العمل الطبي مباحة ،يجب أن تتم مزاولته بغرض العالج،
ويشمل قصد العالج القضاء على مرض أو تخفيف اآلالم الناشئة عنه ،أو الوقاية من مرض ،أو الكشف عن أسباب خلل
][98
صحي يعتري جسم الشخص ،لكن مزاولة هذا العمل لقصد آخر ،مثل بتر عضو شخص لتمكينه من التهرب من
التزامات ا لخدمة الوطنية ،أو إعطاء مواد مخدرة للشخص بقصد إشباع حاجته من اإلدمان ،أو بهدف إجراء تجربة
علمية جديدة ،عد الفعل جريمة معاقب عليها قانونا.
-4مراعاة األصول المهنية والقواعد العلمية في مزاولة األعمال الطبية:
إباحة ممارسة األعمال الطبية ،تظل مرهونة بإتباع األصول الطبية المتعارف عليها في مجال مهنة
الطب ،وال يقصد بذلك تقييد الطبيب بعالج دون آخر أو بطريقة دون أخرى ،وإنما األصول األساسية لممارسة المهنة
الطبية ،مثل تعقيم األدوات الجراحية ،أو أن يجري العملية في ظروف غير مواتية تماما كان يجريها وهو مخمور أوال
يستعين بمن يتوجب االستعانة بهم ،أو أن يرتكب سلوك غير مغتفر مثل نسيان أداة جراحية بداخل جسم المريض .وفي
مثل هذه الحاالت يسأل الطبيب عن جريمة غير عمدية ،قوامها الخطأ القائم على اإلهمال أو عدم االحتياط ،ومعيار
الخطأ هو المعيار المهني أو الفني الذي سنتناوله عند دراسة أنواع الخطأ ودرجاته في إطار دراسة الركن المعنوي
للجريمة ،وبالضبط في الجرائم غير العمدية أو جرائم الخطأ.
رابعا :إباحة جرائم القذف والسب في بعض الظروف
أباح القانون في بعض األحيان ارتكاب جرائم القذف والسب في حاالت معينة ارتأى فيها أن المصلحة
التي تعود من إباحة هذه األفعال ،تفوق المصلحة من عقاب الجاني ،فبعض الدول تعترف بالقذف والسب في ذوي
الوظائف العامة كنوع من ممارسة الرقابة الصحفية] ،[22والحالة الثانية إباحة القذف والسب أمام جهات القضاء
ممارسة لحق الدفاع .غير أنه وممارسة لحق الدفاع أمام المحاكم ،يبيح المشرع للخصوم األقوال التي تشكل بحسب
األصل جريمة قذف أو سب ،حماية لحق الدفاع أمام المحاكم الذي يفوق في درجته المصلحة من عقاب مرتكبيها ،كون
حق الدفاع مقرر ليقود في النهاية إلى كشف الحقيقة التي تعد مبتغى أجهزة العدالة وفكرة العدالة في ذاتها .وفي القانون
المصري تم النص على هذه الحالة صراحة ،وذلك بموجب نص المادة 309من تقنين العقوبات التي نصت على أنه":
ال تسري أحكام المواد 302و 303و 305و 306و 308على ما يسنده أحد الخصوم لخصمه في الدفاع الشفوي أو
الكتابي أمام المحاكم فإن ذلك ال يترتب عليه إال المقاضاة المدنية أو المحاكمة التأديبية ،".ويدخل في معنى الخصوم
المحامون وأن يكون ذلك بمناسبة دعوى معروضة أمام الجهات القضائية ،بمختلف أنواعها لكن بشرط أن يكون األمر
يقتضيه حق الدفاع فعال وأمر تقدير ذلك متروك لسلطة الموضوع.
خامسا :ممارسة األعمال الرياضية
ويق صد بذلك األلعاب الرياضية العنيفة التي تفترض ممارسة استعمال القوة والعنف على جسم المنافس
وهو حال كل الرياضات القتالية ،فيأتي فيه الفاعل فعال تتوفر فيه جميع مقومات اإليذاء المجرم ،غير أن ما يحدث في
هذا اإلطار من عنف وإصابات يكون مبررا ومباحا طالما تم في الحدود المقررة لممارسة اللعبة ،غير أنه هناك نوع من
األلعاب الرياضية غير العنيفة مثل كرة القدم أو كرة السلة أو الغولف والتنس والسباحة ،فهنا تطبق القواعد العامة في
حالة حصول عنف ،فإن كانت الجريمة تحتمل وصف الجريمة غير العمدية يسأل عنها الفاعل المهم إعمال القصد.
المطلب الثالث
الدفاع الشرعي ( المشروع)
ي عد الدفاع الشرعي من أقدم أسباب اإلباحة التي عرفتها القوانين الجنائية عبر العصور ،كونه سبب
يستند لغريزة طبيعية في النفس البشرية التي تسعى دوما للدفاع عن بقاءها ،كما أنه سبب يبرره منطق األمور ،إذ ال
يمكن تصور إ لزام الناس بتحمل االعتداءات التي يتعرضون إليها ،خاصة وأننا بصدد موازنة بين تصرفين أحدهما غير
مشروع وهو االعتداء على الحق ،والثاني مشروع ،وهو حماية هذا الحق ،والمشرع يفضل دوما حماية الحق ،بل أن
نصوص قانون العقوبات ذاتها هدفها الرئيسي ذلك .وحسب نظرية هيجل الجدلية ،فالدفاع الشرعي يستمد مشروعيته من
فكرة أن االعتداء على حق يحميه القانون هو نفي لهذا الحق وخرق للقانون ،ورد هذا االعتداء هو إثبات للحق وإحقاق
لسلطة القانون ،األمر الذي أدى في النهاية إلى اعتبار الدفاع الشرعي حق وواجب في نفس الوقت] .[23غير أن أهمية
الدفاع الشرعي تقتضي منا قبل أن نتناول شروطه في فرعين ،نتناول أوال أساس وطبيعة الدفاع الشرعي.
أساس الدفاع الشرعي:
][99
الدفاع الشرعي نظام يضرب بجذوره في أعماق التاريخ ،حيث عرفته كل الشعوب في مختلف مراحل
تطورها ،ألنه عبارة عن قانون من قوانين الفطرة ،فليس من المعقول والمنطق أن يحمل اإلنسان عبء تحمل
االعتداءات الواقعة عليه ،خاصة في الحاالت التي يتعذر فيها عله مراجعة السلطات المختصة في الوقت المناسب ،وكان
قادرا على رد العدوان بنفسه ،لذا يقال أن المشرع لم يقرر مبدأ الدفاع الشرعي وإنما أقره ،أي أنه استبقاه وضبط آثاره،
وهو ال يقتصر على القانون الجنائي فقط ،بل مقرر في بعض فروع القانون األخرى ،مثل القانون الدولي] .[24وبالرغم
من اعتبار الدفاع الشرعي من البديهيات القانونية ،إال أن الرأي لم يستقر حول أساسه ،فهناك من علله بتخلف الركن
المعنوي ،حيث أن العدوان يعد إكراها يعطل حرية االختيار ،ما يدفع الشخص لرد العدوان تلقائيا كون إرادته تصبح
غير معتبرة من الناحية القانونية ،والبعض اآلخر يرى أن المدافع في دفاعه عن حقه أو حق غيره تصبح غايته ملتئمة
مع غاية القانون وهي حماية الحقوق والمصالح ،وهما رأين غير مقبولين من قبل البعض ،حيث أن القول بأن الدفاع
الشرعي نوع من أنواع اإلكراه ،فإن الرد عليه هو أن اإلكراه كمانع من موانع المسؤولية في حقيقة األمر ال ينفي الصفة
التجريمية عن الفعل بل كل ما يرتبه هو امتناع المسؤولية الجنائية دون المدنية .كما أنه كثيرا ما يحتفظ الشخص المدافع
بحرية االختيار سيما في الحاالت التي يكون فيها االعتداء غير جسيم ،أو عندما يكون واقعا على غير الشخص المدافع،
في حين الرأي الثاني ما هو في حقيقة األمر سوى القول بنبل الغاية أو الباعث لدى المدافع ،في حين أنه ال مجال
للبواعث والغايات مهما كان نبلها في قانون العقوبات وهو من المبادئ القانونية المستقرة في قانون العقوبات ،وبالتالي
فالبواعث ال تنفي القصد الجنائي ،كما أن انتفاء الركن المعنوي للجريمة ال يعني بالضرورة إباحة الفعل .لذا نجد بعض
الفقه يعتبر الدفاع الشرعي في حقيقة األمر مقابلة الشر بالشر ،وهو تعليل يرى البعض أنه ضعيف أيضا ،ألنه يجعل
الدفاع عقابا على المعتدي ،وهو أمر غير صحيح في القانون الجنائي ،كما أن اعتبار الدفاع الشرعي شر كالعدوان
يقتضي بأنه جريمة كجريمة العدوان ،خاصة أيضا وأنه ال مقاصة في اإلثم ،فالقانون ال ينفض يده في حالة التشاجر،
فيعاقب الجميع وكل منهم ضارب ومضروب.
ف ي حين يرى بعض الفقه ،أن العدوان إنكار لحكم القانون أو نفي له ،وأن الدفاع نفي لهذا النفي ،وهو
بذلك إثبات أو إقرار لحكم القانون ،ومن هنا كانت إباحته ،غير أنه رأي يشوبه النقص أيضا ،حيث أن لو كان رد
العدوان إعماال للقانون ،المتنع بعد ذلك عقاب المعتدي كون حكم القانون نفذ فيه ،غير أنه يعاقب من جديد مما ينفي
الرأي السابق ،وإال عوقب عن الفعل الواحد مرتين وهذا غير مقبول جنائيا ،كون المتفق عليه جنائيا أن الدفاع الشرعي
مهما كانت جسامته ،فإنه ال يحول دون عقاب المعتدي بموجب القانون.
ومن الفقه ،من رأى أن فعل الدفاع عبارة عن إنابة الدولة في ممارستها سلطتها البوليسية ،كون منع
الجرائم من المهام األساسية للدولة ،فإن تعذر عليها التدخل في الوقت المناسب لمنع وقوع جريمة على وشك الوقوع،
فإنها تنيب أي فرد للحلول محلها في منع وقوعها ،غير أنه رأي لم يقبل أيضا ،حيث أن المدافع في حالة الدفاع الشرعي
يتاح له اقتراف أفعال ال تباح لرجال السلطة العامة ،وهو ما يعني فساد فكرة اإلنابة ذاتها ،ألن اإلنابة تقتضي أال يباح
للنائب ما يمنع على األصيل.
لذا من الراجح فقها أنه في حالة الدفاع الشرعي يقع التعارض بين حقين ،أحدهما خاص بالمعتدى عليه،
واآلخر خاص بالمعتدي ،والحقان يتكافآن من الناحية المجردة ،فكالهما جدير بالحماية ،غير أنه لما كانت التضحية بأحد
الحقين الزمة وال مناص منها ،لذا فحق المعتدي أولى بالتضحية ،ويرجح حق المعتدى عليه ألنه برده يكون قد صان
حقين ،حقه شخ صيا وحق المجتمع ،وهذا األخير حق جوهري وصيانته أولى وواجبة أيضا وفيه تكمن على اإلباحة إلى
حد كبير] .[25ك ما أنه هناك من رد أساس الدفاع الشرعي لفكرة العقد االجتماعي ،حيث يتنازل األفراد بموجب هذا
العقد عن حقوقهم في الدفاع عن أنفسهم لصالح الدولة ،وإن وقع اعتداء على أحد األشخاص ،ولم يكن بمقدور الدولة
الدفاع عنه ،فإن هذا الحق يعود على حالته السابقة ما قبل إبرام العقد ،ويتولى الشخص بنفسه الدفاع عن نفسه ،وانتقد
هذا الرأي بان فكرة العقد االجتماعي ذاتها مشكوك فيها تاريخيا.
طبيعة الدفاع الشرعي:
تحديد طبيعة الدفاع الشرعي ،شأنه شأن تحديد أساسه ،أثارت خالفا فقهيا ،غير أن السائد لدى جمهور
فقهاء القانون الجنائي أنه حق ،غير أنه حق ال يقابله التزام في ذمة شخص معين ،بل هو حق عام مقرر قبل الكافة ،فال
][100
يجوز ألي منهم أن يحول دون استعماله ،ومن الفقه من يعتبر الدفاع الشرعي واجب ،إال أنه ليس واجبا قانونيا فرضه
المشرع ورتب على اإلخالل به جزاء ،وإنما هو واجب اجتماعي يفرضه الحرص على صيانة الحقوق ذات األهمية
االجتماعية ،ومن الفقه من ينكر الوصفين ،فال يعتبره حقا ألنه ال يقابله التزام ،وال يعتبره واجبا ألنه ال يقابله جزاء عند
عدم ا لقيام به ،وإنما هو مجرد رخصة .في حين يرى البعض ،أنه ليس للدفاع الشرعي حكما واحدا ،بل هو يتردد بين
األحكام الثالثة السابقة ،فهو في أغلب أحواله حق ،في حين يعد واجبا في بعض األحيان ،ورخصة في أحيان أخرى،
فهو حق إذا وقع على حق مطلق للمعتدى عليه ،ويكون رخصة إذا كان المدافع ليس بالشخص المعتدى عليه ،ويكون
واجبا إذا كان القانون يفرض على المدافع حماية الحق المعتدى عليه أو يفرض عليه عدم التفريط فيه ،كرجل السلطة
العامة متى كان ذلك استطاعته ،فإن لم يفعل يسأل إداريا كما قد يسأل جنائيا .كما أن دفاع الشخص عن حياته ليس
مجر د حق له بل هو واجب عليه ،والزوجة يقع عليها واجب الدفاع على عرضها إذا حاول الغير اغتصابها ،حيث أن
القانون يعاقبها إذا مكنت الغير من نفسها.
غير أنه طبقا للمادة 2/39من تقنين العقوبات الجزائري ،الدفاع الشرعي هو حق يقرره القانون
لمصلحة المدافع بأن يستعمل القوة الالزمة لرد االعتداء الواقع على نفسه أو نفس الغير أو ماله أو مال الغير ،وهو حق
مقرر في مواجهة الناس كافة ال يحق رده أو مقاومته ،غير أن ممارسة هذا الحق على الوجه القانوني يقتضي مراعاة
جملة من الشروط التي قررها النص الذي أقر هذا الحق ،منها ما يتعلق بفعل العدوان المستحق للرد بطريق الدفاع
المشروع ،ومنها ما يتعلق بفعل الدفاع ذاته ،وهو ما نتناوله في الفرعين التاليتين .على أن نتناول في الثالث حالة
خاصة من حاالت الدفاع المسماة فقها حاالت الدافع الممتازة ،والتي تضمنتها المدة 40من تقنين العقوبات الجزائري.
الفرع األول
الشروط المتطلبة في فعل العدوان
حتى يعتد القانون بفعل الدفاع الشرعي ،ويجعل منه سببا من أسباب اإلباحة ،يجب أن يتوفر في فعل
العدوان ثالثة شروط أساسية ،وهي أن يكون العدوان عبارة عن خطر حال وغير مشروع وان يهدد النفس
أو المال .وهو ما نبين تفصيله على النحو التالي .غير أنه قبل ذلك ،يقتضي الدفاع الشرعي بحكم المنطق والضرورة
العقلية وجود عدوان ،كون العدوان المقدمة الالزمة لفعل الدفاع ،ولواله لما سمي بالدفاع ،حيث أن الدفاع يقتضي أن
يكون هناك عدوان ،والعدوان في جوهره هو اعتداء على حق أو تهديد له ،ومن حيث حكمه هو عمل غير مشروع،
صادر عن إنسان ،كون المشروعية من عدمها تنصرف ألفعال البشر ،وللمسألة أهمية كبيرة كون أفعال غير اإلنسان ال
تقتضي اللجوء للدفاع الشرعي ،حيث أنه إذا كان العدوان راجع للطبيعة أو لحيوان فإن الدفاع في هذه الحاالت ال يستند
على فكرة الدفاع الشرعي ،بل لفكرة حالة الضرورة.
أوال :العدوان خطر حال ( خطر محدق أو قائم)
وهو الشرط الذي يتضح بجالء من نص المادة 39التي استعملت عبارة " الضرورة الحالة" بمعنى أن
يكون فعل العدوان محدقا وعلى وشك الوقوع ،أو وقع ولم ينته بعد ،أي خطرا قائما] .[26والخطر المحدق على وشك
الوقوع هو الخطر الذي أصبح أمر حدوثه أمرا متوقعا ومنتظرا كخطوة تالية مباشرة -األمر الذي يعني استبعاد كل
األخطار المستقبلية ألن مآل تحققها أمر محتمل الوقوع -أو أن يكون خطر قد وقع ولم ينته بعد ،وفي مثل هذه الحالة
يظل الخطر قائما ومستمرا طالما لم تتحقق الجريمة كاملة على الوجه المحدد لها في النموذج التشريعي ،لذا ففي الجرائم
المستمرة يظل الخطر حاال ،والدفاع ضده في أي لحظة دفاعا مشروعا.
ثانيا :أن يكون خطر غير مشروع
قرر الدفاع المشروع أصال لرد االعتداءات المشكلة لجرائم ،والجريمة دوما تعد فعال غير مشروع ،لذا
يجب أن يكون الخطر الحال الذي يتهدد الشخص خطرا غير مشروع مهدد لحق يحميه القانون – النفس أو المال -حتى
وإن كان مصدر الخطر شخص غير مسؤول جنائيا ،كونه سبق القول أن أسباب اإلباحة ظروف موضوعية عينية
وليست شخصية ،لذا ينظر فيها لألفعال ال لألشخاص .غير أنه يجب استبعاد األخطار الوهمية التي يتوهما الشخص.
ثالثا :خطر مهدد للنفس أو المال
][101
يجب أن يكون الخطر الحال غير المشروع مهددا لنفس الشخص أو نفس غيره أو مال الشخص
أو مال غيره ،دون أن تحدد المادة 39نوع هذه الجرائم مما يجب معه أخذها بصفة عامة دون حصر ،وإن كانت مسألة
الجرائم الواقعة على الشرف واالعتبار أثارت نوعها من الجدل].[27
وبتوفر هذه الشروط ،ال قيمة لجسامة العدوان ،إذ في القانون الجنائي ال فرق بين العدوان الجسيم والعدوان
اليسير ،فكالهما جائز دفعه عن طريق الدفاع الشرعي ،وإن كان هناك فرق فهو ينحصر في كمية الدفاع والقدر الواجب
فيه ،ال في أصل الدفاع وما إن كان واجبا أم ال .ويستوي العدوان أن يكون فعال إيجابيا أو فعال سلبيا ،فالعدوان مناط
الدفاع ،وال عبرة بطبيعة النشاط في العدوان ،وإن كان العدوان في غالب األحيان يقع بفعل إيجابي كالضرب والشتم
والحرق والقتل والسرقة ،إال أنه يمكن أن يقع أيضا بالترك أو االمتناع ،أي بنشاط سلبي ،كامتناع األم عن إرضاع ابنها
والطبيب عن إسعاف المريض وامتناع من دخل مسكن عائلة برضاها ثم رفض الخروج بطلبها ،فهنا يجوز إكراه
الشخص بفعل يشكل جريمة كإرغام األم بالقوة على إرضاع ابنها أو خطفها منها إلرضاعه وتهديد الطبيب بالقتل إن لم
سعف المريض واستخدام القوة الالزمة إلخراج الشخص الذي رفض الخروج من المنزل طوعا .غير أن الشرط
األساسي أن يكون العدوان يشكل جريمة ،إذ ال يجوز الدفاع الشرعي ضد األفعال المباحة ،كما يمتنع عن األفعال غير
المشروعة إن لم تشكل جرائم ،إذ ال دفاع عن فعل ضد شخص يؤدي واجبا أو يمارس رخصة أو حق ،إذ ال يجوز ألب
الزوجة أو أخوها من رد تأديب الزوج لزوجته وإال عوقب ،وال مقاومة رجل السلطة العامة الذي ينفذ أمر القانون أو
أمر الرئيس ،مثل تفتيش المسكن أو إلقاء القبض ،كما ال يجوز الدفاع ضد فعل غير مشروع في فرع من فروع القانون
غير الجنائية ،لكنه ال يشكل جريمة في القانون الجنائي ،مهما كان خطر هذا الفعل ،وال يجوز رده بفعل يعد جريمة،
كون الدفاع الشرعي عبارة عن جريمة في حقيقتها موجه لرد جريمة يمثلها العدوان] .[28لذا فال يجوز الدفاع ضد
األعمال المنافية لألخالق الدينية واألعراف االجتماعية متى كانت ال تشكل جريمة من الجرائم المنصوص عليها في
قانون العقوبات ،وكذا كل االعتداءات المنصوص عليها في الفروع القانونية األخرى ،وما عدا ذلك ال يهم الجريمة التي
تشكل عدوان.
رابعا :ما ال يؤثر في قيام حالة الدفاع الشرعي
و عموما كل ما يشترط في فعل العدوان أن يشكل جريمة من جرائم قانون العقوبات ،وال عبرة بعد ذلك
بنوع هذه الجريمة ،وال باألحوال الخاصة بشخص المعتدي ،وال بالنظر لما يتوفر لديه من ظروف فيما بعد قد تمنع
مسائلته جنائيا أو عقابه .كما ال يشترط أن تكون جريمة المعتدي على قدر معين من الجسامة ،إذ يجوز الدفاع الشرعي
ضد الجرائم بمختلف درجاتها ،سواء كانت جنايات أو جنح أو مخالفات ،وال يشترط أن تكون الجريمة عمدية ،حيث
يجوز أيضا الدفاع الشرعي ضد الجرائم غير العمدية ،كما ال يشترط أن يكون الركن المادي قد اكتمل ،بل يجوز الدفاع
في حالة الشروع ،بل األصل في الدفاع الشرعي أنه يوقف الجريمة عند حد الشروع ،ألن الحكمة من إباحته هي كف
العدوان والحيلولة دون تحقق نتائجه المحظورة قانونا ،لذا فتطبيقات الدافع الشرعي في أغلب حاالته أن يواجه الجريمة
وهي في مرحلة الشروع ،غير أن المشرع يقيد الجريمة بأن تكون على النفس أو المال .ويجوز الدفاع حتى ولو كان
الشخص سبق وان استفز المعتدي ،إذ لشريك الزوجة الزانية حق الدفاع عن نفسه ضد الزوج الذي فاجأهم بالزنا ويجوز
الدفاع من امتنعت مسؤوليته أو توفر لديه مانع من موانع العقاب ومن توفرت لديه الحصانة الدبلوماسية .وأن عدم
الخضوع لقضاء الدولة ال يمنع من قيام حالة الدفاع الشرعي ،ففي الحاالت المستثناة من مبدأ اإلقليمية ،ال يمنع من قيام
حالة الدفاع الشرعي ضدهم ،فحظر محاكمتهم عن الجرائم التي يرتكبونها على إقليم الدولة ،ال يحول دون تمتع
ضحاياهم بحق الدفاع الشرعي.
كما أن تعليق رفع الدعوى العمومية على قيد ال يحول دون ممارسة حق الدفاع الشرعي ،وهو قيد من
طبيعة إجرائية ،لكنه ال يغير من الطبيعة الموضوعية للفعل المرتكب ،فإن كان يشكل جريمة جاز للشخص المعتدى
عليه أن يرده عن طريق الدفاع الشرعي ،من قبل المعتدى عليه وحتى من قبل عامة الناس أن يردوه عن طريق القوة
العامة ،فصد االبن بالضرب عن سرقة مال أبيه حتى لو علم بأنه يسرق مال أبيه يعد سببا من أسباب اإلباحة ،أو شروع
أحد نواب البرلمان في قتل شخص آخر ،يجوز للمعتدى عليه وكل الناس رده بالقوة بفعل يشكل جريمة حتى وغن كانت
جريمة قتل .كما أن امتناع مسؤولية الشخص المعتدي ال يحول دون الدفاع الشرعي ضده ،كالمجنون والصغير ومن به
علة عقلية أو غيبوبة أو سكر كون امتناع المسؤولية ال يبيح اقتراف الجرائم ،فاغتصاب مجنون لفتاة أو شروع طفل في
][102
حرق المحاصيل يوقف عن طرق فعل يشكل جريمة ويعد ذلك دفاعا شرعيا .بالرغم من أنه هناك بعض الفقه من يرى
أن الدفاع الشرعي ضد الممتنعة مسؤوليته غير جائز قانونا ،بدعوى أنهم غير مخاطبين بأوامر ونواهي القانون وبالتالي
أفعالهم ال حكم لها قانونا ،وال يمكن وصفها بأنها أفعال غير مشروعة ،وبالتالي تفادي أخطار هؤالء ال يستند إلى أسباب
اإلباحة ،بل إلى حالة الضرورة ،وهو رأي ال يؤيده البعض بكونه أقحم على عنصر الالمشروعية عنصر غير الزم
قانونا ،وهو أن يكون الفاعل مسؤوال وهو أمر ال مدخل له كون الالمشروعية مسألة موضوعية بحتة ،فكل سلوك
محظور هو غير مشروع ايا كان مرتكبه ،وأنه ليس في قواعد القانون ما يبيح لغير المسؤول جنائيا أن يرتكب ما جرمه
القانون.
كما أن العذر القانوني ال يعطل الدفاع الشرعي ،والعذر مثل مفاجأة الزوج لزوجته متلبسة بجريمة
الزنا ،أو تجاوز حدود الدفاع الشرعي بحسن نية ،والعذر القانوني ال يبيح الفعل بينما يخفف عقوبته ،وبالتالي هذه
األعذار ال تحول دون حق ممارسة الدفاع الشرعي ،مثل الحدث والشخص الذي تجاوز حدود الدفاع الشرعي بحسن
نية ،كون فعله في هذه الحالة ينقلب إلى جريمة ،وأن الراجح أيضا للزوجة المتلبسة بالزنا وشريكها الدفاع عن نفسيهما
ضد الزوج الذي فاجأهم بج ريمة الزنا ،بالرغم ممن يعارض ذلك على اعتبار أن الزوجة وشريكها ابتدءا باستفزاز
الزوج وبالتالي ال يحق لهما الدفاع عن نفسيهما .كما أن امتناع العقاب أو توفر مانع من موانع العقاب لدى المعتدي ال
يحول دون حق ممارسة الدفاع الشرعي ،كون الفعل رغم المانع يظل يشكل جريمة ،والعبرة في مجال الدفاع الشرعي
هي بطبيعة الفعل ال باستحقاق مرتكبه من الناحية الواقعية للعقاب من عدمه .وبالتالي يجوز الدافع ضد من امتنع عقابه.
و هناك مسألة العدوان الناشئ عن جريمة مشمولة بأحد أسباب اإلباحة ،ويرى الفقه بأن كل جريمة
مشمولة بسبب من أسباب اإلباحة ال يجوز ممارسة حق الدفاع الشرعي ضد مرتكبها ،كون الدافع الشرعي قرر في
مواجهة االعتداءات غير المشروعة ،في حين الجريمة المشمولة بسبب من أسباب اإلباحة رفعت عنها الصفة التجريمة،
وتطبيقا لذلك ال يجوز لالبن الذي يؤدبه والده أن يدافع عن نفسه ،وال للمعتدي أن يدافع عمن اعتدى عليه ،تطبيقا لقاعدة
" امتناع الدفاع عن الدفاع" ،بشرط أال يكون األول قد تجاوز حدود الدفاع الشرعي ،كون التجاوز يبيح الدفاع].[29
غير انه ثار جدل حول الدفاع ضد رجال الضبط القضائي ،فإنه بالرغم من الجدل الفقهي الذي أثاره
الموض وع ،في الحالة التي يقومون فيها بعمل غير مشروع ،فمن الفقه من رأى تفضيل النظام العام وافتراض شرعية
أعمال رجال الضبط القضائي وبالتالي ال يجوز ممارسة الدفاع الشرعي ضد أعمالهم حتى ولو كانت غير مشروعة،
ويعاكس اتجاه آخر ذلك ،بحجة حماية الحقوق والحريات التي كفل الدستور حمايتها وبالنظر أيضا لذاتية واستقالل قانون
العقوبات ،واتخذ البعض موقف وسط معمال معيار المشروعية الظاهرة.
و هناك وضع يتعلق بمدى جواز الدفاع ضد جريمة يتخلف فيها الركن المعنوي ،أي أن يكون مرتكبها
حسن النية ،فمثل هذا الفعل من الناحية القانونية ال يرقى لمرتبة الجريمة ،وتخلف الركن المعنوي قد يكون تاما فال
يصحبه ال العمد وال الخطأ ،كمن يأخذ شيء ال يملكه معتقدا بأنه يخصه لشدة التشابه بين الشيئين،
أ و كمن يمزح من آخر ويهم بضربه مازحا ،فهنا الراجح امتناع الدفاع الشرعي ضد هذا الشخص .على عكس حاالت
اإلهمال الذي يثير خطر تصوري أو حقيق له أسباب معقولة ،كمن يطلق العيارات النارية اتجاه الجمع في مناسبة
احتفالية ،غير أن القضاء الفرنسي لغاية اليوم ال يزال يرفض فكرة الدفاع ضد الجرائم غير العمدية.
الفرع الثاني
الشروط المتطلبة في فعل الدفاع
فعل الدفاع في حقيقته عبارة عن جريمة يباح للشخص ارتكابها لدرء األخطار غير المشروعة الواقعة
عليه أو على غيره ،لذلك وإن أجاز القانون ألسباب معينة ارتكاب مثل هذه الجرائم ،فهو قيدها بقيود حتى ال تنقلب إلى
أفعال غير مشروعة ،والدفاع هو الوجه المقابل للعدوان ،أو هو رد الفعل الفردي على العدوان في الحاالت التي يعجز
فيها القانون عن حماية الحق المعتدى عليه بطريق آخر ،وهو الفعل الذي ال يهتم به القانون إال إذا كان يشكل جريمة،
فإن تجرد من ذلك كان مباحا أصال من الناحية التي يقتضيها مبدأ الشرعية الجنائية ،وال حاجة عندئذ للبحث عن شروط
الدفاع ،فمثال إذا اندفع شخص لقتل آخر ،وحاد هذا األخير عن طريق ،مما جعل المعتدي يصطدم بلوح زجاجي فجرحه
أو سقط في هوة ومات أو على سلك كهربائي فصعقه التيار أو على السكة فدهسه القطار فإن فعل المدافع عبارة عن
][103
فعل مباح ال مجال للبحث فيه عن مدى توفر الشروط المتطلبة للدفاع في مجال الدفاع الشرعي ،ألنه ارتكب أصال فعل
مباح ،في حين أن الدفاع الشرعي يتطلب الرد عن فعل يشكل في نظر قانون العقوبات جريمة ،سواء تمثلت في فعل
إيجابي كالضرب والجرح والقتل ،أو بسلوك سلبي ،إذ ليس في القانون ما يمنع أن يكون الدفاع بسلوك سلبي ،كمن
يع تدي على شخص فينقض عليه كلبه وال يتدخل لرد الكلب بل يتركهما يتصارعان لينجو بنفسه ،غير أن األفعال
اإليجابية مما يغلب وقوعها في الواقع فإن كان القانون قد أباح القتل في فعل الدفاع فليس هناك ما يمنع من إباحة ما هو
أدنى من القتل ،مما جعل البعض أن الدفاع الشرعي يجوز أيضا بالسرقة والتزوير وإصدار شيك بدون رصيد ،كون
المسألة ال تتعلق بمشروعية الوسيلة بل تتعلق بمدى لزومها لدرء العدوان ،كما يجوز الدفاع بجريمة غير عمدية ،كمن
يطلق رصاصة بغرض الترهيب فقط فتصيب المعتدي وتقتله.
لكن حق الدفاع الشرعي ثابت أساسا للشخص المعتدى عليه ،وكذا لغيره إذا كان العدوان واقعا على النفس أو
المال وسواء كان جسيما أو يسيرا ،فالعبرة ليست بالشخص المعتدى عليه بل بالحق المعتدى عليه وكان حسب األصل
أن يتولى القانون نفسه الدفاع عن هذا الحق ،ولما قصرت وسائل القانون أطلق حق الدفاع الشرعي للمعتدى عليه
ب وصفه أحق الناس بذلك ،ثم خوله لغيره من الناس من باب الحسبة ،مما يؤدي إلى حماية الحق وزجر العدوان ،لذا ال
يشترط أن تكون هناك صلة بين المعتدى عليه والمدافع ،وال رضاء المجني عليه بدفاع الغير عنه ،بل ال يعتد حتى
بقبوله العدوان إال بما يتعلق بالحقوق التي يجوز له التصرف فيها كالحقوق المالية ،أما الحقوق األخرى التي ال يجوز
التصرف فيها كالحق في الحياة أو سالمة البدن فإنه يجوز للغير أن يدافع عنها حتى وإن كان المعتدى عليه راضي
بالعدوان .وعلى العموم ،فعل الدفاع مقيد بشرطين أو قيدين ،وهما شرطي اللزوم والتناسب.
أوال :شرط اللزوم
يقصد بشرط اللزوم ،أن يكون فعل الدفاع – الذي هو في األصل جريمة -السبيل الوحيد لرد االعتداء،
وبالتالي كلما كان بإمكان الشخص أن يسلك سبيل آخر غير مجرم انتفى شرط اللزوم وبالتالي انتفت اإلباحة عن فعل
الدفاع .وبمعنى آخر كون سلوك الجريمة الزما ،إذا كان العدوان قائم ومنذر بالتفاقم
أو االستمرار ،ولم يكن أمام المدافع من سبيل لدرئه غير الفعل الذي ارتكبه ،وإال فقد الدفاع مبرراته ،ويجعل منه عدوان
يسأل عنه قانونا طبقا للقواعد العامة .فإذا ثبت أن المجني عليه أو الغير كان في إمكانه رد االعتداء بوسيلة أخرى ال تعد
جريمة ،فإن الدفاع عن طريق الجريمة يكون غير الزم ،وأن يكون الدفاع معاصرا لالعتداء وهو ما بينته المادة 5/125
من تقنين العقوبات الفرنسي ،إذ تفادي الخطر ال يكون إال عند وقوع الخطر ال قبله وال بعده .وأن العدوان المستقبلي ال
يبح فعل الدفاع ،حتى ولو بدت بوادر احتمال االعتداء في وقت قد يكون قريب كما قد يكون بعيد ،فال عدوان ما لم يبادر
المعتدي في االعتداء ،كأن يكون السارق يجول حول المنزل أو يترصد حركات الشخص ،فهنا العدوان لم يقع ،لكن في
المقابل يمكن للمدافع يتخذ االحتياطات الالزمة ،مثل إقامة األسوار أو وضع الزجاج أو األسالك الشائكة عليها أو كهربة
األقفال ،أو إطالق الكالب الشرسة في حديقة المنزل ،فتعد في نظر بعض الفقه من الوسائل التي تدخل في نطاق الدفاع
الشرعي عن النفس أو المال ،بشرط أال تعمل عملها إال عند االعتداء ،وعلى أن يكون ضررها متناسب مع االعتداء
ال حاصل ،وهو رأي ال يوافقه البعض كونه يقحم في الدفاع الشرعي ما ليس منه ،كون الدفاع الشرعي أصال يقتضي
سبق العدوان وإال كان دفاعا مستقبال ،وأن الدفاع الشرعي يبيحه الدفاع الحال فقط دون الدفاع المستقبلي .كما أن انتهاء
العدوان ينهي انتهاء فعل الدفاع ،كون الدفاع الشرعي شرع لرد العدوان ،وأي رد بعد انتهاء العدوان يعد فعال من أفعال
االنتقام ،وتتحدد لحظة انتهاء العدوان في العادة ببلوغ العدوان غايته ،أو بوقوفه عند حد الشروع ،ولحظة انتهاء العدوان
في العادة ما تتحدد بالرجوع إلى النص ،فهو الذي يحدد لنا نوع االعتداء ويرسم معالمه مما يتحدد معه صراحة أو
ضمنا بداية ونهاية االعتداء ،فالضرب باصطدام الجسم بجسم آخر وفي الجرح بتمزيق األنسجة ،وفي الحريق بوضع
النار ...كما يختلف بحسب الجريمة المؤقتة والجريمة المستمر ،والجريمة البسيطة والجريمة المتتابعة األفعال ،إذ في
الجرائم المستمرة يظل االعتداء قائما طالما ظلت الجريمة المستمرة كاالختطاف واالحتجاز ،فطيلة هذه الفترة يمكن
ممارسة الدفاع الشرعي ،وبالتالي مسألة بداية وانتهاء االعتداء في حقيقة األمر ال ينظر إليها نظرة قانونية بحتة ،وإنما
ينظر إليها نظرة واقعية ،أي انتهاء العدوان ينظر إليه من حيث الواقع ال من حيث القانون.
][104
ك ما أن العبرة في انتهاء العدوان هي بانتهاء الفعل أو السلوك ،ال بتحقق النتيجة ،كما ينتهي العدوان عند
توقف الجريمة عند حد الشروع مثل مفاجأة أصحاب البيت السارق فيلقي األموال ويهرب ،أو وجد الخزانة فارغة فولى
مدبرا فيصادفا نه ويهرب ،فهنا الجريمة خابت ووقفت عند حدود الشروع المعاقب عليه ،وبالتالي العدوان انتهى وكل
دفاع ضده يعد جريمة في حد ذاته.
و من الشروط التي تجعل من الدفاع الزما ،هو أن يتعذر رد العدوان إال بفعل الدفاع الذي يعد في حقيقة
األمر جريمة ،وبالتالي إن أمكن رده عن طريق آخر غير هذا الفعل المشكل لجريمة فال دفاع ،كون الدفاع أقره المشرع
ألنه يأخذ حكم الضرورة ،والضرورة تقدر بقدرها ،غير أنه هناك حاالت أثارت جدال فقهيا كبيرا ،منها إمكانية الهرب،
أو االحتماء بالسلطة العامة أو تفادي العدوان قبل أن يقع.
-1إمكان اللجوء إلى السلطة العامة:
يرى بعض الفقه أن الدفاع الشرعي ذو صفة احتياطية ،وبالتالي ال يلجا إليه إال عند عجز السلطة العامة
عن حماية الحق المعتدى عليه ،فإن كان اللجوء إليها ممكنا فال محل للدفاع الشرعي ،بشرط أن يكون للمتهم الوقت
الكافي للجوء لهذا اإلجراء ،وما لم يكن في ذلك تحمل للعدوان وأضراره لغاية وصول رجال السلطة العامة ،ومعنى
ذلك أن يكون اللجوء إلى السلطة العامة قبل البدء في العدوان ،إذ ال محل لترك المتهم في المنزل والذهاب للسلطة
العامة ،أو ترك الشخص يتلف الزرع لغاية وصول السلطة العامة].[30
-2إمكانية الهرب من المعتدي:
يتساءل البعض إن كان بإمكان المعتدى عليه الهرب من الجاني ؟ وهنا يرى البعض أنه ال يلزم
الشخص بفعل يحط من قدره ،والهرب يشين ومعرة فال يجوز فرضه على من تعرض لعدوان غيره ،وعلى المعتدي أن
يتحمل مغبة عدوانه ،غير أنه حق خيار مقرر للمدافع ،إال أن الهرب ذاته يكون معاقب عليه ومحظور لبعض الفئات
مثل العسكريين ،كما أن الهرب في بعض األحيان حتى بالنسبة لألشخاص العاديين يعد محمودا مثل هرب االبن من أبيه
والتلميذ من عدوان معلمه والشخص البالغ من عدوان المجنون
أو الصبي ،ويدخل في مفهوم الهرب االحتماء داخل البيت ،أو استغاثته بمن حوله ،أو تغيير الطريق التي يتواجد بها
الخصم .وقضت محكمة النقض المصرية ،أن القانون ال يمكن أن يطالب اإلنسان بالهرب لما في ذلك من الجبن الذي ال
تقرره الكرامة اإلنسانية ،وقد قضي في مصر أيضا ،انه من الخطأ أن نطالب الشخص بمغادرة منزله وأن يلتجأ إلى
الطريق العام.
ثانيا :شرط التناسب
وهو شرط يقتضي تقييد الشخص المدافع بإتيان أفعال تكفيه رد الخطر الذي يداهمه فحسب ،وكل تجاوز
لذلك يعد جريمة يعاقب عليها القانون ،بشرط ثبوت علمه بالتجاوز .غير أن مسألة التناسب مسألة موضوعية تخضع
للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع ،حسب ظروف ومالبسات كل قضية على حدا .لكن ذلك ال يمنعنا من تقديم بعض
التوضيحات ،وهي أن ممارسة الدفاع الشرعي مرهون بالتزام حدوده ،إذ المدافع يجب أال يتجاوز حدوده في الدفاع عن
نفسه أو ماله ،أو نفس الغير وماله ،وكل تجاوز لحدود الدفاع الشرعي ،يخرج المدافع من دائرة اإلباحة إلى دائرة
التجريم ،والحدود تتمثل في استعمال فقط القوة الالزمة لرد العدوان ،غير أن الفقه تفرقت آراءه بخصوص إيجاد
معيار التناسب هذا ،والطرق التي بموجبها يثبت التناسب من عدمه ،فمنهم من اعتمد معيار الحق المعتدى عليه والحق
الذي يمسه المدافع الراجع للمعتدي ،ومنهم من اعتمد معيار الضرر وما يصيبه االعتداء وما يصيبه الدفاع ،ومنهم من
يعتمد في المقارنة على الوسائل التي استخدمها المدافع من بين الوسائل التي كانت متاحة له ،ومنهم من يعتمد على قدر
العنف الذي بدله المدافع وما كان يبذله غيره في نفس الظروف ،وهو التذبذب واالضطراب الذي أصاب أيضا أحكام
القضاء] . [31األمر الذي قاد الفقه إلى زيادة المسألة تعقيدا بعدما حاول إيجاد حل لها ،وذلك ألن مصطلح التناسب ذاته
مصطلح مضلل ،ألنه يوهم بضرورة التكافؤ ولو بشكل نسبي بين جسامة االعتداء وجسامة الدفاع ،وهو غير المطلوب
قانونا وإال كان فيه تعطيل لحق الدفاع ،إذ قد يجد المدافع نفسه أمام اعتداء يسير ال يمكن رده إال باعتداء جسيم ،وهنا
يجد المدافع نفسخه أمام خيارين أحالهما مر ،فإما أن يدافع عن نفسه متحمال التجاوز وعواقبه ،وإما أن يفسح الطريق
أمام المعتدي ويتركه ينفذ اعتداءه ،وهذا غير مقبول ،بل هو مخالف لصريح القانون الذي يبيح استعمال القوة الالزمة
][105
لرد كل عدوان على النفس أو المال .غير أن المسألة أكثر يسرا لو تأملنا الحكمة من تقرير الدفاع الشرعي ،بان الدفاع
ضرورة ،والضرورة تقدر بقدرها ،وهي استخدام ما يقتضيه الرد بناء على ظروف الموقف ،وهو الموقف الذي ال ينظر
له نظرة مجردة ،بل ينظر إليه على ضوء الظروف والمالبسات منها ما يتعلق بالمعتدي ومنها ما يتعلق بالمدافع ،مثل
السن والجنس والحالة الصحية والقوة البدنية ودرجة الثقافة ونمط الشخصية وطبيعة العالقة بينهما ،ومنها ما يتعلق
بعامل الزمان والمكان كالليل والنهار والصيف والشتاء والبعد والقرب من األماكن العمرانية ونوع الحق المعتدى عليه،
وغير ذلك من المواقف والمالبسات التي ترسم معالم الموقف وتحدد السلوك الالزم لرد العدوان ،مما يؤدي أحيانا إلى
إباحة استخدام وسائل بالغة العنف وإحداث أضرار جسيمة لرد اعتداءات يسيرة] .[32كما يجب أن يأخذ في الحسبان ما
استقر في نفسية المدافع لحظة تعرضه للعدوان ،ال بالموقف الهادئ المطمئن الذي يكون عليه القاضي وهو جالس بقاعة
المحكمة ،بل يجب أن يحل نفسه محل المدافع ثم يقدر الموقف بناء على تفكير صاف متزن ،إذ المدافع وحده ممن
أحاطت به الظروف الحرجة والمالبسات الدقيقة التي وضعته في مأزق وال يمكن محاسبته بوجوب أن يكون متزن
الفكر هادئ التقدير ،وهو ما يستحيل عليه في الظروف التي وجد فيها لحظة االعتداء] .[33ويرى البعض في هذه
المسألة معالجة مسألة التناسب العام ومسألة التناسب الخاص ،فالتناسب العام ال يقتضي بالضرورة المساواة المجردة بين
المصالح المتعارضة وال األضرار التي تصيبها ،بل على الوسيلة التي تمكن من رد االعتداء ،وأن تكون الوسيلة
الوحيدة التي تمكنه من رد االعتداء من بين الوسائل المتاحة له ،وقد قضي بجواز استعمال سالح ناري في مواجهة
معتدي غير مسلح أصال ،ويراعي في ذلك الظروف التي يمر بها المعتدى عليه والقوة البدنية للطرفين ،ويؤخذ بمعايير
واقعية التي يمر بها الشخص العادي .أما التناسب الخاص ،فهي الحاالت التي يدافع فيها الشخص عن نفسه بجريمة
القتل ،التي حددها المشرع على سبيل الحصر.
ه ذا ونشير إلى أن الفقه قد أثار شرطا ثالثا ،بموجبه تم اإلقرار أال يكون الشخص المدافع هو الذي تسبب
في الجريمة ،كأن يكون قد ساهم فيها أو استفز المعتدي ،وهذا فيه كالم أهمه دفاع الزوجة وشريكها ضد القتل الذي
يحاول ارتكابه الزوج المضرور ،كما أن االستفزاز بالسب والشتم ال يبرر القتل لعدم وجود التناسب.
و يضيف الفقه أحيانا شرطا ثالثا ،وهو أن يتجه المدافع بدفاعه على المعتدي ذاته ال إلى غيره ،بغض
النظر عن الحق الذي ينصب عليه الدفاع ،فقد يتلف المعتدي سيارته أو يقتل كلبه أو يحطم سالحه ،وبالتالي من
مقتضيات شرط اللزوم أن يوجه فعل الدفاع للشخص مصدر االعتداء ال لشخص ال تربطه صلة بهذا االعتداء ،فال
يجوز لشخص سبته امرأة أن يتوجه بالضرب لزوجها أو يتلف ماله ،غير أن المسألة أحيانا ينظر إليها بحسب ظروف
ومالبسات القضية ،مثل الشخص الذي يشرع في الحرق وتحطيم ملك الغير ،فال يجد الشخص من سبيل سوى اإلمساك
بابنه وتهديده بالكف عن أعماله وإال سيؤذي ابنه.
كما نجد الفقه ،يضيف أحيانا شرطا رابعا ،وهو نية الدفاع ،وهو اشتراط أن تكون إرادة المدافع قد
اتجهت وقت الدفاع إلى رد العدوان ،وإال تجرد من معنى الدفاع وأصبح عدوانه يستوجب العقاب ،لذا فينبغي علم
المدافع بالعدوان ومن ثم اتجاه إرادته إلى منع هذا العدوان ،فإن ثبت أن هدف المدافع كان الثأر
أو االنتقام عد فعله جريمة حتى وإن درء به اعتداء فعلي على حق ،وبالرغم من عدم وجود نص في القانون يشترط هذه
النية ،إال أنها تستفاد من العبارات العامة للنص ومن طبيعة فعل الدفاع ذاته .لذا نجد بعض الفقه ذهب للقول بأن هذه
النية غير الزمة ،على أساس أن أسباب اإلباحة أسباب موضوعية عينية ،في حين النية أمر شخصي ،وبالتالي فاالشتغال
بالنية اشتغال ال يفيد ،إذ حتى بغياب النية فلوال الدفاع الكتمل العدوان من الناحية الواقعية ،لذا أجاز أصحاب هذا الرأي
أن يكون الدفاع بجريمة غير عمدية ،إذا صادفت رد اعتداء غير مشرع ،كترك كلب بدون أخذ االحتياطات الالزمة لمنع
ا عتداءه على الغير وصادف الرتكاب جريمة ومنعها .في حين يرى البعض أن النية مستفادة من اشتراط رد العدوان
بفعل قادر على الرد ،وهذا يقتضي ضمنا وجود نية في ذلك ،كون قياس القوة وتقديرها يقتضي وجود نية ،خاصة وأن
تقدير التناسب يقدر على ضوء كل من الظروف الموضوعية والشخصية المحيطة بالشخص المدافع ،لكن ال يشترط في
هذه النية أن تكون خالصة ال تخالطها نية أخرى ،مثل الرغبة في الثأر والتباهي بالقوة أو إرهاب الغير ،فهي نوايا وإن
كانت غير مستحبة ،فإنها ال تنفي نية الدفاع الشرعي ،كون وجودها من عدمه في نظر القانون سواء .كما يرى البعض،
إن سبق اإلصرار والترصد ال ينفي نية الدفاع ،كمن علم أنه مستهدف للسرقة في بيته فأعد خطة للدفاع ،وفاجأ لصوصه
][106
بالدفاع فهنا يكون في حالة دفاع شرعي بالرغم من سبق اإلصرار والترصد ،وهو عكس ما اتجهت له محكمة النقض
المصرية في بعض قراراتها .كما يرى البعض أيضا ،أن نية الدفاع الشرعي ال تنتفي باستفزاز المدافع للمعتدي ،نظرا
لفكرة عقم االستفزاز ،غير أن هذا الرأي يفرق بين االستفزاز واالستدراج ،إذ االستدراج ال يستقيم مع نية الدفاع،
واالستدراج كتحدي شخص أن يقوم بفعل ما ،أو التظاهر بالغفلة عن صيانة المال ،ويتخفى في مكان ما ليفاجأ السارق،
فاالستفزاز مجرد إثارة وإهاجة ،بينما االستدراج عبارة عن خطة مدروسة ومرسومة لتوريط الغير في االعتداء وذاك
بينة مبيتة منذ البداية تحت ستار الدفاع الشرعي ،لذا فاالستدراج ال يستقيم مع نية الدفاع الشرعي .وعدم مراعاة
الشروط السابقة ،يجعلنا أمام تجاوز لحدود الدفاع الشرعي ،الذي نعالجه في النقطة التالية.
ثالثا :حالة تجاوز حدود الدفاع الشرعي
ا لمقصود بتجاوز حدود الدفاع الشرعي ،نشوء الحق فيه أوال ،وهو ما يفترض أوال وقوع عدوان يشكل
جريمة من جرائم قانون العقوبات ،وتعذر رد هذا العدوان إال بطريق فعل يشكل بدوره جريمة من جرائم قانون
العقوبات ،ليأتي تجاوز الحدود عند ممارسة حق الدفاع الشرعي ،وهو التجاوز الذي يتصور أن يكون بتجاوز محل
الدفاع ،ومحل الدفاع هو دائما حق من حقوق المعتدي ،وإن حدث وأن أصاب المدافع حق من حقوق الغير ،كأن ينتزع
شجرة الغير ويستعملها كوسيلة دفاع ،أو يمسك ببريء ويغطى به نفسه،
أو يطلق النار في الليل ويصيب شخص غير المعتدي ،فهنا حسب البعض أنه لم يكن متعمدا ذلك وبحسن نية ولم ينسب
له أي خطا ،ويعتبر في حالة دفاع شرعي ،وإن كان يتعمد هذا التجاوز في المحل يمكن أن يسأل بحسب األحوال عن
جريمة عمدية أو غير عمدية بحسب ما تحتمله الجريمة من أوصاف ،غير أن البعض يرى بأنه رأي غير صائب إذ ال
مجال ألن تهدر حقوق الغير األبرياء لمجرد أن شخصا ما كان محل اعتداء ،وإن كان يمكن القول بأن الركن المعنوي
قد تخلف فال يمكن القول بأي حال من األحوال أن الفعل صار مباحا .وهناك حالة أخرى يسميه الفقه الشطط في الدفاع
-وبينتها المادة 251من تقنين العقوبات المصري -وهي تعدي المدافع بنية سليمة حدود الدفاع الشرعي أي أن يكون
عالما بأنه يتعدى حدود الدفاع الشرعي ،غير أنه لم يكن قاصدا إحداث أضرار أكثر مما يتطلبه الدفاع الشرعي ،مما
يجع ل فعله غير مشروع يسأل عنه وإن كان حسن النية يخفف عنه العقوبة .وفي حال سوء نية المدافع ،أي تعمده إحداث
ضرر اشد مما يستلزمه الدفاع ،إذ يكون قد قدر الموقف تقديرا صحيحا ،فانتهز الفرصة وتجاوز حد االعتدال ويوقع
بالمعتدي ضرر اشد مما يلزم ،فهنا تطبق القواعد العامة ويعاقب عن جريمة عمدية ،بالرغم من أن بعضه كان مباحا
والبعض اآلخر مجرما ،إال أن الفعل الواحد وحدة واحدة ال تقبل التجزئة ،فصار بذلك الفعل بأكمله غير مشروع ،عمال
بقاعدة عامة معمول بها في الفقه الشرعي ،وهي أنه إذا اجتمع الحالل والحرام غلب الحرام ،غير أن ذلك ما يكون
في العادة سببا لتخفف العقوبة إعماال للسلطة التقديرية للقاضي .أما إن كان التجاوز بحسن نية ،أي اعتقد المدافع خطأ
أنه في حدود ما يقتضيه الدفاع الشرعي ،فهنا ينتفي الخطأ كونه يدور وجودا وعدما مع فكرة حسن النية .غير أن حسن
النية ال يبيح فعل الدفاع ،وإنما يخف من العقوبة ،كون النية مسألة شخصية في حين الدفاع الشرعي ظرف عيني
موضوعي.
] - [1و هذا القول ال يعني بأن موانع المسؤولية تتعلق بالركن المعنوي ،فهي بعيدة تمام البعد عن أركان الجريمة ،ففي
موانع المسؤولية تكون الجريمة قائمة بأركانها الثالثة ،غير أن الشخص ال يسأل عن جريمته لتوفر مانع يحول دون قيام
المسؤولية ،ال دون قيام الجريمة .وسيتضح األمر أكثر عند دراسة المسؤولية الجنائية وموانعها.
] - [2ا لتدابير االحترازية أو تدابير األمن ،ومثلما سيتضح عند دراستها ،هي الصورة الثانية من صور الجزاء الجنائي،
وهي تدابير قررت أصال لموجهة حاالت امتناع المسؤولية أو مواجهة الخطورة اإلجرامية ،وهدفها األساسي العالج والتهذيب
بعيدا عن اإليالم وفكرة العقاب والردع ،على عكس العقوبة الصورة األولى واألساسية من صور الجزاء الجنائي.
] - [3وإن كانت مسألة نفي المسؤولية المدنية في مجال أسباب اإلباحة قد أثارت جدال فقهيا بين مؤيد ومعارض ،إال أن
الرأي الغالب الذي استقر تشريعيا ،هو نفي المسؤولية المدنية في حال توفر سبب من أسباب اإلباحة ،إذ ال يمكن أن نطالب
][107
شخص دافع عن نفسه أو عن غيره من أفعال تعد جرائم أن يعوض هؤالء المعتدين المجرمين ،وال أن يلزم شخص بالتعويض عن
فعل أتاه ،قد يكون القانون قد أذن به كما قد يكون أمر به ،وأن القول بغير ذلك يعطل الهدف من تقرير أسباب اإلباحة.
] - [4و األمر بديهي ،إذ ما دام يمكن توقيع التدابير االحترازية على الشخص الذي امتنعت مسؤوليته ،وهي تدابير
تنطوي بطريق غير مباشر على إقرار نوع من المسؤولية الجنائية – بنوع من التحفظ-على الجاني ،فبديهي أن يلزم بتحمل
المسؤولية المدنية ،كونها تقوم على فكرة الخطأ المسبب لألضرار تطبيقا للقواعد العامة في المسؤولية المدنية.
] - [5كما تختلف موانع العقاب عن موانع المسؤولية ،فإن كانا يتشابهان في كونهما من الظروف الشخصية اللصيقة
بالشخص ،إال أن موانع المسؤولية تحول دون قيام المسؤولية مع إمكانية توقيع التدابير االحترازية ،غير أن موانع العقاب وإن
كانت مسؤولية الشخص قائمة بخصوص ارتكابه الجريمة إال انه ال يوقع عليه أي نوع من أنواع العقاب .مع أنه قد يسأل مدنيا
مثل السرقات التي تقع بين األزواج أو األصول والفروع.
ومن أمثلة موانع العقاب في تقنين العقوبات الجزائري ،نذكر........................ :
] -- [6سماعها البعض موانع المحاكمة ،في حين أن المحاكمة في الدعوى العمومية من آخر المراحل ،لذا نفضل
تسميتها بالموانع اإلجرائية على اعتبار أن هذا االصطالح يشمل حتى االصطالح األول ،كون المحاكمة مجموعة إجراءات.
] - [7المواد من 161حتى 169من تقنين العقوبات الجزائري المعنونة ب ":جنايات وجنح متعهدي تموين الجيش"
التي تشترط لتحريك الدعوى العمومية تقديم شكوى من زير الدفاع الوطني.
] - [8ي عني الجهل باإلباحة أن يرتكب شخص جريمة وقد توافر في حقه سبب من أسباب اإلباحة ،لكنه كان يجهل ذلك،
وبالتالي هي جريمة ال تقوم إال في ذهن صاحبها وبالتالي يستفيد من السبب ،خاصة في ظل الطبيعة الموضوعية لهذه األسباب
بينما الغلط فهو الصورة المقابلة للجهل ،فيقع الفاعل في غلط بشأن أحد عناصر اإلباحة على نحو يجعله يعتقد بسبب اإلباحة في
حين أنه في الواقع السبب غير متوفر ،كالدفاع الشرعي من شخص ضد خطر وهمي فيرتكب جريمة قتل ظنا منه أن خطر يتهدده
من هذا الشخص في حين األخير لم يكن في الواقع يشكل أي خطر عليه ،وهو ما ينفي اإلباحة أصال ما عدا ما
تضمنه المشرع المصري من فكرة األسباب المعقولة.
] - [9وإن كانت لنا بعض التحفظات بخصوص هذه المسألة ،سنعود إليها الحقا.
] - [10ن شير إلى ثالث قرارات قضائية صادرة عن المحكمة العليا بخصوص أسباب اإلباحة ،لكن فيما يتعلق فقط
بالدفاع الشرعي ،فهناك قرار في 1996-03-24 :في الملف رقم ": 120960 :يشترط لتطبيق الدفاع المشروع توافر شرطين
أساسيين يتعين على قضاة المجلس إبرازهما في قرارهم وهما -:أن يكون االعتداء حاال وغير مشروع -،أن يكون الدفاع الزما
ومتناسبا مع جسامة االعتداء ".وتكون لنا عودة لتفصيل الشرطين ،وهناك قرار ثاني في 1996-07-14 :في الملف رقم:
": 132860إن الدفاع المشروع مسألة موضوعية يرجع تقديرها لقضاة الموضوع الذين يتعين عليهم في حالة إثارته الرد عليه
بقبوله أو برفضه ".والثالث في 2003-04-29 :الملف ": 306921إن توافر شروط الدفاع المشروع ينفي عن طابعها
اإلجرامي ،ومن ثم تمحى الجريمة من األساس ،".وهو ما يتعلق بطبيعة أسباب اإلباحة.
] - [11وهو أن يكون الفعل جريمة ،لكن يأمر القانون في بعض األحوال وفي ظروف معينة ،من بعض األشخاص
إتيانه ،ففي هذه الظروف إذا ما أتى الفعل هؤالء األشخاص كان الفعل مباحا ،بالرغم من انه يعد جريمة في غير هذه الحاالت ،أو
إذا قام به غير هؤالء األشخاص .وعلة إباحة هذه األفعال التي تؤتى في هذه الظروف من قبل هؤالء األشخاص هي تحقيق
الصالح العام ،وذلك باالستناد لسببين ،أحدهما موضوعي وهو أن األعمال التي تؤتى في هذه الظروف أهم من الحماية المقررة
لهذه الحقوق في األحوال العادية ،إذ الحقوق التي يأتيها هؤالء عامة لكنها في الوضع العادي حقوقا خاصة ،كما أنه ال يعقل أن
يكون الفعل الواحد معاقبا عليه ومباحا في ذات الوقت ،والسبب الثاني شخصي هو أن يكون اقتراف الفعل بحسن نية وتنفيذا لما
أمر بـــه القانون
] - [12ب اعتبار أداء الواجب أو أوامر القانون واجبات وظيفية فمصدرها دوما نص في القانون ،وأن القانون المصدر
العام لكل الواجبات ،غير أن الواجبات المهنية تستمد في قسم منها من نص القانون مباشرة ،وفي قسم منها من أوامر الرؤساء،
ومن حيث الحكم القسمان سواء في نظر القانون ،ففي كال الحالتين يعد أداء ما أمر به القانون أو أداء الواجب سبب من أسباب
اإلباحة
] - [13وهو قسم سماه المشرع الجزائري باالعتداء على الحريات ،ونظمه ضمن المواد من 107إلى ،11وقد نصت
هذه المواد ،تباعا على ما يلي :المادة ":107يعاقب الموظف بالسجن المؤقت من خمس إلى عشر سنوات إذا أمر بعمل
تحكمي أو ماس سواء بالحرية الشخصية للفرد أو بالحقوق الوطنية لمواطن أو أكثر ،".وهي المادة التي بينت مصدر األمر غير
][108
المشروع أي الرئيس ،فيس حين لم تبين مسؤولية المرؤوس ،مما يعني عدم مسائلته ،سيما في حالة حسن نيته واعتقاده بمشروعية
األمر الصادر إليه.
في حين نصت المادة المادة ": 108مرتكب الجنايات المنصوص عليها في المادة 107مسؤول شخصيا
مسؤولية مدنية وكذلك الدولة على أن يكون لها حق الرجوع على الفاعل ،".وهنا يعوض الشخص المضرور شخصيا أو تعوضه
الدولة وترجع على الرئيس الذي أصدر األمر غير المشروع.
المادة ":109الموظفون ورجال القوة العمومية ومندوبو السلطة العمومية والمكلفون بالشرطة اإلدارية أو الضبط
القضائي الذين يرفضون أو يهملون االستجابة إلى طلب يرمي إلى ضبط واقعة حجز غير قانوني وتحكمي إما في المؤسسات أو
في األماكن المخصصة لحجز المقبوض عليهم أو في أي مكان آخر وال يثبتون أنهم أطلعوا السلطة الرئاسية عن ذلك يعاقبون
بالسجن المؤقت من خمس إلى عشر سنوات".
المادة (110المادة 60من القانون رقم 23-06المؤرخ في ":)2006-12-20 :كل عون في مؤسسة إعادة التربية أو
في مكان مخصص لحراسة المقبوض عليهم يتسلم مسجونا دون أن يكون مصحوبا بأوامر حبس قانونية أو يرفض تقديم هذا
المسجون إلى السلطات أو األشخاص المخول لهم زيارته بدون أن يثبت وجود منع من القاضي المحقق أو يرفض تقديم سجالته
إلى هؤالء األشخاص المختصين ،يكون قد ارتكب جريمة الحجز التحكمي ويعاقب بالحبس مدة من ستة أشهر إلى سنتين
وبغرامة من 20.000دج إلى 100.000دج".
المادة 110مكرر ( المادة 60من القانون رقم 23-06المؤرخ في ":)2006-12-20 :كل ضابط بالشرطة القضائية
الذي يمتنع عن تقديم السجل الخاص المنصوص عليه في المادة 52الفقرة 3من قانون اإلجراءات الجزائية إلى األشخاص
المختصين بإجراء الرقابة وهو سجل خاص يجب أن يتضمن أسماء الذين هم تحت الحراسة القضائية يكون قد ارتكب الجنحة
المشار إليها في المادة 110ويعاقب بنفس العقوبة .
وكل ضابط بالشرطة القضائية الذي يتعرض رغم األوامر الصادرة طبقا للمادة 51من قانون اإلجراءات
الجزائية من وكيل الجمهورية إلجراء الفحص الطبي لشخص هو تحت الحراسة القضائية الواقعة تحت سلطته ،يعاقب بالحبس من
شهر إلى ثالثة أشهر وبغرامة من 20.000دج إلى 100.000دج أو بإحدى هاتين العقوبتين".
المادة ": 111يعاقب بالحبس لمدة ستة أشهر إلى ثالث سنوات كل قاض أو ضابط بالشرطة القضائية يجري متابعات
أو يصدر أمرا أو حكما أو يوقع عليهما ،أو يصدر أمرا قضائيا ضد شخص متمتع بالحصانة القضائية في غير حاالت التلبس
بالجريمة دون أن يحصل قبل ذلك على رفع الحصانة عنه وفقا لألوضاع القانونية".
] - [14ويعبر الفقه عن هذا الشرط بثبوت الحق ،إن استعمال حق من الحقوق يفترض وجود هذا الحق أوال ،فإن لم يكن
هناك حق فال مجال للكالم عن اإلباحة ،وال أن يكون قد انقضى بالتقادم ،كون انقضاء الحق يعني انقطاع وجوده ،كما أن النزاع
حول الحق ال يحول دون استعماله ما لم يشكل ذلك جريمة.
] - [15أل ن الرئيس في هذه الحالة يكون قد أساء استعمال السلطة وهي وسيلة من الوسائل المادية التي يقوم بها
التحريض وفقا للمادة 41من تقنين العقوبات الجزائري.
] - [16ويعبر الفقه عن هذا الشرط بالتزام حدود الحق ،حيث أن القانون ال يعرف حقوق بدون حدود ،فالحق يجب أن
يمارسه صاحبه ملتزما بحدود هذا الحق ،وكل تجاوز لهذه الحدود يعد خروجا عن ممارسة الحق والدخول في دائرة المحظور،
ويصير كمن ال حق له ،والقانون هو الذي يرسم لكل حق حدوده ،وهي الحدود التي قد تتعين صراحة كما قد تتحدد ضمنيا ،وذلك
ب الرجوع إلى فروع القانون األخرى أو باستلهام الغاية أو الوظيفة االجتماعية للحق ،كما أن حدود الحق متنوعة ،والتي تختلف
باختالف الحقوق ،وهناك من الحقوق ما يمكن إنابتها مثل الحقوق المالية ،ومنها مما ال يمكن فيها ذلك ،مثل حق الزوج على
زوجته ،كونها من الحقوق الذاتية التي ال تجوز اإلنابة فيها ،وحق إجراء العمليات الجراحية إذ ال يمكن للطبيب إنابته للمرض ،
وإال كان الطبيب شريكا في جريمة والممرض فاعال أصليا ،كما أنه من الحقوق ما تعين وسائل استعمالها مما يعني حظر استعمال
وسائل أخرى من صاحب الحق ،فالطبيب يجب أن يستعمل وسائل مما يتعارف عليها في عرف المهنة ،كما قد تتدرج هذه
الوسائل ،فال يجوز اللجوء إلى وسيلة إال بعد استنفاذ الوسيلة األخرى ،مثل تأديب الزوج لزوجته ،إذ الوعظ فالهجر في المضجع
فالضرب.
وزيادة على ذلكن يجب أن يكون استعمال الحق مشروعا ،حيث ال يهدف صاحبه من خالله التعسف في
استعمال هذا الحق ،وهنا ثارت مسألة البحث حول استعمال الوسائل الميكانيكية لحماية األموال ،كنصب الفخاخ للصوص أو
وضع الزجاج المكسور على جدران الحديقة ،والجدل لم يثر بخصوص الشخص الذي يعتدي ،بل بالنسبة للغير الذي لم يعتدي
وأصابته هذه الوسائل بأضرار ،فهنا تقوم جريمة غير عمدية ال يحول دون قيام المسؤولية عنها القول أن الشخص في ملكيته كون
][109
الشخص مسئول عن عدم اإلضرار بالغير أو التعسف وهو يمارس حقوقه ،وأنه ال يجوز له إحداث أضرار كبيرة مقارنة بالحقوق
التي يراد حمايتها
]- [17ويرى البعض أيضا أن تكون الجريمة الزمة لممارسة التأديب ،إذ إذا كان بإمكان المؤدب اللجوء ألفعال ال تشكل
جريمة فال مجال الرتكاب فعل غير مشروع ،وهناك أحكام في القضاء المصري حديثة نسبيا بعضها يعود لسنة 1993بخصوص
تأديب الصغار أن األمر موكول لألب لتقدير ما يرى اتخاذه من إجراءات لتربية الصغير وإسكانه في المحل الذي يريد إسكانه
فيه ،فإذا كانت المراقبة والحراسة تصلحان إللزامه المسكن المخصص له كان حتما عليه أال يزيد عن هذه اإلجراءات ،فإن
وجدهما غير كافيين لجأ إلى إجراء أشد ،كإقفال األبواب ،فإن لم يستطع منع الصغير من الهرب ووجد األب نفسه مخيرا بين أن
يقعد عن مواصلة كسب عيشه أو حراسة الصغير ،كان له بال شك أن يلجأ على اإلجراء الذي أعده المتهم وهو وضع قيد حديدي
في قدمي ابنته ،على أال يكون فيه تعذيب أو منع للحركة أو إليالم للبدن ،فإن تجاوز هذه الحدود كان عمله جريمة معاقبا عليها.
] - [18نرى في الجزائر صعوبة للتمسك به ،وإن كان ليس هناك نص يمنعه ،إال أنه من الصعب إثبات شروطه ،مما
يجعل األزواج دوما تحت طائلة القانون في حال ضرب الزوجة.
] - [19ويرى البعض اللجوء إلى تأديب الزوجة يشترط فيه التزام المراحل التي أوجبتها الشريعة اإلسالمية ،وذلك قبل
اللجوء إلى التأديب البدني ،الذي يجب أن يكون يسيرا وال يمكن بأي حال من األحوال تبرير الضرب الجسيم أو المهين – حتى
بالنسبة لتأديب األب لالبن -وأن يكون الضرب بأقل قدر يحقق العلة من وراءه.
] - [20حسن النية دوما تعني االلتزام بالغاية من وراء إقرار الحق ،وكل تجاوز لهه الغاية يعد سوء نية ،وفي حق
التأديب عموما ،سواء بالنسبة لالبن أو الزوجة ،يقتضي لكي يبيح الجرائم المتمخضة عن ممارسته ،أن يكون الزما ،ومتناسبا في
مداه أو جسامته مع العلة من تقريره ،وأن تتم مباشرته بحسن نية بما يحقق الغاية منه ،ويضيف البعض لذلك ،التقيد بالوسيلة
المحققة لمعنى التأديب وغايته ،فال يكون بغير اليد ،وأال يتواصل ويستمر في المدى ،وأال يكون في مواضع الجسم التي تنذر
بالخطر ،أو تنطوي على المهانة.
] - [21حيث قد يستخلص رضاء المريض ضمنا بحكم الواقع في حاالت األعمال الطبية العادية والعميالت الشائعة
والمألوفة ،غير أنه ال يكفي استخالص الرضاء ضمنيا إذا تعلق األمر بعمل طبي غير مألوف أو عملية جراحية حديثة ال يمكن
القطع بنجاحها ،ففي مثل هذه الحاالت يجب أن يكون الرضاء صريحا .غير أنه في ظل الظروف غير العادية مثل انتشار األوبئة
واألخطار العامة يستثنى رضاء المريض ،فتدخل الطبيب في مثل هذه الحاالت ال يعد استعماال لحق في التطبيب وإنما أداء لواجب
تفرضه قاعدة قانونية ،ومثل هذا الوضع يستند لحالة الضرورة حسب البعض.
] - [22تبيح بعض القوانين جرائم القذف والسب إذا صدر صحفيا بمناسبة نشر أخبار تطبيقا لحرية الرأي والفكر ،متى
كان بحسن نية وال يقصد به اإلساءة ضد األشخاص العموميين أو ذوي الصفة النيابية العامة أو المكلفين بخدمة عامة ،وأن يكون
الموضوع متعلقا بأعمال وظائفهم.
] - [23ب الرغم من أن أساس الدفاع الشرعي أثار العديد من الجدل الفقهي الذي ارتأينا أال نقحمه في هذا المجال ،إال أننا
نرى شخصيا أن الدفاع الشرعي حق للشخص أن يمارسه وله أال يمارسه وفي هذه الحالة األخيرة ال يسأل عن ذلك ،ما عدا حالة
االمتناع عن الدفاع عن الغير إذا توفرت فيها شروط جريمة عدم تقديم المساعدة لشخص في حالة خطر.
] - [24ويرى البعض أن الدفاع الشرعي عرفته الشرائع القديمة ،باعتباره من مبادئ القانون الطبيعي ،حيث عرفته
اليونان القديمة والقانون الروماني وحتى الشرائع األوروبية في القرون الوسطى.
] - [25ويرى البعض أن الدفاع الشرعي ليس فكرة قانون فطرة اعترف به المشرع وأقره ،وهو ردع لمن بادر
بالعدوان ،ونصرة لمن اضطره العدوان أن يدافع عن النفس أو المال ،فهو رفض لجريمة العدوان واعتراف بجريمة الدفاع.
] - [26م ن المفروض أن نسمي الخطر ب ":الجريمة" كوننا بصدد فعل غير مشروع معاقب عليه جنائيا ،غير أن ما
يدفع الفقه للتعبير عن هذه الجريمة بلفظ " الخطر" في رأينا ،هو أن الجريمة وصف يطلق على فعل تعدى محلة البدء في التنفيذ،
غير أنه يجوز في حالة الدفاع الشرعي أن يشرع في الدفع قبل هذه المرحلة .أو ألن الشرط الثاني يدل بما ال يدع مجاال للشك
على أنه جريمة فعال.
وحلول الخطر ،هو أن يكون العدوان حاال أو على وشك الوقوع ،أي العدوان الحال وهو في العادة أن يكون على وشك
الوقوع وعادة ما يكون بموجب البدء بالتنفيذ ،أي في طور جريمة الشروع الناقص ،ولم يكتمل كون تمام الجريمة ينقلنا لفكرة
االنتقام ،واالنتقام فكرة مجرمة قانونا وتوجب العقاب ،فالدفاع الشرعي قرر فقط لدرء العدوان الذي يكون على وشك الوقوع أو
الحيلولة دون استمراره وتفاقم آثاره ،وأحكام القضاء األجنبي حافلة برفضها الدفاع الشرعي في حاالت القصاص ،وفي حاالت
تمكن فيها المدافع من نزع السالح من خصمه ،لكنه طعنه به ،وال دفاع بعد تمام إشعال النار في البنزين الذي وضعه الشخص
وراء المنزل وال بعد تمام جريمة السرقة وفرار الجاني ،على نحو ال يتمكن من خالله المدافع من تتبع الجاني واإلمساك به ،لكن
][110
إن كان بإمكانه انتزاع الشيء المسروق منه ولم يفلت بعد من دائرة إشراف المدافع ورقابته وبقي في وسعه
تتبعه ومالحقته فإن حق الدفاع الشرعي يظل قائما إذ يحق له انتزاع المسروقات منه ولو بطريق العنف
] - [27ث ار خالف حول جواز الدفاع الشرعي ضد جرائم السب والقذف ،هناك من أنكره ،بحجة افتقاد هذه الجرائم للقوة
والعنف الماديين ،وبالتالي ال يجوز استعمال الدفاع الشرعي لدرئهما ،وأن الدفاع يكون دوما بعد تمامها مما يجعل من الدفاع
الشرعي انتقاما ال دفاعا ،خاصة وأن هذه الجرائم ال يستعمل فيها القوة المادية حتى يمكن أن ترد بالقوة المادية ،وأجمع الجمهور
على جوازه ،بحجة أن المسائل السابقة غير مشترطة في الدفاع الشرعي ،وأنه يمكن التدخل بالدفاع لمنع
مواصلة السب أو القذف أو االسترسال فيهما ،وبالتالي ال يختلف السب والقذف عن غيره من أفعال االعتداء
] - [28يرى البعض أنه ال يجوز بالتالي الدفاع ضد النوايا مهما كانت شريرة ،وال من أفصح عن نواياه ويستبعد أيضا
كافة أعمال التحرش واألعمال التحضيرية التي ال ترقى على مرتبة الجريمة ،في حين يرى البعض جواز الدفاع ضد األعمال
التحضيرية ،وهو ما نؤيده كونها أفعال مباحة قانونا ،والدفاع الشرعي مقرر لرد األفعال المجرمة.
] - [29وفي هذا الشأن قضي في مصر في حكم سنة 1930أنه إذا دخل شخص في منتصف الليل منزل شخص آخر،
وذلك باستعمال التسلق وكان حامال سالحا ثم بقي في المنزل مختفيا عن األعين عن من لهم الحق في إخراجه ،فإن صاحب
المنزل يكون في موقف يبيح له الدفاع الشرعي عن نفسه وعن ماله ،فإذا هو استعمل هذا الحق ال يجوز لمن دخل المنزل إذا أراد
االعتداء على صاحب المنزل أن يحتج بأنه كان يدافع عن نفسه.
]- [30وفي ذلك قضت محكمة النقض المصرية بأنه وإن كان القانون قد نص على أنه ال وجود لحق الدفاع الشرعي
متى كان في اإلمكان الركون إلى االحتماء برجال السلطة ،إال أن ذلك يقتضي أن يكون هناك لدى المتهم من الوقت ما يكفي
التخاذ هذا اإلجراء ،وإال تعطل الحق المقرر في القانون في جميع أحوال الدفاع الشرعي عن المال ما دامت هذه األحوال يتصور
فيها كلها إمكان ترك المعتدي يتمادى في عدوانه واالستعانة برجال الحكومة عليه بعد أن يكون قد أتم مقصده.
] - [31ويرى البعض في التناسب أن تكون أفعال الدفاع متناسبة في مداها ونطاقها مع العدوان ،فال يجب الدفاع بأكثر
مما يقتضيه رد العدوان ،ولكن من الصعب وضع معيار نظري إلعمال شرط التناسب ،إذ هي مسألة يجب أن يتم تقديرها وفقا
لظروف ومالبسات كل حالة على حدة ،ومن هذه الظروف والمالبسات شخص كل من المعتدي والمدافع ،وقوة كل منهما ،وما
كان يحمله من أدوات وسالح ،وسن كل منهما وجنسه ،وزمان العدوان ومكانه.
] - [32لذا يرى البعض أن معيار التناسب معيار شخصي وموضوعي في نفس الوقت.
]- [33و في ذلك قضت محكمة النقض المصرية ،أن يكون تقدير المتهم لفعل االعتداء الذي استجوب دفاعه مبنيا على
أسباب جائزة ومقبولة ومن شأنها أن تبرر ما وقع منه من أفعال ،فإذا جاء تقدير المحكمة مخالفا لتقديره هو فإن ذلك ال يسوغ
توقيع العقاب ،إذ التقدير هنا ال يتصور أبدا إال أن يكون اعتباريا بالنسبة للشخص الذي فوجئ بفعل االعتداء في ظروفه الحرجة
ومالبساته الدقيقة التي كان هو وحده دون غيره المحيط بها المطلوب منه تقديرها والتفكير على الفور في كيفية الخروج من
مأزقها ،مما ال يصح معه محاسبته على مقتضى التفكير الهادئ المطمئن الذي كان يستحيل عليه وقتئذ وهو في حالته التي
كان فيها.
الفرع الثالث
][111
الحاالت الممتازة للدفاع الشرعي
( المادة 40ق ع ج)
وهي حاالت منقولة حرفيا من نص المادة 329قانون عقوبات فرنسي ،ويسمها الفقه الحاالت الممتازة
للدفاع الشرعي أو الدفاع الشرعي الممتاز ،داللة على افتراض المشرع فيها توافر شروط الدفاع الشرعي كقرينة
قانونية قاطعة ال تقبل إثبات العكس ،غير أنه من الفقه من يرى العكس ،وهو أيضا موقف القضاء الفرنسي] ،[1وبالتالي
نرى أنه ال مجال اليوم لتسميتها بالحاالت الممتازة للدفاع الشرعي ،وإنما الحاالت الخاصة للدفاع المشروع .وقد نصت
المادة 40من قانون العقوبات الجزائري على هذه الحاالت بنصها ":يدخل ضمن حاالت الضرورة الحالة للدفاع
المشروع:
-1القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب لدفع اعتداء على حياة الشخص أو سالمة جسمه أو لمنع
تسلق الحواجز أو الحيطان أو مداخل المنازل أو األماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها أثناء الليل،
-2الفعل الذي يرتكب للدفاع عن النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أو النهب بالقوة.[2]".
ونالحظ على المشرع الجزائري أنه استعمل لفظ " تدخل ضمن حاالت الضرورة للدفاع الشرعي "
بمعنى افتراضه لشرط اللزوم كوننا فسرنا عبارة الضرورة الواردة بنص المادة 39على أنها تقصد اللزوم ،لذا فهنا
أيضا باستعمال نفس العبارة يعني أن المشرع افترض دخولها في حاالت اللزوم .ثم أن المادة ذاتها تميز بين فرضين،
فرض ورد فيه نوع الجرائم ونوع االعتداء الذي يوجبها ،وهو ما ورد بالفقرة األولى من المادة ،40حيث أجاز أقصى
الجرائم جسامة ،وهي القتل والجرح والضرب] ،[3وحصر االعتداءات في االعتداءات ضد الحياة أي ضد جرائم القتل،
وسالمة الجسم ،ويعني الضرب والجرح ،أو مجرد تسلق الحواجز والحيطان ومداخل المنازل أو األماكن المسكونة أو
توابعها أو كسر شيء منها] .[4بشرط أن يكون كل ذلك أثناء الليل] .[5كما يمكن أن ننبه أن الشخص يمكنه أيضا دفع
التسلق والكسر لمالحق المنازل ومداخلها وأسوارها وحيطانها ،إذا كانت متركبة إثناء النهار ،لكن في هذه الحالة ال
يكون الدفاع شرعيا ومشكال لسبب من أسباب أإلباحة ،بل يكون مشكال لعذر معفي من العقاب ،وهو عذر شخصي ال
موضوعي ،وهو األمر الذي قضت به المادة 278من تقنين العقوبات الجزائري] ،[6بينما بينت الفقرة الثانية ،وبصيغة
عامة إباحة كل فعل أي كان نوعه الذي يرتكب لدفع االعتداءات على النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أو
النهب بالقوة ،وهنا لم يشترط التناسب .كما أنه لم يشترط الليل ،فيمكن أن يكون ذلك أثناء النهار ،مما يجعل هذه الفقرة
تتشابه في حكمها مع الحكم العام الذي جاءت به الفقرة الثانية من المادة ،39وكل ما في األمر أنه في هذه األخيرة
حددت االعتداءات بصيغة عامة وهي الجرائم الواقعة على النفس أو على الغير أو مال الشخص أو المال الغير ،والفقرة
الثانية من المادة 40تتعلق فقط بالسرقات والنهب بالقوة.
وإن كانت األسباب السابقة ،هي أسباب اإلباحة التي يأخذ بها المشرع الجزائري ،وغالبية القوانين
الجنائية المقارنة ،فهناك أسباب أخرى تأخذ بها بعض الدول دون البعض اآلخر ،وهي رضاء المجني عليه وحالة
الضرو رة ،وسبق لنا القول في تمهيد هذا الفصل أن قلنا بأننا سنتناولها في مبحث مستقل ،وذلك لتعميم الفائدة ،فقد يأتي
تعديل ويدخلها في القانون الجزائري ،كما قد يجد رجل القانون الجزائري نفسه ملزما للتعامل معها في حاالت تنازع
القوانين ،وبخصوص الطلبة األعزاء قد تكون موضوع امتحان أو مسابقة -وحدث فعال أن كانت حالة الضرورة
موضوع مسابقة ماجستير بجامعة البليدة منذ سنتين -لذا وإن التمسنا العذر في اإلطالة غير المعتادة في إعداد
المحاضرات المطبوعة ،فإن لهذا العذر مبرراته التي تفوق في مصلحتها كل االنتقادات ،وهي تعميم الفائدة العلمية
للطلبة .وهنا فقط يمكن االستعانة بالبيت الشعري المتعلق بالمذمة التي تأتي من جاهل" ."..........
المبحث الثالث
أسباب اإلباحة في القانون المقارن
][112
من أسباب اإلباحة أيضا ،رضاء المجني عليه ،وحالة الضرورة التي تأخذ بها بعض القوانين دون البعض
اآلخر ،ومنه القانون الجزائري الذي ال يأخذ بها ،لذا ارتأينا تناولها في مبحث مستقل ،نتناوله من خالل مطلبين،
نخصص األول لحالة رضاء المجني عليه كسبب من أسباب اإلباحة ،لنخصص الثاني لحالة الضرورة.
المطلب األول
رضاء المجني عليه ( صاحب الحق) كسبب من أسباب اإلباحة
في حقيقة األمر المشرع لما يجرم فعل من األفعال ،فإنه يكون قد قدر أن يضر بمصلحة من المصالح،
وفي الكثير من األحيان يتحقق المساس بمصالح المجتمع بالمساس بمصلحة الفرد ،ولذا األصل أنه ال شأن إلرادة الفرد
في تجريم الفعل أو إباحته ،لذا فاعتراض الشخص على الجريمة ال يعد ركنا في الجريمة ،كما أن رضاءه بها ال يعد
سببا إلباحتها ،غير أن إرادة الفرد أو رضاءه قد يؤدي في بعض األحوال دورا في مجال قانون العقوبات ،وهو الدور
الذي قد يكون من شأنه التأثير في قيام الجريمة أو في إباحتها ،وهو استثناء عن األصل ،وفي حدود هذا االستثناء
ينحصر اثر الرضا كسبب من أسباب اإلباحة.
ل كن قد يبدو من الوهلة األولى أنه متى رضي المجني عليه بارتكاب الجريمة التي تنال حق من حقوقه
أو مصالحه ،فإن هذا الرضا يبيح الجريمة ،لكن هذا القول غير صحيح كون أسباب اإلباحة تقتضي سبق تجريم الفعل
بنص من نصوص قانون العقوبات ،ثم وجود نص آخر يبيح الفعل في الظروف التي ارتكب فيها ،واألمر ليس كذلك مع
رضاء المجني عليه ،حيث يمنع من قيام الجريمة ابتداء ،كدخول الشخص منزل آخر برضائه ،لذا كان يجب تمحيص
الحق المعتدى عله بدقة للقول ما إن كان رضاء المجني عليه يبيحها أم ال ،كون رضاء المجني عليه يختلف حكمه
باختالف طبيعة الحق المعتدى عليه .وال يمكن بأي حال من األحوال بالقول بهذا السبب في مجال الجرائم التي يعتدى
فيها على الدولة كشخص معنوي ،وال على المجتمع كمؤسسة اجتماعية ،كما ال رضاء كسبب لإلباحة في الجرائم التي
تمس باألسرة كنظام ،وما القيود الموجودة على بعض الجرائم األسرية سوى قيود إجرائية تحول دون تحريك الدعوى
العمومية وال تبيح الفعل في حقيقة األمر ،بل وان الزوج إذا رضي بزنا زوجته ليس هناك ما يمنعه من تقديم الشكوى
فيما بعد .وبالتالي البحث ينحصر فقط في الجرائم التي تمس حق الفرد ،وحق الفرد بدوره قد يكون حقا مزدوجا ،يمس
المجتمع والفرد معا ،ومثاله حق الحياة ،وسالمة البدن ،وهنا يجب أن يرجح حق المجتمع وال يعتد بالرضا الفرد ،فمن
يطلب من غيره قتله لتخليصه من آالمه التي سببها له مرض خطير أصابه وال يرجى شفاءه ال يعد رضاؤه سببا إلباحة
القتل] .[7لذا فإن بحث مسألة رضاء المجني عليه كسبب من أسباب اإلباحة ،تقتضي منا أوال ،أن نتناول دور الرضاء
في قانون العقوبات ،وتحديد طبيعته القانونية بخصوص التجريم والعقاب ،وذلك في فرع أول ،لنتناول في الثاني،
الجرائم التي يعمل برضاء الشخص فيها في أهم القوانين المقارنة.
الفرع األول
دور الرضا وتحديد طبيعته القانوني في قانون العقوبات
الرضاء في مجال قانون العقوبات غير الرضاء في مجال التقنين المدني ،لذا فالبضرورة أن تختلف
طبيعته القانونية في القانون األول ،وبناء على ذلك يظهر دوره في مجال أسباب اإلباحة.
أوال :دور الرضا في قانون العقوبات
في بعض األحوال الضيقة ،يشترط المشرع لقيام الجريمة أن يقف المجني عليه منها موقف الرفض ،أي
أن ترتكب بدون رضاه ،وفي مثل هذه األحوال الضيقة يكون عدم الرضا عنصرا لقيام الجريمة ذاتها ،وذلك يوجب نص
يقرر المسألة كونها استثناء عن األصل العام ،بمقتضى الحاجة إلى المانع ال تطرأ إال إذا وجد المقتضى بتمامه ،وهنا
يكون الرضا يتمم الجريمة ،وأهم الجرائم التي يشترط لقيامها عدم رضا الشخص ،وقاع األنثى بدون رضاها ( 267
تقنين عقوبات مصري) ،هتك العرض بالقوة أو بالتهديد ( م 268قانون عقوبات مصري) ،القبض والحجز والحبس
دون وجه حق ( 280قانون عقوبات مصري) ،خطف اإلناث ( المادة 290قانون عقوبات مصري) وكذا النصب
وانتهاك حرمة منزل ..لذا ففي بعض األحوال يكون الفعل مستجمعا للشروط التي تجعل منه جريمة ،فيتدخل رضاء
المجني عليه فيجعله مباحا ،مثل عمليات اإلتالف ،العمليات الجراحية ،وإن كان ليس هناك نص صريح يبيح الجريمة
برضا المجني عليه ،غير أن األصول القانونية توجب التسليم بهذه الحقيقة ،فمن غير المنطقي إذا أباح القانون في فرع
][113
من فروعه حق التصرف في حق معين ،أن يمنع قانون العقوبات هذا التصرف ،ألن ذلك يعطل حرية التصرف ،خاصة
وأن القانون يعاقب على العدوان وفي مثل هذه الحالة يغيب عنصر االعتداء ألن الرضا موجود] .[8لكن ذلك ال يعني
أنه سبب لإلباحة ،بل الجريمة ال تقوم لتخلف أحد عناصرها القانونية ،األمر الذي يقودنا بحث طبيعة الرضاء القانونية.
ثانيا :الطبيعة القانونية للرضا
يذهب الفقه إلى اعتبار الرضا تصرف قانوني تحكمه قواعد القانون الخاص ،بينما يعتبره البعض
تصرف قانوني تحكمه قواعد القانون العام ،في حين يرى اتجاه ثالث أنه واقعة قانونية ال تصرف قانوني ،في حين يرى
البعض أنه تصرف قانوني يخضع أساسا لقانون الحق ،لذا فهو يخضع تارة ألحكام القانون الخاص ،وتارة أخرى
ألحكام القانون العام ،ويرجع إلى قانون العقوبات في حالتين ،حينما ينص هذا القانون صراحة على حكم خاص بشأن
الرضا ،وهنا يطبق النص الجنائي مباشرة ،والثانية حينما يخلو القانون الخاص من حكم ينظم الرضا في بعض جزئياته،
وهنا يستنبط الحكم من المبادئ العامة لقانون العقوبات ،وهو ما يتعلق بالسن مثال ،ففي الحالة التي يحدد فيها قانون
العقوبات السن المشترطة يعمل بأحكامه ،لكن إذا تضمنها النص الخاص المتعلق بالرضا فيحكمه السن القانوني التي
نظمها هذا النص ،ورغم الخالف السابق ،فإنه يمكن القول بأن الرضاء في قانون العقوبات ،عنصر من عناصر قيام
الجريمة ،حيث أن اشتراط الجريمة للقوة أو العنف أو الخلسة أو دون الرضا ،يعني بداهة في حال توفر الرضا تنتفي
هذه العناصر وبالتالي ال تقوم الجريمة ،مما يجعلنا نقول وبنوع من التحفظ ،أنه حتى في القانونين التي ال تنص صراحة
على الرضاء كسبب من أسباب اإلباحة ،فهو ضمنيا سبب أو عنصر يمنع من قيام الجريمة متى تمت اإلشارة إليه ،لكن
في هذه الحالة الفعل يباح ال ألنه ارتبط بسبب من أسباب اإلباحة ،وإنما لتخلف عنصر من عناصر الجريمة.
الفرع الثاني
الجرائم التي ينتج فيها الرضا أثره المبيح
ه ي مسألة من أدق المسائل الجنائية ،واتفق الرأي على أن الرضا ال ينتج أثره بالنسبة لكافة الجرائم،
وإنما يقتصر أثره على طائفة محدودة منها ،وهو ما نتناوله في نقطة ،لنتناول في الثانية شروط الرضا المبيح للفعل.
لنتناول في الثالثة حقيقة الرضا كفعل مبيح للجريمة.
أوال :الجرائم التي يعتد بالرضاء فيها
وهي الجرائم التي يكون فيها العدوان منصبا على حق يقبل التصرف فيه ،مما يعني أن اثر الرضا يتوقف على
طبيعة الحق ،وهي الحقوق التي ال تكون فيها منفعة مباشرة للمجتمع وإنما حقوق تقرها الدولة وتحميها لصالح صاحبها،
بقصد تمكينه من االنتفاع بها ،غير أن المسألة تحتاج إلى تبيان معيار يعمل في الحياة الواقعية ،لذا كان االتفاق أنه ال أثر
للرضا في الجرائم التي تقع مباشرة على حق من الحقوق الخالصة للمجتمع ،كالصحة العامة واألخالق العامة أو الجرائم
الماسة بالدين ،وال أثر للرضا في الجرائم التي تقع على الدولة ،وال تلك الواقعة على األسرة ،لتبقى باقي الجرائم
األخرى التي يتعين فيها البحث عن طبيعة الحق ،ومنها الحقوق المالية وغير المالية ،وهناك اتفاق بخصوص الحقوق
المالية التي تقبل التصرف فيها عن طريق الرضا ،كرضاء الشخص بقطع األشجار لبناء جاره عليها ،في حين الحقوق
غير المالية التي تتصل بذات اإلنسان أي بعناصر شخصيته ،والتي تسمى بالحقوق الشخصية أو اللصيقة بالشخصية،
والمنقسمة إلى ثالث مجموعات ،حقوق تتصل بالكيان المادي للشخصية– مثل الحق في الحياة والحق في سالمة البدن،-
وأخرى بالكيان المعنوي لها -الحق في الش رف والعرض والعفة وحرمة الحياة الخاصة والمراسالت والمكالمات
والمسكن ،-والثالثة تتصل بنشاط الشخصية ذاتها -والتي تضم مجموعة من الحريات ،مثل حرية التنقل وحرية االعتقاد
وحرية العمل والتعبير ،-...واألصل في هذه الحقوق أنها غير قابلة للتصرف فيها كونها من لوازم الشخصية غير القالبة
لالنفصال ،وبالتالي ال مجال للرضا في الحق في الحياة ،بينما يمكن في بعض الحقوق األخرى أن يتم المساس بها سواء
عن طريق االتفاق ،مثل عقد الزواج ،أو عقد العالج إذ يبيح القانون للطبيب االطالع على عورة المرأة ،كما أنه قد يعتد
بال رضا حتى في مسائل هتك العرض والعالقات الجنسية أو الوقاع ،والرضا بالتفتيش وإباحة إفشاء السر ،وكشف
المراسالت واألحاديث الخاصة.
غير أنه من بين الحقوق األكثر إثارة للجدل ،هو الحق في سالمة البدن ،كونه حق للمجتمع مثلما هو
حق للفرد ،لذا فقدرة الشخص على التصرف في بدنه محدودة للغاية ،لذا فهناك مجاالت يعتد فيها بالرضا مثل العالج
][114
والتجميل كونها تصرفات تحقق نفعا للشخص وللمجتمع ،لكن اإلشكال حينما يقرر الشخص التصرف في بدنه تصرف
ينتقص من كفاءة الجسم ،وهنا اتفق الفقه أنه تصرف جائز بشرط أال يكون يهدد الحق في الحياة أو المساس بنحو
خطير أو دائم بالحق في سالمة الجسد ،على نحو يهدد بعدم قدرته على أداء وظيفته االجتماعية على الشكل المعهود ،لذا
يجوز للشخص التصرف بالهبة أو البيع لعضو من أعضائه مما ال يعرض فقدها جسم اإلنسان للخطر].[9
ثانيا :شروط الرضا المبيح
ب ما أن الرضا موقفا إراديا ،لذا بحثت مسألة ما إن كان يكفي فيه أن يكون ضمنيا أو صراحة ،بين
نظريتين إحداهما سميت االتجاه المجرد لإلرادة واألخرى سميت نظرية إعالن اإلرادة ،غير أن الغالبية رأت أنه يمكن
للرضا أن يكون ضمنيا ،بل أنه يصح أن يكون مفترضا ،وهي الظروف التي يستحيل فيها اإلفصاح عن الرضا لكنه من
المحقق أن الشخص لو كان حاضرا أو قادرا على اإلفصاح ألعلن عن رضاه ،لكن يجب أن تكتمل شروط الرضا حتى
ينتج أثره كسبب مبيح ،وهذه الشروط هي:
-1الصـــــفة:
وهو أن يصدر الرضا عن صاحب الحق ،وهو الشخص المجني عليه في الجريمة ،أو من كان مرشحا
ألن يكون مجنيا عليه لوال رضاه ،وإذا تعدد أصحاب الحق وجب رضائهم جميعا ،فإذا رضي البعض دون البعض
اآلخر كان الرضا غير كاف ليكون سببا من أسباب اإلباحة ،لكن وإن كان األصل أن يصدر الرضا من صاحب الحق
نفسه ،فإنه يجوز أيضا أن يصدر من نائبه ،خاصة وأن اإلنابة في التصرف في الحقوق المالية جائزة ،سواء كانت
اإلنابة قانونية أو اتفاقية أو قضائية ،غير أن الحقوق غير المالية فال إنابة فيها بالنظر لطابعها الشخصي الشديد ،عدا
الحاالت التي تكون فيها الفائدة التي تعود على صاحب الحق مؤكدة ،مثلما هو الشأن بالنسبة للعمليات الجراحية بغرض
الشفاء.
-2األهلـــــية:
الرضا ال يمكن أن يعتد به إال إذا كان صادرا من شخص آهل قانونا ،واألهلية مناطها اإلدراك والتمييز،
وأن تسلم اإلرادة من العيوب.
-3معاصرة الرضا للفعل:
يجب أن يكون الرضا قائما وقت إتيان الفعل ،فإذا تراخى عنه كان عديم األثر ،حيث أن الفعل حينما
اقترف كان غير مشروع فال يقلبه الرضا الالحق عمال مشروعا ،وإذا تحقق الرضا قبل الفعل فيجب أن يظل قائما حتى
يدركه الفعل ،فإن رضا الشخص بإجراء عملية جراحية له ثم عدل فالطبيب الذي يجري له هذه العملية بعد العدول يعد
مرتكبا لفعل غير مشروع.
ثالثا :حقيقة الرضا كسبب من أسباب اإلباحة
ث ار التساؤل عما إن كان الرضا سببا قائما ومستقال بذاته من أسباب اإلباحة ،أم مجرد تطبيق من
تطبيقات اإلباحة األخرى ،وتوصل البعض أنه مجرد عالقة بين الرضا واإلباحة ،وحقيقة الرضا أنه تصرف قانوني
يرتب للغير حق أو رخصة أو يفرض عليه واجبا ،ومباشرة الحق أو أداء الواجب هو الذي يجعل الفعل مباحا ،فرضا
المريض بالعالج أنشأ للطبيب حق في عالجه ،ولجوء الشخص لقسم الشرطة هربا من خصوه هو الذي أنشأ لهم حق
باحتجازه لتأمينه ،وهو واجب عليهم يجعل من فعلهم مباحا ،لذا فالرضا منظورا له بذاته ال يدخل ضمن أسباب اإلباحة،
بل هو مصدر للحقوق ونشأة بعض الواجبات ،لذا الفقه رتب اإلباحة على الرضا بغير وجود نص يقرره.
المطلب الثاني
حالــــة الضرورة
حالة الضرورة من النماذج الجديدة للتنازع بين المصالح المتعارضة ،عندما يجد الشخص نفسه مضطرا
الرتكاب جريمة لغاية حماية نفسه أو غيره من ضرر جسيم ،مثل األم التي تسرق إلعالة أوالدها ،وسائق السيارة الذي
يصدم سيارة أخرى لتفادي دهس المارة ،ومن يخرج عاريا للطريق العام تهربا من حريق شب بالمنزل ،والطبيب الذي
يجري عملية استعجاليه لمريض عجز عن أخذ رضائه.ويعالج البعض حالة الضرورة كسبب من أسباب اإلباحة ،كونها
تستند للتضحية بحق رعاية لحق أكثر أهمية ،مما يجدر معه إضفاء صفة اإلباحة عليها .خاصة وأن شرعت لحماية
][115
مصلحة ال غير أيضا وليست لمصلحة المضطر فقط ،مما يعني إقرار لحماية الحق األجدر بالحماية ،وأن الفقه الفرنسي
في مجمله يجعلها سببا من أسباب اإلباحة ،في حين الفقه المصري يرى أن المشرع المصري اعتبرها مانعا من موانع
المسؤولية بالنظر لصيغة نص المادة 61من قانون العقوبات .التي استهلت بعبارة " ال عقاب" وهو ما يعارضه البعض
ويرى عدم ضرورة التقيد بعبارات النص .وحالة الضرورة كسبب من أسباب اإلباحة قريبة جدا من حالة الدفاع
الشرطي ،إذ تتطلب شروطا في الخطر( المقابل لفعل العدوان في حالة الدفاع الشرعي) ،وشروطا أخرى في فعل
الضرورة ( المق ابل لفعل الدفاع في حالة الدفاع الشرعي) .وهو ما نبينه باختصار من خالل الفرعين التاليين.
الفرع األول
الشروط المتطلبة في الخطر
ح الة الضرورة تتطلب خطرا يحل بالشخص حتى يمكنه اللجوء لفعل الضرورة الذي يشكل في األصل
جريمة لرد الخطر السابق ،لذا فالخطر الذي يبرر اللجوء إلى هذا الفعل المجرم ،الذي يباح بسبب خصائص الخطر،
يوجب أن يستجمع األخير جملة من الشروط ،هي التي نتناولها في النقاط التالية.
أوال :خطر جسيم
يشترط في الخطر الذي يبرر حالة الضرورة أن يكون خطرا جسيما ،وهو ما لم يشترطه قانون
العقوبات الفرنسي الجديد في المادة ،7/122وشرط الجسامة صفة موضوعية لصيقة بالخطر من حيث مساسه
بالمصلحة المحمية ،ويقدر القاضي في تقديره الظروف التي أحاطت بالمتهم في ظل الظروف الموضوعية التي أحاطت
به ،دون أن يشترط فيه أن يكون جريمة مثلما هو الشأن بالنسبة لحالة الدفاع الشرعي ،لذا فيمكن أن يكون مصدر
الخطر فعل إجرامي أو غير إجرامي ،أو قد يكون واقعة طبيعية كالفيضان والزلزال وهبوب العواصف ،أو خطر مادي
مصدره اآلالت الصناعية والتوصيالت الكهربائية
أو سبب نفسي كالجوع والمرض وخشية الفضيحة والعار].[10
ثانيا :خطر مهدد للنفس
المشرع المصري قدر بأن األخطار المهددة للنفس هي الجديرة وحدها بالرعاية في حالة تصارعها مع
المصالح األخرى ،لذا في مصر ال مجال لحالة الضرورة إذا كان الخطر مهددا للمال ،مهما بلغت جسامة هذا الخطر،
وهنا ال يجوز لربان السفينة إلقاء البضائع في البحر إلنقاذ السفينة من الغرق ،على عكس التشريعات األخرى مثل
القانون السويسري والنرويجي والسوري واللبناني واألردني التي سوت بين األخطار المهددة للنفس وتلك المهددة للمال،
وأهمها المادة 7/122من تقنين العقوبات الفرنسي.
ثالثا :خطــر حــــــال
وهو أن يعرض الخطر بطريقة حالة ومباشرة المصالح المحمية في قانون العقوبات للضرر ،فال يبرر
حالة الضرورة الخطر المستقبلي وال الخطر الذي انتهى ،ويتحدد موضوع حيلولة الخطر وفقا لمعيار موضوعي كذلك
الذي تناولناه في مجال الدفاع الشرعي ،ويجب أن يكون خطر حال حقيقي ال توهمي وهنا كل ما يحدث انتفاء القصد
الجنائي ويسأل الشخص عن جريمة غير عمدية إذا كان القانون يعاقب عليها بهذا الوصف ،كمن يرى دخان يتصاعد
من نافذة جاره فيكسر الباب ويتضح أنها اشتعلت بفعل أصحاب المنزل للشواء ،وعلى عكس ذلك ،يرى البعض قيام
حالة الضرورة بالخطر الوهمي ،غير أن أنصار هذا االتجاه يصنفون حالة الضرورة من بين موانع المسؤولية ويستوي
بعد ذلك المصلحة التي يهددها الخطر كأن يكون السمعة والشرف ،كما يستوي أن يكون مصدره عمل اإلنسان أو
الطبيعة.
غير أن المشرع يشترط أال يكون مصدر الخطر المتهم ذاته ،وهو ما بينته المادة 61من تقنين العقوبات
المصري ،التي تبعها الفقه على اعتبار حالة الضرورة مانع من موانع المسؤولية ،غير أن البعض يرى أن ذلك ال
يستقيم مع النظرة الصحيحة لحالة الضرورة كسبب من أسباب اإلباحة ،غير أن الخالف لم ينحصر عند هذا الحد ،بل
امتد لمناقشة ما إن كان دور المتهم في إحداث الخطر عن عمد أو عن طريق الخطأ ،فاتفق على أنه ال ضرورة في حالة
العمد ،كمن يشعل النار في مسرح ثم لينجو يدوس على طفل فيقتله ،والقضاء الفرنسي ينفي حالة الضرورة حتى إن كان
دور المتهم في إحداثها كان على سبيل الخطأ ،في حين ال يوافق البعض ذلك ،إذ يمكن إن تسبب الشخص بإهماله في
][116
إحداث خطر أن ينقذ مصلحة أجدر بالرعاية ،مثل سائق السيارة الذي يسير بسرعة ولتفادي االصطدام بسيارة تسير في
االتجاه المنعكس أن ينحرف يسارا ويصدم أحد المارة فيقتله ،وربان السفينة الذي بإهماله توشك السفينة على الغرق لكن
وبتوفر هذه الشروط في الخطر ،يستوي أن يكون من تعرض له إلنقاذ نفسه والغير يلقي البضائع في البحر].[11
مرتكب الفعل الضروري أو غيره من الناس ،وال يشترط أن يكون هذا الغير من أقارب الجاني ،بل يكفي مطلق الغير.
الفرع الثاني
الفـعل الضروري ( فعل الضرورة)
يشترط في الفعل الضروري الذي يرتكبه الشخص المضطر ،مثلما يشترط في فعل الدفاع في حالة
الدفاع الشرعي ،وهما شرطي اللزوم والتناسب ،وهما الشرطين الذين نتناول كل منهما في نقطة مستقلة.
أوال :شرط اللـــــــزوم
و هو أن يكون اللجوء إلى الجريمة التي تشكل الفعل الضروري التي يكون غرضها دفع الخطر الوسيلة
الوحيدة لتحقيق هذا الهدف ،إذ إن كانت أمامه وسيلة أخرى مشروعة ال يعد فعله ضروريا] ،[12واللزوم يقاس بمعيار
موضوعي يتعلق بالشخص العادي المحاط بنفس الظروف التي يوجد بها المضطر .ومن توفر لديه الهرب فيجب أن
يسلكه وال يلجا الرتكاب الجريمة ،وهنا تختلف حالة الضرورة عن حالة الدفاع الشرعي ،ويستوي أن تكون الجريمة
الالزمة لدرء الخطر الذي يتهدد المضطر جريمة عمدية
أو جريمة غير عمدية ،مثل سائق سيارة اإلطفاء الذي يسير بسرعة إلنقاذ الناس فيصطدم بالغير ،أو من يصعد بسيارته
على الرصيف هروبا من دهس أطفال أمامه فيصدم شخصا آخرا] .[13بينما ترى محكمة النقض الفرنسية في هذا
الشرط ،أن تكون الجريمة هي أحسن وسيلة لتفادي الخطر ،ال أن تكون الوسيلة الوحيدة .ويضاف لكل ما سبق أال يكون
الشخص ملزما قانونا بتحمل الخطر الذي يعترضه ،مثل الجندي في ميدان القتال ،ورجال البوليس في ممارستهم
لمها مهم ،والمتهم المقبوض عليه ،والمحكوم عليه باإلعدام ،وربان السفينة عندما تتعرض للغرق ،فكل هؤالء يتعرضون
لخطر جسيم على النفس ،ولكنهم ملزمين بتحمل هذا الخطر بحكم وظائفهم التي تقتضي بحكم طبيعتها التعرض لمثل هذه
األخطار].[14
ثانيا :شـــرط التناسب
حالة الضرورة تقتضي شانها شأن الدفاع الشرعي التناسب ،سواء كان عاما وهي ارتكاب جريمة من
حيث الجسامة بأنها الوحيدة الممكنة من بين الجرائم التي كان يمكن ارتكابها ،أي ال يمكن للشخص النجاة من الخطر
الذي يتهدده إال بتلك الجريمة التي ارتكبها ،ويتحدد هذا التناسب وفقا لمعيار موضوعي واقعي قوامه الشخص المعتاد
الذي مر بنفس الظروف التي مر بها الجاني] .[15كما تشترط حالة الضرورة أيضا التناسب الخاص ،في الحاالت التي
يلجا فيها لجريمة القتل ،فهنا ال يجب أن يحدث الجاني ضررا يفوق الضرر الذي أراد تجنبه ،على عكس التناسب
الخاص في مجال الدفاع الشرعي ،فالطبيب الذي يجري عملية جراحية لوالدة عسيرة ليس له أن يضحي بحياة األم لينقذ
الجنين ،وال يجوز لشخص ينحرف بسيارته لتجنب قتل شخص أن يقتل عدد أكبر من األشخاص] .[16وتدق المسألة
بخصوص مدى توفر حالة الضرورة في حالة قتل إنسان ألجل إنقاذ حياة إنسان آخر ،فهنا يرى البعض أنه في حالة
تساوي المصالح يجب تفضيل مصلحة البريء الذي لم يصدر عنه أي خطر ،مثل حالة من أراد تجنب صدم أحد المارة
فيصدم اآلخر ،وال يجب أن يقتل الشخص غيره إلنقاذ حياته].[17
وفي حالة تجاوز الضرورة يعتبر الشخص مرتكبا لجريمة عمدية إذا كان القانون يعاقب عليها بهذا
الوصف ،وإذا كان التجاوز مبنيا على أسباب معقولة انتفت كل مسؤولية ،وغن كان التجاوز عمديا اعتبر المتجاوز
مسؤول مسؤولية جنائية كاملة.
ه ذا وبعد ان تناولنا في فصلين متتاليين الركن الشرعي للجريمة ،وأسباب اإلباحة كأسباب تنفي هذا
ا لركن أصال وتعطل مفعوله ،سنتناول في الفصل الموالي ،أهم ركن من أركان الجريمة ،أال وهو الركن المادي على
اعتبار الجريمة أفعال وسلوكات نهى عنها النص القانوني ،أي الركن المادي تجسيد للركن القانوني.
][117
الفصل الثالث
الركن المادي للجريمة
الركن المادي للجريمة يقصد به تطابق الفعل الذي أتاه الجاني مع النموذج القانوني للجريمة ،كون القانون يحدد
أركان وشروط الجريمة وبها يتحدد النموذج القانوني لها ،أو المظهر القانوني لها ،ليأتي المظهر المادي الذي يتحدد
بالواقعة التي حدثت في العالم الخارجي من قبل الجاني ،ويشترط فيه أن يتطابق مع المظهر القانوني الذي بينه المشرع.
لذا فالركن المادي للجريمة ،هو وجهها الخارجي الظاهر ،وبه يتحقق االعتداء على المصلحة المحمية قانونا ،وعن
طريقه تقع األعمال التنفيذية للجريمة ،إذ ال وجود لقانون عقوبات في الدول الديمقراطية يعاقب على مجرد النوايا .فكل
جريمة ال بد لها من ماديات تتجسد فيها اإلرادة اإلجرامية لمرتكبها ،فالقانون الجنائي على عكس قواعد األخالق ليس له
سلطان على ما في ضمائر الناس من أفكار شريرة ومن نوايا إجرامية ،حتى ولو وصلت مرحلة عقد العزم والتصميم ما
لم تخرج لعالم الم اديات التي تجسد هذه النوايا وتصبح تعرض المصالح والحقوق لألخطار ،فهنا يتصدى لها القانون
الجنائي يعاقب عليها .وبالتالي الركن المادي هو ما يدخل في البناء القانوني للجريمة من عناصر مادية ملموسة يمكن
إدراكها بالحواس.
][118
أهمية اشتراط الركن المادي لقيام الجريمة:
إ ن أهمية اشتراط المشرع للركن المادي للجريمة ،تكمن أساسا في كونه الركن الذي يجسد ما يعرف
بمبدأ " مادية الجريمة ،" Le Principe de la matérialité de l’infractionفالقانون الجنائي ال يهتم بالبواطن
والنوايا ،وإنما يهتم فقط بالظاهر المادي الملموس ،وهو أمر ال يخلو بأي حال من األحوال من فعالية قانون العقوبات
وتحقيقه للعدالة المنشودة ،فمن العدالة أال يحاسب األفراد على نواياهم ،متى لم تتجسد في نشاط مادي خارجي ملموس
يلحق أضرارا بالمصالح المحمية قانونا ،أو مجرد تهديدها بأخطار ،مهما كانت هذه النوايا والنوازع حافلة برغبة مخالفة
القانون – كون قانون العقوبات يحمي الحقوق والمصالح من االعتداءات الفعلية الواقعة عليها ،أو مجرد تهديدها أي
احتمال اإلضرار بها.-
ك ما انه ليس من الجدوى والفعالية تجريم النوايا والعقاب عليها ،كون هذه النوايا ليست ضارة في حد
ذاتها ،بل أن تج ريمها قد يشجع األفراد على تجاوز مرحلة النوايا واإلقدام فعال على ارتكاب األفعال ،متى كانوا في
الحالتين معرضين لعقاب القانون ،مما يجعل عدم العقاب على النوايا يعد في حد ذاته ضمانة من الضمانات المكرسة
لحقوق وحريات األفراد].[18
وتظهر أهمية اشتراط الركن المادي أيضا ،في تسهيل عملية إثبات الجريمة ،ألنه إن كان من اليسير
إثبات وقوع ماديات الجريمة ،التي تجسدت في أفعال خارجية ملموسة أحدثت أثارا في العالم الخارجي،
أ و على األقل يمكن إدراكها بالحواس حتى وإن لم تصل لحد ترتيب آثارها ،فإنه من العسير جدا إثبات النوايا ،في
الحاالت التي يرتأى فيها المشرع تجريم هذه النوايا ،وبذلك يكون القانون منفذا إلفالت الجناة من العقاب] .[19وقانون
العقوبات في غالب األحوال ال يشترط مجرد السلوك ،بل يتطلب تحقق نتيجة معينة تكون أثرا لهذا السلوك ،وأن يكون
األخير مسببها ،لذا فالركن المادي للجريمة التامة يتحلل في العادة إلى ثالثة عناصر ،هي :السلوك ،النتيجة ،وعالقة أو
رابطة سببية تربط بين هذا السلوك والنتيجة التي تحققت ،وهو ما الوضع العادي والمألوف للجرائم التامة ،غير أن هذه
العناصر قد ال تتحقق مجتمعة ومع ذلك يتدخل المشرع بالعقاب ،وذلك في الحاالت التي يأتي فيها الشخص بالسلوك إال
أن النتيجة تتخلف ،وهو ما يسمى بالشروع أو المحاولة ،وهو موضوع بحث في المبحث الثاني ،كما أن الوضع العادي
والمألوف للجرائم أن فعال واحدا مجرما يسهر على تنفيذه فاعل واحد ،غير أنه يمكن أن تتضافر جهود العديد من
األشخاص القتراف الفعل ،وفي هذه الحالة نكون أمام مشروع إجرامي ألطراف متعددة ،وهي صورة خاصة من صور
الركن المادي للجريمة ،وتسمى بالمساهمة الجنائية أو االشتراك ،الذي يكون موضوع بحث في المبحث الثالث.
المبحث األول
تحليل الركن المادي للجريمة
عناصره في حالة الجريمة التامة
الركن المادي للجريمة ،وفي غالبية الجرائم ،يتحلل – مثلما سبق القول -إلى ثالثة عناصر ،هي السلوك
سواء تمثل في فعل أو مجرد امتناع ،ونتيجة يكون سبب حدوثها هذا السلوك ،سواء كانت نتيجة مادية يمكن إدراكها في
العالم الخارجي أو مجرد نتيجة بالمفهوم القانوني ،وأن ترتبط هذه النتيجة برابطة أو صلة أو عالقة سببية ،بمعنى أن
يكون السلوك سبب في حدوث وتحقق النتيجة ،والعناصر الثالثة السابقة ،هي العناصر العامة للركن المادي لكل جريمة
تامة وقعت طبقا للنموذج القانوني أو التشريعي المرسوم لها من قبل المشرع ،مع مالحظة أنه هناك من الجرائم ما ال
يشترط فيها المشرع تحقق نتيجة معينة ،أي ال تعد النتيجة عنصرا الزما في ركنها المادي ،وهي ما تعرف بجرائم
السلوك المجرد أو السلوك المحض ،كما تسمى أيضا بالجرائم الشكلية ،كجريمة حيازة سالح بدون ترخيص ،ومثل
هذا النوع من الجرائم يقوم على مجرد إتيان السلوك المجرم ،دون اشتراط ترتب نتيجة عليه.
كما أنه هناك جرائم يتطلب البناء القانوني لركنها المادي ،وباإلضافة للعناصر العامة الثالثة السابقة،
عناصر أخرى خاصة تستخلص من نص التجريم ذاته ،والتي يتوقف على توفرها اكتمال الجريمة قانونا من الناحية
المادي ة ،من أمثلة هذه العناصر الخاصة ،ما يتعلق بمحل العدوان الذي ينصب عليه السلوك ،مثل اإلنسان الحي في
][119
جريمة القتل ( المادة 254قانون عقوبات جزائري) ،والمال المملوك للغير في جريمة السرقة ( المادة 350قانون
عقوبات جزائري) ،والمحرر المكتوب في جريمة التزوير ( المادة 214وما بعدها من قانون العقوبات) .وقد يتعلق
العنصر الخاص بصفة في الشخص ،سواء كان جاني أو مجني عليه ،ومن أمثلة الصفة المتطلبة في الجاني ،صفة
الموظف في جريمة الرشوة ،وجريمة االختالس] ،[20وصفة الزوج أو الزوجة في جريمة الزنا ( المادة ،)339ومن
العناصر الخاصة المشترطة في المجني عليه ،القاصر ( المادة 236وما بعدها) ،وصفة الموظف أو الهيئة النظامية في
جرائم اإلهانة والتعدي على الموظفين ومؤسسات الدولــة ( المادة 144وما بعدها) ،وترك األطفال والعاجزين ( المادة
314وما بعدها) ...وقد ينصب العنصر الخاص بالوسيلة المستعملة في ارتكاب الجريمة ،مثل السرقة باستعمال السالح
( المادة 351ق ع ج) ،وجريمة القتل بالتسميم ( المادة 260ق ع ج) .كما قد يتعلق العنصر الخاص بزمان أو مكان
ارتكاب الجريمة ،ومن أمثلة اشتراط زمن معين في بعض الجرائم ،الجرائم التي ترتكب في زمن السلم ( المادة 74وما
بعدها) ،ومن أمثلة الجرائم التي تتعلق بالمكان ،جريمة القذف التي تشترط العلنية في مكان عام ( المادة ،)296وجريمة
السكر العلني ،والمخالفات المتعلقة بالطرق العمومية ( المادة 444مكرر وما بعدها) .غير أن موضع دراسة هذه
األركان الخاصة هو القسم الخاص لقانون العقوبات ،لذا تنحصر دراستنا في هذا الموضوع على العناصر العامة للركن
المعنوي فقط ،ونتناول كل منها في مطلب مستقل من المطالب الثالثة التالية.
المطلب األول
السلوك اإلجرامي ( أو الجرمي أو المجرم)
مبدأ :السلوك مادة الجريمة وأداة مخالفة القانون
يعد السلوك اإلجرامي من أهم مكونات الركن المادي للجريمة ،وأكثر هذه العناصر إفصاحا عن مخالفة
الجاني ألوامر ونواهي قانون العقوبات ،ويعرف السلوك باختصار ،بأنه ذلك التصرف أو الفعل
أ و الموقف الذي إذا أتاه الشخص عوقب ،لذا كان من الطبيعي أن يحدد سلوك كل جريمة من قبل المشرع تطبيقا لمبدأ
الشرعية الجنائية ،ألن الجرائم أفعال تطبيقا لمبدأ " ال جريمة دون فعل"] ،[21وهو الفعل الذي قد يكون إيجابيا يأتيه
الشخص بالمخالفة لنواهي قانون العقوبات ،وقد يكون سلبيا يأتيه الشخص بالمخالفة ألوامر هذا القانون ،وهما صورتا
السلوك المؤثم قانونا ،األولى – الفعل اإليجابي -وهي الصورة الشائعة التي تستوعب غالبية الجرائم ،والثانية – السلوك
السلبي -أقل مقارنة ب األولى ،وتسمى الجرائم في هذه الحالة بالجرائم السلبية أو جرائم االمتناع وأحيانا جرائم الترك،
وهي قلة قليلة مقارنة بالجرائم اإليجابية أو جرائم الفعل .لذا سنحاول أن نتناول صورتي السلوك من خالل الفرعين
التاليين.
الفرع األول
السلوك اإليــجابي ( الفعـــــــل)
و هي صورة من السلوك المشكلة للركن المادي لغالبية جرائم قانون العقوبات ،ويسميها الفقه أيضا:
" النشاط" أو "السلوك" ،ويتمثل في الغالب في حركة أو مجموعة حركات عضوية إرادية تحدث تغييرا في العالم
الخارجي الملموس ،ويكون السلوك فعال إذا استخدم فيه الجاني أعضاء جسمه ،كما لو استعمل يديه في الضرب أو
القتل ،أو لسانه في جريمة القذف أو السب أو التهديد الشفوي أو تحريض الغير على ارتكاب الجرائم ،أو استعمال رجله
في جريمة التعدي على الملكية العقارية واغتصابها واحتاللها ،لذا فمن أهم خصائص السلوك اإليجابي هي:
أوال :السلوك اإليجابي حركة أو عدة حركات عضوية
السلوك اإليجابي أو الفعل ،يعد عبارة عن حركة أو مجموعة حركات عضوية ،يأتيها الجاني لتنفيذ
جريمته ،فقد تكون حركة واحدة كتوجيه ضربة للمجني عليه أو إطالق رصاصة عليه ،أو توجيه إهانة واحدة له ،أو
مجموعة حركات عضوية تستند إلى قرار جرمي واحد ،كاستمرار الجاني في طعن المجني عليه بعدة طعنات متتالية،
أو إطالق العديد من الرصاصات نحوه ،في حين السلوك السلبي أو االمتناع فهو إحجام عن الحركة ،في أوضاع كان
يتعين على الشخص إتيانها ،وتسمى الجرائم التي تقع بالسلوك اإليجابي بالجرائم اإليجابية ،في حين تسمى الجرائم التي
تتحقق باالمتناع ،بالجرائم السلبية.
][120
ويجب أن تكون الحركة أو مجموعة لحركات العضوية ،عبارة عن حركات مادية مصدرها عضو من
أعضاء جسم اإلنسان ،دون اعتداد في ذلك – في غالبية األحوال -بالوسيلة المستعملة في تحقيق هذا السلوك ،على
اعتبار أن الوسيلة ذاتها ،تسيرها الحركة الصادرة عن عضو اإلنسان]..[22
ثانيا :السلوك حركة إرادية هادفة لتغيير وضع قائم
يشترط في السلوك اإليجابي ،زيادة على كونه حركة أو مجموعة حركات عضوية مادية صادرة عن
عضو أو أكثر من أعضاء جسم اإلنسان ،أن تكون القوة الدافعة لهذه الحركة هي اإلرادة ،بمعنى أن تكون الحركة إرادية
صادرة عن وعي وإدراك وحرية اختيار ،وبعبارة أخرى يشترط أن تكون هناك صلة نفسية بين الحركة واإلرادة ،كون
الحركة الالإرادية حتى وإن ترتب عنها النتيجة المجرمة قانونا ،إال أن مسؤولية الشخص عنها منتفية ،واإلرادة هذه
يجب أن تهدف إلى تغيير وضع قائم ،والمقصود بذلك أن يكون هذا التغيير متمثال في االعتداء أو اإلضرار أو مجرد
احتمال التهديد للمصالح والحقوق المحمية بموجب قانون العقوبات.
الفرع الثاني
الســـلوك السلبي
( الترك أو االمتناع أو عدم الفعل]) [23
القانون الجنائي ال يعاقب فقط على السلوكات اإليجابية المتمثلة في حركة أو مجموعة حركات عضوية
مادية إرادية – وإن كان ذلك األصل ،-بل هو يعاقب أيضا على بعض التصرفات والسلوكات السلبية الضارة ،وذلك
كاستثناء ،والسلوك السلبي يتمثل في موقف سلبي يتخذه الشخص إزاء قاعدة قانونية تطالبه بالقيام بعمل ما ،فيمتنع عن
القيام به ،أو يقوم بعمل مضاد للعمل الذي أمرت به القاعدة القانونية ،لذا فاالمتناع بدوره عبارة عن عمل إرادي واعي
مصدره اإلرادة الحرة المختارة ال مجال فيه للقول بقيام المسؤولية الجنائية للممتنع في حال ما إذا دفعته قوة قاهرة أو
أكره عليه.
ومن أمثلة جرائم االمتناع في قانون العقوبات الجزائري ،امتناع الشاهد عن الحضور أمام الجهات
القضائية الجزائية ( المادة 89من قانون اإلجراءات الجزائية بخصوص االمتناع عن الحضور أمام قاضي التحقيق،
والمادة 222من ذات القانون بخصوص امتناع الشاهد عن الحضور أمام جهات الحكم الجزائية ،والمادة 299من ذات
القانون بخصوص امتناع الشاهد عن الحضور أمام محكمة الجنايات) ،وامتناع الموظف عن تطبيق ما أمر به القانون (
المادة 109قانون عقوبات) ،وامتناع الشخص الذي يعلم بالشروع في ارتكاب جناية أو وقوعها وال يخبر السلطات
المختصة بها فورا ( المادة 181ق ع ج).
وفي كل هذه الحاالت نكون أمام جرائم امتناع ،ألن النص الجنائي ألزم الشخص بالقيام بعمل معين
تحت طائلة توقيع جزاء جنائي ولم يقم به ،لذا فجرائم االمتناع عبارة عن جرائم محددة العناصر في النصوص
الجزائية ،تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية ،لذا فال يجوز اللجوء للتفسير الواسع وال القياس فيها ،والقانون في العادة ما
يعاقب على مجرد السلوك السلبي فيها ،دون أن يشترط تحقق نتيجة معينة تترتب عن هذا االمتناع ،مما يجعل غالبيتها
من جرائم السلوك المحض .غير أن الفقه أوجد طائفة جديدة من الجرائم سماها جرائم السلوك بالترك ،أو الجرائم
اإليجابية التي تقع بجريمة امتناع ،أين يكون السلوك مجرد امتناع لكنه يقترن بتحقق نتيجة مادية معينة ،مثل امتناع
الطبيب عن القيام بعالج المريض مما يؤدي لموت المريض ،أو امتناع األم عن إرضاع ابنه مما يؤدي إلى إهالكه.
المطلب الثاني
النتيجة اإلجرامية ( أو المجرمة)
يقصد بالنتيجة كأحد العناصر المكون للركن المادي للجريمة ،األثر الطبيعي المترتب عن السلوك
المجرم قانونا ،وهو المفهوم المادي للنتيجة المتمثل في وجود أثر مادي أو تغير يحدث في العالم الخارجي الملموس ،في
حين المفهوم القانوني للنتيجة ،فيتمثل في االعتداء على المصالح والحقوق المحمية قانونا.
وقد يظهر أن النتيجة أمر ال ينفصل عن السلوك المادي ،بحيث يقوم الجاني بعمل واحد تعد النتيجة آخر
حلقاته ،غير انه في الواقع ،النتيجة تعد العنصر الثاني المستقل والمنفصل من عناصر الركن المادي للجريمة ،وما يدل
على ذلك تمييز المشرع بين الجريمة التامة ومجرد الشروع -وهو موضوع دراسة مستقلة الحقا -فلو كانت النتيجة
][121
عنصرا مالزما للسلوك لما قام المشرع بهذه التفرقة ،ولما كانت هناك أصال حاجة للعقاب على الشروع ،ما دامت
النتيجة مالزمة للسلوك ،لذا فالسلوك أمر مستقل عن النتيجة .لذا فالنتيجة عنصر من عناصر الركن المادي ،يتمثل في
التغيير الذي يحدثه السلوك في العالم الخارجي الملموس ،والذي قد يكون أثرا ماديا ،مثل حدوث الوفاة في جريمة القتل،
واالستيالء على مال الغير في جريمة السرقة ،وقد يكون مجرد أثر نفسي ،مثال كالحط من قيمة ومكانة الشخص في
وسط أقرنائه في المجتمع كجرائم القذف والسب ،ل ذا نرى أن النتيجة المعتد بها قانونا ،ليست النتيجة الواقعية التي حدثت
في العالم الخارجي ،أو ما يعتبره المجني عليه أنه نتيجة أضرت به ،وإنما النتيجة هي ما يعتد به القانون ويعتبره تغييرا
قانونيا.
والنتيجة عنصر الزم في معظم الجرائم ،خاصة تلك التي يرتب فيها المشرع على تحقق النتيجة أحكام
قانونية ،تتعلق أساسا بالشروع واالشتراك والقصد الجنائي ،غير أن النتيجة قد ال تكون عنصرا الزما في الركن المادي
لبعض الجرائم ،التي تقوم ويكتمل ركنها المادي بمجرد إتيان السلوك ،وتسمى الجريمة في هذه الحالة ،بالجريمة الشكلية
لذا أو جرائم الخطر أو جرائم السلوك المحض ،مقارنة بالجرائم المادية أو جرائم الضرر ،التي تتطلب نتيجة].[24
نرى بأن دراسة فكرة النتيجة كعنصر عام وهام في الركن المادي للجرائم ،تقتضي منا تناول موضوع التفرقة بين
النتيجة المادية والنتيجة القانونية ،وذلك في فرع ،لنتناول في الثاني التمييز بين الجرائم المادية ذات النتائج ،والجرائم
الشكلية التي ال يشترط فيها المشرع تحقق نتيجة معينة.
الفرع األول
التمييز بين النتيجة المادية والنتيجة القانونية
النتيجة بين المفهوم المادي والمفهوم القانوني]:[25
النتيجة عموما هي األثر الطبيعي الذي يتمخض عن السلوك ويعتد به القانون ،وهو التعريف الذي
يشتمل على ثالثة عناصر ،أن النتيجة أمر واقعي له وجود خاص وذاتية مستقلة ،وهي في حقيقة األمر تتميز عن
السلوك مهما كانت مرتبطة به ،والقانون أحيانا قد يتطلب حدوث نتيجة معينة ،وأحيانا يكتفي بالنص على صالحية
السلوك إلحداثها ،أما العنصر الثاني للنتيجة فهو ارتباطها بالسلوك برابطة سببية ،وهي الرابطة
أ و العالقة التي تعد بالغة التعقيد واألهمية ،والعنصر الثالث هو اعتداد القانون بالنتيجة ،إذ الفعل الواحد قد يرتب نتائج
متعددة ،وهي النتائج التي قد تولج نتائج أخرى ،غير أن القانون يهتم بالبعض دون البعض اآلخر ،والمشرع قد يجعل
بعض النتائج عنصرا الزما لوقوع الجريمة والبعض اآلخر من نتائجها المشددة ،أو ظرفا مؤثرا في عقوبتها فحسب،
مثال األول حدوث الوفاة في جريمة القتل ،ومن أمثلة الثانية العاهة المستديمة في جريمة الضرب ،وفي هذا المقام تهمنا
النتيجة كعنصر ال كظرف ،غير أن النتيجة تعد أحيانا من عناصر الجريمة إذ ال تقوم هذه األخيرة دونها ،في حين قد
يكتفي المشرع بالسلوك وحده في بعض األحيان ،وفي هذا الصدد قسمت الجرائم حسب الفقه ،إلى جرائم نتيجة وجرائم
سلوك محض.
أوال :المفهوم المادي للنتيجة
النتيجة بالمفهوم المادي تتحقق بكل تغيير يحدث في العالم الخارجي كأثر للنشاط اإلجرامي] ،[26ووفقا
لهذا المفهوم للنتيجة أهمية قانونية في موضوعين ،األول بخصوص اكتمال الجريمة وتمامها ،والثاني كمعيار لتحديد
العقوبة ،ووفقا لألهمية األولى تقسم الجرائم على جرائم مادية ذات نتيجة ،وأخرى شكلية كل ما تتطلبه مجرد السلوك،
وهو ما نبينه في الفرع الثاني .بعد أن نتناول المفهوم القانوني للنتيجة.
][122
ثانيا :المفهوم القانوني للجريمة
و هي النتيجة المتمثلة في العدوان على الحق أو المصلحة المحمية قانونا ،سواء تمثل هذا العدوان في
إصابتها بضرر أو مجرد تعريضها للخطر ،لذا فهي وفقا لهذا المفهوم ،ال تعد تغييرا في العالم الخارجي يمكن للحس أن
يدركه وي ميز بينه وبين سلوك الجاني ،وإنما هي تقدير قانوني للسلوك أو حكم على هذا السلوك من وجهة نظر المشرع،
وبهذا المفهوم النتيجة موجودة في كل جريمة ،كون كل جريمة تقوم على سلوك ،في حين المفهوم المادي للنتيجة المقابل
للمفهوم القانوني هو ما يترتب عن السلوك من اثر مادي في العالم الخارجي المحسوس.
الفرع الثاني
التمييز بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية
( الجرائم ذات النتائج والجرائم ذات السلوك المجرد المحض)
سبق القول بأنه ليست كل الجرائم مما يتطلب فيها المشرع تحقق نتيجة مادية تحدث تغييرا ملموسا في
العالم الخارجي ،بل هناك من الجرائم ما يقوم ركنها المادي على مجرد إتيان السلوك بغض النظر عما إن رتب هذا
السلوك نتيجة من عدمه ،وبناء على ذلك تنقسم الجرائم من هذه الوجهة ،إلى جرائم مادية ذات نتائج ،وجرائم شكلية ذات
سلوكات فقط ،لذا سنحاول أن نتناول معنى النوعين كل في نقطة ،لنتناول في نقطة مستقلة أهمية التفرقة بين النوعين
أوال :الجرائم المادية
الجرائم المادية ،هي جرائم يتطلب المشرع فيها أن يترب السلوك نتيجة مادية كأثر ملموس في العالم الخارجي
المحسوس ،أو على األقل مجرد احتمال حصول هذه النتيجة كأثر مباشر عن السلوك ،مثلما هو الشأن بالنسبة لجرائم
الشروع ،وهذا النوع من الجرائم هو األكثر شيوعا في القوانين العقابية ،إذ غالبية الجنايات والجنح تشترط وقوع نتيجة
كأثر مباشر عن السلوك المجرم ،سيما في السلوكات اإليجابية .لذا يسمى هذا النوع من الجرائم أيضا " الجرائم ذات
النتائج" ،أو " جرائم الضرر" ،ألن النتيجة في حقيقتها ضرر أصاب مصلحة أو حق محمي قانونا ،حتى وغن تجسد
هذا الضرر في مجرد احتمال أو تهديد مثلما هو األمر بالنسبة لجرائم الشروع.
ثانيا :الجرائم الشكلية
ف ي مقابل الجرائم المادية ذات النتائج ،توجد هناك جرائم شكلية ال يشترط المشرع لقيامها حدوث نتيجة
كأثر مباشر مترتب عن السلوك المجرم ،لذا فهي تسمى أيضا " جرائم السلوك المحض" أو " جرائم السلوك
المجرد"] ،[27ومن أمثلة هذه الجرائم ،عرض الرشوة على موظف عام ،تزوير أو تزييف النقود دون ترويجها ،تزوير
األوراق دون استعمالها ،حيازة األسلحة بدون ترخيص ودون أن تستعمل في ارتكاب جرائم ،حمل األوسمة أو ارتداء
األزياء الرسمية بدون وجه حق.
ثالثا :أهمية التفرقة بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية
للتفرقة بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية ،أهمية قانونية بالغة اآلثار ،وذلك بالنظر للنتائج القانونية
المترتبة على هذا التمييز أو هذه التفرقة ،خاصة بخصوص عالقة السببية ،وفي مجال الشروع ،وبخصوص العدول
االختياري .فبخصوص العالقة السببية ،ال مجال للبحث عنها في مجال الجرائم الشكلية ،فهي صلة أو رابطة متطلبة فقط
في الجرائم المادية ذات النتائج ،كونها عالقة أو رابطة تفترض أصال وجود عنصرين ،هما السلوك والنتيجة ،وتكون
هي الرابط بين هذين العنصرين ،وإن كان يجب قيامها وإثباتها في مجال قيام الركن المادي في الجرائم المادية ذات
النتائج ،فاألمر غير ممكن بخصوص الجرائم الشكلية ،وذلك النعدام النتيجة التي يبحث عن عالقتها بالسلوك ،إذ هذا
األخير كاف لوحده لقيام الركن المادي.
وأما بخصوص الشروع – الذي سيكون موضوع دراسة مفصلة -فال يمكن تصوره في الجرائم الشكلية،
إذ السلوك المجرم إما أن يأتيه الشخص وإما أن ال يأتيه إطالقا ،على عكس الجرائم المادية ذات النتائج فهي جرائم
تشكل مجاال خصبا لجرائم الشروع ،هذه األخيرة التي تتمثل في إتيان السلوك في بعضه
أ و في كله من قبل الجاني ،وبالرغم من ذلك ال تتحقق النتيجة لظرف أجنبي خارج عن إرادة الجاني.
وأما بخصوص العدول االختياري ،وهو فكرة قانونية تتعلق بنظرية الشروع ،فال يمكن تصوره إال في
الجرائم المادية ذات النتائج ،دون الجرائم الشكلية ذات السلوك المجرد ،كون العدول يفترض البدء في تنفيذ الفعل
][123
والتوقف قبل تحقق النتيجة ،وبالتالي عدم تحقق النتيجة معيار القول بوجود العدول االختياري من عدمه ،وما دامت
النتيجة غير موجودة في الجرائم الشكلية فال مجال للقول فيها ال بالشروع وال بالعدول االختياري ،فالجريمة الشكلية إما
أن تقع تامة وإما أال تقع إطالقا.
المطلب الثالث
عالقة ( صلة أو رابطة) السببية
Le lien de causalité
م ؤدى التصور القانوني لعالقة السببية ،هو أنه لكي يكتمل البنيان القانوني للركن المادي للجريمة ،ال بد
أن يرتبط السلوك ،فعال كان أو امتناعا ،بالنتيجة المحظورة التي تحققت ،أي ارتباط السبب بالمسبب] ،[28وبعبارة
أخرى ،يجب أن يكون السلوك مسبب النتيجة ،فإن أمكن رد هذه النتيجة إلى عامل آخر غير السلوك الذي أتاه الجاني،
انقطعت الصلة السببية وانتفت مسؤولية الجاني عن النتيجة التي تحققت ،لذلك ،وحتى يسأل الشخص يجب أن يكون
سلوكه سبب حدوث النتيجة المحظورة قانونا ،إذ المنطق واعتبارات العدالة تقتضي مسائلة الشخص فقط عن النتائج التي
كانت ثمرة أفعاله المحظورة ،ال النتائج التي كانت ثمرة عامل أو عوامل أخرى.
ويجب أال نخلط بين صلة السببية التي تعد من عناصر الركن المادي للجريمة ،وبين النية اإلجرامية
التي تعد من عناصر الركن المعنوي للجريمة – في بعض الحاالت الضيقة ،-حيث هذه األخيرة عبارة عن مسألة نفسية
أو شخصية ،تتعلق بالموقف النفسي للجاني من النتيجة التي تحققت ،وما إن كان يريدها أم ال ،في حين صلة السببية من
األفكار الموضوعية اللصيقة بماديات الجريمة ال بجوانبها النفسية أو المعنوية.
غير أنه في الواقع توجد حاالت يتضح فيها بما ال يدع مجاال للشك ،أن الفعل الذي أتاه الجاني هو سبب
النتيجة المجرمة التي تحققت ،وفي هذه الحالة ال إشكال ،حيث يعد الركن المادي بأكمله منسوبا للشخص ،غير أنه وفي
حاالت أخرى كثيرة ،قد تتداخل عوامل كثيرة بين سلوك الجاني والنتيجة التي تحققت ،سواء كانت هذه العوامل سابقة أو
معاصرة أو الحقة لفعل الجاني ،وهو ما قد يعدل أو يؤخر حدوث النتيجة ،أو يجعلها تتحقق على نحو مخالف لما ارتآه
وأراده الجاني ،وبالرغم من أن هذه العوامل فيها الخفي والظاهر ،المألوف والشاذ ،المتوقع وغير المتوقع ،القوي
والضعيف] ...[29فكيف لنا أن نحدد سبب النتيجة في مثل هذه الحاالت؟ وبعبارة أخرى :كيف لنا الحكم بأن
سلوك الجاني هو سبب النتيجة؟ وما الحل القانوني لذلك في غياب النص التشريعي؟
في ظل المشاكل العملية التي أظهرتها مشكلة البحث في عالقة السببية ،وفي ظل سكوت المشرع عن
توضيح معيارها الدقيق ،حاول الفقه إيجاد حلول ففقهية لها ،محاوال في بداية األمر أن يعطي لها مفهوما علميا ،قائال أنه
للسببية مدلول علمي قبل أن يكون لها مدلول قانوني ،لذا يجب استخالص معيار علمي لها ال استنادا للتصور القانوني،
مستندين في ذلك لنظرية العالم " جون ستيوارت ميل" الذي عرف السبب علميا ،بأنه :مجموعة العوامل اإليجابية
والسلبية التي يستتبع تحققها حدوث النتيجة على نحو الزم ،لذلك فالسبب من الناحية العلمية ،يعني احتواءه على شرطي
اللزوم والكفاية في إحداث النتيجة ،أي احتوائه على المقومات الالزمة والكافية إلحداث هذه النتيجة ،غير أن هذا المفهوم
العلمي صعب التطبيق في مجال العلوم اإلنسانية عموما ،والعلوم القانونية خصوصا ،والقانون الجنائي باألخص ،كون
السبب في هذا القانون عبارة عن سلوك إنساني ال يمكن عزله عن األسباب األخرى المعاصرة أو السابقة أو الالحقة له،
وال يمكن تجريده والحكم عليه بمعزل عن مجمل الظروف والمالبسات المحيطة به ،لذا فالسببية في المجال الجنائي ال
يمكن أن تخلو من الجوانب الشخصية والنفسية ،لذلك من الصعب بمكان الحكم عن مدى صالحية السلوك في إحداث
النتيجة دون األخذ بعين االعتبار الموقف النفسي للجاني ،لذلك فشل هذا االتجاه ،وظهرت محاوالت فقهية أخرى بنت
حلولها على العديد من النظريات الفقهية ،نذكر أهمها في النقاط التالية.
الفرع األول
نظرية تعادل األسباب
( نظرية األسباب المتكافئة)
][124
نادى بهذه النظرية فريق من الفقه األلماني وعلى رأسهم الفقيه " فان بورغ ،" Van Burgومقتضاها
أن جميع األسباب التي تساهم في إحداث النتيجة تتعادل وتتساوى ويكون كل من ساهم في إحداث إحداها مسؤوال مع
البقية ،أي أن كل األسباب والعوامل التي تتدخل إلى جانب فعل الجاني تعد مسببة للنتيجة متى ساهم معها فعل الجاني
في إحداث النتيجة ،بغض النظر عن دور باقي األسباب األخرى ،وسواء كانت سابقة عن فعله أو معاصرة له أو الحقة
عليه ،وال تهم طبيعة هذه العوامل ،وما إن كانت مألوفة أو شاذة ،قوية
أو ضعيفة ،أو حتى ولو تداخل معها خطا المجني عليه] ،[30أو خطا الغير] ،[31أو القوة القاهرة] ،[32أو حتى ولو
كانت راجعة لفعل الطبيعة كالزالزل والفيضانات والعواصف ،ألن فعل الجاني في مثل هذه الحاالت ،يصبح جزءا من
سبب آخر" سبب السبب" ،أي العوامل األخرى ما كانت لتحدث النتيجة لوال فعل الجاني ،حتى ولو كان ضعيفا مقارنة
بها ،أو دوره ضئيال مقارنة بدور باقي األسباب والعوامل األخرى ،إذ فعل الجاني وفقا لهذه النظرية ،يكفي أن يكون
موجودا ضمن طائفة من األسباب األخرى ،حتى يمكن القول بأنه سبب في حدوث النتيجة ،ألنه لوال فعله لما تعاقبت
األحداث على هذا النحو .ووفقا لهذه النظرية تترتب العديد من النتائج القانونية التي تنعكس على باقي أفكار قانون
العقوبات ،تقتضي منا تناولها قبل الخوض في تقدير النظرية ككل.
][125
وهي نظرية من ابتكار الفقه األنجلوسكسوني] ،[33وتسمى أيضا نظرية السبب الفوري أو السبب
النشيط أو السبب األقوى ،والتي ترى وجوب اتصال النتيجة اتصاال مباشرا بفعل الجاني ،كونه السبب األقوى
أ و المباشر أو األساسي في إحداث النتيجة مقارنة مع األسباب األخرى ،بمعنى أن الفاعل يسأل عن النتيجة الضارة
التي جرم المشرع حدوثها ،متى كان فعله سببا قويا وأساسيا إلحداثها وفقا للمجرى العادي لألمور ،ومؤدى هذه النظرية
باختصار ،هو أن نطرح السؤال التالي :هل الفعل الذي ارتكبه الجاني ،باستبعاد العوامل األخرى التي تظارفت معه،
قادر لوحده على إحداث النتيجة الضارة التي وقعت؟ .فإن كان الجواب باإليجاب ،فإن الجاني يعد مسؤوال عن النتيجة
التي حدثت ،كما يعد مسؤوال عن كل النتائج األخرى المحتملة ،سواء توقعها أو لم يتوقعها ،ما دام أمر حدوثها وفقا
للمجرى العادي لألمور ممكن التصور ،وإن كان الجواب عن السؤال السابق بالنفي ،فالجاني ال يسأل عن النتيجة كون
فعله لم يكن سببا في حدوثها.
أوال :معيار النظرية
يتضح مما سبق ،بأن أنصار هذه النظرية أخذوا بمعيار مادي موضوعي ،ال معيار شخصي ،ألنها
نظرية تأخذ بتقدير األسباب ،وهي أمور موضوعية ال دخل لشخصية الجاني فيها ،ومعيار كل ذلك ،معيار الرجل
العادي الذي يوضع في نفس الظروف التي تواجد بها الجاني.
ثانيا :تقدير النظرية
بالرغم من وجاهة النظرية ،إال أنها لم تسلم بدورها من سهام النقد ،وأهم االنتقادات التي وجهت لها ،هو
عدم وضوح معيارها ،أي المعيار الذي يمكن من تحديد السبب المباشر واألساسي من بين سائر األسباب األخرى غير
المباشرة ،وأن القول بوجود سبب واحد للجريمة في ظل تعدد مسبباتها هو قول تعوزه الدقة] ،[34لذلك نجد الفقه قد جاء
بنظرية أخرى ،تعد لغاية اليوم ،وبإجماع الفقه ،أفضل النظريات التي قيل بها في صدد بحث مشكلة صلة السببية ،والتي
أخذت بها معظم التشريعات الجنائية ،سواء بصفة صريحة أو بصفة ضمنية ،كما تبناها القضاء في العديد من الدول،
وهي نظرية السبب المالئم ،التي نتناولها في الفرع الموالي.
الفرع الثالث
نظرية السبـــب المالئم
و هي نظرية ،على عكس النظريات السابقة ،أقامها أنصارها على معيار بسيط يشبه نوعا ما المعيار
الذي تبنته النظرية السابقة ،ومفاد هذا المعيار طرح السؤال التالي :هل باستطاعة فعل الجاني بحسب المجرى
العادي لألمور ،إحداث النتيجة بالرغم من تداخل عوامل أخرى معه؟] .[35وهي بذلك نظرية ال يأخذ أنصارها
بكل العوامل مثلما فعلت النظرية األولى ،وال تستبعد كل العوامل مثلما فعل أنصار نظرية السبب المنتج ،بل تأخذ فقط
بالعوامل المألوفة التي يعلم بها الجاني أو يتوقعها على األقل ،ومعيار التفرقة بين العوامل المألوفة والعوامل الشاذة غير
المألوفة ،هو معيار العلم ،أي متى كان يعلم الجاني أو يتوقع بعض العوامل المصاحبة لنشاطه كان العامل مألوفا وال
يمنع من مسائلته ،وإن كان يجهل ذلك ،عد العامل غير مألوف ويقطع اللصة بين النتيجة وفعله.
غير أن أهم انتقاد وجه إلعمال هذا المعيار ،أنه معيار شخصي ونسبي ينقلنا من إطار الركن المادي إلى إطار
الركن المعنوي ،في حين صلة السببية عنصر هام من عناصر الركن المادي يجب أن يستبعد من محيطها كل العوامل
النفسية والشخصية ،ويركز فيها فقط على المسائل واألمور المادية الموضوعية .كما أنه ال وجود لضابط يمكن من
الحكم بعلم الجاني بالعوامل من عدمه .لذا صحح أنصار هذه النظرية موقفهم ،وقالوا بمعيار الرجل العادي] ،[36عوض
معيار العلم ،وهو التصحيح الذي جعل منها من أكثر نظريات السببية قبوال ،وأخذت بها غالبية التشريعات بما فيها
المشرع الجزائري في نظرنا.
غير انه يمكننا القول كخالصة ،بأن أي من النظريات السابقة ،وبالرغم مما قدمته من إضاءة لكثير من جوانب
رابطة السببية في مجال الركن المادي للجريمة ،إال أنها لم تحل بصفة نهائية وحاسمة مشاكل هذه الفكرة القانونية،
ودليل ذلك هو تشتت الفقه بالرغم من ثراءه ،واضطراب القضاء بالرغم من اجتهاده ،لذا فتردد المشرع عن تكريس
معيار واضح ودقيق لرابطة السببية ،ال يخلو من دالالت ،وذلك بالنظر ألسباب التالية:
][126
-1إن رابطة السببية ذاتها تستعصي عن التعريف وفق مفهوم مطلق ومجرد ،ألن الفعل أو السلوك اإلنساني
يصعب تجريده بمعزل عن الظروف والعوامل المختلفة المحيطة به ،لذا فمثل هذا السلوك يتميز بطابع خاص نسبي
وشخصي أيضا تجعله يختلف من شخص آلخر ،بل لدى الشخص الواحد من حالة ألخرى ،ومن هذه العوامل
والظروف ،طبيعة الفع ل نفسه وزمان ومكان ارتكابه ،ووسيلة تنفيذه ،والمحل الذي يرد عليه ...لذا يجب الخروج من
إطار المفهوم المطلق المجرد لعالقة السببية إلى إطار الفهم الواقعي النسبي لها ،وذلك ال يمكن إال بتبني معيار
واقعي ونسبي لهذه العالقة ،يأخذ بعين االعتبار ظروف كل واقعة على حدة ،وذلك ال يمكن أن يتأتى إال بإعطاء القاضي
سلطة تقديرية تمكنه من استخالص هذه الرابطة من خالل الوقائع المعروضة عليه والظروف والمالبسات المحيطة بها.
-2انطالقا من التصور الواقعي النسبي لعالقة السببية ،يجب البحث فيما إن كان السلوك هو مسبب النتيجة في
إطار كل قضية على حدة ،وعلى أن يكون هذا السلوك متفوقا نسبيا على باقي العوامل األخرى التي سبقته أو صاحبته
أو تلته ،وهذا التفوق النسبي ال يستخلص استخالصا مجردا ،بل يستخلص واقعيا بالنظر لكافة الظروف والمالبسات
المحيطة بالسلوك ،وعلى ضوء دراسة كل العوامل بما فيها الشخصية ،ومن أهم المعايير التي قد تعين القاضي في ذلك:
طبيعة الجريمة وما إن كانت من الجرائم العمدية أو جرائم الخطأ ،بحيث ما قد يصلح الستخالص العالقة السببية في
النوع األول ،قد ال يصلح الستخالصها في النوع الثاني .شخصية الجاني ،وبحث مدى قدرته على التقدير ومدى قدرته
على العلم بما يتعين عليه أن يعلمه ،ألن سلوك اإلنسان يصعب تقديره بمعزل عن صاحبه .مراعاة زمان ومكان ارتكاب
الجريمة ،ألن ما يمكن أن يكون سببا للجريمة في النهار في ظل الحركة واالزدحام ،قد ال يمكنه أن يكون كذلك في
الليل ،وما يمكن أن يصلح ألن يكون سببا للجريمة في مكان قد ال يصلح ألن يكون كذلك في مكان آخر .شخصية
المجني عليه وسنه وظروفه الصحية والنفسية لها دور كبير في تقدير ما إن كان فعل الجاني هو السبب المباشر في
إحداث النتيجة الضارة.
وبعبارة أخرى ،يجب الخروج بصلة السببية من إطار المفهوم المجرد المطلق إلى رحاب الفهم
الواقعي النسبي ،كون النظريات السابقة ،وإن أضاءت جوانب هذه الفكرة القانونية المعقدة ،غير أن أي من هذه
النظريات لم يحل بصفة نهائية مسألة السببية ،ودليل ذلك أن أحكام القضاء ال تزال مترددة ومن العسير ردها إلى نظرية
من النظريات ،وذلك داخل البلد الواحد ،إذ في الدولة الواحدة يتراوح القضاء أحيانا من النقيض إلى النقيض .لذلك يمكن
القول بفإن المشرع الذي يعزف عن تكريس معيار للسببية له ما يبرره ،كون صلة السببية تستعصي أحيانا على
التعريف وفق مفهوم مجرد مطلق ،كون الفعل اإلنساني يصعب تجريده من ظروف وعوامل شتى تعطي له خصوصيته
وطابعه النسبي .لذا فمن الضروري األخذ بعين االعتبار كل العوامل والظروف المحيطة بسلوك اإلنسان ،وعلى
ضوئها يتم تقدير عالقة السببية ،لذا يجب أن يكون السلوك المسبب للنتيجة متفوق نسبيا عن باقي العوامل األخرى ،وهو
التفوق الذي يستخلصه قضاة الموضوع واقعيا ومن خالل كافة الظروف والمالبسات المحيطة بهذا السلوك ،في كل
قضية على حدة وعلى ضوء شخصية الجاني ذاته .كما تختلف باختالف أنواع الجرائم ،فما قد يصلح معيار الستخالص
عالقة السببية في جريمة قتل عمدي ،قد ال يصلح ألن يكون كذلك في جريمة قتل خطأ ،وأنه ال يمكن إعمال المقومات
المادية على حساب المقومات الشخصية ،فيجب أن تقدر صلة السببية بناء على مقومات السلوك المادية ،ومقومات
شخصية تستفاد من علم الجاني أو بما ينبغي عليه العلم به ،لذا فعالقة السببية تقوم على الفهمين المادي والشخصي ،أي
على الركنين المادي والمعنوي ،فالسلوك اإلنساني مهما كان ليس مادة مخبرية يتم إخضاعها للتجارب في المخبر .لذا
يجب إعطاء القضاء سلطة في استخالص صلة السببية ،كون الحكم الذي يأتي خاليا من بيان البناء القانوني للجريمة
يكون مشوبا بالقصور ويتعين نقضه ،والدفع بانتفاء صلة السببية من الدفوع الجوهرية التي يتعين على المحكمة
تمحيصها والرد عليها ،لكن القول بوجود أو انتفاء الصلة السببية من المسائل الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع
بتقديرها دون رقابة من محكمة النقض ،غير انه لهذه األخيرة رقابة على المعيار المعتمد من قبل محكمة الموضوع
الستخالص هذه الصلة.
][127
المبحث الثاني
المحاولة أو الشروع كصورة ناقصة للركن المادي
ع ادة ما يكتمل البنيان القانوني للجريمة بتوافر أركانها الثالثة العامة ،الركن الشرعي والركن المادي
والركن المعنوي ،وهو الوضع الغالب والطبيعي لكل الجرائم ،غير أن المشرع يتدخل أحيانا ويجرم بعض المظاهر
السلوكية التي ال تكتمل لها كل هذه األركان والعناصر ،سيما ما يتعلق منها بالركن المادي للجريمة ،فإن كان األصل أن
المشرع ال يعاقب إال على األفعال التي اكتملت ورتبت النتائج التي يعتد بها قانونا ،إال أنه يتدخل أحيانا بالعقاب دون أن
يصل هذا الركن لهذه المرحلة ،وهو الوضع في حال بعض الجرائم الناقصة التي تسمى شروعا .لذا قلنا بأن للركن
المادي للجريمة صورا خاصة ،تخرج عن إطار النموذج القانوني المكتمل والعادي للجريمة ،والمتمثل في ارتكاب
شخص لجريمة تامة فيعاقب عليه ،وهو وضع جريمة الشروع وفكرة المساهمة الجنائية ،التي نتناول كل منهما في
مبحث مستقل.
وقد سبق القول بأن الركن المادي للجريمة – سيما في الجرائم المادية ذات النتائج -يتطلب أن يترتب عن سلوك
الجاني نتيجة محظورة قانونا ،وأن تربط بينهما رابطة سببية ليكتمل الركن المادي قانونا ،لكن قد يحدث وأن يقوم
الجاني بسلوكه المحظور كامال ،غير أن النتيجة ال تتحقق ،أو أن يبدأ في سلوكه هذا وال يكمله ،سواء من تلقاء نفسه ،أو
نتيجة تدخل عوامل أخرى خارجة عن إرادته ،وفي كلتا الحالتين يعد الجاني قد شرع في فعله المجرم كله أو بعضه دون
أن يكتمل الركن المادي للجريمة ،وهو ما يسمى الشروع في الجريمة أو المحاولة فيها .وهو وضع يعني انه شرع في
ارتكاب الجريمة ،غير أنها لم تكتمل ،مما يجعلها عبارة عن جريمة ناقصة أوقفت في مراحها األولى ،أو استكمل
السلوك فيها وخاب أثرها لسبب خارجي ال دخل إلرادة الجاني فيه .وذلك حتى نكون بصدد جريمة الشروع المعاقب
عليه ،ألنه لو كانت إلرادة الجاني دخل في وقف الجريمة ،لكنا أمام فكرة العدول االختياري التي تنفي جريمة الشروع
أصال .لذا سنحاول أن نبين معنى الشروع وأنواعه والعلة من العقاب عليه ،في هذا التمهيد ،لنخصص المطالب ألركان
جريمة الشروع فقط ،بالنظر لخصوصية هذه األركان في هذا النوع من الجريمة.
أوال :مفهوم جريمة الشروع
عرف البعض الشروع بأنه :الحاالت التي يفشل فيها الفاعل في تحقيق جريمته ،أي ال تتحقق النتيجة المادية
المطلوبة لقيام الجريمة ،ورغم ذلك تم تعريض المصالح والحقوق المحمية قانونا للخطر ،ألن الشروع ينطوي على
احتمال اإلجهاز عليها في حال البدء في تنفيذ الجريمة .لذا يمكننا القول ،أن الشروع اعتداء محتمل على مصلحة أو حق
][128
محمي جنائيا ،والمشرع يحمي هذه األخيرة من االعتداءات الفعلية ومن مجرد احتمال وقوع مثل هذه االعتداءات]،[37
لذا فالشروع جريمة توافر فيها الركن المعنوي ولكن تخلف فيها اكتمال الركن المادي فقط ،سواء كان هذا التخلف
بصورة جزئية أو كلية ونكون أمام جريمة ناقصة ،وهذا النقص في البنيان القانوني للركن المادي للجريمة ينصب
تحديدا على عنصر النتيجة القانونية التي لم تتحقق لسبب ال دخل إلرادة الجاني فيه ،وبالتالي تصوير جريمة الشروع
على النحو السابق ،يستدعي إدراج المالحظات التالية:جوهر الشروع أنه جريمة ناقصة ،وهذا النقص ينحصر فقط في
تخلف تحقق النتيجة ،رغم ارتكاب السلوك المجرم كله أو في جزء منه.وتبعا لما سبق ،الشروع ال يثور كأصل عام ،إال
بالنسبة للجرائم المادية ذات النتائج ،وبالتالي فهو غير ممكن التصور في الجرائم الشكلية ذات السلوك المجرد المحض
– وقد سبقت اإلشارة لذلك -كونها في جوهرها جرائم تمثل مرحلة الشروع ،وبالتالي ال يمكن تصور الشروع في
الشروع .الشروع جريمة لم يكتمل ركنها المادي ،لكن الركن المعنوي فيها يبقى ركنا أساسيا ال يمكن تصور قيامها
بدونه ،وتلك إذن الحكمة من العقاب على الشروع ،وبالتالي يمكن القول مبدئيا ،بأنه ال شروع في الجرائم غير العمدية.
ثانيا :الهدف أو العلة من العقاب على الشروع
في حقيقة المر ثار السؤال في بعض الدول عن العلة من العقب عن جريمة الشروع ،خاصة وان
المشرع يعاقب على االعتداءات الفعلية على المصالح والحقوق المحمية قانونا ،كما ثار تساؤل آخر حول قدر العقاب
عن جريمة الشروع ،وما إن كان يجب أن يكون مساويا للعقاب عن الجريمة التامة أم اقل أم أكثر ؟
فبخصوص العلة من العقاب] ،[38يرى الفقه أن الشروع كجريمة وإن كان قد خاب أثرها ولم تعد تشكل
اعتداء فعليا ،فإنها تحولت إلى اعتداء محتمل أو خطر يهدد المصالح والحقوق المحمية قانونا ،وأن المشرع مثلما يحمي
ه ذه الحقوق من االعتداءات الفعلية ،فإنه يحميها أيضا من االعتداءات المحتملة ،والشروع جريمة تهدد بالخطر،
ومصدر هذا الخطر أفعال مادية ملموسة والتي حتى وإن كانت ناقصة ،إال أنها تعد بادرة الرتكاب الجرائم وتنبئ
بخطورة إجرامية لدى فاعلها أو القائم بها .لذا يعبر بعض الفقه في هذا النوع من الجرائم ،بأنه بالرغم من تخلف النتيجة
المحظورة قانونا ،إال أن الجريمة قد تمت من الناحية الشخصية ،لكنها خابت من الناحية المادية ،وأن االضطراب الذي
تحدثه الجريمة الخائبة في المجتمع ،أشد خطورة من االضطراب الذي يحدثه الشروع البسيط ،الذي يقصد به عدم
اكتمال السلوك.
ثالثا :أنواع الشروع ومجال تطبيقه
نصت المادة 30من قانون العقوبات الجزائري ،على أنه " :المادة ": 30كل المحاوالت الرتكاب
جناية تبتدئ بالشروع في التنفيذ أو بأفعال ال لبس فيها تؤدي مباشرة إلى ارتكابها ،تعتبر كالجناية نفسها إذا لم توقف أو
لم يخب أثرها إال نتيجة لظروف مستقلة عن إرادة مرتكبها حتى ولو لم يمكن بلوغ الهدف المقصود بسبب ظرف مادي
يجهله مرتكبها ، ".ونصت المادة ": 31المحاولة في الجنحة ال يعاقب عليها إال بناء على نص صريح في القانون.
والمحاولة في المخالفة ال يعاقب عليها إطالقا .".من نص المادة 30يتضح أنه للشروع صورتين ،صورة الجريمة
الخائبة التي يفرغ فيها الجاني كل نشاطه المادي ورغم ذلك ال تتحقق النتيجة المحظورة قانونا ،لظروف مستقلة عن
إرادة الجاني أو لظروف مادية يجهلها أصال ،وهو ما بينته الفقرة الثانية من المادة .30مستعملة عبارة " لم يخب
أثرها" ،بينما بينت الفقرة األولى صورة الشروع الناقص أو الجريمة الناقصة أو الجريمة الموقوفة ،وهي الصورة التي
لم يكتمل فيها السلوك أصال ،كون الجاني أوقف -لم يتوقف بمحض إرادته -لذا استعملت المادة عبارة " إن لم توقف"
المقصود بها اإليقاف االضطراري ،لكون العدول االختياري يخرجنا أصال من نطاق جريمة الشروع.
و بالتالي يمكننا القول بأن الشروع إما أن يكون تاما وتقابله الجريمة الخائبة التي لم تتحقق فيها النتيجة
المحظورة قانونا ،لكنها تبقى ممكنة الوقوع ،والجريمة المستحيلة ،وشروع ناقص وتقابله الجريمة الموقوفة ألن السلوك
فيها أوقف قبل اكتماله ،وقبل انتظار تحقق النتيجة من عدمه ،على أن يكون هذا التوقف اضطراريا ال اختياريا ،ألنه
سبق القول أن العدول االختياري ينفي جريمة الشروع تماما .وبالتالي الشروع نوعان ،شروع تام وشروع ناقص وهما
نوعا أو صورتا الشروع.
أما فيما يخص مجال تطبيق نظرية الشروع ،فيمكننا القول من خالل استقراء المادتين 30و 31من
تقنين العقوبات الجزائري ،بأن الشروع متصور في كل أنواع الجنايات بحسب المادة 30ق ع ج ،وفي الجنح في
][129
الحاالت التي يوجد فيها نص صريح يعاقب على الشروع بحسب المادة ،[39]1/31وال شروع إطالقا في مجال
المخالفات التي إما أن تتم كاملة أو ال تتم أصال بحسب المادة 2/31ق ع ج .وعلة عدم العقاب على الشروع في
المخالفات هو أنها جرائم بسيطة ال تنطوي على خطورة إجرامية كبيرة لدى الجاني ،في حين أن العقاب على الشروع
قرر أصال لمواجهة الخ طورة اإلجرامية لدى الجناة .كما أن المخالفات في العادة عبارة عن صور سلوكية تقع بالمخالفة
ألمور تنظيمية وإدارية ،ارتأى فيها المشرع العقاب على السلوك ذاته ،ال النتائج المترتبة عنه.
وعموما يمكن القول أن الشروع عبارة عن جريمة شأنه شأن الجرائم التامة ،وكل ما في األمر أن الركن
المادي فيه غير مكتمل العناصر ،لذا ال بد وأن تكتمل هل باقي األركان الالزمة لقيام الجرائم ،وهي األركان العامة
الثالثة المعروفة ،الركن الشرعي والركن المادي والركن المعنوي ،وإن كان الركن الشرعي ال يثير أي إشكال ،بحيث
القاعدة العامة في العقاب على الشروع في الجنايات هي المادة ،30وفي الشروع في الجنح نص المادة 1/31باإلضافة
إلى النص الخاص الذي يعاقب على الجنحة ،كما ال يثير الركن المعنوي أي إشكال ،بحيث هو نفسه الركن المعنوي
المشترط في الجرائم التامة -ولنا عودة إلى ذلك -ويبقى الركن المادي هو الذي يثير بعض الصعوبات ،بحيث سبق القول
بأن معيار التفرقة بين الجرائم التامة وجرائم الشروع هو عدم اكتمال الركن المادي في األخيرة ،األمر الذي يثير بعض
الصعوبات حول المرحلة التي يجب أن يصل فيها التنفيذ المادي للسلوك ،ومعيار التفرقة بين المراحل المعاقب عليها من
المراحل غير المعاقب عليها ،وكذا معيار التفرقة بين العدول المعاقب عليه والعدول غير المعاقب عليه .والموقف من
نوع من الجرائم تسمى ":بالجرائم المستحيلة" لذا فالمطالب التي سنتناولها في حقيقة األمر تخص عناصر الركن المادي
غير المكتمل في جريمة الشروع ،ألنه سبق القول بان الركنين الشرعي والمعنوي ال يثيران أي إشكال ،وإن كنا سنعود
للركن المعنوي في األخير بنوع من التفصيل المختصر ،لتبيان بعض األوضاع
الخاصة.
] - [1في قضية حكم فيها في فرنسا بتاريخ 1959-02-19وتسمى L’ affaire Reminiacوتتلخص وقائعها في أن
شخص يملك منزال ويشغل خادمة لديه ،وهي الخادمة التي اعتادت مالقاة عشيقها في حديقة المنزل وعلم صاحب المنزل بذلك،
فاستغل نص حاالت الدافع الممتازة المنصوص عليها بالمادة 329من تقنين العقوبات الفرنسي وأطلق النار على عشيق الخادمة
مما أدى لقتله ،ولما ثبت لمحكمة النقض أن صاحب المنزل يعرف بغرض الشخص ،فال يجب أن يستفيد من قرينة الدفاع
الممتاز،ومنذ ذلك الحين لم تعد بالقرينة القاطعة التي ال تقبل إثبات العكس.
] - [2قرار في 2003-09-29 :الملف رقم ": 316770 :ال يصلح تطبيق المادة 40على الواقعة المتمثلة في إطالق
النار من طرف المتهم على الضحية بحجة أن هذه األخيرة تهجمت عليه وضربته بكماشة ".وفي نفس القرار ":تقتضي الضرورة
الحالة للدفاع تبرير عدم وجود طريقة أو وسيلة لتفادي المواجهة واللجوء لرد االعتداء".
] - [3م ا دام المشرع الجزائري أجاز اشد الجرائم جسامة ،قد يفهم من النص أنه يجيز ضمنيا ما دون ذلك من جرائم.
] - [4حيث أن صاحب المسكن بمجرد رؤيته المعتدي يقوم بهذه األفعال ،فله اللجوء إلى صدها باألفعال السابقة ،كوننا
بصدد ال ليل الذي ال يترك فرصة للتقدير وال لمعرفة شخص المعتدي أو عددهم وما يمكن أن يكون يحمله من أسلحة ،بشرط أن
يكون حسن النية ،ال أن يكون يعلم بأنه ضيف أو شخص سبق له هو أن طلب منه المجيء ليال مرتبا المسألة بغرض االنتقام منه
واالستفادة من هذه الحاالت ،أو غير ذلك من مخططات غير مشروعة ،لذا سبق لمحكمة النقض الفرنسية أن قضت بأنها قرينة
تقبل إثبات العكس وفي الجزائر تخضع المسألة للسلطة التقديرية للقاضي يقدرها بناء على ظروف ومالبسات كل قضية على
حــــــــــدا.
] - [5وهنا يرى غالبية الفقه أن مفهوم الليل هو المفهوم القانوني ال المفهوم الفلكي ،والمفهوم القانوني يستمد من قانون
اإلجراءات الجزائية المتعلق بالتفتيش ( نص المادة 47التي ال تجيز التفتيش من الساعة الثامنة مساءا حتى الخامسة صباحا زيادة
على شروط أخرى) وإن كان هذا الرأي صحيح من وجهة النظر القانونية ،كون المفهوم الفلكي الليل يختلف باختالف الفصول
واألشهر ،ومدة الليل في الشتاء غيرها في الصيف ،غير أن المنطق يجعلنا نرى بأن يعتمد المشرع على المفهوم الفلكي ،وذلك في
نظرنا يكمن في سبب نراه جد وجيه ،وهو أن المشرع يدرك خطورة الليل وهي الخطورة النابعة من الظلمة ال من الوقت ذاته،
ألن ا لظالم هو الذي ال يسمح بالتقدير والحكم ويحمل الرهبة والخشية والخوف ،لذا يجب أن تعطى سلطة تقديرية للقاضي يقدر
][130
فيها الوقت الذي كان يحل فيه الليل وقت وقوع الحادثة ،مستعينا في ذلك بمحاضر الضبطية وحتى باالتصال بمصالح األرصاد
الجوية.
] - [6التي نصت على أنه ":يستفيد مرتكب جرائم القتل والجرح والضرب من األعذار إذا ارتكبها لدفع تسلق أو ثقب
أسوار أو حيطان أو تحطيم مداخل المنازل أو األماكن المسكونة أو ملحقاتها إذا حدث ذلك أثناء النهار .وإذا حدث ذلك أثناء
الليل فتطبق أحكام الفقرة األولى من المادة ."40
] - [7وتثار هنا مسألة القتل الرحيم أو القتل بدافع الشفقة أو القتل إشفاقا ،وهو موضوع شائك في الفقه والقضاء،
مثلها مثل مسألة أخرى ال تقل أهمية هي مسألة االنتحار ،والراجح فقها وقضاء أن القتل الرحيم يعتبر جريمة قتل متكاملة األركان
وال يعتد بالباعث على ارتكابها باعتبار أنه ال وزن للبواعث في قيام الجريمة ،وهي جريمة ال زالت تثير الكثير من الجدل الديني
والفلسفي والقانوني ،وتصدت بعض التشريعات له فأباحته ،واعتبرته تشريعات أخرى عذرا قانونيا مخففا كالتشريع اللبناني (
المادة ،)552كما تثار مسألة االنتحار وهو شخص هانت عليه نفسه فيهون عليه أي عقاب كما يقال ،لكن المسألة ثارت بالنسبة
للشخص الذي يساعد المنتحر ،وهو .في القانون الجزائري معاقب عليه..
] - [8ي رى البعض أن رضا المجني عليه ليس مبررا عاما لإلباحة ،بل يجب أن ينظر إليه في بعض أنواع الجرائم فقط،
ففي القانون اللبناني التي تقوم على ركن االعتراض على إرادة الغير يعد سببا لإلباحة في حالة وجود رضا المجني عليه ،ويرى
البعض أنه في الجرائم السابقة الجريمة لم تقم أصال ليس لسبب إباحة وإنما لتخلف أحد عناصرها.
] - [9ويرى البعض ،بأن الحقوق التي تعود للدولة ال رضاء فيها ،إذ ال يملك ممثل الدولة التنازل عنها ،كما أن الرضا
المقصود قبل ارتكاب الجريمة ال بعدها ،ألنه في هذه الحالة يصبح صفحا.
و قد قضت بعض المحاكم الفرنسية واألمريكية والبلجيكية بالبراءة في بعض قضايا القتل لتخليص الشخص من
اآلالم الحادة التي يعاني منها ،وحتى في إيطاليا إذ هناك قضايا قتل من يعانون من مرض السرطان حكم فيها بالبراءة بل انه في
بعضها ممثل النيابة هو الذي طالب بالبراءة ،كما قضي ببراءة األم والطبيب الذي سمم المولود المشوه خلقيا.
ففي سنة 1934قتلت ممثلة بولونية خطيبها المريض بالسرطان حتى تريحه من آالمه القاسية التي يعاني منها،
فقضت محكمة الجنايات ببراءتها ،وحتى النيابة العامة طالبت في مرافعتها ببراءتها .وفي عام 1962قتل عامل إيطالي آخاه الذي
يعاني من مرض خطير ويتعذب من جراء األالم فقضت محكمة كولمار ببرائته .وسنة 1950قتلت طالبة والدها المريض
بالسرطان على نحو غير قابل للشفاء والذي يعاني آالما شديدة ،فقضت المحكمة ببراءتها ،وفي العام ذاته قتل أحد األطباء زوجة
زميل له كانت مريضة بسرطان غير قابل للشفاء وتعاني أالما ال يمكن تحملها ،وقضت المحكمة ببراءته.
ومن القضايا التي شغلت القضاء البلجيكي قضية تعرف بقضية ليج Procès Liégeتتلخص وقائعها أنه سنة
1962رزقت أم بطفل مشوه الخلقة متأثرا بما تعاطته من أدوية مهدئة لألعصاب أثناء الحمل ،ورغبة في الرحمة بالمولود
وتخليصه مما يعانيه من آالم مروعة ،اتفقت األم مع طبيب األسرة على قتله بالسم ،وقد حكم ببراءة كل من األم والطبيب تحت
تصفيق الجمهور ،حيث تأثر بما قالته األم أثناء المرافعة منه ":لقد كان أمرا بسيطا للغاية ،ولم يكن هناك في الواقع أمر أستطيع
فعله ،وال يمكنني أن أرى طفلي يتعذب كل يوم ،إنه أمر يفوق ويتجاوز قدرة البشر .إن ضميري ال يؤنبني على اإلطالق".
كما أنه في سنة 1962قتل والد طفلته المريضة بحديقة المنزل ،وكانت الطفلة تعاني آالما قاسية تهز بعنف
قلوب بقية إخوتها ،وقضت محكمة جنايات الصين بمعاقبة الوالد بثالث سنوات حبس مع وقف التنفيذ.
] -[10كانغالق الباب فجأة على شخص وكسره لينقذ حريته ،وسرقة الطعام لسد الجوع إن لم يكن بالمقدور الحصول
عليه بالتسول أو بالنقود ،بالرغم من معارضة البعض بأن تكون المصالح االقتصادية سببا لحالة الضرورة ،غير أن سنوات
الحرب التي تلت فترة نابليون جعلت القضاء يعترفون بحالة الضرورة في الجوع.
] - [11لكن في فرنسا حكم بعدم توفر حالة الضرورة في قضية تتلخص وقائعها في أن أحد العمال تسبب بنزوحه إلى
المدينة بحثا عن حياة أفضل إلى تعرضه للبرودة الشديدة والبرد القارس مما هدد أطفاله بالموت ،مما جعله يغتصب شقة خالية بعد
أن كسر قفلها وأقام بها مع أوالده ،وأدين كونه كان سببا في خلق حالة الخطر عن طريق تركه الريف ونزوحه إلى المدينة ،وانتقد
الحكم على أساس أن النزوح إلى المدينة ال يعد من قبيل الخطأ.
] - [12ومحكمة النقض الفرنسية رفضت الطعن على حكم صدر بإدانة أحد معاوني الصحة بتهمة ممارسة مهنة الطب
بدون تصريح كان قد أجرى عملية جراحية لسيدة ادعى ضرورة مباشرتها قبل الوالدة ،ألنه ثبت للمحكمة عدم وجود ضرورة
عاجلة إلجراء الوالدة ،بدليل أن الوالدة لم تتم إال بعد ثمان ساعات على يد طبيب باطني ،في حين قضت بتوافر حالة الضرورة
في عملية جراحية أجراها طالب الطب لشخص في حالة خطرة بحيث لم يكن هناك متسع من الوقت لاللتجاء إلى طبيب أو إلى
المستشفى ،نقض في ،1968-02-20
][131
و قضت محكمة واشنطن بإدانة بعض العمال الذين استولوا على مواد البقالة من أحد المخازن بحجة أن الفقر
والحاجة قد دفعتهم إلى ارتكاب هذه الجريمة وذلك ألنه تبين للمحكمة أنه المتهمين لم يكونوا في وضع ال يمكنهم من االلتجاء
لوسيلة أخرى للحصو ل على الطعام ،ويرى البعض أن عامل في مصنع إذا حشرت يده في آلة دائرة وصار على وشك أن تجذب
هذه اآللة كامل جسمه فسارع شخص إلى قطع يده ،وآخر إلى تفجير اآللة ،فإن كال الشخصين كانا في حالة الضرورة.
] - [13يرى الفقه اإلنجليزي في مثل هذه األمثلة أن الخطأ منتفي ألنه سلوك الرجل العادي.
] - [14وفي هذا الصدد هناك قضية تسمى " " Vaux Villaineتتلخص وقائعها في أنه في 1870-10-27في قرية
Vauxبفرنسا قتل رجال المقاومة الفرنسية جنديا ألمانيا ،فقامت السلطات األلمانية بحبس أربعين فرنسيا وقرر مجلس الحرب
إعدام ثالثة منهم رميا بالرصاص ،وأعلمهم أحد الضباط بهذا القرار ومنحهم مهلة قدرها ثلث ساعة الختيار ثالثة منهم ،فتولى
واحد منهم اختيار الثالثة ووافق على ذلك بقيتهم ،وحوكم بعدها هذا الشخص وقضي ببراءته ،غير أنه لما أقامت أرملة أحد
المعدمين دعوى التعويض قضي من جديد بأنه ليس في حالة ضرورة ألنه اختار الضحايا بطريق األنانية اآلثمة والجبن البالغ في
سبيل المحافظة على البقاء.
] - [15وقد حدث وأن اصطدمت الباخرة األمريكية William Brownفي مارس 1971التي أبحرت من ميناء
ليفربول بجبل من الثلج ليال ،وبدأت تغمرها المياه فاستقل كل من الربان ومساعده قربا به بعض الركاب ثم الحظ مساعد الربان
أن القارب بدأت تغمره المياه نتيجة الثقل فأمر بإلقاء 14رجال بالمياه ،وأمام المحكمة دفع بتوافر حالة الضرورة فرفض دفعه
بحجة أن ه كان عليه اللجوء إلى الرقعة بين الضحايا وهي وسيلة أخرى تتفق مع العدالة واإلنسانية.
] - [16وفي بلجيكا قضي بعدم توافر حالة الضرورة لدى سائق السيارة الذي أراد تجنب قتل كلب فألحق أضرارا
بسيارة أخرى.
] - [17وهناك واقعة مشهورة ريجينا ضد دادلي وستيفن ،تتلخص وقائعها في أن ثالثة من البحارة اإلنجليز حطمت
سفينتهم إثر عاصفة هوجاء فاضطروا إلى النجاة بواسطة قارب صغير ،وبعدها اشتد بهم الجوع والعطش بعدما نفذت منهم
المؤونة التي كانت معهم ،فقام اثنين منهم بذبح الثالث وهو أصغرهما سنا وقاما بأكل لحمه وشرب دمه ،وأنقذتهم في اليوم الرابع
بعد هذه الجريمة سفينة وقدما بعدها للمحاكمة بتهمة القتل العمد ،فدفعا بتوافر حالة الضرورة باعتبار قتل الثالث كان الوسيلة
الوحيدة إلنقاذ حياتهم ،غير أن المحكمة رفضت هذا الدفع بناء على أنه إذا تعرض اإلنسان لخطر الموت ولم يكن في مقدوره
اإلفالت من هذا الخطر إال بقتل شخص بريء ،فإن التضحية من أجل غيره أعلى منه.
] - [18كما نرى أن تجريم النوايا يعد في حد ذاته مخالفة صريحة وصارخة لمبدأ الشرعية الجنائية ،كونه سبق لنا
القول أن مبدأ الشرعية يرتب نتيجة هامة ،مفادها حصر الجرائم وعقوباتها ،والمشرع أيا كانت الحيطة والحذر الذي يتمتع بها فإنه
يعجز عجزا تاما عن حصر النوايا .مما يجعله يخرق مبدأ الشرعية الجنائية في الحالة التي يسعى فيها لتجريم النوايا.
] - [19ويمكن تلخيص أهمية اشتراط الركن المادي للجريمة ،في أن العدالة تأبى العقاب على النوايا ،وأن النوايا ليست
ضارة بحد ذاتها ما لم تتجسد في العالم الخارجي المادي الملموس ،وأن تجريمها يشجع على المضي قدما في تحقيق المشروع
اإلجرامي لنهايته ما دام الشخص معرض للعقاب في الحالتين ،وأنها تصعب كثيرا في حال العقاب عليها من عملية اإلثبات ،مما
يؤدي في النهاية إلفالت الجناة خاصة المحترفين منهم من حكم القانون.
] - [20المشرع الجزائري كان يعاقب على جريمة الرشوة بموجب المادة 126وما بعدها من قانون العقوبات ،وعلى
جريمة االختالس في المادة 119من ذات القانون ،إال أن هذه المواد ألغيت بموجب القانون 01-06المؤرخ في -02-20
2006المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته ،الذي عرفت المادة /2ب منه الموظف العام.
] - [21ألن المشرع يشترط في كل جريمة سلوك معين يخشى منه ضررا أو مجرد اعتداء أو احتمال االعتداء على
الحقوق والمصالح المحمية قانونا ،وال يمكن تصور االعتداء بمجرد التفكير والتصميم أو بمجرد النوايا ،كونها ال تنطوي على
معنى اإلضرار آو باألحرى اإلضرار ،وإنما ما يخشاه المشرع هو األعمال التنفيذية التي تتجسد في أفعال خارجية يمكن إدراكها
بالحواس.
وننبه هنا ،بأنه هناك بعض المحاوالت للتحرر من مظاهر السلوك في إطار تطور نظرية الركن المادي
للجريمة ،حيث ظهرت تطورات حديثة كشفت عن محاوالت رامية للتحرر من هذا العنصر – عنصر الفعل أو السلوك -أين بدأت
تظهر " جرائم القالب الحر أو القالب الفضفاض" وهي جرائم ال يحدد فيها المشرع عناصر الفعل تحديدا دقيقا ،مثل الجرائم
االقتصادية وجرائم أمن الدولة ،وجرائم الفكر والرأي أي الجرائم الصحفية ،ففيها يستعمل المشرع عبارات عامة فضفاضة
ومطاطة تحتمل أن تستوعب كل صور السلوك الممكن تصورها ،وذلك في محاولة منه لعدم ترك أي فرصة لعدم العقاب،
كاستعمال المشرع لعبارات مثل" كل سلوك من شأنه أن يفضي "...دون أن يبين على وجه الدقة المظاهر التي يمكن أن يتخذها
][132
هذا السلوك ،كما نجد المشرع وفي كثير من األحيان يميل إلى تجريم مظاهر سلوكية معينة أكثر من تجريمه ألفعال محددة بعينها،
كتجريمه فعل التسول من دون أن يبين السلوكات التي تشكل جريمة التسول.
وللسلوك وفقا للفقه الجنائي مفهوم اصطالحي ضيق مقارنة بما له من اصطالح في باقي فروع المعرفة األخرى كعلم
النفس والفلسفة التي يشمل فيها السلوك الجوانب النفسية ،في حين في الفقه الجنائي ،السلوك يقتصر على النشاط اإلنساني الذي
اتخذ مظهرا خارجيا ،يمكن للغير أن يدركه أو يحس به ،ويتحدد السلوك المجرم من نص قانون العقوبات ذاته ،هذا القانون الذي
يبين أحيانا صورة السلوك وأحيانا أخرى يكتفي بتبيان أثره ،وذلك بالنظر للسلوك في حد ذاته ،إذ يقبل في بعض الحاالت التحديد
بذاته ،وأحيانا أخرى ال يمكن التدليل عليه إال بنتيجته ،فليس هناك في الحياة العلمية نشاط يسمى قتال ،بل نتيجة هذا السلوك التي
تبين أنه قتل ،ويطلق الفقه في الحاالت التي يمكن تبيان السلوك ذاته بالسلوك ذي القالب المقيد كونه ينحصر في فعل معين ،بينما
يطلق على السلوك في الحاالت األخرى السلوك ذي القالب الحر أو المطلق ،وهو السلوك الذي يمكن أن تكون له أكثر من
صورة ،والمرجع في تحديد النوعين هو النص الجنائي دوما .كما أن السلوك اإلجرامي ،شأنه شأن سائر النشاطات البشرية ال يقع
بمعزل عن سائر الظروف والمالبسات ،غير أن هذه المالبسات والظروف ما يتخذ الصفة القانونية ومنها ما يتخذ الصفة الواقعية،
ومنها ما يعتد بها القانون ومنها ما ال يعتد به ،وإذا ما كان يعتد بها القانون فتكون بذلك اإلطار القانوني الذي ينبغي وقوع السلوك
ضمنه ،وهي مالبسات وظروف تختلف من جريمة ألخرى ،قد تتعلق بزمان أو مكان ارتكاب الجريمة ،وقد تتعلق بصفة في
الجاني أو المجني عليه ،وقد تتعلق بنوع العالقة التي تربط بنيهم ....وهي بذلك تدخل
في صميم اهتمامات القسم الخاص للقانون الجنائي ال قسمه العام.
] - [22ويسمي الفقه هذا النوع من الجرائم التي ال يعتد فيها المشرع بالوسيلة المستعملة ،الجرائم ذات الوسيلة الحرة أو
الجرائم غير المقيدة ،تمييزا لها عن الجرائم التي يشترط فيها المشرع وسيلة معينة ،مثل جريمة القتل بالتسميم ،أو الضرب
باستعمال السالح األبيض.
] - [23تعبير " عدم الفعل" تعبير استعمله المشرع اللبناني للتعبير على هذا النوع من األفعال.
ومن الفقه من يرى في االمتناع ذلك الفعل اإليجابي الذي قام به الجاني وشغله عن أداء ما هو مطلوب منه
قانونا ،وهي ما سميت ب :نظرية الفعل البديل" التي قيل بها في الفقه األلماني ،ولقيت تأييد البعض في الفقه المصري ،والتي
تبرر أن االمتناع ليس عدما كون الجاني ال يظل ساكنا بل يقوم بفعل آخر إذ ما لم يقم بما أمره به القانون فهو بالضرورة يقوم
بفعل غيره ،وهذا الفعل يندمج في االمتناع يتحدد به ،ويمثل مظهره الخارجي أو حقيقته المادية ،لذا يجب أن يكون إراديا بدوره،
لذا عرف االمتناع وفقا لهذه النظرية ،بأنه :عدم فعل المطلوب وفعل غيره في الوقت عينه.
] - [24ف ي العادة ما تشكل الجرائم المادية أو جرائم الضرر عدوانا فعليا على الحقوق والمصالح المحمية قانونا ،بينما
تشكل الجرائم الشكلية أو جرائم الخطر مجرد عدوان محتمل يخشى منه المشرع أن يتحول إلى اعتداء فعلي – أي ضرر حقيقي-
] - [25ا لمسألة كالعادة بتنازعها المذهبين المعروفين الكالسيكي ويركز على النتيجة المادية ،والشخصية تركز على
إرادة الجاني حيث يعاقب حتى ولو لم يحدث نشاطه أية نتيجة ،الكالسيكية تزعمها بيكاريا وطالب بالنتيجة التي يحدثها نشاط
الجاني في العالم الخارجي ،وتزعم النظرية الشخصية أنصار المدرسة الوضعية الذين يركزون االهتمام بالخطورة اإلجرامية لدى
الجاني ال للنتيجة المترتبة على فعله.
] - [26ووفقا لهذا المفهوم يطلق عليها البعض مصطلح " الحدث".
] - [27والجريمة الشكلية تقع كاملة دون أن تتضمن أية نتيجة مادية ،وتسمى أيضا جرائم سلوك أو نشاط محض تمييزا
لها عن الجرائم ذات النتيجة ،ويرى بعض الفقه الفرنسي أن الجريمة الشكلية هي تلك التي ال يترتب عليها أي ضرر ،وهو رأي
اعتمد على كرة الضرر المحقق ،وأهملوا فكرة الضرر المحتمل .وعرفت الجريمة الشكلية بأنها الجريمة ال تتوافر فيها نتيجة
مادية أو هي التي ال يترتب عليها تغير في العالم الخارجي كأثر للنشاط اإلجرامي ،وهي تقع كاملة ال مجرد شروع ،وبالتالي ال
تأثير للعدول فيها ،وال مجال للبحث عن عالقة السببية فيها كون هذه العالقة تقوم على الربط بين السلوك والنتيجة وهذه األخيرة
منعدمة في هذا النوع من الجرائم .كون النتيجة فيها قانونية تتمثل في مجرد الخطر الذي يحيط بالمصلحة المحمية قانونا ،وهو
خطر مجرد ال خطر واقعي والنشاط قرينة قانونية على وجوده وال نحتاج حدوثه واقعيا .وبناء على ما سبق هناك ما يعرف
بجرائم الخطر ،وهي الجرائم التي تنطوي على مجرد تعريض المصلحة المحمية قانونا للخطر ،التي ازداد نوعها نتيجة التطور
والتقدم الفني والتغير في الحياة االجتماعية ومنها جرائم الخطر العام وهي التي تهدد المصالح العامة للخطر مثل نظام
الحكم ووسائل المواصالت وانتهاك أسرار الدفاع ،وجرائم خطر خاص التي تهدد المصالح الفردية.
] - [28إذ السببية بصفة عامة ومطلقة ،هي إسناد أي أمر من أمور الحياة إلى مسببه ،أما السببية في إطار الركن المادي
للجريمة ،فهي إسناد النتيجة المحظورة والمعاقب عليها إلى سلوك الفاعل المجرم ،وذلك عن طريق الربط بينهما ،أي أن يكون
][133
ا لسلوك سببا في حدوث هذه النتيجة ،بحيث إن لم يكن هو مسببها ،فال مجال لمسائلة فاعله حتى وإن كان سلوكا مجرما ،ما لم
تشكل الجريمة نوعا من الجرائم الشكلية ،إذ العبرة لدى المشرع في غالبية الجرائم المادية تكون بالنتيجة التي تحققت.
] - [29وللتدليل على ذلك ،يعطي الفقه العديد من األمثلة الغريبة ،التي ساقها هذا الفقه مبينا حالة التزاحم أو التعاصر أو
التدافع بين األسباب ،والتي تظهر في األخير على نحو وكأنها ساهمت جميعا في إحداث النتيجة مع فعل الجاني ،نذكر من بينها:
-1أطلق شخص النار على شخص آخر بقصد قتله ،فجرحه فقط وسقط على األرض ،فاصطدمت رأسه بشيء
صلب مما أحدث له نزيفا حادا في رأسه ،زاد من حالته سوءا ،واستدعي اإلسعاف إال أن سيارة اإلسعاف تأخرت في الوصول،
وحين وصلت وحملت المصاب انقلبت في الطريق إثر حادث مرور ،وعندما نقل المريض إلى المستشفى لم يكن هناك طبيب
جراح ،ولما وصل األخير بعد فترة أجرى عملية جراحية للمريض وهو مخمورا ،فباءت العملية بالفسل ومات المصاب ،فأي
سبب من األسباب السابقة سبب الوفاة؟ هل هو مطلق النار ،أم سائق سيارة اإلسعاف الذي تأخر ثم تسبب في حادث مرور ،أم
الطبيب الذي تأخر وأجرى العملية الجراحية وهو مخمورا؟
-2وضع احدهم السم في الطعام لشخص آخر بقصد تسميمه ،ثم ركب األخير قطارا مسافرا فاصطدم القطار
بقطار آخر في حادث مروع ،فما سبب الوفاة؟
-3ضرب شخص آخر وكان األخير مصاب بمرض القلب ،فتوفي بعدما أصيب بنوبة قلبية مصاحبة لواقعة
االعتداء بالضرب عليه ،فمن يكون سبب للوفاة؟ الضرب المبحر الذي تعرض له؟ أم النوبة القلبية المصاحبة للضرب؟
هذه التساؤالت هي التي أثارت مشكلة بحث نظرية السببية ،بالرغم من أننا نرى بأن الكثير من المشاكل السابقة،
أصبح باإلمكان اليوم حلها عن طريق الطب الشرعي ،للتأكد من السبب الدقيق المسبب للوفاة.
] - [30كإهمال المجني عليه في عالج نفسه من جرح كان قد تلقاه نتيجة ضرب وجرح ارتكبه عليه الجاني ،الذي لم
تكن ضربته لتقتل المجني عليه ،لوال إهمال الخير في عالج نفسه ،مما سبب له تعفن في الجرح وأدى لوفاته ،لكن وفقا لهذه
النظرية ،لوال فعل الجاني لما جرح المجني عليه ولما أهمل نفسه وال تعفن جرحه وتوفي ،لذا فالجاني مسؤول كون فعله سبب
السبب.
] - [31مثل المثال السابق ،ويضاف له خطأ الطبيب الذي عوض أن يعطي المجني عليه دواء مفيد لجراحه ويقضي
على تعفنها ،أعطاه دواء أثر على قلبه وأدى إلى توقفه ،ففعل الجاني رغم كل ذلك كان سببا في كل هذه األسباب ويسأل إلى جانب
الطبيب عن هذه الجريمة وفقا لهذه النظرية.
] - [32كأن نضيف لألمثلة السابقة ،تهدم المستشفى الذي كان به المجني عليه.
] - [33هناك من الفقه ،من يرى أنها نظرية من ابتكار الفقه األلماني أيضا ،شأنها شأن النظرية السابقة .بل أنها أسبق
في الظهور من جميع النظريات األخرى ،وقد طبقها الفقه الفرنسي لمدة طويلة من الزمن.
] - [34هذه االنتقادات وغيرها ،دفعت أنصار هذه النظرية لمحاولة إنقاذها عن طريق فكرة أخرى مفادها تقسيم هذه
النظرية إلى شقين ،األول وهو األخذ بالسبب األخير في السياق الزمني لألحداث باعتباره السبب الملتصق بالنتيجة برابط وثيق
الصلة ،واعتباره السبب المباشر في إحداث النتيجة ،وفي حال عدم التمكن من تحديد هذا السبب بدقة ،يأتي دور الشق الثاني من
محاولة اإلنقاذ هذه ،وهو الشق المتعلق بفكرة السبب المتحرك ،إذ قسموا األسباب إلى أسباب متحركة وأخرى ساكنة ،والمتحركة
وحدها التي يمكن أن تحقق النتيجة ،غير أن هذه المحاولة لم تشفع لها ،ووجهت لها ذات االنتقادات ،وأهمها :ما المعيار الذي
يمكن من تحديد األسباب المتحركة من بين السباب الساكنة.
] - [35قد يظهر تقارب هذا السؤال مع السؤال الذي أرده نصار النظرية السابقة ،إال أنه في تقديرنا ،السؤال الذي
طرحه أنصار نظرية السبب المنتج ،سؤال يتعلق بتقدير فعل الجاني وحده وما إن كان قادر لوحده على إحداث النتيجة ،بينما في
هذه النظرية ،السؤال نرى أنه ينصرف لتقدير العوامل التي تضافرت مع فعل الجاني ،وما إن كانت هي سبب النتيجة ،أم سببها
فعل الجاني وحــــده.
] - [36أ خذ النظرية بمعيار الرجل العادي ،جعل بعض الفقه يرى في هذه النظرية أنها نفسها نظرية السبب المنتج،
وقالوا بوجود نظريتين فقط ،دون نظرية السبب المالئم.
] - [37قد يعجز الجاني عن تحقيق النتيجة المادية التي لزم القانون تحققها لقيام الجريمة ،رغم إتيانه لكافة األفعال التي
يهدف من ورائه ترتيب النتيجة المذكورة ،أي البدء في تنفيذ المشروع اإلجرامي والعجز عن تكملته ،لكن بما أن المشرع يحمي
المصالح من اإلضرار بها ومن تعريضها لألخطار ،فإنه لم يقصر تجريمه على العدوان الكامل بل شمل أيضا العدوان الناقص،
وهو ما يسمى الشروع الذي يتشابه مع الجريمة الشكلية في تخلف النتيجة المادية في كل منهما ،غير أن الجريمة الشكلية تامة
مقارنة مع الشروع الذي يعد جريمة ناقصة ،والنتيجة المادية في الجريمة الشكلية ال تتحقق باسم القانون ،بينما ال تتحقق في
][134
جريمة الشروع بإيقاف أو خيبة نشاط الجاني ،وتعريف الشروع ،أنه :جريمة ناقصة غير مكتملة ،وهي جريمة توافر لها الركن
المعنوي لكن تخلف فيها الركن المادي بصورة كلية أو جزئية ،وهو بذلك عبارة عن جريمة ناقصة وهذا النقص يتعلق بالبنيان
ا لقانوني للجريمة فيما يتعلق بمادياتها ،وينصب هذا النقص تحديدا على النتيجة المجرمة ،التي ال تقع لسبب ال دخل إلرادة الجاني
فيه
] - [38في الحقيقة المسألة تنازعها أيضا االتجاهان الموضوعي والشخصي ،المذهب المادي أو الموضوعي الذي نادى
به الفقه األلماني منذ القرن التاسع عشر الذي يرى أن األفعال المادية التي أتاها الجاني تحدث اضطرابا ماديا في المجتمع ،واتجاه
ثاني شخصي ينادي به الفقه اإليطالي أو أنصار المدرسة الوضعية ويرى أن علة العقاب على الشروع يرجع للرغبة في مواجهة
الخطورة اإلجرامية التي تبين استعداد الجاني الرتكب الجرائم مستقبال ،وبالتالي يجب التصرف ضده بمجرد إظهاره لهذه
الخطورة متى عبر عنها بأعمال خارجية
] - [39ويقصد بالنص الصريح في القانون أن يوجد بالنص المعاقب على الجنحة ما يفيد انه يعاقب فها على الشروع
أيضا ،ومن أمثلة هذه الجنح في قانون العقوبات الجزائري ،محاولة كسر األختام العمومية المادة ،2/155محاولة الهروب من
أماكن الحبس ،2/188محاولة التزوير في المحررات الرسمية ،219محاولة إفشاء أسرار المؤسسة لألجانب ،302محاولة
اإلجهاض ،309محاولة السرقة .....350
][135
المطلب األول
البـــدء في التنفيذ كعنصر أول في الركن المادي لجريمة الشروع
الجريمة كمشروع إجرامي يهدف من خالله الجاني لتحقيق نتيجة معينة ،يمر بالعديد من المراحل ،منها
ما يعاقب عليه المشرع ،ومنها ما هو غير معاقب عليه ،ومعيار التفرقة بين المرحلتين هو " البدء في التنفيذ"] ،[1بحيث
ال عق اب على المراحل التي تسبقه ،على عكس المراحل التالية له ،األمر الذي يقتضي منا تبيان هذه المراحل والتمييز
بينها ،ثم البحث في المعيار المميز لفكرة البدء في التنفيذ التي تعد محور دراسة نظرية الشروع في الجريمة.
الفرع األول
المراحل غير المعاقب عليها قانونا
سبق القول بأن القانون ال يعاقب على النوايا مهما كانت شريرة ،لذا فهو ال يعاقب على كل المسائل
الداخلية النفسية التي لم تتجسد في الحيز المادي ولم يعبر عنها بفعل مادي ،وعلى أساس ذلك ،فإنه لو تصورنا مسار
الجريمة كمشروع ،نجدها تمر بالعديد من المراحل ،تنتهي بمرحلة أخيرة هي مرحلة تمام الجريمة ،وهي المرحلة التي
تهمنا في دراستنا هذه كون الشروع مرحلة سابقة عليها ،لتبقى أمامنا مراحل أخرى ،يمكن لنا القول بأن البعض منها
نفسي خالص] ،[2والبعض اآلخر يقترن ببعض السلوكات.
أوال :مرحلة النوايا الكامنة][3
وهي مرحلة عبارة عن أفكار ونوايا تختلج صدر الجاني ،وتكون فيها الجريمة عبارة عن مجرد فكرة
كامنة يشوبها التفكير لغاية عقد التصميم على ارتكابها ،وهي مراحل ال يحفل بها القانون وال يعاقب عليها ،حتى ولو
أفصح عنها صاحبها للغير ،ما لم يرق هذا اإلفصاح لحد التحريض.
ومعظم القوانين الحديثة ال تعاقب على هذه المرحلة ،وتتفق بأنه ليس للقانون سلطان على النوايا وال
على ما يختلج بصدر اإلنسان ،حيث أنها عبارة عن نوايا لم تحدث اضطرابا بالمجتمع بعد ،خاصة وأن النوايا عبارة
عن أحاديث نفس من الصعوبة إثباتها والتأكد من وجودها ،وأنه من األفضل عدم العقاب عليها لترك باب العدول مفتوحا
لتشجيع األشخاص عليه ،وبالتالي ليس للقانون سلطان على الضمائر حتى وإن كان العزم على ارتكاب الجرائم يشكل
خطيئة أخالقة تستحق التأنيب والتكفير ،وإن كان أنصار المدرسة الشخصية يرون العقاب على هذه المرحلة ،كونها
تعبر عن إ رادة إجرامية تعد مصدر للقلق واالضطراب في المجتمع ،والخطورة اإلجرامية هي المراد الذي ينبعث منه
اإلجرام ،وأنه لمعالجة هذا األخير يجب أن نعالج الداء من أساسه.
ثانيا :مرحلة النوايا الكاشفة عن خطورة إجرامية
وهي مرحلة بالرغم من أنها ال تزال في طور النوايا والخواطر ،إال أنها وعلى عكس المرحلة السابقة
تقترن بقدر من السلوك الذي يفصح عنها ،إذ يبدأ في التحضير لجريمته ،كشراء المعدات الالزمة الرتكاب الجريمة ،إال
أنها مرحلة ليست قاطعة الداللة على ارتكاب الجريمة بالفعل ،غير أننا نجد في بعض األحيان المشرع يتدخل بالعقاب
على هذه المرحلة بوصفها جرائم مستقلة ال بوصفها شروع في ارتكاب جرائم ،مثل تجريم حيازة سالح بدون
رخصة] ،[4أو جريمة تقليد المفاتيح].[5
و علة عدم العقاب على المرحلة التحضيرية للجرائم ،هو أنها أعمال قابلة للتأويل في مرماها ،مما
يجعلها غير كافية للكشف عن نية الفاعل بصورة واضحة وأكيدة ،فمن اشترى آلة حادة يكون قد اشتراها الستعمالها في
قتل غريمه ،أو لغرض آخر مشروع ،وبالتالي هي أعمال مبهمة وقابلة للتأويل ،لذا فليس من الحكمة العقاب على
ظواهر وأمارات ال ترقى لمرتبة الوقائع الثابتة.
ثالثا :مرحلة البدء في تنفيذ الجريمة
وهي المرحلة التي تمثل الشروع في الجريمة المعاقب عليها ،وهي تشمل كل فعل يعتبر بدء في تنفيذ
الجناية أو الجنحة إذا كان معاقب على الشروع فيها ،وهي مرحلة تتميز بتجاوز الجاني لمرحلة التحضير لجريمته
والشروع في تنفيذ عدوانه على الحق أو المصلحة المحمية قانونا ،على نحو يمكن القول معه أن الجاني تجاوز مرحلة
العزم والتفكير والتحضير ،وانتقل لمرحلة تنفيذ العمل اإلجرامي .لكن اإلشكال الكبير الذي يواجهنا وال يزال يواجه
][136
الفقه ،هو مسألة المعيار الذي يمكننا من الفصل بين المرحلة التحضيرية ومرحلة البدء في التنفيذ ،خاصة وانه هناك
أحوال كثيرة ال يمكن فيها الجزم ما إن كانت األفعال التي أتاها الجاني تعد أعمال تحضيرية أو تجاوزت البدء في
التنفيذ .إذ في الكثير من األحيان ما تظهر األعمال التحضيرية على أنها بدء في التنفيذ والعكس صحيح].[6
الفرع الثاني
معيار التمييز بين األعمال التحضيرية والبدء في التنفيذ
انقسم الفقه بغرض إيجاد معيار دقيق يمكن من التمييز بين األعمال التحضيرية والبدء في تنفيذ
الجريمة - ،وكالعادة -إلى اتجاهين أساسيين ،اتجاه موضوعي يركز على ماديات الجريمة أو على ركنها المادي ،وآخر
شخصي يركز على نفسية الج اني وذهنيته وخطورته اإلجرامية ،وبين هذا وذاك ،نجد الفقه قد أضاف مذهبا ثالثا اتخذ
موقف وسط ،وسمي باالتجاه أو المذهب المختلط ،آخذا من مزايا كل من المذهبين السابقين وتاركا مساوئهما .باإلضافة
إلى بعض المحاوالت الفقهية الفردية األخرى ،وأهمها معيار الفقيه البلجيكي جارو.
أوال :المذهب الموضوعي أو المادي
و فقا ألنصار المذهب المادي أو الموضوعي ،نكون بصدد البدء في تنفيذ الجريمة ،بالشروع في ارتكاب
الركن المادي المكون للجريمة ،على النحو المرسوم في النص التجريمي ،وما عدا ذلك – أي قبل هذه المرحلة -يعد
العمل تحضيري ا غير معاقب عليه ،ففي جريمة السرقة ال يعد بدء في التنفيذ سوى الفعل الذي يمس به الجاني حيازة
الغير للمال ،كوضع اليد بالفعل على هذا المال ،وفي جريمة القتل ال يعد بدء في التنفيذ سوى الفعل الذي يتضمن خطر
إزهاق روح المجني عليه ،كإطالق الرصاص اتجاهه ،وما عدا ذلك يعد من قبيل العمال التحضيرية كون النص
القانوني لم يجعلها من مكونات الركن المادي للجريمة.
و بالتالي تمتاز هذه النظرية بإرسائها لمعيار واضح وسهل ودقيق ،بالرغم من أنه وجهت لها انتقادات
تتمحور في مجملها بأنها ال تحقق حماية فعالة للمجتمع ضد مجرمين أظهرت أفعالهم أنهم تقربوا كثيرا من تحقيق
نتائجهم المقصودة ،وتؤدي إلى إفالت الكثير من الجناة من العقاب ،ال لشيء سوى ألنهم لم يرتكبوا بعد فعال من األفعال
المصورة في نص التجريم ،بالرغم من أنهم أبانوا بوضوح عن خطورة إجرامية كبيرة ،إذ وفقا لمذهب هذه النظرية ال
يعد الشخص مرتكبا لجريمة السرقة ،بالرغم من اقتحامه المنزل وتفتيشه الخزانة ،إال إذا عثر على األموال ووضع يده
عليها] ،[7وال يعد مرتكبا لجريمة القتل من صوب السالح اتجاه غريمه وأطلق النار عليه إال بعد أن يصيبه.
واالنتقادات السابقة وغيرها ،جعلت من أنصار هذا المذهب يحاولون إنقاذه عن طريق التوسع في
المعيار السابق ،قائلين بأن البدء في التنفيذ ،وباإلضافة إلى البدء في تنفيذ الفعل المكون للركن المادي للجريمة ،فهو
أيضا البدء في ارتكاب كل فعل يعتبر ظرفا مشددا للجريمة ،مثل الكسر والتسور والتسلق في جريمة السرقة ،غير أن
هذا التوسع لم يجعل النظرية تسلم من انتقادات جديدة ،وأهمها أنه ليست كل الجرائم مما يمكن أن تقترن بالظروف
المشددة ،كما انه وفي الجرائم التي تقبل ذلك ،هناك ظروف ال يمكن إخضاعها لهذا المعيار ،مثل ظرف التعدد وظرف
الليل في جريمة السرقة ،حيث ال نكون أمام جريمة السرقة إذا ارتكبت نهارا ،على عكس الحالة التي ترتكب فيها ليال،
لذا قيل أنه معيار غير دقيق.
لذا حاول أنصار هذا االتجاه إنقاذه مرة أخرى ،قائلين هذه المرة بأن البدء في التنفيذ هو ارتكاب فعل
واضح الداللة على النية اإلجرامية للفاعل ،حيث أنه إن كان العمل التحضيري يحتمل أكثر من داللة كونه قابل للتأويل،
فإن البدء في التنفيذ ال يفصح سوى عن داللة واحدة ،وهي اتجاه الجاني نحو ارتكاب الجريمة .غير أن ما يمكن
مالحظته بخصوص هذا التوسع ،هو هجر الجوانب الموضوعية التي يعتمدها أنصار المذهب الموضوعي دوما،
ودخولهم متاهات النوايا التي يعتمدها في األصل أنصار المذهب الشخصي.
][137
م ؤدى هذا االتجاه ،أن البدء في التنفيذ هو كل فعل يصدر عن الجاني ويفصح عن خطورته ونيته
الواضحة في ارتكاب الجريمة ،أي هو كل سلوك يسلك به الجاني نهائيا طريق الجريمة ،ويصبح عدوله عنها أمرا غير
محتمل ،أو هو الفعل الذي يؤدي حاال ومباشرة إلى ارتكاب الجريمة ،بحيث لم يعد يفصل الجاني عنها سوى خطوة
صغيرة لو ترك وشأنه لخطاها ،ويعبر عن ذلك بالقول " :حرق الجاني سفنه أو جسوره وراءه" .ويالحظ على هذه
النظرية أنها تركز اهتمامها على إرادة الجاني ،بحيث يعد بدءا في التنفيذ كل فعل يعد كذلك في نظر الجاني ،إذ يؤدي
حاال ومباشرة إلى ارتكاب الجريمة بحسب نيته ،وهي النية التي تستخلص من الظروف المحيطة بالجاني ،كسوابقه
وعالقته بالمجني عليه وأنواع األسلحة والوسائل التي يستعملها ...وبالتالي نكون أمام البدء في التنفيذ كلما كان الفعل
الذي أتاه الجاني في ظروف معينة يكشف عن نيته اإلجرامية ويدل على أنه لو ترك على حاله ألفضى الفعل إلى تحقيق
النتيجة المجرمة.
و من االنتقادات الموجهة لهذا المذهب ،أنه مذهب تعوزه الدقة والوضوح واالنضباط ،إذ يصعب القطع
بت وافر نية ارتكاب الجريمة لمجرد صدور فعل عن الجاني قد يحتمل أكثر من داللة ،وأنه اتجاه يقلب منطق األمور ،إذ
عوضا أن يكون الفعل هو مظهر االستدالل على النية ،أصبحت هذه األخيرة مظهر للداللة على خطورة الفعل ،وبعبارة
مختصرة ال يمكننا دراسة الركن المعنوي للجريمة قبل دراسة ركنها المادي .وإن كانت هذه النظرية في حقيقة األمر
تحمي بفعالية المجتمع وتضحي بالحريات الفردية.
لكن وفي رأينا نرى بأن إعمال النظريتين معا ،يمكن أن نحدد به ،وإن لم يكن بدقة فبدرجة كبيرة ،البدء
في تنفيذ الجريمة ،خاصة في الحالة التي ال نهمل فيها الظروف المحيطة بالفعل وبالجاني ،كأن يكون الفعل ذاته صالحا
إلحداث النتيجة المجرمة قانونا ،وذلك بحسب المجرى العادي لألمور ،مع مراعاة حالة الجاني والمجني عليه ،وزمان
ومكان ارتكاب الجريمة ،ودون إهمال نية الجاني في الظروف التي ارتكب فيها فعله .ولعل ذلك ما دفع إلى ظهور
المعيار المختلط أو المرن الذي توسط االتجاهين السابقين.
ثالثا :المذهب المختلط ( المرن)
أمام االنتقادات التي وجهت لكال االتجاهين السابقين – وإن كان االتجاه الموضوعي هو األكثر قبوال
قضاء -اقتنع الفقه بضرورة إيجاد معيار مختلط سمي بالمعيار المرن ،حيث اعتبروا البدء في التنفيذ ،هو الفعل الذي
يؤدي حاال ومباشرة وفقا للمجرى العادي لألمور إلى ارتكاب الجريمة ،وأن يقع هذا الفعل في زمن قريب نسبيا من
لحظة تنفيذ الجريمة ،وأن تكون نية الجاني واضحة ال غموض فيها على عزمه النهائي الرتكاب جريمته .وبالتالي
المعيار وفقا لهذا االتجاه ،ليس موضوعيا بحتا وال شخصيا صرفا ،وإنما هو مزيج بينهما ،يستمد من النظرية
الموضوعية خطورة الفعل وصالحيته وفقا للمجرى العادي لألمور لتحقيق النتيجة ،ويستمد من النظرية الشخصية داللة
الفعل على عزم صاحبه على تحقيق الجريمة .كما يحسب ألنصار هذا االتجاه عدم التقيد بالمعايير الجامدة والمجردة ،بل
تعتمد التقدير الواقعي المتغير الذي يختلف من جريمة ألخرى ،ومن فاعل آلخر ،سيما في ظل خطورة فكرة البدء في
التنفيذ الذي يعد التضييق أو التوسع فيه تعديا على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ،لذا رأى أنصار هذا االتجاه ،تقدير
البدء في التنفيذ على ضوء جملة من االعتبارات ال المعايير ،وأهمها :وجوب ارتكاب فعل من األفعال التي تدخل في
تكوين الركن المادي للجريمة ،كون الجرائم أفعال قبل كل شيء ،وأن يكون فعل مرتبط على األقل بالركن المادي برباط
سببي وزمني يفضي في نهاية المطاف ووفقا للعادي والمألوف والمتصور إلى حدوث النتيجة المحظورة قانونا.
وأن يفصح السلوك السابق عن نية إجرامية نهائية لدى الجاني .زيادة على األخذ بعين االعتبار بكافة الظروف
والمالبسات ،سواء تعلقت بالسلوك ذاته ،أو بالجاني أو بالظروف المحيطة بهما معا ،وهي الظروف والمالبسات التي ال
يمكن بأي حال من األحوال حصرها سلفا كونها تنأى عن كل حصر ،بل يترك تقديرها لقضاة الموضوع يقدرونها في
كل حالة على حدا.
][138
صراحة على كونها بدء في التنفيذ ،وهي تلك األفعال التي ال تسمح بالعدول وتؤدي حاال ومباشرة الرتكاب الجريمة،
وهو ما استمد من المذهب الشخصي ،لذا فالبدء في التنفيذ commencement d’exécutionهي تلك األفعال التي ال
لبس فيها non équivoqueوالتي تشكل فعال بدء في التنفيذ ،وتؤدي مباشرة إلى ارتكاب الجريمة Tendant
،directement à le commettreواستعار أيضا عبارة أنصار المذهب الشخصي ،وهي أن الجاني يقطع جسوره
وراءه. lorsque l’individu à ente,du couper les tous pont derrière lui
خامسا :موقف المشرع الجزائري
نرى شخصيا انه باستقراء المادة 30من تقنين العقوبات الجزائري ،أن المشرع الجزائري أخذ بالرأي
األخير ،أي رأي الفقيه البلجيكي جارو ،حيث نصت هذه المادة على أنه ":كل محاوالت الرتكاب جناية تبتدئ بالشروع
في التنفيذ أو بأفعال ال لبس فيها تؤدي مباشرة إلى ارتكابها ،تعتبر كالجناية نفسها إذا لم توقف أو لم يخب أثرها إال
نتيجة لظروف مست قلة عن إرادة مرتكبها حتى ولو لم يكن بلوغ الهدف المقصود بسبب ظرف مادي يجهله
مرتكبها.[8]".
غير أن المعيار الصحيح للبدء في التنفيذ ،في رأي الكثير من الفقه ،هو وجوب وجود عالقة موضوعية
بين فعل الشروع وتلك الجريمة التي يراد الشروع فيها ،وهي العالقة التي تتحدد بتحديد الحكمة من تجريم الشروع
ذاته ،وهي تجريم الشروع العتدائه على الحق جزئيا أو تعريضه للخطر ،لذا يجب أن يكون الفعل يمثل خطرا مباشرا
أو مصر لخطر مباشر على الحق الذي تحميه القاعدة الجنائية ،وهي األمور التي ال يمكن أن تستنتج فقط من عقد العزم
من قبل الشخص على االعتداء على الحق المحمي قانونا ،وإنما بناء على إمكانات موضوعية يصح القول معها أن
العدوان على الحق قد صار وشيكا ،أي أن يكون الفعل صالح حسب المجرى العادي لألمور أن يفضي مباشرة إلى
الجريمة ،وأن كل ما منع من تمامها هو حائل خارج عن إرادة الجاني ،وهو ما يقتضي بالضرورة النظر إلى طبيعة
الجريمة ذاتها ،والظروف والمالبسات التي صاحبت ارتكابها ،ألنه ما يصلح ألن يكون بدء في تنفيذ جريمة ما ،قد ال
يكون صالحا لبدء تنفيذ جريمة أخرى ،لذا فصالحية الفعل يجب أن تكون على درجة من القوة يمكن القول معها بأن
وقوع الجريمة أصبح أمرا وشيكا ،وهي األفعال التي تبدو للرجل العادي شديدة القرب من الجريمة إلى الحد الذي يحمله
إلى االعتقاد بأنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الوقوع ،لذا فالمعيار هو ذو طبيعة موضوعية خالصة وما الركن
المعنوي سوى نفسه في الشروع والجريمة التامة ،وهي الحكمة من تجريم الشروع] .[9في حين يرى البعض وجوب
تجاوز المعايير السابقة والوقوف عند تقدير واقعي متغير يتجاوز المعايير المجردة ،خاصة وأن خطورة معيار البدء
في التنفيذ مزدوجة ،فهي إما أن تؤدي إلى التوسع أو التضييق من العقاب وفي الحالتين يكون ذلك على حساب مبدأ
الشرعية الجنائية ،لذا وجب تقدير معيار البدء في التنفيذ بناء على جملة من االعتبارات ال المعايير المجردة ،أهمها
ارتكاب فعل من األفعال المعتبرة من ماديات الجريمة أو على األقل يرتبط بها برابطة سببية وزمنية تفضي في نهاية
المطاف ووفقا للعادي والمألوف والمتصور إلى إحداث النتيجة المحظورة قانونا ،وأن يفصح الشخص بهذا الفعل على
نية إجرامية نهائية ليست مستقلة بل كاشفة عن داللة الفعل الذي يوقع ،أن يستهدف السلوك أو الفعل السابق المقرون بنية
إجرامية مصلحة أو حق محمي قانونا ،مع األخذ بعين االعتبار بكافة الظروف والمالبسات المحيطة بفعل الجاني
وبالجاني ذاته ،وهي عوامل ال يمكن تحديدها سلفا وال إخضاعها للحصر ،بل تترك لقضاة الموضوع يقدرونها في كل
حالة على حدة .ويعبر الفقه عن ذلك بمعيار الالمعيار للبدء في التنفيذ ،لذا ينبغي تجاوز الصيغ النظرية المجردة
وصوال إلى تقدير واقعي يمكن من أن يختلف األمر من جريمة ألخرى ،ومن جاني آلخر ،خاصة في ظل أننا بصدد
سلوكات إنسانية نسبية ومتغيرة بطبيعتها ال يمكن أن تحيط أية نظرية مهما بدت محكمة من اإلحاطة بكافة جوانبه ،لذا
فال مناص من إعمال المظاهر الواقعية التي تكتنف الجريمة ذاتها،وتتعلق بالفاعل نفسه
المطلب الثاني
العنصر الثاني من الركن المادي للشروع
عدم تمــــام الجريمة
][139
الشروع في حقيقته مرحلة من مراحل الجريمة التامة ،أو هو جريمة غير تامة ،وعدم التمام راجع لوقف الفعل
أو خيبة أثره ،وهو ما يبين صور الشروع ،وهما صورتان ،الشروع الناقص أو الجريمة الموقوفة أين ال يتم السلوك
بأكمله ،وصورة الشروع التام أين يتم السلوك كله وال تتحقق النتيجة ،ويسمى الجريمة الخائبة.
وال فرق قانونا بينهما حيث في كالهما يتدخل المشرع بالعقاب على الشروع ،وإن كانت فكرة الجريمة
المستحيلة قد أثارت جدال فقهيا وقضائيا كبيرين ،من زاوية أن عدم تحقق النتيجة أمر وارد منذ البداية ،حيث أن اإلخفاق
فيها ظاهر منذ البداية ،وإن كان هذا الخالف قد دفع بعض التشريعات إلى التدخل لفضه صراحة ،إال أن البعض اآلخر
لم يفعل مثلما هو الشأن بالنسبة لغالبية التشريعات ،بما فيها المشرع الجزائري .لذا فتخلف النتيجة لسبب خارج عن
إرادة الجاني ،يعد العنصر الثاني من عناصر الركن المادي لجريمة الشروع ،إذ ال يمكن أن نكون بصدد المحاولة أو
الشروع إال في الحاالت التي ال تتم فيها الجريمة ،إما إليقاف الجاني عن إتمامها وهو وضع الشروع الناقص أو
الجريمة الناقصة ،أو لكون أثر سلوكه خاب
أ و يستحيل أن يرتب النتيجة المقصودة مثل حاالت الجريمة الخائبة أو الجريمة المستحيلة ،وهي حالة الشروع التام.
وبالتالي يجب أن يكون تخلف النتيجة بسبب ظرف أو سبب خارج عن إرادة الجاني،ألنه لو كانت إلرادته دخل في عدم
تحقق النتيجة كنا بصدد العدول االختياري الذي ينفي جريمة الشروع أصال] ،[10في حين هذه الخيرة تقتضي تخلف
النتيجة لسبب أو ظرف خارج عن إرادة الجاني .لذا فهذا الركن يقتضي منا دراسة العدول االختياري الذي يخرجنا من
مجال جريمة الشروع ،وتمييزه عن العدول االضطراري الذي يقيم هذه الجريمة ،وكذا تناول الحاالت التي يلتبس فيها
العدول .كما يقتضي منا الوضع الوقوف عن فكرة الجريمة المستحيلة.
الفرع األول
العدول عن إتمام الجريمة
من شروط قيام جريمة الشروع ،عدم تحقق النتيجة ،على أن يكون ذلك راجع لسبب خارجي ال دخل
إلرادة الجاني فيه ،أي أن يكون مضطرا في ذلك ،سواء أوقف أو منع ،أو كانت النتيجة غير ممكنة الوقوع أو يستحيل
وقوعها ،وهو األمر الذي يؤكد في مجال نظرية العدول ،أنه حتى يكون هناك شروع ،يجب أن يكون عدول الجاني
عدو ال اضطراريا ،حيث إن كان اختياريا انتفت الجريمة ،لذا فالمسألة تقتضي منا تناول العدول االختياري أوال،
باعتباره يخرجنا من نطاق جريمة الشروع ،لنتناول بعده العدول االضطراري الذي يبقينا في نطاق هذه الجريمة ،وفي
نقطة ثالثة نتناول نوع من العدول المختلط الذي يجمع بين النوعين السابقين.
أوال :العدول االختياري
ي هدف المشرع إلى خلق حافز لدى الجاني على عدم المضي في مشروعه اإلجرامي إلى نهايته ،فنص
على عدم عقابه إن هو عدل بإرادته عن إتمام الجريمة التي شرع في تنفيذها ،وهي الحالة التي تعرف بالعدول
االختياري أو العدول اإلرادي ،أين يقوم الجاني بنفسه بالحيلولة دون وقوع النتيجة ،كأن يدخل لمنزل ألجل سرقته لكنه
يعود أدراجه من تلقاء نفسه دون أن يقوم بسرقة األموال ،أو أن يشهر سالحه في وجه غريمه ثم يعدل عن ذلك قبل
الضغط على الزناد .ويرى البعض أننا نكون بصدد عدول اختياري إذا سارع الجاني إلى إلغاء مفعول النتيجة بعد
وقوعها ،كأن يقدم طعاما مخلوطا بالسم لغريمه ،وسرعانما يسارع لتنبيهه وإعطاء الترياق للمجني عليه ،مما يحول
دون إحداث أثار السم ،غير أن الفقه الفرنسي في هذه الحالة يسميه توبة إيجابية الحقة ،خاصة وأن جريمة التسميم في
القانون الفرنسي – وهو نفس الوضع في القانون الجزائري -جريمة شكلية تقوم بمجرد تقديم السم دون ربطه بضرورة
تحقيق النتيجة.
لذا فالعدول اإلرادي بجب أن يكون مبعثه إرادة الجاني نفسه وليس سببا آخر] ،[11وال يهم بعد ذلك
الدافع لهذا العدول ،فقد يكون ندما أو الخوف من افتضاح األمر أو شفقة على المجني عليه أو خشية إلقاء القبض عليه،
أو حتى رغبة من الجاني في تأجيل التنفيذ لمرة أخرى الحقة ،وكل ما يهم في األمر هو أن يكون العدول من تلقاء نفس
الجاني ،أي نابع من أسباب داخلية نفسية .لذلك يمكن القول أن شروط العدول االختياري أو اإلرادي هي:
-تراجع تلقائي من قبل الجاني عن إتمام جريمته بالرغم من قدرته على المضي فيها.
][140
-أن يكون هذا التراجع نابع من إرادة الجاني وبكامل حريته.
-أ ن يكون العدول قبل إتمام الجريمة ،وإال أصبح مجرد توبة ،وهذه األخيرة تكون سببا لتخفيف العقاب ال
المتناعه.
-ال يمكن تصور العدول إال في الشروع الناقص ،أي الجرائم الناقصة ال الخائبة وال المستحيلة.
ثانيا :العدول االضطراري
و هو عدول غير إرادي أو غير اختياري ،ويرجع إلى ظروف خارجية تفرض على الجاني عدم إتمام
جريمته ،بمعنى أن تكون إرادة الجاني مضطرة للعدول ،كأن يصاب الجاني بحالة إغماء بعد بدءه التنفيذ وال يستطيع
إتمامها ،أو كمن يدخل منزل مريدا سرقته وال يجد أموال فيعود أدراجه ،ففي هذه الحاالت جريمة الشروع تكون قائمة
وموجبة للعقاب ،كون العدول كان بتأثير عوامل خارجية تدفع الجاني للعدول عن جريمته ،في حين المشرع يشجع فقط
العدول االختياري ليكون دافعا لعدم المضي في إتمام الجرائم.
ثالثا :العدول المختلط
و هو عدول يكون ثمرة عوامل إرادية وأخرى غير إرادية ،كالجاني الذي يخيل إليه سماع أصوات أقدام
فيظن أنهم أصحاب البيت ،فيعدل عن إتمام جريمة سرقة المنزل الذي كان قد دخله ،أو يسمع بوق سيارة الشرطة فيعتقد
باكتشاف أمره فيتوقف عن إتمام تنفيذ جريمته ،وعموما هي حاالت توجد فيها حقيقة ظروف خارجية بعيدة عن إرادة
الجاني ،غير أنها ال تصل إلى حد إجباره عن العدول ،غير أنها أحدثت لديه بعض المؤثرات النفسية جعلت منه يعدل
بالرغم من أنه كان بإم كانه المواصلة ،وهنا ثار تساءل عما إن كان مثل هذا العدول عدوال إراديا يحول دون قيام جريمة
الشروع ،أم عدول اضطراري ال يحول دون قيام جريمة الشروع وعقاب الجاني عنها؟ .أحدث حكم العدول المختلط
خالفا فقهيا كبيرا ،حيث ذهب بعض الفقه إلى ترجيح الطابع اإلرادي للعدول باعتبار أن العامل الخارجي الذي اعتقده
الجاني ما هو إال باعث ،ومن مبادئ القوانين العقابية الحديثة أنها ال تهتم بالبواعث ،وبالتالي يلحق العدول المختلط في
حكمه بالعدول اإلرادي الذي ال تقوم به جريمة الشروع .بينما ذهب اتجاه فقهي آخر للقول بالطابع الالإرادي للعدول
المختلط ،ألن العدول ال يكون إراديا إال إذا كان مبعثه أسباب نفسية داخلية وما عدا ذلك فهو عدول اضطراري تقوم به
جريمة الشروع وتوجب العقاب.
بينما ذهب اتجاه فقهي ثالث وسط ،للقول بوجوب االعتداد بالعامل الغالب في العدول ،فإن كان العامل
الغالب هو اإلرادة ،فالعدول يكون اختياريا ال تقوم به جريمة الشروع ،وإن كانت العامل الغالب هو العامل الخارجي،
كان العدول اضطراريا تقوم به جريمة الشروع ،وفي حالة الشك في تغليب أحدهما لآلخر يغلب العامل اإلرادي ألن
الشك يفسر لمصلحة المتهم .ونرى ترك المسالة للسلطة التقديرية للقاضي ،ليقدر ما إن كان بإمكان الجاني االستمرار
في جريمته بالرغم من قيام الظرف الخارجي أم أثر في نفسيته بشكل حال دون تمكنه من االستمرار في التنفيذ ،فإن كان
االختيار بيد الجاني وعدل عن إتمام جريمته كان عدوال اختياريا ،وفي الحالة العكسية يكون عدوال اضطراريا تقوم به
جريمة الشروع ،ودوما يفسر لشك في مصلحة المتهم .وهو الموقف الذي نراه متبعا في القانون الجزائري ،فللقاضي أن
يقدر المسألة تبعا لظروف كل قضية على حالـــة.
الفرع الثاني
الجريمة المستحيلة كصورة خاصة للشروع
قد يستحيل ارتكاب الجريمة وذلك بعدم تحقق نتيجتها لسبب ال دخل إلرادة الجاني فيه ،كأن يطلق
الشخص الرصاص اتجاه شخص آخر بقصد قتله ،فإذا بهذا األخير قد يكون توفي نتيجة سكتة قلبية قبل إصابته
بالرصاص ،أو كمن يضع يده في جيب شخص آخر بغرض سرقته لكنه يتفاجا بوجود الجيب فارغا ،أو كمن يحاول قتل
][141
شخص بسالح يكون قد أفرغ من قذائفه دون أن يعلم] ،[12وهي ما تسمى بالجريمة المستحيلة التي أثارت خالفا فقهيا
فرنسيا كبيرا ،حول مفهومها ومدى ضرورة العقاب عليها ،خاصة في ظل خلو تقنين العقوبات الفرنسي من نص يبين
موقفه من هذا النوع من الجرائم] ،[13لذا انصب الخالف حول ما إن كان مد حكم الجريمة الخائبة على الجريمة
المستحيلة ،باعتبار أن المجرم في كلتا الحالتين يكون قد استنفذ كامل السلوك المجرم غير أن النتيجة تخلفت لسبب
خارج عن إرادته ،لذا ثار التساؤل عما كان يعاقب عليها مثل الجريمة الخائبة ،أم أنها نوع من الجرائم يخرج أصال من
نطاق الشروع المعاقب عليه ،باعتبارها جرائم مستحيل الوقوع منذ البداية.
و لإلجابة عن هذا السؤال ،ثار الخالف مثلما هو عليه الوضع دوما بين االتجاهين التقليديين ،االتجاه
الموضوعي واالتجاه الشخصي ،األول ويضع نصب أعينه ماديات الجريمة ويرى عدم العقاب على الجريمة المستحيلة
في كافة صورها ،والثاني الخطورة اإلجرامية لدى الجاني ،ويرى العقاب على الجريمة المستحيلة بكل أنواعها ،كون
الجاني قد أبان عن خطورة إجرامية كانت كامنة لديه ،غير أن تطرف المذهبين أدى في النهاية – ومثلما هو عليه الحال
دوما -إلى ظهور مذاهب توفيقية ،وهي مذاهب حاولت هذه المرة التفرقة بين صور االستحالة ،منها ما يرى أن
االستحالة قد تكون مطلقة وقد تكون نسبية ،والثاني يرى أنها قد تكون قانونية وقد تكون مادية ،وكل منها يحاول العقاب
على نوع من األنواع دون النوع اآلخر.
أوال :االتجــــاه الشخصي
العقاب على الجريمة المستحيلة في كافة صورها
ي رى أنصار المذهب الشخصي بأنه ال فرق بين الجريمة المستحيلة والجريمة الخائبة ،وبين النوعين
والجريمة الموقوفة ،ففي كل هذه األنواع يكون الجاني مرتكبا لجريمة الشروع ،وعلة ذلك أن المشرع في عقابه على
الشروع لم ينظر إلى الضرر المادي الذي قد يصيب الفرد والمجتمع من جريمة الشروع ،بل ينظر إلى الخطورة
اإلجرامية التي أظهرها الجاني بأفعال خارجية ذات صلة مباشرة بالجريمة ،فكلما توفرت مثل هذه الخطورة لدى الجاني
توجب عقابه دون حاجة للبحث ما إن كانت الجريمة مستحيلة أو ممكنة أو ما إلى غير ذلك ،فوفقا ألنصار هذا االتجاه،
استحالة تحقق النتيجة في الجريمة المستحيلة ال يمحي عن الجاني خطورته اإلجرامية ،سيما وأن علة العقاب على
الشروع هو عدم تعريض المصالح والحقوق للخطر ،وهو ما عيب عليها ،كون الخطورة تستمد من خطورة الفعل ذاته
مضافا لها خطورة الجاني.
ثانيا :االتجاه الموضوعي ( المادي )
عدم العقاب على الجريمة المستحيلة في كافة صورها
و هو أقدم االتجاهات والذي يتبناه الفقه األلماني وبعض الفقه الفرنسي ،والذي يبنون رأيهم على أنه ال
يمكن الشروع فيما ال يمكن الشروع فيه ،وال يمكن البدء في تنفيذ ما ال يمكن تنفيذه ،وأن كل ما أفصح عليه الجاني في
الجريمة المستحيلة ،هو نية إجرامية ،والقانون ال يعاقب على النوايا ما لم ترتب أضرارا اجتماعية ،وفي الجريمة
المستحيلة ال يوجد ضرر وال مجرد تهديد بحصول هذا الضرر ،وبالتالي األمر ال يستحق ال التجريم وال العقاب .غير
أن ما و جه لهذه النظرية من انتقادات هو تضييقها كثيرا من نطاق العقاب مما يعصف بحقوق المجتمع ،فالشخص الذي
يضع يده في جيب شخص آخر ويجده خاويا وفقا لهذه النظرية ال يعاقب ،بالرغم من أن فعله يعد شروعا تاما ،لذلك
هجرت هذه النظرية ولم يبق في الفقه من يؤيدها.
][142
-1التفرقة بين االستحالة المطلقة واالستحالة النسبية
قصر العقاب على االستحالة النسبية دون االستحالة المطلقة
وهو اتجاه ينسب في حقيقة األمر ألنصار المذهب الموضوعي أو المادي ،وميزوا بين نوعين من
االستحالة ،استحالة مطلقة وال عقاب عليها ،واستحالة نسبية تبرر عقاب الجاني .ورأوا بأن االستحالة المطلقة قد تتعلق
بمحل الجريمة أو بوسيلة ارتكابها ،ومثال األولى أن يكون المحل المادي للجريمة أو موضوعها منعدما ،كأن يكون
الشخص المراد قتله في جريمة القتل متوفيا من قبل ،أو محاولة إجهاض امرأة غير حامل أصال ،ومثال عدم صالحية
الوسيلة كاستعمال سالح ناري للقتل ويكون غير صالح لذلك ،أو يكون خاليا من الرصاص أو محاولة التسميم بمادة غير
مؤذية للصحة تماما .وهنا ال يمكن القول بوجود جريمة الشروع وال يمكن العقاب عليها.
وأما االستحالة النسبية فقد ترد أيضا على المحل أو على الوسيلة ،لكن ال أن يكون المحل غير موجود
أصال أو الوسيلة غير صالحة أصال ،وإنما أن يكون المحل وقت الجريمة فقط غير موجود،
أو استعمال الوسيلة لم يكن بالنحو الصحيح لتشغيلها ،ففي مثال جريمة القتل ،كأن يكون المجني عليه لحظة ارتكاب
الفعل غير موجود بالمكان الذي اعتاد أن ينام فيه ،أو استعمال السالح لم يكن بالطريقة السليمة،
أ و في جريمة السرقة السابقة نقل المجني عليه قبل ارتكاب الجريمة إلى جيب آخر .وفي هذا النوع من االستحالة تقوم
جريمة الشروع ويعاقب المجني عليه .كون االستحالة في هذا النوع عبارة فقط عن جريمة خائبة ال مستحيلة.
و هي التفرقة التي انتقدت بشدة من قبل الفقه ،على اعتبارها تفرقة غير منطقية ،كون االستحالة نوع
واحدة وحالة واحدة وال تقبل أي تفرقة ،فالجريمة إما أن تكون ممكنة وإما أال تكون ممكنة ،أي مستحيلة ،وال توجد
درجات لالستحالة .لذا ظهر اتجاه آخر وسط يفرق بين أنواع االستحالة ،لكن يقول بنوعين آخرين منها ،وهي استحالة
قانونية وأخرى مادية.
-2التفرقــــة بين االستحالة المادية واالستحالة القانونية
قصر العقاب على االستحالة المادية دون االستحالة القانونية
و هو اتجاه وسط تبناه فريق من الفقه الفرنسي ،والذي على غرار ما قام به أنصار االتجاه األول ،قام
بالتفرقة بين نوعين من االستحالة ،لكنه جعلها استحالة مادية وأخرى قانونية ،وقصر العقاب على االستحالة المادية دون
و وفقا لهذا االتجاه ،االستحالة القانونية قد ترجع بصفة عامة إلى انعدام محل الجريمة أو انتفاء االستحالة القانونية.
عنصر من عناصرها القانونية ،فهنا ال جريمة وال شروع وال عقاب ،حيث الجريمة ال تقوم أصال بدون عنصر من
العناصر المتطلبة قانونا لقيامها ،كسبق وفاة المراد قتله أو ملكية الجاني للمال المسروق الذي اعتقد أنه ملك للغير ،في
حين االستحالة المادية ترجع إلى سبب مادي واقعي ال قانوني ،كعدم استعمال وسيلة ارتكاب الجريمة استعماال سليما،
وهنا تقوم جريمة الشروع ويعاقب عليها الجاني.
رابعا :موقف المشرع الجزائري من الجريمة المستحيلة
يتضح من نص المادة 30من تقنين العقوبات الجزائري ،أن المشرع الجزائري يعاقب على الجريمة
المستحيلة ،إذ يعاقب بصراحة على االستحالة المادية وفقا للرأي السابق ،حيث استعمل فكرة " الظرف المادي" دون
الظرف القانوني ،ألن هذا األخير ال يقيم الجريمة أصال ،حيث نصت المادة على أنه... ":حتى ولو لم يمكن بلوغ الهدف
المقصود بسبب ظرف مادي يجهله مرتكبها .".غير أن المشرع يستثني بعض الحاالت الخاصة ،مثلما هو الشأن بالنسبة
لجريمة اإلجهاض ،المنصوص والمعاقب عليها بموجب نص المادة ،304حيث يتوقف العقاب على هذه الجريمة على
حمل المرأة أو مجرد افتراض حملها .في حين يرى البعض تعليق العقاب على الجريمة المستحيلة على عنصر " العلم"،
وهو أهم عناصر القصد الجنائي ،حيث إن كان الجاني ال يعلم بأن الوسيلة غير صالحة إلحداث النتيجة ،أو أن محل
الجريمة ال يوجد أو منعدم عوقب ،أما إن كان يعلم بذلك فهو ال يعاقب كون علمه هذا يقود لعلمه أن النتيجة مستحيلة
الحدوث وبالتالي يعلم جيدا أن الجريمة ال تقوم].[14
المطلب الثالث
الركن المعنوي لجريمة الشروع
][143
الشروع جريمة ،وبالتالي ال يكفي لقيامها مجرد البدء في تنفيذ الركن المادي للجريمة ،وعدم تحقق
النتيجة ،و إنما يجب أن يتوفر لدى الجاني قصد تحقيق هذه الجريمة ،وهنا يمكن القول بأنه ال فرق بين جريمة الشروع
والجريمة التامة من حيث الركن المعنوي ،بل الفرق ينحصر في الركن المادي فقط ،وبالضبط في عنصر النتيجة ،حيث
تتحقق في الجريمة التامة ،وتتخلف في جريمة الشروع .لذا يمكن القول أن جريمة الشروع جريمة عمدية يجب لقيامها
اتجاه قصد الجاني إلى إتيان السلوك المجرم بقصد تحقيق النتيجة المجرمة قانونا ،وبمعنى آخر يجب أن تنصرف إرادة
الجاني في البداية إلى تحقيق جريمة تامة ،وليس مجرد الشروع فيها ،فإذا ثبت أن إرادة الجاني لم تتجه إلى إتمام
الجريمة ،وإنما الوقوف بفعله عند حد معين ،كالجرح مثال ،فال يمكن أن يسأل عن المحاولة في القتل ،ألنه لم يقصد
تحقيقه ،بل يسأل عن الضرب المفضي للوفاة باعتباره جريمة مستقلة وقائمة بذاتها .ونتيجة لما سبق ،سنحاول دراسة
الشروع في الجرائم غير العمدية وفي الجرائم المتجاوزة القصد.
الفرع األول
الشروع في الجرائم غير العمدية
د ون استعراض الخالف الفقهي ،يمكن القول مباشرة ،أنه ال يمكن تصور الشروع في الجرائم غير
العمدية ،كون الركن المعنوي في هذا النوع من الجرائم ال يقوم على إرادة تحقيق النتيجة ،بل هذه األخيرة تحققت فقط
التخاذ سلوك خاطئ ،وسبق القول في الشروع أن الجاني يريد تحقيق النتيجة وتتخلف لظرف خارج عن إرادته،
وبالتالي ال شروع في الجرائم غير العمدية ،وإن كان يمكن تخلف جريمة يقيم جريمة غير عمدية أخرى ،فقيادة السيارة
بسرعة فائقة في طريق مزدحم بالمارة ال يعد شروعا في القتل الخطأ لكن يقيم جريمة تجاوز السرعة المحددة قانونا،
وإصابة شخص دون أن تحدث له الوفاة ،ال يعد جريمة الشروع في القتل الخطأ ،بل يشكل جريمة أخرى هي جريمة
الجروح الخطأ.
الفرع الثاني
الشروع في الجرائم المتعدية ( المتجاوزة) القصد
وهي جرائم يقترف فيها الجاني سلوكا معينا قاصدا منه تحقيق نتيجة إجرامية معينة ،فإذا بالنتيجة التي
تتحقق تكون أشد جسامة ،لكن لم يكن يقصدها الجاني إطالقا ،وبالتالي ال يمكن تصور الشروع فيها كونها نتيجة كانت
غير مقصودة أصال ،والركن المعنوي في جريمة الشروع يقتضي إرادة النتيجة ورغم ذلك تتخلف.
وإذا ما قامت أركان الشروع السابقة ،فإن عقوبة الشروع في القانون الجزائري عقوبة ذات عقوبة الجريمة
التامة ،وهو اتجاه موقف قانوني يساوي بين الجريمة التامة وجريمة الشروع ،وإن كانت هناك قوانين تخفف من جرائم
الشروع مقارنة مع الجريمة التامة ،غير أن هذا الموقف المتعلق بالمساواة في العقاب هو الموقف القانوني للمشرع وال
يوجد ما يمنع القاضي من إعمال سلطته التقديرية في تقدير العقوبات ومبدأ تفريد العقاب.
] - [1يعد البدء في التنفيذ الفيصل بين المحظور والمباح ،لذا مكان من بين أعقد مشاكل الشروع في الجريمة هو التمييز
بين األعمال التحضيرية والبدء في التنفيذ ،وهي مسألة شغلت بال رجال الفقه الجنائي لعدة قرون ،األمر الذي جعل بعض
التشريعات الحديثة لتفادي المشاكل إسقاط عبارة " البدء في التنفيذ" من النصوص القانونية التي تعاقب على الشروع ،غير أن ذلك
لم يقض على المشكل ة ،كون األمر يتعدى مجرد التغيير في المصطلحات ،بل األمر يحتاج إلى ضابط يمكن به التمييز بين
المرحلتين ،المرحلة التحضيرية ومرحلة البدء في التنفيذ
] - [2إذ في الغالب ما ال تقع الجريمة دفعة واحدة في لحظة وتنتهي ،بل يمر فاعلها في غالب األحيان بالعديد من
المراحل قبل أن يبدأ في تنفيذها ،فتنشأ الجريمة في أول األمر كفكرة تختلج في نفس صاحبها ،لتستقر في ذهنه كهدف يعزم
ويصمم على تحقيقه ،وفي كل هذه المراحل ال تزال كفكرة نفسية خالصة ولم تظهر بعد في العالم المادي الملموس.
] - [3نسمي هذه المرحلة بمرحلة النوايا الكامنة ،النعدام أي أثر مادي يكشف عنها ،وكل ما تمر به يبقى كمين نفس
الجاني.
] - [4ونصت على هذه الجريمة المادة 87مكرر 7من قانون العقوبات التي أدرجت بموجب األمر 11-95المؤرخ في
1995-02-52المتعلقة بالجرائم الموصوفة بأفعال إرهابية أو تخريبية ،التي نصت على أنه ":يعاقب بالسجن المؤقت من 10
][144
سنوات إلى 20سنة وبغرامة من 500.000دج إلى 1.000.000دج ،كل من يحوز أسلحة ممنوعة أو ذخائر يستولي عليها أو
يحملها أو يتاجر بها ،"...وقبل هذا التعديل كانت تعاقب على هذه الجريمة المادة ( 2/89بموجب األمر رقم 47-75المؤرخ في
،) 1975-06-17التي كانت تعاقب بالمؤبد كل من يقوم أثناء حركة التمرد بحمل األسلحة والذخائر عالنية أو خفية.
] - [5وهي الجريمة المنصوص والمعاقب عليها بموجب المادة 359المعدلة بموجب القانون 23-06المؤرخ في -20
2006-12التي نصت على أنه ":كل من قلد أو زيف مفاتيح يعاقب بالحبس من ثالثة أشهر إلى سنتين وبغرامة من 20.000دج
إلى 100.000دج"....
] - [6ألنه وإن كانت األمور واضحة فيبعض الفروض ،كعدو أحد األشخاص وراء اآلخر مطلقا عليه الرصاص ،أو
كضبط أحد األشخاص محاوال فتح باب المنزل بالعنف ،أو سكب أحد األشخاص البنزين وراء باب جاره محاوال حرقه ،ففي هذه
الحاالت البدء في تنفيذ الجريمة يعد واضحان وبالتالي شكل جريمة الشروع المعاقب عليها قانونا .وعلى العكس مما سبق ،فإن
حيازة مادة سامة ،والتجول ليال حول منزل سيدة تسكن بمفردها ،يعد من قبيل األعمال التحضيرية غير المعاقب عليها ،غير أنه
وعلى عكس كل ما سبق ،هناك حاالت ملتبسة يصعب القطع فيها ما إن كان العمل مجرد عمل تحضيري أو يشكل بدءا في تنفيذ
الجريمة ،كدق الشخص لجرس المنزل ليتأكد من غياب صاحبه ،أو ضبطه متجوال في حديقة منزل وهو يتلصص ،ففي مثل هذه
الحاالت يصعب القول ما إن كان قد شرع في جريمته أو ال يزال في طور مرحلة التحضير...
] - [7م ا عدا الحاالت التي قد تشكل فيها مثل هذه األفعال جرائم مستقلة بذاتها ،كجريمة انتهاك حرمة منزل في هذا
المثال.
] - [8وللتدليل على ذلك نورد نص المادة 30باللغة الفرنسية ،خاصة وان الفقيه البلجيكي جارو صاغ نظريته أيضا
باللغة الفرنسية ،لذا أوردنا في المتن أعاله عبراته باللغة الفرنسية للمقارنة.
« Est considérée comme le crime mêmes, toute tentative criminelle qui aura été
manifestée par un commencement d’exécution ou par des actes non équivoque tendant
» directement à le commettre….
] - [9ويرى البعض أنه يجب إعمال المعيارين معا ،حيث يعمل بمعيار موضوعي يتمثل في فعل يتجه مباشرة إلى
إحداث النتيجة ،وهو أمر نسبي يختلف باختالف الجرائم ،وعنصر شخصي يتمثل في اتجاه إرادة الجاني اتجاها ال رجعة فيه إلى
إتمام الجريمة وهو ما يستنتج من الظروف المحيطة بالجاني.
] - [10ن شير إلى هذه النقطة ،ألن كثيرا ما نجد بعض الكتب تجعل من العدول االختياري أو اإلرادي ركنا من أركان
الشروع ،في حين أن هذا النوع من العدول يخرجنا من دائرة الشروع إلى دائرة اإلباحة وعدم العقاب ،كون جريمة الشروع في
األساس عبارة عن جريمة ناقصة أو خائبة أو مستحيلة ،وهي األوضاع التي ال نتخيلها مصاحبة لإلرادة.
] - [11ر أى المشرع أنه من حسن السياسة الجنائية فتح الباب أمام الجناة للنجاة من العقاب حتى بعد الشروع في
ارتكاب الجرائم وذلك في الحاالت التي يعدلون فيها عن إتمامها ،فال عقاب عليه إذا حال دون إتمامها بالكف عن مواصلة النشاط
المجرم أو الحيلولة دون حدوث نتائجه ،أي الشروع في السلوك ثم الكف عنه ،أو أتمه وحال دون ترتيب نتائجه ،وفي كال
الصورتين من العدول هناك ركنين مادي ومعنوي ،المادي وهو نشاط عضوي مضاد للسلوك اإلجرامي يبذله الجاني ليوقف به
السلوك الذي بدأه أو يحول دون تحقيق نتيجته ،والعنصر المعنوي اتجاه إرادته إليقاف السلوك أو تخييب نتائجه ،وهنا ال يعتد
بالبواعث التي حملت الجاني عليه حتى وإن كانت غير نبيلة أو الخوف ،فعبرة عدم العقاب ليست شخصية وغنما موضوعية
محضة ومصلحية حيث هي الحيلولة دون انقالب اخطر إلى ضرر حقيقي على المجتمع وال شأن للمسألة بالبواعث
] - [12ويرى البعض أن أول قضية تتعلق بالجريمة المستحيلة عرضت على القضاء الفرنسي ،كانت قضية تتلخص
وقائعها في أن شابا يدعى " لوران" أراد قتل والده ببندقية ملك لألخير ،وكان يعلقها على الحائط ،فلما شعر الوالد بمخطط ابنه
أفرغ البندقية من قذائفها دون أن يشعر االبن بذلك ،وأعدها بعد ذلك لمكانها على الحائط ،وعندما استعملها االبن لم تحدث بالوالد
أي ضرر ،وعند إحالته على المحكمة عوقب بمحاولة القتل.
] - [13مشكلة الجريمة المستحيلة مشكلة كان الفقيه األلماني فويرباخ أول من أثارها سنة ،1808ورأى أن الجريمة تعد
مستحيلة إذا لم يحقق الجاني أية نتيجة بسبب عدم توافر محل الجريمة ،أو بسبب عدم فعالية الوسائل التي استعملها الجاني،
وبالتالي الجريمة المستحيلة هي التي يستحيل فيها إحداث النتيجة ،وهنا نجد الفقه يحاول التفرقة بين الجريمة المستحيلة والجريمة
الخائبة من جهة ،وبين الجريمة المستحيلة والجريمة الظنية من جهة أخرى .فبخصوص الجريمة المستحيلة والجريمة الخائبة،
فإنهما يشتركان في بذل الجاني كل ما في وسعه لكنه يخفق في إحداث النتيجة ،لكنهما يختلفان في سبب هذا اإلخفاق ،ففي الجريمة
المستحيلة يكمن السبب في فعل الجاني الذي يستحيل عليه منذ البداية أن يصل إلى النتيجة ،أما في الجريمة الخائبة فسبب اإلخفاق
][145
يطرأ بعد أن يبدأ الجاني في مباشرة فعله .أما بخصوص الجريمة المستحلية والجريمة الظنية ،فهما يشتركان في أن الفعل ذاته
تكمن فيه عدم صالحية إحداث النتيجة ،ولكنهما يختلفان في كون الجريمة المستحيلة ترجع إما على عدم وجود المحل الذي ترد
عليه الجريمة أو إلى عدم صالحية الوسيلة ،بعكس الجريمة الظنية التي ال تتوفر إال في مخيلة الجاني واعتقاده
القانوني الخاطئ ،ويكون أمام مجرد ظنون وأوهام ال ترقى إلى مرتبة األفعال التي تهدد المصلحة المحمية قانونا.
] - [14وهو أمر بديهي ونؤيده كثيرا ،ونعطي عنه أمثلة ،فلنفترض أن شخص أفرغ سالحه من الرصاص وهو يالعب
زميله وجعله يعتقد أنه سيقتله وصوب نحوه المسدس وأطلق الرصاص وهو يعلم أن الرصاص ال ينطلق ،بل يمكننا القول أنه
حتى ولو نسي رصاصة فالقتل خطا وليس عمدي .أو أن يخيف زميله بأن يقتل شخص آخر اتفق معه على مغادرة فراشه.
المبحث الثالث
المساهمــــة الجنائية
االشتراك الجنائي أو اإلسهام الجرمي
ل ئن كانت الجريمة في صورتها العادية تقع من شخص واحد ،إال أنها قد تمثل أحيانا مشروعا إجراميا
يسهر ويقوم على تنفيذه أكثر من شخص واحد ،فتتحول الجريمة إلى مشروع جماعي بعدما كانت مشروعا فرديا ،وهو
ما يمثل فكرة المساهمة الجنائية التي تعني ارتكاب الجريمة الواحدة من طرف شخصين أو أكثر ،وهي الفكرة التي
نظمها المشرع الجزائري في المواد من 41إلى 46من تقنين العقوبات الجزائري ،وذلك تحت عنوان" :المساهمون في
الجريمة".
ماهية المساهمة الجنائية
][146
تقتضي النظرية العامة للجريمة ،أن المشرع ال يتدخل بالعقاب عليها إال إذا اكتملت أركانها بغض النظر
عن الشخص الذي ارتكبها ،إال أنه هناك حاالت يقوم فيها العديد من األشخاص الذي يتقاسمون األدوار التي تختلف
وتتفاوت في طبيعتها ودرجتها في تنفيذ هذه الجريمة ،وهو المقصود من المساهمة الجنائية.
وتختلف المساهمة الجنائية التي نحن بصدد دراستها ،عن فكرة المساهمة الضرورية التي يقصد بها تلك
المساهمة القانونية التي تتطلبها بعض أنواع الجرائم التي ال تقبل بطبيعتها أن يرتكبها شخصا واحدا ،مثل جريمة الرشوة
التي تتطلب الراشي والموظف المرتشي ،وجريمة الزنا التي تطلب شخصين احدهما يكون متزوجا ،وجريمة التآمر التي
تتطلب العديد من األشخاص الذين يتآمرون ضد الوطن ...والعديد من الجرائم األخرى التي ال تقوم بطبيعتها ووفقا
للقانون بفعل شخص واحد.
ف ي حين أن فكرة المساهمة الجنائية التي نحن بصدد دراستها ،تعني أن الجريمة من الجرائم القابلة
بطبيعتها أن يرتكبها شخصا واحدا ،إال أننا نجد العديد من األشخاص الذين يساهمون في تنفيذها ،سواء تامة أو عند
مرحلة الشروع ،وبالتالي هي فكرة تتطلب جريمة واحدة – فالجرائم المتعددة تبعدنا عن فكرة المساهمة الجنائية ،-كما
تتطلب تعدد الجناة -إذ الجاني المنفرد يبعدنا أيضا عن فكرة المساهمة الجنائية .-لذا فالمساهمة الجنائية ،تتطلب وحدة
الجريمة وتعدد الجناة .وهما الشرطين الضروريين لجعلنا أمام هذه الفكرة الجنائية.
أوال :وحـــدة الجريمة
تقتضي فكرة المساهمة الجنائية أن يرتكب العديد من الجناة جريمة واحدة تقبل طبيعتها أن يرتكبها
شخصا واحدا ،لذا يجب أن تتضافر جهود هؤالء في تنفيذ الجريمة -،وذلك بأن تجمع بينهما الوحدة المادية -وحدة الركن
المادي -والوحدة المعنوية – وحدة الركن المعنوي.-
-1الوحدة المادية:
فكرة المساهمة الجنائية تقتضي قيام العديد من الجناة الذين تختلف وتتفاوت أدوارهم في ارتكاب جريمة
واحدة ،ووحدة الجريمة أول ما تتجسد فإنها تتجسد في وحدة الركن المادي لها ،وهذا األخير يتطلب وحدة السلوك
ووحدة النتيجة ،لكن إن كانت نتيجة الجريمة واحدة ،فوحدة السلوك وإن كانت تعني سلوك واحد أدى لحدوث النتيجة
السابقة ،غير انه سل وك مشكل من تعدد األفعال المشكلة لسلوك إجرامي واحد ،وأن يساهم كل فعل من هذه األفعال في
تحقيق النتيجة وأن يرتبط بها برابطة سببية ،بحيث لو استبعدنا فعل من هذه األفعال وبالرغم من ذلك حدثت النتيجة،
فالقائم بهذا الفعل ال يعد مساهما في الجريمة .وبالتالي يمكن القول بأن فكرة الوحدة المادية تعني وحدة الركن المادي،
والتي تتأكد من خالل وحدة النتيجة وارتباطها برابطة سببية مع كل األفعال التي أتاها الجناة ،أي أن يتوفر لدى كل
جاني عناصر الركن المادي األساسية والمتمثلة في سلوك ونتيجة عالقة سببية تربط بين هذا السلوك والنتيجة الواحدة
التي تحققت.
-2الوحدة المعنوية:
و يقصد بها أن تكون هناك وحدة ذهنية ورابطة معنوية تجمع بين جميع المساهمين في ارتكاب الجريمة،
وذلك من علم وإرادة تهدف إلى ارتكاب نفس النتيجة سواء كان بينهم اتفاق سابق أو مجرد تفاهم ،والتفاهم هو مجرد
توفر نية ا الشتراك معاصرة الرتكاب الجريمة ،عكس االتفاق الذي يكون سابقا الرتكاب الجريمة فإن التفاهم يكون
معاصرا لها ،أي لحظة ارتكابها ،كأن يرى أحدهم يجري وراء اآلخر ألجل قتله ،فيمسك به بغرض تمكين الجاني منه
بالرغم من أنه لم يكن هناك اتفقا سابق بينهما ،وقد ال يكون يعرفه أصال .وفقدان مثل هذه الرابطة المعنوية ،يحول
الجريمة من جريمة مساهم فيها إلى مجموعة جرائم.
ثانيا :تعدد الجـــــناة
سبق القول بأن المساهمة الجنائية تفترض وحدة الجريمة بركنيها المادي – وإن كانت النتيجة واحدة
فاألفعال متعددة -والمعنوي ،وأن يساهم العديد من األشخاص في ارتكاب هذه الجريمة ،أي وجود أكثر من جاني واحد
يساهم في هذه الجريمة التي تصبح تشكل لهم مشروعا إجراميا واحدا ،وبالتالي وجود العديد من األشخاص الذين
][147
يرتبكون العديد من الجرائم ال يجعلنا أمام المساهمة الجنائية ،وال وجود شخص واحد يرتكب العديد من الجرائم ،إذ هذا
الوضع يجعلنا أمام فكرة تعدد جرائم الشخص الواحد.
ه ذا وبعد أن تناولنا مفهوم المساهمة الجنائية ،وشروطها ،سنحاول من خالل ثالثة مطالب أن نتناول
المشاكل التي تثيرها المسؤولية الجنائية ،لنخصص المطلبين اآلخرين لنوعيها ،المساهمة األصلية والمساهمة التبيعة.
المطلب األول
المشاكل التي تثيرها المساهمة الجنائية
إ ن ارتكاب جريمة واحدة بركن مادي واحد تتعدد فيها األفعال والنتيجة واحدة ،وكل فعل من هذه
األفعال يساهم في إحداثها ويرتبط بها برابطة سببية ،يجعلنا نتساءل عن دور كل فعل من هذه األفعال في تحقيق هذه
النتيجة الواحدة ،حيث أنه من المؤكد أن دور هذه األفعال ليس متساويا ،ومن ثم فمن الضروري أال تكون مسؤولية كل
المساهمين على نفس القدر من األهمية ،وهنا كان من الواجب تحديد دور كل منهم لتحديد مسؤوليته ،وهو ما يثير فكرة
تحديد دور كل مساهم في إحداث النتيجة المحظورة قانونا.
الفرع األول
تقييم األدوار لتحديد المسؤوليات
أل جل تحديد دور كل مساهم من المساهمين ،ودور الفعل الذي قام به في إحداث النتيجة المحظورة
قانونا ،وبالتالي تحديد قدر مسؤوليته عن الجريمة التي ارتكبت كثمرة لنشاطات الجميع ،ظهر اتجاهين أساسيين ،أولهما
ال يفصل بين المساهمين وال يولي أهمية ألية تفرقة بينهم ،والثاني يقيم تفرقة بينهم ويجعل منهم مساهمين وشركاء،
وسمي األول بمذهب التوحيد بين المساهمين ،وسمي الثاني بمذهب استقالل المساهمين ،وهو ما نوضحه في النقطتين
التاليتين.
أوال :مذهب التوحيد بين المساهمين
و هو مذهب يعتمد على نظرية تعادل األسباب التي سبق وأن بيناها في دراسة عالقة السببية ،حيث يرى
أنصار هذا المذهب أن منطق األمور ال يتفق والتمييز بين أعمال الجناة القائمين على تنفيذ جريمة واحدة ،فالجريمة
حسنهم هي نتاج تضافر جميع جهود المساهمين فيها ،وكل مساهم فيها أيا كان الفعل الذي أتاه ودور هذا الفعل في
إحداث النتيجة ،فهو مسؤول عن هذه الجريمة مسؤولية كاملة ،باعتباره فاعال لها ال باعتبار فعله ساهم في إحداث
النتيجة .وعليه فجميع أعمال المساهمين متساوية في إحداث النتيجة ،وهي بذلك متساوية في األهمية ،كما هي متساوية
أيضا في المسؤولية الجنائية ،وبذلك يستبعد أنصار هذا المذهب كل تفرقة بين الفاعل والشريك ،بل الكل يعد فاعل
أصلي للجريمة.
غ ير أن هذا المذهب وجهت له العديد من االنتقادات ،أهمها أن الجريمة الواحدة يستحيل أن يرتكبها
العديد من الفاعلين األصليين فقط ،ألن ذلك يؤدي إلى تعدد الجرائم وهو أمر غير منطقي في مجال فكرة المساهمة
الجنائية ،إذ هذه الفكرة تقتضي أن نكون بصدد جريمة واحدة يسهر على تنفيذها العديد من الجناة ،كما أن المساواة بين
كل الفاعلين أمر يجافي العدالة ،ويتنافى ومبدأ التفريد العقابي الذي يقوم على فكرة إنزال العقوبات تبعا لخطورة كل
مجرم على حدة ،لذا نجد غالبية الرأي الفقهي والموقف التشريعي والقضائي يرفض هذا الرأي.
ثانيا :مذهب استقالل المساهمين
و هو مذهب يقيم تفرقة بين الفاعلين األصليين والشركاء ،وهو الرأي الراجح فقها وقضاء ،واتبعته
غالبية التشريعات ،وهو مذهب بنادي أنصاره بوجوب التمييز بين المساهمين في الجريمة بحسب الدور الذي قام به كل
منهم ،وعلى ذلك تقسم أدوار الجريمة إلى نوعين ،أدوار رئيسية يقوم بها المساهمين األصليين ،وأدوار ثانوية يقوم بها
الشركاء أو الفاعلين التبعيين .غير أن أنصار هذا االتجاه انقسموا بخصوص المعيار الذي يمكن من التمييز بين األفعال
الرئيسية واألفعال الثانوية أو التبعية ،وبالتالي المعيار الذي يبين الفاعلين األصليين والفاعلين التبعيين أو الشركاء،
وكالعادة تنازع المسألة المذهبان المادي والشخصي .األول ويركز كالعادة على الركن المادي للجريمة ،والثاني على
الركن المعنوي لها أو نية الفاعل.
][148
-1المذهب الشخصي :
و هو المذهب الذي ركز على الركن المعنوي أو النفسي للجريمة ،ورأى أنصاره بأن الركن المادي
للجريمة ال يمكننا من التمييز بين األعمال الرئيسية واألعمال الثانوية ،لذا يجب إعمال الركن المعنوي ،وذلك باالستناد
إلى نية وإرادة المساهم وما إن كان يريد أن يكون فاعال أصليا أو مجرد شريك ،فالفاعل األصلي تتجه إرادته إلى تحقيق
النتيجة على أساس أنها تحقق مصلحته وهو سيدها ،بينما الشريك هو من توفرت لديه فقط نية االشتراك ،وأن تتجه
إراد ته ألن يكون فعله مجرد فعل يساعد ويدعم به أفعال الفاعل األصلي ،فالجريمة ليست مشروعه اإلجرامي وال يريد
تنفيذها ما لم ينفذها غيره .غير أن هذا المذهب غامض وصعب لإلثبات ،إذ كيف يمكننا الغوص في أغوار النفس
واستخالص نية الشخص وتبينها والحكم عليها ما إن كانت تريد الجريمة كمشروع أو اشتراك فقط .لذا هجر هذا المعيار
من غالبية الفقه وأحكام القضاء.
-2المذهب الموضوعي أو المادي:
و هو المذهب الذي يركز أنصاره على الركن المادي للجريمة للتمييز بين األفعال الرئيسية التي يعد
صاحبها فاعال أصليا للجريمة ،وبين األفعال الثانوية التي يعد فاعلها مجرد شريك ،وذلك باالستناد لنوع العمل ومدى
خطورته المادية ،فمتى كانت األعمال خطيرة فالمساهمة تكون أصلية ،ومتى كانت األعمال ثانوية وأقل جسامة
وخطورة كانت المساهمة تبعية وفاعلها مجرد شريك.
وللتمييز بين األعمال الخطيرة وتلك األقل خطورة ،يرى أنصار هذا االتجاه االستناد للركن المادي
للجريمة ذاته ،فاألعمال الخطيرة هي كل فعل يدخل في األعمال التنفيذية المشكلة للركن المادي للجريمة ،سواء كله أ
جزء منه ،أما األعمال الثانوية غير الخطيرة ،فهي تلك األفعال التي ال ترقى لمرتبة األفعال التنفيذية المكونة للركن
المادي للجريمة ،بل مجرد أعمال مسهلة أو محضرة لألعمال التنفيذية السابقة ،ويعمل في ذلك بمعيار البدء في التنفيذ
الذي سبق وان بينته هذه النظرية في جريمة الشروع .وبالتالي استقر الفكر القانوني على ضرورة التمييز بين الفاعل
األصلي والشريك ،لكن ثارت مسألة البحث عن طبيعة العالقة بينهما ،وهو ما نتناوله في النقطة الموالية.
الفرع الثاني
طبيعة العالقة بين الفاعل األصلي والشريك
ف ي الحقيقة إن أعمال الشريك هي مجرد أعمال تحضيرية غير معاقب عليها في ذاتها ،لوال فعل الفاعل
األصلي الذي يجذبها لدائرة التجريم ويكسبها قيمة قانونية ،وبمعنى آخر أعمال الشريك تجرم فقط لتبعيتها لفعل مطابق
للنموذج التشريعي للجريمة ،وبالتالي هناك عالقة فعلية وقانونية بين أعمال الشريك وأعمال الفاعل األصلي ،وهي
العالقة التي ال يمكن إنكارها بأي حال من األحوال ،لكن السؤال يتعلق بالبحث في طبيعة هذه العالقة ،وهي الفكرة التي
حاول الفقه بحثها ،لكنه اختلف حول تكييفها ،ويمكن رد هذا الخالف إلى نظريتين أساسيتين ،نظرية تقليدية وهي نظرية
االستعارة ،ونظرية حديثة وسميت بنظرية التبعية ،وهو ما نبينه في النقطتين التاليتين.
أوال :نظرية االستعارة
و هي نظرية يرى أنصارها بأن الشريك يستعير إجرامه من فعل الفاعل األصلي ،إذ هناك عالقة
استعارة بين الفاعل األصلي والشريك ،حيث يضفي فعل األول الصفة اإلجرامية على الفعل الثاني ،أو أن الشريك
يستعير الصفة اإلجرامية ألفعاله غير المجرمة أصال من فعل الفاعل األصلي ،لكن داخل هذا االتجاه ذاته ثار التساؤل
حول مدى هذه االستعارة ،وهنا انقسم هذا االتجاه ذاته إلى اتجاهين ،أحدهما يرى أنها استعارة مطلقة واآلخر يراها
مجرد استعارة نسبية.
][149
-1نظرية االستعارة المطلقة:
ويرى أنصارها أن الفاعل األصلي يلقي بظله كامال على الشريك ،بمعنى أن هذا األخير يستعير كل
الظروف العينية والشخصية اللصيقة بالجريمة وبالفاعل األصلي ،مما يجعلهما متساوين في المسؤولية الجنائية والتي
تعني أيضا تطبيق نفس الجزاء الجنائي عليهما.
المطلب الثاني
المساهـــمة األصــلية
الفاعــل األصلــــــــي
المادتان 41و 45من قانون العقوبات الجزائري
ي مكن القول اختصارا أنه ال جريمة دون فعل وال جريمة دون فاعل ،وهو الفاعل الذي قد يكون وحيدا
أ و متعددا ،أو وحيدا وله شريك أو عدة شركاء ،أو عدة فاعلين لهم شريك واحد أو عدة شركاء ،وبالتالي ال جريمة
بشركاء فقط ،وفاعل الجريمة قد يرتكبها بصورة مباشرة مثل الفاعل المادي أو الفاعل المباشر ،وقد يرتكبها بطريقة
غير مباشرة مثل المحرض أو الفاعل المعنوي .لكنهما يبقيان صاحبا الجريمة.
والفاعل األصلي وفقا لتقنين العقوبات الجزائري نصت عليه المادتان 41و ،45حيث بينت األولى
الفاعل المادي أو الفاعل المباشر ،وذلك في الفقرة األولى منها ،في حين بينت الفقرة الثانية المحرض ،في حين تناولت
المادة 45فكرة الفاعل المعنوي.
المطلب األول
الفــــاعل المـــــباشر
( الفاعل المادي أو الفاعل المنفرد )
][150
يعرف الفقيه الفرنسية رو Rouxالفاعل المادي المنفرد أو الفاعل المباشر ،بأنه ":الشخص الذي ساهم
نشاطه أو امتناعه في ارتكاب الجريمة ،".وبالتالي الفاعل هو من يرتكب الواقعة المجرمة بنص القانون ،أو هو
الشخص الذي يتولى لوحده تنفيذ كافة األفعال المكونة للجريمة ،بحيث ال يكون من أحد على مسرح الجريمة غيره ،وهو
ما يقتضي بحث فكرة الركن المادي والركن المعنوي لديه.
الفرع األول
الركن المادي لجريمة الفاعل المباشر
نصت المادة 41من تقنين العقوبات الجزائري ،وفي توضيحها لمعنى الفاعل المباشر بأنه ... ":من
ساهم مساهمة مباشرة في تنفيذ الجريمة" ،وبالتالي الفاعل المباشر هو الفاعل الذي تكون مساهمته مباشرة في ارتكاب
الجريمة ،فما معنى المساهمة المباشرة المنصوص عليها في الفقرة األولى من المادة 41من تقنين العقوبات الجزائري ؟
ال مساهمة المباشرة في تنفيذ الجريمة ،هي إتيان األفعال األعمال التنفيذية المكونة للركن المادي
للجريمة ،سواء كان شخصا منفردا أو عدة فاعلين أصليين ،ومعيار البدء في التنفيذ هو المعيار المحدد لألعمال التنفيذية
للركن المادي على النحو المبين سابقا ،باإلضافة إلى إعمال معيار آخر مكمل ،وهو المتمثل في ظهور الجاني على
مسرح الجريمة وأن يكون لصيق الصلة بالتنفيذ ومعاصر له.
غير أنه هناك حاالت يظهر فيها الشخص وكأنه بعيد عن مسرح الجريمة ،غير أنه يعد فاعال مباشرا
للجريمة ،مثل خادم المنزل الذي يترك باب سيده مفتوحا لتمكين اللصوص من سرقته ،وكذا مراقب الطريق ،والشخص
الذي يمسك بالشخص الهارب من غريمه ليمكن هذا األخير من قتله – في هذه الحالة الشخص في الحقيقة موجود على
مسرح الجريمة ...-مما يعني أن معيار الظهور على مسرح الجريمة ليس معيارا حاسما في كل الحاالت.
الفرع الثاني
الركن المعنوي لجريمة الفاعل المباشر
يجب أن يتوفر لدى الفاعل المباشر أو الفاعل المادي مع غيره من الفاعلين أو الشركاء – كوننا بصدد
نظرية المساهمة الجنائية -رابطة ذهنية واحدة ،وذلك بأن يكون كل المساهمين في الجريمة على علم بكل األفعال التي
تتضافر لتحقيق الركن المادي للجريمة ،ويريدون النتيجة التي تسفر عن جميع األفعال المتضافرة السابقة ،والعلم يجب
أن ينصرف لما هو من عمل الشخص وكذا عمل غيره من باقي المساهمين ،وأن يريد كل مهم النتيجة أو النتائج
المتمخضة عن هذه األفعال.
و أن انتفاء الرابطة المعنوية والذهنية لدى الجناة ،يخرجنا من مجال المساهمة الجنائية ويجعلنا نسأل كل
فاعل عن جريمة مستقلة بقدر السلوك الذي أتاه ،لذا فإن إطالق الرصاص على مجني عليه واحد من قبل العديد من
الفاعلين وفي لحظة واحدة يجعلهم مساهمين في جريمة القتل متى توفرت لديهم وحدة الرابطة الذهنية ،غير أنه إذا انتفت
هذه األخيرة ،سأل الشخص الذي أصابت رصاصته المجني عليه عن جريمة قتل عمدن وسأل الباقين كل منهم مستقال
عن محاولة القتل إن لم تصب رصاصاتهم الشخص المجني عليه.
المطلب الثاني
المحرض كفاعل أصلي
التحريض هو خلق فكرة الجريمة لدى الشخص الفاعل وجعله يصمم على ارتكابها ،ولم يكن المحرض
فاعال أصليا في القانون الجزائري إال بتعديل قانون 04-82المؤرخ في ،1982-02-13ويعد ذلك خروجا عن االتجاه
التقليدي الذي أخذت به معظم التشريعات ،وكذا خروجا عن توصيات المؤتمر الدولي السابع لقانون العقوبات المنعقد
بأثينا سنة 1957الذي أوصى بجعل التحريض " جريمة مستقلة" عن المساهمة ،وخروجها عن المساهمة األصلية ألن
التحريض يتقصه التنفيذ ،وال بالمساهمة التبعية كون المحرض هو صاحب خلق فكرة الجريمة وهو من جعل الفاعل
يصمم على ارتكابها.
والتحريض هو خلق فكرة الجريمة لدى شخص آخر ذهنه كان خاليا منها ،أو هو جعل الفاعل يصمم
عليها ،وذلك بالتأثير على نفس ية هذا الشخص ودفعه لغاية تنفيذ ركنها المادي ،بمعنى التحريض يعني خلق فكرة
][151
الجريمة في ذهن كان خاليا منها أو على األقل زينها له ودفع به على تنفيذها] .[1أو هو خلق التصميم لدى الفاعل
بارتكاب الجريمة ،ودفعه نحو ارتكابها ،وهو التعريف الذي تبناه المؤتمر الدولي السابع لقانون العقوبات سنة ،1957
والتحريض يؤدي إلى نتيجتين األولى نفسية تتمثل في القرار الذي يتخذه الفاعل الذي وجه له التحريض ،والنتيجة الثانية
مادية تتمثل في الجريمة التي ارتكبها بناء على القرار النفسي السابق ،ويستوي أن يكون المحرض هو صاحب الفكرة
اإلجرامية أم اقتصر دوره على تزيين الفكرة التي كانت من خلق من حرض شخصيا .وسنحاول تبين أركان التحريض
كجريمة في الفرع الموالي.
الفرع األول
أركان جريمة التحريض
التحريض جريمة من جرائم المساهمة الجنائية ،وبالتالي فهو كأي جريمة يشترط األركان العامة الثالثة
لقيامها .وهي الركن الشرعي ،والركن المادي والركن المعنوي.
-1الركن الشرعي للتحريض
الركن الشرعي لجريمة التحريض تضمنته المادة 2/41من قانون العقوبات الجزائري ،بنصها... ":يعد
فاعال...كل من حرض على ارتكاب الفعل بالهبة أو الوعد أو التهديد أو إساءة استعمال السلطة
أو الوالية أو التحايل أو التدليس اإلجرامي .".ومن متطلبات الركن الشرعي لجريمة التحريض ،أن ينصب التحريض
على ارتكاب جريمة أو مجموعة جرائم من المنصوص والمعاقب عليها قانونا ،لذا فإن خلق العداوة والبغضاء
والكراهية لدى شخص آخر ال يرقى لمرتبة التحريض ،لذا فالموضوع المحدد لعملية التحريض هو ارتكاب جريمة
بعينها] ،[2وأن يكون مباشر وبفعل إيجابي.
-2الركن المادي للتحريض
ق وام السلوك في جريمة التحريض هو خلق فكرة الجريمة لدى الفاعل و/أو إيجاد التصميم لديه على
ارتكابها ،وتقتضي فكرة خلق الجريمة أن ذهن الفاعل كان في األصل خاليا منها ،لوال تحريضه من قبل الشخص
المحرض وجعله يصمم عليها ،كما قد تكون الفكرة من الفاعل ابتداء لكن المحرض جعله يصمم على تنفيذها ،بعدما كان
الفاعل مترددا بخصوص ذلك ،وكل النشاطات السابقة عبارة عن أفعال إيجابية ال سلبية ،وبالتالي يمكن القول بأنه ال
تحريض عن طريق االمتناع أو بعمل سلبي ،أيا كانت داللته اإلجرامية ،فسكوت الشخص أمام فاعل يروي له تفاصيل
الجريمة التي سيرتكبها ال يجعله مرتكبا لجريمة التحريض كون موقفه كان سلبيا في حين التحريض جريمة إيجابيا.
والسلوك اإليجابي في جريمة التحريض غير مقيد باستعمال طريقة محددة – وإن كان مقيد بالوسيلة
المادية ،-فقد يكون التحريض عن طريق القول أو الكتابة ،وقد يكون باللفظ العادي أو بوسائل االتصال أيا كان نوعها،
طالما كانت الوسيلة معبرة عن إرادة المحرض وقصده في خلق فكرة الجريمة لدى الغير وجعله يصمم على ارتكابها.
وا ألصل في التحريض أن يكون شخصيا ،موجه لشخص أو أشخاص محددين ويمكن تعيينهم ،دون اشتراط توفر العلم
بين األطراف ،كون التعارف بينهما ليس من شروط قيام جريمة التحريض ،غير أن توجيه التحريض ألشخاص غير
محددين يعد جريمة مستقلة بحد ذاتها ،وهي الجريمة المنصوص والمعاقب عليها في القانون الجزائري بموجب المادة
100منه] .[3كما يجب أن يكون التحريض منصبا على ارتكاب جريمة من جرائم قانون العقوبات دون اشتراط نوعها
أو ذكر وصفها القانوني للفاعل ،وإنما يكفي التحريض على ارتكاب الواقعة المكونة لركنها المادي ،وباإلضافة إلى
كل ما سبق ،حددت المادة 2/41الوسائل التي بموجبها يتم التحريض ،وهي الوسائل أو األفعال التي بينت على سبيل
الحصر ال على سبيل المثال ،وبالتالي المسألة قانونية ال يجوز تفسيرها تفسير واسعا ،كما ال يجوز القياس عليها ،وهذه
الوسائل في قانون العقوبات الجزائري من الوسائل المادية التي يشترط إتيانها قبل ارتكاب الجريمة ،ويمكن االستعانة
فيها بوسيلة واحدة أو أكثركما يجوز جمعها كلها وهــــي:
-1الهبـــــة:
والهبة قد تكون مبلغا من المال ،كما قد تكون أي عقار أو منقول أو سلعة من السلع ،أو عبارة عن تقديم
خدمة ،ويمكن أن تقدم بطريقة مباشرة أو مجرد الوعد بتقديمها ،غير أن كل ما يشترط فيها أن يكون تقديمها أو الوعد
بتقديمها سابقا على ارتكاب الجريمة.
][152
-2الوعـــــد:
ا لوعد هو أن يقطع الجاني على نفسه وعدا بأداء خدمة أو أداء عمل أو تقديم هبة للفاعل في حال ما إن
ارتكب الجريمة المحرض على ارتكابها ،بشرط أن يقطع مثل هذا الوعد قبل تنفيذ هذه الجريمة.
-3التهديــــد]:[4
التهديد هو أن يقوم الشخص المحرض بالضغط على إرادته بتهديده بارتكاب أفعال أو القيام ببعض
التصرفات التي من شأنها أن ترهب المهدد وتدفعه الرتاب الجريمة] ،[5ويشترط أن يكون التهديد أيضا سابقا على
ارتكاب الجريمة.
][153
عن جريمة التحريض ،في الحالة التي يخلق فيها الجريمة في ذهن الفاعل وجعله يصمم على ارتكابها ويقدم وسيلة من
الوسائل المحددة بالمادة ،2/41ولكن قبل إقدام الفاعل على التنفيذ يسارع ويسحب وسيلته المادية ،وهنا إن كان العدول
اضطراريا أمكن القول بقيام لشروع في التحريض ،وفقا للقواعد العامة ،وإن كان اختياريا ال عقاب على الفعل ،إعماال
للقواعد العامة في جريمة الشروع دوما.
ثانيا :االشتراك في التحريض
إذا كان هناك محرضا واحد وفاعال واحدا للجريمة ،عد كل منهما فاعال أصليا لها ،األول بصفته
محرض والثاني بصفته فاعل أصلي لها ،ما لم تتوفر شروط اإلكراه في حالة استعمال التهديد ،غير أنه يثار التساؤل
عما إن كان يمكن تصور تعدد المحرضين .إن طبيعة وسائل التحريض التي تعد كلها من الوسائل المادية ،تسمح بقبول
فكرة االشتراك في التحريض ،كأن يشتري أحدهما هدية ويقدمها للثاني الذي يقدمها بدوره للمنفذ ويخلق فكرة الجريمة
في ذهنه ويجعله يصمم على ارتكابها ،وبذلك يكون مقدم الهدية شريك في التحريض ،بشرط أن يتوفر لديه قصد
االشتراك في التحريض وتتجه إرادته لذلك ،كون جريمة التحريض جريمة عمدية ،التي تشرط العلم واإلرادة بالسلوك
وبالنتائج ،لذا فهو ال يسال عن النتائج المتجاوزة لقصده .وال يشترط أن يكون عالما بالمنفذ ،بل كل ما يشترط أن يكون
عالما بوجود جريمة التحريض على جريمة.
المطلب الثالث
الفاعل المعنوي كمساهم أصلي
الفاعل المعنوي كصورة من صور المساهمة الجنائية نصت عليه المادة 45من تقنين العقوبات
الجزائري ،ويقصد بالفاعل المعنوي الشخص الذي يستخدم شخص آخر كأداة الرتكاب الجريمة ،وأن يكون هذا
الشخص غير مسؤول جنائيا بسبب وضعه أو صفته الشخصية ،وذلك باستعمال أية وسيلة من الوسائل ،سواء كانت تلك
المبينة في التحريض أو غيرها ،وقد عرف المؤتمر الدولي السابع لقانون العقوبات المنعقد في أثينا سنة 1957الفاعل
المعنوي ،أنه ":من يدفع نحو ارتكاب الجريمة منفذا ال يمكن مسائلته جنائيا" .لذا فهناك وجه شبه كبير بين المحرض
والفاعل المعنوي ،وهو ما نبينه في فرع ،لنتناول في الثاني أركان جريمة الفاعل المعنوي.
الفرع األول
الفرق بين المحرض والفاعل المعنوي
وبالتالي ،الفاعل المعنوي يقترب كثيرا من المحرض ،غير أن األخير يحرض شخص مسؤول جنائيا
مستعمال في ذلك وسيلة مادية من الوسائل المحددة حصرا بنص المادة ،2/41في حين األول ،يستعمل شخص غير
مسؤول جنائيا أو شخص حسن النية وكأنه أداة مادية ،حيث قد يكون شخص غير مسؤول جنائيا ،مثل الصغير غير بالغ
سن الرشد والمجنون] ،[8أو بسبب وضعه كأن يكون حسن النية] ،[9وال يشترط في ذلك استعمال وسيلة محددة.
وقد نص المشرع الجزائري على الفاعل المعنوي بموجب المادة 45التي قضت على انه ":من يحمل شخصا ال يخضع
للعقوبة بسبب وضعه أو صفته الشخصية على ارتكاب جريمة يعاقب بالعقوبات المقررة لها.[10]".
ل ذا فوجه التشابه بين المحرض والفاعل المعنوي ،أن األول يستعمل شخص مسؤول جنائيا ،في حين
الثاني يستعمل شخص كأداة مادية ،وعليه فإن المنفذ في التحريض يعاقب باعتباره الفاعل األصلي للجريمة المحرض
عليها ،في حين ال فاعل أصلي للجريمة في حالة فاعل معنوي ألنه شخص منذ البداية غير معاقب عليه ،وفي كال
الجريمتين ال ينفذان الجريمة بنفسيهما بل بغيرهما .لكننا نرى بأن المنفذ في حالة الفاعل المعنوي قد يخضع لتدبير من
تدابير األمن ،بينما حسن النية فال يعاقب النتفاء القصد لديه والخطأ فالجريمة إن كانت تقوم بالخطأ سأل عنها كأن يكون
ملزم بواجب التحري .والحيطة والحذر .
الفرع الثاني
][154
أركان جريمة الفاعل المعنوي
ج ريمة الفاعل المعنوي جريمة شأنها شأن سائر الجرائم األخرى ،تحتاج لقيامها األركان الثالثة العامة،
وإن كان الركن الشرعي ال يطرح أي إشكال وهو نص المادة 45من تقنين العقوبات الجزائري .فإننا سنركز على
الركنين المادي والمعنوي.
أوال :الركـن المادي لجريمة الفاعل المعنوي
عل ى عكس جريمة التحريض ،فإن المشرع الجزائري لم يحدد الوسائل التي يلجأ إليها الفاعل المعنوي
ألجل الدفع بالشخص المستعمل كأداة الرتكاب الجريمة ،وعلى ذلك فكل الوسائل يمكن أن تصلح لقيام جريمة الفاعل
المعنوي ،بل وتقوم حتى في ظل انعدم مثل هذه الوسائل .بشرط أن يحرض الشخص حسن النية
أو غير المسؤول جنائيا ،على الركن المادي لجريمة من الجرائم المعاقب عليها قانونا ،دون شرط تبين وصفها أو
تكييفها ،كما ال يشترط التعارف بين الشخصين ،حيث كل ما يلزم أن يعلم الشخص أنه يحرض شخص غير مسؤول أو
غير معاقب بسبب وضعه أو صفته .وبالتالي هي جريمة تقوم بنشاط إيجابي ينصب على خلق فكرة الجريمة لدى
الشخص ودفعه الرتكابها شأنه شأن التحريض.
ثانيا :الركن المعنوي لجريمة الفاعل المعنوي
المنفذ في جريمة الفاعل المعنوي مجرد أداة مادية استخدمت في تنفيذ الجريمة ،وبالتالي فال مسؤولية
وال عقاب عليه ،فهو ال بالفاعل األصلي وال بالشريك ،بل المسؤول الوحيد هو الفاعل المعنوي وهو مسؤول عن النتائج
التي أرادها وتلك التي لم يردها أو لم يتوقعها أصال ،ألنه كان عليه أن يتوقع بأن يتعامل مع شخص غير مميز وغير
مدرك وعليه أن يضع في حسبانه أن هذا الشخص قد يتجاوز ما طلب منه.
][155
المبحث الثاني
المســـاهمة التبـــعية ( االشتراك )
يقصد بالمساهمة التبعية أو ما يسمى باالشتراك ،تعدد الجناة في المرحلة السابقة على البدء في تنفيذ
الجريمة ،سيما في مرحلة التحضير واإلعداد للجريمة ،فهي ال تعني قيام الجاني بدور أصلي أو رئيسي في تنفيذ الركن
المادي للجريمة ،وإنما القيام فقط باألدوار الثانوية أو التبعية السابقة عن هذا التنفيذ ،غير أنها أفعال ترتبط بالنتيجة
النهائية المترتبة عن الجريمة برابطة سببية ،دون أن تعتبر هذه األفعال أو األعمال في ذاتها بدءا في تنفيذ الجريمة،
وبعبارة أخرى أكثر اختصارا ،الشريك هو الشخص الذي يقوم بنشاط تبعي غير رئيسي يرتبط بجريمة ارتكبها فاعل أو
فاعلين أصليين برابطة سببية] .[11وبالتالي الشريك في حقيقة األمر ال يرتكب فعال مجرما قانونا في حد ذاته ،وإنما
يكتسب صفته اإلجرامية من الفعل التنفيذي الذي يرتكبه الفاعل األصلي للجريمة ،وبالتالي ما دام أن الشريك لم يرتكب
أي نشاط أو سلوك أو فعل يدخل في التكوين القانوني ( النموذجي ) للركن المادي للجريمة ،وبالتالي في حقيقة األمر ال
يوجد نص قانوني يطبق على هذا الفعل ،ما دام النص الذي يعاقب على الجريمة التي ارتكبها الفاعل األصلي ال يطبق
على فعل الشريك ،وهنا في حقيقة األمر أين ظهرت نظريتي االستعارة والتبعية ،والخالف الفقهي الذي ساد الفقه حول
البحث في طبيعة العالقة بين الفاعل األصلي والشريك .وقد بين المشرع الجزائري معنى الشريك في نص المادة 42
من تقنين العقوبات ،بينما بين نص المادة 43من يعد في حكم الشريك ،وبعبارة أخرى النص األول بين الشريك الفعلي،
بينما بينت المادة 43الشريك حكما – إن صح القول .-حيث باستقراء المادتين تتبين أركان االشتراك .وسنبين في
مطلب أركان االشتراك ،لنتناول في الثاني بعض األوضاع المتعلقة باالشتراك.
المطلب األول
أركـــان االشتراك
لكي تقوم جريمة الشريك ويعاقب بهذا الوصف ،ال بد من توفر األركان الثالثة العامة المشترطة لقيام
أي جريمة ،غير انه يمكننا القول بأن الشرط المفترض األول هو وقوع الجريمة األصلية التي يرتكبها الفاعل األصلي،
وأن تكون األعمال الثانوية التي ارتكبها الشريك مرتبطة بهذه الجريمة برابطة سببية ،وهي أفعال االشتراك التي بينتها
نصوص القانون ،ويشترط أخيرا أن يكون الشريك متعمدا هذه المساهمة.
الفرع األول
الركن الشرعي لالشتراك
][156
نصت المادة 42من تقنين العقوبات الجزائري على أنه ":يعد شريكا في الجريمة من لم يشترك اشتراكا
مباشرا] ،[12لكنه ساعد بكل الطرق أو عاون الفاعل أو الفاعلين على ارتكاب األعمال التحضيرية
أو المسهلة أو المنفذة لها مع عله بذلك .".بينما بينت المادة 43من هم في حكم الشريك ،وهي المادة التي نصت على
أنه ":يأخذ حكم الشريك من اعتاد أن يقدم سكنا أو ملجأ أو مكان لالجتماع لواحد أو أكثر] ،[13من األشرار الذين
يمارسون اللصوصية أو العنف ضد أمن الدولة أو األمن العام أو ضد األشخاص أو األموال مع العلم بسلوكهم
اإلجرامي] ،".[14وباستقراء المادتين ،يمكن القول أن االشتراك هو كل من عاون الفاعل
أو الفاعلين األصليين في ارتكاب جناية أو جنحة ،سواء تمت أو توقفت عند حد الشروع ،وأن تنصب هذه المساعدة أو
المعاونة على المرحلة التحضيرية للجريمة ،أو لتسهيل ارتكابها ماديا ،أو تسهيل تنفيذها ،وبالتالي النظرة المجردة لنوع
هذه األعمال غير معاقب عليها قانونا وفقا لما تناولناه في نظرية الشروع ،غير أنها تنجذب لدائرة التجريم لكونها ترتبط
بجريمة الفاعل األصلي وكانت سببا معينا أو مسهال لتنفيذها ،وهو في الحقيقة تجسيد فعلي لنظرية االستعارة على األقل
في جانبها التجريمي الموضوعي دون الشخصي – سنبين مسألة استثناء االستعارة الشخصية الحقا ،-لذا وما دامت
أفعال الشريك غير معاقب عليها في حد ذاتها بل الرتباطها بالجريمة األصلية ،لذا فهذه األخيرة يجب أن تتوفر فيها
بعض الشروط ،أهمها:
-1أن يشكل الف عل الذي يقوم به الجاني جريمة من الجرائم المعاقب عليها قانونا .لكن بوصف الجناية
أو الجنحة ،إذ ال مساهمة وال اشتراك في المخالفات.
-2أال يكون فاعل الجريمة األصلية توفر لديه سبب من أسباب اإلباحة ،ألنه سبق القول أن مثل هذه األسباب
يستفيد منها كل من ساهم في ارتكاب الجريمة ،سواء كان فاعال أصليا أو مجرد شريك.
ك ما تجب اإلشارة إلى بعض العناصر المتمثلة في أن إفالت الفاعل األصلي من العقاب ال يمنع من قيام
االشتراك وعقاب الشريك في حال امتناع مسؤولية الفاعل األصلي أو قيام مانع من موانع العقاب لديه .ألنها أسباب
شخصية يستفيد بها المتوفرة لديه دون غيره .كما أن عدم عقاب الفاعل األصلي بسبب قيام عذر لديه ال يحول دون
عقاب الشريك ،كون العذر أيضا من السباب الشخصية.
الفرع الثاني
الركن المادي لالشتراك
ل عقاب الشريك عن األفعال التي ساعد بها الفاعل األصلي ،يجب وأن يرتكب أو يأتي إحدى أفعال
االشتراك المنصوص عليها في المادتين 42و 43من تقنين العقوبات الجزائري ،وهي أفعال وردت على سبيل
الحصر ،كوننا بصدد ن ص تجريمي يجب إعمال مبدأ الشرعية بخصوصه ،وهي بالتالي أفعال أو أعمال ال يجوز
تفسيرها تفسيرا واسعا ال القياس عليها ،وهذه األعمال هي:
أوال :أعمال المساعدة أو المعاونة
أ عمال المساعدة أو المعاونة ،هي كل فعل أو عمل من شأنه أن يعين أو يساعد أو يدعم به الشريك
الفاعل األصلي ،بشرط أن تبقى هذه األفعال في حدود مرحلة ما قبل البدء في تنفيذ الجريمة ،أو بعد ذلك دون أن يظهر
الشريك على مسرح الجريمة ،ألن الظهور على مسرح الجريمة (مكان ارتكاب الجريمة) يجعل من الشخص فاعال
أصليا ال مجرد شريك ،لذا فالشريك يجب أن يساعد الفاعل األصلي في المرحلة التحضيرية الرتكاب الجريمة ،كشراء
سالح وتقديمه للفاعل مع علمه بهدف هذا األخير .أو أن تكون هذه األعمال معاصرة الرتكاب الجريمة لكن بعيد عن
مكان تنفيذها .أما أعمال المساعدة الالحقة الرتكاب الجريمة ،فليست وسيلة من وسائل االشتراك ،وإنما يمكن أن تشكل
جريمة مستقلة بذاتها ،غير أن بعض الفقه يرى أنه يمكن االشتراك بأعمال الحقة على ارتكاب الجريمة ،بشرط أن يكون
هناك اتفاق سابق بين الشريك والفاعل األصلي على القيام بها ،وهنا يكون الشخص شريكا باالتفاق ال بالمساعدة ،مثل
تدبير الشخص الوسائل الالزمة لتمكين الجناة من الفرار ،أو إخفاء معالم الجريمة بعد ارتكابها ،وإن لم يكن هناك اتفاق،
فهذه األعمال تعد جريمة مستقلة ،مثل إخفاء أشياء متحصلة من جناية أو جنحة ،أو التستر على الفارين ،أو أي جريمة
يعاقب عليها المشرع بصفة مستقلة ،ويعد الشخص فاعال أصليا فيها .ال شريك في الجريمة األخرى التي أخفى فيها
المعالم أو اآلثار.
][157
ثانيا :إيواء األشرار أو إخفائهم
إيواء أو إخفاء األشرار في حقيقته يعد عمال من األعمال الالحقة الرتكاب الجريمة األصلية ،التي من
المفروض أن تخضع لما ورد سابقا ،غير أنه وتطبيقا للمادة 43اعتبرت من يقوم بمثل هذه األفعال في حكم الشريك،
لكن بتوفر الشروط الواردة بهذه المادة ،وهذه الشروط المحددة حصرا هي :االعتياد أو تكرار تقديم مسكن أو ملجأ
ألشرار يقومون بأعمال اللصوصية أو العنف ضد أمن الدولة أو األمن العام أو األشخاص
أو األموال ،واالعتياد يعني قيام الشخص بمثل هذه األعمال ألكثر من مرة واحدة ،بمعنى من ارتكب الفعل ألول مرة ال
يعد كذلك.
وقد أضاف المشرع الجزائري في المادة 91من قانون العقوبات صورة أخرى من صور االشتراك ،وهي
المتمثلة في أعمال المساعدة الالحقة أيضا ،حيث نصت هذه المادة على أنه :المادة ( 91المادة 60من القانون
23-06المؤرخ في ":)2006-12-20 :مع عدم اإلخالل بالواجبات التي يفرضها سر المهنة ،يعاقب بالسجن المؤقت
لمدة ال تقل عن عشر سنوات وال تتجاوز عشرين سنة في وقت الحرب ،وبالحبس من سنة إلى خمس سنوات وبغرامة
من 20.000إلى 100.000دج في وقت السلم ،كل شخص علم بوجود خطط أو أفعال الرتكاب جرائم الخيانة أو
التجسس أو غيرها من النشاطات التي يكون من طبيعتها اإلضرار بالدفاع الوطني ولم يبلغ عنها السلطات العسكرية أو
اإلدارية أو القضائية فور علمه بها .عالوة على األشخاص المبينين في المادة 42يعاقب باعتباره شريكا من يرتكب
دون أن يكون فاعال أو شريكا أحد األفعال اآلتية:
-1تزويد مرتكب ي الجنايات والجنح ضد أمن الدولة بالمؤن أو وسائل المعيشة وتهيئة مساكن لهم أو أماكن
الختفائهم أو لتجمعهم وذلك دون أن يكون قد وقع عليه إكراه ومع علمهم بنواياهم،
-2حمل مراسالت مرتكبي هذه الجنايات وتلك الجنح وتسهيل الوصول إلى موضوع الجناية أو الجنحة
أو إخفائه أو نقله أو توصيله وذلك بأي طريقة كانت مع علمه بذلك.
وعالوة على األشخاص المعنيين في المادة 387ق ع ج] ،[15يعاقب باعتباره مخفيا من يرتكب من
غير الفاعلين أو الشركاء األفعال اآلتية:
-1إخفاء األشياء أو األدوات التي استعملت أو كانت ستستعمل في ارتكاب الجناية أو الجنحة واألشياء
أو المواد أو الوثائق المتحصلة من الجنايات أو الجنح مع علمه بذلك،
-2إتالف أو اختالس أو تزييف وثيقة عمومية أو خصوصية من شأنها تسهيل البحث عن الجناية أو الجنحة أو
اكتشاف الدليل عليها مع علمه بذلك.
ويجوز للمحكمة في الحاالت المنصوص عليها في هذه المادة أن تعفي أقارب أو أصهار الفاعل لغاية
الدرجة الثالثة من العقوبة المقررة".
الفرع الثالث
الركن المعنوي لدى الشريك
جرائم االشتراك من الجرائم العمدية ،لذلك يشترط لدى الشريك توفر القصد الجنائي لديه بعنصريه العلم
واإلرادة ،العلم بكل األفعال التي تؤدي إلى تحقيق النتيجة ،سواء كانت من أفعاله أو أفعال غيره ،وأن يريد النتائج
المترتبة عنها ،وال يسأل عما زاد عن ذلك من نتائج متجاوزة قصده ،فهو يسأل فقط في حدود قصده.
المطلب الثاني
األوضاع الخاصة لالشتراك والعقاب عليه
ب اعتبار االشتراك جريمة معاقب علها قانونا ،فهي تحتاج على دراسة مدى جواز قيام الشروع فيها،
وكذا جواز القول باالشتراك في االشتراك ،وتحديد العقوبة المقررة للشريك.
الفرع األول
الشروع واالشتراك في االشتراك
][158
بالنظر لخصوصية جريمة االشتراك التي تعد في األصل جريمة غير معاقب عليها لوال قيام الفاعل األصلي
بجريمته ،فيمكن القول بأن االشتراك جائز في الجنايات والجنح التامة ،منا يجوز االشتراك في الجرائم الناقصة (
جرائم الشروع) ،جرائم معاقب عليها أيضا ،فيجوز االشتراك في الشروع في جناية
أو الشروع في جنحة ،بشرط أن تكون الجنحة مما يعاقب على الشروع فيها ،غير أن ما يحتاج الدراسة هو الشروع في
االشتراك ،واالشتراك في االشتراك ،الذين نتناولهما في النقطتين التاليتين.
أوال :الشروع في االشتراك:
ي رى البعض أنه ال يمكن الحديث عن الشروع في االشتراك ،سيما في الفروض التي تنتفي فيها رابطة
سببية بين السلوك والجريمة المتحققة ،كون الشروع يفترض أن الفعل المرتكب لم يمتلك القدرة الفعلية على تحقيق
النتيجة ،وبما أن االشتراك ليس جريمة قائمة بذاتها ومستقلة عن الجريمة األصلية ،وبالتالي ال يمكن الشروع في
االشتراك ألن الشروع يستلزم البدء في تنفيذ جريمة وفقا للنص التجريمي األصلي .وبالتالي من يباشر عمل من أعمال
االشتراك ،دون أن تتفاعل سببيا مع الجريمة األصلية المرتكبة ،ال يمكن اعتباره شريكا في الجريمة ألنه شرع في
االشتراك فيه ،ومثال ذلك إعارة شخص مسدس لشخص آخر ألجل قتل أحد األشخاص ،فيقوم الجاني بقتله عن طريق
الخنق ال باستعمال المسدس ،فال يد شريكا كونه انتفت العالقة السببية بين فعله والنتيجة التي تحققت .وهي نقطة تقود
لدراسة أثر عدول الشريك على قيام الجريمة.
ثانيا :عدول الشريك
ع دول الشريك قبل بدء الفاعل األصلي في تنفيذ جريمته مقبول قانونا ،أما ذلك غير جائز بعد البدء في تنفيذ
الجريمة من قبل الفاعل األصلي .غير أن التساؤل يثار حول مسألة عدول الفاعل األصلي عن ارتكاب جريمته ،وهنا
يمكن القول بأن االشتراك غير معاقب عليه في حد ذاته ما لم تقع الجريمة األصلية من قبل الفاعل األصلي ،وبالتالي
الشرط األولي لعقاب الشريك هو ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونا من قبل الفاعل األصلي ،غير أنه في حالة عدول
هذا األخير ال نكون بصدد جريمة ،وبالتالي ال اشتراك جنائي في فعل ال يعد جريمة].[16
ثالثا :االشتراك في االشتراك
االشتراك في االشتراك أمر جائز ،مثل الصيدلي الذي يقدم مادة سامة لشخص آخر مع علمه أن هذا األخير
سيسمم بها شخص آخر ،ورغم ذلك يريد مساعدته على ارتكاب هذه الجريمة بمثل هذه المادة ،فيعد كالهما شريك في
جريمة القتل بالتسميم .وذهب بعض الفقه إلى القول أن االشتراك في االشتراك ال عقاب عليه ،كونه مساهمة في فعل ال
عقاب عليه في حد ذاته ،ألنه سبق القول بأن أفعال االشتراك ال عقاب عليها ما لم يرتكب الفاعل األصلي الجريمة
األصلية ما لم تكن هناك عالقة اتصال مباشر بين الشريك والفاعل األصلي ،غير أن هذا الرأي ال أساس قانوني له،
كون القانون يعاقب على االشتراك متى وجدت عالقة بين الفعل األصلي وأفعال االشتراك ،وأن توفرت رابطة ذهنية
بين الفاعلين ،وبالتالي شريك الشريك يعاقب عن الجريمة التي ارتكبها الفاعل األصلي بوصفه شريكا فيها ال بوصفه
شريك الشريك.
الفرع الثاني
عقوبة االشتراك وأثر الظروف على عقوبة الشريك
نصت المادة 44من تقنين العقوبات الجزائري على أنه :يعاقب الشريك في جناية أو جنحة بالعقوبة
المقررة للجناية أو الجنحة .وال تؤثر الظروف الشخصية التي ينتج عنها تشديد أو تخفيف العقوبة أو اإلعفاء منها إال
بالنسبة للفاعل أو الشريك الذي تتصل به هذه الظروف .والظروف الموضوعية اللصيقة بالجريمة التي تؤدي إلى تشديد
أو تخفيف العقوبة التي توقع على من ساهم فيها يترتب عليها تشديدها أو تخفيفها ،بحسب ما إذا كان يعلم أو ال يعلم بهذه
الظروف.وال يعاقب على االشتراك في المخالفة على اإلطالق.".
و بالتالي يتضح أن كل مساهم مستقل بظروفه الشخصية سواء كانت مشددة أو مخففة أو معفية من
العقاب أو من المسؤولية ،أما بالنسبة للظروف الموضوعية اللصيقة بالجريمة فتسري على كل من ساهم في الجريمة
سواء بوصفه فاعال أصليا أو مجرد شريك ،بشرط توفر العلم بها ،أي أن يعلم بها الشريك].[17
][159
الفصل الرابع
الركن المعنوي للجريمة
إ ن مجرد ارتكاب ماديات الجريمة المتمثلة في عناصر ركنها المادي ،ال تكفي لقيام الجريمة قانونا
ومسائلة فاعلها جنائيا ،بل يجب أن يتوفر لدى مرتكبها قدر من الخطأ أو اإلثم ،وهو ما اصطلح على تسميته بالركن
المعنوي للجريمة] ،[18المتمثل في توفر صلة نفسية بين الفاعل وماديات الجريمة] ،[19وبالتالي يمكن القول أنه ال
جريمة بدون خطا مهما كانت النتائج التي تمخضت عنها ،وهو ما يعني أيضا توفر صلة نفسية بين الفاعل والنتيجة التي
تحققت ،بحيث يمكن وصف هذا السلوك بأنه سلوك خاطئ أو مؤثم] .[20فالجريمة إذن يجب وأن تقوم على ركنين
أساسيين ،باإلضافة إلى الركن الشرعي ،هما الركن المادي المتمثل في ماديات الجريمة التي تعد المظهر الذي تبرز به
في العالم الخارجي ،وركن معنوي يتحقق بموقف اإلرادة من الفعل المادي ،وهو الموقف الذي قد يتخذ صورة القصد،
كما قد يتخذ صورة الخطأ ،وكالهما يفترض القدرة على توجيه اإلرادة نحو ماديات الجريمة ،غير أنه في حالة القصد
تتجه اإلرادة نحو الفعل والنتيجة معا ،وفي حالة الخطأ تتجه اإلرادة نحو الفعل دون النتيجة ،التي تتحقق بصورة غير
مقصودة.
و المشرع ال يشير إلى هذه العالقة النفسية بين الفاعل والفعل ،إال بكلمة واحدة في العادة ،كاستعماله
عبارة " من يرتكب عمدا"] " ،[21عن قصد أو بقصد"] ،[22أو بغرض] " ،[23مع العلم" "،أو "بإهمال"] ،[24أو "
بنية"] ...[25كون معظم القوانين لم تتصد لتعريف الركن المعنوي للجريمة ،لذا فالفضل يعود لفكر الفقه الجنائي
الحديث في تحديد نطاق الركن المعنوي للجريمة واستجالء غموضه ،وجعل القانون يعاقب األشخاص ليس ألنهم "
فعلوا" وإنما ألنهم " أخطئوا" ،وعليه فقد أصبح من المبادئ الراسخة في الوجدان القانوني الجنائي المعاصر ،وهو المبدأ
القاضي بأنه ":ال عقوبة دون خطأ" ،وما يزال تحتفظ به القوانين من جرائم غير عمدية ،هو مجرد استثناء على المبدأ
في حدود ال تنال من فعاليته وأهميته] .[26وبذلك يعد الركن المعنوي من األركان التي ال تصور لقيام الجريمة بدونه،
كقاعدة عامة باعتباره العنصر النفسي لها ،فلكي تقوم المسؤولية الجنائية لمقترف الفعل المجرم ال تكفي مجرد النسبية
المادية للفعل له ،وإنما يلزم أن تتوافر رابطة نفسية بينهما تصلح أن تكون أساسا للحكم بتوافر العنصر المعنوي أو
األدبي للجريمة.
أهمية الركن المعنوي
يعد الركن المعنوي من أهم مكونات البناء القانوني للجريمة ،الذي ال يكتمل – هذا البناء القانوني -إال
بهذا الركن ،الذي إن لم يتوفر فال نكون أمام جريمة عمدية ،وإن كان يمكن أن يجعلنا أمام جريمة غير عمدية إن كان
الفعل يقبل مثل هذا الوصف ،وبتوفر هذا الركن تكتمل الجريمة قانونا ويحق مسائلة فاعلها من جهة ،ومن جهة ثانية،
تظهر أهمية الركن المعنوي ،في أنه الركن الذي يلعب دورا كبيرا في تحديد وتقدير الجزاء المقرر لمرتكب الجريمة ،إذ
يتدرج الجزاء الجنائي في جسامته ومقداره ،بقدر درجة اإلثم أو الخطأ التي يكشف عنها الركن المعنوي للجريمة ،عكس
][160
العصور الماضية التي كانت فيه درجة الجزاء ترتبط فحسب بدرجة وجسامة العدوان المادي الذي وقع وما أسفر عنه
من نتائج دونما أي اعتداد بما توافر لدى الجاني من خطأ .كما تكمن أهمية هذا الركن ،في كونه ضمانة لتحقيق العدالة،
كون توقيع عقوبة على شخص لم تربطه صلة نفسية بجريمة ارتكب مادياتها ،يعد مجافاة للعدالة ،كون هذه األخيرة
تقتضي أن يوقع الجزاء الجنائي فقط على المخطئ في أفعاله ،والخطأ ال يمكن تصوره إال لدى شخص توفرت لديه
رابطة نفسية بينه وبين الفعل الذي اقترفه ،وهي الرابطة التي تبين اتجاه إرادته لمخالفة أحكام القانون الجنائي بارتكابه
لهذا الفعل ،وبذلك فقط تكون إرادته مخطئة أو آثمة أو منحرفة.
عالقة الركن المعنوي بفكرة المسؤولية الجنائية
د ون استعراض مختلف التطورات التاريخية ،يمكننا القول بأن ظهور الركن المعنوي للجريمة ،كان
نتيجة التطورات التي عرفتها فكرة المسؤولية الجنائية ،بالرغم من استقالل كل منهما عن اآلخر ،كون الركن المعنوي
ركن من األركان العامة للجريمة ،في حين المسؤولية الجنائية ،هي حصيلة أركان الجريمة مجتمعة ،والتي تؤدي عند
قيامها أو ثبوتها إلى خضوع الجاني للعقاب .وبذلك المسؤولية الجنائية ،وعلى عكس الركن المعنوي ،نتيجة قانونية لقيام
الجريمة أو أثر من آثارها ال ركن من أركانها].[27
و كخالصة للتمهيد لدراسة الركن المعنوي للجريمة ،يمكن القول أن قانون العقوبات أو القانون الجنائي،
يخاطب بأوامره ونواهيه اإلنسان الواعي المدرك صاحب اإلرادة الحرة والسليمة فقط ،لذا فالشخص يسأل عن األفعال
التي يأتيها وهو مدرك لما يقوم به من أفعال ومقدر لمدى خطورتها قانونا ،وهذه اإلرادة وهذا اإلدراك هما اللذان يتشكل
منهما الركن المعنوي للجريمة ،وهو القول الذي ينطبق على كل الجرائم سواء كانت عمدية أو غير عمدية] .[28األمر
الذي جعل الفقه يرى بأن الركن المعنوي بصفة عامة ،يتطلب مجموعة من العناصر تكاد تكون مشتركة بين في كل
صور هذا الركن ،وهذه العناصر هي :إرادة النشاط المكون للركن المادي للجريمة ،العلم بكافة العناصر الواقعية
الجوهرية الالزمة قانونا لقيام الجريمة ،العلم بصالحية النشاط إلحداث النتيجة ،توافر موقف نفسي للفاعل إزاء النتيجة،
فقد يريدها وقد يتوقعها فقط ويعتقد بقدرته على تجنبها.
صور الركن المعنوي للجريمة:
ل لركن المعنوي للجريمة صورتين ،صورة القصد الجنائي ونكون بصدده متى كانت إرادة الفاعل واعية
وتقصد وتريد إحداث النتيجة المجرمة قانونا ،وصورة الخطأ الجنائي ونكون بصددها متى كانت إرادة الفاعل مهملة في
ارتكاب النشاط المادي وغير قاصدة تحقيق النتيجة المجرمة قانونا ،والتي يرتبط توقيع الجزاء الجنائي بحصولها ،لذا
سنحاول تقسيم دراسة الركن المعنوي للجريمة إلى مبحثين ،نتناول في األول القصد الجنائي أو الجرائم العمدية أو
القصدية ،لنتناول في الثاني صورة الخطأ الجنائي أو الجرائم غير العمدية..
][161
المبحث األول
القصد الجنائي أو القصد الجرمي ( العمـــــــد)
بالرغم من أن القصد مشترط في كل الجرائم العمدية ،غر أن المشرع لم يعرفه ،وترك المهمة للفقه
الذي تصدى بغزارة لوضع تعريف لهذا العنصر القانوني المهم ،لذا سنحاول أن نتناول محاوالت الفقه الزاخرة في هذا
الشأن في إطار مطلب أول نتناول من خالله مفهوم القصد الجنائي لنتناول في الثاني عناصر القصد الجنائي ،وفي
الثالث أنواع وصور القصد الجنائي.
المطلب األول
مفهوم القصد الجنائي
ي قتضي موضوع القصد الجنائي وتحديد ماهيته ،أن نتناول التعريف به وتبيان عناصره والخالف الفقه
الذي ثار بشأن ذلك .من خالل الفروع التالية.
الفرع األول
التعريف بالقصد الجنائي وتحديد أبعاده
أوال :تعريف القصد الجنائي
ي عني القصد الجنائي لغة ،توجيه اإلرادة نحو تحقيق هدف ما ،أما اصطالحا في لغة القانون الجنائي،
فيعني توجيه اإلرادة نحو ارتكاب الفعل المحظور قانونا ،وهناك من القوانين التي عرفت القصد الجنائي ،منها القانون
الجنائي اللبناني في المادة 188منه التي عرفت القصد بأنه ":إرادة ارتكاب الجريمة على نحو ما عرفها القانون" .أما
فقهيا ،فالفقهاء اختلفوا منذ عدة قرون حول ما إن كان القصد عنصرا نفسيا بسيكولوجيا ،أو مجرد حركة أو امتناع أدى
إلى تحقيق النتيجة المجرمة قانونا ،وتمخض عن هذا الخالف ظهور نظريتين رئيسيتين تنازعتا في تعريف القصد
الجنائي ،النظرية التقليدية للقصد والنظرية الوضعية.
-1النظرية التقليدية ( الكالسيكية) للقصد:
و من أهم زعماء هذه النظرية الفقيه الفرنسي ( إميل غارسون) ،وحسبه فإن القصد يعني ":إرادة
الشخص ووعيه وعلمه بأنه يرتكب فعال أو امتناعا مجرم قانونا" ،وبالتالي حتى يكون اإلنسان متعمدا
أ و مرتكبا لجريمة عن قصد ،يكفي أن يكون مدركا لخطورة سلوكه ،وعالما بأن هذا السلوك محظور قانونا ،وما دام
هذا العلم مفترضا تطبيقا لقاعدة " ال عذر بجهل القانون" فيكفي عمليا حسب أنصار هذا االتجاه ،أن يكون السلوك
المكون لركن المادي للجريمة صادرا عن إرادة حرة غير مكرهة ،وعن وعي وإدراك سليم ،أي أال يكون الشخص
منعدم األهلية أو مجنونا أو مكرها] ،[29وبعد ذلك ال يهم أن يكون الفاعل صاحب إرادة آثمة أو صاحب خطورة
إجرامية على المجتمع ،أم أن فعله ناتج عن مجرد عدم استقامة أو سوء تقدر أو عدم توقع لنتائج فعله ،وبالتالي هي
نظرية ال تفرق أصال بين العمد ومجرد الخطأ ،ونفهم بأنه يرون بأنه للركن المعنوي صورة واحدة هي صورة العمد.
وهو وضع النظرية الشخصية دوما التي تركز على اإلرادة دون الفعل.
-2النظرية الوضعية أو الواقعية:
][162
وهي النظرية التي نجد على رأس أنصارها الفقيه اإليطالي ( أنريكو فيري) وهو رائد المدرسة
الوضعية الحديثة في علم اإلجرام ،وبحسبه القصد ال يعني فقط إرادة مجردة ،بل القصد يعني الباعث الشرير الذي دفع
بالشخص إلى ارتكاب الجريمة ،فالفعل ال يعاقب عليه القانون إال إذا نتج عن رغبة حقيقية في المساس بالمجتمع ،وكلما
انعدمت اإلرادة اآلثمة وكان الباعث نبيال انتفى القصد وانعدمت المسؤولية الجنائية للفاعل ،وهنا نالحظ أننا ال زلنا
بصدد النظرية الشخصية ،المركزة على اإلرادة اآلثمة ،والخلط بين الركن المعنوي والمسؤولية الجنائية ،وهي نظرية ال
تستقيم مع ما هو معمول به قانونا ،سيما وأن القوانين الحديثة ال تحفل بالبواعث.
][163
الع موم يعني العلم اإلحاطة بكل واقعة ذات أهمية قانونية في تكوين الجريمة ،سواء كانت عناصر أساسية أو مفترضة.
وأهم هذه العناصر والوقائع:
أ – محل الجريمة أو الحق المعتدى عليه:
العلم بموضوع الجريمة ،أو الحق أو المصلحة المعتدى عليها من أهم العناصر الواجبة لقيام الجريمة
وبالتالي يجب أن يعلم بها الجاني ،مثل ملكية الغير للمال المسروق في جريمة السرقة ،وكون اإلنسان حي في جريمة
القتل ...وأن كل جهل بهذا العنصر يجعل من العلم منتفيا وينتفي بذلك القصد الجنائي.
ب -العلم بأن الفعل الذي يأتيه الجاني محظور قانونا ،أي أنه يشكل جريمة من جرائم قانون العقوبات ،وإن
كانت مسألة العلم بالقانون قد أثارت العديد من الجدل الفقيه.
ج -العلم بزمان ومكان ارتكاب الجريمة ،لكن متى كان هذين العنصرين من العناصر المكونة للجريمة،
كجريمة التجمهر في مكان عام أو جريمة السكر العلني والقذف في مكان عام والمزايدة في زمن الحرب والكوارث
الطبيعية...
د -العلم بالظروف المتطلبة قانونا في الجاني أو المجني عليه ،كالعلم بحمل المرأة أو افتراض حملها في جريمة
اإلجهاض ،والعلم بأن الشخص جزائري في جريمة الخيانة ،والعلم بصفة الموظف في جريمة الرشوة ،والعلم بالمرأة
المتزوجة في جريمة الزنا...
ه -توقع النتيج ة كون مجرد الغلط في النتيجة ينفي القصد الجنائي ،ويسأل الشخص عن جريمة غير عمدية إن
كان يمكن قيامها بهذا الوصف.
-2الوقائع التي ال يتعين العلم بها
من أهم العناصر أو الوقائع التي ال يشترط العلم بها لقيام هذا العنصر الهام من عناصر القصد الجنائي،
هي كل المسائل والعناصر التي تخرج عن نطاق تكوين أركان الجريمة ،مثل نص قانون العقوبات والظروف المشددة
للعقوبة واألهلية الجنائية وتوافر شروط العقاب.
أ -نص قانون العقوبات:
ال يشترط لتوفر القصد الجنائي أن يعلم الجاني علما حقيقيا بنص قانون العقوبات أو القوانين المكملة له،
بحيث أن كل جهل أو خطا في فهم وتفسير هذه النصوص ال يؤثر على توفر القصد الجنائي تطبيقا للمبدأ الدستوري " ال
يعذر أحد بجهل القانون" ،والتي نصت عليه بعض القوانين صراحة ضمن نصوص قانون العقوبات ،كالقانون اللبناني
في نص المادة 223منه التي قضت انه ":ال يمكن ألحد أن يحتج بجهله الشريعة الجزائية أو تأويله إياها تأويال مغلوطا
فيه ".حيث هناك قاعدة افتراض علم الكافة بأحكام قانون العقوبات.
ب -الظروف المشددة للعقوبة:
ال يشترط أيضا لقيام القصد الجنائي لدى الجاني ،أن يعلم األخير بالظروف المشددة للعقاب ،كونها
ليست من العناصر التي تدخل في التكوين القانوني للجريمة ،بل هي مجرد ظروف تتعلق بمسائل أخرى ،في حين أن
القصد الجنائي يتعلق بأركان الجريمة دون غيرها ،لذا فالشخص الذي نسي أنه مسبوق فال يؤثر على قيام ظرف العود
لديه.
ج -عناصر األهلية أو المسؤولية الجنائية:
مثلما سبق القول ،فإن كل المسائل غير المتعلقة بأركان الجريمة ليس لها عالقة بالقصد الجنائي ،لذا
فعناصر األهلية الجنائية أو عناصر المسؤولية الجنائية ال يؤثر العلم أو الجهل بهما في شيء على عنصر العلم المتطلب
في قيام القصد الجنائي ،فمن كان يعتقد بإصابته بمرض عقلي عند ارتكابه الجريمة ثم تبين انه سليم ،فإن ذلك ال يؤثر
على قصده الجنائي.
د -شروط العقاب:
م ا قيل بخصوص الظروف المشددة للعقوبة وعناصر األهلية والمسؤولية الجنائية يمكن قوله بخصوص
شروط العقاب .التي ال يؤثر الخطأ أو الجهل بها بشيء في قيام القصد الجنائي.
ثانيا :عنصـر اإلرادة
][164
ا إلرادة قوة داخلية نفسية تتحكم في سلوك اإلنسان وتوجهه ،وهي بذلك نشاط يصدر عن وعي وإدراك
بهدف بلوغ هدف معين ،واإلرادة في القانون الجنائي ،هي القوة المسيطرة والموجهة للسلوك المادي نحو تحقيق نتيجة
محظورة قانونا ،أو مجرد قيادة هذا السلوك في الجرائم الشكلية .وقد ثار خالف فقهي بخصوص عالقة اإلرادة بالنتيجة،
ما دامت اإلرادة تسيطر فقط على السلوك وان النتيجة اثر له ،ومعنى ذلك أنه ال أثر لإلرادة على النتيجة ،فهي كل ما
تتحكم به هو السلوك ،غير أن مناقشة هذه المسألة تنازعته نظريتان أيضا ،نظرية العلم ونظرية اإلرادة.
نظرية العلم ،ويرى أنصارها بأن الرابطة بين النتيجة واإلرادة هي رابطة ضعيفة ،فمجرد وجود عالقة ولو
بسيطة ( مجرد تصور أو توقع للنتيجة) يكفي للقول بإرادة النتيجة ،كون هذه األخيرة مجرد نتيجة طبيعية للسلوك ال
يمكن السيطرة عليها ،كونها حصلت كنتيجة الحقة لهذا السلوك وال يمكن لإلرادة أن تسيطر على األفعال الالحقة
للسلوك.
أما أنصار نظرية اإلرادة ،فيرون ضرورة أن تكون الرابطة بين اإلرادة والنتيجة رابطة قوية بحيث تتجه
إرادة الفاعل إليها وترغب في تحقيقها ،بحيث تسيطر اإلرادة على النتيجة مثلما تسيطر على السلوك.
الفرع الثالث
لحظة توفر القصد الجنائي وكيفية إثباته
أوال :لحظة توافر القصد الجنائي
إذا كان القصد الجنائي هو إرادة تحقيق الركن المادي للجريمة مع العلم بعناصره ،فيجب لقيامه أن
يتعاصر مع الركن المادي دون تفرقة بين ما يعد سلوكا وما يعد نتيجة ،وإن لم تكن هناك صعوبة مثال في جريمة القتل
الفورية أين يطلق الشخص النار على آخر فيرديه قتيال ،فهنا يعد القصد قد تحقق في اللحظتين معا ،لحظة إتيان السلوك،
ولحظة تحقق النتيجة الفورية ،غير أنه قد يحدث أن يتوفر القصد في إحدى اللحظتين دون األخرى ،وذلك ال يمنع من
القول بتوفره أيضا ،كالشخص الذي يندم بعد وضعه السم في طعام شخص آخر ،غير أن الوفاة تحدث ،فهنا يكون القصد
متوفرا في حقه بالرغم من قيامه فعال لحظة إتيان السلوك وتخلفه لحظة تحقق النتيجة ،أو في الحالة العكسية – أين
يتحقق القصد لحظة النتيجة دون أن يكون متوفرا لحظة السلوك ،-مثل الصيدلي الذي يخطئ في تركيب دواء طلبه منه
شخص معين ،فيضع في هذا الدواء مادة سامة ويسلمه للمريض ثم بعد أن يغادر األخير يكتشف خطأه لكن يمتنع عن
تنبيهه مع قدرته على ذلك ،رغبة منه في تحقق نتيجة الوفاة ،ففي هذه الحالة أيضا يعد القصد متوفرا بالرغم من
معاصرته فقط للنتيجة وتخلفه لحظة إتيان السلوك .وبهذا يمكن القول باختصار ،أنه يكفي قيام القصد بعنصريه العلم
واإلرادة في أية مرحلة من مراحل تنفيذ الركن المادي ،كون هذا األخير حتى وإن أمكننا نظريا تحليله لعناصر ،غير أن
ذلك ال ينال من حقيقته كوحدة مادية واحدة يكفي توفر القصد فيها في أية لحظة من لحظاتها.
ثانيا :إثبات القصد الجنائي
القصد يعد ركن من أركان الجريمة التي ال قيام لها بدونه ،لذا يجب إثباته وإقامة الدليل على توفره،
وتلك مسألة قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض ،غير أن إثبات المسائل النفسية ال يكون بطريق مباشر وإنما بطرق
غير مباشرة باالستدالل واالستنتاج من ظروف ومالبسات كل قضية على حدة ،خاضعا في ذلك للسلطة التقديرية لقضاة
الموضوع دون رقابة عليهم من محكمة النقض ،ألنها مسألة استنتاج ليس هناك مظهر بذاته يقطع بتوفره على سبيل
الحتم والجزم واليقين .ويجب أن يظهر في الحكم وإال كان معيبا ومعرضا للنقض واإلبطال.
المطلب الثاني
صور القصد الجنائي
يقسم فقهاء القانون الجنائي القصد الجنائي ( العمد ) عدة تقسيمات ،فيقسم إلى قصد عام وقصد خاص،
وقصد محدد وقصد غير محدد ،وقصد مباشر وقصد غير مباشر ..وفي الغالب المشرع ال يرتب أية نتيجة قانونية على
هذه األنواع ،ما عدا بخصوص التقسيم األول -القصد العام والقصد الخاص -لكن باقي التقسيمات األخرى يرى الفقه أن
أثرها ينحصر في تقدير العقوبة الموقعة على الجاني ،دون أن يكون لها أثر على الجريمة وقيامها.
][165
الفرع األول
القصد الجنائي العام والقصد الجنائي الخاص
أوال :القصد الجنائي العام
القصد الجنائي العام هو القصد المطلوب في كل الجرائم العمدية ،وينحصر في إطار النموذج التشريعي
المنصوص عليه في النص ،وال يمتد للغرض الذي يسعى إلى تحقيقه الجاني ،وبغض النظر عن غاية وباعث الجاني
من وراء اقترافه الجريمة ،بل ينحصر فقط في الهدف الضروري والمباشر للسلوك اإلجرامي ،وهو بذلك ال يختلف من
جاني آلخر في الجريمة الواحدة.
ثانيا :القصد الجنائي الخاص
القصد الجنائي الخاص ،هو ذلك القصد الذي نكون بصدده عندما يتطلب القانون باإلضافة إلى القصد
الجنائي العام ،تحقق غاية معينة يبتغيها الجاني ،وتكون هي التي دفعته الرتكاب الجريمة ،وهي التي يستدل عليها بطرح
سؤال بسبب ارتكاب الجاني لجريمته ،لذا فالغاية التي يتضمنها القصد الخاص في حقيقتها مسألة خارجة أصال عن
وقائع الجريمة المتطلبة في تكوين نموذجها التشريعي ،تؤدي في حال اشتراطها إلى اكتمال الركن المعنوي للجريمة.
وال يختلف القصد الجنائي العام على القصد الجنائي الخاص من حيث العناصر المكونة لكل منهما ،كون القصد الجنائي
الخاص يتطلب بدوره عنصري العلم واإلرادة في حدود معينة تدور في الغاية التي يتطلبها المشرع ،ونجد المشرع
عندما يتطلب قصدا خاصا يستعمل عبارات مثل " بقصد" أو " بقصد اإلضرار" أو " بغرض"....
الفرع الثاني
القصد الجنائي المحدود والقصد الجنائي غير المحدود
أوال :القصد الجنائي المحدود
نكون بصدد القصد الجنائي المحدود ،لما يحدد الجاني بدقة موضوع جريمته ويحدد ويحصر النتائج
المراد تحقيقها من خاللها ،أما ارتكاب الجريمة دون تحديد موضوعها وال النتائج المراد تحقيقها ،يجعلنا بصدد قصد
غير محدد ،وكال النوعين يشترطان العلم واإلرادة دون أن يفرق القانون ما يترتب عنهما بخصوص العقوبات ،فكالهما
معاقب عليه لكن كثيرا ما يعد القصد المحدد ظرفا مشددا بالنظر لجسامة النتائج المترتبة عنه.
الفرع الثالث
القصد الجنائي المباشر والقصد الجنائي غير المباشر ( االحتمالي)
بالرغم من تشابه هذا التقسيم مع السابق ،إال أنه يختلف عنه في أساس التقسيم ،حيث يعتمد في هذا
التقسيم مدى اتجاه اإلرادة إلى النتيجة والرغبة فيها أو قبولها ،لذا يكون القصد مباشرا عندما تتجه إرادة الجاني الرتكاب
الجريمة التي أرادها بكل عناصرها إلى تحقيق نتيجة معينة كأثر أكيد لسلوكه مع رغبة في حدوثها ،مثل إطالق النار
على شخص محدد رغبة في قتله.
أ ما إذا كان الجاني يتوقع إمكانية حدوث النتيجة ما بارتكابه سلوكه المجرم دون أن يكون متأكدا من
حدوث هذه النتيجة ،باعتبارها ممكنة الوقوع ،ورغم ذلك غامر بارتكاب هذا السلوك ،فهنا نكون أمام قصد احتمالي غير
مباشر باعتباره قد قبل النتيجة التي تحققت ،بمعنى أننا نكون بصدد قصد احتمالي في جميع الحاالت التي يتوقع فيها
الجاني النتيجة كأثر ممكن من سلوكه ومع ذلك يتصرف كأنه قابل بحدوثها بدليل عدم تراجعه عن سلوكه.
] - [1ألن المحرض قد يكون هو صاحب الفكرة اإلجرامية منذ الوهلة األولى ،وقد يكون دوره مقتصرا فقط على إيجاد
التصميم لدى الفاعل الرتكابها ،كأن يقترح الفاعل ذاته فكرة الجريمة ،ويقوم المحرض بتزيينها له ويولد لديه التصميم على القيام
بها ،إذ لواله لما أقدم الفاعل على ارتكابها.
] - [2لذا نرى شخصيا وفي ظل غياب نص دقيق موضح للمسألة ،أنه يجوز التحريض على فعل يعد جريمة لكن
مصحوبا بسبب من أسباب اإلباحة ،مثل تحريض األب على تأديب ابنه أو الزوج على تأديب زوجته ،ألننا بتوفر سبب من أسباب
][166
اإلباحة ال نكون أمام جريمة .وال إشكال أيضا في حالة التحريض على فعل يعد جريمة لكن مرتكبه توفر لديه مانع من موانع
المسؤولية ،وهنا الشخص ال يعاقب بصفته محرضا وإنما بصفته فاعال معنويا ،الفكرة التي ستكون موضوع دراستنا الحقا.
لكن اإلشكال الذي يطرح ،هو حالة التحريض على فعل يشكل جريمة فعال ،لكن الشخص الفاعل يكون قد توفر
لديه مانع من موانع العقاب ،إذ مثل هذه الموانع ال تبيح الفعل وإنما تمنع توقيع الجزاء ،مثل تحريض الزوج على سرقة زوجته أو
العكس ،فهنا نرى أنه محرض كون موانع العقاب ال تمحي عن الفعل صفته اإلجرامية.
] - [3نصت هذه المادة التي عدلت بموجب المادة 60من القانون 23-06المؤرخ في ":)2006-12-20 :كل
تحريض مباشر على التجمهر غير المسلح سواء بخطب تلقى علنا أو بكتابات أو مطبوعات تعلق أو توزع يعاقب عليه بالحبس
من شهرين إلى سنة إذا نتج عنه حدوث أثره ،وتكون العقوبة الحبس من شهر واحد إلى ستة أشهر وبغرامة من 20.000إلى
100.000دج أو بإحدى هاتين العقوبتين في الحالة العكسية.
كل تحريض مباشر بنفس الوسائل على التجمهر المسلح يعاقب عليه بالحبس من سنة إلى خمس سنوات إذا
نتج عنه حدوث أثره .وتكون العقوبة الحبس من ثالثة أشهر إلى سنة وبغرامة من 20.000إلى 100.000دج أو بإحدى هاتين
العقوبتين في الحالة العكسية".
] - [4التهديد في قانون العقوبات الجزائري جريمة مستقلة بذاتها ،وهو التهديد الذي قد يكون كتابة كما قد يكون شفاهة،
وقد تضمنت المواد من 284إلى 287النص والعقاب عليه.
وهو األمر الذي يجعل الشخص المحرض على ارتكاب الجريمة عن طريق التهديد بصدد تعدد مادي للجرائم،
فارتكب جريمة التحريض ،وجريمة التهديد ويخضع لتوقيع العقوبة الشد.
] - [5ن رى أن الفاعل في هذه الحالة ال يسأل جنائيا عن الجريمة التي حرض عليها وارتكبها ،كونه توفر له مانع من
موانع المسؤولية وهو اإلكراه الذي سندرسه عند تناول مسألة المسؤولية الجنائية وموانعها .وذلك إذا توفرت شروط اإلكراه ،فقد
يكون بوسع لمحرض مراجعة السلطات قبل التنفيذ.
] - [6و هنا يمكن التذكير بموضوع تم تناوله في إطار دراسة أسباب اإلباحة ،وبالضبط في مجال مدى جواز تنفيذ
المرؤوس ألوامر رؤساءه غير المشروعة ،ففي مثل هذه الحالة إذا ما نفذ المرؤوس أوامر رؤساءه بحسن نية وكان التنفيذ ينطوي
جريمة متعمدة سأل عنها الرئيس بصفته محرضا.
] - [7التي نصت على أنه ":إذا لم ترتكب الجريمة المزمع ارتكابها لمجرد امتناع من كان ينوي ارتكابها بإرادته وحدها
فإن المحرض عليها يعاقب رغم ذلك بالعقوبات المقررة لهذه الجريمة.".
] - [8استعمل المشرع الجزائري عبارة – بسبب وضعه أو صفته الشخصية -وهي عبارة نرى أنها تعوزها الدقة كثيرا،
فالوضع والصفة ال يعنيان بالضرورة امتناع المسؤولية الجنائية لدى الشخص ،بل هما أوسع نطاقا من ذلك ،فمن توفر لديه مانع
من موانع العقاب يعد صاحب وضع ،كما أن فكرة الصفة الشخصية مسألة بعيدة كل البعد عن األفكار القانونية ..لذا نرى أنه كان
على المشرع الجزائري استعمال الشخص غير مسؤول جنائيا بصراحة ويضيف لها حسن النية ،ألنه في رأينا بموجب هذا النص
يدخل حتى السكر والتخدير والزوج والزوجة في الجرائم المقيدة بقيد.....
] - [9يضرب الفقه بعض األمثلة عن حسن النية ،كأن يطلب أحدهم من عامل المطعم أن يناوله معطف ليس ملكا له
موهما إياه أنه مالكه ويعتقد عامل المطعم بصحة ذلك ،أو كان يشير أحد األشخاص لحملة الحقائب بالمطار بأن يسوق له حقائب
الغير ويعتقد العامل أنه صاحبها.
] - [10باإلضافة للمالحظة السابقة ،نالحظ أن المشرع استعمل من ال يخضع للعقوبة بمعنى أصحاب موانع العقاب وال
حتى موانع المسؤولية ودقة المصطلحات تقتضي هذه المالحظة.
] - [11وبعبارة أخرى قانونية ،يمكن القول عن الشريك ،أنه الشخص الذي يساعد الفاعل األصلي على ارتكاب الجريمة
ولكن بعمل ال يصل إلى ما يشكل الركن المادي للجريمة ،أو ال تدخل في السلوك التنفيذي للجريمة على النحو الموصوف قانونا.
] - [12ن رى أن المشرع الجزائري ما كان ليخسر شيء لو أضاف عبارة " فيها" التي تعود على الجريمة األصلية،
لتكون الفقرة على النحو التالي :يعد شريكا في الجريمة من لم يشترك اشتراكا مباشرا فيها أو في تنفيذها"...
] - [13إ ن كان فاعل واحد فإننا ال نظن أن المسكن أو الملجأ يقدم له لالجتماع بل للجوء " ملجأ" ألن فكرة االجتماع
تتطلب تعدد الجناة والشخص ال يجتمع بنفسه بل يختلي بها.
] - [14نرى أن المشرع الجزائري هنا لم يترك نوع من أنواع الجرائم وإال شمله النص ،لذا ال ندري ما الذي كان
يمنعه من النص صراحة بالعقاب على " كل من ارتكب جريمة من الجرائم المنصوص عليها قانونا" خاصة الجنايات والجنح.
][167
وفي تفسيري الخاص أن كل من ارتكب جنحة أو جناية أو شرع في ذلك – في الجنح إذا كان معاقب على الشروع فيها -وقدم له
هذا المسكن أو الملجأ .
] - [15المادة ( 387المادة 60من القانون رقم 23-06المؤرخ في ":)2006-12-20 :كل من أخفى عمدا أشياء
مختلسة أو مبددة أو متحصلة من جناية أو جنحة في مجموعها أو في جزء منها يعاقب بالحبس من سنة على األقل إلى خمس
سنوات على األكثر وبغرامة من 20.000إلى 100.000دج .ويجوز أن تجاوز الغرامة 100.000دج حتى تصل إلى ضعف
قيمة األشياء المخفاة .ويجوز عالوة على ذلك أن يحكم على الجاني بالحرمان من حق أو أكثر من الحقوق الواردة في المادة 14
من هذا القانون لمدة سنة على األقل إلى خمس نوات على األكثر .وكل ذلك مع عدم اإلخالل بأية عقوبة أشد إذا اقتضى األمر في
حالة االشتراك في الجناية طبقا للمواد 42و 43و." .44
] - [16ونشير هنا أن أنصار هذا االتجاه هم أنصار المذهب الموضوعي في البدء في التنفيذ ،بينما أنصار المذهب
الشخصي الذين يعتبرون العدول من األسباب الشخصية ،فهم يرون عقاب الشريك عند عدول الفاعل األصلي ،كون العدول
االختيار للفاعل األصلي يشكل ظرفا شخصيا يستقل به وحده ،وأن المشرع ينص على استقالل كل فاعل بظروفه الشخصية ،غير
أن العدول في نظرنا يرتبط بماديات الجريمة كونه حال دون تحققها ماديا ،وبالتي هو من الظروف الموضوعية التي يستفيد منها
الجميع .وإن كان المشرع الجزائري يعتد بالعلم بها ،فإننا نرى أيضا أنه في حال جهل الشريك بعدول الفاعل فإنه يستفيد بهذا
العدول أيضا ،ألننا لسنا بصدد جريمة ،واالشتراك أفعال غير معاقب عليها ما لم ترتكب لجريمة األصلية.
] - [17م ن الظروف الشخصية موانع المسؤولية وموانع العقاب واألعذار القانونية ،فهنا كل شخص توفرت لديه يكون
وحده المستفيد منها ،فال يمكن إن توفرت لدى الشريك أن ينتفع منها الفاعل والعكس صحيح ،بينما الظروف العينة اللصيقة
بالجريمة تسري على الكل بشرط أن يكون الكل على علم بها ،وال نقصد هنا أسباب اإلباحة إذ هذه األخيرة يستفيد منها الجميع
بغض النظر عن العلم أو الجهل بها ،بل المقصود الظروف العينية المتعلقة بالتشديد والتخفيف في العقاب مثل ظرف الليل في
جريمة السرقة ،فالشخص إذا كانت نيته االشتراك في جنحة سرقة بالنهار وارتكبها الفاعل األصلي مقترنة بظروف التشديد هنا
يبحث عما إن كان الشريك يعلم بها أم ال فيشدد عليه إن كان عالما بها ،وال تشديد إن كان يجهل األمر.
] - [18ا لمالحظ أن المسميات الفقهية للتعبير عن الركن المعنوي متعددة ،سيما في ظل غياب تعريف تشريعي له،
فسمي بركن الخطأ أو اإلثم أو الذنب أو اإلذناب أو الخطيئة ،والركن األدبي ،لكن مهما تعددت هذه المسميات ،فإن ذلك ال يؤثر
على حقيقة الركن المعنوي للجريمة ،وال ينقص من محتوى عناصره.
] - [19كون القانون ال يهتم بالفعل المادي الذي يرتكبه الفاعل بوصفه هذا ،كون الحيوان أو الجماد يمكنه أيضا أن
يحدث أضرارا مادية باألفراد والممتلكات ،وأن الوقت الذي كانت فيه الخرافات تدفع بالمجتمع إلى معاقبة غير البشر ،وقت قد
مر ،وقد سجل تاريخ القضاء في أوروبا خالل القرون الوسطى العديد من المحاكمات العجيبة ،التي أن فيها المتهم من الحيوانات،
مثل الذئاب والخنازير والدببة والخيول والجرذان والحشرات والكالب والقطط ،كما كانت تستدعى الحيوانات أيضا للشهادة أمام
المحاكم ،فتعتبر شهود إثبات أو نفي بحسب ما يصدر عنها من حركة أو سكوت ،بحيث كان سكوتها دليل على البراءة وحركتها
دليل على اإلدانة.
وفي العصور الوسطى دوما ،أصدر الملك الفرنسي فرنسوا األول ( )1494-1574قرار يجيز حضور
المحامين مع الحيوانات الجانية للدفاع عنها ،كما أصدر الحاكم "جون مارتوا" أمر بتدمير جرس " كنيسة بيرون" بسبب خيانة هذا
الجرس ،إذ بواسطته حرض المواطنون على التمرد.
] - [20ف ي العصور السابقة الغابرة الضاربة في جذور التاريخ وحتى القرون الوسطى ،لم يكن األمر كذلك ،فالمسؤولية
كانت مادية أو موضوعية تعتمد على الركن المادي للجريمة فقط دون ركنها المعنوي ،حيث كانت تقوم مسؤولية الشخص بمجرد
اقترافه السلوك المادي دون حاجة للبحث عن مدى توفر الخطأ أو الذنب أو اإلثم لديه.
] - [21ومن صور استعمال المشرع لهذه العبارة ،المادة " 264كل من أحدث عمدا جروحا للغير ،"...والمادة ": 273
كل من ساعد عمدا شخصا على األفعال التي تساعده على االنتحار ،"....والمادة " 321كل من نقل عمدا طفال أو أخفاه،"...
والمادة ": 329كل من تعمد إخفاء قاصر ،"...وأيضا المواد 87مكرر 160 ،90 ،5مكرر160 ،4مكرر 160 ،5مكرر،6
160مكرر ....7
] - [22ومن أمثلة ذلك في قانون العقوبات الجزائري ،المادة ...": 2/61القيام بالتخابر مع دولة أجنبية بقصد حملها
على "...والمادة ": 86يعاقب باإلعدام ....بقصد اإلخالل"...
][168
] - [23ومن أمثلة ذلك في تقنين العقوبات الجزائري ،المادة ... ": 65بغرض تسليمها لدولة أجنبية" ،المادة ": 77
المؤامرة التي يكون الغرض منها "..والمادة : 84ط كل من يرتكب اعتداء يكون الغرض منه "..وأيضا المادة ،114 ،88 ،85
...176
] - [24ومن أمثلة ذلك في تقنين العقوبات الجزائري ،المادة 119مكرر ... ":تسبب بإهماله ، "...المادة ... " 162
بسبب اإلهمال289 ،288 "...
] - [25مثل نص المادة 120ق ع ج.
] - [26حيث أن القانون بموجب مبدأ ال جريمة بدون خطأ ،أصبح يأخذ بعين االعتبار الصلة النفسية بين الفاعل والفعل
الذي كان فيما مضى مجردا منظورا له بطريقة مادية موضوعية وبصفة عامة ومجردة ،ومنطق األمور يبرر ذلك ،فاألصل في
األشياء اإلباحة ،وأن االستثناء هو التجريم الذي يكون بنصوص تشريعية واضحة ودقيقة ومبينة األركان والعناصر لكل ما هو
محظور على األفراد إتيانه ،وما عدا ذلك فهو مباح ما لم يكن يتعارض مع التزامات قانونية منصوص عليها في فروع القانون
األخرى ،أو في العرف وقواعد العدالة وأحكام القانون الطبيعي .وأن المشرع بوضعه النصوص التجريمية والنص عليها في
قانون العقوبات ،يضع في اعتباره ألنها ستحقق أهدافها بموجب ما تتضمنه من وعد ووعيد وترهيب بإنزال الجزاء المرفق بها،
كونه جزاء يتضمن معنى الردع العام وتحقيق المساواة والعدالة .ولعل ذلك ما يظهر منه أن المشرع يركز على الفعل على عكس
الفاعل ،وأن كل ما قام به هو تبيان الركن الشرعي للجريمة ومن خالله الركن المادي .األخير الذي ال يزال لغاية اللحظة يتصف
بالعمومية والتجريد .غير أن الركن المعنوي يشكل نقطة تحول المشرع واتجاه نظره نحو الفاعل ال الفعل ،وبه يبدأ التركيز على
الجوانب العقلية والنفسية ،وظروفه وأحواله من جنس وسن وما إلى غير ذلك .وبنوع من التجاوز حتى نواياه وخواطره وما إن
كانت تنطوي على خطورة إجرامية ،وبذلك يكون الركن المعنوي تجسيدا لالهتمام بشخص الفاعل والتمهيد إلقرار مسؤوليته
الجنائية وصالحيته لتوقيع الجزاء الجنائي عليه .أو الحد من كل ذلك أو منعه – من المسؤولية والعقاب -تبعا النعكاسات مقوماتها
على ظروف الجاني الشخصية والنفسية.
و لغاية هذا الركن ،تكون الجريمة محكومة بالعديد من المبادئ إذ :ال جريمة بدون نص ،وال جريمة بدون فعل،
وال جريمة بدون خطأ أو إثم ،بمعنى أن الجاني بالوصول لهذا الركن وكأنه يعبر عن علمه بتجريم الفعل ،وبالرغم من ذلك ارتكبه
ومستعد لتوقيع الجزاء المقرر له.
] - [27لذلك فال مجال لمسايرة اآلراء الفقهية المنادية بجعل الركن المعنوي نفسه المسؤولية الجنائية ،كما ال ينبغي
أيضا أن نخلط في دراستنا بين الموضوعين ،وذلك بالنظر الستقالل كل منهما عن اآلخر ،وبذلك ال يمكن أن تعالج نظرية
المسؤولية الجنائية في إطار دراسة الركن المعنوي للجريمة ،كونها أثر من آثار ارتكاب الجريمة ،فيجب دراستها بعد استكمال
دراسة كل أركان الجريمة كمحصلة عن قيام األخيرة قانونا.
] - [28بالرغم من أن المشرع يخرج عن هذه القاعدة أحيانا ،سيما في مجال المخالفات ،األمر الذي أدى بالفقه والقضاء
خاصة بفرنسا وإنجلترا إلى القول بأن المخالفات مجرد جرائم مادية يكفي لقيامها وقوع الفعل المادي دون اشتراط الركن
المعنوي ،وذلك لكونها مجرد خرق للتنظيمات واللوائح ،وال تشترط أي إثم أو عدوان وهما العنصرين المشكلين للركن المعنوي
لل جريمة ،وأن ارتكابها ال يعني أي خرق لقيم المجتمع بل هي خرق لتنظيم أو أمر إداري مبتدع ،ولعل أكبر دليل في التشريع
الجنائي الحديث ،ما ورد بنص المادة 3/121من تقنين العقوبات الفرنسي الجديد لسنة 1992والذي دخل حيز النفاذ سنة 1994
التي قضت على أنه ":ال جناية وال جنحة دون نية ارتكابهما" ،فهو نص لم يذكر المخالفات ،ويضيف الفقه دعما لموقفه السابق،
بان العقوبات المقررة للمخالفات هي في الغالب عقوبات مالية تعبر عن تقدير المشرع لعدم خطورة فاعلها ،على عكس المعمول
به في الجنايات والجنح.
] - [29بمعنى أال يكون ممتنع المسؤولية الجنائية ،وبالتالي االتجاه الكالسيكي هذا هو الذي يخلط أو يدمج بين فكرة
الركن المعنوي للجريمة وفكرة المسؤولية الجنائية.
] - [30ق د يرقى هذا العلم لحد اليقين إذ تصبح النتيجة متوقعة كأمر الزم ،فيتوفر العمد أو القصد الجنائي في صورته
المباشرة ،وقد يبلغ درجة االحتمال إذ يصبح األصل في علم الجاني هو حدوث النتيجة ما لم يطرأ ما يحول دون ذلك ،وبهذا
االحتماألو التوقع يتوفر القصد الجنائي في صورته غير المباشرة أو المحتملة.
] - [31الجهل يعني عدم العلم إطالقا بأمر معين ،أما الخطأ فهو علم أو تصور خاطئ.
] - [32والمقصود هو الغلط المادي ،ومثاله الصياد الذي يتصور أنه يرى طائر في الغابة ،فيطلق عليه النار ،ويتبين
الحقا أنه قتل إنسانا متواري في هذه الغابة ،فمثل هذا الشخص ال يقوم في حقه القصد الجنائي لجريمة القتل ،كونه وقع في غلط
مادي ينصب حول حقيقة الفعل الذي وقع بالفعل ،وقد نص المشرع اللبناني على هذا النوع من الغلط صراحة في نص المادة 224
][169
التي قضت بأنه ":ال يعاقب ...في جريمة مقصودة من أقدم على الفعل بعامل غلط مادي واقع على أحد العناصر المكونة
للجريمة" ،لذا يشترط في مثل هذا الغلط المادي أن يكون جوهريا متعلقا بواقعة لها أهمية قانونية في قيام الجريمة ،ال أن يكون
غلطا غير جوهريان ومن أمثلة الغلط غير الجوهري هو الغلط في الشخصية ،كأن يعتقد الشخص أنه يطلق النار على ( أ) في
حين هو أطقها فعليا على (ب) ،كما ال يعد الغلط في التصويب غلطا ماديا ،كإطالق النار على ( أ) فيصاب (ب) ،وهو ما نص
عليه أيضا المشرع اللبناني صراحة في نص المادة 226من تقنين عقوباته ،التي قضت ب ":إذا وقعت الجريمة على غير
الشخص المقصود بها ،عوقب الفاعل كما لو اقترف الفعل بحق من كان يقصده. ".
المبحث الثاني
الخطأ الجــــنائي
الركن المعنوي للجريمة غير العمدية
الجرائم إما أن تكون عمدية تقوم بتوفر القصد الجنائي هو األصل ،وإما غير عمدية تقوم بمجرد توفر
الخطأ الجنائي] ، [1فالجريمة العمدية إن كانت تقوم على قصد إتيان السلوك وترتيب النتائج الضارة المترتبة عليه،
فالجريمة غير العمدية أو الجريمة الخطئية ،فيكفي فيها إتيان سلوك حتى دون قصد إتيانه أو قصد تحقيق النتيجة.
وغالبية المشرعين لم يعرفوا الخطأ ،بل اكتفوا بتبيان صوره ،وهي الصور التي تتضح في الغالب بمناسبة تجريم
][170
الجروح الخطأ والقتل الخطأ ،وهو ما فعله المشرع الفرنسي في المادتين 319و 320من تقنين العقوبات الفرنسي ،التي
أوردها المشرع الجزائري في المادتين 288و 289من تقنين العقوبات الجزائري ،وهي صور تبين بأن الخطأ هو
إخالل الج اني بواجبات الحيطة والحذر التي تتطلبها الحياة االجتماعية حتى ولو لم يتوقع النتيجة اإلجرامية ،كونه كان
بإمكانه أن يتوقعها ،لذا توصف إرادته في هذه الحالة بأنها آثمة لمجرد أنها لم تلتزم باتخاذ التدابير الالزمة لتفادي وقوع
النتائج الضارة والمحظورة المترتبة عن سلوكه].[2
وعليه يظهر بجالء الفرق بين الخطأ الجنائي والقصد الجنائي ،كون اإلرادة في األول تسيطر على السلوك
المادي دون النتيجة ،هذه األخيرة التي قد ال يكون يتوقعها أصال ،أو توقعها واعتقد أنه بإمكانه تجنبها ،بينما في القصد
تسيطر اإلرادة على ماديات الجريمة وتسعى أيضا لتحقيق النتيجة وترغب فيها ،لكن هذا القول ال يعني إطالقا انعدام أية
عالقة بين النتيجة واإلرادة في الجرائم غير العمدية ،بحيث أنه إذا ثبت بأن هذه العالقة منعدمة فال تقوم الجريمة وال
يسأل المتهم على النتيجة ألنه لم يثبت الخطأ في جانبه متى اتخذ قدر معين من الحيطة والحذر ،أي اتخاذ جانب من
الحيطة والحذر كافي لنفي القصد الجنائي.
المطلب األول
ماهية الـــخطأ الجنائي
الخطأ الجنائي هو انحراف الشخص إراديا غير مكره عن واجبات الحيطة والحذر التي تقتضيها الحياة
االجتماعية ،لذا فإتيانه سلوك متصف بالتهور يجعله سلوك محظور بالرغم من انتفاء قصد إتيانه ،ومن ذلك يتضح أن
الخطأ الجنائي مفهوم غير مفهوم القصد الجنائي ،ويتعين تناول ماهيته وعناصره في الفرعين التاليين.
الفرع األول
مفهوم الخطأ الجنائي
لم يعرف المشرع الخطأ الجنائي غير العمدي تاركا المهمة للفقه ،الذي عرف الخطأ بأنه إخالل بالتزام
عام يفرضه المشرع على األفراد بالتزام الحيطة والحذر فيما يباشرونه من نشاط ،وذلك حرصا على المصالح التي
يحميها القانون] .[3وعرفه البعض بأنه " اتخاذ الفاعل سلوكا منطويا على خطر وخمول إرادته في منع هذا الخطر من
التحول إلى ضرر" أو " إخالل شخص عند تصرفه بواجبات الحيطة والحذر التي يفرضها القانون ،وعدم حيلولته تبعا
لذلك دون أن يفضي تصرفه إلى إحداث النتيجة الجرمية ،سواء أكان لم يتوقعها في حين كان ذلك في استطاعته ومن
واجبه ،أم توقعها ولكن حسب غير محق أن بإمكانه تجنبها" ،أو هو ":اتجاه اإلرادة إلى السلوك اإلجرامي دون قبولها
بتحقق النتيجة اإلجرامية التي يفضي إليها هذا السلوك مع عدم الحيلولة دون وقوعها " ،وقد عرفته محكمة النقض
المصرية ،بأنه تصرف الشخص تصرفا ال يتفق والحيطة التي تقضي بها ظروف الحياة العادية ،فهو بذلك عيب يشوب
مسلك اإلنسان ال يأتيه الرجل العادي المتبصر الذي أحاطت به ظروف خارجية مماثلة للظروف التي أحاطت بالشخص
المسؤول.
ويمكن أن نستنتج مما سبق بأن الخطأ الجنائي يقوم على فكرة " إمكانية التوقع" كونها الفكرة
الضرورية التي بدونها ال يقوم الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية وتخرجنا لمجال الحادث الفجائي ،خاصة وأننا
بها نبقى في دائرة اإلرادة الالزمة للركن المعنوي في صورتيه ،القصد والخطأ ،واستنادا لذلك يتلخص الخطأ غير
العمدي في عدم توقع الجاني لما يترتب على سلوكه من نتائج ،بالرغم من كون هذه النتائج في ذاتها مما يمكن توقعها،
أو مما يجب أن يتوقعها ،كما قد يرتكز على توقع الجاني لما يمكن أن يفضي إليه سلوكه ،لكن رغم ذلك يمضي فيه
معتقدا أنها نتائج قد ال تحدث ،أو ظنا منه أنه اتخذ ما يلزم من احتياطات للحيلولة دون حدوث هذه النتائج ،في حين أن
مثل هذه االحتياطات لم تكن كافية .لذا فبعيدا عن التعاريف ،سنحاول تنال جوهر الخطأ وأساس العقاب عليه في النقاط
التالية.
أوال :جوهر الخطأ
جوهر الخطأ يختلف من حيث الزاوية التي ينظر منها إليه ،فمن وجهة نظر اجتماعية يتمثل جوهر
الخطأ في إخالل الجاني بواجبات الحيطة والحذر ،مما يترتب عليه إضرارا بالحقوق والمصالح التي يحميها القانون،
وهو بذلك إتيان سلوك أو اإلحجام عن إتيان سلوك ينطوي على خطر المساس ببعض الحقوق والمصالح التي تتطلب
][171
درجة من الحرص واالنتب اه حال التعامل معها أو التواجد في نطاقها المادي ،ومن وجهة نظر نفسية يعد جوهر الخطأ
في الغلط الذي ينشأ من الجهل ببعض الحقائق االجتماعية أو القانونية فيما تمليه على األفراد من واجب االلتزام بالسلوك
الحريص ،فتجربة الحياة تزودنا بمجموعة من الحقائق التي تخاطب الكافة ،وقد ال تكون هذه الحقائق مكتوبة ومع ذلك
فهي بمثابة قواعد اجتماعية ترسم حدود السلوك سواء باتباعه أو الواجب تفاديه.
ثانيا :أساس العقاب على الخطأ
الخطأ وعلى خالف القصد الجنائي ال يعد سببا عاما لقيام المسؤولية الجنائية ،بل يعتبر سببا خاصا
لقيامه ا في جرائم معينة بذاتها ،وإن كانت المسؤولية في القصد الجنائي هي مسؤولية أدبية قوامها اإلثم
أو الخطيئة ،فإن المسؤولية الجنائية في الخطأ هي أشبه ما تكون بمسؤولية اجتماعية قوامها اإلضرار بالحقوق
والمصالح القانونية باإلهمال أو الرعونة أو ما إلى ذلك من صور الخطأ ،وبمعنى آخر ال يعاقب القانون الجاني في
الخطأ عن إرادته اآلثمة بل عما صدر عنه من نشاط صادر عن إرادة خاملة أو غافلة ،وبالتالي المسؤولية الجنائية عن
الخطأ ال تتقرر إال بناء على نص خاص ،إن لم يوجد امتنع العقاب عن السلوك كجريمة عمدية.
الفرع الثاني
عناصر الخـــطأ
تتحدد عناصر الخطأ في إرادة السلوك سواء كان فعال أو امتناعا ،وهو العنصر المشترك بين كافة
صور الركن المعنوي ،والعنصر الثاني انتفاء إرادة تحقيق النتيجة وهو العنصر الحاسم للتمييز بين القصد الجنائي
والخطأ غير العمدي ،والعنصر الثالث هو انتفاء العلم بصالحية السلوك إلحداث النتيجة كليا أو أن يتخذ هذا العلم أدنى
درجاته وهي درجة اإلمكان ،وأهم ما نتناوله عنصر العلم .
أوال :عنصر العلم
العلم في الخطأ غير العمدي يمثل عنصرا هاما كونه العنصر المميز للخطأ عن باقي صور الركن
المعنوي للجريمة ويميز الخطأ حتى في حد ذاته ،حيث أن موقف الجاني من العلم بصالحية النشاط إلحداث النتيجة
المحظورة قانونا يتحدد في إحدى الصور الثالث التالية :إما انتفاء العلم كلية على نحو ال يتوقع فيه الجاني حدوث
النتيجة وليس في مقدوره توقعها ،وهي صورة تقترب أكثر لفكرة القوة القاهرة أو الحادث الفجائي ،وبالتالي تخرج من
نطاق صور الخطأ تماما ،كالشخص الذي تنفجر عجلة سيارته فجأة لخطأ في الصنع فيصدم شخصا ويرديه قتيال ،أو
كالشخص الذي يصطاد في الليل في منطقة خالية تماما من السكان فيطلق رصاصة على ما رآه يتمشى معتقدا أنه
فريسة فإذا به شخص ،ففي مثل هذين المثالين انتفى علم الجاني بإمكانية إحداث سلوكه للنتيجة التي وقعت ولم يكن
أصال بإمكانه توقعها ،وأما الصورة الثانية فهي انتفاء علم الجاني بصالحية سلوكه إلحداث النتيجة مع عدم توقعه
حصولها لكن كان بإمكانه أن يتوقع ذلك ،كترك األم سما أمام أطفالها مما يمكن أن يأخذه أحدهم ،أما الصورة الثالثة
فتتمثل في توفر علم الجاني بصالحية سلوكه في إحداث النتيجة في أدنى درجات العلم ،وهي درجة اإلمكان ،لكنه كان
يأمل في عدم حصولها معتمدا في ذلك على مهارته وخبرته ،ويسمى هنا الخطأ مع التبصر أو الخطأ الواعي ،كمن يقود
سيارته بسرعة كبيرة ليال والشارع يخص بالمارة محاوال اللحاق بميعاد فاته ويترتب على ذلك أن يصدم أحد المارة
ويودي بحياته.
ثانيا :عنصر اإلدراك
و هو عنصر ذهني ضروري في كل الجرائم ،سواء كانت عمدية أو غير عمدية ،فالخطأ مثلما سبق
القول هو انحراف عن السلك العادي المألوف ،لذا يجب أن يكون المخطأ مدركا لتصرفاته ،وإال انتفى عنصر هام من
عناصر الخطأ.
ثالثا :عنصر اإلرادة
السلوك الذي يأتيه الشخص في الجرائم غير العمدية يبقى دائما سلوكا إراديا ،ألنه أراد أن يتصرف على
النحو الذي تصرف به ،وكل ما في األمر أنه لم يرد فقط تحقيق النتيجة التي ترتبت عن سلوكه ،وهو ما يميز الخطأ عن
العمد.
رابعا :عنصر االنحراف
][172
يشترط لقيام الخطأ إمكانية نسب الضرر لمسببه ،لذلك يشترط أن يثبت أن السلوك المنحرف للشخص
هو الذي سبب النتيجة الضارة كما يجب أن يثبت بأنه سلوكه يشكل سلوك منحرف.
لكن السؤال الذي يطرح ،هو :ما المعيار الذي يمكننا من التمييز بين السلوك العادي السلوك
المنحرف؟ .بصدد البحث عن هذا المعيار ،تأثر الفقه الجنائي بأفكار القانون المدني ،وهو ما تجلى في فكرة وحدة
الخطأين المدني والجنائي] ،[4وذلك باستعارتهم معيار الخطأ من القانون المدني ،وهو معيار الرجل العادي ،حيث لكي
يقاس سلوك الشخص وبحث ما إن كان منحرفا أم ال ،يقاس بسلوك الرجل العادي الذي هو رب األسرة العاقل المعتني
بشؤون نفسه وشؤون أسرته ،والذي ال هو بالرجل الخارق الذكاء وال باألبله ،بل هو متوسط الحذر والذكاء والسن
والثقافة ،ف إن وجدنا سلوك الشخص مخالف لسلوك هذا الرجل ،قلنا بقيام الخطأ ،وإن وجدنا بأن الشخص العادي كان
سيتصرف مثلما تصرف الشخص انتفى الخطأ ،دون أن يهمل في ذلك أيضا مختلف الظروف والمالبسات المحيطة
بالجريمة وهو أمر خاضع لسلطة قضا الموضوع دون رقابة عليهم من محكمة النقض.
المطلب الثاني
صور الخــــطأ الجنائي ودرجاته
للخطأ الجنائي صور حددها المشرع ،وأثارت الخالف ما إن كانت على سبيل الحصر أو على سبيل المثال،
وفي العادة التشريعات متفقة بخصوصها ،كما انه للخطأ درجات وحاالت وضوابط وأثارت العديد من الجدل الفقهي،
وهو ما نتناوله باختصار في الفرعين التاليين.
الفرع األول
صور الخطأ الجنائي
حدد المشرع الجزائري صور الخطأ الجنائي بمناسبة نصه على أخطر الجرائم غير العمدية ،وهما جريمتي
الجروح الخطأ والقتل الخطأ ،المنصوص والمعاقب عليهما بموجب المادتين 288و 289من تقنين العقوبات
الجزائري] ،[5اللتان أوردتا صور الخطأ على سبيل الحصر ال المثال ،لذلك ال يجوز القياس عليها وال تفسيرها بصورة
موسعة إعماال لبدا الشرعية الجنائية ،وهذه الصور هي :الرعونة ،عدم االحتياط ،اإلهمال وعدم االنتباه ،عدم مراعاة
األنظمة والقوانين.
أوال :الرعــــــونة
وهي الصورة التي يسميها الفقه أيضا ب ":الخطأ الفني" ،وهي تعني نوع من الطيش والخفة وسوء
التقدير في عمل يتعين من القائم به أن يكون على دراية وعلم به ،أو هي سوء تقدير للكفاءة والقدرة ،وهي في العادة
تنجم عن عدم مراعاة قواعد الخبرة اإلنسانية الخاصة أو المهنية التي توجبها ممارسة مهنة
أو حرفة معينة ،من ناحية ،ومن ناحية ثانية ،قد تنجم عن مسلك إيجابي يقوم به الجاني كان يتعين عليه االمتناع عن
القيام به بالكيفية التي تم بها ،أو في الوقت الذي تم فيه ،كالطبيب الذي يقوم بإجراء عملية جراحية لمريض دون أن
يراعي في ذلك أبسط األصول المهنية والقواعد العلمية ،فيترتب على ذلك موت المريض ،أو دون أن يستعين بطبيب
تخدير ،أو يكتفي بتخدير موضعي بينما توجب األصول العلمية أن يكون تخديرا كليا ،وكذا صاحب البناء الذي يتقاعس
عن صيانة عقاره وترميمه فيتسبب في قتل خطا .وعليه،
ومثلما تقدم ،تقوم حالة الرعونة نتيجة موقف أو سلوك سلبي ،في الحاالت التي يحجم فيها الجاني عن اتخاذ عمل كان
توجبه قواعد الخبرة المهنية باتخاذه ،كالممرضة التي يستغرقها مشاهدة إحدى المسلسالت التلفزيونية أو مواصلة الثرثرة
مع زميالتها فال تقوم إعطاء المريض المتواجد في حالة خطر دواءه في الميعاد المحدد بما يؤدي إلى وفاته.
ثانيا :عـــدم االحتياط
وتسمى فقهيا أيضا " عدم االحتراز" ،وهي حالة تقوم بمجرد االستخفاف باألمر وعدم اتخاذ االحتياطات
الالزمة لمنع حدوث الضرر الممكن تصور حدوثه من أمر قابل إلحداث مثل هذا الضرر ،وبالتالي عدم االحتياط في
جوهره عبارة عن اتخاذ موقف إيجابي يتمثل في مباشرة الجاني لسلوك كان يتعين عليه االمتناع عن إتيانه ،نظرا لما
يترتب عليه من أضرار ،وأن قواعد الخبرة اإلنسانية العامة تأبى إتيان مثل هذه السلوكات في مثل هذه الظروف ،كسائق
][173
السيارة الذي يقود سيارته بسرعة جنونية ف ي شارع مليء بالمارة فيصدم أحدهم فيقتله ،أو كاألب الذي يسلم ابنه الصغير
عجال فيفلت منه ويصدم أحد األشخاص فيقتله.
ثالثا :اإلهمال وعدم االنتباه
ا إلهمال هو سلوك يتمثل في عدم بذل الشخص العناية الالزمة في عمل يتطلب مثل هذه العناية ،كمن
يهمل صيانة سيارته ويصدم شخصا بسبب عدم اشتغال المكابح ،وبالتالي اإلهمال هو اتخاذ موقف سلبي من عمل كان
يتعين اتخاذه وفقا لما تمليه قواعد الخبرة اإلنسانية العامة ،مما يجعل من هذا االمتناع يرتب نتائج ضارة ،كامتناع
حارس ممر السكة الحديد عن إغالق ممر الراجلين وقت مرور القطار مما يجعله يصدم أحد المارة ،أو األم التي تترك
رضيعها بجوار موقد غاز مشتعل مما يؤدي إلى سقوطه في إناء ماء مغلي .أما عدم االنتباه فهو انحراف يتمثل في عدم
اكتراث الشخص بضرورة اليقظة الدائمة فيسبب ذلك ضررا للغير.
رابعا :عدم مراعاة األنظمة والقوانين
على خالف صور الخطأ السابقة التي تقوم كلها على مخالفة قواعد الخبرة اإلنسانية العامة
أو األصول العلمية والمهنية ،فإن هذه الصورة تعد أبسط وأسهل صور الخطأ لإلثبات ،إذ يكفي مقارنة سلوك الشخص
مع متطلبات القوانين واألنظمة ،فمجرد كون السلوك مخالفا للوائح واألنظمة تقوم الجريمة ،مثلما هو األمر في مخالفة
قوانين المرور أو قواعد البوليس المنظمة لحركة سير المركبات واستخدام اآلالت واألسلحة ،ويستوي في هذه القواعد
أن تكون صادرة عن السلطة التشريعية كما هو الشأن بالنسبة للقوانين بالمعنى الضيق للمصطلح ،أو عن السلطة
التنفيذية مثل لوائح التنفيذ والتنظيم والضبط ،أو صادرة عن السلطات اإلدارية في الحدود المسموح لها بإصدار مثل هذه
اللوائح ،وفي هذه الصورة قد يجد الشخص نفسه أمام جريمتين ،جريمة مخالفة األنظمة واللوائح حتى وإن لم يترتب
ومخالفة األنظمة واللوائح عليها أي ضرر ،وجريمة أخرى تتمثل فيما أحدثته هذه المخالفة من أضرار للغير.
عبارة عن خطأ مفترض ال تلتزم المحكمة بإقامة الدليل على توفره ،على خالف صور الخطأ األخرى ،فبمجرد
مخالفة األنظمة والقوانين ينعت سلوك المخالف بالخاطئ ،وافتراضه يرقى لمرتبة حد القرينة القاطعة التي ال تقبل إثبات
العكس.
والمالحظ بأن هذه الصورة الوحيدة من صور الخطأ التي ال يشترط فيها المشرع حصول نتيجة معينة
بل مجرد مخالفة الالئحة أو النظام يقيم الجريمة ،بل أن حصول نتيجة محظورة قانونا تجعل الشخص يسأل عن
جريمتين .مما يجعل من هذه الصورة جريمة شكلية أو جريمة سلوك محض ،على خالف باقي الصور األخرى التي
تعد فيها الجريمة غير العمدية جريمة مادية ذات نتيجة ضارة يشترطها المشرع لقيام الجريمة.
الفرع الثاني
ضابط الخطأ الجنائي وحاالته
اختلف الفقه بخصوص الضابط الحاكم للخطأ ،وكالعادة انحصر الخالف بين المذهبين الموضوعي
والشخصي ،وظهر االتجاه التوفيقي ،كما حاول الفقه تحديد حاالت الخطأ ،وهو ما نبينه في النقطتين التاليتين.
أوال :ضابط الخطأ
بعد أن تتحدد صورة الخطأ على النحو السابق ،وجب البحث عن المعيار الذي يقاس به هذا الخطأ ،وثار
تساؤل عما إن كان يرجع في ذلك إلى معيار شخصي يتمثل فيما توقعه الجاني بالفعل ،أو كان بإمكانه أن يتوقعه ،أو
فيما كان يجب أن يتخذه من احتياطات ،أم يرجع في ذلك إلى معيار موضوعي يتمثل في معيار الرجل العادي المتمثل
في الشخص متوسط الذكاء والحذر والحيطة بعيدا عن حرص الجاني ذاته؟ ،وهنا كالعادة ظهر المعيار الموضوعي
المعتمد على " معيار الرجل العادي" ،والذي انتقد على أساس أنه معيار مادي ال يالءم فكرة نفسية متمثلة في الركن
المعنوي ،لذا طرح البعض المعيار الشخصي المتمثل في بحث موقف الجاني نفسه في ظروفه اآلنية والواقعية مع
مختلف جوانب شخصيته وما يتمتع به من ذكاء وقدرات ،وبالتالي إن كان الجاني وال أحد سواه يعلم أو يتوقع بصالحية
][174
سلوكه إلحداث النتيجة قام الخطأ في جانبه ،أما إذا كان الجاني متواضع القدرات ومحدود الخبرة وقليل الذكاء يجهل
بصالحية سلوكه إلحداث النتيجة أو ال يتوقع ذلك فإن الخطأ ينتفي في جانبه ،ويميل الفقه إلى اعتبار المعيار الشخصي
أكثر مالئمة لتقدير فكرة الخطأ واستخالص عنصر العلم لدى الجاني .وغالبية الفقه يرى أنه يجب إعمال معيار مختلط
يجمع ما بين المعيار الشخصي والمعيار الموضوعي ،حيث يؤخذ من المعيار الموضوعي معيار الشخص العادي إذا
وجد ضن نفس الظروف ،حيث إذا وجد الجاني قد التزم بقدر من الحيطة والحذر في تصرفه يوافق ما كان يفعله
الشخص المعتاد الذي وجد في مثل ظروفه ،انتفى خطأه ،أما إذا بذل قدرا من الحيطة والحذر أقل من ذلك نسب إليه
الخطأ .نحن نرى أن هذا المعيار ما هو إال تكريس لمعيار موضوعي ،ونرى أنه بما أننا بصدد الركن المعنوي فالقاضي
يأخذ في اعتباره دوما المعيار الشخصي باعتبار الركن المعنوي ينطوي أكثر على جوانب نفسية أكثر منها موضوعية.
ثانيا :حاالت الخطأ
للخطأ حسب غالبية الفقه ،حالتين أيا كانت الصورة التي اتخذها ،وهي إما أن يكون خطئا واعيا وإما أن يكون
خطئا غير واعي .فالخطأ الواعي ،faute conscienteويسمى أيضا الخطأ بتبصر أو الخطأ المصحوب بتوقع،
هو الحالة التي يتوقع فيها الجاني حصول النتيجة الضارة لكنه ال يريدها ،ويأمل في عدم حدوثها ،إما نتيجة الحتياط
اتخذه يحول دون حدوثها في حين لم يكن كافيا ،والحالة التي ال يتخذ فيها أصال أي احتياطات للحيلولة دون حدوثها ،مما
يعني أنه يستوي لديه حدوثها من عدمه .والحالة الثانية ،هي الخطأ غير الواعي ،faute inconscienteويطلق
عليه أيضا الخطأ بغير تبصر أو الخطأ غير المصحوب بتوقع ،وهي الحالة التي ال يتوقع فيها الجاني حدوث النتيجة
الضارة ،في حين كان يجب عليه أن يتوقع ذلك أو من واجبه أن يتوقعها ،وطالما لم يتوقع الجاني النتيجة ،فإنه على
عكس الحالة السابقة ال يتخذ أي إجراءات تحول دون حدوث النتيجة.
الفرع الثالث
الخطأ المدني والخطأ الجنائي
نصت المادة 124وتقابلها في القانون المصري المادة 163التي نصت على أنه ":كل خطأ سبب
ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض" ،وبالتالي المشرع المدني لم يحصر صور للخطأ كما لم يحدد لها درجات.لذا
ثار تساءل منذ زمن ،ما إن كان المشرع الجنائي بدوره يرتب المسؤولية الجنائية عن الخطأ أيا كانت درجته ،أم أنه
خالفا للمشرع المدني يستلزم أن يرقى الخطأ إلى درجة من الجسامة حتى يمكن أن يرتب المسؤولية الجنائية غير
العمدية .ولقد ساد ولزمن طويل قديما أن الخطأ يقسم إلى ثالث درجات ،الخطأ الجسيم الذي تكون نتيجته الضارة
متوقعة من قبل الجميع ،والخطأ البسيط ،الذي يكون ضرره متوقع فقط من قبل الرجل المعتاد ،والخطأ اليسير جدا وهو
الخطأ الذي يكون ضرره غير متوقع وغير ممكن إال بانتباه غير عادي يفوق انتباه ما يحظى به الرجل العادي ،وهي
الدرجات الثالث التي يجب أن ينظر إليها في كل حالة على حده آخذين بعين االعتبار للسن ودرجة الثقافة ،وكان
التساؤل في ظل هذه التفرقة :بأي درجة يقوم الخطأ الجنائي ؟ وما إن كان يقوم كل من الخطأ المدني والخطأ الجنائي
بدرجة واحدة؟ وهو السؤال الذي تنازع إجابته اتجاهان.
اتجاه أول :استقالل الخطأ المدني عن الخطأ الجنائي ،ويذهب أنصار هذا االتجاه إلى أن ما يقوم به األول
ال يجب أن يقوم به الثاني ،وإن كان الخطأ الجسيم والبسيط قد يقوم بها كال نوعي الخطأ ،فإن الخطأ اليسير جدا ال يمكن
أن يقوم به سوى الخطأ المدني ،وذلك بالنظر لما بين الخطأين من فوارق ،أهمها:اختالف الخطأين من حيث الطبيعة،
واختالفهما من حيث الجزاء ،واختالفهما من حيث عبء اإلثبات .واالتجاه الثاني :وحدة الخطأ الجنائي والخطأ
المدني ،يرى أنصار هذا االتجاه أنه ال فارق بين الخطأين وأن ما يقوم به الخطأ المدني يصح أن يقوم به أيضا الخطأ
الجنائي ،خاصة وأن كالهما يقاس بمعيار واحد هو معيار الرجل العادي ،وكل ما هو موجود من فروق ينحصر في أن
القانون المدني لم يبين صور الخطأ المدني في حين المشرع الجنائي حصر صوره ما ذلك إال نتيجة تقيد المشرع بمبدأ
الشرعية الجنائية .وهو االتجاه الذي تحول إليه القضاء الفرنسي وما سايره أيضا القضاء المصري.
المطلب الثالث
الشروع واالشتراك في الجرائم غير العمدية
][175
ب اختصار شديد ،وبالنظر لبساطة المسألة سوف لن نقسم هذا المطلب إلى فروع ،حيث أنه ال شروع وال
اشتراك في الجرائم غير العمدية ،خاصة وأن هذه األخيرة في غالبيتها من المخالفات في حين سبق القول بأن الشروع ال
يكون إال في الجنايات وفي الجنح بموجب نص خاص وال شروع إطالقا في المخالفات ،وهو نفس الوضع تقريبا بالنسبة
لالشتراك....كما أنه ال ظروف تشديد وال تخفيف بخصوص الجرائم غير العمدية ما عدا ما قضت به المادة 290من
تقنين العقوبات الجزائري التي تضاعف العقوبة المقررة في حالة ارتكاب الجريمة في حالة سكر أو ارتكاب الجريمة
ومن بعدها محاولة الهرب من المسؤولية] ،[6وإن كان ذلك قد يقيم أيضا جريمة أخرى هي جريمة التهرب من
المسؤولية أو عدم تقديم مساعدة لشخص في حالة خطر.
الفصل الخامس
تصنيــــف الجرائم
س بق لنا القول عند تناولنا لتقسيمات الجريمة وتصنيفها بناء على الركن المعنوي للجريمة ،الذي تناولنا
فيه التقسيم الثالثي أو القانوني ،وكذا تمييز الجريمة إلى عادية وسياسية وعسكرية ،أننا سنرجئ الحديث عن باقي
التصنيفات والتقسيمات األخرى المعتمدة على الركنين المادي والمعنوي ،إال ما بعد استيعاب كنه ومضمون وأبعاد هذين
الركنين ،لذا سنحاول أن نتناول من خالل مبحثين التصنيفات المعتمدة على الركن المادي ،واألخرى المعتمدة على
الركن المعنوي .على أننا سنختصر قدر اإلمكان بخصوص بعض التصنيفات التي سبق تناولها في مواضع أخرى من
هذه الدراسة ،وكذا بخصوص الجوانب اإلجرائية المتعلقة بفائدة التفرقة ،كونها مسائل يصعب استيعابها قبل دراسة
قانون اإلجراءات الجزائية.
][176
المبحث الثاني
تقسيم الجرائم بحسب طبيعة وتكوين الركن المادي
ب النظر للركن المادي للجريمة ،يمكن تقسيم الجرائم عدة تقسيمات ،منها ما يأخذ بعين االعتبار عنصر
الزمن الذي يستغرقه إتمام الركن المادي للجريمة ،حيث تقسم الجرائم بالنظر إلى ذلك إلى جرائم وقتية وجرائم مستمرة،
كما تقسم بحسب النظر إلى السلوك إلى جرائم إيجابية وجرائم سلبية ،أو بالنظر لتعدده إلى جرائم اعتياد وجرائم بسيطة
أو بالنظر إلى النتيجة إلى جرائم ذات النتائج وجرائم شكلية.
المطلب األول
تقسيم الجرائم إلى وقتية ومستمرة
وأساس هذا التقسيم ،هو الزمن الذي يستغرقه تحقق أركان الجريمة ،الركن المادي والركن المعنوي
معا ،واستنادا لذلك تكون الجريمة وقتية إن لم يستغرق ارتكابها سوى برهة زمنية قصيرة ،أما إذا امتد ذلك فتعد
الجريمة مستمرة .والعبرة بالزمن الذي استغرقه الركن ال لألثر الذي ترتب عليها ،فالقتل نتيجته إزهاق الروح إلى األبد
وبالتالي هو جريمة مستمرة اآلثار ،وليس هذا هو المقصود ،وإنما وقتية السلوك التي أزهقت الروح ،أما الجريمة
المستمرة فركنها المادي مصحوبا بالركن المعنوي ،يستغرق زمنا طويل نسبيا ،سواء كان االستمرار للسلوك دون
النتيجة أو لهذه األخيرة دون السلوك ،فاالستمرار قد ينظر له من خالل الفعل كما قد ينظر له من خالل النتيجة الجرمية
][177
التي تحققت ،بشرط أن تظل إرادة الجاني حاضرة طيلة الوقت الذي استغرقه الركن المادي ،وبمعنى آخر مواكبة الركن
المعنوي للركن المادي ،وإال خرجت الجريمة من المعنى الفني للجريمة المستمرة ،لذا يميز الفقه بين نوعين من
االستمرار.االستمرار المتجدد ،وهو االستمرار الذي يستلزم تدخل إرادة الجاني بصفة متجددة وهي حالة مواكبة الركن
المعنوي لحالة االستمرار وتسمى الجريمة عندئذ ب ،délit continu successif :واالستمرار الثابت أو
المضطرد ،وهو االستمرار الذي إذا انطلق بقي بذاته دون حاجة إلى تدخل جديد من قبل إرادة الجاني ،وبمعنى آخر
دون حاجة لمواكبة الركن المعنوي لحالة االستمرار وتسمى الجريمة عندئذ ب délit continu permanent :وهو
ما يسميه الفقه بأنه الجريمة الوقتية في حد ذاتها في الحالة التي تخلف فيها أثار ،وهو رجوع من جديد للتقسيم التقليدي
بين الجريمة الوقتية والجريمة المستمرة ،على أن يفهم بأن االستمرار هو ما يلزم تدخل إرادة الجاني طوال فترة
االستمرار وأن يفهم من الجرائم الوقتية ما يحدث من آثار فورية حتى ولو كانت ممتدة في الزمن.وهو ما يحتم علينا
لمزيد من التوضيح تبيان المعيار المعتمد للتقسيم بين الجرائم الوقتية والجرائم المستمرة.
الفرع األول
معيار التمييز بين الجرائم الوقتية والجرائم المستمرة
نجد الفقه يتنازعه معياران ،األول هو معيار طبيعة االعتداء في حد ذاته ،والثاني هو معيار
االمتداد الفعلي للزمن الذي تستغرقه الجريمة .
أوال :معيار طبيعة االعتداء
و هو المعيار الذي يذهب أنصاره للتفرقة بين الجرائم الوقتية والجرائم المستمرة إلى اعتماد طبيعة
االعتداء ذاته ،وهل هو قابل في حد ذاته لالستمرار من عدمه ،فإذا كان االعتداء في طبيعته قابال لالستمرار كانت
الجريمة مست مرة ،مثل جريمة إخفاء األشياء المسروقة حتى ولو استمر اإلخفاء للحظة فقط كون اإلخفاء بطبيعته قابال
لالستمرار ،وإن كان غير قابل لذلك كانت الجريمة وقتية
ثانيا :معيار االمتداد الفعلي للزمن الذي تستغرقه الجريمة
وهو المعيار الذي يرى أنصاره ،إلى أن العبرة في التفرقة بين المؤقت واالستمرار هو االمتداد الفعلي
للزمن الذي يستغرقه تحقق عناصر الجريمة ،فالركن المادي قد يتخذ وضع االستمرار في الجريمة الواحدة مرة وقد
يتخذ وضع التأقيت في وضع آخر في ذات الجريمة ،وكل ذلك بحسب ارتكاب الجاني للواقعة ،وبالتالي الجريمة التي قد
يتمثل بها أنها وقتية يمكن أن تقع مستمرة والعكس صحيح ،والعبرة في كل ذلك بالزمن الفعلي الذي استغرقه ارتكاب
الجريمة بركنيها المادي والمعنوي ،لذا يرى أنصار هذا االتجاه أن تقسيم الجرائم إلى وقتية ومستمرة له طابعا نسبيا،
فالسرقة في أغلب صورها جرائم وقتية ،ومن المتصور أن تكون مستمرة مثل حالة سرقة التيار الكهربائي ،وجريمة
القتل في أغلب صورها جريمة وقتية لكن قد تكون جريمة مستمرة في حالة القتل بالتسميم عن طريق إعطاء جرعات
من السم على فترات ممتدة عبر الزمن خاصة إن كانت الجرعة الواحدة غير كافية إلحداث الوفاة ،لكن مجموع هذه
الجرعات هو الذي أحدث الوفاة ،وجريمة استعمال المزور في أغلب صورها جرائم مستمرة لكن قد تقع وقتية مثل
الحالة التي يبرز فيها الجاني بطاقة مزورة ويخبئها مباشرة .وبالتالي خالصة هذا الرأي أن تقسيم الجرائم إلى وقتية
ومستمرة ليس تقسيما مطلقا بل نسبيا ،حيث ليس هناك جرائم وقتية بطبيعتها أو جرائم مستمرة بطبيعتها ولكن هناك
جرائم يغلب فيها أن تكون وقتية وأخرى يغلب فيها أن تكون مستمرة .غير أن اإلشكال المطروح هو انعدام معيار
تشريعي من خالله يمكن تحديد ما إن كان الزمن مستمرا أو مؤقتا ،وهو ما جعل أنصار هذا االتجاه يتركون المسألة
للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع يستنتجه من النص المقرر للجريمة ذاته.
والجرائم المستمرة ال تنحصر في الجرائم اإليجابية فقط ،بل يمكن أن تشمل أيضا الجرائم السلبية مثل
عدم تسليم طفل لمن له الحق في حضانته ،وقد يظهر أحيانا أن الجريمة الوقتية قد تستغرق وقتا زمنيا كجريمة السرقة
والتزوير ،لكن رغم ذلك تبقى مثل هذه الجرائم جرائم وقتية ،واالستمرار نسبي قد يستغرق دقائق أو ساعات أو أيام أو
أكثر كما أن االستمرار قد يلحق السلوك كما قد يلحق النتيجة مثل جريمة إخفاء أشياء مسروقة.
الفرع الثاني
أهمية تقسيم الجرائم إلى جرائم وقتية وجرائم مستمرة
][178
لتقسيم الجرائم إلى جرائم مستمرة وجرائم مؤقتة أهمية تتبين من نتائج التفرقة ذاتها ،منها نتائج ترتبط
بالقواعد الجنائية الموضوعية ،ومنها ما يتعلق بالقواعد الجنائية اإلجرائية.
أوال :النتائج المرتبطة بالقواعد الجنائية الموضوعية
من أهم النتائج المرتبطة بتقسيم الجرائم إلى جرائم وقتية وجرائم مستمرة ،من الناحية الموضوعية،
مسألة سريان النص الجنائي من حيث الزمان والمكان .ففي الجرائم المستمرة يسري القانون الجنائي األشد لو عمل به
قبل انقطاع حالة االستمرار حتى ولو كانت قد بدأت في ظل القانون القديم األصلح ،حيث تعد الجريمة قد وقعت في ظل
القانون الجديد حتى ولو كان قد بدأت في ظل القانون القديم ،وهو األمر الذي ال يعمل به بخصوص الجرائم المؤقتة ،أما
من حيث سريان النص الجنائي من حيث المكان ،يتحدد مكان وقوع الجريمة المستمرة بكل مكان قامت فيه حالة
االستمرار ،فأي جزء قام في إقليم الدولة يعد نشاطا إجراميا كامال وليس جزءا من جريمة وقع بعضها على إقليم الدولة
وبعضها في الخارج ،ويضيف البعض أهمية تكمن في وقت تقدير قيام الركن المعنوي ،حيث أنه في الجرائم الوقتية
يجب أن يتعاصر كل من الركن المادي والركن المعنوي ،وإن تراخى األخير فال قيام للبنيان القانوني للجريمة المؤقتة،
لكن في الجريمة المستمرة يمكن أن يتراخى أحدهما عن اآلخر لذا يقدر الركن المعنوي على عنصر العلم بعد بدء
السلوك كحيازة الشخص بداية لشيء مسروق عند الحيازة كان حسن النية ثم يعلم بالحقيقة ويستمر في ذلك.
ثانيا :النتائج المرتبطة بالقواعد الجنائية اإلجرائية
أ هم النتائج المترتبة على تقسيم الجرائم إلى جرائم وقتية وأخرى مستمرة من ناحية القواعد الجنائية
اإلجرائية ،ما يتعلق بقواعد االختصاص والتقادم ،وقوة الشيء المقضي به .فبخصوص االختصاص في الجرائم
المستمرة ،تكون مختصة كل المحاكم التي قامت في دائرة اختصاصها حالة االستمرار
أو بدأت أو انقطعت ،على عكس الجرائم الوقتية حيث يتحدد بمكان وقوع الجريمة ،وبخصوص التقادم المسقط
للدعوى ،في الجرائم الوقتية يبدأ سريان التقادم بخصوصها من لحظة وقوعها ،بينما في الجرائم المستمرة يبدأ التقادم
من اليوم التالي النتهاء حالة االستمرار فيها وليس من اليوم الذي بدأت فيه حالة االستمرار .وبخصوص قوة الشيء
المحكوم به ،في الجرائم المستمرة تنصرف قوة الشيء المقضي به إلى كل حالة االستمرار السابقة على صدور الحكم،
وما يحص ل بعد ذلك من قبل إرادة الجاني لإلبقاء على حالة االستمرار يشكل جرائم جديدة تجوز محاكمته عنها دون أن
يمس ذلك بمبدأ عدم جواز محاكمة الشخص عن الفعل مرتين ،على عكس الجريمة الوقتية التي ينصرف فيها الحكم إلى
الجريمة المقامة عنها الدعوى كلها .وبخصوص العفو فإن العفو الصادر عن الجريمة الوقتية ،يمحو الجريمة ويمنع
بالتالي رفع الدعوى العمومية عنها ثانية ،في حين العفو الصادر في الجريمة المستمرة فإنه ال يحول دون رفع الدعوى
العمومية عنها متى تجددت حالة االستمرار ،هذا ونشير بأن الفقه يضيف إلى النوعين السابقين ،الجريمة الوقتية
والجريمة المستمرة ،نوعا وسطا وهو الجريمة الوقتية المتتابعة.
الفرع الثالث
الجرائم الوقتية المتتابعة
و هو نوع من الجرائم التي يطلق عليها أيضا مصطلح الجريمة ذات األفعال المتالحقة أو المتكررة،
وهي الجريمة التي ترتكب من أجل غرض إجرامي واحد من قبل مرتكبها غير أنها تقوم بأفعال متعددة ومتماثلة يجمع
بينها وحدة الحق المعتدى عليه ،وتستهدف إحداث نتيجة إجرامية واحدة ،وبالتالي هي نوع من الجرائم الوقتية تصبح
متتابعة ويشترط لكي تكون كذلك الشروط التالية.
أوال :تماثل األفعال وتتابعها
في األصل كل األفعال التي تتشكل منها الجريمة تعد جريمة مستقلة في حد ذاتها ،حيث لو اكتفى الجاني
بواحد منها عوقب عليه كجريمة ،كضرب الجاني للمجني عليه عدة ضربات أو تزييف عدد من األوراق النقدية ،وهي
جريمة بالرغم من أنها تظهر على أنها تعدد الجرائم إال أنه في هذا النوع من الجرائم تعد جريمة واحدة ال توقع عليه من
أجلها سوى عقوبة واحدة ،كون تعدد وتماثل األفعال في هذه الحالة ال يعد تعددا للركن المادي للجريمة ،وذلك لوجود
نوع من التقارب بين تكرار األفعال دون اشتراط أن تقع في وقت واحد وال في مكان واحد.
ثانيا :وحدة الحق المعتدى عليه
][179
الشرط الثاني في هذا النوع من الجرائم ،هو أن تقع األفعال المتتابعة أو المتماثلة الحاصلة في توقيت
متقارب على حق واحد محمي قانونا ،كجريمة الضرب بعدة ضربات تمس حق واحد هو حق المجني عليه في سالمة
جسده ،وفي جريمة تزوير النقود هو حق الدولة في الثقة في عملتها وسالمة اقتصادها .غير أن القفه لم يتفق حول
اشتراط أن يكون شخص المجني عليه شخصا واحدا ،فجانب من الفقه يرى أنه إذا تعدد المجني عليهم أصبحنا بصدد
تعدد للجرائم ،سيما في جرائم األشخاص ،بينما ذهب اتجاه ثاني من الفقه أن ال يقضي أن يكون الشخص المجني عليه
شخصا واحدا ،فالوحدة مشترطة في الحق المعتدى عليه ال في األشخاص.
ثالثا :وحدة المشروع اإلجرامي
يستتبع الشرطين السابقين ،أن يكون ما يجمع األفعال السابقة المتتابعة والمتتالية مشكلة لمشروع وغرض
إجرامي واحد لدى الجاني ،أي خطة إجرامية واحدة تعددت عناصرها ووسائل تنفيذها.
وبالرغم من أن هذه الجريمة من الجرائم الوقتية مثلما تدل عليه تسميتها ،إال أنه تخضع في أحكامها
ألحكام تشبه تلك التي تخضع لها الجرائم المستمرة ،سيما ما تعلق بما يلزم من زمن طويل نسبيا يستغرقه ارتكاب الركن
المادي لهذا النوع من الجرائم ،ونؤيد هذا الرأي سيما بخصوص النقاط التي تناولناها سابقا بخصوص أهمية التقسيم ما
بين الجرائم المستمرة والجرائم الوقتية بخصوص القانون األشد وسريان القانون من حيث الزمان والمكان أو من حيث
القواعد الجنائية اإلجرائية من حيث التقادم وحجية الحكم ...
المطلب الثاني
الجرائم اإليجابية والجرائم السلبية
وهو التقسيم الذي يستند إلى طبيعة السلوك اإلجرامي ،وما إن كان يتخذ صورة إيجابية أو صورة
سلبية ،وبيان ذلك يتضح من خالل القواعد الجنائية التي يسنها المشرع كونها قواعد قد تتضمن أوامر لألفراد كما قد
تتضمن نواهي ،ففي حال مخالفة األوامر يكون الشخص مرتكبا لجريمة سلبية وفي حال ما كنت تتضمن المخالفة لنهي
عدت الجريمة جريمة إيجابية .فانتهاك النهي يكون بإتيان الجاني لحركة إرادية مادية يسعى من خاللها لتحقيق النتيجة
المجرمة قانونا ،وهو النوع الغالب واألهم من بين أنواع الجرائم.أما انتهاك األوامر ،فيتمثل في امتناع الجاني عن القيام
بعمل يأمر به القانون ويعد ذلك اتخاذ لموقف سلبي من قبله اتجاه القاعدة الجنائية التي تأمره بالفعل .وهناك طائفة ثالثة
من الجرائم تتوسط الطائفتين السابقتين ،وهي الجرائم التي يكون فيها السلوك متكونا من فعل إيجابي وامتناع في ذات
الوقت ،ويرى الفقه أنه نوع إذا نظر إليه بتمعن لوجد أنه يميل للجرائم اإليجابية أكثر.
الفرع األول
وقوع الجريمة اإليجابية عن طريق االمتناع
ش غلت مسألة ما إن كان يمكن تصور قيام الجريمة اإليجابية عن طريق االمتناع الفقه ،وأثارت بذلك
جدال فقهيا منذ زمن بعي د ،وأغلب مجال كان مدارا لمثل هذا الجدل ،هو الجريمة القتل والتساؤل عما عن كان يمكن أن
يتم عن طريق االمتناع أم ال ،كامتناع األم عن إرضاع ابنها فيموت ،أو امتناع مراقب الشاطئ عن إنقاذ الغريق فيموت،
أو امتناع الممرضة عن إعطاء المريض الدواء فتسوء حالته ويموت ،وإن كان يمكن أيضا أن يثار اإلشكال بالنسبة
لجرائم أخرى غير القتل ،وعموما تنحصر المسألة في إطار الجرائم ذات النتائج وأن تكون من الجرائم العمدية أيضا،
ويضاف لكل ذلك أال يكون الجاني قد قام بعمل حتى ال نكون بصدد جريمة إيجابية ،وتمثلت االتجاهات الفقهية في حل
مسألة الجرائم اإليجابية عن طريق الترك أو االمتناع يمكن أن نميز بين االتجاهات الفقهية الثالث التالي تناولها.
أوال:عدم إمكان العقاب على النتيجة اإليجابية إن كانت نتيجة امتناع
وهو اتجاه يرى أنصاره أن من امتنع عن فعل ال يمكن القول أنه ارتكبه ،أو قصده ،وذلك أن االمتناع
عبارة عن عدم والعدم ال يمكن أن يفضي إال إلى عدم مثله ،ونجد هذا االتجاه سائدا في الفقه الفرنسي والقضاء الفرنسي،
حيث يرون أن الحاالت التي يمكن أن تتم فيها نتيجة إيجابية عن طريق االمتناع يجب أن يحددها المشرع بموجب نص
خاص نظرا لخصوصيتها وأشهر قضية في القضاء الفرنسي تدلل على ذلك هو القضية الشهيرة بتسمية حبيسة بواتييه
LA SEQUESTSTREE DE POITIERSحيث رفض قضاة بواتييه إدانة المدعو مونييه بتهمة إستعمال العنف والتعدي
لما جعل أخته المريضة مرضا عقليا تحيا لعدة سنوات في غرفة ال يدخلها هواء نقي وال ينفذ إليها ضوء إلى غاية أن
][180
تدهورت حالتها الصحية ،وبررت المحكمة قضائها بأنه ال يمكن للعنف والتعدي أن يقوم دون وقوع هذا العنف أو
التعدي.
ثانيا :إمكان وقوع الجريمة اإليجابية عن طريق الترك
و هو اتجاه يرى أنصاره أن السلب مظهر للتعبير عن اإلرادة مثل اإليجاب تماما ،وأن موطن الصعوبة
فقط حسب أنصار هذا االتجاه يكمن في استخالص رابطة السببية بين امتناع الجاني والنتيجة المجرمة التي تحققت،
حيث في مثل هذه الحاالت يصعب القطع بتوفر العالقة السببية ،لذا نجدهم يشترطون للجزم بقيام مثل هذه الرابطة أن
يكون الجاني ملتزما التزاما قانونيا أو تعاقديا بالعمل على منع وقوع هذه النتيجة ،ويلزم أن يتدخل المشرع لتقرير ذلك
بموجب نص صريح في القانون ،وهو ما له مثيل في القانون اإليطالي لسنة 1930في المادة 2/40التي قضت أنه " :
عدم منع التي يلتزم الشخص قانونا بمنعها يعادل إحداثها " والقانون األلماني لسنة 1975في المادة 13التي قضت أنه
":من يحجم عن تفادي نتيجة ،تشكل عنصرا في جريمة ،ال يعاقب بمقتضى أحكام هذا القانون إال إذا كان ملزما قانونا
بمنع تحقق هذه النتيجة ،وكان االمتناع يعادل اإليجاب في تحقيق هذا العنصر".
ثالثا :و هو اتجاه يتفق مع الرأي السابق في إمكان تحقق النتيجة اإليجابية عن طريق الترك ،غير أنه ال
يضيف شرط وجوب أن يكون الجاني ملزما قانونا أو تعاقديا بمنع حدوث النتيجة المجرمة ،فالقانون حسبهم يعاقب على
النتائج المجرمة دون أن يعبأ بوسيلة تحققها ،وعليه تستوي كل الوسائل من حيث صالحيتها إلحداث النتيجة ،وبالتالي ال
يشترط سلوك معين إلحداث مثل هذه النتيجة
الفرع الثاني
أهمية تقسيم الجرائم إلى جرائم إيجابية وجرائم سلبية
و هو تقسيم أكثر ما يفيد في نظرية المحاولة أو الشروع ،حيث يرى غالبية الفقه أن نظرية الشروع
مقصورة على الجرائم اإليجابية دون الجرائم السلبية التي إما أن تقع كاملة وإما أال تقع .وتتجلى حكمة التجريم في
الجرائم البسيطة في خطورة الفعل في ذاته وما قد ينجم عنه من ضرر على الحق المحمي قانونان ،أما حكمة تجريم
الجرائم االعتياد فتتجلى في حالة االعتياد التي يتواجد عليها الجاني التي تصبح مصدر الخطورة الحقيقية التي ألجلها
يعاقب على الفعل وليس الفعل في ذاته.
المطلب الثالث
الجرائم البسيطة وجرائم االعتياد
ه ناك جرائم ال تكمن خطورتها في ارتكاب الفعل مرة واحدة ،وهو حال الجريمة البسيطة ،بينما تكمن
خطورتها في تكرار الفعل أكثر من مرة ،وحينها ال يكون محل التجريم هو السلوك في حد ذاته ،بل االعتياد عليه.
الفرع األول
معيار التفرقة بين الجرائم البسيطة وجرائم االعتياد وأهمية ذلك
جرائم االعتياد ،هي جرائم ال تكتمل قانونا إال بارتكاب الفعل المكون للجريمة أكثر من مرة دون أن
يحدد المشرع عدد هذه المرات وأن الفقه السائد أن تقع مرتين وأكثر ،في حين هناك رأي آخر يخول السلطة التقديرية
للقاضي في تقدير عدد مرات الفعل الذي تكتمل به الجريمة المستمرة قانونا على ضوء ما يستخلصه من توافر حالة
االعتياد لدى الجاني.
أوال :عناصر االعتياد
االعتياد يكون بتكرار الفعل في إطار زمني معين .فبخصوص تكرار الفعل ،القانون لم يحدد عدد
المرات التي يوجب أن يتكرر فيها الفعل ،لذا ثار خالف فقهي حول تحديد عدد المرات ،بين اتجاه يرى وجوب تحديده
في عدد معين ،وهو اتجاه اكتفى بتكرار الفعل مرتين ،والبعض اآلخر في إطار نفس االتجاه أن يتكرر الفعل أكثر من
][181
ثالث مرات .ي حين ذهب اتجاه ثاني إلى عدم تحديد األفعال بعدد معين ،ووجوب ترك المسألة للسلطة التقديرية
لقاضي الموضوع ،وحجتهم في ذلك أن العدد ليس مطلوبا في حد ذاته ،وإنما هو مجرد قرينة على توافر حالة االعتياد،
وقد ذهبت محكمة النقض المصرية إلى تبني االتجاه األول وقررت أن يكون تكراره مرتين على األقل .وهناك عنصر
اإلطار الزمني ،لتوفر حالة االعتياد هو أن يتكرر الفعل دون أن يكون الفعل األول قد سقط بالتقادم ،وهو رأي نتبناه
كثيرا فما دام التقادم المسقط في اعتبار المشرع يعد قرينة على نسيان الجريمة ،فمن باب أولى يجب أن يكون كافيا
لنسيان سلوك غير مجرم لوحده ما لم يتكرر ،خاصة وأنه سبق القول أن تجريم هذا النوع من الجرائم يجد أساسه في
نظر المشرع من خطورة فعل التكرار ال من خطورة السلوك ذاته.
ثانيا :أهمية تقسيم الجرائم إلى جرام بسيطة وجرائم اعتياد
ت كمن أهمية تقسيم الجرائم إلى جرائم بسيطة وجرائم اعتياد ،في كون هذه األخيرة تخضع في أحكامها
إلى أحكام قريبة من تلك التي تخضع لها الجرائم المستمرة ،كون كالهما يستغرق زمنا طويل نسبيا وما يترتب عن ذلك
من تطبيق القانون من حيث الزمان ،إذ يسري القانون الجديد حتى ولو كان أكثر شدة على فعل التكرار إن كان قد وقع
في ظله ،وفي التقادم يسري القانون من أول يوم يلي اكتمال فعل التكرار .غير أن أهم فرق ،هو أن المضرور ال يحق
له المطالبة بالتعويض كون ما هو مجرم ،هو فعل التكرار والعادة ال ما لحق المجني عليه من أضرار.
لكن تبقى هناك صعوبة استخالص البناء القانوني لجريمة االعتياد ،حيث يرى بعض الفقه أنه
هناك صعوبات ثالث تعترض استخالص البناء القانوني لهذه الجريمة :أولى الصعوبات ،هي ما إن كانت جريمة
االعتياد تقوم بتكرار الفعل مرتين أو أكثر دون عبرة بالزمن الزمن الذي يستغرقه هاذان الفعالن أمي نبغي اشتراط مثل
هذا الزمن ،والفقه السائد يرى وجوب أال يمر وقت زمني بين الفعلين يؤدي إلى تقادم هذه الجريمة ،وانتقد هذا الرأي
على أساس أن الفعل الواحد في جريمة االعتياد هو عنصر فيها ال تكتمل به الجريمة قانونا وأنه ال مجال للكالم عن
التقادم ما لم يكتمل البناء القانوني للجريمة ،لذا يجب ترك المسألة للسلطة التقديرية للقاضي .وتتمثل الصعوبة الثانية في
تحديد " ذاتية " الفعل المكون لحالة االعتياد حينما تقترن به بعض الظروف ،مثل جريمة اإلقراض بالربا في الحالة التي
يقرض فيها الشخص عدة قروض آلخر في وقت واحد ،وهنا واضح أال تقوم جريمة االعتياد لكن في الحالة التي يقرض
فيها الشخص بموجب عقد واحد عدة قروض ألشخاص متعددين ،فهنا يرى البعض أن الفعل يعد واحد وال تقوم به
جريمة االعتياد ،غير أن البعض يرى أنها عدة قروض وبالتالي ال مناص من قيام جريمة االعتياد.
وهنا تجدر اإلشارة إلى أنه هناك تبعا للتقسيم السابق نوع آخر من الجرائم نتناوله في النقطة الموالية
الفرع الثالث
جرائم االعتياد ،الجرائم المستمرة والجرائم متتابعة األفعال
التفرقة والنتائج
أوال :التفرقة
بين األنواع الثالثة السابقة نقاط التقاء ،ونقاط تفترق من خاللها عن بعضها البعض ،فهي كلها يتطلب تحققها
وقتا من الزمن مما يبرر خضوعها لنوع متشابهة من األحكام القانونية ،غير أن ذلك ال يمنع من وجود فروقات هامة
بينها نوجزها في النقاط التالية:تفترض جرائم االعتياد والجرائم المتتابعة األفعال أفعاال متعددة ومتماثلة ،في حين
الجريمة المستمرة كل ما تتطلبه فعل واحد يستغرق مدة من الزمن ،جرائم االعتياد كل فعل منها ال يشكل لوحده جريمة
مستقلة ،على عكس جرائم األفعال المتتابعة التي يمكن أن يسأل فيها الجاني عن كل فعل باعتباره يشكل جريمة مستقلة
بذاتها .الجريمة المركبة هي الجرائم التي يكون بنيانها القانوني قائما على عدة أفعال جرمية مختلفة تدخل كعنصر من
عناصرها أو كظرف مشدد لها كدخول حرمة مسكن للسرقة ،هما فعلين مجرمين ومستقلين ،غير أنها تعتبر جريمة
واحدة كون المشرع جمعهما في نموذج قانوني واحد ،أما الجريمة المتتابعة األفعال أو المتعاقبة ،فهي الجريمة التي
تتكون من عدة أفعال متتابعة تعتبر كلها جريمة واحد بالنظر لورود كل االعتداءات على ذات المصلحة المحمية تنفيذا
لمشروع إجرامي واحد ،كضرب الشخص عدة ضربات متتابعة أو اختالس أموال الدولة على دفعات والزنا المتتابع مع
شريك واحد وحيازة عدة قطع من المخدرات وسرقة التيار الكهربائي عدة أيام والبناء المتوالي بدون ترخيص
ثانيا :النتائج المترتبة عن تقسيم الجرائم إلى بسيطة واعتيادية
][182
من أهم نتائج التفرقة بين الجرائم البسيطة والجرائم االعتيادة ،هي نتائج إجرائية ،أولها بخصوص تقادم
الدعوى ،حيث يسري التقادم بخصوص جرائم االعتياد من اليوم التالي آلخر فعل من األفعال المكونة للجريمة قانونا،
وال عبرة في ذلك بالمدة التي تفصل بين الفعلين المكونين لحالة االعتياد .وفيما يتعلق باالختصاص المكاني،
االختصاص بنظر جريمة االعتياد ينعقد لكل محكمة من المحاكم ارتكب في دائرة اختصاصها فعل من األفعال المتطلبة
لتكوين حالة االعتياد ،على عكس الجريمة البسيطة تخضع الختصاص محكمة مكان اقترفاها ،فيما يتعلق بقوة
الشيء المقضي به ،متى أدين شخص بجريمة اعتياد ليس هناك ما يمنع من رفع الدعوى عليه متى ارتكب بعد الحكم،
مرة أخرى الجريمة بفعلين أو أكثر ،من دون األفعال التي سبق الحكم عليه بسببها.وفيما يتعلق بالسريان الزماني
للنص ،النص القانوني الجديد ولو أسوأ من القديم يطبق على جريمة االعتياد في فعلها األخير الذي تقوم به حتى ولو
كانت األفعال السابقة وقعت في ظل القانون القديم.
المطلب الرابع
الجرائم ذات النتائج والجرائم الشكلية
ومعيار التقسيم بين النوعين من الجرائم ،هو بالنظر لعناصر ومكونات الركن المادي للجريمة،
فالجريمة ذات النتيجة هي الجريمة التي تكتمل فيها عناصر الركن المادي ،بينما الجرائم الشكلية هي اتجاه إرادة الجاني
الرتكاب السلوك دون النتيجة وتسمى في هذه الحالة أيضا جرائم السلوك المجرد أو الجرائم الشكلية مقابلة للجرائم
المادية ،وهي الجرائم ذات النتيجة أو جرائم الضرر مقابلة لجرائم الخطر وقد كانت جرائم الخطر موضوع المؤتمر
الدولي العاشر المنعقد بروما سنة .1969وهو تقسيم سبق تناوله ،ونختصر أهميته في النقاط التالية :تكمن أهمية التقسيم
بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية من عدة أوجه أهمها تتعلق بالقواعد الجنائية الموضوعية سيما في مجال الشروع
في الجريمة ومجال عالقة السببية .حيث أنه بخصوص الشروع في الجريمة ،فال يكون إال في الجرائم ذات النتائج
دون ج رائم السلوك المحض أو المجرد أو ما تسمى بالجرائم الشكلية التي ال مجال للكالم عن الشروع فيها .وبخصوص
البحث عن عالقة السببية ،فال مجال لبحثها في مجال الجرائم الشكلية النعدام النتيجة فيها وهي التي يحتم البحث ما
إن كان يربطها بسلوك الجاني عالقة سببية..
المطلب الخامس
الجرائم المركبة والجرائم متتابعة األفعال
الجريمة المركبة ،هي تلك الجريمة التي يتألف النشاط المكون لركنها المادي من أكثر من فعل ،كجريمة
النصب التي ال تكتمل قانونا إال بوقوع فعلين متميزين ،هما استخدام الوسائل االحتيالية ومن ثم االستيالء على مال
الغير .وبذلك فمن حيث الجوانب الموضوعية تخضع الجريمة المركبة من حيث سريان النص من حيث الزمان للقانون
الجديد على كل الجريمة حتى ولو بدأ سريان القانون بعد اقتراف الفعل األول.
ومن حيث الجوانب اإلجرائية ينعقد االختصاص في الجرائم المركبة لكل محكمة وقع في دائرة اختصاصها
فعل من األفعال المكونة للجريمة ،حتى بخصوص مبدأ اإلقليمية حيث ينعقد االختصاص لقضاء كل دولة من الدول التي
وقع بإقليمها فعل من األفعال المكونة لهذه الجريمة ،كما أن تقادم الدعوى ال يبدأ في السريان إال من اليوم التالي
القتراف آخر فعل مكون للجريمة المركبة بل في جريمة النصب في اليوم الموالي ألخر عنصر من عناصر التسليم.
أما تعريف الجريمة متتابعة األفعال ،هي تلك الجرائم التي تتمثل في أفعال متعددة يجمع بينها بالرغم
من هذا التعدد تماثل الحق المعتدى عليه ووحدة الغرض اإلجرامي ،كمن يصدر عدة شيكات بدون رصيد لشخص واحد
عن دين واحد ،وهي بذلك جريمة تقوم بعدة أفعال يصلح كل منها لتكوين جريمة مستقلة وكل منها يتكون من ركن مادي
][183
وآخر معنوي لكن تصبح جريمة واحدة لتماثل الحق المعتدى عليه ولوحدة الغرض اإلجرامي وبالتالي ال يطبق عليها
سوى عقوبة واحدة.
المبحث الثاني
تقسيم الجرائم بالنظر لركنها المعنوي
بالنظر للركن المعنوي للجريمة ،الذي انتهينا منه منذ قيليل ،فهناك تقسيم واحد للجرائم ،وهي جرائم عمدية
وأخرى غير عمدية ،وسنحاول بنوع من االختصار تناول كل نوع منها في مطلب مستقل.
المطلب األول
الجرائــــم العمدية
الجريمة العمدية ،هي تلك الجريمة التي يتطلب المشرع لقيامها توفر القصد الجنائي بعنصريه العلم
واإلرادة ،إرادة السلوك – وهي صورة مشتركة بين الجرائم العمدية والجرائم غير العمدية – وإرادة النتيجة ،باإلضافة
إلى العلم بكل العناصر الواقعية الجوهرية الالزمة لقيام الجريمة والعلم بصالحية السلوك إلحداث النتيجة ،وهي صورة
العلم الذي إن اتخذ درجة اليقين كان القصد مباشرا وإن اتخذ درجة االحتمال كنا بصدد القصد االحتمالي أو القصد غير
المباشر ،وأن الغالبية العظمى من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات من الجرائم العمدية ،وعادة ما يعبر عنه
المشرع بعبارات مثل كل من ارتكب " عمدا " أو كل من ارتكب " عالم" وأن كل الجنايات عمدية وأغلب الجنح عمدية
أما المخالفات فالقليل منها فقط عمدي.
المطلب الثاني
الجرائم غير العمدية
وتسمى أيضا بالجريمة الخطئية أو بجريمة اإلهمال ،وهي تلك التي ال يتطلب المشرع لقيامها توافر
القصد الجنائي لدى الجاني كون كل ما يلزم فيها إرادة السلوك مع العلم بكافة العناصر الواقعية الجوهرية الالزمة لقيام
الجريمة – وهو أيضا عنصر مشترك ما بين الجرائم العمدية والجرائم غير العمدية -دون إرادة النتيجة ،لكن مع العلم
وبالتالي تختلف الجريمة غير العمدية عن الجريمة العمدية ،في كون األولى بصالحية السلوك إلحداث النتيجة.
توجب توافر قصد تحقيق النتيجة عكس الجرائم غير العمدية ،ومن ناحية ثانية درجة العلم المتطلبة في الجرائم العمدية
ترقى لمرتبة اليقين أو االحتمال ،بينما في الجرائم غير العمدية فتتوقف درجة العلم عند درجة اإلمكان أي العلم بإمكان
تحقق النتيجة كأثر للسلوك.
وهناك نوع من الجرائم قد يثير اللبس بين النوعين السابقي،ن وهو ما يسمى بالجرائم المادية DELIT
MATERIELSالتي تقع بمجرد إتيان النشاط المكون لركنها المادي حتى ولو لم يقم الركن المعنوي لدى الجاني ،و ال
حتى مجرد الخطأ أو اإلهمال ،بل هي جرائم تقوم بالركن المادي وحده دون الركن المعنوي ،كالجرائم المرورية
][184
والجرائم الضريبية والجرائم الجمركية ،وهو ما أثار حفيظة أنصار الفكر الجنائي الحديث الذين يطالبون بجعل اإلثم أو
الخطأ كأساس للمسؤولية الجنائية ،إال أن المبرر يكمن في القول بأن الجرائم المادية ال تعني انتفاء الركن المعنوي وإنما
يجعل فيها المشرع ارتكاب الفعل المادي قرينة على توفر الخطأ لديه وتنقل عبء اإلثبات من عاتق النيابة إلى عاتق
المتهم الذي له أن يثبت انتفاء مسؤوليته بانتفاء الخطأ من جانبه.
ومن أهم النتائج المترتبة على تفقسيم الجرائم إلى عمدية وغير عمدية ،من حيث العقوبة المقررة،
فعقوبات الجرائم غير العمدية في العادة عقوبات مخففة مقارنة بالعقوبات المقررة للجرائم العمدية ،ومن حيث إمكان
العقاب على الشروع ،فال شروع في الجرائم غير العمدية وال اشتراك فيها.
الباب الثاني
نظرية المسؤولية الجـــنائية
ال يكفي مجرد ارتكاب الجريمة بأركانها المبينة على النحو السابق العتبار مقترفها مسؤول عنها
مسؤولية جنائية ،وبالتالي استحقاق العقاب المقرر لها بل يجب أن تتوفر فيه العناصر القانونية الالزمة المكونة
للمسؤولية الجنائية ،ألنه هناك فرق كبير بين فكرة الجريمة وفكرة المسؤولية الجنائية ،فالجريمة إن كانت تقوم ببنيانها
القانوني بموجب األركان الثالثة العامة ،فإن المسؤولية الجنائية أو كما يسميها البعض " األهلية الجنائية" أو " أهلية
اإلسناد" .ال تقوم وال تتحقق إال إذا كان الفاعل وقت اقترافه الجريمة يتمتع بملكتي " الوعي واإلدراك" من ناحية،
وبالقدرة على االختيار أو حرية االختيار من ناحية ثانية ،وبدون هذه العناصر تنتفي المسؤولية الجنائية وبالتالي ال
مجال لتوقيع الجزاء على الفاعل ،بالرغم من ارتكابه الجريمة على النحو الموصوف قانونا ،وإن كان ذلك ال يمنع من
خضوعه للتدابير االحترازية أو تدابير األمن كصورة ثانية من صور الجزاء الجنائي ،وهي التدابير التي توقع على من
توفرت في جانبه خطورة إجرامية .لذا فأساس توقيع العقوبة هي المسؤولية الجنائية ،والخطورة اإلجرامية أساس توقيع
التدابير االحترازية أو األمنية ،وبالتالي المسؤولية الجنائية شرط ضروري إلمكان الحديث عن توقيع العقوبة على
الفاعل ،وقوام المسؤولية الجنائية الوعي واإلدراك من ناحية ،واإلرادة وحرية االختيار من ناحية ثانية] .[7لذا فنظرية
المسؤولية الجنائية تقتضي الحديث عن الشخص الفاعل ،حيث إن كانت أركان الجريمة تنصرف إلى الفعل المادي ،فإن
نظرية المسؤولية الجنائية تنصرف أكثر إلى الشخص الفاعل ،لذا نجد الكثير من الفقه يتناول المسؤولية الجنائية في
إطار نظرية " المجرم والجزاء" ،لذا فضلنا نحن تناول المسؤولية الجنائية ضمن باب مواز لنظرية الجريمة ،وكانت
خطتنا في البداية أن فقسم هذا الباب إلى فصلين ،فصل يتعلق بالشخص المجرم المسؤول وموانع هذه المسؤولية ،وآخر
يتعلق بنظرية الجزاء ،غير أن قولنا بترك نظرية الجزاء لتكون موضوع مطبوعة مستقلة ،جعل من هذا الباب يختل
توازنه مقارنة بالباب األول ،غير أن هدف المطبوعة يتجاوز مراعاة الجوانب الشكلية ،ويركز فقط على النواحي
الموضوعية الهادفة إلفادة الطالب بالتفاصيل التي قد يتم تجاوزها في المحاضرات ،لذا فتركيزنا في هذا الباب المختصر
سيكون من خالل فصلين نتناول في األول فكرة المسؤولية الجنائية ذاتها ،على أن نتناول في الثاني موانع هذه
المسؤولية .كون فكرة المسؤولية الجنائية أو الجزائية] ،[8تتطلب تحديد مفهومها وذلك بتحديد معناها وأساسها وبيان
شروطها ،من جهة ،ومن جهة ثانية تحديد الحاالت التي تنتفي فيها المسؤولية الجنائية أو تمتنع من القيام بالرغم من
ارتكاب الفعل المجرم قانونا.
][185
الفصل األول
ماهية المسؤولية الجنائية
ق بل أن نتناول مفهوم المسؤولية الجنائية وبيان أساسها وشروطها وتمييزها عما يشابهها من أفكار
قانونية ،تجدر بنا اإلشارة بأنه هناك العديد من الفقهاء من يتناول دراسة هذه الفكرة في إطار دراسته للركن المعنوي
للجريمة ،وذلك بسبب النقاط القانونية الكثيرة المشتركة بينهما ،سيما فيما يخص موانع المسؤولية التي تعد في حد ذاتها
موانع في الحقيقة لقيام الركن المعنوي للجريمة ،وأيضا ارتباطهما معا بفكرتي األهلية الجنائية وفكرة العدالة ،وكذا اتخاذ
المسؤولية الجنائية للعديد من الصور تبعا لتعدد صور الركن المعنوي ذاته ،حيث نجد المسؤولية العمدية التي تقابل
صورة القصد الجنائي و عنصر العمد ،والمسؤولية غير العمدية التي تقابل صورة الخطأ ،والمسؤولية المتعدية أو
المتجاوزة القصد تبعا لصورة القصد الجنائي المتعدي
أ و المتجاوز ،وهي نقاط التشابه الكثيرة التي جعلت من البعض يرى بأن الركن المعنوي هو ركن في المسؤولية
الجنائية ،بالرغم من نقاط الخالف الكثيرة بينهما على نحو ما سنتبينه.
][186
المبحث األول
مفهوم المسؤولية الجنائية وتحديد أساسها القانوني
يقصد بالمسؤولية الجنائية في مجال النظرية العامة للجريمة ،االلتزام بتحمل النتائج المترتبة على وقوع الفعل
المجرم ،وهي بهذا الوصف ال تعد ركنا أو عنصرا في الجريمة ،بل هي األثر أو النتيجة القانونية لها ،وأيا كان الخالف
الفقهي حول مفهوم المسؤولية الجنائية ،فهي باختصار تحمل تبعة األفعال التي يجرمها القانون الجنائي ،وفكرة تحمل
التبعة ال تعني سوى تطبيق العقوبة ،غير أن ما تجدر اإلشارة إليه ،أنه على خالف الوقت الحاضر الذي تقام فيه
المسؤولية الجنائية لإلنسان العاقل البالغ فقط ،فإن الشرائع القديمة عرفت مسؤولية الحيوان والجماد ،بل وحتى الموتى
في قبورهم ،وفسر ذلك بنسبة الجريمة لألرواح الشريرة التي تتقمص هذه األشياء وتسخرها في ارتكاب الجرائم ،غير
أنه حديثا أصبحت المسؤولية ال يمكن أن تسند إال لإلنسان ألنه الكائن الوحيد الذي يمكنه أن يفهم ويستوعب أوامر
ونواهي القانون ،كما أن ما يتضمنه القانون من جرائم ال يمكن تصور ارتكابه إال من قبل اإلنسان وكذلك الشأن بالنسبة
للجزاءات التي يتضمنها والتي ال يمكن تصور إنزالها إال باإلنسان ،وال يتصور تحقيق أغراضها إال إذا نفذت على
اإلنسان ،وكاستثناء أصبحت تتقرر مسؤولية األشخاص المعنوية أو االعتبارية.
المطلب األول
تعريف المسؤولية الجنائية وتمييزها عما يشابهها من أفكار قانونية جنائية][9
يقصد بفكرة المسؤولية الجنائية أهلية اإلنسان العاقل الواعي بأن يتحمل الجزاء العقابي نتيجة اقترافه
جريمة من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات ،كون لفظ المسؤولية مرادف للفظ المسائلة ،أي مسائلة
الشخص عن اختياره الجريمة كسلوك مخالف للقانون ومناقض له ،وهو سؤال يحمل معنى اللوم واالستنكار والتهديد
بتوقيع الجزاء نتيجة اختيار هذا السلوك المجرم .لذا فالمسؤولية الجنائية ليست ركنا من أركان الجريمة ،بل هي حصيلة
أو أثر ألركان الجريمة مجتمعة ،وهي الحصيلة التي اجتمعت في شخص إنسان عاقل مميز ومريد وله القدرة على
االختيار .وعليه فالمسؤولية الجنائية تتميز عن كل أركان الجريمة ،بما فيها الركن المعنوي المشابه لها كثيرا ،فالركن
المعنوي ركن في الجريمة وال يمكن البحث في توفر المسؤولية الجنائية إال بعد أن تقوم األركان العامة الثالثة للجريمة
بما فيها الركن المعنوي ،بل المسؤولية الجنائية وباإلضافة إلى توفر أركان الجريمة ،يجب أن يتوفر أيضا عناصر
الوعي واإلرادة وحرية االختيار لدى الجاني.
ك ما تختلف المسؤولية الجنائية أيضا عن فكرة " األهلية الجنائية" ،فهذه األخيرة تعني صالحية مرتكب
الجريمة ألن يسأل عنها ،أي إمكانية الشخص أن يكون مسؤوال عن أفعاله ،وهي مرتبطة بسن معينة تختلف حوله
التشريعات الجنا ئية ،مما يجعلها شرطا لقيام المسؤولية الجنائية أو عنصرا من عناصرها ،فالمسؤولية الجنائية ال تقوم
إال بتوافر األهلية الجنائية بحيث حيثما تنتفي هذه األخيرة تنتفي المسؤولية الجنائية.
المطلب الثاني
][187
أساس المسؤولية الجنائية
المسؤولية الجنائية كفكرة قانونية جنائية يجب وأن تستند إلى أساس خاص يبرر مشروعية توقيع الجزاء
على الشخص مرتكب الجريمة ،ألن المنطق القانوني السليم يستدعي أساسا منطقيا بموجبه وعلى أساسه يمكن مسائلة
الشخص ،وهو األساس الذي مثل البحث فيه مسألة فلسفية انكب على دراستها فقهاء القانون على مدار القرنين
األخيرين] ،[10حيث اختلفوا وانقسموا بخصوص هذا األساس اختالفا شديدا ومتباينا ،وهو الخالف الذي يمكن رده إلى
اتجاهين أو مذهبين أساسيين ،تمثلهما مدرستين عريقتين هما المدرسة التقليدية والمدرسة الوضعية ،األولى نادت بفكرة
" حرية االختيار" كأساس للمسؤولية الجن ائية ،فيما نادى أنصار المدرسة الوضعية بفكرة " الجبرية أو الحتمية" كأساس،
وهو ما نبينه في فرعين ،لكن مثلما هو األمر دوما كلما وجد اتجاهين ،يوجد اتجاه وسط توفيقي يحاول تفادي مساوئ
كل اتجاه واألخذ بمزاياه ،وهو ما نبينه في الفرع الثالث.
الفرع األول
المــــــذهب التقليدي
مذهب حرية االختيار
أساس المسؤولية الجنائية هو المسؤولية األدبية أو األخالقية
و هو المذهب الذي يقيم أنصاره المسؤولية الجنائية على فكرة أن اإلنسان المكتمل لمداركه العقلية يصبح
حرا في تصرفاته ويوجه إرادته حيثما يشاء ويريد ،وبالتالي يكون مسؤوال عن كل أفعاله وحيثما يوجه إرادته يتحمل
مسؤوليته ،وعليه فالجريمة وليدة إرادة اإلنسان الحرة ،لذا فوفقا ألنصار المدرسة التقليدية يجب أن يتوفر عنصري
اإلرادة وحرية االختيار لتقوم المسؤولية الجنائية للشخص ،فاإلرادة وحرية االختيار فقط تمكن من القول بأن اإلنسان
يسأل عن اختيار أو سلوكه طريق الجريمة ،واعتباره مخطئا قانونا ،لذا فال يسأل الصغير أو المجنون أو المكره أو
النائم ،ففي كل هذه الحاالت تنعدم المسؤولية الجنائية لعدم قيام اإلرادة وحرية االختيار وبالتالي انتفاء عنصر الخطأ في
سلوك الشخص ،ألن الخطأ يقاس بمدى إدراك اإلنسان لفعله الخاطئ ،وللخطأ والمسؤولية الجنائية درجات تقاس وفقا
للقدر الذي ينقص به اإلدراك واالختيار .إذن باختصار ،أساس المسؤولية الجنائية وفقا ألنصار المدرسة التقليدية ،وفي
جوهرها هي لوم على سلوك مخالف للقانون كان باستطاعة الفاعل أن يسلك غيره ،لذا فهي مسؤولية أدبية و
أخالقية .كون اإلنسان مخير في أفعاله وليس مسيرا وبالتالي عليه دوما أن يسلك الطريق نحو الفعل غير المجرم وأن
يوجه إرادته نحو ذلك].[11
الفرع الثاني
المـــذهب الوضـــعي
مذهب الجبرية أو الحتــمية
على عكس االتجاه التقليدي ،ذهب أنصار المدرسة الوضعية إلى القول بأن اإلنسان ليس مخيرا وإنما
مسيرا ،وبالتالي تصرفاته ليست وليدة اختياره وحريته ،وإنما حتمية عليه لعوامل ال دخل إلرادته فيها ،وهي عوامل
وراثية وخلقية ومزاجية وبيئية واجتماعية ،وما اإلرادة إال ثمرة لهذه العوامل التي قد تدفع الشخص إلى ارتكاب الجريمة
كقدر محتوم مكتوب عليه] ،[12غير أنه بالرغم من امتناع حرية االختيار فإن المسؤولية الجنائية ال تمتنع ،فيسأل
الصبي كما يسأل المجنون ،شأنهما شأن الشخص العاقل ،وكل ما في األمر أن المسؤولية قابلة فقط للتخفيف لكنها ال
تمتنع.
الفرع الثالث
المذهب التوفـــيقي
و هو مذهب أقام أنصاره أساس المسؤولية الجنائية على محاسن االتجاهين السابقين ،فأقامها على أساس
التمييز وحرية االختيار ،دون إهمال الظروف والعوامل الشخصية واالجتماعية المحيطة بالشخص الجاني.
المطلب الثالث
خصائص المسؤولية الجنائية
][188
في حقيقة األمر ،تتحدد خصائص المسؤولية الجنائية تبعا لألساس الذي تبنى عليه ،وبما أن األساس
السائد في التشريعات الجنائية الوضعية ،هو مذهب حرية االختيار ،فإن خصائص المسؤولية الجنائية تبعا لذلك ،أن
اإلنسان هو موضوعها ،وبذلك تكون مسؤولية شخصية.
الفرع األول
اإلنسان موضوع أو محل المسؤولية الجنائية
السائد فقها وتشريعا وقضاء أن اإلنسان هو محور أو موضوع أو محل المسؤولية الجنائية ،على عكس
ما كان سائدا قديما ،أين عرفت مسؤولية الحيوان والنبات والجماد ،كما أن الجريمة سلوك إرادي ،واإلرادة جوهر
الركن المعنوي للجريمة ،وهي التي تقف خلف السلوك اإلجرامي وهي اإلرادة التي ال يمكن أن تكون إال إرادة إنسانية
تصدر عن إنسان ،لذا فالمسؤولية الجنائية ال يتحملها إال اإلنسان كونه المدرك والمميز والفاهم لحقيقة األفعال والمختار
لها ،لذا فاإلنسان هو الذي يرتكب الجريمة وهو الذي يتحمل مسؤوليتها ،خاصة وأن الجزاءات الموجودة بالقانون ال
يمكن تصور إنزالها بغير اإلنسان ،وال يمكن تصور تحقيقيها ألغراضها إال إذا نفذت فيه ،سواء تمثلت هذه األغراض
في الردع العام أو الردع الخاص
أو التهذيب أو اإلصالح والعالج .غير أن التطور القانوني انتهى إلى االعتراف بالمسؤولية الجنائية لألشخاص
المعنوية ،والذي ال يزال يثير الجدل لغاية اليوم ،حول إمكانية مسائلة الشخص المعنوي جزائيا ،وهو الجدل الفقهي الذي
انعكس على التشريعات الوضعية ،حيث أنكر اتجاه قيام المسؤولية الجنائية لألشخاص المعنوية ،لكن هو أمر مسلم به
في تقنين العقوبات الجزائري .وهو ما تكون لنا عودة إليه.
الفرع الثاني
شخصية المسؤولية الجنائية
من المسلمات في القانون الجنائي مبدأ شخصية العقوبة ،حيث ال توقع العقوبة إال من تقررت مسؤوليته الجنائية
عن الجريمة التي وقعت ،وبالتالي فالمسؤولية الجنائية شخصية ،حيث ال تقوم إال لدى الشخص مرتكب الجريمة أو
المساهم فيها بوصفه فاعال أو شريكا ،فالعدالة الجنائية تأبى تحميل المسؤولية لشخص ال عالقة له بالجريمة المرتكبة،
وهو مبدأ إلهي تقرر في القرآن الكريم حيث ليس لإلنسان إال ما سعى ،في قوله عز وجل في اآليات من 36إلى 39من
سورة النجم :وفي اآلية 286من سورة البقرة " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" وفي اآلية 46من سورة فصلت"
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها" ،وفي اآلية 15من سورة اإلسراء ":ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن
ضل فإنما يضل عليها وال تزر وازرة وزر أخرى" وفي اآلية 33من سورة لقمان ":ال يجزي والد عن ولده وال مولود
هو جاز عن والده شيئا" ،وفي قوله صلى هللا عليه وسلم " :ال يؤخذ الرجل بجريرة أبيه وال بجريرة أخيه".
غ ير أن مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية لم تعرفه القوانين الوضعية إال حديثا ،حيث كانت تعرف
القوانين القديمة فكرة المسؤولية الجنائية الجماعية ،حيث كانت تمتد لتشمل أسرة الجاني وأقربائه وعشيرته ،وهو
الوضع الذي امتد لغاية ما قبل الثورة الفرنسية ،غير أنه اليوم أضحى المبدأ من المبادئ الدستورية والجنائية ،حيث ال
يعرف القانون الجنائي المسؤولية عن أفعال الغير مثل القانون المدني ،ما عدا في بعض الفروض النادرة مثل الجرائم
الصحفية....
][189
المبحث الثاني
شروط المسؤولية الجنائية
ف ي حقيقة األمر شروط المسؤولية الجنائية تختلف باختالف األساس الذي بنيت عليه ،فحيث يكون
أساسها حرية االختيار فإن شروطها تتمثل في ضرورة توافر اإلدراك وحرية االختيار ،وحيث يكون أساسها الجبرية أو
الحتمية فإنه يشترط لتقرير المسؤولية الجنائية توفر الخطورة اإلجرامية ،لذا يجب أن نتناول كل هذه الشروط ،حيث
األصل في أساس المسؤولية الجنائية حرية االختيار فإن شروطها اإلدراك واالختيار ،وحيث أساسها الجبرية فإن
شرطها األساسي توفر الخطورة اإلجرامية – وهو نضيفه فقط لالستيعاب وننبه مرة أخرى هو أنه من الشروط في
القوانين التي تأخذ بمذهب الجبرية ،-وهو ما نبينه في المطلب التالي ،بعد أن نبين شرط أساسي يتمثل في التمتع باألهلية
الجنائية.
المطلب األول
التمتع باألهلية الجزائية
ا ألهلية الجزائية مجموعة من الصفات والعناصر التي يتوجب أن تتوفر في الشخص حتى يمكن نسب
الجريمة إليه ،بوصفه فاعلها عن وعي وإدراك ،وهي ال تثبت إال لإلنسان باعتباره الوحيد من بين الكائنات الذي يملك
قدرة اإلدراك وحرية االختيار ،وكنتيجة لذلك فالجريمة ال يمكن أن يقترفها إال اإلنسان ،غير أن صفة اإلنسان وإن كانت
ضرورية فهي غير كافية لتوفر األهلية الجنائية ،فقد ترتكب جريمة من قبل إنسان غير أن أهليته تمتنع لجنونه أو صغر
سنه ،وبالتالي ليكون الشخص آهال لتحمل المسؤولية الجنائية أن يكون حيا وعاقال وبالغا سنا معينة وهو ما نبينه في
النقاط التالية.
الفرع األول
وقوع الجريمة من إنسان حي
صفة اإلنسان شرط الزم لوصف السلوك المخالف للقاعدة الجنائية بوصف الجريمة ،بحيث هذه األخيرة
ال يمكن أن ترتكب إال من إنسان ،وبالتالي الشرط األول لألهلية الجنائية هو صدور الجريمة عن إنسان ،وأن كل فعل
صادر عن جماد أو حيوان دون أن يكون هناك دور لإلنسان فيه فهو ال يعد جريمة ،إذ غير اإلنسان مستبعد من
الخطاب الجزائي تجريما وعقابا ومسؤولية .كما أنه ال يكفي أن تكون الجريمة صادرة عن إنسان ،بل يجب أن يكون
هذا األخير حيا ،بالنظر لخاصية شخصية العقوبة التي تعني بداهة سقوطها بوفاة الجاني إذ بذلك تنتفي الغاية من توقيع
الجزاء كما ينتفي محلها الذي يوقع عليه.
الفرع الثاني
أن يكون الجاني عاقال وبالغا
ي عد العقل أساس تحمل المسؤولية ،ألن العقل هو مناط اإلدراك ،لذلك فالشخص المصاب بمرض أو
عاهة عقلية الزمته وقت ارتكاب الجريمة انعدمت أهليته وبالتالي مسؤوليته الجنائية ،والعقل وفقا التفاق التشريعات
الجنائية الحديثة يتطلب سنا معينة حتى وإن اختلفت بشأنه التشريعات ،فالعقل يتدرج حسب المراحل السنية وهو ال
يكتمل قانونا إال ببلوغ السن التي يحددها قانون العقوبات.
][190
المطلب الثاني
التمتع بالوعي وحرية اإلرادة
( التبعة الجــزائية)
ال يكفي لقيام المسؤولية الجنائية ارتكاب الفعل المجرم من شخص آهل جنائية ،أي إنسان حي بالغ سن
معينة ،بل يجب إضافة إلى ذلك أن يكون متمتع بشرط التبعة الجزائية التي تقوم على عنصري الوعي واإلرادة].[13
الفرع األول
الوعـــــــي واإلدراك
يقصد بالوعي أو اإلدراك ،قدرة اإلنسان على فهم ماهية سلوكه وتقدير ما قد يترتب عليه من نتائج،
ويعني في مجال المسؤولية الجنائية أن يعي الشخص أنه بصدد سلوك محظور قانونا ،غير أنه باختياره يوجه إرادته
نحو القيام به ،فيعد بذلك مسؤول جنائيا عنه .والقدرة السابقة في حقيقة األمر ،هي قدرة واقعية تتعلق بماديات الفعل في
ذاته ونتائجه ،كما هو األمر في الواقع المألوف ،وهي القدرة االجتماعية التي تستمد من قواعد الخبرة اإلنسانية العامة،
في التمييز بين الخير والشر ،والمسموح والممنوح والمباح والمحظور ،وهو الفهم الواقعي من حيث الفعل بذاته وما قد
يرتبه من نتائج ،وليس الفهم القانوني ،حيث الشخص قد يأتي فعال يجهل أصال أن قانون العقوبات يجرمه ،إذ العلم
بقانون العقوبات والتكييف الذي يتضمنه أمر مفترض ،فالعلم ليست له عالقة باإلرادة ،كونه ال يعذر شخص بجهل
القانون.
الفرع الثاني
حريـــة اإلرادة
و يقصد بحرية اإلرادة حرية الشخص على االختيار وقدرته على توجيه سلوكاته نحو القيام بالفعل أو
تركه ،وحتى تتوفر حرية اإلرادة يجب أن يكون الفعل مما يمكن القيام به ،بحيث إذا كان مستحيال فال محل للقول بحرية
اإلرادة ،وأن يكون أمام الشخص بدائل تمكنه من االختيار من بينها.كما تعني اإلرادة توجيه الذهن إلى تحقيق عمل
معين ،فهي إرادة قد تكون واعية ،كما قد تكون غير واعية ،فالمجنون يريد أفعاله والصغير كذلك ،غير أن إرادتهما غير
واعية ،واإلدراك يجب توفره وقت إتيان الجريمة ،أي األفعال المادية المكونة لها حيث يجب أن يكون معاصرا لها ،فإن
انتفى يكون شرط أساسي من شروط قيام المسؤولية الجنائية قد تخلف وبالتالي ال تقوم ،أما قدرة االختيار فتعني قدرة
الشخص على توجيه إرادته ،إذ يفترض تعدد الخيارات أمام الشخص ومن ثم يوجهها الوجهة التي يختارها ،األمر الذي
يجعل منه يختلف عن اإلرادة ،فهذه األخيرة تتعلق بالجريمة في ركنيها المادي والمعنوي ،بينما حرية االختيار موقعها
المسؤولية الجنائية كمحصلة ألركان الجريمة مجتمعة ،ومعلوم انه قد توجد الجريمة وتتخلف المسؤولية ،وحرية اإلرادة
موجود متى كانت الظروف المحيطة بالجاني تركت له حرية التصرف ،بينما هناك ظروف تنقص منها أو قد تعدمها
مثل اإلكراه أو الضرورة ،وبذلك يتعين اإلنقاص من المسؤولية الجنائية أو امتناع قيامها أصال تبعا للمقدار الذي ترك
لحرية تصرف الشخص.
ومثلما ذكرنا سابقا ،سنضيف شرط ثالثا يتعلق بشروط المسؤولية في القوانين التي تأخذ بالجبريةن وهو
شرط الخطورة اإلجرامية.
الفرع الثالث
شرط الخطورة اإلجرامية
][191
و هي فكرة اعتنقها أنصار المدرسة الوضعية لتأسيس المسؤولية الجنائية ،ومنها قرروا استبعاد العقوبات
التقليدي ة وإحالل التدابير االحترازية محلها لحماية المجتمع من تكرار الجريمة في المستقبل ،وتعرف الخطورة
اإلجرامية بأنها :حالة أو صفة نفسية لصيقة بشخص الجاني تنذر باحتمال إقدامه على ارتكاب جريمة أخرى في
المستقبل ،ومن هذا التعريف تتضمن الخطورة اإلجرامية عنصرين ،الجريمة السابقة المرتكبة ،واحتمال وقوع جرائم
جديدة في المستقبل .فشرط الجريمة السابقة أو التي وقعت شرط أساسي من شروط القول بانطواء الشخص على خطورة
إجرامية ،فضرورة ارتكاب الجريمة وتوقيع التدبير يحكمه مبدأ الشرعية الجنائية ،حيث مثلما تخضع العقوبة لهذا المبدأ،
فالتدابير االحترازية تخضع له أيضا ،وبالتالي بجب توفر هذه الجريمة وإال فال مجال للقول بالخطورة اإلجرامية حتى
ولو كانت نفسية الجاني تنطوي على خطورة اجتماعية عالية ،بالرغم من أن البعض عارض ذلك ،بحجة عدم وجوب
انتظار وقوع ضرر الجريمة ما دامت الخطورة متوفرة ،فيمكن توقيع التدابير دون انتظار وقوع الجريمة ،دفاعا عن
المجتمع.
وأما الشرط الثاني للقول بتوفر الخطورة اإلجرامية ،فيتمثل في احتمال وقوع جريمة جديدة في
المستقبل ،وهو ما تكشف عنه الجريمة السابقة التي تبين الشخصية اإلجرامية لدى الجاني ،وتوفر دالالت وإمارات لديه
يخشى مع توفرها إقدام الجاني على ارتكاب جرائم جديدة في المستقبل ،فاإلمارات ضرورية بالنظر لكون الخطورة
اإلجرامية حالة نفسية يستحيل تبينها وإثباتها ما لم يتدعم بإمارات ودالالت تدل عليها ،وفحص شخصية الجاني للبحث
عن االستعدادات الجنائية لديه وذلك من مختلف نواحي شخصيته ،مثل بعض الظروف التي ترتكب فيها الجريمة ،أو
ارتكاب جرائم جسيمة.
][192
الفصل الثاني
موانع المسؤولية الجنائية
سبق القول أن جوهر المسؤولية الجنائية يقوم على الوعي واإلدراك الذين يسيران حرية االختيار،
وبالتالي تمتنع المسؤولية الجنائية كلما انعدم هذا الوعي أو هذه اإلرادة ،ويترتب على ذلك عدم توقيع العقوبة على
الشخص بالرغم من ارتكابه للجريمة على النحو الموصوف قانونا ،وبالرغم من توفر أركانها القانونية العامة والخاصة،
مع ما تتضمنه هذه األركان من عناصر قانونية ،غير أن امتناع المسؤولية وإفالت الفاعل من العقوبة ال يمنع من
خضوعه للتدابير االحترازية أو تدابير األمن ،كصورة من صور الجزاء ،ألنه سبق القول أنه إن كانت المسؤولية أساس
توقيع العقوبة ،فأساس توقيع التدابير هو توفر الخطورة اإلجرامية .وبالتالي موانع المسؤولية قد تكون ناشئة عن انعدام
اإلرادة ،مثل حالة اإلكراه وحالة الضرورة – في القوانين التي تجعل منها مانعا من موانع المسؤولية ال سببا من أسباب
اإلباحة ،-وإما أن تك ون ناشئة عن انعدام الوعي مثل صغر السن أو الجنون ،وهو ما نتناوله في مبحثين متتاليين ،نتناول
في األول موانع المسؤولية الناشئة عن انعدام الوعي ،وفي الثاني تلك المتعلقة بانعدام اإلرادة.
لكن قبل ذلك ،نود أن نشير أن كون المسؤولية تقوم على كل من اإلدراك وحرية االختيار وتخلف أحد هذين
العنصرين أو تخلف أحدهما يترتب عليه انتفاء وتخلف المسؤولية الجنائية ،أو الحيلولة دون توقيع شق الجزاء ألسباب
شخصية توفرت في مرتكب الجريمة أو علقت بشخصه ،مع بقاء بفعله يتسم بالصفة التجريمية من الناحية القانونية ،كما
قد تقيم مسؤوليته المدنية عنها ،وألن موانع المسؤولية الجنائية أسباب شخصية ،فهي ال تنتج أثرها إال بخصوص
الشخص الذي توفرت لديه دون باقي المساهمين أو الشركاء معه في الجريمة ،والفرق واضح ما بين مبدأ الشرعية الذي
يقضي باال جريمة وال عقوبة إال بنص ،وفكرة المسؤولية الجنائية المبنية على فكرة الخطأ ،فمبدأ الشرعية لما ينظر
لألفعال المجرمة أنها أفعال ماسة بالقيم الجماعية المشتركة ،التي يعد إتيانها مصدرا للوم االجتماعي ،كونها تمثل اعتداء
على القواسم المشتركة بين أفراد المجتمع ،وهم األفراد الذين يصنفون إلى محترم ومعاد لهذه القيم والقواسم االجتماعية
المشتركة ،ومبدأ الشرعية يعني ال وجود للجريمة ما لم يكن الفعل مخالف لنص جنائي ،وبالتالي وفقا للمبدأ ال فرق بين
الشخص المسؤول وغير المسؤول ،فالشخص الذي توفر لديه مانع من موانع المسؤولية إذا ما أتى هذا الفعل فوفقا لمبدأ
الشرعية قد أتى جريمة ،ما دامت تصرفاته تخالف النصوص الجنائية ،وال أحد بمقدوره القول غير ذلك ،كون موانع
المسؤولية في حقيقة األمر ال تمنح الحق لهؤالء بمخالفة قانون الجماعة الذي ارتضته لنفسها ،وبالتالي ال تأثر لموانع
المسؤولية من كونها تصرفات مجرمة ،أو أفعال تشكل جرائم ،فتعليق المسائلة يتعلق بالشخص ال الفعل وبمن توفر لديه
السبب دون غيره ممن ساهم معه في ارتكاب الجريمة ما لم يكن يتوفر لديه ذات المانع .ويرى البعض أن دراسة موانع
المسؤولية الجنائية ،يبرز فكرتين رئيسيتين ،هما الشعور واإلرادة ،فالشعور اآلثم واإلرادة اآلثمة هما أساسا المسؤولية
الجنائية ،وكلما انتفى اإلثم عنهما انتفت المسؤولية الجنائية ،وذلك ال يعني أنه هناك سببين لمنع المسؤولية الجنائية،
وإنما هم ا فكرة واحدة.وعلى ذلك ،فكرة الجريمة مستقلة عن فكرة المسؤولية الجنائية ،غير أن ذلك ال يعني االستقالل
التام بينهما ،فالمسؤولية الجنائية ال يمكن أن تستمد وجودها إال من خالل الجريمة ،فبدون الجريمة ال يمكن تصور من
هم مسؤولين عنها ،غير أنه باإلضافة لوجود الجريمة ،تقتضي المسؤولية الجنائية زيادة عن ذلك وجود فكرة الخطأ ،وإذ
قلنا الخطأ ،فذلك يعني بالضرورة حرية اإلرادة ،واختيار ارتكاب الجريمة سواء تعمدا أو بغير عمد ،وعموما أن يكون
الشخص في موضوع نفسي يسمح له بالحكم على تصرفاته ،فالمشرع ال يولي قيمة قانونية إال للتصرفات التي يأتيها من
بإمكانه تقييم تصرفاته.
لذا فموانع المسؤولية أسباب أو أحوال أو أمور تعترض سبيل المسؤولية الجنائية فتخفف منها
أو تعدل مسارها أو تعدمها كلية ،ومنها ما هو طبعي كصغر السن ،وبعضها عارض أو مؤقت مثل الجنون وعاهة العقل
واإلكراه المعنوي وحالة الضرورة – في بعض القوانين ،-وهي موانع شخصية على خالف أسباب اإلباحة ،وأنها ال
][193
تزيل الصفة التجريمية عن الفعل لذا فهي تمنع توقيع العقوبة فقط دون التدابير االحترازية وقيام المسؤولية المدنية،
عكس أسباب اإلباحة ،غير أنها قريبة جدا من موانع العقاب ،كون هذه األخيرة بدورها شخصية ،غير أن وجه للخالف
أن موانع العقاب ال تمحي الجريمة وال تستبعد المسؤولية الجنائية عنها ،بل تستبعد العقاب فقط ،وذلك لتوفر بعض
االعتبارات االجتماعية التي يقدر معها المشرع إعفاء الشخص من العقاب خير من توقيعه عليه.
ويذهب رأي في الفقه أن موانع المسؤولية الجنائية لم ترد في قانون العقوبات على سبيل الحصر ،فهي وردت
على سبيل المثال لذا يمكن أن تستوعب كل ما يسفر عنه العلم أو الواقع العملي من أسباب أخرى ،على عكس اتجاه
فقهي آخر يرى أن موانع المسؤولية وردت في قانون العقوبات على سبيل الحصر ،وأن كل ما في األمر أنها تقبل
التفسير الواسع والقياس على عكس مسائل التجريم والعقاب.
][194
المبحث األول
موانع المسؤولية الناشئة عن انعدام الوعي
م ن الموانع التي تمنع المسؤولية الجنائية من القيام قانونا ،وتتعلق بانعدام الوعي لدى الشخص الذي
يتجرد من ملكتي الوعي واإلدراك ،وبالتالي من القدرة على فهم داللة أفعاله وإدراك أبعادها القانونية ،هما مانعين
أساسيين ،الجنون وصغر السن ،وهناك من التشريعات تضيف مانع ثالث يتعلق بالغيبوبة الناشئة عن السكر
االضطراري .وسنتناول كل مانع من هذه الموانع في مطلب مستقل.
المطلب األول
صغر السن كمانع للمسؤولية الجنائية
سبق القول أن قوام المسؤولية الجنائية يتمثل في الوعي واإلدراك ،أي قدرة الشخص على فهم حقيقة
أفعاله وتمييز ما هو مباح وما هو محظور منها ،وذلك بالضرورة ال يمتلكه الشخص دفعة واحدة وال أن يولد معه ،بل
تنمو هذه الملكة بنمو الشخص وتقدمه في السن ،فالشخص يولد منعدم الوعي واإلدراك ويبقى كذلك في السنوات األولى
من عمره ،والمسماة بمرحلة الطفولة ،لتبدأ هذه الملكة في النمو لديه شيئا فشيء مع تقدم السنين ،غير أنها تبقى منقوصة
في مرحلة الطفولة المنقوصة ومرحلة المراهقة ،وهي المسألة التي تراعيها التشريعات الجنائية في خطابها لألشخاص،
فهي ال تحاسب األطفال عن أخطائهم الجنائية مثلما تحاسب البالغين ،بل أن مسؤولية الطفل أو الصبي غير المميز
تتدرج بحسب المرحلة السنية التي يمر بهـــا].[14
الفرع األول
علة عدم مسائلة الحدث
صغر السن من األسباب المتعلقة بفقدان التمييز ،شأنه شأن الجنون والسكر ،باعتبار الصغير ال يعقل كنه الفعل
أو الترك ،إذ ليس بمقدوره أن يتخذ موقفا عقالنيا يعتد به القانون ويحاسبه أو يعاقبه عليه ،حيث ينظر الصغير لقيم
المجتمع نظرة مادية غريزية تدنو من الغرائز الحيوانية ،والمشرع ال يخاطب الحيوانات ،كون مثل هذه القيم تكتسب
بالتدرج في الضمير اإلنساني لغاية اكتمال النمو العقلي والنفسي ،غير أن مثل هذه السن لم يقع عليها اتفاق الفقه
الحديث ،وإن كانت فكرة معاملة األحداث معاملة متميزة قد بدت منذ القدم ،ونجد إميل غارسون قد نادى بإخراج
األحداث من قانون العقوبات ،وذلك منذ بداية القرن العشرين ،وفعال خرج األحداث من نطاق قانون العقوبات فعال من
سنة 1945وحذت الكثير من الدول العربية حذو ذلك ،حيث يخضع األحداث إلى إجراءات تربوية وإصالحية وحماية
ومراقبة ،مما يبعد فكرة المسؤولية الجنائية عن األحداث ،غير أن تقسيم مراحل السن للحدث ال يزال يثير الخالف
ويطرح اإلشكاليات.
وتختلف التشريعات العقابية الوضعية في تحديدها السن التي يعد فيها الشخص قد بلغ سن الرشد
الجنائي ،وبالتالي مسؤول جنائيا ،وذلك باختالف السياسة الجنائية التي نتهجها كل دولة ،إال أن غالبية التشريعات تعتبر
الطفل ما دون سن السابعة منعدم التمييز وبالتالي تنعدم مسؤوليته الجنائية عن كل األفعال المحظورة التي يأتيها]،[15
وهي السن التي تمتد في قوانين أخرى لحد سن الثانية عشر وحتى سن الخامسة عشر في قوانين أخرى.
الفرع الثاني
موقف المشرع الجزائري
قضت المادة 49من تقنين العقوبات الجزائري على أنه ": :ال توقع على القاصر الذي لم يكمل الثالثة
عشر إال تدابير الحماية أو التربية.ومع ذلك فإنه في مواد المخالفات ال يكون محال إال للتوبيخ .ويخضع القاصر الذي
يبلغ سنه من 13إلى 18إما لتدابير الحماية أو التربية أو لعقوبات مخففة .".وباستقراء هذا النص ،نجد المشرع
الجزائري قد قسم المراحل السنية إلى ثالثة مراحل ،وتبعا لها تتدرج المسؤولية الجنائية للشخص ،المرحلة األولى وهي
مرحلة ما دون سن الثالثة عشر ،والمرحلة الثانية الممتدة من 13حتى ،18ومرحلة المسؤولية الكاملة ما بعد 18سنة.
][195
أوال :المرحلة األولى :ما دون ال 13سنة (مرحلة انعدام المسؤولية )
و في هذه المرحلة تكون أهلية الشخص قانونا منعدمة تماما ،وهي المرحلة التي ال يكون فيها الشخص
مسؤول إطالقا ،والعبرة في تحديد السن هي بيوم ارتكاب الجريمة حتى ولو كان الشخص يوم المحاكمة قد فاق هذه
السن ،وهو ما حددته المادة 443من قانون اإلجراءات الجنائية الجزائري ،غير أن انعدام مسؤولية الصبي في هذه
الفترة ال يمنع من إخضاعه لتدابير الحماية أو التربية التي ترمي لحماية الحدث ال لعقابه .وذلك ال يعني أن مسؤوليته
مخ ففة ،بل هي مسؤولية جنائية منعدمة ،وتدابير الحماية والتربية مقررة لمصلحته خارج المؤسسات العقابية.
ثانيا :المرحلة الثانية :المرحلة بين (18-13المسؤولية الجنائية المخففة ( الناقصة))
المرحلة الممتدة بين سن الثالثة عشرة والثامنة عشرة ،تكون فيها أهلية الشخص ناقصة وتبعا لذلك تكون
مسؤوليته الجنائية مخففة ،وفي هذه المرحلة التي يعد فيها الشص حدثا تطبق عليه إما تدابير الحماية والتربية شأنه شأن
الصبي غير المميز ،أو تطبيق بعض العقوبات المخففة المنصوص عليها ضمن المادة 50من تقنين العقوبات
الجزائري ،التي قضت أنه ": :إذا قضي بأن يخضع القاصر الذي يبلغ سنه من 13إلى 18لحكم جزائي فإن العقوبة
التي تصدر عليه تكون كاآلتي-1 :إذا كانت العقوبة التي تفرض عليه هي اإلعدام أو السجن المؤبد فإنه يحكم عليه
وإذا كانت العقوبة هي السجن أو الحبس المؤقت فإنه يحكم بعقوبة الحبس من عشر سنوات إلى عشرين سنة-2 .
عليه بالحبس لمدة تساوي نصف المدة التي كان يتعين الحكم عليه بها إذا كان بالغا .".كما أضافت المادة ":51في مواد
المخالفات يقضى على القاصر الذي يبلغ سنه من 13إلى 18إما بالتوبيخ وإما بعقوبة غرامة".
ثالثا :المرحلة الثالثة :مرحلة البلوغ(المسؤولية الجنائية الكاملة)
مرحلة بلوغ الشخص وفقا لقانون العقوبات الجزائري هي ببلوغه سن الثامنة عشر سنة حسب المادتين
49من تقنين العقوبات الجزائري وكذا نص المادة 442من تقنين اإلجراءات الجزائية الجزائري ،وببلوغ الشخص هذه
المرحلة السية يكون مسؤول مسؤولية جنائية كاملة.
المطلب الثاني
الجنون كمانع للمسؤولية الجنائية
الجنون هو فقدان الشخص لملكاته العقلية على نحو يجرده من الوعي واإلدراك ،وكذا القوة على
التمييز ،وقد نصت المادة 47من تقنين العقوبات الجزائري ،على أنه ": ":ال عقوبة على من كان في حالة جنون وقت
ارتكاب الجريمة وذلك دون اإلخالل بأحكام الفقرة 2من المادة .[17]".[16] 21وبالتالي المشرع اعتبر الجنون أو
عاهة العقل مانعا من موانع المسؤولية الجنائية ،بالنظر لما يرتبه من فقدان للشعور والتمييز واإلرادة ،غير أن الجنون
وإن كان يحول دون مسائلة الشخص بتوقيع العقوبات عليه ،فإنه ال يحول دون إنزال التدبير االحترازية عليه باعتباره
ينطوي على خطورة إجرامية ،وبذلك في العادة ما يوضع في المصحات العقلية أو النفسية .وسنتناول تفصيل حكم هذا
المانع ،في فرع ،لنخصص الثاني لشروط االستفادة منه.
الفرع األول
حكم الجنون وعاهة العقل
وهو مانع نصت عليه أيضا المادة 62من تقنين العقوبات المصري ،والمادة 1-122من تقنين العقوبات
الفرنسي على أنه ":ال يسأل جنائيا من كان وقت ارتكاب الفعل مصابا بمرض عقلي أو عصبي أو عدم تمييزه أو القدرة
على التحكم في أفعاله " .ونص على الجنون في القانون اللبناني المادتان 231و 232من قانون العقوبات ،حيث نصت
األولى على أنه ":يعفى من العقاب من كان في حالة جنون أفقدته الوعي واإلرادة" ،ما يالحظ على النص وإن كان
أقامها على أساس فقد الوعي واإلرادة التي تقوم عليهما المسؤولية الجنائية إال أنه أسبق المادة بعبارة " ال عقاب " مما
قد يفهم منه أن الجنون مانع من موانع العقاب ال مانع من موانع المسؤولية ،ولم يبن كل هؤالء المشرعين وال المشرع
الجزائري مدلوال محددا للجنون أو عاهة العقل ،لذا يرى غالبية الفقه ،أنه في قانون العقوبات ،يقصد بالجنون،
االضطراب الحاصل في القوى الع قلية للشخص بعد تمام نموها بما يؤدي إلى فقد القدرة على التمييز واإلدراك ،وقد
يكون الجنون نتيجة مرض يصيب المخ أو ناتج عن شيخوخة طاعنة في بعض الحاالت ،كما يمكن أن يكون الجنون
][196
مطبقا إذا أصاب كل الملكات الذهنية للشخص ،وهنا يفقد األهلية ويمنع قيام المسؤولية ،وقد يكون متقطعا يأخذ صورة
نوبات تتخللها فترات إفاقة ،وهنا ال يرتب أثره إال إذا ارتكبت الجريمة أثناء إحدى نوبات الجنون دون نوبات
اإلفاقة].[18
والجنون بمعناه العام ،يشمل حالة العته أو البله أو الضعف العقلي وهي الحالة التي تصاحب الشخص
منذ والدته وتفيد وقوف ملكاته العقلية أو الذهنية دون مستوى النضج الطبيعي ،بمعنى يجب النظر لفكرة الجنون كمانع
من موانع المسؤولية ليس بمعناه القانوني أو بمعناه الطبي الدقيق ،بل يجب أن يمتد ليغطي كل الحاالت المرضية التي
من شأنها أن تؤدي إلى فقد الوعي أو اإلرادة ،سواء وصفت بالجنون أو وصفت بغير ذلك ،بما يجعله يشمل كل من
األمراض العقلية والعصبية والنفسية التي تؤثر في المخ فتفقده الوعي واإلرادة المعاصر الرتكاب الجريمة .لذا نجد بأنه
عرف ،بأنه فقدان الشخص لملكاته العقلية على نحو يترتب عليه تجرده من الوعي والقدرة على التمييز ،وإن كان يؤدي
إلى امتناع المسؤولية فهو ال يمنع من اعتباره خطرا إجراميا ال يحول دون توقيع التدابير االحترازية كاإليداع في
مصحة عقلية .وقد أخذ حكم المجنون الشخص المصاب بالبارنوياك Baranoiaqueوهو الشخص الذي تأتيه نوبات
هذيان وشك وريبة ،فهنا قد يضطر حد قتل من يضطره ،ويسمى جنون Manieأو هذيان االضطهاد غير أنه مسؤول
مثال عن السرقة إذ ال عالقة لها بمثل هذا االضطهاد].[19
غ ير أن أنصار المدرسة الوضعية اإليطالية كانت لههم نظرة أخرى ،فاعتبروا المجنون مسؤول جنائيا
وال يمكن أن يخرج عن نطاق القانون الجنائي ،حيث أن مسؤوليته اجتماعية أساسها الخطورة اإلجرامية الكامنة لديه،
وبالتالي يجب توقيع التدابير االحترازية عليه وذلك بوضعه في المصحات العقلية حتى يشفى من نونه وتزول خطورته
اإلجرامية ،ورغم أن التشريعات الحالية تميل لالتجاه التقليدي ،المتمثل في بناء المسؤولية الجنائية على حرية االختيار،
ومن ثم ال يمكن مسائلة المجنون جنائيا النعدام هذه الحرية لديه ،وإن كانت تأخذ بفكرة التدابير االحترازية بخصوص
المجنون وهو ما يعني األخذ أيضا بأفكار المدرسة الوضعية.
الفرع الثاني
الشروط الواجب توفرها المتناع المسؤولية بسبب الجنون
حت ى يعد الجنون مانعا من موانع المسؤولية الجنائية ،يجب أن تتوفر فيه ثالثة شروط أساسية ،هي:
-1إصابة المتهم فعال بجنون أو عاهة عقلية -2.فقد الشعور أو االختيار بخصوص العمل الذي سلكه
الشخص -3.م عاصرة الجنون أو العاهة العقلية لوقت ارتكب الجريمة .وهو ما نتناول تفصيله في النقاط الثالث التالية.
أوال :إصابة المتهم بجنون أو عاهة عقلية
الجنون من وجهة النظر القانونية ،يشمل كافة صور اضطراب القوى الذهنية لدى الشخص ،األمر الذي
يفقده التمييز وحرية االختيار ،لذا نجد القاضي الجزائي ال يتقيد بالمعنى الطبي الدقيق للجنون ،بل يكفيه أن يتأكد من أن
أثر العاهة العقلية أفقدت الشخص التمييز أو حرية االختيار لحظة ارتكابه الجريمة ،سواء كان ذلك راجعا لمرض
يصيب المخ ،وهو الجنون في معناه الطبي] ،[20أو خلل يصيب الجهاز العصبي للشخص ،أو أي اضطراب في الصحة
النفسية له ،لكن يستبعد من مدلول الجنون كل صور االختالالت واالضطرابات النفسية ،كحاالت الشخصية السيكوباتية
التي تسيطر على الشخص فتجعله في عداء مستمر مع المجتمع ،وكذا حاالت االنفعال الشديد أو حاالت ثورة العاطفة.
ثانيا :فقد الشعور أو القدرة على االختيار
إن لم يؤدي الجنون أو عاهة العقل إلى إفقاد الشخص لشعوره وقدرة اختياره ،فال يعد مانعا من موانع
المسؤولية ،وال يقصد بفقد الشعور واالختيار زوالهما زواال تاما ،بل يكفي إضعافهما أو االنتقاص منهما إلى حد التأثير
على إرادة الجاني ،وهي مسألة موضوعية متروكة لتقدير قضاة الموضوع دون معقب عليهم من محكمة النقض،
وللقاضي في ذلك حق االستعانة بالخبرة الطبية والنفسية.
ثالثا :معاصرة الجنون لوقت ارتكاب الجريمة
حتى يعد الجنون أو العاهة العقلية مانعا من موانع المسؤولية ،يجب أن يكون معاصرا لوقت ارتكاب
الجريمة ،أي أن يعتري الشخص لحظة ارتكابه الجريمة ( وبالضبط ارتكاب ركنها المادي) ،فال عبرة قانونا بالجنون
السابق لهذه اللحظة ،إذا كان الشخص قد عفي منه وقت ارتكابه الجريمة ،وال عبرة أيضا بالجنون
][197
أو العاهة العقلية التي تطرأ على الشخص بعد ارتكابه الجريمة ،بحيث في هذه الحالة يعد سببا يحول دون مواصلة
إج راءات الدعوى أو امتناع توقيع العقوبة عليه ،بحيث إن اعترى الشخص جنون بعد ارتكاب الجريمة وقبل إجراءات
المحاكمة فإن ذلك يعد حائال يحول دون محاكمته ،وإن اعتراه الجنون وقت المحاكمة توقفت إجراءاتها ،وإن طرأ بعد
المحاكمة وصدور الحكم ،فإنه يوقف فقط تنفيذ العقوبة لغاية شفائه إن كان جنونا من النوع الذي يشفى .غير أنه وفقا
للقانون الجزائري وتطبيقا للمادة 21من تقنين العقوبات فإنه تنزل به التدابير االحترازية المتمثلة في مؤسسة استشفائية
لألمراض العقلية].[21
وباستجماع المرض أو العاهة العقلية للشروط الثالثة السابقة ،يصبح مانعا من موانع المسؤولية
الجنائية ،يمنع توقيع العقوبة على المصاب به ،وهو من الموانع الشخصية التي على غرار موانع المسؤولية كلها ال
يستفيد منه إال من توفر في حقه.
المبحث الثاني
موانع المسؤولية الناشئة عن انعدام اإلرادة
إن امتناع المسؤولية الجنائية – يسميها البعض عوارض المسؤولية -ال يشترط أن يكون ماسا بالوعي
والتمييز فقط ،وذلك بأن ينعدما ،بل قد يكون اإلنسان مميزا وعاقال وواعيا لحقيقة ودالالت فعله ،لكنه قد يكون متجرد
من إرادته كلية كما في حالة اإلكراه المادي ،وقد ينتقص منها فقط على نحو يجعلها إرادة معيبة غير حرة ،مثلما هو
][198
األمر بالنسبة لإلكراه المعنوي وحالة الضرورة -في القوانين التي تجعل منها سببا من أسباب اإلباحة -وكذا الغيبوبة
الناشئة عن التخدير أو السكر االضطراري في بعض الدول ،لذا سنتناول هذا المبحث من خالل مطلبين ،نتناول فيهما
فقط حالة اإلكراه بنوعيه ،وكذا حالة الغيبوبة الناشئة عن السكر ،دون حالة الضرورة التي تناولناها في مجال أسباب
اإلباحة ،وأنه يشترط فيها ذات الشروط التي سبق تناولها حتى ولو كانت مانعا من موانع المسؤولية.
المطلب األول
اإلكــــــــــراه
اإلكراه نوعان ،إكراه مادي وهو الذي تنعدم فيه إرادة الشخص كلية ،ومثاله أن يمسك شخص بيد
شخص آخر ويجبره على التوقيع على محرر مزور ،أو على شيك بدون رصيد ،وهو نوع من اإلكراه يعدم اإلرادة
كلية ،وفي هذه الحالة ال يسأل الشخص عن جرائمه .وهناك إكراه معنوي ،وهو إكراه ال يعدم اإلرادة تماما ،وإنما
يجردها فقط من حريتها ،كالتهديد بإنزال األذى بشخص إن لم يرتكب جريمة ما ،واإلكراه كمانع من موانع المسؤولية
تضمنته المادة 48من تقنين العقوبات الجزائري].[22وسنحاول أن نتناول نوعا اإلكراه وأنواعه ،قبل أن نتناول
الشروط المتطلبة فيه حتى يكون مانعا من موانع المسؤولية.
الفرع األول
نوعـــــــا اإلكراه
هناك نوعين لإلكراه ،إكراه مادي أين تنعدم إرادة الفاعل في حقيقة األمر وال يكون لها وجود ،ويلحق
باإلكراه المادي حالة القوة القاهرة والحادث الفجائي ،وبين اإلكراه المعنوي أين تبقى اإلرادة لكن مجال االختيار أمامها
يكون ضيقا إلى أبعد الحدود .أو هو وجود الشخص في وضع ال يمكن معه إال ارتكاب الجريمة ،والمشرع الفرنسي في
نص المادة 64لما عالج مسألة اإلكراه والجنون عالجها بطريقة توحي انه يعتبرهما من أسباب اإلباحة حيث يشرع في
المادة بالنص ":ال جناية وال جنحة" .واإلكراه في معناه العام ،هو حمل الغير على إتيان ما يكره ،وفي المجال الجنائي
هو حمل الشخص على إتيان جريمة ،سواء كانت في صورة فعل أو امتناع ،وهو كما سبق على نوعين ،مادي وهو ما
يقع في الغالب على جسم الغير ويعطل دائما إرادته ،وأما المعنوي أو األدبي فينصب على معنويات الغير ويحد كثيرا
من حرية االختيار ،واختالف النوعين في الطبيعة يترتب عليه بالضرورة اختالف في الحكم القانوني ،ويرى البعض أن
األول يعد مانع من قيام الجريمة والثاني مانع من موانع العقاب.
أوال :اإلكـــراه المــادي()La contrainte physique
ا إلكراه المادي هو أن يحمل الجاني بالقوة المادية التي يكون مصدرها فعل اإلنسان على إتيان الفعل أو
االمتناع المكون للجريمة ،أي دفع الشخص باستعمال قوة مادية ليس بمقدوره دفعها ،كحجز الشاهد حتى ال يشهد في
المحكمة بالجريمة المستدعى لإلدالء بشهادته فيها ،ومن يباشر اإلكراه المادي في حقيقة األمر يباشر سلب إلرادة من
وقع عليه اإلكراه فيحمله على إتيان عمل أو االمتناع عن القيام بعمل .ومن غير العدل والمنطق معاقبة الشخص أو
مسائلته عن فعل لم يكن إلرادته دور في ارتكابه ،غير أن كالهما يعد مرتكبا للجريمة كفاعل أصلي للجريمة ،غير أن
أحدهما مسؤول عنها واآلخر غير مسؤول عنها ،كوننا نتكلم عن مانع من موانع المسؤولية ،مما يعني أن الجريمة أمر
وقوعها ثابت ،وعرف اإلكراه المادي ،بأنه قوة مادية تشل اإلرادة وتعدمها بصفة عارضة أو مؤقتة وتفقد اإلنسان
سيطرته على أعضاء جسمه وقد تدفعه إلى ارتكاب ماديات إجرامية ،أو هي قوة مادية تفرض على اإلنسان عمل ما ال
يجب عليه أن يعمله ،أو تمنعه من عمل ما يجب عليه عمله ،وقد يكون مصدر تلك القوة خارجي ،كقوة الطبيعة أو
الحيوان أو اإلنسان ،وهو الغالب ،وقد يكون مصدرها داخليا ،كان يصاب الشخص بشلل مفاجئ فيسقط على طفل
فيقتله ،أو يأخذ النوم إنسان في قطار فيتجاوز المسافة التي ألجلها دفع أجرة القطار ..والقاعدة أن من يسأل في حالة
اإلكراه المادي هو الشخص المكره ال الذي وقع عليه اإلكراه ،كون قصده الجنائي في مثل هذه الحالة يكون قد انتفى ،بل
أن الركن المادي في حقيقته لم يقم به الشخص الذي وقع عليه اإلكراه بل من مارس هذا اإلكراه .ويشترط لكي يرتب
اإلكراه أثره أن تكون القوة التي تعرض لها المكره قوة غير متوقعة وغير مستطاع مقاومتها ،وإال عد المكره مرتكبا
لجريمة غير عمدية .األمر الذي يتطلب منا تناول القوة القاهرة والحادث الفجائي في النقطتين التاليتين.
-1القوة القاهرة la force majeur
][199
القوة القاهرة في هذا المقام تلحق في حكمها باإلكراه المادي حسب البعض -نحن نرى أنها حالة
الضرورة وليست إكراها ماديا -كون الجاني في كلتا الحالتين ال يأتي نشاطا إراديا غير أنه في حالة اإلكراه سلب
اإلرادة يكون بفعل نشاط إنساني ،بينما في حالة القوة القاهرة يكون بفعل قوى الطبيعة أو فعل الحيوان ،ويضيف البعض
حتى حالة فعل الشخص الغير مسؤول جنائيا ،كما أن الفرق الجوهري هو أنه في حالة اإلكراه المادي يكون هناك فاعل
ألي للجريمة وهو من مارس اإلكراه ،بينما في حالة القوة القاهرة ال يكون أمامنا مسؤول ،غير أنهما يشتركان في
الشروط بحيث كالهما يشترط عدم إمكان التوقع imprévisibleوأال يكون بإمكان الشخص مقاومة هذه
القوة ،irrésistible .وإن انعدم أحد هذين الشرطين سؤل الشخص بحسب األحوال عن جريمة عمدية أو غير عمدية
فمن يركب حيوان يعلم أنه جامح وصعب المراس ويتعمد ذلك ويحدث بذلك أضرارا للغير ،أو المرأة المتزوجة التي
كان بإمكانها مقاومة مغتصبها ولم تفعل تكون قد ارتكبت جريمة الزنا.
-2الحادث الفجائي cas fortuit
الحادث الفجائي قوة غير متوقعة تنشأ عن فعل اإلنسان أو قوى الطبيعة التي ال تترك مجاال أمام
الشخص ليعمل فيه اختياره ،كدفع طفل أمام سائق سيارة كان متبعا كافة التعليمات القانونية أو سائق السيارة الذي
يصاب بعمي ألوان مفاجئ فيدهس شخصا كان مارا أمامه بالطريق ،وهو بذلك شأنه شأن القوة القاهرة ال يكون أحدا
مسؤوال عنه ،غير أنه خالفا لحالتي اإلكراه المادي والقوة القاهرة هنا الشخص يمارس نوعا من النشاط لكنه نشاط
مشروع غير مجرم وال ينطوي على خطأ ،ويشترط فيه أيضا أال يكون متوقعا وال يمكن مقاومته .لذا فشروط اإلكراه
المادي أن يكون غير متوقع ،إذ التوقع أو إمكانية التوقع تمكن الشخص من تجنبه ،وأن يكون مستحيل الدفع ،ولم يرد أن
يكون مصدره إنسان ،حيث أن هذا االتجاه يرد أسباب اإلكراه المادي إلى عوامل الطبيعة أو الحيوان.
ثانيا :اإلكـراه المعـــنويLa contrainte morale
اإلكراه المعنوي ،هو ممارسة ضغط على إرادة اإلنسان لحمله على ارتكاب جريمة معينة ،فهو وإن لم يقض
على وجود اإلرادة نهائيا من الناحية المادية ،فهو شل حركتها وأفقدها قوتها على االختيار .أو هو ضغط شخص على
إرادة شخص آخر لحمله على توجيهها إلى سلوك جرمي] .[23وهناك من الفقه من يصور حالة اإلكراه المعنوي
الخارجي ويضيف لها اإلكراه المعنوي الداخلي ،المتمثل في حالة االنفعال الشديد والهوى الذي يذهب بقوى الضبط
والسيطرة لدى الفرد وهي القوى الكابحة ،غير أن مثل هذه الحاالت وإن كانت تمنع قوى اإلرادة ،إال أن المشرع
الفرنسي والجزائري لم يأخذا بها ،خاصة وان الحقيقة الواعية تؤكد أن غالبية الجرائم هي نتيجة مثل هذه الحاالت ،لذا
فالقانون ال يجعلها مانع من موانع المسؤولية ،بل يلقي على اإلنسان عبء مقاومتها] .[24وقد يكون مصدر اإلكراه
المعنوي ،تأثير خوف أو من وقوع خطر أو ضرر جسيم على وشك الوقوع وليس باإلمكان اإلفالت منه أو دفعه إال
بارتكاب الجريمة ،كتسليم شخص لوديعة مودعة لديه تحت تأثير التهديد بالقتل مما يحول دون ارتكابه لجريمة خيانة
األمانة ،أو أن تأتي المرأة المتزوجة فعل الزنا تحت التهديد دون أن تكون مرتكبة لجريمة الزنا .لذا نجد جانب من الفقه
يرى أن اإلكراه المعنوي ال يختلف في طبيعته عن اإلكراه المادي ،وأن الخالف الوحيد بينهما ينحصر في الوسيلة
المؤثرة في اإلرادة ،بينما جانب آخر -ونؤيده -يرى أنه في اإلكراه المادي حقيقة الركن المادي للجريمة تنسب لمن
مارس اإلكراه وأن المكره في حقيقته لم يمارس أي ركن مادي ،على عكس اإلكراه المعنوي أين نجد الشخص المكره
من قام بالركن المادي للجريمة .بينما هناك من يرى في اإلكراه المعنوي ما هو إال صورة من صور حالة الضرورة .
ويرى البعض أن اإلكراه المعنوي يضغط على اإلرادة إال أنه ال يعدمها ،وهو من هذه الناحية يختلف عن القوة القاهرة
واإلكراه المادي ،فا لحقيقة أن المكره معنويا ينتقص لديه االختيار ويظل مميزا ومدركا لماهية أفعاله ونتائجها ،فاالختيار
هو الذي ضيق من مجاله إلى أقصر الحدود ،حيث يجد الشخص نفسه أمام خيارين ال ثالث لهما ،وهو إما الرضوخ
لإلكراه وارتكاب الجريمة ،وإما يقبل بوقوع الخطر أو التهديد أو الشر أو الضرر الذي هدد به.
الفرع الثاني
الشروط الواجب تطلبها في اإلكراه كمانع للمسؤولية الجنائية
][200
حتى يعد اإلكراه مانعا من موانع المسؤولية الجنائية ،يجب أن يستجمع شرطين أساسيين بدونهما ال
تتوفر فيه صفة المانع من المسؤولية ،الشرط األول ،وهو أن يكون مصدر اإلكراه اإلنسان ،وأما الشرط الثاني ،فهو أن
يكون سبب اإلكراه غير متوقع ويستحيل دفعه .وهو ما نتناوله في النقطتين التاليتين.
أوال :أن يكون مصدر اإلكراه إنسان
حتى يكون اإلكراه مانعا من موانع المسؤولية الجنائية ،يجب أن يكون مصدره إنسان ،وهو المصدر
الذي يجعل اإلكراه يتميز عن بعض األفكار القانونية األخرى التي حتى وإن كانت تشترك معه من حيث كونها تمنع قيام
المسؤوليه إال أن مصدرها غير اإلنسان ،كحالة القوة القاهرة التي تعد الطبيعة مصدرا لها كالزالزل والفيضانات
والعواصف ،كما قد يكون مصدرها الحيوان ،كحالة جموح دابة ،كما قد تتمثل في المرض الذي يصيب اإلنسان أو
النعاس الذي يعتريه فيرتكب جريمة مدفوعا بذلك ،فهي أيضا مانعا للمسؤولية .كما يختلف اإلكراه عن الحادث الفجائي
الذي ال يجرد الشخص من إرادته بل يجرد فعله من عنصر الخطأ ،كمن يقود سيارته محترما لقواعد السير وإذا
بشخص أرعن يعبر الطريق أمامه فجأة في غير المكان المخصص لعبور الراجلين ،غير ملتزم بأدنى قواعد التبصر
واالنتباه فيصدمه ويتسبب ذلك في وفاته ،فهنا يعد السائق بصدد حادث فجائي كان سببه خطأ المضرور ذاته وبذلك
تمتنع مسؤوليته الجنائية.
ثانيا :أن يكون سبب اإلكراه غير متوقع ويستحيل دفعه
ي جب أن يكون اإلكراه المسلط على الشخص غير متوقع بالنسبة له ،حتى يعتد به كمانع من موانع
المسؤولية الجنائية ،وعدم التوقع مسألة موضوعية يستقل بتقديرها قضاة الموضوع تبعا لظروف كل قضية على حدة،
هذا من جهة .ومن جهة ثانية ،يجب أن يكون دفع هذا اإلكراه من قبل الشخص المكره مستحيال ،فإن كان يمكن دفعه
يمتنع الزعم بأنه أعدم إرادة الشخص ،فال يمكن لشاب قوي البنية مثال أن يحتج باإلكراه المسلط عليه من قبل صبي
صغير محدود القدرات .هذا ويضيف البعض ،أال يكون للجاني يد في حصول هذا اإلكراه ،وفي حقيقة األمر شرط عدم
التوقع يغني عنه.
المطلب الثاني
الغيبوبة الناشئة عن السكر االضطراري
الغيبوبة كمانع من موانع المسؤولية أخذت به العديد من التشريعات الجنائية ،غير أننا سنركز على القانون
المصري ونعطيه كنموذج ،مع مقارنته أحيانا مع القانون اللبناني ،على اعتبار ن األول مصدر للثاني ،وفي هذا القانون
نصت المادة 62على حالة الغيبوبة بنصها " :ال عقاب على من يكون فاقد الشعور
أ و االختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل ....لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيا كان نوعها إذا أخذها قهرا عنه أو
على غير علم منه بها" ،ويستفاد من هذا النص بمفهوم المخالفة استبعاد حالة تناول هذه العقاقير
أو المواد المخدرة بإرادة الشخص ،حيث المادة اشترطت تناولها قهرا أو بغير علم من الشخص .ومن شروط تطبيق هذه
الحالة هو أن يؤدي تناول هذه العقاقير إلى فقد الشعور وقت ارتكاب الجريمة مع تناولها قهرا
أو عن غير علم بحقيقة هذه العقاقير .وبينت المادة 235من قانون العقوبات اللبناني ذلك بالنص ":يعفى من العقوبة
من كان حين اقتراف الفعل بسبب طارئ أو قوة قاهرة في حالة تسمم ناتجة عن الكحول أو المخدرات أفقدته الوعي أو
اإلرادة .وإذا نتج التسمم عن خطأ الفاعل كان هذا مسؤوال عن كل جريمة غير مقصودة ارتكبها .ويكون مسؤوال عن
الجريمة المقصودة إذا توقع حين أوجد نفسه في تلك الحالة بسبب خطأه إمكان اقترافه أعماال إجرامية .وإذا وجد نفسه
في تلك الحالة قصدا بغية ارتكـــاب الجريمة شددت عقوبته وفقا للمادة ."257
الفرع األول
المقصود بالسكر أو التسمم
يقصد بالسكر أو التسمم كمانع من موانع المسؤولية ،الحالة التي يفقد فيها الشخص الوعي واإلرادة
بصفة مؤقتة وعارضة على إثر تعاطيه لكمية من سائل مسكر أو مادة مخدرة كافية إلحداث هذا األثر .أما الكحول
والمخدرات ،فيقصد بها كل المواد الكحولية أيا كانت تسميتها أو نوعها ،وأيا كانت نوعية أو شكل المواد المخدرة دون
التقيد بالجدول المبين ب قانون المخدرات ،كما يستوي الوسيلة التي يتعاطى بها الشخص الكحول أو المخدرات ،سواء كان
][201
ذلك عن طريق الفم أو الشم أو الحقن أو امتصاص مسام الجلد له أو أية وسيلة أخرى .والسكر وتناول المخدرات حالة
مؤقتة دوما وليست مثل الحالة المرضية الناتجة عن اإلدمان كما أنها ليست حالة دائمة كالجنون.
الفرع الثاني
السكـــــر اإلرادي
السكر الذي يؤدي إلى الغيبوبة ويمنع قيام المسؤولية الجنائية ،هو السكر الالإرادي أو الذي يتناوله الشخص
مكرها أو عن طريق الخطأ ،لذا نجد الفقه قد أثار مسألة تناول عقاقير مخدرة أدت إلى غيبوبته
أو سكر بإرا دة الشخص الحرة ،وحدود المسؤولية في هذه الحالة ،خاصة وأن المسؤولية تقوم على مدى القدرة على
اإلدراك والتمييز ،والشخص في مثل هذه الحاالت يكون فاقدا للقدرة على التمييز واإلدراك ،ومن بين ما جاء به الفقه
هو عقد الشخص العزم على ارتكاب الجريمة ثم يعمد إلى السكر لبث الجرأة فيه لتنفيذ الجريمة ،هــنا يرى أن عقد
العزم قد تم قبل تناول المادة وبالتالي يسأل ،وإن كنا التبرير يجب أن ينصب حول وقت الجريمة الذي كان فيه الشخص
فاقدا للقدرة على التمييز واإلدراك ،وهذا ال يعني أننا ال نحمل مسؤولية لهذا الشخص ،لكن يجب أن نبحث عن أساس
آخر لها ،أما ما عدا هذا الفرض فالفقه ميز بين أربعة آراء.
أوال :المسائلة على أساس اإلهمال وعدم االحتياط
وهو اتجاه يرى أنصاره ،أن الشخص الذي يتناول المخدر أو المسكر مع علمه بطبيعة ما يتناوله
وبإرادته ،يعد مسؤوال مسؤولية جنائية على أساس اإلهمال وعدم االحتياط ،ألن المسكر أو المخدر أفقد الجاني الشعور
والقدرة على التحكم .لكن أخذ على هذا الرأي المالحظات التالية :أنه رأي يؤدي إلى اإلعفاء من المسؤولية بناء على
فقدان الشعور واإلدراك ،وهي مسألة متطلبة في كل من نوعي الجرائم العمدية وغير العمدية ،إذن ال يمكن القول
بالمسؤولية أيضا على أساس اإلهمال وعدم االحتياط كون هاتين الصورتين من صور الخطأ تقوم بدورها على اإلدراك
والتمييز .القول بهذا الرأي ،يؤدي إلى عدم مسائلة الشخص في الحالة التي ال تحتمل فيها الجريمة االرتكاب إال عمدا،
مثلما هو الشأن بالنسبة لجريمة االغتصاب في القانون المصري وكذا جريمتي القذف والسب .
ثانيا :المسائلة عن جرائم عمدية
وهو رأي يرى أنصاره معاقبة من يفقد إفاقته عمدا مع علمه بذلك ،ويسأل عن جريمة عمدية رغم
انعدام القصد الجنائي لديه ،وإنما القانون يحمله نتيجة قصده االحتمالي .وقد وجهت انتقادات لهذا الرأي أيضا ،تمثلت
أساسا في كون القصد االحتمالي يستلزم توفر النية لدى الجاني قبل ارتكاب الجريمة.
ثالثا :موقف محكم النقض المصرية
و هو رأي يقوم على التفرقة بين الجرائم التي ال تتطلب سوى القصد الجنائي العام ،وتلك التي تتطلب
قصدا جنائيا خاصا ،فالجاني يحمل مسؤولية الجرائم العمدية التي تقوم على القصد الجنائي العام ،بالرغم من فقده
الشعور نتيجة السكر والغيبوبة االختيارية ،بينما الجرائم التي تتطلب قصدا جنائيا خاصا ،فال يحمل الجاني مسؤوليتها
سوى على القصد العام إن كانت مثل هذه الجرائم ممكن أن تتحول إلى ذلك ،وإن لم تكن تحتمل ذلك فال يسأل الشخص
جنائيا .كجريمة القتل العمد التي يرى الفقه أنها جريمة عمدية تتطلب قصدا خاصا ،وفي حال فقد هذا القصد الخاص
وتحوله إلى قصد عام تصبح جريمة الضرب المفضي إلى الموت ،وهي جريمة تتطلب فقط قصدا جنائيا عاما ،وهو
موقف قضائي مصري يرى فيه الفقه المصري ،أنه موقف يفتقر إلى السند القانوني ،زيادة على خلطه بين األهلية
الجنائية والركن المعنوي للجريمة.
رابعا :قيام المسؤولية على أساس العمد المفترض
تجنبا لالنتقادات السابقة التي وجهت لآلراء الثالثة السابقة ،حاول البعض ،أن يبني مسؤولية الشخص
فاقد الشعور نتيجة المخدر أو السكر الذي تناول عمدا مع علمه بحقيقة المادة ،على أساس العمد المفترض افتراضا ال
يقبل إثبات العكس ،وأن يفترض بأن الجاني أثناء ارتكابه جريمته كان مالكا لشعوره ،وبالتالي يكون مسؤوال عن
الجريمة ا لتي ارتكبها ،سواء كانت جريمة عمدية أو غير عمدية ،ذات قصد عام أو ذات قصد خاص .مما يعني تحمل
الشخص المسؤولية عن الجريمة التي ارتكبها كما ولو كان في حال إفاقة تامة.
][202
و يرى البعض الميل للرأي الذي يرى وجوب ما إن كانت الجريمة تحتمل العقاب على صورتي العمد
و الخطأ ،أم يعاقب عليها في صورة العمد فقط ،فإن كانت تحتمل الصورتين يسأل الشخص مسؤولية غير عمدية ،وإن لم
تكن كذلك امتنعت مسؤوليته الجنائية في ظل عدم وجود نص صريح يقرر مثل هذه المسؤولية وال يجب اصطناع أنواع
جديدة من المسؤولية ال وجود لها من حيث الواقع وال سند لها إذا قيل أنها مسؤولية مفترضة.
[ - ]1األصل في الجرائم إما عمدية تقوم بالقصد الجنائي ،وإما الجرائم غير العمدية التي تقوم عن طريق الخطأ إال
أحوال استثنائية.
[ - ]2وقد عبر عن ذلك المشرع اللبناني بالنص ":تكون الجريمة غير مقصودة سواء لم يتوقع الفاعل نتيجة فعله...
وكان باستطاعته أو من واجبه أن يتوقعها"...
[ -]3حيث يرى البعض أن المشرع في هذا النوع من الجرائم يغلب جانب اإلرادة على جانب الضرر ،حيث يتدخل
للعقاب عن اإلرادة المخطئة بغض النظر عن حجم وقيمة الضرار التي ترتبت عن الفعل.
[ - ]4قبل سنة 1912كان القضاء الفرنسي ومعه فريق من الفقهاء الجنائيين يفرقون بين الخطأ المدني والخطأ الجنائي،
على أساس ن الخطأ المدني خطأ متدرج في جسامته أو في خطورته حيث يصنف :خطأ جسيم ،خطا يسير ،خطأ بسيط ،في حين
أن الخطأ ال يكون جنائيا إال إذا وصل حدا من الجسامة ،غير أنه حاليا وتقريبا في كل الدول نجد بأن الفقه والقضاء يأخذ بوحدة
الخطأ المدني والجنائي ،فإذ انتفى هذا األخير انتفى معه الخطأ المدني.
[ - ]5المادة ( 288المادة 60من القانون رقم 23-06المؤرخ في ":)2006-12-20 :كل من قتل خطأ أو تسبب في
ذلك برعونته أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو إهماله أو عدم مراعاته األنظمة يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثالث سنوات
وبغرامة من 20.000إلى 100.000دج"
المادة ( 289المادة 60من القانون رقم 23-06المؤرخ في ":)2006-12-20 :إذا نتج عن الرعونة أو عدم
االحتياط إصابة أو جرح أو مرض أدى إلى العجز الكلي عن العمل لمدة تجاوز ثالثة أشهر فيعاقب الجاني بالحبس من شهرين
إلى سنتين وبغرامة من 20.000إلى 100.000دج أو بإحدى هاتين العقوبتين".
[ - ]6إذ نصت هذه المادة على أنه ": :تضاعف العقوبات المنصوص عليها في المادتين 288و 289إذا كان مرتكب
الجنحة في حالة سكر أو حاول التهرب من المسؤولية الجنائية أو المدنية التي يمكن أن تقع عليه وذلك بالفرار أو بتغيير حالة
األماكن أو بأية طريقة أخرى.".
[ - ]7لذا يمكننا القول بأن المسؤولية الجنائية أو المسؤولية الجزائية هي صلة أو رابطة الوصل بين الجريمة والجزاء،
أو هي الركن األساسي الموجب لتوقيع العقوبة.
[ - ]8الخالف حول تسمية المسؤولية بالجنائية أو الجزائية تابع للخالف الحاصل حول تسمية قانون العقبات ذاته ،ما بين
القانون الجنائي أو القانون الجزائي،وهو الخالف الذي تناولناه بخصوص تسمية قانون العقوبات ،فاالتجاه الذي سمى قانون
العقوبات بالقانون الجنائي يسمي المسؤولية بالمسؤولية الجنائية ،واالتجاه الذي سمى قانون العقوبات بالقانون الجزائي يسمي
المسؤولية بالمسؤولية الجزائية.
[ - ]9نقول أفكار قانونية جنائية حتى نحصر دراستنا في إطار القانون الجنائي ،ألن عدم الحصر يقودنا أصال لدراسة
كل أنواع المسؤولية وهي وحدها أنواع متعددة ال يمكننا حصرها في نطاق هذه الدراسة ،فهناك المسؤولية المدنية بأنواعها
والمسؤولية اإلدارية والمسؤولية األخالقية ...لذا نحاول تمييز المسؤولية الجنائية فقط عن بعض األفكار القانونية الجنائية
المشابهة.
[ - ]10والبحث في أساس المسؤولية الجنائية له أهمية كبرى بحيث يمكن من تحديد خصائص هذه المسؤولية ،وكذا
تبيان عناصرها ،غير أن بحث مسألة أساها مسألة عسيرة كونها عبارة عن بحث فلسفي لم يحسم الجدل حوله بعد ،غير انه يمكن
القول اختصارا أن المسؤولية الجنائية نشأت في أول عهودها في صورة مسؤولية مادية أو موضوعية ترتبط بالفعل دون الفاعل،
لذا لم تكن مقتصرة على اإلنسان فقط ،بل كانت تمتد لتشمل الحيوان والنبات والجماد ،كما أنه بخصوص اإلنسان لم تكن مقتصرة
على مرتكب الجريمة وحده ،بل كانت تمتد لتشمل ذويه وجماعته وحتى جثته بعد موته ،كل ذلك دون النظر إلرادة مرتكب
الجريمة وحرية اختياره ،بل النظر كان منصبا فقط على الفعل الذي ارتكبه الفاعل ،غير أنه وفي تطور الحق ،بدأت تتسرب
لفكرة المسؤولية الجنائية أفكار اإلرادة وحرية االختيار ،وبينت بعض الدراسات القديمة ذلك حتى في عهد الفراعنة ،كما ساهم
][203
القانون الكنسي في قيام المسؤولية األخالقية التي تقوم على أساس حرية اإلنسان في االختيار ،غير أن القوانين األوروبية رغم
ذلك ظلت لغاية القرن الثامن عشر تحاسب الصغير والمجنون والنبات والحيوان والجماد ،على عكس الشريعة اإلسالمية التي
أسست المسؤولية على اكتمال العقل والقدرة على االختيار ،وقررت اإلعفاء من المسؤولية في حاالت صغر السن والجنون والعته
واإلكراه والسكر والغيبوبة.
[ - ]11ونجد على رأس هذا االتجاه ،الفقيه اإليطالي شيزاري بيكاريا الذي بين األمر في كتابه " الجرائم والعقوبات"
الصادر سنة ،1764الذي ضمنه مبدأ ضرورة قيام المسؤولية الجنائية على حرية االختيار ،باإلضافة إلى مبدأ نفعية العقوبة
وشرعية الجرائم والعقوبات ،التي تعد أهم المبادئ التي نادى بضرورة بناء قانون العقوبات عليها ،وهو المذهب الذي يقيم
المسؤولية الجنائية على أساس أن اإلنسان مخير بين السلوك المطابق للقانون والسلوك المخالف له ،وبالتالي تتقرر مسؤوليته إذا
ما سلك طريق السلوك المخالف للقانون كونه كان بوسعه اختيار الطريق غير المخالف له ،فاختيار الشخص طريق الجريمة وهو
قادر على اجتنباه يعني أنه مذنب أو مخطأ ،وهو االتجاه الوضعي الذي تأخذ به غالبية القوانين الجنائية المعاصرة .ووفقا لهذا
االتجاه فإن األساس التقليدي للمسؤولية الجنائية هو حرية االختيار ،التي ترتبط بالحرية األخالقية للمجرم وقت ارتكابه جريمته،
وانه ال يكون مسؤوال جنائيا إال إذا كان مسؤول أخالقيا ،حيث يكون متمتعا باإلدراك واالختيار اللذان يعدان شرطا لقيام
مسؤوليته ،وتخلفهما أو تخلف أحدها يترتب عليه تخلف المسؤولية الجنائية ،كون جوهر المسؤولية المآخذة واللوم من أجل إتيان
سلوك مخالف للقانون ،واللوم ال يمكن تصوره إال إذا كان الشخص أمام طريقين أو مفترق الطرق ،ما بين الخير والشر واختار
طريق هذا األخير ،عن وعي وإدراك.
[ - ]12يرى الفقيه أنريكو فيري أحد رواد المدرسة الوضعية ،أنه هناك نظام سماه " نظام التشبع الجنائي" الذي يعني
أنه إذا وجدت عوامل عضوية ونفسية في شخص معين ،وأضيفت لها عوامل خارجية مادية معينة وأخرى اجتماعية ،فال بد
للشخص حينئذ من وقوع عدد من الجرائم في هذا الوسط االجتماعي ،وهذا العدد من الجرائم ثابت وال يتغير كونه بلغ درجة
التشبع ،وهو بذلك يشبه السلوك اإلنساني بالظاهر الطبيعية ،التي تقوم على أسس علمية وهو مسلك المدرسة لوضعية التي تتناول
الجريمة والمجرم منهجا علميا تجريبيا.
وهي مدرسة وجدت تحت تأثير أفكار أوغست كونت ،الذي نادى بخصوص المسؤولية الجنائية باستخدام المنهج
العلمي ،القائم على المالحظة والتجربة وإعمال مبدأ السببية الحتمية الذي يحكم مختلف الظواهر ،والبحث العلمي يكشف عن
األسباب المؤدية للنتائج ،فتصرفات اإلنسان محكومة بأسبابها ،فهي دوما نتيجة حتمية ألسباب مؤدية إليها وال يتصور العقل أال
تكون كذلك ،وهي أسباب السلوك التي شرع أقطاب المدرسة الوضعية ( مثل لومبروزو ،فيري وجاروفالو) يبحثون عنها ،في
سلوك الشخص ،وانتهوا في أبحاثهم أن هذه العوامل قد تكون داخلية ( تكوين عضوي ونفسي وذهني وأمراض ،)...وقد تكون
خارجية ( مادية وبيئية ومناخية ،)...وهي العوامل التي متى توفرت ستدفع حتما لإلجرام ،وتنعدم بتوافرها حرية اإلنسان في
االختيار ويكون مدفوع جبرا الرتكاب الجريمة ،وال مجال له حتى للتردد بين اقترافها وعدم اقترافها ،وحرية االختيار لدى أنصار
هذه المدرسة ،مجرد وهم وخيال وال وجود لدليل علمي يؤكدها ،بل الجبرية التي لها مسببات تقوم على أسس علمية ال يرقى إليها
الشك ،وبالتالي المسؤولية لديهم مسؤولية قانونية هدفها القضاء على الخطورة اإلجرامية لدى الجناة ،يجب أن تتخذ ضده تدابير
اجتماعية للدفاع عن المجتمع ،وبالتالي المسؤولية الجنائية تتقرر لكل من قد يضر بالجماعة حتى ولو كان صغيرا
أو مجنونا ،ما دام يمثل مصدر خطورة إجرامية أو اجتماعية ،وذلك بإنزال التدابير االحترازية ضدهم
[ - ]13هناك تشريعات نصت على هذين الشرطين صراحة ،مثلما هو الشأن بالنسبة لقانون العقوبات اللبناني في المادة
210منه ،التي قضت أنه ":ال يحكم على أحد بعقوبة ما لم يكن قد أقدم على الفعل عن وعي وإرادة".
[ - ]14بحيث على أساس التدرج في السن ،يكون اإلدراك واالختيارـ وبناء على ذلك تتحدد قواعد المسؤولية الجنائية،
ففي الوقت الذي ينعدم فيه اإلدراك تنعدم فيه المسؤولية الجنائية ،وفي الوقت الذي يكون فيه اإلدراك ضعيف تكون المسؤولية
ناقصة أو مخففة ،وهي المسؤولية التي تكتمل باكتمال اإلدراك وذلك عند بلوغ الشخص سن البلوغ الجنائي.
[ - ]15وهي السن التي كان يعتمدها حتى القانون الروماني ،والسن المتفق عليها أيضا لدى فقهاء الشريعة اإلسالمية في
تطبيقهم
للحديث الشريف ":رفع القلم عن ثالثة :الصبي حتى يحتلم ،والنائم حتى يستيقظ ،والمجنون حتى يفيق".
[ - ]16وقد نصت المادة 21من تقنين العقوبات الجزائري المادة ( 21القانون رقم 23-06المؤرخ في 20ديسمبر
": )2006الحجز القضائي في مؤسسة استشفائية لألمراض العقلية هو وضع الشخص بناء على أمر أو حكم أو قرار قضائي في
مؤسسة مهيأة لهذا الغرض بسبب خلل في قواه العقلية قائم وقت ارتكاب الجريمة أو اعتراه بعد ارتكابها .يمكن أن يصدر األمر
بالحجز القضائي بموجب أي أمر أو حكم أو قرار بإدانة المتهم أو العفو عنه أو ببراءته أو بانتفاء وجه الدعوى ،غير أنه في
الحالتين األخيرتين ،يجب أن تكون مشاركته في الوقائع المادية ثابتة .يجب إثبات الخلل العقلي في الحكم الصادر بالحجز القضائي
][204
بعد الفحص الطبي .يخضع الشخص الموضوع في مؤسسة استشفائية لألمراض العقلية لنظام االستشفاء اإلجباري المنصوص
عليه في التشريع الجاري ،غير أن النائب العام يبقى مختصا فيما يتعلق بمآل الدعوى العمومية".
[ - ]17قرار مؤرخ في 1981-03-30 :في الملف ":21200يختلف حكم الجنون بحسب ما إذا كان الحقا للجريمة أو
معاصرا لها ،فالجنون الالحق للجريمة يوقف المحاكمة حتى يزول ويعود إلى المتهم من اإلدراك والرشد ما يكفي لدفاعه عن
نفسه ،أما الجنون المعاصر للجريمة فإنه يرفع العقاب عن مرتكبها النعدام اإلدراك فيه ،ومسؤوليته الجزائية عمال بأحكام المادة
47من قانون العقوبات ،لذلك يعتبر مشوبا بالقصور ويستوجب النقض قرار غرفة االتهام القاضي بأن ال وجه للمتابعة بناء على
تقرير طبي أثبت الجنون يوم الفحص دون أن يبين ما إذا كان المتهم مجنونا يوم اقتراف الجريمة".
قرار في 1993-12-19 :في الملف ": 101792ال يجوز إعفاء المتهم بسبب الجنون إال استنادا لتقرير خبير،
ومن ثم فإن قضاة الموضوع الذين استبعدوا تقرير الخبير المعين من قبل قاضي التحقيق للحكم بإعفاء المتهم من العقوبة ،يكونوا
قد خالفوا القانون ما دام أن التقرير المذكور يشير بوضوح أنه – المتهم -كان مسؤوال كامل المسؤولية حين ارتكابه الجريمة".
[ - ]18والجنون في حقيقته ال نعني به المرض بالمعنى الدقيق ،لذا نجد بعض التشريعات مثل التشريع الليبي سمته
العيب العقلي ،في نص المادة 83من قانون عقوباته.
والجنون في العصور القديمة لم يكن ينظر له نفس النظرة التي يحظى بها اليوم ،فقد فسر قديما تفسيرا دينيا،
واعتبر المجنون أن أرواح شريرة تتقمصه ،وأن عالجه ال يمكن أن يكون إال بالصالة للتخلص من تلك الحالة ،غير أنه مع
القانون الروماني أصبح المجنون غير مسؤول جنائيا ,انه يحتاج للعالج أكثر من احتياجه للعقاب ،على عكس الوضع الذي آل إليه
األمر في العصور الوسطى حيث اعتبر المجنون من جديد بأنه مس من الشيطان ال يحول دون مسائلته جنائيا ،وهو ذات الوضع
الذي ساد في فرنسا إلى ما قبل الثورة الفرنسية .إال أنه عد مانعا من موانع المسؤولية في القانون الفرنسي لسنة ،1810وذلك
باالستناد ألساس المسؤولية الجنائي المتمثل في حرية االختيار التي تقوم على التمييز واإلدراك والقدرة فعال على االختيار
[ - ]19وال يراد بالجنون المعنى اللغوي أو الطبي له ،بل يجب األخذ بمعنى واسع له يغطي كل حاالت االضطرابات
العقلية أو الذهنية التي تؤثر على المخ ويترتب عليها فقد اإلدراك أو القدرة على االختيار ،وهو الذي استقر عليه األمر في الفقه
والقضاء الفرنسي في ظل غياب تعريف قانوني له ،وهو ما دفع المشرع المصري على النص عليه ب" عاهة العقل" ،ويعني
الجنون لغة ذهاب العقل أو فساده أو عدم القدرة على التحكم في التصرفات واألفعال وتقدير عواقبها ،وأما معناه الطبي فهو غير
مستقر بالنظر لما يلحق بالعلوم الطبية والعقلية والنفسية من تطورات ،ومن التعاريف الذي أعطيت له أنه ":انحطاط تدريجي
وبات في الملكات العقلية" أو عدم قدرة الشخص على التوفيق بين أفكراه وشعوره وبين ما يحيط به ألسباب عقلية ،والجنون ليس
مرضا في ذاته وإنما هو عارض من أعراض مرض عقلي ،وهو نتيجة تغير غير طبيعي في المخ ،نتيجة ألسباب متعددة ،على
عكس عاهة العقل التي تخرج به عن حالته الطبيعية وتشمل الجنون ،بما فيها السفه والعته وكذا األمراض العصبية التي ينجم عنها
عدم أداء الجهاز العصبي لنشاطه على نحو طبيعي مما يؤثر على القدرة على اإلدراك واالختيار ،ويضاف لها الصرع والهستيريا
وازدواج الشخصية واليقظة النومية.
[ - ]20ويشمل الجنون مختلف األمراض العقلية التي تصيب المخ فتؤدي به إلى االنحراف عن وظيفته العادية المتمثلة
في اإلدراك والسيطرة على مراكز اإلرادة في جسم اإلنسان ،وبذلك يتسع الجنون ليشمل العته والضعف العقلي المتمثل في عدم
اكتمال الملكات الذهنية وتوقفها عن نضجها الطبيعي ،كما يضم الجنون أيضا مرض الصرع والهستيريا وازدواج الشخصية
واليقظة النومية ،ويشمل قانونا أيضا التنويم المغناطيسي الذي يؤثر على إرادة النائم فيؤثر فيها أو يعدمها نهائيا ،وفي مثل هذه
الحالة المنوم قد يسأل بوصفه محرضا على الجريمة أو فاعال معنويا لها ،والحل األخير هو موقف المشرع الجزائري كون الذي
نوم يصبح مجرد وسيلة أو أداة مادية في يد المنوم.
ويرى البعض أن الصم والبكم يأخذان حكم الجنون بالرغم من أنهما ليس كذلك ،ويستندون في ذلك على القول بأن السمع
والكالم هما أداة التفاهم وعن طريقها تتم المدارك وتفتح الملكات الذهنية ،فمن يولد فاقدهما آو يفقدهما قبل تكملة ملكاته الذهنية
يبقى في مستوى عقلي دون المستوى الطبيعي من القدرة على اإلدراك واالختيار الالزم لتحمل المسؤولية الجنائية ،غير أنه رأي
ال يمكن التسليم به ،خاصة في ظل الواقع العملي.أما األمراض النفسية ،التي تصيب النفس باالضطراب وتكون باعثا الرتكاب
الجرائم ،فاستقر القضاء على أنها ليست حاالت موانع للمسؤولية ،كونها ال تفقد الشعور واإلدراك ،وكونها ال تؤثر في سالمة
العقل وصحة اإلدراك ،ومنها الشخصية السيكوباتية وثورة العاطفة وشدة االنفعال .والشخصية السيكوباتية شخصية شاذة في
تكوينها النفسي ال تتكيف وال تتالءم مع قيم وتقاليد المجتمع وتدفع المصاب بها إلى ارتكاب الجرائم ،غير أنها ال تأثير لها على
اإلدراك واالختيار ،وبالتالي ال تأثير لها على المسؤولية الجنائية ،وذهبت محكمة النقض المصرية قد قضت في إحدى قرارتها أنه
المصاب بالحالة المعروفة باسم الشخصية السيكوباتية وإن عد من الناحية العملية مريضا مرضا نفسيا إال أنه ال يعتبر في عرف
القانون مريضا بجنون أو عاهة في العقل مما يصح معه اعتباره فاقد الشعور أو االختيار في عمله ،كما انه ال تأثير لثورة العاطفة
][205
وشدة االنفعال في القدرة واالختيار ،وبالتالي فالحب الشديد والكره الشديد والغيرة واالنتقام وكل حاالت هياج النفس وشدة
االنفعال ،وإن كانت باعث أو دافع الرتكاب الجرائم ،إال أنها ال تعدمن قبيل عاهة العقل
[ - ]21وإن كانت مسألة وجوب اقتراف الجريمة وقت إصابة الشخص بالجنون ال تثير إشكاال بالنسبة للجرائم الوقتية،
فإن األمر ليس كذلك بالنسبة للنوع اآلخر من الجرائم ،حيث أنه في الجرائم المستمرة يجب أن تظل حالة الجنون قائمة لدى
الشخص ،فإذا ما استرجع الشخص ملكاته الذهنية في مرحلة من مراحل الجريمة المستمرة سؤل عنها ،وفي جرائم االعتياد فال
يحتسب في تكوين ركن االعتياد سوى الجرائم التي يأتيها الشخص وهو في كامل قواه العقلية . .هذا بخصوص حالة الجنون
المعاصرة الرتكاب الجريمة
كما أن عاهات العقل منها الدائم المستمر التي ال يفيق منها المصاب ،وبعضها عرضي متقطع يصيب الشخص في
فترات دورية تتخللها فترات إفاقة ،وفيه الشخص ال يسأل عن الجرائم التي حدثت في فترات اإلصابة دون الجرائم التي ارتكبت
في فترات الصحو ،غير أن ذلك كان محل انتقاد طبي وفقهي حيث يصعب التمييز بين الفترتين ،كما انه من اآلفات
العقلية ما يكون عاما أو شامال لكل الملكات العقلية أو الذهنية ،مثل الجنون ،وهذا النوع بين اآلثار الجنائية ،بينما النوع الثاني فهو
ال يصيب كل الملكات الذهنية والعقلية بل يصيب فقط ناحية منها دون باقي النواحي ،ومنها ما يصيب اإلدراك مثل البرانويا أو ما
يسمى بالجنون المتخصص ،وهنا تتملك الشخص وتتسلط عليه فكرة ثابتة أو اعتقاد معين يكون خاطئا ،مثل جنون االضطهاد
وجنون العظمة ،ومنها ما يصيب اإلرادة ،حيث يصبح للشخص دوافع شاذة ال يملك قدرة على مقاومتها ،وقد تدفعه إلى ارتكاب
أنواع معينة من الجرائم ،فهناك ما يعرف بجنون السرقة ،ويسمى في هذه الحالة Kleptomanieوجنون الحريق الذي يطلق
عليه مصطلح ،Pyramanieوالنوع المعين من هذه الجرائم يمكن القول بعدم قيام المسؤولية الجنائية بخصوصه،لكن اإلشكال
الجرائم األخرى التي ترتكب مع هذه الجرائم ،والتي أثارت جدال فقهيا يشبه الجدل الذي أثاره الجنون المتقطع
[ - ]22التي نصت على أنه ": ":ال عقوبة على من اضطرته إلى ارتكاب الجريمة قوة ال قبل له بدفعها".
[ - ]23كما عرف بأنه ":قوة إنسانية توجه إلى نفسية إنسان فتضغط على إرادته وتحمله على ارتكاب الجريمة ،تحت
تأثير الخوف من خطر أو ضرر جسيم وشيك الوقوع"
[ - ]24انظر :د /محمد الرازقي ،المرجع السابق ،ص.298 :
][206