You are on page 1of 4

‫العشق فى الظالم‬

‫نجيب محفوظ‬
‫‪.‬عندما يغلق باب المقهى ال يبقى ساهرا فوق أرض الحارة اال الخفير‬
‫لتفقد أبواب الدكاكين ‪ ،‬و يذهب و يجيء ما بين الميدان و ممر القرافة‬
‫سائرا فى ظالم دامس متلمسا طريقه بغريزته المكتسبة من العمل و معلقا‬
‫‪ .‬بندقيته بمنكبه و بين حين و آخر يطلق نذيره الحلق الذى يشق الظلمه‬
‫بما يرمز له االسم فى الذاكرة "أبو الهول" ‪:‬أطلق عليه منذ بدء خدمته‬
‫الشعبية من الجالل و الرهبة ‪ ،‬الواقع أنه ذو طول مؤثر و عرض ال‬
‫يتناسب مع ذلك الطول ‪ ،‬أما شاربه فيقف عليه الصقر ‪ ،‬و أما رأسه‬
‫فصغير و قلبه طيب ال يتوافق مع أغراض وظيفته ‪ ،‬والحق أنه مضى يهزل‬
‫و برق و تتجمع فى عينيه سحابة حزن ‪ ،‬و تساءلت القلة التى تراه و هو‬
‫‪:‬و تجرأ أحدهم فقال له ‪.‬يبدأ عمله الليلى عن السر‬
‫‪.‬لست على ما يرام يا خفير بندق ‪1‬‬
‫‪:‬فأجاب بغموض قائال‬
‫‪.‬هى الدنيا يا معلم ‪1‬‬
‫انه يعاشر الظالم ‪ ،‬و ال يعرف من أهل الحارة اال الراجعين قبيل الفجر من‬
‫الحشاشين و السكيرين و الخباصين ‪ ،‬و لعله ال تصل الى مسمعيه فى‬
‫صمت الليل اال األنات الشاكية ‪ ،‬و قيل انه سيهزل و يهزل حتى تعجز‬
‫‪.‬األعين عن رؤيته‬
‫هناك ‪.‬و لكن األنات الشاكية لم تكن األصوات الوحيده التى تزحم أذنيه‬
‫الصوت الذى يتسلل من نافذه بدروم البيت القائم أمام السبيل‬
‫كل ليلة عقب عودة النجار من سهرته ‪. ،‬أسمعه أنين الحب و أنغامه‬
‫يترنح و يدندن ثم يهبط الى مسكنه ‪ ،‬و بعد فتره وجيزة تتسلل األنغام من‬
‫منافذ النافذة ‪ ،‬كل ما استطاع أ‪ ،‬يعرفه أن البدروم مسكن للنجار و امرأته‬
‫عرفها ‪.‬انها تقضى شئونها فى غرفتها ‪.‬ست بطه ‪ ،‬و لكنه لم يرها أبدا‬
‫من صوتها آخر الليل ‪ ،‬و لم يكن من أهل الحارة و لكنه عشق الصوت ‪ ،‬و‬
‫يسمعه ليله بعد ‪.‬و تردد فى أنفاسه ‪.‬هام به هياما حتى نبض فى قلبه‬
‫أخرى و يتشربه ساعة بعد أخرى و يخلق من ترنيماته و تهويماته صورة‬
‫جامعة لمحاسن نساء الريف و المدن ‪ ،‬يناجيه فى سهرته الطويلة و‬
‫يستغيث به فى وحدته ‪ ،‬و تجسد له مرات فحاوره و دعاه و قال له ال‬
‫يعرف األلم الدفين اال خالقه و ال يغيظه شىء كما يغيظه دندنة النجار و هو‬
‫و خطر له أنه لو أعياه السطول ليله فسقط لحمله الى ‪.‬عائد مترنحا‬
‫‪.‬الداخل ليرى ست بطه‬
‫‪:‬و رن سوته فى القبر مرة و هو يغنى‬
‫))باسمع نغم الليل عشق الحبايب هدنى الحيل ((‬
‫‪:‬و أعجبه صدى صوته داخل القبو فأعاد الغناء و فاض به الحنين فتساءل‬
‫و ايش بعد الغناء يا بندق ؟؟ ‪-‬‬
‫‪:‬و جاء صوت من وراء باب الحصن األثرى‬
‫‪..‬ما بعد الغناء اال العمل ‪-‬‬
‫و لكنه تشجع ضاغطا ‪.‬فارتعد متذكرا ما يقوله أهل الحارة عن سكان القبو‬
‫‪:‬بذراعه على بندقيته و سأل بلهجة ميرى‬
‫كيف دخلت الحصن ؟ ‪...‬من أنت ؟ ‪2‬‬
‫‪:‬فأجاب بصوت باسم‬
‫‪.‬أنا شيطان يا خفير بندق ‪ ،‬و لوال الشيطان ما كان االنسان ‪4‬‬
‫‪ .‬و سرى الصوت فى كيانه بقوة فلم يشك أنه بحضرة شيطان حقيقى‬
‫حاول أن يتلو سورة و لكن رأسه أفرغت من محفوظاتها القليلة ‪ ،‬و‬
‫‪:‬سأله مستسلما‬
‫ماذا تريد؟ ‪-‬‬
‫ماذا تريد أنت ؟؟ ‪-‬‬
‫‪.‬ما أريد اال أداء واجبى ‪-‬‬
‫‪.‬أنت كذاب ‪-‬‬
‫و ترامت اليه دندنة النجار و هو راجع فخفق قلبة و قال الصوت من‬
‫‪:‬وراء الباب المغلق‬
‫‪...‬أعطنى بندقيتك ‪-‬‬
‫و ‪.‬لم يذعن و لم يرفض و لكنه شعر بالبندقية تنزع من حول منكبة‬
‫فجاءة دوت طلقة نارية فمزقت مخالبها ستار الليل ‪ ،‬نام ثوان فحلم ثم‬
‫و لما صحا رأى شفافية الضياء الباكر تهبط فى مركبة سماوية ‪.‬صحا‬
‫و رأى لمة تحيط بجثة يتدفق الدم من فيها و انكبت فوق الجثة امرأة و‬
‫هى تصر خ و تبكى و تندب أبا العيال و ندت عنه حركة فاتجهت اليه‬
‫‪:‬االبصار و أكثر من صوت سأل‬
‫من قتل الرجل يا خفير بندق ؟؟ ‪5‬‬
‫فتراجع حتى استند الى شرفة السبيل و هو يحدق فيهم‬
‫فمن قتل الرجل ؟ ‪..‬البد أنك رأيت كل شىء ‪6‬‬
‫‪:‬فأجاب بذهول‬
‫!‪...‬قتله الشيطان ‪7‬‬
‫‪.‬و كان يرى ست بطة ألول مرة ‪ ،‬و آلخر مرة‬

You might also like