Professional Documents
Culture Documents
اثر التراث
اثر التراث
-2-
الحقوق كافة
مـحــــفــــوظـة
لتاـحــاد الـكـتـاب
الــعـرب
: unecriv@net.sy E-mail اللكتروني : البريد
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتتاب العرب على شبكة النترنت
http://www.awu-dam.org
-3-
الدكتور :كاملي بلحاج
-4-
بسم الله الرحمن الرحيم
-5-
الهإداء
-6-
-7-
المقدمة:
-8-
استحضارّ الشعرّاء المعاصرّين للسطورّة ،هو تعبيرّ عن أزمة النسان الحضارّية
في القرّن العشرّين .وقاد كان إليوت ،ـ في نظرّه ـ نموذجاة رّائعاة في تجسيد هذه الزمة
حين أعلن صرّاحة ،أن ل خلص من الرّض الخرّاب إل بالعودة إلى أحضان
الترّاث الشعبي بطقوسهّ ومعتقداتهّ.
وأنس داود في أطرّوحتهّ بعنوان )السطورّة في الشعرّ العرّبي الحديث( التي
رّاح يتتبع فيها ظاهرّة توظيف السطورّة ،والمؤثرّات الجنبية في استخدامها في
الشعرّ الحديث والمعاصرّ :بدءاة من مدرّسة الحياء إلى مدرّسة التجديد ممثلة في
بدرّ شاكرّ السياب ،وصلح عبد الصبورّ ،وخليل حاوي وغيرّهم من رّواد حرّكة
التجديد في الشعرّ المعاصرّ.
وما كتبهّ أيضاة علي عشرّي زايد حول )استدعاء الشخصيات الترّاثية في الشعرّ
العرّبي المعاصرّ( حيث عمد إلى رّصد هذه الظاهرّة رّصداة فنياة من خلل تحديد
ملمحها وتجلياتها ،ورّبطها بمرّجعيتها العرّبية والسلمية ،مظه اةرّ ثرّاء هذه
المرّجعية ،وقادرّتها على العطاء الدائم والمتجدد إذا أحسن استخدامها.
وشوقاي ضيف حول )الشعرّ وطوابعهّ الشعبية على مدرّ العصورّ( من الجاهلي
إلى العصرّ الحديث ،محاولة تصحيح الرّأي الخاطئ الذي ذاع على ألسنة العديد من
الناس ،والذي مفاده أن شعرّاء العرّبية كانوا بمعزل عن شعوبهم ،فهم يتغنون
بأشعارّهم للطبقات العليا دون سواها من عامة الناس.
ولعل أبرّز شيء يمكن ملحظتهّ على هذه المكتبة ،اقاتصارّها على السطورّة
دون غيرّها من أشكال التعبيرّ الشعبي الخرّى ،واعتمادها على الطرّح العام الذي
بإمكانهّ إغفال الكثيرّ من القضايا الجوهرّية التي تميز قاضيةة عن أخرّى أو شاع اةرّ
عن آخرّ.
على الرّغم من هذا كلهّ ،فقد كانت هذه المكتبة ،خيرّ معين لهذه الددرّاسة بما
وفدرّتهّ لها من أفكارّ وملحظات أنارّت العديد من الجوانب المظلمة ،فمهدت الطرّيق
وسهلت سبيل السيرّ فيهّ .وقاد كان ذلك من جهة أخرّى دافعاة رّئيساة لختيارّ هذا
الموضوع ،إذ حرّكتهّ القناعة المطلقة بأن ما أثيرّ حول ظاهرّة توظيف الترّاث الشعبي
في القصيدة المعاصرّة ،وما كتب عنها ،لم يعط الظاهرّة حقها بعد من الددرّاسة
والتحليل والستنتاج ،وأن جدل ما كتب ،كان منصباة حول السطورّة في جوانبها
الجتماعية والفكرّية دون غيرّها من الشكال الترّاثية الخرّى ،من هنا جاءت هذه
الددرّاسة محاولة سدد هذا الفرّاغ ،معالجة الظاهرّة برّؤية يرّاد بها أن تكون جديدة
وشاملة ،وذلك بالترّكيز على الجوانب الفنية فيها .لن الظاهرّة ،كما تبين لي،
-9-
حضارّية )تعبيرّ عن أزمة النسان والحضارّة المعاصرّة( وفنية )البحث عن أشكال
جديدة للتعبيرّ عن هذه الزمة(.
أما عن السباب التي شجعتني للخوض في غمارّ الشعرّ المعاصرّ ومعالجة
هذا الجانب منهّ ،إيماني القوي بأن هذه الناحية ،إذا ما عولجت بطرّيقة علمية
ومنهجية ،ستفتح العديد من القضايا والفاق المتعلقة بالنص المعاصرّ ،سواء تلك
التي تتعلق بهّ بوصفهّ بنية لغوية وشكلة جديداة من الكتابة الشعرّية ،أو تلك التي
ترّبطهّ بالقارّئ والمتلقي عمومةا .ومن ثدم كان الهدف من هذه الددرّاسة
:الوقاوف عند النص الشعرّي المعاصرّ والكشف عن مكوناتهّ الفنية أولل
ومرّجعياتهّ الفكرّية.
:تقرّيب هذا النص من القارّئ بإزاحة بعض غموضهّ الناجم عن ثانيال
توظيف الساطيرّ والرّموز ذات المناحي الفلكلورّية.
وثالثال :تقرّيب القارّئ من النص بتزويده ببعض الليات التي تمدكنهّ من
الولوج إلى أعماق القصيدة واستكشاف أسرّارّها.
يؤمن الددارّس إيماناة قاوياة بصعوبة قارّاءة النص الشعرّي المعاصرّ وفهمهّ فهماة
صحيحاة في غياب مثل هذه الدرّاسات واللمام بالترّاث الميثولوجي النساني عمومةا،
لن هذا النص تأسس ـ في اعتقادنا ـ أصلة عندما انفتح على هذا الترّاث فتأثرّ بهّ
وأثرّ فيهّ .وذلك بعض آفاق هذه الدرّاسة التي تطمح إلى التأسيس لقرّاءة جديدة
تستحضرّ السياق دون أن تغض الطرّف عن نسقية النص حين يتحدول السطورّي
إلى شعرّي.
وبعد فحص المادة واللمام بجل جوانبها ترّاءى لي أن أتناول الموضوع انطلقااة
من خطة كانت تبدو أنها ستقود إلى الغايات التي رّسمت ،وهي الكشف عن بنية هذه
القصيدة ومرّجعياتها الفكرّية والجمالية ،من خلل الوقاوف عند المصادرّ والخلفيات
التي كان يستقي منها الشعرّاء مادتهم ،والساليب التي كانوا يستعملونها.
وانطلقااة من طبيعة الموضوع نفسهّ والغايات التي حاولت تحقيقها ،كان من
الضرّورّي الشتغال على النصوص الشعرّية ،وآرّاء الشعرّاء حول الظاهرّة ،دون
النسياق ورّاء الجوانب النظرّية إل في الحالت التي تقتضيها الضرّورّة .ولعل ذلك
ما جعل الدرّاسة تغض الطرّف عن كثيرّ من القضايا النظرّية للليات التي اختارّتها
أن تكون مصاحبة لها في قارّاءة المتون الشعرّية على الرّغم من قايمتها في مثل هذه
الحالت .غيرّ أن طبيعة الموضوع كانت تقتضي البتعاد عن التنظيرّ ومقارّبة
- 10 -
النصوص مباشرّة .كما أن اصطحاب النظرّيات من شأنهّ أن يحد من حرّية الددارّس
في قارّاءة النصوص ويجعلهّ سائ اةرّ وفقهّ .وتلك بعض معضلت النقد المعاصرّ الذي
يغوص في التعارّيف دون أن يمكنهّ ذاك من الولوج إلى عالم النص الذي ل يرّتضي
دائماة قاواعد عامة قاد تصلح لنص ول تصلح لخرّ.
ومن هذا المنطلق الذي يجعل الجانب النظرّي في خدمة الجانب التطبيقي في
الدرّاسة ،والذي ل يحاول فهم الدللت إل في سياقااتها العامة ،جاءت خطة البحث
نتائج استقرّاء للنصوص .وعلى هذا القدرّ من الفهم والستيعاب تم تقسيم هذه
الدرّاسة في جزئها الول إلى تمهيد وفصلين وخاتمة.
وتجنباة لجترّارّ ما أ صبح شائعاة اقاتصرّ التمهيد على عرّض أهمية الترّاث
الشعبي في الكتابات المعاصرّة مرّكك اةز على الرّهاصات الولى لتوظيف الترّاث
الشعبي في حرّكات التجديد الشعرّي الولى.
الفصل الول أفرّدتهّ للمكدونات والصول ،فتطرّقات فيهّ لعلقاة الفن والشعرّ
بالطقوس السحرّية والسطورّية ،ورّأينا فيهما تلزماة قاوياة منذ أن كان الفن والسحرّ
ممارّسة وشكلة تعبيرّياة واحداة ليس إل .ومما ل شك فيهّ أن القصيدة الجاهلية تثبت
في كثيرّ من وجوهها ذاك القرّان الشرّعي بين الشعرّ والطقوس الشعبية سواء من
حيث النشأة أو الوظيفة ،أو الجواء العامة التي كانت تصاحبهما .وعلى الرّغم من
النفصال الظاهرّي الذي حدث بينهما بعد ذلك ،فإن العلقاة بينهما ـ كما أوضحت
هذه الدرّاسة ـ قاوية ومتينة ،ول عجب أن تكون القصيدة المعاصرّة حاملة لزخم الترّاث
الشعبي تتوارّى باليماء واليحاء حينةا ،وتقيم علقاات مباشرّة معهّ حيناة آخرّ.
أما الفصل الثاني فخصصتهّ للحديث عن الدرّوافد الترّاثية التي أقاام الشاعرّ
المعاصرّ عليها علقاتهّ مع الترّاث الشعبي ،فلم يستثن في بحثهّ الدائم عن أشكال
تعبيرّية جديدة مصد اةرّ ومرّجعةا .فكل المشارّب صالحة للرّتواء ما دامت تعيده إلى
اللغة البكرّ والخيال الواسع .وقاد كان للغصن الذهبي لصاحبهّ جيمس فرّيزرّ فضل
بالغ في تعرّيف الشعرّاء المعاصرّين بترّاث النسانية الشعبي ،وتقديم أشكال تفكيرّ
الشعوب عبرّ مرّاحلها الطويلة ،فلم يعد يخفى على الشاعرّ أساطيرّ ومعتقدات
أجناس بشرّية كانت توصف بالبدائية ،وأصبح من المتيسرّ استحضارّ تلك
النجازات الحضارّية للدللة على القيم النسانية العليا التي ل تختلف إوان تناءت
الماكن واختلفت الزمنة .ولم يعد برّومثيوس وتموز وسيزيف والسندباد غرّباء في
المجتمعات الحديثة ،بل إن بعضها أصبح دائم الحضورّ وأقارّب عند الشاعرّ من
إنسان هذا الزمان.
- 11 -
ثدم انتهيت في الخاتمة إلى بلورّة بعض نتائج الدرّاسة .فإذا وفقت فمن ال إوان
صرّت عن عمد. أخفقت فما قا د
***
- 12 -
مدخل:
كان المنتصف الثاني من القرّن التاسع عشرّ إيذاناة بظهورّ تيارّات فكرّية
ومذاهب أدبية تعددت مشارّبها وتنوعت مرّجعياتها الفكرّية؛ فتباينت تبعاة لذلك
أشكالها التعبيرّية وآلياتها الفنية وفق أسس شعرّية رّأى فيها أصحابها القدرّة على
حمل تجارّب العصرّ الجديدة التي ل تقوى الشكال التقليدية حملها بالضرّورّة ،مما
حذا ببعض الشعرّاء) (1إلى العلن صرّاحة عن ضرّورّة استحداث أشكال شعرّية
جديدة ل تتطابق مع الشكل الذي ارّتضاه الشاعرّ الجاهلي.
فرّضت تلك المستجدات على الشاعرّ أن يعيد النظرّ في منطلقاتهّ البداعية
ووسائلهّ الفنية التي اعتاد عليها منذ قارّون طويلة ،ليتحول بذلك تعاملهّ مع الترّاث من
الذعان والستسلم إلى القلق والسؤال .فكان طبيعياة أن تتصف مرّجعيتهّ بنوع من
الضطرّاب واللتجانس الفكرّي ،وهذا ما حدث فعلة خلل السنوات الخيرّة بحيث
اختلف الشعرّاء في اختيارّاتهم إوابداعاتهم ،فهناك من بالغ في الستسلم لهذه
التغيرّات وتلقى إنتاج كل ما يصدرّه الغرّب من تصورّات وأفكارّ ،معرّضاة نفسهّ إلى
مخاطرّ التغرّيب والمثاقافة السلبية ،متخلياة عن هويتهّ وخصوصيتهّ الحضارّية.
وهناك من حاول أن يبلورّ مشرّوعاة شعرّياة حداثياة يزاوج فيهّ بين الترّاث
ومتطلبات العصرّنة ،وبشكل خاص في مجال إبداع أشكال جديدة تسمح للقيم
الترّاثية أن تعيش فيهّ بكل أبعادها الفكرّية والنسانية.
كذلك أن نبدع شكلنا الشعري للتعشبي عشن حياتنشا(( :ملشة ششعر العشدد 3ش 1957ص ) 114أخبشار
وقضايا(.
- 13 -
العامي أو التجاه التمرّدي الداعي إلى )التجاوز والتخطي( ،فاحتدم الصرّاع بين
الفرّيقين وظهرّ في شكل معارّك أدبية اتخذت من مصرّ ولبنان موطنين لها.
في تلك الظرّوف أيضاة عرّف شعرّ العامية في هذين البلدين تطو اةرّ كبي ةرّا،
فبصدورّ ديوان )كلمة سلم( للشاعرّ المصرّي صلح جاهين ،كانت العامية بما
تسلحت بهّ من ترّاث ابن عرّوس وبيرّم التونسي قاد قاطعت شوطاة ل يستهان بهّ،
استطاعت من خللهّ أن تلبي احتياجات السليقة الفنية عند الشعرّاء ،بحيث اتخذت
لنفسها أشكالة ساذجة تدورّ حول العمود الخليلي تارّة ،ومقتحمة إياه تارّة أخرّى بأنغام
جديدة وموضوعات شعبية عامة تدورّ حول الحياة العادية البسيطة ،أو حول
الحكايات والساطيرّ).(1
وقاد تمكن فؤاد حداد ـ الب الشرّعي للحرّكة الشعرّية العامية في مصرّ الحديثة ـ
من تخليص شعرّ العامية من خصائص النشيد القومي والغنية المذاعة ،وينتهي بهّ
إلى ما يمكن تسميتهّ بالمضمون الفني الذي يعالج التجرّبة النسانية في أبعد
حدودها ،فاكتسب هذا الشعرّ على يديهّ قايمتهّ الفنية الخاصة) ،(2والتي كانت بدورّها
من رّوافد التجرّبة الشعرّية العرّبية المعاصرّة.
كما استطاعت مجموعة من الشعرّاء الشعبيين في مختلف البلد العرّبية نذكرّ
منهم ميشال طرّاد في )دولرّ( ومورّيس عواد في )أغنارّ( وعبد ال غانم في
)العندليب( أن تكون حلقة وصل بين الشعرّ العامي والشعرّ الفصيح عن طرّيق
التحدول الذي أحدثتهّ على مستوى القصيدتين )الفصيحة والعامية( سواء من حيث
المضامين أو من حيث البنية التعبيرّية والقيم اليقاعية والموسيقية .وقاد استمرّت
كوكبة أخرّى من الشعرّاء والدباء تؤسس لهذا التجاه وتعمل على تزكيتهّ وتطويرّه
من أمثال المازني إوالياس أبو شبكة وأحمد زكي أبو شادي وعلي محمود طهّ ولطفي
السيد وعبد العزيز فهمي وسلمة موسى وغيرّهم ممن كانوا يصدرّون أحياناة عن
مفهوم جديد لمعنى اللغة والفكرّ.
إذا كان الشكل القديم مقبولة في زمن كان غرّض القصيدة محصو اةرّ في التعبيرّ
عن العواطف إواعادة صياغة الشياء كما هي ،فإن فكرّة تشكيل القصيدة أصبحت
تنبع من القارّارّ بأن هذه الخيرّة لم تعد مجموعة من الخواطرّ والفكارّ أو الصورّ،
ولكنها بناء منظم ومندمج الجزاء .ومن ثدم كان الغرّض من تغييرّ الشكل الشعرّي
)( ينظششر غششال شششكري :شششعرنا الششديث إلش أيششن ش منشششورات دار الفآشاق الديششدة بيوت ط 2ش 1978 1
ص .56
)( ينظر غال شكري :شعرنا الديث إل أين ش ص 57ش 58؟ 2
- 14 -
المتوارّث هو جعل هذا البناء أكثرّ تنظيماة وتماسكةا ،وخلق نوع من النسجام والترّابط
العضوي بين التجرّبة الشعرّية المعاصرّة والدوات الفنية المعبرّة عنها .ذلك أن فلسفة
الشعرّ الجديدة أصبحت قاائمة على حقيقة جوهرّية وهي أننا ل نشد المضمون على
)(1
القالب أو في الطارّ ،إوانما نترّك المضمون يحقق لنفسهّ وبنفسهّ الطارّ المناسب .
وهو أيضاة ما يرّاه غالي شكرّي من أن فلسفة الشعرّ المعاصرّ الجمالية تنبع من
صميم الخلق الشعرّي وطبيعتهّ الفنية ،وما على الشاعرّ إل أن يشكل القالب
الموسيقي الذي تقتضيهّ الدفعة الشعورّية في مجملها).(2
من هذا المنطلق الجديد لمفهوم الشعرّ وطبيعتهّ بات من الضرّورّي على
الشاعرّ المعاصرّ ـ إذا أرّاد ألد يكون مقلداة لسابقيهّ ـ أن يجدد في طرّق تعبيرّه وأدواتهّ
الفنية تماشياة مع هذا المفهوم وهذه الفلسفة الرّامية إلى تغييرّ الرّؤى والشكال
والقوالب .ومن ثدم كانت العودة إلى الترّاث الشعبي والثقافات القديمة بمختلف أشكالها
التعبيرّية أم اةرّ ضرّورّياة لتجاوز المرّحلة .وكان التمرّد والتحرّرّ من القيود والشكال
القديمة هما أولى مداخل هذا العهد الجديد.
- 15 -
1ـ الدعوة إلى التحرّرّ من الشكال القديمة والساليب الجاهزة.
2ـ تقديم الخيال على العقل ،والهرّوب من الواقاع ،واللتجاء إلى الحلم ،وطلب
النعتاق ،والرّحيل عبرّ الزمان بالرّتداد إلى القرّون الغابرّة.
3ـ العودة إلى الساطيرّ والتمسك بالدين والمعتقدات الشعبية ،والميل إلى
الغوامض والخوارّق ،ورّؤية الطبيعة ملذاة ورّفيقاة).(1
كان الهدف من ورّاء هذه الثورّة الدبية تجاوز الشكال الجاهزة والعزوف عن
اللغة المتحجرّة ،والدعوة إلى الهتمام بالداب الشعبية والحياة البدائية ،وكل ما من
شأنهّ إثارّة الحساس بالجمال الطبيعي والعفوية والبساطة .لقد ))صاغت
الرّومنطيقية ...مفهوم الفلكلورّ والفن الشعبي الذي يشكل عنص اةرّ من أهم
عناصرّها ..ففي بحثها عن الوحدة الضائعة وعن تأليف الشخصية والجماعة ،وفي
احتجاجها ضد الستلب الرّأسمالي ،اكتشفت الرّومنطيقية الغاني الشعبية ،والفن
الشعبي ،والفولكلورّ ،ونادت بها بل موارّبة ،إنجيلة )للشعب( باعتبارّها وحدة
متجانسة ومتطورّة عضويةا(().(2
هكذا قادمت الرّومانسية الفن الشعبي بوصفهّ مقابلة لجميع أشكال الفن الخرّى،
وبوصفهّ أيضاة ظاهرّة تستحق الهتمام والتشجيع ،بل أصبحت وظيفة السطورّة
ومفهومها مثل مفهوم الشعرّ ،ل تتنافس والحقيقة العلمية أو التارّيخية ،بل إحدى
رّوافدها الساسية).(3
وقاد استطاعت الفنون الشعبية بعامة والسطورّة بصفة خاصة أن تأخذ مكانتها
الهامة من خلل النقد السطورّي الذي أرّسى دعائمهّ نورّثرّوب فرّاي ،كما كان
لنظرّية إرّنست كاسيرّرّ )1874ـ (1954في الترّميز التي عرّضها في كتابهّ )فلسفة
الصورّ الرّمزية( أثرّ كبيرّ في تعزيز موقاع السطورّة في الدب والنقد .فقد رّأى
نورّثرّوب فرّاي ))أن استلهام السطورّة وتحويلها إلى إطارّ فكرّي يضم الدب ،يحدول
النقد الدبي إلى درّاسة منهجية ،فيكتشف الناقاد الدللة الكبرّى التي يحملها تكرّارّ
صيغ معينة في آداب الشعوب المختلفة عبرّ الزمن ،وهي أن هذه الصيغ رّموز
تهجع في اللوعي النساني تعبرّ عن ذاتها في الحلم على مستوى الفرّد ،والسطورّة
)( ينظششر نسششيب نشششاوي :مششدخل إلش دراسششة الششدارس الدبيششة فش الشششعر العربش العاصششر ش مطششابع ألششف بششاء 1
)( ينظر :رينيه ويليك :نظرية الدب ش ترجة مي الدين صشبحي ش الؤمسسشة العربيشة للدراسشات والنششر ط 2 3
ش 1981ص .246
- 16 -
على مستوى الجماعة ،وتسمى النماذج الصلية(() .(1ومن ثم فإن اكتشاف هذه
النماذج سيساعد الناقاد الدبي على أن ينظرّ إلى الدب في امتداده المكاني والزماني
بوصفهّ كياناة حدياة يمكن أن يدرّس درّاسة دقايقة.
إن أهمية تشرّيح النقد عند فرّاي ل تنحصرّ في دعوتهّ إلى تحويل النقد الدبي
إلى درّاسة منهجية وعلمية فحسب ،ولكن في استلهام النماذج الصلية من حيث هي
أسس وقاواعد يرّتكز عليها النقد الدبي في تحليل النصوص إوارّجاعها إلى أصولها
السطورّية ،ذلك أن الدب من وجهة نظرّه هو أسطورّة قاد أزيحت من مكانها،
وأفضل طرّيقة لفهمهّ هو العودة بهّ إلى نصهّ السطورّي الصحيح) ،(2وهنا يتخطى
الدب الحدود المحلية والنية ويغدو تعبي اةرّ رّمزياة عن حقائق إنسانية شاملة.
ولئن كانت الرّومانسية قاد حرّرّت الشعرّ من قايود الكلسيكية وضوابطها
الصارّمة وأكسبتهّ قادرّة على خلق أشكال فنية جديدة مستقاة من الثقافات الشعبية،
فإن الفضل يعود إلى العلماء الذين أسسوا لعلم النفس والناسة والفلكلورّ وغيرّها من
العلوم المهتمة بالثقافات القديمة كالنثرّوبولوجية ،التي فتحت المجال واسعاة أمام
الشعرّاء والمبدعين على هذه الناحية الغنية بالشكال والمعارّف والخبرّات.
نقلل عششن ريتششا عششوض :أسششطورة الششوت والنبعششاث ف ش الشششعر العرب ش الششديث ش الؤمسسششة العربيششة للدراسششات
والنشر بيوت ط 1ش 1978ص .8
)( ريتا عوض :أسطورة الوت والنبعاث ف الشعر العرب الديث ص .16 2
- 17 -
الشعرّ المعاصرّ وتأثرّهم بألوان من الترّاث الشعبي بالضافة إلى وضوح الرّؤيا
السطورّية في أشعارّهم ،وانتسابهم إلى حرّكات شعرّية كانت تنادي بالتغييرّ والتجديد
والنفتاح على الثقافات والفنون الشعبية المختلفة .وحتى ل نقع في تكرّارّ بعض ما
ذكرّناه سلفةا ،سنشيرّ إلى أبرّز عوامل توظيف الترّاث الشعبي في الشعرّ المعاصرّ،
محاولين تقييم تلك التجارّب أو الرّهاصات من خلل منظارّ موضوعي فني ،آخذين
بعين العتبارّ كل محاولة على انفرّاد.
أ -تأثير حركة النقل والترجمة :كانت حرّكتا النقل والترّجمة عند العرّب منذ
القديم بوابة النفتاح وعلى الفكرّ النساني وتصورّاتهّ ،من خللها تدم التعدرّف على
حضارّات الشعوب وعاداتها وآدابها وطرّائق تفكيرّها .وقاد ازداد الهتمام بهما في
بداية النهضة الحديثة لما رّآه العرّب من تقدم وازدهارّ عند الغرّب في شتى العلوم
والفنون ،فانعكف بعض الكدتاب والشعرّاء ممن ذكرّنا سابقاة ـ في ظل حرّكة التصال
والبعثات العلمية التي عرّفتها مصرّ ولبنان ـ على الترّجمة ينهلون من معين الداب
الغرّبية وفنونها.
وسرّعان ما تجلت آثارّ هذه الحرّكة في أدب جيل ما بعد الحرّب العالمية
الولى .فقد ))انتقل هذا الجيل بالترّجمة نقلة دانت حد الكمال بما أوتي من قادرّة
لغوية وأدبية(() (1كبيرّة ،ويأتي على رّأسهم طهّ حسين بدعوتهّ إلى ضرّورّة انفتاح
الثقافة العرّبية الحديثة على الثقافة اليونانية العرّيقة التي تعدد من السس الهامة
للثقافة المعاصرّة في العالم كلهّ .ففي كتابيهّ )من الدب التمثيلي اليوناني( عن
مآسي سوفوكليس و)أوديب وثيسيوس من أبطال الساطيرّ اليونانية( الذي ترّجمهّ
عن أندرّه جيد ،دعوة صرّيحة للرّجوع إلى الدب اليوناني القديم ممثلة في رّوائع
المسرّح الترّاجيدي المليء بالساطيرّ والجواء الساحرّة .يقول طهّ حسين في هذا
الصدد ))ولست أدرّي أمخطئ أنا أم مصيب ،ولكني أعتقد أن هاتين القصتين:
قاصة سوفوكل وقاصة أندرّه جيد هما وحدهما اللتان تشهدان بأن محنة أوديب خليقة
حقاة بأن تكون موضوعاة للتفكيرّ الذي يغذو العقل ،والفن الذي يغذو القلب ،وبأن
تكون من أجل ذلك صالحة لتفكيرّ الفلسفة وابتكارّ الدباء على مرّ العصورّ
واختلف الجيال(().(2
ويمكننا أن ندرّج ضمن هذا العامل أيضاة ما قاام بهّ البستاني في أوائل هذا القرّن
)( شوقي ضيف :الدب العرب العاصر ف مصر ش دار العارف مصر ش ط /3ص .27 1
)( أن ششدره جي ششد :أودي ششب وثيس ششيوس ش ش ترج ششة ط ششه حس ششي ش ش دار العل ششم للملييش ش بيششوت ط 4ش ش 1980 2
ص .32
- 18 -
) (1904بترّجمتهّ للياذة هوميرّوس في صورّة شعرّية رّائعة وذلك بعد أن تجدشم
الكثيرّ من العناء في سبيل نقلها عن اليونانية ،وتطويع الشعرّ العرّبي للمواقاف
والحداث .وقاد قادم لها ببحث أسباب انحرّاف العرّب عن ترّجمة الشعرّ اليوناني
وتذوقاهّ جاعلة خرّافات اللهة وأساطيرّها أحد هذه السباب .فكان لهذه الترّجمة أثرّ
عظيم في نفوس الشعرّاء والدباء بحيث تلقوها بحفاوة كبيرّة ونوهوا بفضل مترّجمها،
بل أن جمال الدين الفغاني تمنى لو أن الدباء الذين جمعهم المأمون بادرّوا إلى
نقل اللياذة ،حتى إوان أدى ذلك بهم إلى إهمال نقل الفلسفة اليونانية برّمتها) ،(1لن
الفائدة التي كان سيجنيها منها أكبرّ بكثيرّ من الفائدة التي جناها من الفلسفة المنقولة
عن اليونانية.
ول بد أن نندوه في هذا السياق أيضاة بالجهد الذي قاام بهّ درّيني خشبة بترّجماتهّ
العديدة حين أرّاد أن يقدم الدب اليوناني إلى القرّاءة في أحسن ثوب وأجمل صورّة،
فترّجم اللياذة ثم الوديسة ،وكتب عن أساطيرّ الحب والجمال عند الغرّيق)) :كان
يحزنني أل يعرّفها قارّاءة العرّبية ،على طول ما سمعوا بها ،وعلى كثرّة ما داعبت
خيالهم وغازلت أحلمهم فأنا أقادمها إليهم اليوم ،بالطرّيقة التي آثرّت أن أرّوي بها
هذه الساطيرّ(() .(2وهذا يعني أن درّيني خشبة قاد تصدرّف في الصل واتبع طرّيقة
جورّج تشابمان وهي إعادة كتابة ملحمة هوميرّوس بالسلوب والبناء اللذين يعتقد
أنهما أصلح لعصرّه وأكثرّ ملءمة للغتهّ) .(3غيرّ أن هذه الطرّيقة ـ في رّأينا ـ جعلت
الملحمتين بعيدتين بعض الشيء عن أصلهما الفني الذي أرّاده لهما هوميرّوس.
لقد كانت هذه الترّجمات وغيرّها مما سوف نذكرّه لحقةا ،إحدى رّوافد الشعرّ
العرّبي المعاصرّ وعاملة من عوامل انفتاحهّ على الثقافات العالمية وفي مقدمتها
الثقافة اليونانية بترّاثها وأساطيرّها المتنوعة .ومن هذه الترّجمات نذكرّ جهود أحمد
شوقاي والمازني والعقاد:
ـ أحمد شوقي :كانت الترّجمة والمحاكاة عاملين فاعلين في اهتمام شوقاي
بالترّاث الشعبي وتوظيفهّ ،فقد أعجب بخرّافات لفونتين وأسلوبهّ وهذا ما جعلهّ يقول:
))جرّبت خاطرّي في نظم الحكايات على أسلوب لفونتين الشهيرّ ،فكنت إذا فرّغت
من وضع أسطورّتين أو ثلث اجتمع بأحداث المصرّيين ،وأقا أرّ عليهم شيئاة منها
فيفهمونهّ لول وهلة ،ويأنسون إليهّ ويضحكون من أكثرّه ،وأنا أستبشرّ لذلك ،وأتمنى
)( ينظر :هوميوس :اللياذة ش تعريب سليمان البستان ش مطبعة اللل مصر 1904ص .25 1
)( درين خشبة :أساطي الب والمال عند الغريق ش دار اللل العدد 171سنة 1965ص .12 2
)( هوميوس :اللياذة ش ترجة درين خشبة ش دار العودة بيوت ص .6 3
- 19 -
لو وفقني ال لجعل لطفال المصرّيين مثلما جعل الشعرّاء للطفال في البلد
المتمدنة ،منظومات قارّيبة المتناول ،يأخذون الحكمة والدب من خللها على قادرّ
عقولهم(().(1
ويناشد شوقاي أدباء عصرّه أن يسهموا في هذه المهمة ،ويخص بالذكرّ منهم
الشاعرّ خليل مطرّان فيقول)) :وهنا ل يسعني إل الثناء على صديقي خليل مطرّان،
صاحب المنن على الدب والمؤلف بين أسلوب الفرّنج في نظم الشعرّ وبين منهج
العرّب .والمأمول أن نتعاون على إيجاد شعرّ للطفال ،وأن يساعدنا سائرّ الدباء
والشعرّاء على إدرّاك هذه المنية(().(2
يتضح من هذا الكلم أن الهدف الرّئيس ورّاء اهتمام شوقاي بالترّاث الشعبي،
وبالخصوص قاصص الحيوان منهّ ،إنما هو الرّغبة في إيجاد أدب للطفال ،وتتأكد
هذه الرّغبة إذا علمنا بأن تارّيخ حياة هذا الشاعرّ وجزءاة كبي اةرّ من شعرّه يؤكدان حبهّ
للطفال بعامة وأبنائهّ بخاصة ،وحرّصهّ على تثقيفهم ل فيما يقدمهّ من خرّافات
وأساطيرّ فحسب ،إوانما في قاصائد ومقطوعات من شعرّه).(3
يبدو أن هذه الرّغبة كانت صادقاة إلى حد بعيد ،بل لعلها أكثرّ صدقااة مما كتبهّ
لفونتين نفسهّ ،إذ يرّى بعض الدارّسين أن لفونتين في حياتهّ الخاصة كان بعيداة
عن حبهّ للطفال والعناية بهم).(4
إن اهتمام شوقاي بهذا النوع من الترّاث يذكرّنا بما قاام بهّ الخوان جرّيم حينما
أرّادا أن يقدما كتاباة حقيقياة للبيت اللماني وأطفالهّ ،بإصدارّ أول جزء منهّ تحت
عنوان ))حكايات الطفال والبيوت(() (5سنة ) .(1812غيرّ أن شوقاي يختلف عنهما
في كونهّ لم يهتم بلغة الترّاث الشعبي أي العامية لظرّوف معينة وأسباب دينية
واجتماعية ،واكتفى بتوظيف الترّاث بوصفهّ قايماة حضارّية وتارّيخية ينبغي أن تعيش،
وقاد ازداد اهتمامهّ بهّ بعد أن جرّب بنفسهّ تأثيرّه على النفوس كما أشرّنا سابقةا.
اهتم شوقاي إلى جانب هذا ،بتارّيخ مصرّ الشعبي فنظم فرّعونياتهّ المشهورّة في
)( نفوسي زكريا سعيد :خرافآات لفآونتي ف الدب العرب ش مؤمسسة الثقافآة الامعية مصشر ش 1976ص 1
.76
)( الرجع السابق ص .76 2
)( ينظر :أحد شوقي :ديوان الشوقيات ش دار العشودة بيوت ،اللشد 2ش الشزء الرابشع )قصشيدة أمينشة ش طفلشة 3
)( ينظششر :فآردريششش فآششون ديرليششن :الكايششة الرافآيششة ش ترجششة نبيلششة إبراهيششم دار القلششم بيوت ،ط /1ش 1973 5
ص .26
- 20 -
أبي الهول والنيل وتوت عنخ آمون ،كما أنهّ رّبط شعرّه بينابيع الترّاث العرّبي ورّموزه،
فاستقى منهّ مسرّحيات وقاصائد عديدة مثل )مجنون ليلى( التي تحدث في الفصل
الرّابع منها عن رّواسب المعتقدات الجاهلية حول الجن وصلتها بالنس ،وقايامها
باللهام للشعرّاء ،وما يشيع عنها في الترّاث الشعبي من بنائها للمعابد والمدن الكبيرّة،
كبنائها لهيكل سليمان ،ومدينة تدمرّ...
إن الدارّس لشعرّ شوقاي يلحظ بيسرّ أنهّ قاد استفاد كثي اةرّ من الترّاث الشعبي
العرّبي والعالمي ،كما استفاد من لفونتين وابن المقفع فجاء توظيفهّ لهذا الترّاث
))على طرّيقة من الستطرّاد وعدم الدقاة الفنية في استخدام الحيوانات كأقانعة للفكارّ
وكرّموز للحياة النسانية ..حيث ينسى الحاكي أنهّ يتقمص شخصية حيوان،
فيتحدث عن النسان مباشرّة ،وبذلك يخرّج عن حدوده الحيوانية المفرّوضة فنيةا ،إلى
الحدود النسانية التي كان من المفرّوض أن يومئ إليها دون أن يصرّح(().(1
إواذا كان أنس داود ل يرّى فضلة لحمد شوقاي كونهّ اكتفى بصياغة بعض
الحكايات وترّتيبها في مقطوعات شعرّية غنائية بالضافة إلى انعدام الرّؤية
المعاصرّة التي تعمد إلى تفجيرّ الترّاث واستغلل طاقااتهّ الحية ،لنارّة بعض جوانب
حياتنا ،فإننا نعتقد أن ما فعلهّ شوقاي كان يمثل مرّحلة أولى ل بد منها وخطوة حاسمة
في مجال تطويع الشعرّ العرّبي للموضوعات الشعبية والحداث الدرّامية والمسرّحية،
ومن ثدم فإن لـهّ فضل المبتدئ الذي مهد الطرّيق وأنارّ السبيل وألفت النتباه إلى هذا
الترّاث.
ـ المازني والعقاد :قاام كل من المازني والعقاد إلى جانب طهّ حسين وشوقاي
بترّجمة بعض القصائد الشعرّية بشيء من التصرّف والتعديل الذي تقتضيهّ الظرّوف
والحوال الجتماعية .فقد ترّجم المازني قاصيدة )الرّاعي المعبود() (2إل أنهّ لم يهتم
بأصلها الميثولوجي الذي يبدو أنهّ لم يكن يعرّف عنهّ شيئةا ،فهو ل يشيرّ مثلة إلى أن
هذا الرّاعي هو أورّفيوس) (3وأن قاصتهّ الشجية ترّمز إلى المحبة والجمال وسحرّ
)( أنس داود :السطورة ف الشعر العرب الديث ش مكتبة عي شس ش مصر ش ص .166 1
)( إبراهيم الازن :الديوان ش مطبعة ممد ممد مطر ش القاهرة 1917ص .161 2
)( تروي عنه السطورة أنه كان صاحب ألان موسشيقية سشحرية تشرك اليشوان والنبشات والجحشر ،لا مشاتت 3
زوجته يوريدايسي متأثرة بعضة أفآعى ،ذهب إل عال الموات حيشث بلوتشو وبرسشفون معتمشدال علشى ألشانه
وأنغام موسيقاه ف مناشدتما إرجاع زوجته ،فآسمح لشه بإعادتا إل عال الحيشاء ششريطة أل يلتفششت إليهششا
أو يدثها حت يتازا بوابة عال الموات ،غي أن حبه ولفته لرؤيتها جعلته يفشل ،وتعود يوريدايسششي إلش
عششال المشوات دون أن يسششتطيع إخراجهششا مششرة ثانيششة .وتششذكر السششطورة أن امشرأة "تراشششية" أغضششبها نشواحه
علششى زوجتششه فآقتلتششه .ينششزر :ك .ك راثقيشش :السششطورة ش ترجششة جعفششر صششادق الليلششي ش منشششورات عويششدات ش
- 21 -
الصوت ،لنهّ لم يذكرّ شيئاة من ذلك واكتفى بالشارّة إلى قاوة عزف هذا الرّاعي
وحسن غنائهّ .ولعل أهم شيء يمكن استنتاجهّ بعد قارّاءة هذه القصيدة هو إعجاب
الشاعرّ بها وعدم إفادتهّ من عناصرّ هذه السطورّة وأبعادها اليحائية والدللية.
وكما أسلفنا القول فإن عملية النقل والترّجمة كانتا عاملين أساسيين في إقاحام الترّاث
الشعبي في النصوص الشعرّية العرّبية الحديثة.
ومن القصائد التي تؤكد هذا التجاه أيضاة قاصيدة العقاد )فينوس على جثة
أدونيس() (1التي ترّجمها عن شكسبيرّ .غيرّ أن العقاد أحس بأهمية تعرّيف هذه
السطورّة للمتلقي ،فأشارّ في الهامش إلى قاصة حب فينوس لدونيس ،وكيف أنهّ
كان ولوعاة بالصيد لدرّجة أنهّ أبى نصيحة عشيقتهّ بالقالل منهّ ،وبقي على حالهّ
حتى قاتلهّ خنزيرّ برّي ،فوقافت على جثتهّ تبكي وتذرّف دموع الحزن والسى).(2
يبدو أن العقاد بفعل ثقافتهّ الواسعة واطلعهّ على الداب الغرّبية ،كان على
وعي بما يقدمهّ الترّاث الشعبي للشعرّ من أجواء خيالية رّحبة ورّموز متجددة ،فما
لبث أن استخدمهّ في شعرّه ،فكانت النتيجة أن ترّاوح استخدامهّ لـهّ بين الشارّة
العابرّة ،والتشبيهّ ،ونظم القصة الشعبية).(3
لم يكن العقاد منفرّداة في طرّيقة هذا الستخدام ،بل كان ظاهرّة عامة عند معظم
شعرّاء العصرّ الحديث الذين لم يتمكنوا من توظيف الترّاث توظيفاة فنياة يسمح لهم
بطرّح البديل في عالم التجرّبة الشعرّية الحديثة .ول نعتقد أن السبب في ذلك يعود
إلى أن هؤلء الشعرّاء لم يكونوا من أصحاب الخيال المجنح أو الخلق والعاطفة
العميقة المتغلغلة في مظاهرّ الوجود كما يرّى ذلك أنس داود) ،(4بقدرّ ما يعود إلى
أسباب فنية ،وتقاليد شعرّية رّاسخة ،كانت تحول بينهم وبين التجديد الكامل والتغييرّ
الشامل.
إن ما قاام بهّ الرّعيل الول من شعرّاء حرّكة التجديد يعد خطوة هامة في تارّيخ
الشعرّ العرّبي الحديث بالنظرّ إلى تلك الصرّاعات الفكرّية والحضارّية التي شهدها
بيوت ش ط 1ش 1981ص ،138وكششذلك درينش خشششبة :أسششاطي الششب والمششال عنششد الغريششق ،دار
اللل مصر العدد 171ص .74
)( ممود عباس العقاد :الديوان ش مطبعة وحدة الصيانة والنتاج ش مصر 1967ص .25 1
)( هنششاك أسششاطي أخششرى كششثية اسششتخدمها العقششاد فش شششعره كتلششك الششت أشششار إليهششا أنششس داود فش كتششابه: 3
السطورة ف الشعر العرب الشديث دار اليشل القشاهرة 1975ص ،234وعبشد الرضشا علشي فش كتشابه:
السطورة ف شعر السياب دار الرائد العرب بيوت ط 1984 ،2وما بعدها.
)( ينظر :أنس داود :السطورة ف الشعر العرب الديث ص .237 4
- 22 -
العصرّ ،والتي ما كان لحد أن يتمرّد عليها أو يخرّج عن دائرّتها ،بحيث كان النظرّ
إلى ))كل محاولة لدخال فن من الفنون الشعبية في مجال الحترّاف محاولة
مشبوهة ومتحمسة ،ل تستند على أساس من الدرّاسة الصحيحة والثقافة الجادة
والنظرّ الموضوعية(().(1
ب -التأثير الرومانسي والرمزي :كان من أهداف الرّومانسية ،كما سبقت
الشارّة ،تحرّيرّ الدب من القيود وكسرّ الحواجز التي وقافت دون تطورّه وفي مقدمتها
تلك الشكال والقوالب الفنية الجاهزة التي ورّثها الشعرّاء عن أسلفهم ،والتي أصبحت
ل تعبرّ عن مضامين التجرّبة الشعرّية الحديثة بح ارّرّة وصدق.
أما الحاجز الثاني فيتمثل في اللغة إذ يرّى أقاطاب المذهب الرّمزي أن اللغة
العادية عاجزة عن احتواء التجرّبة الشعرّية ،إواخرّاج ما في اللشعورّ ،وتوليد الفكارّ
في ذهن المتلقي .لكن الرّمز يمنحها القدرّة على نقل هذه التجرّبة ،واجتياز عالم
النفس الخفية ،لن الرّمز يتضمن قادرّة فنية عالية تساعد على التكثيف واليحاء
والتخيل .وبما أن موطن الرّمز الصلي ،هو السطورّة والشعرّ بوصفهما أرّقاى صورّ
التعبيرّ الرّمزي المنحدرّة عن التفكيرّ السحرّي والمجازي ،فإن العودة إليهّ أصبحت
أم اةرّ ضرّورّياة لتجاوز مرّحلة التقليد.
حاول بعض الشعرّاء العرّب من هاتين المدرّستين )الرّومانسية والرّمزية( أن
يتخذوا من الساطيرّ مادة للتلميح واليحاء ،إواغناء العمل الدبي بطاقاات رّمزية
جديدة ،كاستخدام جبرّان خليل جبرّان لسطورّة أدونيس وعشترّوت في لقاء دمعة
وابتسامة ) ،(1914واستخدام زكي أبو شادي لسطورّة أورّفيوس ويورّديس ،وعلي
محمود طهّ في )أرّواح وأشباح( التي عمد فيها إلى استخدام بعض الساطيرّ
الغرّيقية كأسطورّة )هرّميس( و)تاييس( و)سافو( و)أورّفيوس( ،وسعيد عقل في
مسرّحيتيهّ الشعرّيتين )بنت يفتاح (1935مستمداة موضوعها من التورّاة ،و)قادموس
(1944التي ترّوي قاصة حب بين زوس وأورّوب ابنة ملك صورّ.
ومن هؤلء أيضاة نجد إلياس أبو شبكة )1904ـ (1947الذي حاول من خلل
ث بعض آرّائهّ لمحاتهّ السطورّية المستوحاة من الكتاب المقدس )العهد القديم( ب د
وأفكارّه كتلك التي تحدث فيها عن شرّورّ جمال المرّأة وما يجرّه من ويلت للرّجال
من خلل قاصيدتهّ )شمشون( مستخدماة أسطورّة دليلة) (2للتعبيرّ عن فجورّ المرّأة
)( فآاروق خورشيد :الوروث الشعب ش دار الشروق القاهرة ش ط 1ش 1992ص 6ش .7 1
)( ينظر :جيمس فآرايزر :الفولكلور ف العهد القدي )التوراة( ترجة نبيلششة إبراهيششم ش دار العشارف ش مصشر ش ط 2
2ش /2ش .551دليلشة كمشا تشذكر السشطورة قشد خشانت عششيقها بشأن أفآششت سشرر قشوته لعشدائه ،فآكشانت
- 23 -
وخداعها للرّجل من خلل إثارّة شهوتهّ .وقاد حاول إلياس أبو شبكة بطرّيقة ذكية أن
يجمع في هذه القصيدة بين أسطورّتين متقارّبتين في الدللة ،فرّبط بين خيانة دليلة
لشمشون وخيانة ديانيرّة لهرّقال ،فقال:
سببال ف هلكه.
)( إلياس أبو شبكة :أفآاعي الفردوس ش منشورات دار الكشوف ش بيوت ط 1948 /2ص .21 1
)( ينظر :أنس داود :السطورة ف الشعر العرب الديث ص 384ش .385 2
)( ينظش ششر :يوسش ششف حلوي :السش ششطورة ف ش ش الشش ششعر العرب ش ش العاصش ششر ش ش ش دار الداب ش ش ش ط /1ش ش 1994 3
ص .16
- 24 -
حاوي.
أحد زكي أبو شادي :الينبوع ش مطبعة التعاون ش القاهرة 1934ص :ي. )( 1
أحد زكي أبو شادي :فآوق العباب ش مطبعة التعاون ش القاهرة 1934ص.12 : )( 5
- 25 -
التجرّبة النسانية العالمية ،لخلو تجرّبتهّ من دللتها الجتماعية التي كان يمكن أن
يفجرّها الموقاف البدائي ،لو أنهّ فطن إليهّ ،ثم إن اهتمامهّ بالمحافظة على شكل
الساطيرّ وتفصيلتها أحال قاصائده إلى قاصص أسطورّية ل تملك غيرّ موهبة
التشكيل والداء والنظم .ليس غيرّ(().(1
***
عبد الرضا علي :السطورة ف شعر السياب ش ص.41 : )( 1
ينظر :شوقي ضيف :الدب العرب العاصر ف مصر ش دار العارف مصر ش ط 3ش ص.166 : )( 2
- 26 -
الفصل الول
ونات والصول
المك ت
ـ الفن والسحر
ـ السطورة والشعر
ـ الجذور السطورية للقصيدة العربية
ـ اللغة وأشكال التراث الشعبي
- 27 -
- 28 -
ونات والصول:
المك ت
)( ينظر :عبد الفرتاح ممد أحد :النهج السطوري ف تفسشي الشعر الاهلي دار الناهشل للطباعشة والنششر 1
مششتي ضششاهر دار القلششم بيوت ط 1975 ،1ص .19إرنسششت فآيشششر :ضششرورة الفششن ،ترجششة :ميشششال
سششليمان دار القيقششة للطباعششة والنششر بيوت ص .15أرنولششد هششاوزر :الفششن والتمشع عشب التاريشخ ،ترجشة:
فآؤماد زكريا الؤمسسة العربية للدراسات والنشر ط .33 /2 ،1981 ،2
)( عبد النعم تليمة :مقدمة ف نظرية الدب دار العودة بيوت ط 1983 ،3ص .32 3
- 29 -
وهذا ما تؤكده النقوش والرّسومات القديمة ،التي هي برّمتها حيوانية تقرّيبةا،
والتي يذهب الفترّاض إلى القول إن البدائيين كانوا يعتقدون أنهّ في حال تجسيدهم
للحيوان ،إنما يكتسبون قاوة السيطرّة عليهّ ،ولم يكن التمثيل التصويرّي لديهم سوى
استباقااة للنتيجة المطلوبة ،فالفنان القديم عندما كان يرّسم حيواناة على صخرّة أو داخل
معبد أو كهف ،كان ينتج حيواناة حقيقيةا ،ذلك أن عالم الخيال والصورّ ومجال الفن
)(1
والتذوق والمحاكاة المجرّدة ،لم يكن قاد أصبح في نظرّه ميداناة خاصاة قاائماة بذاتهّ
مختلفاة عن الواقاع ومنفصلة عنهّ.
تؤكد النظرّة السرّيعة على أقادم مخلفات الفرّاعنة والغرّيق في هذا المجال
بشكل واضح أن ))أصول الفن إنما ترّجع إلى السحرّ(() (2بوصفهّ إحدى الرّكائز
العتقادية والمعرّفية في تلك المرّحلة من حياة المجتمعات البشرّية ،إوالى الممارّسات
الشعبية المعدبرّ عنها بواسطة الساطيرّ والمثال والتعاويذ والغاني الفلحية
وغيرّها ،إذ كانت الطقوس والمعتقدات مهداة للفنون والثقافات.
وقاد رّافق الشعرّ والغناء والرّقاص والتمثيل دوماة المرّاسيم الدينية والحتفالت
الفلكلورّية .ومع إدرّاك النسان لفكرّة الحياة والموت ،نشأت العمارّة في المقابرّ
والهياكل ،وانتشرّت الرّسوم والمنحوتات رّمو اةز تجسد قاوة غيبية ل تدرّكها الحواس.
وقاد توصلت البحاث التارّيخية في هذا الشأن إلى أن أقادم الساطيرّ كانت غناء
دينيةا ،ثم صارّت ملحم شعرّية بفعل ترّاجع العنصرّ الديني فيها ،وخيرّ مثال نقدمهّ
على هذا التحدول )من السطورّي إلى الشعرّي( ،الملحم اليونانية القديمة التي عمل
المنشدون على إعادة إخرّاجها وخلقها في صيغة مألوفة ومعدة خصيصاة لمناسبة
معينة تتماشى وميول الناس من حولهم) .(3والمرّ نفسهّ نرّاه عند البابليين وغيرّهم من
الشعوب القديمة ذات الحضارّات العرّيقة.
قاد يطول الحديث إذا أوغلنا في ضرّب المثلة عن أصل الفن وعلقاتهّ بالسحرّ
ل ،لكنوبالخصوص أن مجال اهتمامنا في هذه الدرّاسة هو الشعرّ وليس الفن إجما ة
كخلصة عامة نقول إن الفنان القديم ظل يعتمد السحرّ بواسطة عبقرّيتهّ إوابداعهّ
الفني ليضمن العيش والبقاء .وقاد كانت الحرّف والصناعات والزخارّف والفنون
)( ينظر :أرنولد هاوزر :الفن والتمع عب التاريخ ،ترجة فآؤماد زكريا .18 /1 1
)( إرنست فآيشر :الشتاكية والفن ،ترجة :أسعد حليم دار القلم بيوت ط 1973 ،1ص .23 2
)( ينظر :أحد عثمشان :الشعر الغريقشي تراثشال إنسشانيال وعاليشلا ،سلسشلة عشال العرفآشة 77الكشويت 1984 3
ص .67
- 30 -
الشعبية جزءاة هاماة من هذه الطقوس أو العبادات التي كان لها مظهرّ سحرّي منذ
فجرّ التارّيخ ،حيث كان ))الفنان ينتج فنهّ ليدعم عقيدتهّ أو ليؤثرّ على القوى
الخارّجية فيجعلها صالحة لهّ ،محققة لمانيهّ ،موطدة لقادامهّ في الطبيعة التي يعيش
فيها(() ،(1وقالما نجد فناة من هذه الفنون بعيداة عن الغرّاض السحرّية.
فكل ما أنتجهّ النسان البدائي من رّسومات أو صناعات فخارّية ونسيجية أو
غيرّها من الصناعات المرّتبطة بحياتهّ اليومية ،كان لها مظهرّ سحرّي وأهداف
معينة .ولذا فإن النظرّ إلى هذه الفنون على أنها محض نتاج فني أو جمالي شغل بهّ
النسان القديم نفسهّ في أوقاات فرّاغهّ ،نظرّة تجانب الصواب وتبتعد عن الحقيقة.
ليس الهدف في هذا المقام الوقاوف عند هذه الرّاء ووجهات النظرّ ،لن ذلك
يستلزم جهداة كبي ةرّا ،ليس هذا موطنهّ ،إوانما نرّيد سبرّ أغوارّ مواطن التلقاي
)( سعد الادم :الفن الشعب والعتقشدات السشحرية ،سلسشلة اللف كتشاب ،477مكتبشة النهضشة الصشرية 1
القاهرة ص .2
)( ك .ك .راثقي :السطورة ،ترجة جعفر صادق الليلي منشورات عويدات بيوت )سلسلة زدن علملا( 2
- 31 -
والختلف بين الشعرّ السطورّة ،وهل الشعرّ هو فعلة كما قايل ))السليل المباشرّ
للسطورّة وابنها الشرّعي(()(1؟
إن علقاة الشعرّ بالسطورّة علقاة قاديمة تشهد لها العديد من المخلفات الفنية
كالملحم البابلية والغرّيقية والصينية .فقد أجمع مؤرّخو الصين على أن معتقداتهم
السطورّية كانت المضمون الوحيد لقادم صورّ التأليف الشعرّي عندهم) ،(2والجماع
نفسهّ ينطبق على ملحمة جلجامش واللياذة والوديسة التي استقت موضوعاتها من
الترّاث الشعبي العرّيق .وليس من المستبعد أن تكون بذورّ الشعرّ الملحمي قاد جاءت
من الترّاتيل والبتهالت الدينية التي كان يؤيدها الكهنة وسدنة المعابد ،أو من تلك
الشعارّ الشعبية التي كان يرّويها المنشدون في المحافل والمناسبات الدينية ،يرّوون
فيها للناس تارّيخ الوقاائع والساطيرّ التي تصدورّ بطولت أسلفهم .وقاد يعود الفضل
إلى هوميرّوس في جمع هذا الترّاث وتنسيق عناصرّه في شكل شعرّي متكامل قايل إنهّ
))قامة العمال السطورّية في إطارّها الدبي(() ،(3إوالى غيرّه من المسرّحيين
اليونانيين المعرّوفين كإسخيلوس وسوفوكليس ويورّوبيدس.
ل أحد ينكرّ أن الشعرّ تجرّبة رّوحية وجمالية عميقة تتصل بأعمق مكونات
المة ومشاعرّها ،وتستخدم من اللغة أقارّب ألفاظها وكلماتها إلى الحس ،وأكثرّها قادرّة
على الترّميز والشعاع بهذه المكونات .وهذه النظرّة ل تختلف ـ في اعتقادنا ـ عن
النظرّة التي ترّى في السطورّة شكلة من أشكال التعبيرّ العذرّي عن التجرّبة النسانية
في مغامرّتها الولى مع الطبيعة والحياة .ومن ثدم فإن كليهما )الشعرّ والسطورّة(
متصل بالتجرّبة النسانية ،حافل بمنطوقاها وأسرّارّها ،معدبرّ عن مكوناتها وبواعثها
النفسية والجمالية .ومن ثدم أيضةا ،يمكن القول إن عودة الشاعرّ المعاصرّ إلى
استخدام السطورّة في الشعرّ ،هو في واقاع المرّ ،عودة حقيقية إلى منابع التجرّبة
النسانية ،ومحاولة التعبيرّ عن امتداداتها في وقاتنا الرّاهن ،بوسائل عذرّاء ،لم
يمسسها الستعمال اليومي فيمحي عنها صفة القداسة والسحرّ.
ورّبما كانت السطورّة من هذه الناحية بالذات ،في زمانها ،أعمق الشكال
وأكثرّها استجابة لحاجات النسان في تلك المرّحلة ،فهي من حيث الشكل قاصة،
تحكمها مبادئ السرّد القصصي من حبكة وشخصيات وعقدة .وكثي اةرّ ما تأتي في
)( فآراس السرواح :السطورة والعنش دراسشات فش اليثولوجيشا والشديانات الششرقية ،دار علء الشدين دمششق ط 1
ص .200
)( أحد كمال زكي :الساطي دراسة حضارية مقارنة ص .203 3
- 32 -
قاالب شعرّي يساعد على رّوايتها وتداولها في المناسبات الدينية .أما من حيث التأثيرّ
فهي تتمتع بقداسة كبيرّة وسلطة عظيمة على عقول الناس ،وهي سلطة تضاهي
سلطة العلم في العصرّ الحديث ،أضف إلى ذلك أنها ))ذات مضمون عميق يشف
عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة النسان(() .(1ثم كونها الوعاء الذي
تفاعل فيهّ السحرّ بالدين ،والشعرّ بالطقوس ،والحلم بالوهام.
بهذا الخليط من الفكارّ والتصورّات والخيال الواسع والظلل السحرّية للكلمات،
استطاعت السطورّة أن تعبرّ عن قالق النسان وتساؤلتهّ ،فكانت أول محاولة لفهم
قاوى الطبيعة والسيطرّة عليها ولو بطرّيقة وهمية وخيالية ،لكنها كانت على درّجة
بالغة من الهمية في حياة النسان .يقول كلود ليفي شترّاوس في هذا الصدد إن
السطورّة ))ل نصيب لها من النجاح في إعطاء النسان قاوة مادية أشد للسيطرّة
على البيئة ،لكنها مع ذلك تعطي النسان وهم القدرّة على فهم الكون ،وأنهّ فعلة يفهم
الكون وهذا بالغ الهمية .لكنهّ مجرّد وهم بالطبع(() .(2وهنا تلتقي السطورّة بالشعرّ
من حيث أنهما يوهمان النسان بامتلك السلطة على الشياء ،ذلك أن اللغة عند
مبدعي الساطيرّ والشعرّ ليس أداة اتصال فحسب إوانما هي أداة سحرّية للسيطرّة
على الشياء والكائنات.
بمعنى آخرّ إن قاوة هؤلء المبدعين تكمن أولة وقابل كل شيء في اللغة التي
يتحدثون بها ،فهي لغة تختلف عن اللغة العادية من حيث الكثافة واليحاء والقدرّة
على الترّميز والثارّة ،فهي تمتلك شحنة من الحساسات والعواطف ما يجعلها تقرّع
الصمت وتبث الحياة ،بل وأكثرّ من ذلك تنفث في النسان ما يعطيهّ القدرّة على
استدعاء الشياء وامتلكها.
يقول مارّتن هيدجرّ 1889) MARTIN HEIDEGGERـ (1976في
هذا الشأن ))اللغة هي التي تفتح لنا العالم ،لنها وحدها التي تعطينا إمكان القاامة
بالقرّب من موجود منفتح من قابل ...وكل ما هو كائن ل يمكن أن يكون إل في
)معبد اللغة( ...اللغة تقول الوجود ،كما يقول القاضي القانون .واللغة الصحيحة هي
خصوصاة تلك التي ينطق بها الشاعرّ ،بكلمهّ الحافل .أما الكلم الزائف فهو كلم
المحادثات اليومية .إن هذا الكلم سقوط ،وانهيارّ(() .(3ومن ثدم كانت مهمة الشعرّاء
)( فآراس السرواح :السطورة والعن دراسات ف اليثولوجيا والديانات الشرقية ص .14 1
)( ينظر كتابه :السطورة والعن ،ترجة :صبحي حديدي الدار البيضاء 1986ص 17ش .18 2
)( عبد الرحن بدوي :موسوعة الفلسفة ،الؤمسسة العربية للدراسات والنشر ط 604 /2 ،1984 ،1 3
)مادة هيدجر(.
- 33 -
ومنتج الساطيرّ ،مهمة صعبة وشاقاة ،لنها تتطلب لغة خاصة قاادرّة على اختزال
الفعل النساني.
وثانياة في طرّيقة استعمال هذه اللغة ،وهي طرّيقة ـ كما حدثنا عنها بعض
الدارّسين ـ سحرّية وغرّيبة في الوقات ذاتهّ ،يصعب تقنينها أو القبض عليها ،بل
ووصفها في بعض الحيان .لن كل قاصيدة أو أسطورّة لها حياتها الخاصة التي
هي مصدرّ قاوتها وبقائها وجمالها .وهذا يعني بعبارّة أخرّى أن كل قاصيدة أو أسطورّة
هي بمثابة مولود جديد يحمل جيناتهّ وسماتهّ التي تحفظ لـهّ وجوده وتجعلهّ مستقلة
عن الخرّين.
والغرّيب في هذه اللغة ،المستعملة بهذه الطرّيقة ،أن بإمكانها هدم كل ما هو
أمامها من أفكارّ وتصورّات مؤسسة ،بفعل تأثيرّها السحرّي واستخدامها المفاجئ غيرّ
المكرّورّ .وهنا يكمن السدرّ الذي تتمدتع بهّ السطورّة والشعرّ على حد سواء .ورّبما
لهذا السبب دعا أفلطون في كتابهّ الجمهورّية إلى ضرّورّة استبعاد الشعرّاء من
مدينتهّ) (1التي تقوم على العقل ،حتى ل يستبدون بها وبشبابها .والدسماح بالشعرّ
يعني فتح الطرّيق أمام السطورّة والخيال ،وهما عنصرّان ل يرّيد أفلطون أن تقوم
عليهما جمهورّيتهّ.
إواذا كانت اللغة هي مفتاح العالم على حد تعبيرّ هيدجرّ أو ))فعل خلق للوجود
إواعادة تشكيلهّ تجرّيديةا(() (2على حد قاول غيرّه ،فإنها لن تكون كذلك إل في السطورّة
والشعرّ بوصفهما أرّقاى الشكال ترّمي اةز إوايحاء ،وكونهما رّسالة سرّمدية موجهة
للنسان ،تبين عن حقائق خالدة وتؤسس لصلة عميقة بين الماضي والحاضرّ
والمستقبل ،بين الحياة والموت.
فالسطورّة مثلة ل ترّوي أحداثاة جرّت في الماضي وانتهت ،إوانما ترّوي كذلك
أحداثاة ل تتحول إلى ماض أبدةا .ففعل الخلق الذي تدم في الزمنة المقدسة ،يتجدد في
كل عام ويجدد معهّ الكون وحياة النسان) .(3إوالهّ الخصب )تموز( الذي قاتل ثم بعث
إلى الحياة ،موجود على الدوام في دورّة الطبيعة وتتابع الفصول ،وصرّاع )بعل( مع
)( ينظر أفآلطون :جهورية أفآلطون ش ترجة وتقدي نظلة الكيم وممد مظهر سعيد ش دار العشارف ش مصشر 1
- 34 -
الوحش ،هو صرّاع دائم بين قاوى الخيرّ وقاوى الشرّ .وحتى تلك الساطيرّ التي ترّوي
أحداثاة تارّيخية مضت كأسطورّة الطوفان) (1أو )الدمارّ الشامل( ،فهي في الواقاع ل
تخفي اهتمامها بالمستقبل ،فالطوفان الذي ددمرّ الرّض وخدرّب من حولها ،تحذيرّ
دائم من أن غضب اللهة وانتقامها قاد يصيب النسان في أي وقات من الوقاات.
ومن هنا يمكننا القول إن هدم السطورّة والشعرّ ل يكمن في التعبيرّ عن الشياء
العارّضة ،المنتهية في الزمان والمكان ،إوانما في التعبيرّ عن القيم الخالدة والنماذج
الكبرّى في حياة البشرّ ،وقاد أشارّ كارّل يونغ إلى هذه الفكرّة حين تحدث عن
الساطيرّ بوصفها أكثرّ نتاج البشرّية البدائية نضجاة وتعبي اةرّ عن هذه النماذج،
والشعرّ العظيم عنده يستمد قاوتهّ من حياة النوع البشرّي) ،(2تلك الحياة التي تبدو
بعيدة لكنها تختفي في ذات كل واحد منا ،تظهرّ من حين إلى آخرّ في أعمالنا
الدبية إوابداعاتنا الفنية بل وفي أحلمنا الليلية أيضةا.
ومعنى هذا أن كلة من الشاعرّ وصانع السطورّة يستمد خبرّاتهّ ورّموزه من
الحياة النفسية والفكرّية للنوع البشرّي .والمعرّوف عن هذه الحياة ـ كما يصفها علماء
النفس والنثرّوبولوجيا ـ أنها غنية بالصورّ والخيالت والرّموز ،وهي تضرّب في
أرّض خصبة ،عميقة الجذورّ والمتاهات والغوارّ .وبقدرّ ما يكون غوص الفنان في
هذه الغوارّ والمتاهات ،يكون أصيلة وقارّيباة من طبيعة الفن ،ومن طبيعة هذه
النماذج التي يعتبرّها نورّثرّوب فرّاي) (3أساس توحيد تجرّبتنا الدبية وتكاملها.
ومن الواضح أن الفنانين يتفاوتون في مقدارّ هذا الغوص ،فمنهم من يصل إلى
العماق ومنهم من يبقى على السطح ،كل على قادرّ موهبتهّ وعبقرّيتهّ بل واستعداده
للغوص .وقاد ل يكون النجاح حليفاة في كل مرّة ،فهناك من الفنانين من بلغ هذه
العماق في بعض أعمالهّ الفنية ،وخاب في بعضها الخرّ ،والعكس .لن ذلك
)( حول هذه الفكرة ينظر :ميسيا إيلياد :أسطورة العود البشدي ترجشة حسشيب كاسشوحة ،منششورات وزارة 3
الثقافآ ششة دمش ششق 1990ص 33وم ششا بع ششدها .م ششن بيش ش الفآك ششار ال ششت يطرحه ششا ه ششذا الك ششاتب أن البش ششر
يلجحششأون إلش تششأمي حيششاتم عششن طريششق تكشرار الفعششل اللششي التمثششل فش خلششق العششال والنسششان إذ ))بفضششل
تكشرار فآعششل اللششق الكششون يششري إسششقاط الزمششان الششادي الشواقعي ...فش الزمششان السششطوري ،فش ذلششك الزمششان
الذي فآيه حصل إنشاء العال .هكذا يري ضمان الواقعية وتأمي الديومة(( ص .38
)( حششول هششذه السششطورة ينظششر :فآ شراس الس شواح :مغششامرة العقششل الول ش دراسششة ف ش السششطورة .سششوريا .أرض 1
1985ص .206
)( ينظر :تشريح النقد ،ترجة مي الدين صبحي الدار العربية للكتاب 1991ص .145 3
- 35 -
مطلب عسيرّ يتطلب استعداداة رّوحياة ونفسياة خاصةا ،وهو ما ل يتوفرّ دائمةا .ولنا في
كبارّ الفنانين والشعرّاء الصوفيين والرّمزيين من أمثال محي الدين بن عرّبي وابن
الفارّض وأبو العلء المعرّي وبودليرّ )1821ـ (1867ورّامبو )1845ـ (1891
ومالرّميهّ )1842ـ (1898خيرّ مثال على ذلك.
يبدو أن التقارّب الشديد بين السطورّة والشعرّ من حيث اللغة والوظيفة ،كما
رّأينا سابقةا ،ناتج من الرّضية الواحدة أو المتشابهة التي ينطلق منها كل من الشعرّاء
ومبدع الساطيرّ ،فهما ))يعيشان في عالم واحد ،ولديهما موهبة أساسية واحدة هي
القدرّة على التشخيص ،ول يستطيعان أن يتأمل شيئاة دون أن يمنحاه حياة داخلية،
وشكلة إنسانيةا(() (1متمي ةزا ،وكأنهما ينفثان في الشياء من رّوحيهما فيهبونها القدرّة
على الفصاح عن نفسها .ونعتقد أنهّ بغيرّ هذا النفث أو البقية من السحرّ في
السطورّة والشعرّ ،فإنهما يكدفان عن أن يكونا فناة عظيمةا ،لن من طبيعة الفن
الصلية أن يكون فيهّ شيئاة من السحرّ إوال أصبح كلماة عاديةا .وبقدرّ ما يشع هذا
السحرّ في العمل الفني ،تكون عظمتهّ وقايمتهّ ،بل وتأثيرّه في النفوس والرّواح.
ورّبما هذا ما جعل بعضهم ،كما أشرّنا سابقةا ،يرّبط بين الفن والسحرّ رّبطاة قاويةا.
إن ما يرّبط الشاعرّ المعاصرّ بالساطيرّ والترّاث الشعبي القديم عمومةا ،هو
تلك السمات الفنية التي تتمتع بها هذه الساطيرّ ومنها القدرّة على التشخيص
والتمثيل ،ومنح الحياة للشياء الجامدة ،واستخدامها الظلل السحرّية للكلمات
والصورّ البيانية القادرّة على الحاطة والكشف ،أضف إلى ذلك ،هذه الطاقاة الخيالية
الجامحة القادرّة على ارّتياد عالم الطبيعة والنسان.
إلى جانب هذا فالسطورّة ))ضرّب من الشعرّ(() (2تبني الحقيقة التي تعلن
عنها بطرّيقتها الخاصة التي هي فوق مستوى التعبيرّ اللغوي المعتاد على حد تعبيرّ
كلود ليفي سترّاوس) (3فهي ،بعبارّة أوضح ،ذات طبيعة لغوية خاصة ل نجدها في
تعبيرّ لغوي آخرّ ،سوى الشعرّ ،وأعني التعبيرّ المجازي عن الحياة والوجود .فهذه
المجازية في الرّؤية والتعبيرّ هي القاسم المشترّك بين السطورّة والشعرّ.
)( أرنست كاسشير :فآلسشفة الضارة النسشانية أو مقال فش النسشان ،ترجشة إحسان عبشاس ،دار النشدلس 1
،1995ص .230
- 36 -
وهذا شبيهّ بما أشارّ إليهّ إرّنست كاسيرّرّ 1874) Ernst Cassirerـ (1945
حينما رّأى أن السطورّة تتضمن عنص اةرّ من الخلق وهي ذات قارّابة وثيقة بالشعرّ،
لكونهما شكلة رّمزياة أصليةا ،وهي ليست لغة استطرّادية كثيفة التصويرّ ،كما قاد
يتبادرّ إلى بعض الذهان ،بل هي أشبهّ بلغة الحلم عند فرّويد) .(1ويذهب كاسيرّرّ
إلى أبعد من ذلك حينما يتبنى الرّأي القائل بأن الشعرّ الحديث تحدرّ من السطورّة
بعد عمليات من التطورّ البطيء ،وأن عقل الشاعرّ ما يزال أساساة عقل صانع
للساطيرّ).(2
قاد ينطبق هذا الفترّاض على القصائد والملحم الشعرّية القديمة ،العرّبية منها
أو الجنبية ،لكنهّ ل ينطبق على الشعرّ كلهّ .ومن ثم فالمسألة ليست مسألة تطورّ أو
انتقال من منهج عقلي إلى منهج رّمزي ،كما يعتقد البعض) ،(3بقدرّ ما هي مسألة
إبداع وطبيعة ،فالتشابهّ الحاصل بين الشعرّ والسطورّة يعود ،في رّأينا ،إلى الطبيعة
ل.
الواحدة التي تجمع بينهما لغة وخيا ة
فعلى مستوى اللغة نجد كل منهما يعتمد على تلك اللغة التصويرّية المجنحة
التي توحي بالحقيقة ول تقبض عليها .وهي لغة الشعورّ أو الذات في إحساسها
بالشياء على نحو غامض .أما الخيال ،فهو أداة التشكيل الولى فيهما ،ومكتشف
الوسائل الفنية لتجسيد الفكارّ والمشاعرّ من صورّ ولغة ورّموز إوايقاعات ،ويصوغ
التجرّبة النفسية في إطارّها الخاص وشكلها الملئم.
وانطلقااة من هذا التصورّ الجديد لعلقاة الشعرّ بالسطورّة يمكننا القول إن
السطورّة بطبيعتها تلك وبواعثها ومكوناتها ،رّؤى شعرّية عميقة ،وصل بها النسان
الول إلى التعبيرّ عن أفكارّه ومشاعرّه .ولهذا نجد في كثيرّ من الحيان ))أن
الموقاف السطورّي في صميمهّ موقاف شعرّي(() (4درّامي ،لنهّ موقاف صرّاع دائم
)( ينظر :ك .ك .راثقي :السطورة ،ترجة جعفر صادق الليلي ص .122 1
)( ينظششر :أرنسششت كاسششير :فآلسششفة الضششارة النسششانية أو مقششال ف ش النسششان ،ترجششة إحسششان عبششاس ص 2
.145لقراءة هذه الشكال )السطورة ،الششعر ،الشدين ،اللغششة( يقشتح علينشا كاسشير ))فآلسشفة الششكال
الرمزية(( الت هشي برأيشه ل تلغشي القشراءات السشابقة ولكنهشا تكملهشا ،وتبقشي الهأيشة الساسشية للوظيفشة الشت
تقوم با الشكال الرمزية.
)( ينظششر :عششز الششدين إسششاعيل :الشششعر العربش العاصششر )قضششاياه وظشواهره الفنيششة والعنويششة( دار العششودة بيوت 3
- 37 -
بين الخيرّ والشرّ .وهذا الصرّاع في حقيقة المرّ هو جوهرّ كل فن عظيم.
ليست السطورّة وهماة أو خيالة ل معنى لهّ ،كما قاد يعتقد البعض ،بل هي
منطوق النفس النسانية ،مثلها مثل الشعرّ ،تنشأ من حاجات إنسانية ورّوحية ،تتخذ
من اليحاء والرّمز بنية لها ،وتجنح كالشعرّ ،إلى أن تخلع على التجرّبة نوعاة من
السحرّ والرّهبة.
ورّبما لهذا السبب قاال شليكل ))السطورّة والشعرّ شيء واحد ل انفصال
بينهما(() ،(1فهما ينبعان من مصدرّ واحد )الذات( ،وينتسبان إلى أسرّة رّمزية واحدة
هي التكوين الرّمزي واللغة الرّمزية ،ويؤديان وظيفة واحدة هي التطهيرّ الرّوحي
والتعبيرّ عن مكنونات النفس .ومن هنا كانت حياة ومصيرّ كل منهما متعلقة
بالخرّ)) ،فالسطورّة أساس ل غنى للشعرّ عنهّ ...والشعرّ أساس ل غنى للسطورّة
عنهّ(() ،(2ووجود أحدهما يعني حتماة وجود الخرّ والعكس صحيح.
ويبدو أن الذين ل يفرّقاون بين الشعرّ والسطورّة ،من أمثال :شليكل ومارّك
شورّرّ إوايرّيك فرّوم ،ينطلقون من تصورّ فلسفي أساسهّ أن السطورّة أم الفنون
ومصدرّها الخصيب ،وهو تصورّ صحيح ،لكنهّ غيرّ عام ،بمعنى أنهّ ينطبق على
الفنون القديمة بما في ذلك الشعرّ ،لكون هذه الفنون ،كما سبق وأن أشرّنا ،كانت عند
نشأتها ذات صلة قاوية بالساطيرّ والمعتقدات السحرّية .لكن هذه الفنون سرّعان ما
انفصلت عن السطورّة ،كما انفصلت هذه الخيرّة بدورّها عن الدين ،بسبب تطورّ
المجتمعات البشرّية وتحضرّها .غيرّ أن هذه الفنون ،والشعرّ منها على وجهّ
الخصوص ،ظل يحتفظ بهذه العلقاة فيحدن إلى السطورّة من حين إلى آخرّ ،كلما
شعرّ بطغيان المادة وتدهورّ العلقاات على نحو ما نجد في شعرّنا العرّبي المعاصرّ
وغيرّه من أشعارّ المم والحضارّات.
أما الذين يفرّقاون بينهما ـ هرّبرّت رّيد على سبيل المثال ـ فهم ينطلقون من
تصورّ آخرّ مفاده أن ))السطورّة تحيا بالمجاز ،وهذا يمكن إيصالهّ بالرّموز اللفظية
لية لغة ...إل أن الشعرّ يحيا بفضل لغتهّ ،فجوهرّه مرّتبط بتلك اللغة ول يمكن
ترّجمتهّ(() .(3وعلى الرّغم مما في هذا الكلم من صحة ،إل أنهّ يفتقرّ إلى الدقاة في
فهم طبيعة العلقاة بين الشعرّ والسطورّة من حيث التعبيرّ اللغوي .فهو صحيح إذا
)( ينظر :ك .ك .راثقي :السطورة ،ترجة جعفر صادق الليلي ص .93 1
)( ينظر :ك .ك .راثقي :السطورة ،ترجة جعفر صادق الليلي ص .93 2
)( ينظر :ك .ك .راثقي :السطورة ،ترجة جعفر صادق الليلي ص .96 3
- 38 -
نظرّنا إلى السطورّة على أنها مرّض من أمرّاض اللغة كما سماه ماكس موللرّ)،(1
ونظرّنا إلى المجاز على أنهّ افتقارّ اللغة إلى القدرّة على إيجاد المعنى ،أما إذا نظرّنا
إلى المجاز على أنهّ الصل في التعبيرّ الشعرّي والسطورّي على حد سواء ،فإننا
سندرّك أن العلقاة بين الشعرّ والسطورّة علقاتهّ متينة وقاوية تكشف عنها المجازات
والرّموز المستخدمة فيهما.
وعلى الرّغم من هذا الخلف بين الباحثين حول علقاة السطورّة بالدب بعامة
والشعرّ بخاصة ،فإن النتيجة التي انتهى إليها أغلب هؤلء تكمن في أن السطورّة
تلتقي مع الشعرّ والحلم في كونها المفتاح الوحيد المتبقي في حضارّتنا الذي من
شأنهّ أن يميط اللثام عن أسرّارّ اللغة الرّمزية ،تلك اللغة التي ما لبثت أن نسيتها
البشرّية قابل أن تتمكن من الرّتقاء بها إلى حيز الكلم الصطلحي الجامع على حد
تعبيرّ إرّيك فرّوم) .(2لكن هذا النسيان ل يعني استحالة قارّاءة الساطيرّ ،فهناك العديد
من المحاولت) (3التي استطاعت أن تلج إلى بحرّ هذه اللغة وتكشف عن أسرّارّها،
بفضل علم اللغة المقارّن وعلم النفس اللغوي واللسانيات والنثرّوبولوجيا اللغوية وغيرّها
من العلوم اللغوية والنسانية الخرّى.
)( ينظششر :يششوري سششوكولوق :الفولكلششور قضششاياه وتششاريه ،ترجششة حلمششي شششعراوي وعبششد الميششد حشواس اليئششة 1
)( مششن هششؤملء نششذكر :نصششرت عبششد الرحششن :الصششورة الفنيششة ف ش الشششعر الششاهلي .وعلششي البطششل :الصششورة ف ش 4
- 39 -
الشعبية طوال عصورّه(() (1المختلفة ،من هذه الطوابع ما ذكرّه كارّل برّوكلمان) (2عن
وظائف الشعرّ وكيف أنهّ كان ينشد لغرّاض سحرّية تساعد على تحمل مشاق
العمل )الجني ،الصيد( .ولم يكن شعرّ الرّجز بعيداة عن تلك الغرّاض والممارّسات
)(3
المرّتبطة بالدعية والتعاويذ .وليس بعيداة عن هذا الفترّاض ،ما ذكرّه علي البطل
حول بداية الشعرّ العرّبي وصلتهّ بالساطيرّ والطقوس معتمداة على خبرّ أورّده ابن
الكلبي مفاده أن قابيلة )عك( كانت تلبيتها إذا خرّج أفرّادها حجاجاة تتمثل في تقديم
غلمين أسودين من غلمانها ليكونا أمام الرّكب فيقولن:
نحن غرابا عك ،فتقول عك من بعدهما:
)(4
عك إليك عانية ـ عبادك اليمانية ـ كيما نحج ثانية
)(5
ويعلق علي البطل على هذا الخبرّ ذي الوظيفة السحرّية بقولهّ ))المهم أننا
نجد في هذه الشعيرّة الطقوسية آثا اةرّ شعرّية في تلبية عك ،وهي ثلث شطرّات من
الرّجز الذي تتجهّ إليهّ أنظارّ الباحثين رّائين فيهّ البداية الولى للشعرّ العرّبي(()،(6
وبالخصوص أن هذه الشطرّ جاءت موزونة ،متساوية ،مسجوعة ،منسجمة في
ألفاظها وحرّوفها ،مما يجعلها أقارّب إلى سجع الكهان الذي هو أصل الكلم الشعرّي
فيما يعتقد .وللكشف أكثرّ عن هذه الجذورّ نعرّض لغرّضي الرّثاء والهجاء بوصفهما
أقادم الغرّاض الشعرّية ارّتباطاة بالممارّسات السحرّية والشعبية.
)( شوقي ضيف :الشعر وطوابعه الشعبية على مرر العصور ،دار العارف مصر ط ،1984 ،2ص .6 1
)( ينظر كتابه :تاريخ الدب العربش ،ترجشة عبشد الليشم النجحشار دار العارف مصر ط /1 ،1959 ،4ش 2
.45
)( ينظششر كتششابه :الصششورة فش الشششعر العربش حششت آخششر القششرن الثششان الجحششري دراسششة فش أصششولا وتطورهششا ،دار 3
)( يبششدو أن هششذه القبيلششة كششانت تعتقششد أن هششذين الغلميش سششوف يملن السششوء عنهششا ،ومششا صششياحهما إل 5
للفششت أنظششار الرواح الش شريرة إليهمششا بششدل القبيلششة .بعن ش أن وظيفششة هششذا الطقششس كششانت وظيفششة سششحرية
تطهيية.
)( الصورة ف الشعر العرب حت آخر القرن الثان الجحري دراسة ف أصولا وتطورها ،ص .51 6
- 40 -
نهد التليل لصعب المر رككابا يهدي الرعيل إذا ضاق السبيل بهم
والصدق حوزته ،إن قرنه هابا المجد حلته ،والجود عكلته
إن هاب معضلة سكنى لها بابا طاب محفلة ،فراج مظلمة
خك
لبا
شهاد أندية ،للوتر ط ك حمال ألوية ،قطاع أودية
)(1
لقى الوغى لم يكن للموت هيابا سكم العداة ،وفكاك العناة ،إذا
يمكن للدارّس أن يلحظ في هذا المقطع شيئين أساسيين:
أولل :ابتعاد الشاعرّة عن الصوات الصاخبة والمتنافرّة واعتمادها على الحرّوف
المهموسة ،المتقارّبة والصوات المتماثلة ،وأيضاة اعتمادها على التكرّارّ
والحوارّ وقاوة التخييل العاطفي ،وهي السمات نفسها التي تميز الشعرّ
الشعبي في مجال العديد والرّثاء).(2
ثانيال :اعتماد الخنساء على الجمل القصيرّة والتقسيم المتساوي أو المتجانس
مما يساعد على ترّديد الصوت في تكرّارّ بطيء ،وكأن الشاعرّة كانت
تهذي بقصائدها زمناة قابل أن ترّويها شع ةرّا.
وما يقال عن الخنساء يقال أيضاة عن المهلهل في رّثاء أخيهّ ،وابنة عم النعمان
بن بشيرّ في رّثاء زوجها ،مما يدل على أن أشعارّهم أو على القال بعض قاصائدهم
أعدت خصيصاة لطقوس الموت كالنواح والدتفدجع وغيرّهما مما يندرّج ضمن
الحتفالت الجنائزية التي كانت تقوم على الرّاجيز ذات الموضوعات الشعبية التي
يناح بها على القتلى والموتى بهدف طمأنتهم في قابورّهم إوابعاد الرّواح الشرّيرّة
عنهم) .(3فالنياحة والبكاء وحلق الشعرّ وغيرّها من الطقوس التي أشارّ إليها شعرّ
الرّثاء في مواطن كثيرّة ،كفكرّة الثأرّ والخلود والنتقال من مكان إلى آخرّ ،كلها
معتقدات ورّموز لبقايا أساطيرّ شعبية عرّفها العرّب في جاهليتهم.
)( النساء :الديوان ش دار بيوت للطباعة والنشر ش بيوت ش 1986ش ص .8 1
)( حول خصائص قصيدة العديشد ينظشر :عبشد الليشم حفنش :الراثشي الششعبية )العديشد( اليئشة الصشرية العامشة 2
- 41 -
ب -الهجاء وطقوس السحر:
وفي الهجاء مثال آخرّ عن علقاة الشعرّ بالترّاث الشعبي ،وهذه المرّة
بالممارّسات السحرّية على وجهّ الخصوص ،فقد ذهب بعضهم) (1إلى القول بأن
الهجاء بدأ طقساة سحرّياة وممارّسة قاائمة بذاتها يرّاد بها إلحاق الذى والضرّرّ بالعدو،
مستدلين على ذلك بأخبارّ كثيرّة منها ما ذكرّه الشرّيف المرّتضي في أماليهّ من أن
الشاعرّ كان إذا أرّاد الهجاء لبس حلة وحلق شعرّ رّأسهّ إل ذؤابتين ،ودهن أحد شقي
رّأسهّ ،وانتعل نعلة واحدة) ،(2كما فعل لبيد بن رّبيعة عندما أرّاد أن يتصدى لموقاف
الرّبيع بن زياد حين أوغرّ صدرّ النعمان على بني عامرّ.
وقاد قايل إن حسان بن ثابت كان يخضب شارّبهّ بالحناء حتى تتخذ لون الدم)،(3
اعتقاداة منهّ أن هذا اللون يضاعف من قادرّة الرّجل على الهجاء وبالتالي إصابة
الهدف ،وهو اعتقاد قاديم كانت تلجأ إليهّ الجماعات الفرّيقية حينما تعمد إلى تلوين
أجسادها بالخطوط والشكال المختلفة حين خرّوجها إلى الصيد أو مواجهة العداء.
كل هذا يدفعنا إلى العتقاد بأن الهجاء كان ضرّباة من ضرّوب السحرّ
)(4
التشاكلي الذي تحدث عنهّ سيرّ جيمس فرّايزرّ
الذي يهدف إلى إحداث أثرّ الشعيرّة بجزأيها
العملي والقولي في التأثيرّ على الخرّ .يقول عبيد بن البرص:
)(5
خضعت لها ،فالقلب منها جريض صقعتك بالغر الوابد صقعة
لو تأملنا قاليلة هذا البيت لوجدناه يرّتكز على معتقد سحرّي قاديم يعطي للكلمة
الصدارّة الولى بوصفها القوة التي يستطيع بها النسان أن يقهرّ عددوه ،لن الكلمة
عند البدائيين ل تعني القول فقط ،إوانما الفعل أيضةا ،وبعبارّة أخرّى فإن الكلمات عند
)(6
هؤلء ل تصف الشياء فحسب ،إوانما تحاول إحداث أثرّ فيها لنها ترّتبط ارّتباطاة
وثيقاة بجوهرّ الشياء والمخلوقاات التي تعبرّ عنها .فالشاعرّ هنا صقع عددوه بالكلمة،
)( مششن هششؤملء نششذكر :كششارل بروكلمششان :تاريششخ الدب العربشش ،ترجششة :عبششد الليششم النجحششار /1ش ،46علششي 1
البطل :الصورة ف الشعر العرب حت آخر القرن الثان الجحري دراسة ف أصولا وتطورها ص .192
)( ينظر :علي البطل :الصورة ف الشعر العرب حت آخر القرن الثان الجحري دراسشة فش أصشولا وتطورهشا، 2
ص .193
)( ينظر أبو الفرج الصفهان :الغان ش تح :لنة من الدباء ش دار الثقافآة ش بيوت ش .140 /4 3
)( ينظششر :الغصششن الششذهب )دراسششة ف ش الششدين والسششحر( ترجششة أحششد أبششو زيششد اليئششة الص شرية العامششة للتششأليف 4
)( ينظر :إرنست كاسير :الدولة والسطورة ،ترجة أحد حشدي ممشود اليئشة الصشرية العامشة 1975ص 6
.373
- 42 -
لن الوابد ،الوارّدة في البيت تعني الكلمات أو القصائد ،فكانت النتيجة خضوع
العدو وتقهقرّه أمامها .ورّبما لهذه السباب وصفت قاصيدة الهجاء بأنها قاصيدة
غرّيبة) (1يخاف منها الجميع.
قاد يطول الحديث إن نحن تتبعنا كل الغرّاض الشعرّية وكشفنا عن علقاتها
بجانب من جوانب الثقافة الشعبية أو بالحرّى الحياة الشعبية البسيطة بمعتقداتها
وتصورّاتها .ويكفي هنا أن نشيرّ إلى ما كتبهّ شوقاي ضيف حول هذه العلقاات
وكيف أن الشعرّ العرّبي ظل على مدرّ العصورّ يحمل طوابع شعبية قاديمة وحديثة،
وأنهّ عما قارّيب ))ستتم للشعرّ الفصيح طوابعهّ الشعبية وتتكامل ،ول يعود يشعرّ
بمزاحم لـهّ من الشعرّ العامي(() ،(2ويبدو أن الهتمام المتزايد من طرّف الشعرّاء
المعاصرّين بالترّاث الشعبي بمختلف أنواعهّ وأشكالهّ ،هو الذي أوحى للكاتب بمثل
هذا العتقاد.
قاد ل نكون مخطئين إن قالنا إن الشيء الذي نمى هذا العتقاد سواء عند شوقاي
أو غيرّه ،هو تلك الدعوات التي كان يدعو إليها بعض أنصارّ الحداثة وحاملو لواء
التجديد في الشعرّ ـ وعلى رّأسهم يوسف الخال ـ حين دعوا إلى ضرّورّة النفتاح على
الثقافة الشعبية واللغة اليومية بوصفها ثقافة حدية قاادرّة على التعبيرّ عن هموم
النسان المعاصرّ.
أضف إلى ذلك ما كتبهّ بعض المنظرّين للشعرّ المعاصرّ من أنهّ ))ليس ظاهرّة
شاذة معزولة تحتكرّها طبقة من الناس تترّفع على سائرّ الناس وتنقطع عنهم فتتخذ
ما يحلو لها من لغة تامة الصطناع ،تامة النبتارّ عن لغة البشرّ العاديين(() (3فمما
ل شك فيهّ أن مثل هذه التصرّيحات هي التي شجعت على تبني هذا العتقاد والقول
بأن الشعرّ المعاصرّ سيحتل مزيداة من مكانة الشعرّ العامي بتخليهّ عن لغتهّ واقاترّابهّ
من لغة الحديث اليومي.
لكننا ل نعتقد أن الشعرّ الفصيح سيتخلى نهائياة عن مكانتهّ ،في يوم ما ،للشعرّ
الشعبي ،لن للفصيح أنصارّه وتارّيخهّ ،كما أن للعامي أنصارّه وتارّيخهّ أيضةا ،لكن
هذا ل يمنع من تأثرّ أحدهما بالخرّ أو العكس ،كما حصل في العصورّ السابقة،
والمقصود بالتأثرّ هنا ،عملية التوظيف ،أي أن يستخدم أحد الشاعرّين عناصرّ
)( ينظر :عباس بيومي عجحلن :الجحاء الاهلي صوره وأساليبه الفنية ص .136 1
)( شوقي ضيف :الشعر وطوابعه الشعبية على مرر العصور ص .243 2
)( ممششد النششويهي :قضششية الشششعر الديششد ش نقلل عششن يوسششف الشال ش نششو شششكل جديششد لششعر عربش جديششد ش 3
- 43 -
)صورّة ،فكرّة ،رّمز( من الخرّ أو العكس مما يخدم شعرّه وأفكارّه .ويبقى الفرّق
بينهما يكمن في أيهما كان بارّعاة في عملية التوظيف والستخدام .لن جودة الشعرّ
وجمالهّ ،سواء كان فصيحاة أم شعبيةا ،من هذه الناحية بالذات ،تتوقاف على حسن
توظيف الخرّ توظيفاة فنياة بارّعةا.
ومن الدلة الخرّى عن علقاة الشعرّ بالمورّوث الشعبي ما ذكرّ عن عملية
البداع الشعرّي من أساطيرّ وحكايات وقاصص عجيبة سواء عند العرّب قاديماة أو
غيرّهم من المم والحضارّات ،فالغموض الذي أحاط بهذه العملية ،جعل العرّب
يحيطونها بجملة من التصورّات الميتافيزيقية حيث أنزلوا الشاعرّ منزلة كهنوتية
فأخرّجوه من دائرّة عالم النس إلى عالم الجن ،فهم ))يزعمون أن كلب الجن هم
)(1
الشعرّاء(( ،وأن لكل شاعرّ جن أو شيطان يوحي إليهّ الشعرّ ويقولهّ على لسانهّ ،يقول امرّؤ القيس:
)(2
شئت من شعرهن اصطفيت تخيرني الجن أشعارها فما
فالجن هي الموحي والمؤثرّ في عملية البداع ،وحضورّ الشاعرّ هو كحضورّ
الجن باعتبارّ أن هذا الخيرّ بمثابة القرّين الذي يلزم الشاعرّ ول يبارّحهّ ،أو قال هو
الذات الشاعرّة متلبسة بالشاعرّ) .(3والغرّيب أن الشعرّاء أنفسهم تبدنوا هذه الفكارّ
واعتقدوا أن هناك قاوة عجيبة خفية ترّافقهم وتعينهم على قاول ما يتعذرّ على غيرّهم
من سائرّ الناس ،وهي رّوح تختارّهم من بين أترّابهم ،تعطف عليهم وتلهمهم رّائع
الكلم في قاالب موزون مقفى) ،(4وأن هذه الرّواح )الجن( تسكن بواد يسمى )عبقرّ(
ـ أقاام عبقرّ في المجتمع الجاهلي مقام الولمب في المجتمع اليوناني ـ فجعلوه مصد اةرّ
لجمل الشعارّ وأرّدئها ،فنسبوا الجيد منها إلى جني يسمى )الهوبرّ( ،وخصوا
الرّديء بآخرّ يسمى )الهوجل( ،ووصفوا الشاعرّ بالكاهن والساحرّ لن كلهما يتلقى
الوحي من الجن والشياطين ،وكلهما يمتهن لغة السرّارّ والرّموز.
بل الشاعرّ عندهم أقاوى تأثي اةرّ وأوسع مجالة من الكاهن ،فإذا كان تأثيرّ هذا
الخيرّ ل يتعدى دائرّة المعبد وطقوسهّ ،فإن تأثيرّ الشاعرّ يشمل القبيلة كلها بل قاد
يتعداها إلى غيرّها فيتسامع بهّ الناس في كل مكان .ومن هنا كان الحتفال بهّ عند
)( الششاحظ )أبششو عثمششان عمششرو بششن بششر( :الي شوان ،تقيششق عبششد السششلم ممششد هششارون دار اليششل ،بيوت 1
.183
)( ينظر :ناد توفآيق نعمة :الن ف الدب العرب ،بيوت 1961ص .150 3
)( ينظر :ناد توفآيق نعمة :الن ف الدب العرب ص .149 4
- 44 -
القبائل الجاهلية أقاوى وأعظم من الحتفال بالساحرّ أو الكاهن) .(1ومهما ذكرّنا عن
علقاة الشعرّ بالمأثورّ الشعبي عمومةا ،وعلقاة الشاعرّ بالساحرّ أو الكاهن ،وهي
علقاة وطيدة ومتينة تشترّك فيها جميع الداب ،كما أوضحنا سابقةا ،فإن القصيدة
العرّبية عند الجاهلي كانت شبيهة بتميمة الساحرّ وطقوس العابد ،يصدرّها بدوافع
رّوحية وفكرّية ،قااصداة بها إصلح الخلل ،حماية لحياتهّ وحياة عشيرّتهّ.
وعلى الرّغم مما ذكرّه بعض المحدثين المهتدمين بالنص الشعرّي العرّبي القديم
حول علقاة الشاعرّ الجاهلي بالجن والتي يقولون فيها بأن ))صورّة الجن التي
التبست بذات الشاعرّ الجاهلي ،يستدعي أمرّها ذكرّ نوبة الختلل وعدم التزان
التي تعترّي المبدع في جو من النفعال الشديد الذي يرّنو إلى كوة التزان والتطهيرّ،
ذلك أن عالم النفعال يكون شبيهاة بعالم الحلم أو عوالم الجنون(() ،(2فإن هذا ل ينفي
مثل هذه العتقادات وبالخصوص إذا علمنا أن العقلية البدائية تدعو إلى العتقاد
بأن العالم الذي يحيط بها عبارّة عن لغة تستعملها الرّواح والجن في مخاطبة بعض
العقول) ،(3أضف إلى ذلك أن الثقافة تلك المرّحلة كانت تستلزم مثل هذا العتقاد،
لنها ثقافة قاائمة على التصورّات الغيبية والطقوس الشعبية ،إوال كيف نفسرّ إيمان
الشعرّاء أنفسهم بهذه الفكارّ.
فعلقاة الشاعرّ بالجن ،والشعرّ بالسحرّ وغيرّه من الفنون والشكال القولية
الشعبية ،علقاة يكشف عنها الذهن القديم بكل ما يحملهّ من رّواسب وأفكارّ وخيالت
ورّؤى وترّاكمات مثيودينية مختلفة.
لم يكن هذا العتقاد مقتص اةرّ على العرّب وحدهم ،ففي اليونان كان الشعرّاء
يتوسلون لرّبات الشعرّ وآلهة الفنون musesليتلقوا منها الوحي ،وكانوا يستهلون
قاصائدهم بعبارّة ))غني غني رّبات الشعرّ(() (4معترّفين بأنهم ليسوا أكثرّ من وسطاء
وأن كلماتهم ليست سوى كلمات هذه اللهة .وقاد ازداد هذا العتقاد اتساعاة عندما
)( ينظر :ممود شكري اللوسي :بلوغ الرب ف معرفآة أحوال العشرب ،دار الكتشاب العربش مصر ط ،3 1
.84 /3
)( حول علقة الشن بالبشداع الششعري ينظشر :اسشطنبول ناصشر :تشداعي الشوعي فش الشعر الاهلي ،مطشوط 2
رسالة ماجستي ،معهد اللغة والدب العرب جامعة وهران 1985ش 1986ص .150
)( ينظر :ليفي بريل :العقلية البدائية ،ترجة ممد القصاص مكتبة مصر ،د .ت ص .52 3
)( بششذه العبششارة أو مثلهششا كششانت تبششدأ معظششم قصششائد الشششعر الغنششائي ،ومنهششا الليششاذة والدويسششة لششوميوس. 4
حول هذه الربات أو اللة وعلقتها بالشعراء ينظر :أحشد عثمشان :الششعر الغريقشي تراثشال إنسشانيال وعاليشلا،
سلسلة كتب عال العرفآة الكويت ع 1984 ،77ص 57وما بعدها.
- 45 -
ساد الظن بأن الشعرّاء هم أبناء هذه اللهة).(1
تذكرّنا عبارّة )غني غني رّبات الشعرّ( بكثيرّ من مطالع الشعرّ الشعبي
الجزائرّي) (2التي تبدأ بذكرّ اسم ال والرّسول ،كقولهم)) :بسم ال نبدأ هذا العنوان((
))) ،(3باسم ال نبدأ هذوا الشعارّ ...بجاه النبي شفيع المذنبين(())) ،(4بسم ال
أبديت كلمي بالتعبيرّ .(5)((...وهي مطالع ضرّورّية كتلك التي ألفناها في الشعرّ
الجاهلي ،لنها أشبهّ ما تكون بالطقس الذي ل يستقيم الشعرّ بدونهّ.
والغرّيب أن هذا العتقاد ظل سائداة إلى عصرّنا الحديث عند بعض الشعرّاء،
فقد اعتقد مالرّميهّ أن اللهة هي التي توحي لنا بالبيات الولى من القصيدة ،أما
البقية فينبغي أن نعتمد فيها على أنفسنا) .(6وشبيهّ بهذا التصورّ ما ذكرّه شلي من أن
الشعرّ ليس قاوة خاضعة لحكام الرّادة ،إوانما لقوة خفية).(7
ومهما ذكرّنا من هذه التصورّات ،فإن الفضل يعزى إلى الرّومانتيكية في إحيائها
وترّسيخها في أذهان الشعرّاء والمبدعين بسبب ما اتصفت بهّ من أفكارّ غامضة
وخيالت واسعة وأحلم مجهولة .فقد حاول أنصارّ هذا المذهب الكشف عن طبيعة
عملية البداع الفني ،فرّبطوا بين الشعرّ والسطورّة من جهة ،وبين الخيال والحلم
من جهة أخرّى ،واعتبرّوا السطورّة والحلم منشأ الشعرّ ومهده الذي يترّعرّع فيهّ،
فالحلم عندهم كالشعرّ تنتزعنا من حياة العزلة وتصلنا بالعماق النفسية وترّبطنا
)( قيششل عششن هششوميوس أنششه ابششن بوسششيدون إلششه البحششر مششرة ،وابششن أبولششو إلششه الشششعر مششرة أخششرى ،وقيششل أن أمششه 1
كانت حورية من حوريات الاء ينظر :أحد كمال زكي :الساطي ص .119
)( ينظششر :ابششن مسششايب :الششديوان ،إعششداد :الفنششاوي أمق شران السششحنون وأسششاء سششيفاوي ،الؤمسسششة الوطنيششة 2
للكتاب الزائر 1989ص .74 ،71 ،29وأيضال التلي بن الششيخ :دور الششعر الششعب الزائشري فش
الثورة الؤمسسة الوطنية للكتاب ش الزائر ش ص.494 ،320 :
)( أحد حدي :ديوان الشعر الشعب )شعر الثورة السلحة( منششورات التحشف الشوطن للمجحاهشد 1994 3
ص ،102والقصششيدة بعن شوان )علششى الزائششر ذقششت الغب ششان( للشششاعر قيششوس اليلل ش الول ششود بتاريششخ 9
سبتمب 1930بوادي الي بستغان الزائر.
)( أحد حدي :ديوان الشعر الشعب )شعر الثورة السلحة( ص .105 4
)( أحد حدي :ديوان الشعر الشعب )ششعر الثشورة السشلحة( ص 111مشن قصشيدة )معركشة جبشل مارقشة( 5
للشاعر ممد شبية الولود بتاريخ 14أكتوبر 1927بالسيلة الزائر ،والت نظمها سنة .1957
)( ينظششر :نششور ثششروب فآ شراي :تش شريح النقششد ،ترجششة مششي الششدين صششبحي الششدار العربيششة للكتششاب 1991ص 6
- 46 -
برّوابط خفية مع مصيرّنا البدي) .(1وبهذا أعاد هؤلء النصارّ إلى حقل الشعرّ
والذاكرّة ،العديد من الفكارّ والتصورّات القديمة التي سوف ينشأ في أحضانها الشعرّ
المعاصرّ.
في ظل هذا التصورّ المتميز بالغموض والغرّاق في الذاتية ظهرّت القصيدة
المعاصرّة وهي تشق طرّيقها إلى أعماق النفس من خلل لغة الرّموز والساطيرّ
والحلم التي وصفت بأنها المنافذ المطلة بالنسان على عوالم البداية والخلود.
فأصبحت للكلمة الشعرّية على لسان الشاعرّ المعاصرّ مكانة عالية ل تختلف عن
المكانة التي كانت لها عند النسان )الشاعرّ( الول ،ل يدرّي كنهها وتأثيرّها إل
أولئك الذين اكتووا بنارّها:
ولنك ل تدري معنى اللفاظ ،فأنت تناجزني باللفاظ
اللفظ حجر
)(2
اللفظ منية
أما الرّؤيا الشعرّية فقد أصبحت هي الخرّى ))تتكون بفعل عملية سحرّية غرّيبة
عن قاواعد المنطق(() (3والمألوف ،أو كما قاال أدونيس ))قافزة خارّج المفهومات
السائدة(() ،(4فهي أقارّب إلى منطق الحلم والنبوءة .ونتيجة لذلك وصف الشعرّ بأنهّ
كالسحرّ) (5أو الممارّسة الميتافيزيقية التي تضرّب صوب الخارّق والفائق.
كل هذا ،يجعلنا نذهب إلى القول إن القصيدة المعاصرّة أصبحت تنحدرّ لحظة
تشكلها ونهوضها ،من الرّحاب ذاتها التي كانت تنحدرّ منها المعتقدات والساطيرّ،
وأصبحت نظرّة الشاعرّ المعاصرّ كنظرّة النسان الول حينما كان يخاطب الشياء
وكأنها أرّواح تسمع وتستجيب لندائهّ ودعائهّ ،يقول أدونيس:
لو أنني أعرف أن أكلم الشياء..
وقلت للشياء والفصول
تواصلي كهذه الجواء
)( ينظر :ممد غنيمي هلل :الرومانتيكية دار العودة بيوت 1973ص 99ش .100 1
)( صلح عبد الصبور :الديوان دار العودة بيوت ط ،1983 ،4ص .265 2
)( الس ششعيد ال ششورقي :لغ ششة الش ششعر العربش ش ال ششديث مقرومات ششا الفني ششة وطاقات ششا البداعي ششة ،دار النهض ششة العربي ششة 3
- 47 -
مدي لي الفرات
)(1
خكليه ماء دافقال أخضر كالزيتون
يتمنى الشاعرّ لو أنهّ يعرّف كيف يكلم الشياء ،كما كان يكلمها أسلفهّ،
ليتمدكن من الغوص في أعماقاها فيشعرّ بأنهّ جزء منها ،أو من هذا العالم الغرّيب
لنسان وزنةا .إن عجز الشاعرّ عن تكليم الشياء والتواصل الذي أصبح ل يقيم ل ل
معها ،يفسرّ عمق الهوة التي تفصلنا عن الكون من جهة ،وعن المجتمع والخرّين
من جهة ثانية ،كما أنهّ يكشف غرّبة الشاعرّ المعاصرّ ووحدتهّ .وهذا القصورّ في
التواصل مع الشياء أو العالم بصورّة عامة ،سببهّ الفقرّ الرّوحي الذي أصاب
حضارّة القرّن العشرّين من جرّاء طغيان المادة وترّاجع القيم.
ورّبما خيرّ مثال نقدمهّ على هذا الفقرّ قاصيدة )البئرّ المهجورّة( ليوسف الخال
التي هي محاولة بحث عن انبعاث رّوحي يخلص النفس من عمقها ومأساتها،
فالرّض صحرّاء قااحلة بل هي كالجثة الهامدة التي ل حياة فيها ،والبشرّ عليها
عطاش أو كالموتى ل يدرّون ما يصنعون ،والبئرّ من حولهم تفيض بالمياه ،لكن من
ذا الذي يلتفت إليها ،أو على القال يرّمي فيها بحجرّ:
عرفت إبراهيم ،جاري العزيز ،من زمان.
عرفته بئ ارل يفيض ماؤها
وسائر البشر
تمكر ل تشرب منها ،ل ول
)(2
ترمي بها ،ترمي بها حجر
وتزداد مأساة الشاعرّ عندما ينظرّ إلى الطرّيق فل يرّى إل الشباح السوداء:
وفي الطريق ألف شبح وشبح،
وهاهي الوجوه خزف ،قماقم
والخاتم اللبيك صدئ،
والبسط الريح استحالت طائرلا،
عجلة تدور والزمان واحد،
)(-أدونيس )علي أحد سعيد( :الثار الكاملة ،دار العودة ،بيوت ط .2/35 -1971 ،2 1
)(-يوسف الال :العمال الشعرية الكاملة 1979دار العودة ،بيوت ،ط 1979 ،2ص .203 2
- 48 -
وشهرزاد ما تزال تسرد الحياة ههنا حكاية.
وشهرزاد جسد،
كالورق الذي يهر ،جسد
والسر في الجذور.
وعبثال نصيح :نحن كالرياح
حرة تجيء من مكانها وحرة تروح.
لنا التراب بيت رحم وكفن،
)(1
والموت وحده البقاء
فشهرّزاد التي استطاعت – كما ترّوي حكايات ألف ليلة وليلة – أن تنقذ النساء
من بطش شهرّيارّ وتخلصهن من الموت المحتوم عليهن ،لم تعد قاادرّة على بعث
الحياة من جديد ،لنها لم تستطع إنقاذ البشرّ من الموت الذي خديم على كل شيء..
فشهرّزاد الرّوح أو الحياة انتهت ولم يعد لها أثرّ ،ولم يبق منها إل الجسد الذي
صارّ كالورّق الذي يهدرّ لكن بدون جدوى .بهذه الطرّيقة أو السلوب دخل الشاعرّ
في تناص عكسي مع حكاية شهرّزاد ،فجاء توظيفهّ لها مخالفاة للصل ،وهذا يعني
أن الشاعرّ لم يكن من المقلدين أو الناقالين للترّاث كما هو ،إوانما رّاح يغيرّ منهّ
تماشياة مع تجرّبتهّ وما يتطلبهّ الموقاف منهّ من تبديل وتغييرّ.
فالكل يعرّف أن شهرّزاد في ألف ليلة وليلة كانت رّم اةز للحياة والسعادة والحرّية
والمن والمستقبل .لكن هل كانت كذلك في المقطع؟ ماذا فعل إذن يوسف الخال
بهذا الرّمز؟
ذكرّنا فيما سبق أن شهرّزاد الرّوح ،الفكرّة ،الموقاف ،الجذرّ ،قاد انتهت ولم يعد
لها حضورّ في هذا الزمن البائس ،وبقيت شهرّزاد الجسد رّمز الشهوة والثارّة الجنسية
والفتنة والغواية) ،(2فهي ل تستطيع أن تفعل شيئةا ،لن الشاعرّ جرّدها من كل
الصفات الحيوية التي ذكرّت بها في حكايتها الصلية التي كان بإمكانها أن تكون
من خللها بطلة هذا العصرّ أو على القال من نماذجهّ المتميزة ،لكنهّ أرّاد لها أن
)(-يوسف الال :العمال الشعرية الكاملة 1979ص .210 1
)(-بشذه الرمزيششة وظفشت ششهرزاد فش الداب الغربيشة ،ويبشدو أن جشالن مششتجم الليشال كشان سششببال فش تششويه 2
هذه الرمزية أو النموذج الصلي لكايشة ششهرزاد بالصشوص حشت تتلءم مشع بيئشة الغشرب وتقاليشده ..حشول
هذا الوضوع ينظر :مصطفى عبد الغنش :ششهرزاد فش الفكر العربش الشديث دار الششروق ،بيوت ،ط ،1
،1985ص .25 -24
- 49 -
تكون كذلك ليعبرّ من خللها عن الموت الشامل الذي أصاب المة ورّموزها الخالدة.
لم تكن شهرّزاد الشخصية الترّاثية الوحيدة التي عرّفت هذا التحدول ،فهناك
العديد من الرّموز والشخصيات التي شهدت هذا التغييرّ نفسهّ داخل النصوص
طمتالشعرّية ،وبالخصوص تلك التي كتبت بعد هزيمة حزيرّان 1967التي ح د
العزائم وأذهبت كل المال ،وامتد أثرّها إلى رّموز المة فأصابها الضعف والوهن.
فالسندباد المغامرّ قاد توقاف عن المرّحلة وعنترّة بن شداد الفارّس العرّبي المعرّوف
بالشجاعة والبسالة ،تحدول إلى شخص ضعيف مستكين ،وخالد بن الوليد )سيف ال
المسلول( صارّ )سيف ال المغمد() ،(1وسيف بن ذي يزن في بادية العرّاق
يحتضرّ).(2
أما إبرّاهيم والبحرّ )الماء( كما يتضح من هذه القصيدة )البئرّ المهجورّة( فهما
رّمزان للخلص والنبعاث .لكن السؤال المطرّوح ،لماذا اختارّ يوسف الخال إبرّاهيم
ل ،علماة أن هذه الخيرّة كانت من بين
رّم اةز للنبعاث ولم يخترّ شهرّزاد مث ة
)(3
الشخصيات الترّاثية التي استقطبت أنظارّ الدباء والشعرّاء في تلك الفترّة؟
هل أرّاد هذا الشاعرّ بالشارّة إلى إبرّاهيم أن يبحث عن رّمز جديد لم يستخدمهّ
الشعرّاء؟ أم أنهّ كان تحت تأثيرّ تصورّ غرّبي مفاده أن النبعاث لن يتحقق على يد
عرّبية كشهرّزاد؟ أم لن إبرّاهيم رّمز الدين وأب النبياء ،وأن الخلص ل يكون بغيرّ
الدين والعودة إلى ال؟ أم لنهّ أرّاد أن يجمع بين الدين ممثلة في إبرّاهيم ،والترّاث
السطورّي ممثلة في تموز وأدونيس بوصفهما رّم از الموت والنبعاث ،بهدف تشويهّ
الحقائق والفكارّ؟
يبدو أن كل هذه الحتمالت وارّدة ،لكن الشيء الذي استطاع يوسف الخال أن
يتوصل إليهّ ،بخلف غيرّه من الشعرّاء ،هو لإيمانهّ بأن الخلص ل يكون بغيرّ
العودة إلى الدين )المسيح وال( بكل ما يستلزمهّ من صبرّ وتضحيات ،لكن البشرّ
)(-ينظششر :علششي عشششري زايششد :اسششتدعاء الشخصششيات التاثيششة ف ش الشششعر العرب ش العاصششر دار الفكششر العرب ش 1
)(-ل ش يتبششع يوسششف الششال أسششلوب الكششثي مششن الشششعراء ف ش السششطو علششى الرمششوز الكتشششفة حششت ل يقششع ف ش 3
النمطيششة والتكشرار ،فآكششان يكتشششف رمششوزه بنفسششه ول يع شرول علششى غيه مششن الشششعراء ،عكششس أولئششك الششذين
كشانوا يلجحشأون إلش التقليشد ،فآمشا إن ينجحشح ششاعر فش توظيشف شخصشية أو رمشز لليشاء ببعشض أبعاد تربتشه
حششت يتصششارع إليهششا بقيششة الشششعراء فآيوظفونششا بالششدلول نفسششه ،وعنششدها تفقششد تلششك الشخصششية كششل طاقششاته
اليائية وقدراتا على التميز .ويعد هشذا التقليشد مشن أخطشر الزالشق الفنيشة الشت تشدد عمليششة توظيشف الشتاث
بعامة ف الشعر العرب العاصر.
- 50 -
يرّفضون هذه التضحيات ،وفي ظل هذا الرّفض يتساءل الشاعرّ عن مصيرّ هذه
المة أو البشرّية الرّعناء:
ترى ،يحكول الغدير سيره كأن
تبرعم الغصون في الخريف أو ينعقد الثمر،
)(1
ويطلع النبات في الحجر؟
و)البئرّ المهجورّة( قاصيدة أسطورّية تتقاطع مشاهدها مع مشاهد )الرّض
الخرّاب( لليوت ورّموزها)) ،فإبرّاهيم أشبهّ بتموز أو أدونيس ،ورّمز الماء ل تخفى
أهميتهّ في القصيدتين .ومفهوم العقم الرّوحي في سياق القصيدة ووجوب النطلق
منهّ لبعث الرّض والنفس هو صلب موضوع قاصيدة إليوت .بالضافة إلى هذا تم
الترّكيز على مفهوم الخصب ورّمزه )الماء( عند كل الشاعرّين(() ،(2غيرّ أن يوسف
الخال يحدمل هذا الرّمز )الماء( أو البحرّ كما يشيرّ إليهّ في هذه القصيدة ،بعداة
حضارّياة جديدةا ،فالبحرّ في شعرّه هو طرّيق النفتاح على العالم الغرّبي وحضارّتهّ،
وهو الهاجس الذي ينبغي رّكوبهّ وخوض غمارّه لنهّ سبيل الخلص والتحرّرّ من
الفكارّ القديمة.
إن التخلص من ثقافة الصحرّاء )رّمز الحضارّة العرّبية( ،والعودة إلى ثقافة
البحرّ )رّمز الحضارّة الغرّبية( هي إحدى الساسيات الجوهرّية التي ينطلق منها
يوسف الخال في تصورّه لفكرّة النبعاث)) ،فالحضارّة الغرّبية هي حضارّتنا نحن
بقدرّ ما هي حضارّة الفرّنسي واللماني والرّوسي ...ونحن ل قايمة ول مستقبل لنا،
في العالم العرّبي ،إن بقينا خارّجها ولم نتبدنها من جديد ونتفاعل معها ونفعل فيها.
إنها لنا وهي نحن(() (3ول سبيل للنبعاث بغيرّها .ذلك هو طرّيق الخلص إذن الذي
خطهّ الشاعرّ ،وهو طرّيق انتهى إليهّ بعد معاناة طويلة وخيبة أمل من انبعاث داخلي
يقوم بهّ أفرّاد المة.
)(-ديزيشره سشرقال :الرض الشراب والششعر العربش الشديث )دراسشة تشأثي قصشيدة ت .س .إليشوت فش الششعر 2
- 51 -
أفكارّه أول المرّ بقدرّ ما استوقافتني جسارّتهّ اللغوية(() (1لكن ما المقصود بالجسارّة
اللغوية تلك؟ وهل فعلة أن لغة إليوت هي أهم ما يميز أعمالهّ الشعرّية؟ ثم ما هي
خصائص هذه اللغة التي استوقافت العديد من الشعرّاء العرّب وليس صلح عبد
الصبورّ فحسب ،فرّاحوا يقلدونهّ ويكتبون على منوالهّ؟ يبدو أن صلح عبد الصبورّ
كان على وعي تام بالمسألة الشعرّية ،وهي مسألة لغوية بالدرّجة الولى ،لن ما
يميز القصيدة المعاصرّة ليس هو خرّوجها عن الوزان القديمة وطرّيقة الكتابة والبناء
فحسب ،بل الذي يميزها فعلة عن القصيدة الكلسيكية هو لغتها وقااموسها الشعرّي،
وهو قااموس أسطورّي وترّاثي بالساس ،فأغلب الشعرّاء –كما سيأتي الحديث لحقةاً-
كانوا يدرّكون أن اللغة الشعرّية القديمة لم تعد تجدي نفعاة في هذا العصرّ ،ومن ثدم
كان القابال على لغة الترّاث الشعبي وأساطيرّه لما يزخرّ من رّموز وصورّ شعرّية.
فلو تأملنا قاليلة شعرّ الرّواد ،وأعني السياب ،صلح عبد الصبورّ ،خليل حاوي،
يوسف الخال ،عبد الوهاب البياتي ...لدرّكنا فعلة أن الساطيرّ والمعتقدات الشعبية
كانت عند هؤلء قااموسهم الثرّي الذي يستخرّجون منهّ مفرّدات لغتهم ،ويثرّون بهّ
دللتهّ الفكرّية والشعورّية ويفجرّون في نفوس قارّائهم –من خللهّ ً-طاقاات من
الحساس بتارّيخ البشرّية عبرّ قارّونها الطويلة ،وبهموم النسان المعاصرّ ،ومصيرّ
المة العرّبية الممزقاة بين الماضي والحاضرّ.
إن الجسارّة اللغوية التي كان يعنيها صلح عبد الصبورّ هي هذا القاموس
الشعرّي أو بالحرّى هذا الترّاث النساني الذي كان يستقي منهّ ت.س.إليوت رّموزه
وصورّه ،يقول هذا الخيرّ في معرّض حديثهّ عن اللغة الشعرّية إن)) :اللغة التي
تتداولها كل الطبقات ،هي التي تعبرّ أصدق تعبيرّ عن النفعال والوجدان(() (2وقاد
دفعهّ هذا العتقاد إلى اعتماد هذه اللغة في شعرّه لما تحملهّ من إرّث حضارّي
عميق .فكانت النتيجة أن خرّج بلغة جديدة قادرّبتهّ من الواقاع والحياة المعاصرّة إلى حد
اللتحام بها ،ولعل أصدق شاهد على هذه اللغة بصورّة خاصة والترّاث الشعبي
النساني بعامة ،قاصيدتهّ )الرّض والخرّاب( التي تظهرّ فيها استعمالتهّ الفنية
لمختلف أشكال هذا الترّاث.
يتضح مما سبق أن اللغة التي كان يبحث عنها الشاعرّ العرّبي المعاصرّ هي
نفسها تلك اللغة التي حدثنا عنها إليوت ،لغة الترّاث الشعبي بل لغة الشعوب والمم
)(-صلح عبد الصبور :حيات ف الشعر دار اقرأ ،بيوت ،1992 ،ص .127 1
)(-ت .س .إليوت :مقالت ف النقد الدب ترجة لطيفة الزيات دار اليل للطباعة القاهرة ،ص .49 2
- 52 -
المكافحة من أجل البقاء ،تلك اللغة التي ل تزال تحتفظ بح ارّرّتها وتتسم بطابعها
السحرّي الخلب ..اللغة التي تستطيع أن تنفذ إلى أعماق النفوس والشياء فتترّك
أث اةرّ فيها أو عليها .إن ))اللغة التي يتداولها الناس قاد تكون أحياناة أقاوى من لغة
)(1
القاموس لنها ،عندما تندرّج في سياق القصيدة ،تتصفى فتصيرّ رّم ةزا(( شعرّياة
يحمل في ذاتهّ أبعاداة نفسية وحضارّية ل حد لها.
أضف إلى ذلك فإن من ميزات هذا الترّاث اتصافهّ بالجدية والرّمزية والشمول،
والخيال الواسع والعاطفة الصادقاة والصورّ الحية المتحرّكة ،وهو إلى جانب هذا
يتمتع بلغة ذات طابع سحرّي عجيب وقاداسة كبيرّة) .(2وفي أساطيرّ التكوين
والصول ،والموت والنبعاث والخلود خيرّ مثال على ذلك .كل هذا دفع الشعرّاء إلى
اللتفات إلى الترّاث والهتمام بهّ ،بغية البحث فيهّ عما يثرّي إبداعاتهم الفنية ويخرّج
بها إلى طورّ الجدة والمعاصرّة) .(3ويبدو أن القليل من هؤلء الشعرّاء الذين عرّفوا
كيف يستغلون هذه الكنوز ويستثمرّونها في قاصائدهم استثما اةرّ فنياة يجنبهم الوقاوع في
التقليد والجترّارّ.
ومن أبرّز هذه الكنوز نجد السطورّة والحكاية والمثل والغنية والمعتقدات
والسيرّ الشعبية .وقاد كانت السطورّة أكثرّ هذه الشكال عناية لما تزخرّ بهّ من رّموز
ودللت فلسفية عامة ،وتأتي بعدها الحكاية والقصة الشعبية ثم بقية الشكال
الخرّى ومنها السيرّ الشعبية التي كان حظها قاليل إذا ما قايس بثرّائها الفني والفكرّي
وامتلئها بالحداث والشخصيات المتنوعة ذات التجاهات المختلفة .وقاد يعود
السبب في ذلك إلى طولها المفرّط وعدم اتضاح بعض المواقاف فيها والشخصيات،
في حين نجد الشعرّ يعتمد الكثافة واليحاء واللمحة المرّكزة ،وهو ما لم ترّكز عليهّ
السيرّ الشعبية ،ولذا فإنهّ من الصعب على الشاعرّ اختصارّ هذه المواقاف والحداث
في موقاف أو حدث واحد .ومن بين الشعرّاء الذين اهتموا بهذا الشكل الدبي نجد
)(-ديزيشرة سشرقال :الرض الشراب والششعر العربش الشديث )دراسشة تشأثي قصشيدة ت .س .إليشوت فش الششعر 1
وأساطيها فآقال له)) :إن هذه المشور مقدسشة ول أريشد الشديث عنهشا .كمشا أنشه ليسشت مشن عادتنشا ذكرهشا
إل ف ش الناسششبات الدينيششة الاصششة(( فآ شراس الس شرواح :السششطورة والعن ش )دراسششات ف ش اليثولوجيششا والششديانات
الشرقية( دار علء الدين ،دمشق ،ط ،1997 ،1ص .14
)(-يق ششول يوس ششف س ششامي اليوس ششف فش ش ه ششذا الش ششأن)) :أن الش ششعر العاص ششرة ق ششد تأس ششس من ششذ أن ول ششت 3
السششطورة كبعششد بنيششوي شششعوري إل ش جسششد القصششيدة(( الشششعر العرب ش العاصششر ،منشششورات اتششاد الكتششاب
العرب ،دمشق ،1980 ،ص .44
- 53 -
عبد العزيز المقالح في قاصيدتهّ المطدولة )رّسائل إلى سيف بن ذي يزن().(1
تتكون القصيدة من ست رّسائل ،كلها موجهة إلى سيف بن ذي يزن ،كتبها
الشاعرّ ما بين عامي 1971ً-1961في أماكن وظرّوف مختلفة .يدورّ مضمون
الرّسالة الولى والثالثة حول فكرّة انتظارّ عودة سيف بن ذي يزن من المنفى
للستنجاد بهّ ،يقول في مقدمة الرّسالة الولى:
سفحنا عند ظل الدهر تحت قيودنا ألفا
ونصف اللف
من أعوامنا العجفا
وأنت مشرد
وبلدنا تدعوك وا ))سيفا((
........................
أغانيك الحزينة لم تعد نا ار
لقد خمدت
تكاد على المدى تخفى
فحطم حائط المنفى
وجئنا فارسال متوهجال سيفا
نثور به
نصول به
)(2
لعل بلدنا من ليلها تشفى
وفي الرّسالة الثالثة:
متى تهل من سمائنا الحزينة السواد
متى نرى وجهك يا ))بن ذي يزن((
أنهش في انتظارك القيود
أطيل في انتظارك الصلة ..والسجود
)(-عبد العزيز القال :الديوان دار العودة ،بيوت ط ،1983 ،3ص .281 1
- 54 -
أقبل التراب والحجار والدمن
........................
متى تعود؟
متى تهز في أقدامنا القيود؟
تقرحت أجفاننا
تقرحت أجساد شوقنا الغريب
ونحن في انتظار الشمس
)(1
في انتظار القادم العظيم
وتتعرّض الرّسالة الثانية إلى خيبة أمل الشاعرّ لن سيف بن ذي يزن لن يعود،
لقد مات في منجم الفحم يصارّع وحش السعال –كما جاء في الرّسالة الرّابعةً-
يقولون :مات
أقام لـه الليل قب ارل على شاطئ البحر في ))زنزبار((
بل كفن تحت وجه النهار
ومن حوله ترقد الذكريات
........................
يقولون :عند ))ثلوج الشمال((
وفي ليلة من ليالي الشتاء الحزين
وفي منجم الفحم مات يصارع وحش السعال
وماتت بعينيه أشواقه والحنين
وأطفاله عند أقصى الجنوب عرايا
يطلون من خلف كوخ الرمال
)(2
وينتظرون الهدايا
أمــا الرّســالة الخامســة فهــي نــدب وبكــاء علــى الــوطن والهــل المشــرّدين ،وتفجــع
وحزن كثيرّ:
- 55 -
بكيت إذ بكيتك الوطن
بكيت أهلنا المشردين ،حلمنا الغريب ،ذا يزن
بكيت حاض ارل يضج بالجراح
ماضيال يعج بالمحن
........................
نزحت فوق القبر دمع العين
شطرته نصفين
أسقيت نصفه لحزاني
ونصفه الخر
)(1
أسقيت اليمانيين في الشطرين
أما الرّسالة السادسة فهي عبارّة عن جواب ،أو الدرّد الخيرّ ،الذي أنهى المل
وقاطع النتظارّ وأسال الدموع .يبدو من هذه الرّسالة وكأن الشاعرّ كان في حالة حلم
أو غيبوبة طويلة ثم استفاق على وقاع هذه الكلمات قااطعة الرّجاء:
ل تنتظر..
ل تنتظر..
لن تمطر السماء أبطالل
وسيف في بادية العراق يحتضر
أحلمه ،عيناه ،في الظلم تنفجر
وقدماه للدجى موثقتان
سيفه جريح
وصوته ذبيح
يبكي،
يثور،
يشتكي ،يصيح
- 56 -
........................
ل تنتظر..
فبرق الشام خكلب
)(1
والفارس القديم لن يعود
والكلمة الخيرّة هذه )لن يعود( تذكرّنا بقول بدرّ شاكرّ السياف في قاصيدتهّ
رّحل النهارّ ))هو لن يعود(() ،(2هل هو تشابهّ في التعبيرّ؟ أم إيمان رّاسخ لدا
الشاعرّين بعدم النبعاث والنهوض من الغفوة والتدهورّ الذي أصاب المة العرّبية
في هذا العصرّ؟
مما ل شك فيهّ أن هذه الجملة تعبرّ عن استفاقاة الشعرّاء من الحلم الذي رّسمتهّ
النهضة العرّبية في بدايتها ،فالتحدول الذي بدا في الفق مع مطلع هذه النهضة،
والذي عبرّ عنهّ الشعرّاء بوسائل فنية كثيرّة منها أساطيرّ الموت والنبعاث ،سرّعان
ما تكدشف عن خيبة أمل حادة ،لن ))التفاؤل الناشئ عن هذا الضرّب من التحول،
ل يمكن أن يكون إل تفاؤلة وهميةا ،لنهّ ناتج عن ثقة ل متناهية بقدرّة الكلمة على
إحداث تغييرّ مادي في الواقاع المعيش ،مع أن مهمة الكلمة ،مهما كانت قايمتها ،إنما
تنحصرّ في إحداث تغييرّ نسبي(() (3على مستوى الفكرّ والشعورّ ،لكن الواقاع شيء
آخرّ أكبرّ من أن تؤثرّ فيهّ الكلمات والخطب.
فسيف بن ذي يزن المعدول عليهّ في هذا النبعاث قاد مات كما مات غيرّه من
البطال ،ومن العبث انتظارّه أو الستنجاد بهّ .وفي هذا إشارّة من الشاعرّ إلى أن
العتماد على الماضي في بعث هذه المة وهم وزيف ،فالنبعاث ل يتحقق بغيرّ
)(4
العمل والتضحية .وتكاد هذه الفكرّة أن تكون عامة عند الشعرّاء فالسياب
)(-بدر شاكر السرياب :الديوان ،دار العودة ،بيوت .1/229 -1971 2
)(-أحد العداوي :أزمة الداثة ف الشعر العربش الشديث منشششورات دار الفآشاق الديشدة ،الغششرب ،ط ،1 3
،1993ص .189
)(-ينظ ششر :ال ششديوان ،دار الع ششودة ،بيششوت 1/457 -1971التض ششحية عن ششد الس ششياب ه ششي القب ششال عل ششى 4
- 57 -
وأدونيس) (1وحاوي) (2كلهم عانوا من زيف النبعاث الطبيعي كما ترّسمهّ الساطيرّ،
وعادوا إلى القول بالتضحية لن ل شيء يأتي بغيرّها .ذكرّنا فيما سبق أن من
الصعب على الشاعرّ اختصارّ كل الحداث والمواقاف التي تزخرّ بها السيرّة في
حدث أو موقاف واحد ،فما صنع عبد العزيز المقالح بقصة سيف بن ذي يزن في
قاصيدتهّ تلك؟ هل وظف الشاعرّ بعض العناصرّ وأغفل بعضها الخرّ أم أنهّ استلهم
رّوح هذه القصة ومغزاها فقط؟
ليس من مهمة الشاعرّ أن يتمسك بكل ما جاء في القصة من تفاصيل وأحداث
ومواقاف ،فهو يختارّ ما يخدم تجرّبتهّ الشعرّية ويزيدها عمقاة في نفسية قاارّئهّ .فعندما
نق أرّ هذه القصيدة نشعرّ وكأننا نعيش أجواء هذه السيرّة بأحداثها وتفاصيلها بل
ومواقاف بطلها سيف في صرّاعهّ مع الحباش والرّوم ،لن الشاعرّ كان يعتمد على
تقنية )الفلش بك( ،فهو من حين إلى آخرّ يفتح نافذة تارّيخية على حدث من
أحداثها كذكرّة لكسرّى ملك الفرّس وأبرّهة ومنية النفوس محبوبة سيف ،فيشعرّ القارّئ
وكأنهّ يتابع السيرّة ذاتها بأسلوب شعرّي رّصين .أضف إلى ذلك الجو المسيطرّ على
القصيدة وهو جو مأساوي )حزن ،بكاء( ،الذي يذكرّنا بدورّه ببعض الحالت النفسية
التي كان يمدرّ بها سيف بن ذي يزن نفسهّ) .(3وهي حالت تشبهّ الحالت التي كان
يمرّ بها الشاعرّ من شدة حزنهّ على وطنهّ.
إواذا كانت السيرّة تصورّ سيف بن ذي يزن فارّساة قاوياة وشجاعاة ل تقف أمامهّ
الحدود ول تثني من عزيمتهّ الشدائد والخطوب ،فإن القصيدة تقدمهّ في صورّة أخرّى
مخالفة للولى ،إن لم نقل مناقاضة لها في كل شيء إل السم:
الفارس القديم لن يعود
قوائم الحصان في الرمال غرقت
)(-ينظر :العمال الشعرية الكاملة ،دار العودة ،بيوت ،ط 1/163 -1988 ،5من قصيدة )البعششث 1
والرمششاد( حيششث يقششول)) :مششا أروع الريششق ،مششا أجلرششه ..مششا أعظششم الع شراك ،أي بطششل سششينتهي(( النششار عنششد
أدونيس هي طريق البعث واللص ،وهي الور الساس الذي يدور حوله معظم شعره ،وهشي مثلشة عنشده
ف أسطورة الفينيق.
)(-ينظر :الديوان ،دار العشودة ،بيوت ،1993 ،ص 126حيشث يقشول)) :فآلنعشان من جحيشم النشار.. 2
حزن حزنال عميقال عندما سع بنبأ وفآشاة منيشة النفشوس ،حشت أن هشذا الشزن هشد كيشانه وبشان ضشعفه وسشاءت
حاله ،ص .109
- 58 -
تحولت إلى حجر
وفارس الحصان موثق القيود
أيامه تناثرت على صخور الحزن،
)(1
وجه عمره انكسر
في هذه الصورّة إشارّة من الشاعرّ إلى أن اليمن لم يعد ينجب أبطالة مثل سيف
بن ذي يزن يستطيعون تحرّيرّه من القيود ،ولذا فليس بوسعهّ الن إل الحزن والبكاء.
وتزداد صورّة اليمن قاتامة عندما يتساءل الشاعرّ عن قابرّ سيف وقابرّ أختهّ عاقاصة
وخادمهّ عيرّوط ،فل يجد جواباة عند أحد ،فكيف لهذا المجتمع أن ينهض وهو ل
يدرّي تارّيخهّ وأبطالهّ.
أين ينام مثخن الجفون سيف
أين تنام )عاقصة(
أين اختفى
في أي قمقم ثوى )عيروط(
الفق غام والدروب عابسة
والنفق الرهيب لم يزل يمتد...
)(2
بهذه الكلمات المحزنة ينتهي مشهد سيف صانع البطولة والمجد ،وينتهي معهّ
أمل الشاعرّ بل وأمل المة العرّبية جمعاء.
وبالضافة إلى هذه السيرّة فقد استعان عبد العزيز المقالح في قاصيدتهّ تلك
ببعض الساطيرّ اليونانية كأسطورّة )سيزيف( وأسطورّة )عوليس( وزوجهّ )بنيلوب(
وأسطورّة )برّومثيوس( و)أخيل( ،وأسطورّة السندباد العرّبية ،وبعض السماء
التارّيخية مثل )مأرّب( و)زنزبارّ( وهما أسماء أمكنة ،و)يكسوم( الحاكم الحبشي
لليمن في ظل الحتلل ،و)بدرّبان( المدينة التي كان بها عدد كبيرّ من المهاجرّين
اليمنيين في جنوب إفرّيقيا).(3
لكن على الرّغم من ذكرّ الشاعرّ لكل هذه الشارّات والرّموز السطورّية ،فإن
أسطورّة سيف بن ذي يزن ظلت هي المسيطرّة على أحداث القصيدة وأجوائها ،إن لم
- 59 -
نقل أنها كانت العنصرّ الساسي في بنائها وتشكيل نسيجها .والشاعرّ ل يقوم
بتضمين عناصرّ هذه السطورّة فحسب بل يستنطقها ويستلهمها للتعبيرّ عن رّؤيتهّ
للواقاع الرّاهن .أما بقية هذه الرّموز فقد كانت بمثابة الرّوافد التي تصب في بحرّ هذه
القصة فتغذيها برّمزيتها مبرّزة كفاح النسان الطويل من أجل وطنهّ وكرّامتهّ.
فيرّومثيوس وسيزيف وعوليس والسندباد أوجهّ أخرّى لسيف بن ذي يزن وغيرّه من
البطال الثائرّين على الظلم والستبداد والتقاعس عن طلب الحرّية.
وانطلقااة من هذه القصيدة يمكن القول بأن مرّجعية عبد العزيز المقالح الشعرّية
مرّجعية ترّاثية يمانية في الدرّجة الولى .وعليهّ فإن ))قارّاءة نصوصهّ ورّبما نصوص
غيرّه من الشعرّاء المحدثين في اليمن ،تبدأ من هذه العلقاة .أي من رّؤية هذه
النصوص في الواقاع الثقافي اليمني(() (1فسيف بن ذي يزن بطل يماني وحضورّه في
القصيدة يعني حضورّ الشخصية اليمانية بكل أبعادها النفسية والحضارّية
والنسانية .ويمكن اعتبارّ هذا الستخدام أيضاة شكلة من أشكال إثبات الوجود عن
طرّيق الفعل الشعرّي المهاجرّ عبرّ الثقافات والنصوص.
لكن هذا ل يعني أن الشاعرّ ل يهتم بالثقافات الخرّى ،فهو إلى جانب هذا يفيد
من الثقافي العرّبي والنساني كما رّأينا في استخداماتهّ للساطيرّ اليونانية والعرّبية،
لكن هاجس إحياء الترّاث اليمني ونشرّه كان دائماة شغلهّ الشاغل) ،(2وبالخصوص إذا
علمنا أن هذا الترّاث –بحكم ظرّوفهّ وتارّيخهّ ً-يعاني من صعوبة التواصل مع
الثقافات الخرّى حتى العرّبية منها.
وفي مقابل هذه الصورّة نجد صورّة أخرّى للبطل الشعبي عنترّة العبسي يصنعها
محمد الفيتورّي من السودان ،يقول فيها:
)(-ينش العيششد وآخششرون :النششص الفتششوح )قشراءة فش شششعر عبششد العزيششز القالشش( ،دار الداب ،بيوت ،ط ،1 1
،1991ص .139
)(-لقششد اهتششم هششذا الشششاعر والناقششد كششثيال بشتاث وطنششه فآنشششر العديششد مششن الدراسششات الدبيششة والنقديششة حشوله 2
نذكر منها كتابه :شعر العامية ف اليمن دراسة تاريية ونقدية وهشو كتششاب ضشخم تعشرض فآيشه صششاحبه إلش
نشأة الشعر العامي ف اليمن وإل أغراضه وخصائصه ،ثش ملحشق عشن ششعرائه .ومشا ينشدرج فش هشذا الطار
أيضال شكره وعرفآشانه بشالهود الشذي قشام بشه فآاروق خورششيد بإحيشائه لسشية سشيف بشن ذي يشزن ،فآهشو يقشول
فش مقدمششة نثريششة يسششتهل بششا الرسششالة الثانيششة ))إلش فآششاروق خورشششيد ،تيششة مششن بلد سششيف للمجحهششود الكششبي
من جانبه ف إحياء سية البطل ..السطورة القيقية(( عبد العزيز القال :الديوان ،ص .295
- 60 -
نحن العرب..
عنترة العبسي فوق صهوة الفرس
يصرخ في الشمس فيعلو الصفرار وجهها
وترجف الجبال رهبة ،وتجمد السحب
لنه قهقه أو غضب
لنه ثرثر أو خطب
لنه النار التي
)(1
تفرخ ذرات الرماد والحطب
إذا كان سيف بن ذي يزن كما تصورّه قاصيدة عبد العزيز المقالح السابقة غيرّ
قاادرّة على تلبية النداء بسبب ضعفهّ واحتضارّه ،فإن عنترّة يبدو في صورّة مخالفة لـهّ
تمامةا ،فهو البطل الشجاع القوي الذي ترّجف الجبال رّهبة منهّ وتجمد السحب.
وبالتالي فنحن أمام صورّتين مختلفتين كل واحدة منهما تعكس حالة حضارّية
واجتماعية معينة ،ضعف في اليمن وقاوة في السودان .لكن أليست هذه مفارّقاة
عجيبة في بلدين عرّبيين ينتميان إلى تارّيخ مشترّك؟ أم أن السياسة في اليمن غيرّها
في السودان؟
على العموم فإن ذكرّ الشاعرّ لسم عنترّة بطل السيرّة الشعبية المعرّوفة في
جميع أنحاء العالم العرّبي ،هو بشكل ما تأكيد للبعد التارّيخي لهذه الشخصية ،وهو
بعد يمكنها من التحول دون النزلق إلى فيافي اللوجود .فبعد أن أثبت الشاعرّ هذا
البعد أو الوجود الحقيقي لهذه الشخصية ،انتقل بها إلى بعد آخرّ هو البعد السطورّي
حيث تحولت هذه الشخصية إلى إلهّ أو نصف إلهّ يتحكم في مظاهرّ الطبيعة،
يصرّخ في الشمس فيعلو الصفرّارّ وجهها وترّجف الجبال وتجمد السحب عن
الحرّكة .ولكي يحافظ الشاعرّ على البعد التارّيخي داخل البعد السطورّي لجأ إلى
جملة من الفعال المستعملة من طرّف النسان كقولهّ )يصرّخ ،يعلو ،ترّجف ،تجمد(
فهذه الفعال مرّتبطة بالفعل النساني أكثرّ من ارّتباطها بالفعل اللهي.
وبالجمع بين هذين البعدين )التارّيخي أو الواقاعي والسطورّي( استطاع محمد
الفيتورّي أن ينتج شخصية غيرّ قاابلة للموت أو النكسارّ ،فعنترّة ،بفعل تلك
السطورّية ،أصبح شخصية مقدسة وخالدة .وفي هذا دللة على أن البطولة في
)(-ممد الفيتوري :الديوان ،دار العودة ،بيوت ،ط .1/611 -1979 ،3 1
- 61 -
العرّب ل يمكن أن تنتهي أو تزول ،فالمة التي أنجبت عنترّة ل تزال تنجب من
أمثالهّ في الشجاعة والقوة .وهنا يظهرّ تفاؤل الشاعرّ بالواقاع العرّبي ومستقبلهّ،
بخلف عبد العزيز المقالح الذي أبدى تشاؤماة كبي اةرّ من هذا الواقاع كما سبق وأن
أشرّنا إلى ذلك.
أما أمل دنقل فيوظف هذه الشخصية )عنترّة( للتعبيرّ عن الصرّاع الحاد بينهّ
وبين السلطة ،فسادة القبيلة وكبرّاؤها ،هم السلطة ،وعنترّة العبد الذي يقع على عاتقهّ
الدفاع عن هذه السلطة بكل الوسائل التي يمتلكها ،وعندما يحقق لها النصرّ ،ل يلقى
شك اةرّ ول عرّفانةا ،بل مزيداة من الهجرّ والنسيان:
ظللت في عبيد )عبس( أحرس القطعان
أجتكز صوفها..
أركد نوقها..
أنام في حظائر النسيان
طعامي :الكسرة ..والماء ..وبعض التمرات اليابسة.
ل يزال عنترّة )المثقف العرّبي( ،كما يصورّه هذا المقطع ،يعاني من الحرّمان
والهجرّان ،وهو سبيل التقدم والتحرّرّ ،يدعى إلى الموت ول يدعى إلى المجالسة
والمشاورّة .وفي استخدام الشاعرّ لهذه الشخصية إشارّة ذكية إلى أن السياسة
والسلطة في الوطن العرّبي لم تتغيرّ منذ العصرّ الجاهلي ،فهي ل تزال تسيرّ وفق
)(-أمل دنقل :العمال الشعرية الكاملة ،مكتبة مدبول ،القاهرة ،ط ،1987 ،3ص .124 -123 1
- 62 -
التمييز العنصرّي والعصبية القبلية .وقاد يرّمز )عنترّة( هنا إلى الشعب العرّبي الذي
ترّكهّ الحكام في صحرّاء الهمال يسوق النوق إلى المرّاعي ويحلب الغنام وينام في
الحظائرّ ،حتى إذا ما أنشبت الحرّب أظفارّها ،أسرّعوا إليهّ مستصرّخين يدعونهّ
للدفاع عن أموالهم وأنفسهم.
إوالى جانب سيرّة عنترّة ،فقد استخدم أمل دنقل سيرّة )الزيرّ سالم( في قاصيدتهّ
)ل تصالح( ليعدبرّ من خللها عن قاضية الصرّاع العرّبي السرّائيلي محذ اةرّ رّئاسة
مصرّ من مغبة الوقاوع في قابضة إسرّائيل بإقاامة الصلح معها .تتألف هذه القصيدة
من عشرّة مقاطع أو وصايا على غرّارّ وصايا كليب العشرّة ،يبدأ كل منها بنهي )ل
تصالح!( ،بل الشاعرّ نفسهّ ل يتوانى في التصرّيح بأن ما يكتبهّ هو ذاتهّ ما جاء
ل:
على لسان كليب ،فهو يقدم لقصيدتهّ بهذه الوصايا قاائ ة
)) ..فنظرّ )كليب( حواليهّ وتحسرّ ،وذرّف دمعة وتعدبرّ ،ورّأى عبداة واقافاة فقال
لهّ :أرّيد منك يا عبد الخيرّ ،قابل أن تسلبني ،أن تسحبني ،إلى هذه البلطة القرّيبة
من هذا الغديرّ ،لكتب وصيتي إلى أخي الميرّ سالم الزيرّ ،فأوصيهّ بأولدي وفلذة
كبدي ..فسحبهّ العبد إلى قارّب البلطة ،والرّمح غارّس في ظهرّه ،والدم يقطرّ من
جنبهّ ..فغمس )كليب( إصبعهّ في الدم ،وخطد على البلطة وأنشأ يقول:(1)((..
ل تصالح!
..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء ل تشترى..
........................
ل تصالح على الدم ..حتى بالدم
ل تصالح! ولو قيل رأس برأس،
أكل الرؤوس سواء؟!
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
- 63 -
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يد ..سيفها كان لك
بيد سيفها أثكلك؟
أول شيء يمكن لقارّئ هذا النص أن يلحظهّ ،استعمال الشاعرّ لبعض
المفرّدات والمعاني نفسها الوارّدة في نص السيرّة الشعبية مثل لفظة )ل تصالح( التي
تكرّرّت كثي اةرّ في النصين )السيرّة والقصيدة( وكانت بمثابة البؤرّة التي تنجذب نحوها
جميع المعاني والصورّ .وقاول الشاعرّ في مطلع هذا النص)) :ل تصالح ..ولو
منحوك الذهب(( ل يختلف عن قاول كليب للمهلهل ل تصالح ولو أعطوك مالة مع
عقود .لكن هذا ل يعني أن الشاعرّ قاد وقاع في التكرّارّ أو التقليد لما جاء في السيرّة
الشعبية ،بل العكس هو الصحيح ،لن الشاعرّ منح هذه الشكال حياة جديدة
باستخدامهّ لها ضمن إطارّ معاصرّ وقاضايا حديثة .وقاد أطلق علي عشرّي زايد على
هذه الطرّيقة في التعامل مع الترّاث اسم )مرّحلة
التعبيرّ بالمورّوث( ،أي) :توظيف الترّاث توظيفاة فنياة للتعبيرّ عن التجارّب الشعرّية
المعاصرّة() (1بدل )التعبيرّ عن المورّوث( الذي هو شكل من أشكال استنساخهّ أو
تسجيلهّ ،وهذه الصيغة الخيرّة )التعبيرّ عن المورّوث( هي التي حكمت علقاة
الشاعرّ بالترّاث فترّة طويلة.
***
)(-اسششتدعاء الشخصششيات التاثيششة ف ش الشششعر العرب ش العاصششر ،دار الفكششر العربشش ،القششاهرة ،1997 ،ص 1
.25
- 64 -
الفصل الثاني
الروافد التراثية
-الساطير والحكايات
-الطقوس والمعتقدات
- 65 -
- 66 -
الروافد التراثية:
إن الحديث عن الرّوافد الترّاثية التي أغنت القصيدة المعاصرّة برّموزها ودللتها
حديث صعب متشعب ،ل يمكن بأي حال من الحوال اللمام بهّ أو اختزالهّ في
صفحات مثل هذه ،وذلك رّاجع في اعتقادنا إلى تعدد هذه الرّوافد وتنوعها واختلف
طبيعتها ومصادرّها ،فمنها القديم والحديث ،العرّبي وغيرّ العرّبي ،التارّيخي
والسطورّي ،وهي في كل الحوال تحمل في طياتها خصائص وسمات متباينة
حسب بيئتها وتارّيخها وهويتها .بالضافة إلى انتماء هذه الرّوافد إلى أشكال تعبيرّية
مختلفة :أساطيرًّ-حكاياتً-أمثالً-أغانيً-معتقداتً-وسيرّ ،لكل منها مميزات
وخصائص.
لكن على الرّغم من صعوبة هذا الحديث وتشعبهّ فإنني .سأحاول الوقاوف عند
أهم تلك الرّوافد لكشف النقاب عنها ،وبالخصوص تلك التي استفاد منها الشاعرّ
العرّبي المعاصرّ ،وتجلت ملمحها على بنية قاصيدتهّ ومضمونها أكثرّ من غيرّها
وهي:
-1الساطير والحكايات:
تعد الساطيرّ والحكايات قاديمها وحديثها من كنوز المعرّفة التي ل تقدرّ بثمن،
فمضمونها وقاف على تارّيخ النسان إوادرّاكهّ للعالم وتصورّه إياه ،لذلك عدت مصد اةرّ
خصباة من مصادرّ درّاسة نمط تفكيرّ الشعوب ورّؤيتها للكون ومعرّفة مواقافها من
القضايا الجوهرّية التي عانت منها وشغلتها رّدحاة من الزمن كالموت والخلود
والمقدس وغيرّها .غيرّ أن الوصول إلى فهم تلك الساطيرّ والحكايات وكشف النقاب
عنها مطلب عسيرّ في كثيرّ من الحيان .ذلك أن الساطيرّ من أشد حقول المعرّفة
غموضاة وضبابية ،فهي تضرّب بجذورّها في عمق الماضي السحيق ،وفي عالم
فسيح وغرّيب في الوقات ذاتهّ ،كل شيء فيهّ ممكن مهما بدا منافياة للعقل والمنطق
والتفكيرّ السليم ،إنها شهادة عن مرّحلة بدائية من مرّاحل التفكيرّ الميتافيزيقي،
- 67 -
اختلطت فيها الحقائق التارّيخية بالمعتقدات والطقوس والتصورّات الفلسفية الولى
التي حاول اللنسان آنذاك بواسطتها إقاناع نفسهّ بحقيقة ما يشاهد ويسمع من مظاهرّ
هذا الكون العجيب.
إن الطابع الفكرّي والديني للساطيرّ ،وارّتباطها بالممارّسات الشعائرّية
والسلوكية ،جعلها تحتل مكانة مرّموقاة –تشبهّ مكانة الشعرّ عند العرّب ً-في
الحضارّات القديمة كالحضارّة المصرّية والسومرّية والبابلية والشورّية واليونانية
وغيرّها من الحضارّات القديمة .حيث كانت الساطيرّ لدى تلك الشعوب قاصصاة
مقدسة ،وأحداثاة حقيقية ل مجال للشك فيها ،وقاعت في الزمان الول) (1زمن البدايات
الخرّافي ..فهي ترّوي قاصة أصل النسان والحيوان ،وخلق العالم والكون والحياة،
وصرّاع اللهة ،وعلقاتها باللنسان وما يحيط بهّ من مظاهرّ وأشياء مهمة.
صحيح أن السطورّة ل نصيب لها من النجاح في إعطاء النسان قاوة مادية
أشد للسيطرّة على البيئة ،لكنها مع ذلك تعطيهّ وهم القدرّة على فهم الكون والسيطرّة
عليهّ) (2وهذا شيء بالغ الهمية لنهّ استطاع أن يخفف من قالق ذلك النسان وحيرّتهّ
ويحدث لديهّ قاليلة من التوازن والنسجام بينهّ.
وعلى الرّغم من تباين آرّاء الباحثين حول مفهوم السطورّة وأنواعها) ،(3وما
يندرّج تحتها من أشكال سرّدية أخرّى مشابهة كالخرّافة والقصة الشعبية .فإنهم
يكادون ييجمعون على وحدة التصورّ والخيال التي تجمع بين هذه الشكال الدبية
كلها ،وتجعلها أقارّب إلى لغة الحلم والرّموز والشعرّ ،وهو الشيء الذي شد الشاعرّ
المعاصرّ إليها محاولة استنطاقاها والستفادة منها في نصوصهّ للخرّوج بها إلى دائرّة
الكتابة الجديدة إواعطاء التجارّب النسانية ،على مدرّ العصورّ ،آفاقااة أرّحب تتيح
مجالة واسعاة لحرّية التصرّف في الحداث وفق ما يخدم فلسفة النسان المعاصرّ
ووجهة نظرّه.
فالشاعرّ المعاصرّ حين يعود إلى الساطيرّ ـ وهي في رّأيهّ ضرّب من الشعرّ
1 )(
-Mircea Eliade: Aspects du mythe. Gallimard 1963 p9
-() 2ينظش ششر :كلش ششود ليفش ششي شش شتاوس :السش ششطورة والعنش شش :ترجش ششة :صش ششبحي حديش ششدي ،منشش ششورات عيش ششون ،دار
البيضاء ،1986 ،ص .18
- () 3م ششن ه ششذه الن شواع ن ششد الس ششطورة الطقوس ششية ،التعليلي ششة ،الرمزي ششة ،التكويني ششة أو أس ششطورة الص ششل كم ششا
يسششميها صششموئيل هنششري هششووك ،أسششطورة البطششل الؤملششة ،أسششطورة الصششيت ،أسششطورة البعششث .ينظششر :نبيلششة
إبراهيششم :أششكال التعششبي فش الدب الششعب دار نضشة مصشر للطبشع والنششر ،القشاهرة ص 15ومشا بعشدها.
وأيضشال صششموئيل هنششري هششووك :منعطششف الخيلششة البششرية )بششث فش السششاطي( ترجششة صششبحي حديششدي دار
الوار للنشر والتوزيع سوريا ط 1983 1ص .9
- 68 -
البدائي ـ فإنهّ ل يعود إلى تلك الحداث والجزئيات التي تتألف منها هذه الساطيرّ إل
ل ،بسبب تغيرّها وقاابليتها للتطورّ بفعل الرّواية .إوانما يعود إلى تلك الجواء
قالي ة
والظلل الشعرّية المصاحبة لها ،ليرّى في خيالها الساذج البسيط ،عمق صلة
النسان بالكون ،ويستشف من خللهّ صدق التعبيرّ عن بواكيرّ المعرّفة النسانية
وهي في طورّ الطفولة والنشوء ،ويصوغ من تلك الظلل والحداث البسيطة نسيجاة
شعرّياة في تشكيل جمالي جديد غيرّ مألوف في بلغة الكتابة العرّبية ،يتيح لـهّ أن
يصورّ ويثبت أو ينفي ما شاء من مضامين العصرّ ووجهات نظرّه.
إن تعلق البدائي بهذا النوع من التخيل والتصورّات ،جعلهّ يعتقد بنظام ثنائي
للحياة فالطبيعة عنده ))قاوة سرّية مفيدة ومدمرّة معةا ،جذابة ومرّعبة ،نافعة للصحة
ومميتة ،وباختصارّ لها كل ازدواجية "المقدس" وهي في النهاية لغزية معماة" ) (1مما
سبب لـهّ اضطرّاباة وقالقاة وشعرّ بالغترّاب الرّوحي وأحس بضرّورّة الشعائرّ والطقوس
كوسيلة للخلص إوانقاذ الحياة من الموت والندثارّ .وتأتي في مقدمة هذه الطقوس
أساطيرّ الموت والنبعاث وأساطيرّ الخلق والولدة أو أساطيرّ الصل والتكوين كما
يسميها البعض وأساطيرّ الرّمز ،وكل ما يتعلق بهذه النواع من معتقدات ترّمز إلى
الخصب والعطاء وما لـهّ صلهّ بدورّة الحياة والموت والبعث كأسطورّة تموز وعشتارّ
والفينيق والعنقاء وبرّوميثيوس وسيزيف وغيرّها.
على الرّغم مما يذكرّه بعض الدارّسين عن الساطيرّ والحكايا من أنها لعب
ولهو وأباطيل ل طائل من ورّائها) ،(2فقد كانت بالنسبة للنسان البدائي تمتلك قاوى
سحرّية خارّقاة ،وقادرّات غيرّ عادية ،تسمح لـهّ بالسيطرّة على الكائنات والشياء .بل
أكثرّ من هذا فإن العتقاد السائد آنذاك هو أن معرّفة أسطورّة ظاهرّة ما ،يساعد على
إعادة خلق هذه الظاهرّة) .(3وعلى العموم فقد استطاعت السطورّة بوسائلها التعبيرّية
الخاصة ،آنذاك ،أن تقدم العديد من الجابات عن تساؤلت النسان واستفسارّاتهّ
حول هذا الكون المرّعب ،الذي ل يملك عنهّ أدنى أشكال المعرّفة واليقين.
من هنا أحس الشاعرّ المعاصرّ بما أحس بهّ أسلفهّ من قالق وحيرّة كنتيجة لما
وصلت إليهّ حضارّة القرّن العشرّين من وسائل الدمارّ الشامل وآلت إليهّ المجتمعات
البشرّية من انحلل خلقي يكون في يوم ما سبباة في هلكها وانقرّاضها ،كما حصل
)( -هيق ششة روس ششو :ال ششديانات ،ترج ششة :م ششتي ش ششاس ،النش ششورات العربي ششة )سلس ششلة م ششاذا أع ششرف (25ص 1
.20
)( -ينظر :ابن منظور :لسان العرب )مادة سطر(. 2
)( -ينظر :علي عشري زايد :استدعاء الشخصيات التاثية ف الشعر العرب العاصر ،ص .176 3
- 69 -
مع قاوم عاد وثمود ،وشعرّ بالخطرّ يهدد الحياة النسانية وينذرّ بخرّابها ،فأسرّع إلى
الساطيرّ يعيد لها طاقااتها الخارّقاة وقادرّاتها السحرّية التي فقدتها في عصرّ العلم
والتكنولوجيا ،كما أسرّع إلى الطقوس يلتمس فيها بعثاة وتجديدةا ،كما كان أسلفهّ
يفعلون ،وكأنهّ يرّيد بهذا الفعل الرّمزي إيقاف صيرّورّة هذا التدميرّ المحتمل ،وبعث
الحياة من جديد بواسطة طقوس وشعائرّ خاصة تتلخص في تكرّارّ أعمال الخلق كما
صورّتها المعتقدات وحكت عنها الساطيرّ.
قابل البدء في تقديم نماذج شعرّية لبرّاز تلك الساطيرّ وطرّق تعامل الشعرّاء
معها ،علينا أن نشيرّ إلى أن الفضل في ذلك يعود إلى تلك الجهود التي بذلها
الناسيون والفلسفة وعلماء النفس ،والتي فتحت أعين المبدعين والشعرّاء على هذا
الكنز الثمين من الفكارّ والتخيلت .ويأتي على رّأس هؤلء السيرّ جيمس فرّيزرّ
) SIR JAMES FRAZER (1941 - 1854في كتابهّ الشهيرّ )الغصن
الذهبي( ،وبرّونسلف مالينوفسكي )BRONISLAW - (1884 ً- 1943
MALINOWSKIوكلود ليفي شترّاوس CLAUDE LIVI - 1908
STRAUSSوأرّنست كاسيرّ )ERNST CASSIRER (1945 ً- 1874
ومارّتين هيدجرّ ) MARTIN HEIDEGGER (1889 ً- 1976وغيرّهم.
تعد درّاسات العالمين النفسيين سيغمون فرّويد 1856 ً- 1939
،SIGMUND FRAUSوكارّل يونغ CARL GUSTAV 1875 ً- 1961
JUNGالمتمثلة في اكتشافهما اللشعورّ الفرّدي والجمعي من بين النجازات
العلمية العامة في التعدرّف على الرّموز والذكرّيات والعادات والمعتقدات والساطيرّ
وطرّائق التفكيرّ والسلوك التي خلفتها الجيال عبرّ آلف السنين ،ول زالت قاابعة في
عمق اللشعورّ تتحرّك من حين إلى آخرّ بفعل دوافع معينة ،على شكل رّموز
وصورّ تجسدها لغة الشعرّ والحلم ،أطلق عليها يونغ اسم النماذج العليا )
.(1)(Archetypes
الفضل إذن ،يعود إلى هؤلء العلماء الذين أخرّجوا هذا الترّاث من دائرّة النسيان
والمفهوم الشعبي البسيط إلى دائرّة العلم والمعرّفة النسانية الواسعة ،يمكن بواسطتهّ
الوصول إلى فهم أنساق الثقافات البدائية وأشكالها المتنوعة ،تلك الثقافات التي
أصبحت تغرّي الشاعرّ المعاصرّ لما تتميز بهّ من طبيعة سحرّية وقايم جمالية عالية،
وقاوالب فنية وتقاليد شفهية يكون العتماد فيها على نظام الصيغ أكثرّ من أي نظام
)( -حول هذا الصطلح ينظر :جلل الدين سعيد :معجحم الصطلحات والششواهد الفلسشفية دار النشوب 1
- 70 -
لغوي آخرّ ،وأنماط من التعبيرّ الرّمزي يجعل منها أنظمة معقدة إواشارّات من الدرّجة
الثانية.
أ ـ الغصن الذهإبي:
كان لهذا الكتاب الذي ظهرّ في أثني عشرّ مجلداة ما بين 1890و 1915
الدرّيادة في لفت انتباه الشعرّاء إلى الترّاكم الفلكلورّي الواسع ،المليء بالرّموز
والشارّات .والكتاب ليس فقط معالجة موسوعية للحياة البدائية ،إوانما هو أيضاة
الكتاب الذي يعود إليهّ الفضل في الهتمام الدبي الرّاهن بموضوع السطورّة .وهو
كما ذكرّ البرّوفيسورّ "بكلي" مصدرّ يكاد ل ينضب للساطيرّ الرّموز والمرّكزية في
أدب القرّن العشرّين).(1
قاال جب ارّ إبرّاهيم جب ارّ في مقدمة ترّجمتهّ لجزء منهّ تحت عنوان )أدونيس( سنة
)) :1957كان لهذا الجزء ـ أدونيس ـ فضلة عن خطورّتهّ النثرّوبولوجية الظاهرّة،
أثرّ عميق في البداع الدبي في أورّبا في السنين الخمسين الخيرّة بما هيأه للشعرّاء
والكتاب من ثرّوة رّمزية وأسطورّية نرّجو أن ييقبل عليها أدباؤنا أيضاة لغناء أدبنا
الحديث(() (2فاستجاب العديد من الشعرّاء لهذه الدعوة ،وعلى رّأسهم شاعرّ العرّاق
بدرّ شاكرّ السدياب الذي أفاد من الساطيرّ البابلية والفينيقية التي تضمنها الكتاب،
وجعلها تؤدي أغرّاضاة عديدة ودللت متنوعة داخل قاصائده التموزية ،ورّأى فيها
رّمو اةز لولدة جديدة لولئك المعذبين الذين يقارّعون الظلم والطغيان ،في انتظارّ ثورّة
تعيد لهم المل والحياة الكرّيمة.
يقول جب ارّ إبرّاهيم جبرّا)) :لقد كان من المصادفات أن اطلع بدرّ على هذه
السطورّة )يقصد أسطورّة تموز( في فصلين من مجلد كنت ترّجمتهّ من كتاب
)الغصن الذهبي( لسيرّ جيمس فرّيزرّ ) (...ولما قارّأهما بدرّ وجد فيهما وسيلتهّ
الشعرّية الهائلة التي سخرّها فيما بعد لفكرّتهّ ،لكثرّ من ست سنين ،كتب فيها أجمل
وأعمق شعرّه(().(3
وضمن هذا التصورّ أيضاة يندرّج كتاب فرّانكفورّت )ما قابل الفلسفة( الذي
ترّجمهّ جب ارّ إبرّاهيم جب ارّ إلى اللغة العرّبية ،وهو عبارّة عن درّاسة هامة في الساطيرّ
)( -ينظر :جبا إبراهيم جبا :السطورة والرمز ودراسات نقدية لمسة عشر ناقدلا ،ص .150 1
)( -جيمس فآريزر :أدونيس ،ترجشة جشبا إبراهيشم جشبا ،منششورات الصشراع الفكشري ،بيوت ،1957ص 2
.6
)( -جبا إبراهيم جبا :الرحلشة الثامنشة الؤمسسشة العربيشة للدراسشات والنششر ،بيوت ،ط ،1979 ،2ص 3
.19
- 71 -
والمعتقدات التي ظهرّت في مصرّ ووادي الرّافدين والتي نشأت عنها العديد من
المذاهب والفلسفات في الحضارّات اللحقة.
وباختصارّ شديد فقد كان لهذين الكتابين ،وبالخصوص أنهما مترّجمان من
شاعرّ وناقاد معاصرّ ،أثرّ كبيرّ في دفع حرّكة الشعرّ المعاصرّ إلى المام بتقديمها
مجموعة من الرّموز والساطيرّ بنى عليها الشعرّاء فيما بعد قاصائدهم وجعلتهم
يتجاوزون أشكال البناء الشعرّي القديم وقاوالبهّ الجاهزة ،ويقترّبون من نبع الشعرّ
ومفهومهّ كما تمليهّ الظرّوف الجديدة ودواعي الحداثة والمعاصرّة.
ومما زاد في اهتمام هؤلء الشعرّاء بالترّاث ،إقابال ت.س إليوت عليهّ يغترّف من
مادتهّ لييثرّي تجرّبتهّ الشعرّية ويشكل أدواتهّ الفنية .لقد استطاع هذا الشاعرّ بما
يمتلكهّ من عبقرّية وموهبة وشعرّية أن يفجرّ ما في الساطيرّ والحكايات من قايم
وطاقاات يمكن التكاء عليها في التعبيرّ عن قايم العصرّ وقاضاياه بأسلوب فني جديد
لم تألفهّ الكتابة الشعرّية من قابل .علماة أن توظيف الساطيرّ والترّاث الشعبي عموماة
بدأ منذ أن كتب هوميرّوس اللياذة والدويسة وهما من الشعرّ الملحمي المرّتكز على
الترّاتيل الدينية والناشيد السطورّية التي تتغنى بأمجاد اللهة وأنصاف اللهة ،التي
كانت يتنشد في العياد والمناسبات من طرّف أجيال متتالية من الشعرّاء المتجولين.
تعد أساطيرّ الموت والنبعاث ،وما يتعلق بهما من طقوس حكائية كما سبقت
الشارّة ،المصدرّ الساسي الذي عدول عليهّ الشاعرّ العرّبي المعاصرّ في اتقاء رّموزه
وبناء أفكارّه وتجسيد رّؤيتهّ .أما بقية النواع السطورّية الخرّى ،فهي ل ترّد إل
عرّضاة أو تقحم في صلب أسطورّة من هذه الساطيرّ ،مما يجعلها تحتل مكانة أدنى
من الولى ،غيرّ أن هذا ل يعني أننا نقلل من وظائفها الدللية أو الفنية داخل النص
الشعرّي ،فهي بمثابة الرّوافد التي تقوي الدللة وتعطي القصيدة أبعاداة جديدة وزخماة
شعرّياة يكسبها ح ارّرّة التواصل بين الجيال عبرّ أساطيرّها وترّاثها الفلكلورّي.
- 72 -
والشعائرّ)) .وسواء كانت هذه القوة التي تدفع الحياة إلى الستمرّارّ هي أدونيس أو
تموز أو إيزيس وأوزيرّيس أو كانت ملكاة بالفعل ،فإن نسيج القصة واحد ،وطقوس
الحتفال بموتهّ وبعثهّ واحدة .ويتألف نسيج القصة أساساة من النقيضين :الموت
والبعث ،والجدب والخصب ،والحزن والبهجة(().(1
وبما أن هذه الساطيرّ تسعى إلى غاية واحدة ،تتلخص في تجديد دورّة الحياة
وبعث فعل الخصب والنماء في الطبيعة فإن الشاعرّ المعاصرّ حاول أن يجعل منها،
على اختلف أسمائها ومصادرّها لقباة لتموز ،فتجاوز السماء ليغترّف من النبع
مباشرّة ،فالسدياب على سبيل الذكرّ ،حاول أن يجعل من السطورّة السومرّية ـ
بوصفها أقادم هذه الساطيرّ نشأة ـ مجالهّ في استلهام رّمز البطل القتيل لكنهّ كان في
كل مرّة ييضفي عليهّ طابعاة ولوناة خاصةا ،فهو مرّة ذو لون بابلي ،ومرّة كنعاني ،ومرّة
فينيقي ويوناني ،وأخرّى مصرّي.
وليس من المستبعد أن يكون هذا الشاعرّ على درّجة عالية من الثقافة
الفلكلورّية والرّموز الميثولوجية فهو يدرّك أصول تلك الساطيرّ ومواطن تداخلها
والتقائها ،لذا ألفيناه يجمع بين أبطالها وشخصياتها .فأدونيس بطل السطورّة
الفينيقية والغرّيقية كان لقباة من ألقاب تموز ،الذي كان يعبد عند ))القاوام السامية
في بابل وسورّيا ثم أخذ الغرّيق عنهم عبادتهّ حوالي القرّن السابع قابل الميلد وكان
اسم اللهّ الحقيقي )تموز( .وما التسمية )أدونيس( إل الكلمة السامية ومعناها
)السيد( وهو لقب احترّام كان يطلقهّ عليهّ عباده(() .(2ورّبما كان هذا التداخل بين
الميثولوجيات المختلفة حول أسطورّة واحدة ،من السباب التي أثرّت هذا التنويع في
التعامل مع الساطيرّ ،بل وساعدت على اكتشاف مناطق مجهولة من تلقاي
الحضارّات وهجرّة الثقافات.
ومثل ما ارّتبط )تموز( )بعشتارّ( ،ارّتبط )أدونيس( )بأفرّوديت( مرّة بوصفهّ
إغرّيقيةا ،و)بفينوس( مرّة أخرّى بوصفهّ رّومانيةا ،وكذا الحال في السطورّة المصرّية
والكنعانية ،حيث ارّتبط )أوزيرّيس ببايزيس( و)بعل بآنات( .وقاد جسدت هذه اللهة
)رّبات العشق والجمال والحكمة( معنى البعث والحياة عبرّ سلوك دال على عمق
التضحية والخلص للزوج اللهّ ،في زمن كان فيهّ الناس ))يعتقدون أن تموز يموت
كل سنة متنقلة من أرّض المرّح إلى العالم المظلم تحت الرّض ،وأن قارّينتهّ اللهية
)( -نبيلة إبراهيم :النسان والزمن ف التاث الششعب ،ملشة القلم ،بغششداد أيشار ،1976العششدد ،8ص 1
.24
)( -جيمس فآريزر :أدونيس ،ترجة جبا إبراهيم جبا ،دار الصراع الفكري ،بيوت ،1957ص .11 2
- 73 -
ترّحل كل سنة في البحث عنهّ إلى البلد التي ل عودة منها ،إلى دارّ الظلم حيث
الترّاب مكوم على البواب .وفي أثناء غيبتها تنقطع عاطفة الحب عن الشبوب في
)(1
الصدرّ ،فينسى النسان والحيوان على السواء تكثيرّ جنسهّ ،ويهدد الفناء الحياة(( ،
وهنا يتحتم القيام بطقوس موت تموز من أجل عودتهّ وانبعاثهّ مع عشيقتهّ ،إوال
سيحل الخرّاب والفناء.
من هنا أطل الشاعرّ العرّبي المعاصرّ على عمق المعاناة النسانية عبرّ
مسارّها التارّيخي الطويل منذ أن كان النسان يقدم نفسهّ قارّباناة لللهة حفاظاة على
حياتهّ وحياة أبنائهّ) ،فتموز( ،من الناحية الرّمزية ،يموت لييبعث مرّة ثانية ،لن في
موتهّ حياة لهّ ،وفي حياتهّ موت لهّ ،هكذا أرّادت لـهّ اللهة مغتصبة الخلود ،لكنهّ على
الرّغم من ذلك سيبقى مضحياة واهباة الحياة للطبيعة ومجدداة لفصولها وتكاثرّها.
ومن العبث في تصورّ الشاعرّ المعاصرّ ،أن ل تكون لهذه التضحية التي
بطلها تموز أكثرّ من معنى ..ولبد للجدب والعقم في الحياة المعاصرّة من تموز
ينهض بعبء الولدة والنبعاث .ومن ثدم كان لهتمام الشاعرّ بأسطورّة )تموز(
مبرّرّاتهّ الشعرّية ومصدوغاتهّ الفكرّية ،أضف إلى ذلك أنها السطورّة التي تلتقي
عندها جميع أساطيرّ الفداء والتضحية من أجل إعادة الحياة ودفع الموت بشكل
مأساوي حاد.
من الفكرّة ذاتها انطلق معظم الشعرّاء المعاصرّين كالسدياب وخليل حاوي
وأدونيس في توظيفهم لهذه السطورّة بحيث أفادوا منها كثي ةرّا ،وجعلوها تؤدي أغرّاضاة
دللية وفنية متعددة .و أرّوا فيها رّم اةز لثورّة عارّمة تعيد الحياة الكرّيمة للشعوب
المضطهدة التي تقارّع الظلم والطغيان ،وانبعاثاة شاملة لهذه المة من غفوتها
وانحطاطها.
وقاد ازداد تمسك هؤلء الشعرّاء بهذه السطورّة وغيرّها من البعث والخلص بعد
جملة من الحداث والتغيرّات العميقة في بنية المجتمع العرّبي وذهنيتهّ من جرّاء
النكبة التي أصابتهّ .وهذا ما جعل أحد النقاد يرّى أن عملية توظيف الرّموز
والساطيرّ التي شحن بها الشعرّاء كتاباتهم ،إنما هي من فعل النكبة) .(2هذه النكبة
والساطيرّ التي أوحت إلى بعضهم بضرّورّة النهوض والوقاوف إلى جانب النموذج
الغرّبي ،غيرّ أن التصدع كان أقاوى من كل رّؤية متفائلة في البحث عن ميلد جديد،
)( -جيمس فآريزر :أدونيس ،ترجة جبا إبراهيم جبا ،ص .13 1
)( -ينظش ششر جش شبا إبراهيش ششم جش شبا :الرحلش ششة الثامنش ششة الؤمسسش ششة العربيش ششة للدراسش ششات والنشش ششر ،بي ششوت ،ط ،2 2
،1979ص .74
- 74 -
وبذلك انهارّ حلم النبعاث والخلص الذي زكاه عدم التكافؤ بين الغرّب والشرّق.
وكانت النتيجة أن اضمحلت هذه الساطيرّ والرّموز )رّموز النبعاث( ،لتحل
محلها رّموز أخرّى )معظمها صوفية( .وهناك من بقي متمسكاة بها لكن موظفاة إياها
بطرّيقة عسكرّية أو ضدية كما جاء في قاول السدياب بعد أن تسرّب إليهّ الشك في قادرّة
تموز على النهوض ونفض أكفان الموت عن نفسهّ:
ق يدي
ناب الخنزير يش ك
ويغوص لظاه إلى كبدي،
ودمي يتدكفق ،ينساب:
لم يغد شقائق أو قمحال
لكن ملحلا.
"عشتار" ..وتخفق أثواب
وترف حيالي أعشاب
من نعل يخفق كالبرق
كالبرق الخلب ينساب
لو يومض في عرقي
نور ،فيضيء لي الدنيا
لو أنهض ،لو أحيا
لو أسقى! آه لو أسقى!
لو أكن عروقي أعناب!
وتقكبل ثغري عشتار،
فكأكن على فمها ظلمة
تنثال علكي وتنطبق،
فيموت بعينكي اللق
)(1
أنا والعتمة
هكذا تبدو فكرّة النبعاث بعيدة ،ويبدو الشاعرّ حزيناة يخيم عليهّ اليأس ـ من
الوضع الجتماعي والحضارّي ـ والمرّض ،ويحس بناب الظلم ينفذ إلى كبده ،بعد أن
- 75 -
عادت حياتهّ ملحاة ل نبت فيهّ ،ورّم اةز للبوارّ والجدب .أما )عشتارّ( واهبة الحياة
والنورّ فصارّت هي الخرّى عاجزة مثلهّ ل تستطيع أن تفعل شيئةا ،بل أكثرّ من ذلك
أصبحت الظلمة تنثال من فيها ،دون أن تترّك بسمة للمل والرّجاء في أفق )تموز(.
إن أمل الشاعرّ ـ المتحد بتموز ـ قاليل جدةا ،ول يمكنهّ رّسم الطرّيق فتموز عاجز عن
النبعاث .وسبل الخلص من اليأس والمرّض الذي قاهرّه سنين عدة ،وباتت نفسهّ
قااب قاوسين أو أدنى من الموت ،أمرّ بعيد المنال ،وهذا على الرّغم من إيمانهّ
بالنبعاث والنهوض الذي تؤكده بعض قاصائده .فهو في هذه القصيدة يفضل العدم
والرّاحة البدية لنفسهّ و)لجيكورّ( التي ترّمز إلى كل ما يحبهّ على الطلق.
هيهات .أينبثق النور
ودمائي تظلم في الوادي؟
أيسقسق فيها عصفور
ولساني كومة أعواد؟
والحقل ،متى يلد القمحا
والورد ،وجرحي مغفور
وعظامي ناضحة ملحلا؟
ل شيء سوى العدم العدم،
)(1
والموت هو الموت الباقي
يتضح أن تموز القصيدة غيرّ تموز السطورّة إوان اشترّكا في السم ،فقد
استطاع السدياب من خلل هذا المزج بين الشعرّي والسطورّي أن يبرّز المنحى
الجديد لعملية توظيف الترّاث ،ويضفي على تجرّبتهّ الشعرّية بعداة فكرّياة يسمح لـهّ
بتجسيد رّؤيتهّ للحياة والموت .أما من الناحية الفنية فيتضح أن الرّمز الشعرّي ،سواء
أكان أسطورّياة أم تارّيخيةا ،فهو ليس قاالباة جاه اةز أو نظاماة إشارّيةا ،يتكرّرّ بدللتهّ
ومعناه في جميع النصوص ،بل هو نتيجة لكل ممارّسة شعرّية جديدة تطمح لن
تكون متفرّدة في طرّيقتها وأسلوبها .فالشاعرّ أثناء عملية البداع والكتابة يصنع
رّموزه بطرّيقتهّ الخاصة وفق ما تمليهّ عليهّ تجرّبتهّ ورّؤيتهّ .فإن عدنا إلى القصيدة
مرّة ثانية ،نجد أن السدياب قاد دخل في عملية تناص عكسي مع النص السطورّي،
فلم يأخذ الرّمز بدللتهّ السطورّية ،إوانما رّاح يبني إلى جانب تلك الدللة ،دللة
أخرّى مخالفة لها تمامةا ،وهذا ليس من باب التقليد أو المحاكاة كما اعتقد أحمد
- 76 -
المعداوي) (1إوانما هو عملية إنتاج لمعنى جديد ،مما يؤكد أن الرّمز عند بعض
الشعرّاء المعاصرّين ينبغي أن ل يفهم ويق أرّ بالعودة إلى سياقااتهّ القديمة ،بل بالرّجوع
إلى معناه إوايحاءاتهّ التي ابتناها الشعرّ في الكلم وبالكلم .لكن ل ينبغي أن يفهم
أننا ننفي تماماة الدللة الولى للرّمز.
فالرّمز السطورّي يظل محافظاة على إيحاءاتهّ وظللهّ مهما كانت عملية
توظيفهّ في الشعرّ ،حتى إوان بدت خافتة في بعض النصوص ،فبمجرّد ذكرّ رّمز
معين وليكن )تموز( على سبيل المثال ،فإن ذكرّ السم )تموز( يظل يحمل تلك
البعاد والدللت التي زخرّت بها السطورّة ،مما يجعل المتلقي داخل فضاء معين
يصعب عليهّ النتقال منهّ إلى فضاء شعرّي آخرّ ما لم تكن هناك قارّائن تسمح
)(2
بتجاوز المعنى الول إلى المعنى الثاني على حد تعبيرّ عبد القاهرّ الجرّجاني .
لقد أدرّك الشعرّاء هذا المرّ في بداية الرّحلة ،فكانوا يشرّحون رّموزهم ويشيرّون
إلى أصولها في هوامش نصوصهم ،وكانوا يتدرّجون بالرّمز من معناه الصلي إلى
معان جديدة تسمح للمتلقي بالولوج إلى عالم القصيدة بتدرّج في غيرّ كلل أو غموض
يفسدان عليهّ متعة الفهم والتذوق .وانطلقااة من إيمان الشعرّاء المعاصرّين بضرّورّة
التغييرّ والنبعاث حاول خليل حاوي استثمارّ الشخصيات والرّموز السطورّية
اليهودية والمسيحية لتحقيق هذا التغييرّ ،ففي ديوانهّ )نهرّ الرّماد( ـ النهرّ رّمز الحياة
والرّماد رّمز الموت ـ الذي شدخص فيهّ معاناة مجتمعهّ وهو يزحف بخطى متعثرّة نحو
النهوض والنبعاث وقاد أصابهّ ما أصابهّ من التدهورّ والتخلف والسأم ،إشارّة واضحة
ودعوة إلى الغترّاف من منابع الثقافات وأصولها.
كان خليل حاوي ،كما يوحي بذلك عنوان هذا الديوان يعاني من الزدواجية
والنفصام بين الواقاع والمثال ،الصورّة والمادة ،الوجهّ والقناع ،وكأنهّ مفرّوض عليهّ
أن يمرّ بالمصيرّ نفسهّ الذي مرّ بهّ )برّوميثيوس( و)سيزيف( اللذان ظل يحملن
الهموم والعذاب .ونعتقد أن ليس هناك قاصيدة في شعرّه إل وتوحي بهذين الصوتين
البديين الذين يتجاذبانهّ ويفرّيان في أحشائهّ وأعماق رّوحهّ ،وهذا على الرّغم من
الحلم الذي كان يرّاوده والمتمثل في حبهّ للحياة والنتصارّ ،ويبدو ذلك جلياة في هذا
التوسل الصرّيح إلى آلهة الخصب والنبعاث:
يا إله الخصب ،يا بعلل يفض
)( -ينظر :أزمة الداثة ف الشعر العرب الديث ،ص .178 1
)( -ينظششر :دلئششل العجحششاز )ف ش علششم العششان( ،تقيششق ممششد عبششده ،دار العرفآششة للطباعششة والنشششر ،بيوت 2
،1981ص .207
- 77 -
التربة العاقر
يا شمس الحصيد
يا إلهال ينفض القبر
ويا فصحال مجيد.
أنت يا تموز ،يا شمس الحصيد
نكجنا ،نكج عروق الرض
)(1
من عقم دهاها ودهانا
يكاد يكون هذا المقطع طقساة سحرّياة وممارّسة رّمزية لشعائرّ الخصب والنماء،
فالرّض العاقارّ ترّوى ببذارّ بعل ،والشمس تشرّق بانبعاث تموز ،والمسيح يفض
القبرّ عبرّ الفصح إنها شبكة من الطقوس والرّموز التي كان يؤمن بها البدائيون،
اهتدى إليها حاوي بهدي من معاناتهّ وتجرّبتهّ التي انبنت أساساة على المل وفعل
التجاوز والتخطي ،غيرّ أن هذا المل في رّأيهّ ،ـ كما سيتضح في قاصيدتهّ السندباد
في رّحلتهّ الثامنة ـ ل يمكن أن يولد إل من خلل الحساس التام بالنهيارّ والزوال
الشامل بواسطة نارّ محرّقاة أو طوفان جارّف:
إن يكن ،ركباه،
ل يحيي عروق المكيتينا
غير نار تلد العنقاء ،نار
تتغكذى من رماد الموت فينا،
في القرار،
فلنعان من جحيم النار
)(2
ما يمنحنا البعث اليقينا
تسهم أسطورّة العنقاء التي تموت ثم يلتهب رّمادها فتحيا ثانية في تأكيد هذا
المعنى أو المل المتوخى عند الشاعرّ ،فموت العنقاء وانبعاثها إشارّة رّمزية إلى
ضرّورّة القاتناع بالتضحية من أجل النجاة والخلص ،وقاد جاءت كلمة )فلنعان(
صعاب والمشاق ،لترّجح الكفة وترّبط وهي لفظة مثقلة بدللت الستعداد لتحمل ال د
بين الرّؤيا وحقيقة المعاناة في الواقاع ،فالنبعاث عند الشاعرّ ل يمكن أن يتحقق
-خليل حاوي :الديوان ،دار العودة ،بيوت ،1993ص 119ش .120 )( 1
- 78 -
بغيرّ تطهرّ ،والتطهرّ ل يمكن أن يكون بغيرّ معاناة الحترّاق والغتسال.
كان في الفاق والرض سكون
ثم صاحت بومة ،هاجت خفافيش
دجا الفق اكفهكار
ودكوت جلجلة الرعد
فشكقت سحبال حمراء حكرى
أمطرت جم ارل وكبريتال وملحال وسموم
وجرى السيل براكين الجحيم
أحرق القرية ،عكراها،
)(1
طوى القتلى ومكار
وفي )أنشودة المطرّ( ما يؤكد هذا المعنى ،حيث يشيرّ السدياب من خلل مأساة
العرّاق والواقاع المترّدي فيها إلى ملمح الغد الجديد:
أكاد أسمع العراق يذخر الرعود
سهول والجبال،
ويخزن البروق في ال ك
ض عنها ختمها الكرجال
حتى إذا ما ف ك
لم تترك الرياح من ثمود
)(2
في الواد من أثر
وخلصة القول ،فإن اكتشاف الشعرّاء المعاصرّين لهذه السطورّة وما يتعلق
بها من رّموز وطقوس ،قاد مكنهم من التعبيرّ عن تجارّبهم بطرّق فنية سمحت لهم
بنقل الشعرّ إلى دائرّة أوسع بعيداة عن التقليد واجترّارّ المكرّورّ ومحاكاة الموضوعات
المستهلكة ،وفتح لهم باب البداع وتجسيد الرّؤى وعرّض التأملت والفكارّ .ولعلنا
ل نبالغ إن قالنا إن أكثرّ من ثلثي الشعرّ العرّبي المعاصرّ قاد يبني على بقايا هذه
الساطيرّ والمعتقدات التي أبدعتها المخيلة الشعبية واحتفظت بها الجيال على مرّ
العصورّ.
- 79 -
ج ـ أسطورة بروميثيوس)) (1الثورة والتمرد(:
تعد أسطورّة برّميثيوس من الساطيرّ التي استهوت الشاعرّ العرّبي المعاصرّ
في بحثهّ عن نموذج قاوي يستطيع أن يجسد من خللهّ رّغبتهّ في النتصارّ والتحرّرّ
من القيود والحواجز ،والتطلع إلى المعرّفة بهدف تخليص النسان من التبعية اللهية
وجعلهّ سيداة ح اةرّ يصنع حياتهّ ويقرّرّ مصيرّه بنفسهّ.
وقاد صارّت أسطورّة برّميثيوس ،منذ قاديم الزمان ،معيناة ل ينضب اغترّف منها
الشعرّاء والفنانون فتحدث عنهّ هيزيودوس في قاصيدتهّ )العمال واليام( على أنهّ
الرّحيم الذي يرّى الناس ويعطف عليهم ،ورّأى فيهّ أفلطون في )فيتاغورّس( أباة لكل
الجناس البشرّية .كما أشارّ إليهّ الشاعرّ اليوناني أسخيلوس وجعلهّ بطلة لمسرّحيتهّ
)برّميثيوس في القيد( و)برّميثيوس الطليق( حيث نجد هذا الخيرّ يفخرّ بما فعلهّ من
خيرّ في سبيل إسعاد البشرّ) ،(2وحملهم على كسرّ القيود بواسطة المعرّفة وحمل
مشعل النارّ رّمز الحرّكة والحياة.
ولعل من أشهرّ الدباء الذين وظفوا هذا الشخصية في أعمالهم الدبية في
العصرّ الحديث "جوتهّ" في مسرّحيتهّ )برّوميثيوس( ،1873والشاعرّ الرّومانتيكي
النجليزي "شيلي" في مسرّحيتهّ المترّجمة إلى العرّبية تحت عنوان )برّوميثيوس
الطليق( التي وظف فيها برّوميثيوس رّم اةز لمن يضحي في سبيل مستقبل النسانية
وفجرّها الجديد .وقاد كان "شيلي" يحلم بهذا الفجرّ الذي يحمل لواءه الحكماء والشعرّاء
والمضحون في سبيل النسانية ،لن كل واحد من هؤلء إنما هو برّوميثيوس
جديد).(3
)( -بطششل أسششطوري مششن صششنع الخيلششة البدائيششة اليونانيششة ،تششروي السششطورة أنششه رأى بثششاقب فآكششره أنششه يكششن 1
للبشششر أن يعيششوا سششعداء إذا مششا تصششلوا علششى النششار ،فآاسششتعطف زوس كششبي اللششة أن ينحششه إياهششا ،إل أن
زوس أجششابه قششائلل ))بالنششار سششوف يصششبح بنششو البشششر فش غايششة الهششارة فآيظنششون أنفسششهم أنششدادال لللششة(( .لش
يكتث بروميثيوس بغضب زوس وقرر أن ينزل النشار إلش الرض .غضشب عليشه هشذا الخيش وأمشر اللشة أن
تأخششذه إل ش جبششل كيقششاوس ،وتشششده إل ش صششخرة ضششخمة يؤممهششا نسششر بششري متششوحش ينقششر جسششده العششاري
ويلتهم كبده كل صباح ،لينمو لشه كبد جديد فش السشاء .وعلشى الرغشم مشن هشذا العشذاب فآقشد ظشل البطشل
صششامدلا ،ل ش يطلششب الرحششة والصششفح إل ش أن خلصششه هياكليششز .حششول هششذه السششطورة ينظششر :شششوقي عبششد
الكيم :موسوعة الفلكلور والساطي العربية ،دار العودة ،بيوت ،ط ،1982 ،1ص ،100وأيضلا،
مششاكس شششابيو :معجحششم السششاطي ،ترجششة :حنششا عبششود منشششورات دار علء الششدين ،دمشششق ،1999ص
،209برنارد ايفلسن :ميثولوجيا البطال واللشة والوحششوش ،ترجشة :حنشا عبشود ،منششورات وزارة الثقافآششة،
دمشق ،1997ص .63
)( -ينظر :ممد غنيمي هلل :الدب القارن ،دار العودة ،بيوت ،1983ص .310 2
)( -ينظر :ممد غنيمي هلل :الدب القارن ،ص .310 3
- 80 -
وقابل الحديث عن هذه السطورّة في الشعرّ العرّبي المعاصرّ وما ترّمز إليهّ من
دللت وأبعاد أغنت النص وأضفت عليهّ طابعاة إنسانياة وشمولياة عامةا ،نشيرّ إلى أن
هذه السطورّة تشبهّ في أكثرّ من نقطة القصة الشعبية التي نسجت حول صلب
المسيح عليهّ السلم) ،(1فكلهما قادم نفسهّ فداء لتخليص البشرّية من العناء والقهرّ،
وكلهما حاول أن يجسد حكائياة فكرّة الستشهاد من أجل الخرّين ،فأصبحا رّمزين
من رّموز الفداء والتضحية ،وبهذه الرّمزية أو الدللة يوظفان في أغلب القصائد
الشعرّية ،حتى إوان لم يذكرّ اسميهما ،لن ما يهم الشاعرّ هو سرّيان هذه الرّوح ـ رّوح
التضحية والستشهاد أو الرّوح البرّوميثيوسية إن صح هذا التعبيرّ ـ في القصيدة ول
يهم سواء ذكرّ برّوميثيوس أو غيرّه يقول محمد جميل شلش:
سارق النار ،رفيقي في المصير،
لم يزل يحلم بالفجر الكبير،
كبدلا ،أقوى من اللم..
والحزان..
والصمت المرير
كبدال منصدعة،
ينهش النسر بقاياها..
وتترو..
..........
سارقال ما زال فينا،
يحمل المشعل في العماق دينلا،
ويغني لعبير الشمس..
في أعماق ليل "العاشرة"*
يا عدو الفجر ،إن الفجر آت،
وعلى البلغي تدور الدائرة).(2
يستلهم محمد شلش في هذا المقطع عذاب برّوميثيوس ليعبرّ من خللهّ عن
عذابهّ وآلمهّ وهو داخل الزنزانة يستصرّخ ويحلم بفجرّ جديد .إن توحد الشاعرّ
)( -قال تعال. : : 1
)( -ممد جيل شلش :الديوان ،دار العودة ،بيوت ،ط ،1197 ،8ص 102ش .103 2
- 81 -
ل ،وأضفى عليهّ بسارّق النارّ ـ كما فضل هو التعبيرّ عنهّ ـ أكسب عذابهّ غنى ومدلو ة
بعداة إنسانياة وأسطورّيةا ،وجعل وقاعهّ في الملتقى حياة متدفقةا .فالشاعرّ المدتحد
ببرّوميثيوس يرّفض الستسلم ويأبى الخضوع والنسياق ويحلم بالنتصارّ على
الرّغم من العذاب الشديد ،ما دام هناك بقايا حياة في كبده:
يا عدو الفجر ...يا نسل النسور الفاجرة،
لم تزل بقايا حياة
في دمي ،في فلذة من كبدي المنصدعة،
لم يزل يخفق قلبي للفصول الربعة،
لم أزل أؤمن بالنسان
)(1
في وهران
إن المعنى الولي الذي يوحي بهّ هذا المقطع ،بالضافة إلى رّوح التضحية
والستشهاد ،هو هذا العنصرّ الجديد المتمثل في القدرّة على النبعاث والتعاقاب )لم
يزل يخفق قالبي للفصول الرّبعة( ،وفي توحد الذات المبدعة )الشاعرّ( بالزمان،
إشارّة إلى عمق المعاناة والرّغبة في التمسك بخيط اللحظة البدية ،وهو إلى جانب
هذا المعنى يكشف إصرّارّ الشاعرّ إوايمانهّ بطرّيق الستشهاد والتضحية الذي ل
يمكن أن يؤدي إلى مسلك آخرّ غيرّ مسلك الخلود والبقاء).(2
غيرّ أن النسان المعاصرّ كما يرّى عبد الوهاب البياتي قاد خان بطولة
برّوميثيوس لنهّ يسعى إلى الطعام أكثرّ من سعيهّ إلى الحرّية التي منحهّ إياها هذا
البطل .ولو أن برّوميثيوس عاد إلى الرّض كما يقول ألبيرّ كاموا )(1913ً-1960
لوقاف الناس منهّ الن مثلما وقاف الرّباب منهّ بالمس ،سيرّبطونهّ إلى الصخرّة باسم
النسانية ،مع أنهّ أقادم رّمز لها) (3وقاد تجلت هذه الصورّة واضحة عند البياتي حيث
ظهرّ برّوميثيوس وقاد بلغ حداة من اليأس والبكاء والضعف:
داروا مع الشمس فانهارت عزائهم
وعاد أكولهم ينعي على الثاني
)( -قال تعال 2
- 82 -
وسارق النار لم يبرح كعادته
يسابق الريح من حان إلى حان
ولم تزل لعنة الباء تتبعه
وتحجب الرض عن مصباحه القاني
ولم تزل في السجون السود رائحة
وفي الملجئ من تاريخه العاني
مشاعل كلما الطاغوت أطفأها،
عادت تضيء على أشلء إنسان
عصر البطلت وقد وكلى ،وها أنذا
أعوذ من عالم الموتى بخذلن
وحدي احترقت! أنا وحدي! وكم عبرت
بي الشموس ولم تحفل بأحزاني
إني غفرت لهم
إني رثيت لهم!
إني تركت لهم
)(1
يا ركب أكفاني!
)( -عبششد الوهششاب البي ششات :الششديوان ،دار الع ششودة ،بيششوت ،ط ،1979 ،3ص 180ش ش ،181مششن 1
)( -تششروي السششطورة أ ،اللششة حكمششت علششى سششيزيف ،لفآشششائه سششر زوس الششذي خطششف ريينششا لبيهششا، 2
بالعمال الشاقة وحل الصخرة إل رأس البل ليلقي با إلش السفح ،فآيعشود لملهشا ثانيشة ،وهكشذا إلش ما
ل نايش ششة ل ش ششه .حش ششول هش ششذه السش ششطورة ينظش ششر :مش ششاكس شش ششابيو :معجحش ششم السش ششاطي ترجش ششة حنش ششا عبش ششود،
ص .229
- 83 -
التي وظفت فيها ،ييبرّز مدى اهتمام الشعرّاء المعاصرّين على اختلف توجهاتهم
وأفكارّهم ،بهذه السطورّة التي تكاد تكون سمة مميزة لبعضهم ،كما سيتضح بعد
قاليل.
ترّمز أسطورّة سيزيف باختصارّ إلى مجانية العمل النساني وضياع الجهد،
كما أنها تجسيد للحسان بالعبث واللجدوى ))بانعدام التوافق أو النسجام بين حاجة
الذهن إلى الترّابط المنطقي ،وبين انعدام المنطق في ترّكيب العالم(() ،(1وهو إحساس
رّافق النسان منذ أن استعمل ذهنهّ وفكرّه في فلك اللغاز التي تواجههّ في هذه
الحياة ،وقاد ازداد هذا الحساس حدة في العصرّ الحديث بسبب التغيرّات الكبيرّة التي
طرّأت على الواقاع النساني على صعيد التفكيرّ والتصورّ مما عدمق هذا الحساس،
أو بالحرّى هذه الرّؤية العبثية عند بعض الشعرّاء.
إواذا كان ألبيرّ كامي وهو من المعجبين بهذه السطورّة كما يظهرّ من خلل
كتابهّ )أسطورّة سيزيف( ـ الذي نقلهّ إلى العرّبية الستاذ أنيس زكي حسن ـ يأخذها
بهذا المعنى ،دون أن يضيف إليهّ شيئةا ،ليقيم عليهّ جوهرّ فلسفتهّ حول نظرّتهّ إلى
النسان والمجتمع ،مثلهّ مثل الدباء العبثيين الذي يؤمنون بانعدام الهدف انعداماة
مطلقاة من الحياة .فإن الشاعرّ العرّبي المعاصرّ كان خلفاة لذلك بحكم الرّواسب
)(2
الثابتة المستمدة من الفكرّ العرّبي والعقيدة التي ترّفض أن تكون الحياة عبثاة ولهواة .
غيرّ أن تأثرّ هذا الشاعرّ بالشعرّ الغرّبي وفلسفاتهّ بحكم الحتكاك والتأثيرّ والتأثرّ
الحاصل بين الثقافات والحضارّات ،جعل هذا الحساس بالعبث واللجدوى يتفاقام
لدى بعض الشعرّاء الذين عاشرّوا حالت من التقلب الفكرّي نتيجة انتماءاتهم
المختلفة ،أو نتيجة هذا التساؤل المستمرّ الذي طرّحهّ الفكرّ البشرّي عبرّ أسطورّة
)سيزيف( وهو يقوم برّفع الصخرّة من سفح الجبل إلى قامتهّ دون غاية ول هدف.
يقول صلح عبد الصبور وهو يطرح السؤال نفسه:
ما غاية النسان من أتعابه ،ما غاية الحياة؟
يا أيها الله)!(3
ل يرّيد صلح عبد الصبورّ من طرّحهّ لهذا السؤال الوصول إلى إجابة ،بقدرّ
ما يرّيد التعبيرّ عن رّؤية فلسفية تؤكد عبثية الجهد النساني المبذول ،ما دام هذا
)( -جون كروكششاتك :ألشبي كشامي وأدب التمشرد ،ترجشة جلل العنشتي ،دار الشوطن العربش ،دون تاريشخ، 1
ص .58
)( -قال تعال /// 2
)( -صلح عبد الصبور :الديوان ،دار العودة ،بيوت ،ط ،1983 ،4ص .30 3
- 84 -
الجهد ل ينتهي إلى غاية أو هدف .والواقاع أن هذا التساؤل نابع عن تساؤل آخرّ
مفاده أنهّ إذا كان النسان محكوم عليهّ مسبقاة بالموت والجحيم فلماذا كل هذا الجهد
والتعب؟ وهو سؤال طرّحهّ من قابل أبو العلء المعرّي بشيء من التهكم والسخرّية.
ويزداد هذا الحساس بالعبث ومجانية التجرّبة النسانية حين يقول:
أموت ل يعرفني أحد
أموت ل يبكي أحد
وقد يقال ،بين صحبى ،في مجامع المسامرة
مجلسه كان هنا ،وقد عبر
فيمن عبر...
)(1
يرحمه ال...
لقد تمكنت هذه الرّؤيا ،وهي في جوهرّها رّؤيا سيزيفية كما أسلفنا ،من نفسية
صلح عبد الصبورّ فطبعت العديد من قاصائده وبالخصوص تلك التي كتبها حين
استشعرّ موت النسان النسان ،فأدى بهّ هذا الشعورّ إلى التسليم بأن هذا الكون
موبوء ،ل يصلحهّ شيء) ،(2والرّض فيهّ بغي طامث) (3أيامهّ مرّيضة) ،(4دنياه
عجوز عقيم) ،(5وعالمهّ يموج بالتخليط والقمامة) ،(6وبأن إنسان هذا العصرّ إنسان
أجوف مزيف ،غيرّ أصيل:
يا صاحبي!...
ما نحن إل نفضة رعناء من ريح سموم
أو منية حمقاء
)(7
والشيطان خالقنا ليجرح قدرة ال العظيم
أما:
النسان النسان عبر
- 85 -
من أعوام
ومضى لم يعرفه البشر
حفر الحصباء ،ونام
)(1
وتغطى باللم...
هكذا استطاع صلح عبد الصبورّ أن يحدول مضمون السطورّة اليونانية إلى
رّؤيا شعرّية وفلسفية مكنتهّ من الغوص في غورّ حياتنا المعاصرّة ليجلي سمتها
البرّاق وجوهرّها المزيف ،ومن ثم فل غرّو أن يكون سيزيف هو البطل الذي يطل من
هذه المقاطع الشعرّية معب اةرّ عن وحدة الشعورّ النساني حين ينتابهّ السأم والملل.
)( -سهي القلماوي :ألف ليلة وليلة ،دار العارف ،مصر ،1966ص .75 2
)( -ممد غنيمي هلل :الدب القارن ،دار العودة ،بيوت ،1983ص .222 3
- 86 -
و ـ أسطورة السندباد)) (1البحث والتجلي(:
إذا كان الغرّبيون قاد اهتموا كثي اةرّ بشهرّزاد وأولوها العناية الكاملة لسباب معينة
كما سوف يتضح في الصفحات القادمة من هذا البحث ،فإن الشعرّاء العرّب قاد
رّكزوا اهتمامهم على السندباد بوصفهّ رّم اةز من رّموز مورّثنا الشعبي ،ونموذجاة عرّبياة
جدسد من خللهّ النسان طموحاتهّ ورّغباتهّ ،ولعلنا ل نبالغ إن قالنا مع علي عشرّي
زايد) ،(2إنهّ من بين الرّموز والشخصيات الكثرّ استحواذاة على اهتمام شعرّائنا ،فما
من ديوان نفتحهّ من دواوين هؤلء إل ويطالعنا وجهّ السندباد من خلل قاصيدة أو
أكثرّ وما من شاعرّ إل وقاد اعتبرّ نفسهّ سندباد في مرّحلة من مرّاحل تجرّبتهّ
الشعرّية.
والسندباد كما تصورّه ألف ليلة وليلة هو ذلك البطل السطورّي المغامرّ
الذي ل يهدأ لـهّ بال ،ل يكاد ينتهي من رّحلة حتى يشرّع في أخرّى ،لذا فهو
يمتاز عن غيرّه من البطال برّحلتهّ الطويلة عبرّ البحارّ والجزرّ ،وارّتياده آفاقااة
غرّيبة وعوالم مجهولة تقول عنها المرّويات الشعبية الجزائرّية "إلي رّايح إليها مفقود
ولي رّاجع منها مولود" ) .(3وعلى الرّغم من تلك الخطارّ والمخاوف المهلكة التي
كانت تسد طرّيقهّ وتدفع بهّ إلى الموت بالغرّق أو الختطاف والسرّ في الجزرّ
النائية ،فإنهّ كان يعود دائماة من رّحلتهّ ظاف اةرّ منتص اةرّ محملة بالموال والكنوز
العجيبة.
في الليلة الثامنة والخمسين بعد الخمسمائة من ليالي ألف ليلة وليلة يبدأ
السندباد البحرّي في سرّد أولى سفرّاتهّ على السندباد الحمال وجلسائهّ ،مبتدئاة من
حيث النهاية "إني ما وصلت إلى هذه السعادة وهذا المكان إل بعد تعب شديد ومشقة
)( -تعشدد هششذه الشخصششية مششن أكششثر شخصششيات ألششف ليلششة وليلششة تششأثيال علششى الدب الغرب ش والعربشش ،فآقششد 1
أوحششت إلش كتششاب الششرحلت أن يؤملرفشوا حولششا كتبشال قيرمششة ،كالششذي نشراه فش )روبنسششون كششروزو( و)رحلت
جاليفر( وهأا كتابان صادفآا ناحال كشبيلا .ومشن الشذين تشأثروا بذه الشخصشية أيض ال )جشون فآشرن( و)هربشرت
جششورج ويلششز( .أمششا العششرب فآلششم يهتم شوا بششا إل بعششد مضششي أكششثر مششن قرني ش مششن اهتمششام الغششرب بششا .ويعششد
الشاعر الصري صلح عبد الصبور من بي الشعراء العاصرين الوائل ،اكتشافآال لرمز السندباد.
)( -ينظر كتابه :استدعاء الشخصيات التاثية ف الشعر العرب العاصر ،ص .156 2
)( -مششن السششتبعد أن يكششون رواة ال شتاث الشششعب الزائششري قششد اقتبس شوا هششذه العبششارة مششن ألششف ليلششة وليلششة، 3
وبالصوص إذا علمنا أن هذه الخية قد تركت آثارال واضحة على القصة الشعبية الزائريششة .تقششول روزليش
ليلششى قريششش ف ش هششذا الصششدد" :ول ش يقتصششر تششأثي كتششاب "ألششف ليلششة وليلششة" فش الوسششاط الشششعبية الزائريششة،
عل ششى رواج قص ششص مقتبس ششة من ششه ..ب ششل يتع ششدى إلش ش التح ششوير الل ششي نفس ششه ال ششذي يل ششق قصص شال بأس ششلوب
مصطبغ بصفة "ألشف ليلشة وليلشة" القصشة الششعبية الزائريشة ذات الصشل العربش ،ديشوان الطبوعشات الامعيشة
الزائر 1980ص . 190
- 87 -
عظيمة وأهوال كثيرّة ،وكم قااسيت في الزمن الول من التعب والنصب ،وقاد سافرّت
سبع سفرّات وكل سفرّة لها حكاية تحيرّ الفكرّ ،وكل ذلك بالقضاء والقدرّ وليس من
المكتوب مفرّ ول مهرّب" ) .(1ثم يبدأ من جديد في قاص حكاياتهّ" :اعلموا يا سادة يا
كرّام أنهّ كان لي أب تاجرّ وكان من أكابرّ الناس والتجارّ ،وكان عنده مال كثيرّ
ونوال جزيل .وقاد مات وأنا ولد صغيرّ ،(2) "..لينتهي منها في الليلة الواحدة بعد
ل ....." :ثم دخلت حارّتي وجئت دارّي وقاابلت أهلي وأصحابي الستمائة قاائ ة
وأحبائي ،وخزنت جميع ما كان معي من البضائع وخواصلي ،وقاد حسب أهلي مدة
غيابي عنهم في السفرّة السابعة فوجدوها سبعاة وعشرّين سنة ،حتى قاطعوا الرّجاء
مني ،فلما جئتم وأخبرّتهم بجميع ما كان من أمرّي وما جرّى لي صارّوا كلهم
يتعجبون من ذلك المرّ عجباة كبي اةرّ وهنؤني بالسلمة ،ثم إني تبت إلى ال تعالى
عن السفرّ في البرّ والبحرّ بعد هذه السفرّة السابعة التي هي غاية السفرّات وقااطعة
الشهوات ،وشكرّت ال سبحانهّ وتعالى وحمدتهّ وأثنيت عليهّ حيث أعادني إلى أهلي
)(3
وبلدي وأوطاني"...
كان الدافع واضحاة ورّاء رّحلت السندباد :التجارّة والمغامرّة والفضول ،يؤكد
ذلك قاولهّ" :فاشتاقات نفسي إلى الفرّجة في البلد إوالى رّكوب البحرّ وعشرّة التجارّة
وسماع الخبارّ" ) (4بالضافة إلى الطمع الذي تؤكده الحكاية نفسها في قاولهّ" :وهذا
الذي أقااسيهّ من طمعي" ) ،(5فالسندباد من حيث هذه الدوافع وغيرّها رّمز لقلق
النسان وطموحهّ اللمتناهي إلى الحرّية والنسلخ من القيود ،والرّغبة في الكشف
عن المجهول والغامض بالمغامرّة ورّكوب الخطرّ وتخطى الصعاب ،وتجاوز
المكرّورّ السائد.
هذه الشياء كلها استهوت الشاعرّ العرّبي المعاصرّ ،فكان توظيفهّ لهذا الرّمز
المتعدد الدللت والقيم ،مسلكاة إلى تجاوز الواقاع العرّبي المهزوم ،واستشرّافاة إلى
عوالم أكثرّ رّحابة تمكنهّ من تحقيق ذاتهّ الفرّدية والجماعية ،لن دللة السندباد من
الناحية الرّمزية ذات بعدين ،بعد فرّدي يجلي من خللهّ فرّادتهّ الشخصية ،وبعد
جماعي تتفرّع قايمتهّ في حقل التجرّبة النسانية التي تتمثل في رّحابة حضورّها عبرّ
)(-ألف ليلة وليلة ،منشورات دار مكتبة الياة بيوت 399 / 3 1
)(-ألف ليلة وليلة ،منشورات دار مكتبة الياة بيوت 399 / 3 2
)(-ألف ليلة وليلة ،منشورات دار مكتبة الياة بيوت 23 / 4 3
)( -ألف ليلة وليلة ،منشورات دار مكتبة الياة بيوت 14 / 4 4
)( -ألف ليلة وليلة ،منشورات دار مكتبة الياة بيوت 16 / 4 5
- 88 -
الزمان والمكان ،وهذا ما أدى بعز الدين إسماعيل إلى تأكيد هذه الثنائية ،فهي في
نظرّه "عادية على المستوى الجمعي للنسان ،لن قاصة النسانية إجمالة هي قاصة
المغامرّة في سبيل كشف المجهول ،وهي غيرّ عادية على المستوى الفرّدي ،لننا
ألفنا الفرّد الذي تتلخص فيهّ التجرّبة النسانية ناد ةرّا" ) ،(1ولهذه السباب نجد هذه
السطورّة تفجرّ لدى المتلقي حقولة دللية متعددة وتجليات ل نهائية ،وهذا ما جعل
الشاعرّ العرّبي المعاصرّ يتماهى بها إبداعيةا ،متخذاة منها رّم اةز لتجسيد رّؤيتهّ
والتعبيرّ عن جوانب تجرّبتهّ التي تعد مغامرّة مستمرّة في سبيل الكشف وارّتياد
المجهول بحثاة عن كنوز الشعرّ طو ةرّا ،والنبعاث من التخلف والتقليد طو اةرّ آخرّ.
وتبعاة لتعدد ملمح السندباد ووجوههّ في الشعرّ المعاصرّ فقد اتخذ دللت عدة
فنية وحضارّية وذاتية ،كما سيتضح عند عبد الصبورّ وخليل حاوي وبدرّ شاكرّ
السياب.
-صلح عبد الصبور )البحث عن كنوز الشعر والمعرفة(:
يعد صلح عبد الصبورّ من الشعرّاء الرّواد الدين أسهموا في تأصيل هذا
التوظيف برّؤيا معاصرّة تتواشج فيها جملة من العلئق الحكائية التي تنم عن تداخل
عدة نصوص بطرّيقة فنية وسليمة ،وهي تؤدي تعدداة دللياة يترّاوح حضورّه بين حقلي
الشعرّ والمسرّح الشعرّي .ومن ثم يمكن القول إن توظيف صلح عبد الصبورّ
لسطورّة السندباد لم يتم عبرّ صيغ ميكانيكية إسقاطية جاهزة ،بقدرّ ما تم عبرّ إبداع
لغة حكائية معاصرّة تتمفصل مع دللة
السندباد.
ففي قاصيدتهّ )رّحلة في الليل( ) (2من ديوانهّ الول )الناس في بلدي( ،يتجلى
اهتمامهّ المبكرّ بهذا الرّمز ،حيث جعلهّ البؤرّة الساسية التي تحكم جميع خيوط
القصيدة سواء من حيث الدللة أو البناء الفني ،فمن حيث الدللة نجد السندباد هو
البديل الموضوعي لصديقة الشاعرّ إوان جاء في المستوى الثاني من مستويات
الخطاب .تبدأ القصيدة بهذا العنوان الفرّعي )بحرّ الحداد( وكلمة )بحرّ( كما هو
معرّوف في حكاية السندباد ،من السمات الجوهرّية الدالية عليهّ لذا قارّن الرّاوي اسمهّ
بالبحرّ فقال )السندباد البحرّي( ،فالسندباد والبحرّ تيمتان متلزمتان ل يمكن الفصل
بينهما ،إن لم نقل أن البحرّ )الماء( هو عنصرّ التزامن الذي يمكن أن نق أرّ هذه
السطورّة على أساسهّ ،لنهّ السياق المؤدي إلى تشاكل عناصرّها وتكوين بنيتها
)( -ينظر :عز الدين إساعيل :الشعر العرب العاصر ص 203 1
- 89 -
الموحدة ،فالبحرّ هو المجال الذي كان سندباد يصنع من خللهّ مغامرّاتهّ ويحقق
رّغباتهّ وأحلمهّ.
إذا كان بحرّ السندباد مصد اةرّ للغنى والجواهرّ والكنوز ،فإن بحرّ صلح عبد
الصبورّ ،كما يوحي بذلك العنوان ،عكس ذلك تمامةا ،فهو بحرّ الحداد والعدم والظلمة
والضياع ،مات فيهّ الرّخ ،سبيل النجاة والخلص وتقطعت فيهّ السبل.
بهذه المفارّقاة ،ومن داخل أسطورّة السندباد نفسها يبدأ صلح عبد الصبورّ
ينسج خيوط أسطورّة جديدة منسجمة مع تجرّبتهّ وآفاق تطلعاتهّ إلى غد تولد فيهّ نفسهّ
من جديد.
تتشكل القصيدة من ستة مقاطع تفصل بينها عناوين فرّعية ،لكنها تصب جميعاة
في منبع واحد لتصنع دفق القصيدة ومشهدها العام ،ففي المقطع الرّابع تحت عنوان
)السندباد( يقول صلح عبد الصبورّ:
في آخر المساء يمتلي الوساد بالورق
كوجه فأر ميت طلسم الخطوط
وينضح الجبين بالعرق
ويلتوي الدخان أخطبوط
في آخر المساء عاد السندباد
ليرسي السفين
وفي الصباح يعقد الندمان مجلس الندم
ليسمعوا حكاية الضياع في بحر العدم
السندباد:
)(1
)ل تحك للرفيق عن مخاطر الطريق(
)إن قلت للصاحي انتشيت قال :كيف؟(
)السندباد كالعصار إن يهدأ يمت(
الندامى:
هذا محال سندباد أن نجوب في البلد
إنا هنا نضاجع النساء
)( -يذكرنا هذا الكلم بالثل العرب القدي )الرفآيق قبل الطريق( ما يدل على تشبع الشاعر بالتاث. 1
- 90 -
ونغرس الكروم
ونعصر النبيذ للشتاء
ونق أر )الكتاب( في الصباح والمساء
وحينما تعود نعدو نحو مجلس الندم
)(1
تحكى لنا حكاية الضياع في بحر العدم
سندباد هذا المقطع الشعرّي غيرّ سندباد السطورّة أو ألف ليلة وليلة ،لنهّ لم
يعد ذاك البطل المغامرّ الذي تحرّكهّ الشواق إلى رّكوب البحرّ وتخطي الصعاب،
فهو هنا شخصية عادية ترّوى للندامى حكاية السندباد البحرّي ومغامرّاتهّ لعلها تحرّك
فيهم رّغبة التمرّد والنعتاق من القيود .لكن هيهات أن يخرّج هؤلء ويجوبوا البلد
مثلما فعل السندباد ،إنهم هنا يضاجعون النساء ويعصرّون النبيذ ويستمتعون
بالحكايات .لم يعد السندباد قااد اةرّ على بعثهم من جديد أو حتى تحرّيك عواطفهم
وانفعالتهم ،وفي ذلك إشارّة من الشاعرّ إلى الواقاع المهزوم الذي آثرّ الستقرّارّ وألف
الثبات ،واكتفى أفرّاده بالسماع عن البطال والشخصيات دون محاكاتهم أو التأثرّ
بهم.
إواذا كانت هذه هي حال المجتمع العرّبي المعاصرّ الرّافض للتغييرّ والنبعاث
فإن حال الشاعرّ غيرّ ذلك لنهّ ينشد الميلد والتجدد اللذين كان يطلبهما السندباد
في كل سفرّة من سفرّاتهّ:
في الفجر يا صديقتي تولد نفسي من جديد
كل صباح أحتفي بعيدها السعيد
ما زلت حيلا! فرحتي! ما زلت والكلم والسباب
والسعال
وشاطئ البحار ما يزال يقذف الصداف واللل
والسحب ما تزال
)(2
تسح ،والمخاض يلجئ النساء للوساد
ولو عدنا مرّة ثانية إلى قاصيدة )رّحلة في الليل( وتأملنا قاليلة مقطعها الرّابع
)السندباد( لرّأينا أنها تتكون من ثلث حرّكات من حيث السلوب المعتمد في
- 91 -
توظيف هذا الرّمز أو الشخصية ،ففي الحرّكة الولى تحدث عنها بضميرّ الغائب،
وفي الثانية بضميرّ المتكلم ،وفي الثالثة بضميرّ المخاطب وفي "الحوال الثلثة كان
السندباد موجودةا ،أي أن الشاعرّ خلق الشخصية وحملها تجرّبتهّ المعاصرّة في
الحرّكة الولى ،وحين استوت على سوقاها تلبس بها كقناع في الحرّكة الثانية فأصبح
هو هي ،وبعد أن تقنع بها حاول إغرّاء الجماعة أن تصنع صنيعهّ فلم تستجب
لدعواه" ) .(1ويمكن إدرّاج هذا السلوب ضمن أساليب )اللتفات( ) (2المعرّوفة في
البلغة العرّبية القديمة بشيء من التوسع.
إن اهتمام صلح الصبورّ بأسطورّة السندباد وغيرّها من كنوز الترّاث الشعبي
المحلي والعالمي في هذه المرّحلة المبكرّة من إنتاجهّ الشعرّي دليل واضح على تقييمهّ
لهذا الترّاث وما يحملهّ من قايم جمالية ومعاني سامية بإمكانها إغناء القصيدة وتفجيرّ
طاقاات المبدع وعبقرّيتهّ الفنية.
لقد وجد صلح عبد الصبورّ في أسطورّة السندباد التي اتخذ منها قاناعاة ومجالة
رّحباة لبسط أفكارّه وتأملتهّ الفلسفية على مدى تطورّ مرّاحل حياتهّ الشعرّية التي
يمكن تقسيمها إلى ثلث مرّاحل؛ كان السندباد في كل واحدة منها يظهرّ بوجهّ معين
وصورّة مخالفة لما ألفناه من قابل.
تبدأ المرّحلة الولى بديوانهّ الول )الناس في بلدي( :يتجلى السندباد في رّحلة
لهثة ورّاء كنوز المعرّفة ،ورّغبة جامحة في امتلك ينبوع القول وناصية العطاء
الشعرّي ،إنها رّحلة الشاعرّ نفسهّ في سبيل البداع والبحث عن الكلمات والحرّوف،
فهو يرّحل كما رّحل السندباد رّغبة في الكشف عن عوالم شعرّية أخرّى ،تمكنهّ من
النفلت من قابضة التقليد إواعادة ما أبدعهّ القدماء ،صانعاة سفينتهّ )أورّاقاهّ
وخطاطاتهّ( ناش اةرّ قالعهّ )خيالهّ( ،رّاحلة عبرّ المجهول )عوالم الفن والفكرّ( ،باحثاة
عن الثرّوة والجواهرّ )الحقيقية(.
صنعت مركبال من الدخان والمداد والورق
ربانها أمهر من قاد سفينا في خضم
وفوق قمة السفين يخفق العلم
)(-متار علشي أبشو غشال :سشندباد صشلح عبشد الصشبور )نقشد أسشطوري( ملشة عشال الفكشر ،الكشويت ،اللشد 1
الخاطبشة ومشا يشششبه ذلشك .ومششن اللتفشات النصشراف عششن معنش يكششون فآيششه إلش معنش آخشر" كتشاب البشديع،
تقيق إغناطيوس كراتشقوفآسكي ،دار السية بيوت ط 1982 3ص 58
- 92 -
وجه حبيبي خيمة من نور
وجه حبيبي بيرقي المنشور
جبت الليالي باحثال في جوفها عن لؤلؤه
وعدت في الجراب بضعة من المحار
وكومة من الحصى ،وقبضة من الجمار
وما وجدت اللؤلؤه
سيدتي ،إليك قلبي ،واغفري لي ،أبيض كاللؤلؤة
وطيب كاللؤلؤة
ولمع كاللؤلؤة
هدية الفقير
)(1
وقد ترينه يزين عشك الصغير
نلحظ في هذا المقطع مزجاة واضحاة وتداخلة نصياة بارّ اةز بين عناصرّ الرّحلة
عند كل من الشاعرّ والسندباد ،يكشف عنها السطرّ الول حين يذكرّ الشاعرّ الدخان
والمداد والورّق ،بجانب السفين والرّبان .ولعل أول ملحظة تستوقاف قاارّئ هذا
المقطع هو عزوف صلح عبد الصبورّ عن ذكرّ شخصية السندباد صرّاحة،
واكتفاؤه بالتلميح ،وهو ما نجده أيضاة في قاصيدتهّ )أناشيد غرّام( ،وتعد هذه الطرّيقة
من الساليب الفنية التي اعتمد عليها الشاعرّ في توظيف الشخصيات الترّاثية ،فهو
ل يصرّح بالساطيرّ والشخصيات والحداث إوانما يومئ إليها خفية مستعملة اللفاظ
والكلمات التي ترّمز إليها ،فكلمة )مرّكب ،سفين ،خضم ،ليالي ،لؤلؤ ،محارّ(..
تحمل من الدللة ما يكفي للكشف عن هذه الشخصية السطورّية المخبوءة.
من الملمح السطورّية الخرّى في هذا المقطع )التكرّارّ( و)العطف( اللذان
يعدان من أبرّز عناصرّ الصياغة في الترّاث الشعبي عمومةا .فعبارّة )وجهّ حبيبتي(
تكرّرّت مرّتين ولفظة )اللؤلؤة( خمس مرّات ،إلى جانب عطف الجمل إلى بعضها
البعض ،مما يعمق الحساس لدى القارّئ بالعودة إلى ينابيع اللغة في نسجها
السطورّي.
إذا كان السندباد قاد عاد من رّحلتهّ محملة بالجواهرّ واللؤلؤ ،فإن الشاعرّ قاد
ظل غارّقااة في لياليهّ يبحث عن الكلمات يقدمها لؤلؤا لحبيبتهّ معتذ اةرّ لها عن ذلك لنهّ
- 93 -
ل يملك إل إياها ،إنها هدية الشعرّاء لمن يحبون ويعشقون.
قاصارّى القول إن رّحلة صلح عبد الصبورّ هي رّمز لرّحلة الشاعرّ في سبيل
المعرّفة والبداع ..رّحلة البحث عن الحرّف المضيء والكلمة النابضة بالحياة،
النتقال من عوالم البحارّ إلى عوالم الشعرّ والبداع ..رّحلة يقوم بها الشاعرّ وهو
على يقين بأنها ضرّورّة حياتية ل يمكن الستغناء عنها:
)(1
السندباد كالعصارّ إن يهدأ يمت
ذلك هو قادرّ الشاعرّ العظيم ،وتلك هي طبيعتهّ الجامحة في البحث المستمرّ
عن الحرّف ،والرّحلة الدائمة من أجل اخترّاق الواقاع وتجاوزه وهدم اللحظة الرّاكدة.
أما في المرّحلة الثانية فإننا نصادف وجهاة آخرّ للسندباد غيرّ الوجهّ الذي
عرّفناه بهّ في المرّحلة الولى من حياة الشاعرّ .إنهّ السندباد المهزوم الضعيف الذي
تبددت مغامرّاتهّ ،وانتهت طموحاتهّ وآمالهّ واستكان في القاع باكيةا.
ملحنا هوى إلى قاع السفين ،واستكان
وجاش بالبكا بل دمع ..بل لسان
ملحنا مات قبيل الموت ،حين ودع الصحاب
)(2
...والحباب والزمان والمكان
هكذا عاش السندباد في صورّتهّ الثانية عبرّ قاصائد صلح عبد الصبورّ رّم اةز
للنسان المقهورّ ،المهزوم حضارّياة ومصيرّيةا ،كارّهاة خائفاة يرّتجف رّعبةا ،لنهّ يحيا –
كما يذكرّ الشاعرّ في القصيدة نفسها –في زمن الحق الضائع والسأم الجاثم:
هذا زمان السأم
نفخ الراجيل سأم
.....
هذا زمن الحق الضائع
ل يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك
فتحسس رأسك
)( -صلح عبد الصبور :الديوان ص 11 1
- 94 -
يعلق أنس داود على هذا النعطاف في حياة السندباد )النسان المعاصرّ(
ل" :ولعل الهرّب من محنة الستشهاد ،هي المأساة الحقيقية لسندباد عصرّنا ،لكل قاائ ة
مفكرّ وفنان ،لنهّ يرّيد أن يعيش في سلم شخصي" دون أن يرّيق قاطرّة من دم" فل
تكون النتيجة سوى أن يموت دون أن يصارّع التيارّ" ) .(1إواذا كانت هذه هي محنة
النسان المعاصرّ الرّافض للستشهاد ،كما يصورّها صلح عبد الصبورّ في
قاصيدتهّ )الظل والصليب( في ديوانهّ الثاني ،فل غرّابة في أن تزول فكرّة البطولة من
ذهنهّ وتنتهي المغامرّة ويموت السندباد وتتلشى ملمحهّ على غيرّ ما عهدنا في
ديوانهّ الول.
يا شيخنا الملح..
..قلبك الجريء كان ثباتال فما لـه استطير؟
أشار بالصابع الملوية العناق نحو المشرق البعيد..
ثم قاال:
-هذي جبال الملح والقصدير
فكل مركب تجيئها تدور
تحطمها الصخور
..............
ملح هذا العصر سيد البحار
لنه يعيش دون أن يريق نقطة من دم
)(2
لنه يموت قبل أن يصارع التيار
إن رّوح الهزيمة والنكسارّ اللتين رّكز عليهما الشاعرّ ليسـت مـن سـمات سـندباد
ألـ ــف ليلـ ــة وليلـ ــة ،إوانمـ ــا هـ ــي مـ ــن سـ ــمات النسـ ــان العرّبـ ــي المعاصـ ــرّ الممـ ــزق بيـ ــن
الحضارّات ،فاقاداة بطولتهّ ونخوتهّ وطموحهّ.
هذه الصورّة ذاتها نجدها عند عبد الوهاب البياتي مع اختلف جوهرّي مؤداه أن
موت السندباد عند صلح عبد الصبورّ وانهزامهّ سببهّ ضياع الحق والسأم الذي
أصاب إنسان هذا العصرّ من جرّاء هموم الحياة ومشاكلها .في حين نجد أن خيبة
أمل سندباد البياتي وانهزامهّ –ويندرّج ضمن هذا التصورّ كافة الشخصيات
)( -أنس داود :السطورة ف الشعر العرب الديث ،مكتبة عي شس ص 319 1
)( -صلح عبد الصبور :الديوان دار العودة بيوت ط 1983 4ص – 153 – 152 2
- 95 -
السطورّية كبرّوميثوس وسيزيف –يعودان إلى المرّاحل الولى من حياة النسان
حين ارّتكابهّ أول خطيئة ،وممارّسة العقاب عليهّ كنتيجة لتمرّده عليها وعدم
الستسلم لوامرّها ،ومن ثم فل وجود لشيء اسمهّ البطولة أو القيادة عند البياتي،
إوانما هناك عقاب مصيرّي محتوم ل مفرّ منهّ إل بالرّجوع إلى اللهة والدخول معها
في صلح دائم.
يأتي ديوان )البحارّ في الذاكرّة( أو النكفاء على الذات ليرّسم نقطة تحول
كبيرّ في مسارّ حياتهّ الفكرّية والدبية ،أدرّك من خل لـهّ أن الرّحلة عبرّ العالم
الخارّجي طرّيقها مسدود ونفقها مظلم ل ينتهي إلى شيء سوى الضياع والتيهّ.
وأن التجرّبة تحتم عليهّ أن يبدأ الرّحلة من جديد عبرّ عالمهّ الداخلي ليسبرّ
أغوارّ ذاتهّ ويعرّف نفسهّ بنفسهّ ،تلك المقولة التي نطق بها سقرّاط منذ آلف السنين
فجعلها خلصة فلسفتهّ ونهاية مقصده ،واتخذها المتصوفة مسلكاة لبلوغ أعلى مرّاتب
السالكين ومدارّج العارّفين.
الواقاع أن صلح عبد الصبورّ قاد اهتدى إلى هذه التجرّبة أو المرّحلة بعد أن مرّ
بتجارّب عدة أكسبتهّ معرّفة واسعة بأمورّ النظمة السياسية والجتماعية التي لم
تشبع رّغبتهّ في التطلع إلى عالم الرّوح وعالم النسان كإنسان لـهّ مرّكز ووجود في
هذه الحياة "لقد فتشت عن معبود آخرّ غيرّ المجتمع ،فاهتديت إلى النسان ،وقاادتني
فكرّة النسان بشمولها الزمني والمكاني إلى التفكيرّ من جديد في الدين" ) (1وبعد
بحث شاق وعناء طويل تم النتقال من الخارّج إلى الداخل ..من المجتمع إلى
النسان ..ومن النسان إلى ال.
ومن نتاج هذا النتقال تلك الصورّة التي قادمها صلح عبد الصبورّ عن بطلهّ
السطورّي السندباد وهو يتحول عن الرّحلة في الخارّج إلى الرّحلة في الداخل باحثاة
عن المن والستقرّارّ اللذين طالما بحث عنهما في أعماق البحارّ وقامم الجبال.
وتأتي قاصيدة )البحارّ في الذاكرّة( لترّسم ملمح هذا التحول المفاجئ في حياة
السندباد وصلح عبد الصبورّ على حد السواء .
أول شيء يمكن ملحظتهّ على هذه القصيدة هو عدم الشارّة إلى السندباد
بشكل مباشرّ وصرّيح وهذه من تقنيات صلح عبد الصبورّ في توظيف الترّاث
الشعبي كما سبق وأن أشرّنا ،والكتفاء بالشارّة إلى الرّحلة والبحرّ والملحين
والعقبان وبعض القرّابين ،مستبعداة سيميوطيقات أخرّى ليست في رّأيهّ مهمة أو
ملهمة ،وكأن صلحاة يرّيد أن يستحضرّ السندباد الرّمز ويغيب السندباد السطورّة
)( -صلح عبد الصبور :حيات ف الشعر دار اقرأ بيوت 1992ص 81 1
- 96 -
والمقولة ،وهذه من التقنيات الفنية التي انتهى جيمس جويس في رّوايتهّ الشهيرّة
)عوليس( واستفاد منهّ فيما بعد إليوت في )لرّض الخرّاب(.
البحارّ في الذاكرّة شكل من أشكال الرّفض للواقاع ومحاولة للنسحاب منهّ،
ذلك أن الذاكرّة عالم يختلف عن عالم الواقاع ،إوان كان متشكلة من عناصرّه ومواده،
والرّجوع إليهّ قاد يوفرّ شيئاة من الحساس بالستقرّارّ والخلص من عالم يموج
بالمفاسد والتناقاضات.
أتأهب للميعاد –الرحلة –في آخر كل مساء
أتقرى أورادي ،أتزيا شاراتي
في أهداب الغيم ،أنشر أشرعتي
أتلقى في صفحتها نذر الريح ،نبوءات النباء
البحارة يصطخبون
الملحون ..الفئران ..التذكارات ..المحبوسون
في أوردة المركب يضطربون
وأخوض رماد الفاق
إلى جزر المعلوم المجهول الدكناء
)(1
يتكشف تحتي مرج الموج ،وتمضى بي الريح رخاء
هذا المشهد المشحون بالحرّكة العارّمة التي يمثلها الملحون بمرّاكبهم والمواج
المصطخبة ،ل يتم خارّج الذات ،بل في داخلها ،أو لنقل إنها صورّة من صورّ صرّاع
النفس مع الخارّج وهي تعمل جاهدة لتخليص نفسها من قابضتهّ ..إنهّ التأهب للميعاد
والستعداد للرّحلة في أعماق النفس والذكرّيات حيث المعلوم والمجهول ..إنهّ
الخلص بالعودة إلى الذات والبحارّ في أغوارّها وأعماقاها ،هذا البحارّ الذي أوجد
حالة من الستقرّارّ عبرّ عنها السطرّ الخيرّ )وتمضى الرّيح رّخاء( ،وقارّيب من هذا
ما جاء في قاصيدتهّ تجرّيدات:
حال قد كنت رقيت إليها أمس
ل تأتيني اليوم
هي حال أعطتني نعمى النوم
)( -صلح عبد الصبور :البار ف الذاكرة ،الوطن العرب للنشر والتوزيع ط 65 - 1979 1 1
- 97 -
)(2
ويقين الصحو
إن السفرّ في أعماق الذات أشبهّ ما يكون بحال المتصوف ،فهو كالبرّق يلمع
ويختفي ،ول ندرّي متى يأتي ومتى يذهب .وصلح عبد الصبورّ يدرّك أن هذه
حالت نفسية غامضة ل يمكن القبض عليها ،فمجيئها مشرّوط بظرّوف معينة )ل
تأتي اليوم( لكن عند قادومها فهي تبعده عن موطن المأساة وتعطيهّ كما قاال )نعمى
النوم( و)يقين الصحو( وهما حالتان تنمان عن الشعورّ بالستقرّارّ والمن ،ولو أنهّ
شعورّ آني ،لكنهّ يوفرّ بعض الرّاحة ،ويعطي الذات قاوة المجاهدة والرّتقاء نحو
اليقين.
هكذا استطاع صلح عبد الصبورّ أن يقدم في قاصيدتهّ )البحارّ في الذاكرّة(
ومن قابلها قاصيدة )الخرّوج( قاناعهّ السطورّي السندباد وهو يتحول عن الرّحلة في
الخارّج إلى الرّحلة في الداخل؛ وقاد تزود بالمعارّف الصوفية ما يؤهلهّ للفوز بعالمهّ
المنشود )المدينة المنيرّة( ) (2الذي طالما كان يحلم بهّ وهو طفل صغيرّ .إوان كان
في قا ارّرّة نفسهّ يساورّه في رّحيلهّ بعض الشك في وجود هذا العالم المنشود أو المرّفأ
المن:
هل أنت وهم واهم تقطعت به السبل
أم أنت حق؟
)(3
أم أنت حق؟
والسندباد من هذه الناحية هو الوجهّ الخرّ لصورّة الحلج وبشرّ الحافي اللذين
كانا يساورّهما بعض الشك في حياتهما ،بحثاة عن الحقيقة واليقين ،وقاد ل نخطئ إن
قالنا أن صلح عبد الصبورّ أرّاد من خلل توظيفهّ لهذه الشخصيات ،كأقانعة بارّزة
ل ،عن الفلسفة في الحياة ورّؤيتهّ للشياء ،وثانيةا ،عنفي شعرّه ،أن يعبرّ ،أو ة
شخصيتهّ التي تشبهّ في بعض وجوهها شخصية هؤلء وبالخصوص فيما يتعلق
بالبحث الدائب عن الحقيقة .بل إن حياة الشاعرّ نفسها تشيرّ إلى أنهّ عاش ممزقااة
ومصدوماة وجودياة وحضارّياة ) ،(4أضف إلى ذلك أن التجرّبة الرّوحية )الصوفية( التي
انتهى إليها في أواخرّ حياتهّ ،كان لديهّ شبيهة بالرّحلة أو السفرّ المضني المليء
)( -ينظششر أحششد يوسششف :تليششات القلششق فش شششعر صششلح عبششد الصششبور )مطششوط( رسششالة ماجسششتي نوقشششت 4
بعهد اللغة والدب العرب جامعة وهران 1989ص ) 80صدمة الوجود() 153 ،صدمة الضارة(
- 98 -
بالمفاجآت والمخاوف.
والمتتبع لفكرّة الرّحلة عند هذا الشاعرّ يلحظ أنها من أساسيات تكوين تجرّبتهّ
وفلسفتهّ في الحياة ،فهي ترّتبط حيناة بتجرّبتهّ الشعرّية وحيناة تتجاوزها إلى معنى
أشمل هو التجرّبة الرّوحية ،أو ترّتبط بأبعاد وجودية ومصيرّية ،وهي في كل الحوال
تنم عن نفس تواقاة ،منجذبة نحو آفاق مجهولة.
الكتابة الشعرّية عند صلح عبد الصبورّ مغامرّة ورّحلة مضنية في طرّيق قالق،
محفوف بالمزالق والمخاطرّ لنهّ أشبهّ بطرّيق الصوفي الباحث عن الجوهرّ والطهرّ
في رّكام المفاسد والشرّورّ.
يقول صلح عبد الصبورّ في هذا المعنى "وقاد ظل معنى الرّحلة ينمو في
نفسي ،منذ ذلك الحين ،ويكتسب أبعاداة جديدة من المفارّقاة والنصب ،والولء فيها
للشعرّ ،والرّحلة تبدأ بعد التأهب الساكن لزورّة الشعرّ التي ل تجيء ،فيخرّج إليهّ
الشاعرّ طالباة عطاءه ،بعد أن ينزع عن نفسهّ كل شارّات الحياة متجرّداة كتجرّد الحاج
إلى قادس القاداس" ) .(1هكذا تبدو رّحلة الشاعرّ العظيم في نظرّه ،فهي ل تتم إل بعد
جملة من الشرّوط منها :التأهب والخرّوج والتجرّد وترّك شارّات الحياة.
وهي من هذه الناحية تشبهّ رّحلة المتصوف التي ل تتم هي الخرّى إل بعد
شوط واجتياز العقبات.(2) .
وما دام النسان يعيش في انكسار وقهر دائمين:
ولننكسر في كل يوم مرتين
فمرة حين نقابل الضياء
)(3
ومرة حين تذوب الشمس في الغروب
فل خلص لـهّ مــن هـذا القهــرّ والنكســارّ إل بالرّتحــال والمغــامرّة وتــأهب للســفرّ
الطويل.
-خليل حاوي )البحث عن الذات الحضارية(:
كان خليل حاوي من أشد الشعرّاء توظيفاة لشخصية السندباد ،وذلك لما وجد
فيها من قايم ورّموز صالحة للتعبيرّ عن شتى أبعاد تجرّبتهّ الرّوحية والشعرّية
)(-صلح عبد الصبور :حيات ف الشعر دار اقرأ بيوت 1992ص 17 1
)(-حول هذه الششروط والعقبشات ينظشر :عبشد الكريش القششيي :الرسشالة القششيية فش علشم التصشوف ،تقيشق 2
معروف زريق وعلي عبد الميد بلطجحي دار اليل بيوت ط 2ص ) 97باب الاهدة(
)(-صلح عبد الصبور :الديوان ص 204 3
- 99 -
وبالخصوص في تلك الفترّة الحاسمة من فترّات تطورّه الفكرّي ،وهي فترّة البحث عن
الذات عبرّ مجموعة من المغامرّات الوجودية .ولعلنا ل نجانب الصواب إن قالنا إن
مغامرّة الشاعرّ الفنية –عبرّ دواوينهّ الثلثة الولى –كانت تحمل طابع مغامرّات
السندباد ،وتتقمص شخصيتهّ ،وأن شعرّه كان رّحلة متواصلة من أجل المعرّفة
والكشف عن ماهية الوجود من جهة ،وبحثاة دائماة عن مصادرّ النبعاث والتحرّرّ من
قابضة التخلف والنحطاط من جهة ثانية.
إن ما كتبهّ الشاعرّ عن هذه الشخصية التي رّافقتهّ على امتداد مرّحلة كاملة من
مرّاحل تطورّه البداعي ،وبسطت ظللها على رّؤياه الشعرّية ،يعد من أنجح النماذج
وأكثرّها نضجاة واكتمالة من الوجهة الفنية ،وذلك رّاجع في رّأينا لعدة أسباب نذكرّ
منها:
ً-1نجاح الشاعرّ في تحقيق المتزاج في عملية البناء والتعبيرّ بين ما هو
ترّاثي وما هو معاصرّ.
ً-2تطويرّ الشاعرّ لشخصية السندباد من داخل قاصائده الشعرّية كما تمليهّ
التجرّبة ،فالسندباد عنده ليس شخصية جاهزة مسبقاة كما رّسمتها السطورّة،
إوانما هو شخصية نامية ،صنعت رّمزيتها وملمحها تجرّبة الشاعرّ
ومعاناتهّ ،ولذا نجد سندباد القصيدة غيرّ سندباد السطورّة إوان اشترّك معهّ
في بعض السمات والملمح التي تضفي عليهّ طابع الصالة.
إذا كان خليل حاوي قاد كشف بوضوح في ديوانهّ الثاني )الناي والرّيح( في
قاصيدتهّ )وجوه السندباد( و)السندباد في رّحلتهّ الثامنة( عن التقائهّ المباشرّ
بالسندباد ،فإننا نرّى هذه الشخصية تخالهّ منذ ديوانهّ الول )نهرّ الرّماد( في قاصيدة
)البحارّ والدرّويش( على الرّغم من أن ملمحها لم تكن قاد تحددت بعد .وكأن
الشاعرّ كان في مرّحلة البحث عن القناع أو الرّمز الذي يستطيع أن يحمل عنهّ
عبء التجرّبة ويجسد أبعاد الرّحلة ومعاناتها.
على الرّغم من عدم تصرّيح خليل حاوي بشخصية السندباد في هذه القصيدة،
كما أسلفنا ،إل أننا نجد ما يرّمز إليها ،فالبحارّ يحمل بعض ملمح هذه الشخصية
كما أن البحرّ والغول والمغامرّة والشعورّ الدائم بعدم الستقرّارّ ،كلها تيمات سندبادية
ستزداد تجلياة ووضوحاة في ديوانهّ الثاني.
تأتي قاصيدة )السندباد في رّحلتهّ الثامنة( من ديوانهّ الثاني )الناي والرّيح(
لترّسم هذا الرّحلة من بدايتها إلى نهايتها ،وتختصرّ المسافة وكأنها القصيدة الم أو
المعلقة التي اتضحت عندها الرّؤيا واكتملت التجرّبة وازدادت نضجاة وتبلو ةرّا،
إن هذا التساؤل المتكرّرّ الدال على جفاف القرّيحة وبعد البشارّة ،يشبهّ في واقاع
المرّ العصارّ الذي يسبق العاصفة ،لن السندباد يشعرّ بشيء ما يسرّي في دمهّ،
ويلوح لـهّ من بعيد كالبرّق اللمع الذي يصعب القبض عليهّ ...أهي البشارّة وموعد
النبعاث؟ أم طيف من أطياف الرّحلة الطويلة وهواجسها التي لم تنتهّ بعد؟.
واليوم ،الرؤيا تغنى في دمى
)( ش ايليا حاوي :متارات من شعره ونثره ،دار الثقافآة بيوت ط 2/52 1984 1 1
)( ش ايليا حاوي :خليل حاوي ف سطور من سيته وشعره ،دار الثقافآة ص .147 2
)(ش ينظششر :جششابر عصششفور :أقنعششة الشششعر العاصششر ،ملششة فآصششول ،اللششد الول ،العششدد 4يوليششو 1981ص 1
.124
)(ش ايليا حاوي :خليل حاوي ف سطور من سيته وشعره ص 135ش .136 2
)(ش ينظر :عبد الرحن بدوي :موسوعة الفلسفة الؤمسسة العربية للدراسششات والنشششر بيوت ط 1984 1 1
.2/515
)(ش خليل حاوي :الديوان ص .253 2
)(ش ايليا حاوي :خليل حاوي ف سطور من سيته وشعره ص 135ش .136 3
)(ش ينظر :يوسف حلوي :السطورة ف الشعر العاصر ،دار الداب بيوت ط 1994 1ص .179 4
)(ش ينظ ششر :كت ششابه :كتاب ششة ال ششذات دراس ششات فش ش وقائعي ششة الش ششعر ،دار الش ششرق للنش ششر والتوزي ششع الردن ط 1 1
)(ش ينظ ششر :فآ شراس س شواح :الس ششطورة والعن ش دراس ششات ف ش الثيولوجي ششا وال ششديانات الش شرقية ،دار علء ال ششدين 1
1983ص .42
)( ش ينظششر :هيقششة رورسششو :الششديانات ترجششة مششتي شششاس النشششورات العربيششة ،سلسششلة مششاذا أعششرف 25ص 1
.70
)( ش ينظرSylvia bates religion dumonde edition gamma 1981 p154 : 2
)(ش سليمان مظهر :قصة الديانات ،دار الوطن العرب )د.ت( من القدمة. 3
)(ش ينظر :هيقة روسو :الديانات ،ترجة متي شاس ،النشورات العربية ،سلسلة ماذا أعرف ص .53 4
)(ش ينظششر :أرنسششت كاسششير :الدولششة والسششطورة ،ترجششة أحششد ممششود ،اليئششة الصشرية العامششة للكتششاب القششاهرة 3
1975ص .373
)(ش ينظر :عز الدين إساعيل :الشعر العرب العاصر ص .181 1
)(ش مم ششد بني ششس :ظ ششاهرة الش ششعر العاص ششر فش ش الغ ششرب مقارب ششة بنيوي ششة تكويني ششة ،دار الع ششودة بيششوت ط 1 1
1979ص .190
)( ينظر عبد الميد بورايو :البطل اللحمي والبطل الضحية ف الدب الشفوي الزائري الزائششري -دراسششة 1
حشول خطاب الرويشات الششفوية الداء ،الششكل ،الدللشة –ديشوان الطبعشات الامعيشة -الزائشر -1998
ص.22 :
)( عبششد الميششد بورايششو :البطششل اللحمششي والبطششل الضششحية ف ش الدب الشششفوي الزائششري الزائششري -دراسششة 2
)(يقول زهي بن أب سلمى ف معلقته معبال عن هذا القصور والعجحز ف معرفآة الغيب: 1
)(ممد الفيتوري :الديوان دار العودة بيوت ط .2/47 1979 3 1
)(ممد الفيتوري :الديوان دار العودة بيوت ط 2/57 1979 3 2
)( ممد الفيتوري :الديوان دار العودة بيوت ط .2/251 1979 3 1
)( ممد الفيتوري :الديوان دار العودة بيوت ط .2/251 1979 3 2
)( ينظششر فآيليششب س شينج :الرمششوز ف ش الفششن –الديششان -اليششاة ترجششة :عبششد الششادي عبششاس دار دمشششق ط 1 1
1992ص .444
)( سورة العراف الية .53 2
)( ينظر فآيليب سينج :الرموز ف الفن –الديان -الياة ترجة :عبد الادي عباسص .451 3
)( ينظششر :الب جرجششس داود داود :أديششان العششرب قبششل السششلم ووجههششا الضششاري والجتمششاعي الؤمسسششة 4
الامعيششة للدراسششات والنشششر بيوت ط 1981 1ص 340حيششث جششاء ف ش السششطورة أن الششدبران أراد
أن يتزوج الثريا ،غي أن العيوق عاق هذا الزوج فآسمي العيوق لنه يعوق الدبران عن لقاء الثريا.
***
)( ينظر :ارنست كاسير :الدولة والسطورة ،ترجة أحد حدي ممود ص .373 1
يظل الترّاث بعامة والشعبي منهّ بخاصة محتفظاة بعلو منزلتهّ وسمو مكانتهّ
وثرّاء قايمهّ ،وما كان لجذوتهّ أن تخبو إذا تعامل معهّ من يحسن بعثهّ ويجيد استثمارّه،
ويقصد معالم القوة فيهّ ومكامن الغنى والشرّاق ،فالترّاث إذا جنبناه الفرّاط والتفرّيط،
ونظرّنا إليهّ بعين العتدال والنصاف ،ورّبطناه بالحاضرّ أمكننا أن نرّى فيهّ أشياء
جديدة ،ووظائف وقايماة غيرّ التي ارّتبطت بهّ في القديم ،هذا من جهة ،ومن جهة
ثانية فإن الشيء الذي رّبطناه بهّ يكتسي ملمح متفرّدة في ظاهرّها وباطنها .هذان
المرّان لمحناهما جيداة ونحن نلمس حضورّ الترّاث الشعبي في جانبهّ السطورّي
في الشعرّ العرّبي المعاصرّ.
إن الصرّوح الجديدة والتضارّيس المتميزة التي عرّف بها هذا الشعرّ ،لم يسهم
في إنجازها فقط :اللغة الشعرّية الموحية المرّتبطة بتجرّبة شعرّية مستقاة من الحاضرّ
الذاتي والجماعي أو الصورّة ذات التشكيلت الحرّة المفتوحة على بلغة من صياغة
الهدم الشعرّي المتخلق مع الموهبة والذوق والرّؤية ،أو الموسيقى المتساوقاة مع طقوس
الفكرّة الغازية للرّوح ،إواشعاعات الوجدان المنتفضة ضد السكون ،إوانما كان للترّاث
الشعبي قادرّ معتبرّ وقاسط وافرّ في بناء صرّح الشعرّ العرّبي المعاصرّ وتشكيل
تضارّيسهّ من عدة جوانب نذكرّ منها :المعجمي ،السلوبي ،التصويرّي واليقاعي.
إن المرّاجعة الموضوعية لثرّ السطورّة بمختلف أشكالها وأنواعها ووظائفها
في الشعرّ العرّبي المعاصرّ تكشف بقوة ووضوح أن الترّاث بعامة والشعبي منهّ
بخاصة خلق للحياة والخلود ،يحتضن التجرّبة ويقدم الرّؤية ،ذلك كلهّ في أسلوب
قاوامهّ التلميح والترّميز ،ولغة أساسها اليجاز والتكثيف تشع باليحاء والظلل في
إحالة بليغة ومستمرّة على ما عداه من العوالم والفضاءات.
إن التودجهّ إلى الترّاث الشعبي والستعانة بهّ في تشكيل معالم النص الشعرّي
***
ً-1غالي شكرّي :شعرّنا الحديث إلى أين ً-منشورّات دارّ الفاق الجديدة بيرّوت ط .1978 ً-2
ً-2عز الدين إسماعيل :الشعرّ العرّبي المعاصرّ قاضاياه وظواهرّه الفنية والمعنوية دارّ العودة
بيرّوت ط .1981 :3
ً-3نسيب نشاوي :مدخل إلى درّاسة المدارّس الدبية في الشعرّ العرّبي المعاصرّ ً-مطابع ألف باء
دمشق .1980
ً-4إرّنست فيشرّ :ضرّورّة الفن –ترّجمة ميشال سليمان ً-دارّ الحقيقة بيرّوت ً-د .ت.
ً-5رّينيهّ ويليك :نظرّية الدب –ترّجمة محي الدين صبحي ً-المؤسسة العرّبية للدرّاسات والنشرّ ط
.1981 ً-2
ً-6رّيتا عوض :أسطورّة الموت والنبعاث في الشعرّ العرّبي الحديث ً-المؤسسة العرّبية للدرّاسات
والنشرّ بيرّوت ط .1978 ً-1
ً-7شوقاي ضيف :الدب العرّبي المعاصرّ في مصرّ ً-دارّ المعارّف مصرّ ً-ط .3
ً-8أندرّه جيد :أوديب وثيسيوس ً-ترّجمة طهّ حسين ً-دارّ العلم للمليين بيرّوت ط .1980 ً-4
ً-9هوميرّوس :اللياذة –تعرّيب سليمان البستاني ً-مطبعة الهلل مصرّ .1904
ً-10درّيني خشبة :أساطيرّ الحب والجمال عند الغرّيق ً-دارّ الهلل العدد 171سنة .1965
ً-11هوميرّوس :اللياذة –ترّجمة درّيني خشبة ً-دارّ العودة بيرّوت.
ً-12نفوسي زكرّيا سعيد :خرّافات لفونتين في الدب العرّبي ً-مؤسسة الثقافة الجامعية مصرًّ-
.1976
ً-13أحمد شوقاي :ديوان الشوقايات – دارّ العودة بيرّوت ،المجلد .2
ً-14فرّدرّيش فون ديرّلين :الحكاية الخرّافية ً-ترّجمة نبيلة إبرّاهيم دارّ القلم بيرّوت ،ط /1
.1973
ً-15إبرّاهيم المازني :الديوان –مطبعة محمد محمد مطرّ ً-القاهرّة .1917
ً-16ك .ك رّاثقين :السطورّة –ترّجمة جعفرّ صادق الخليلي ً-منشورّات عويدات ً-بيرّوت ً-ط
.1981 ً-1
ً-17محمود عباس العقاد :الديوان –مطبعة وحدة الصيانة والنتاجً-مصرّ .1967
ً-93جب ارّ إبرّاهيم جبرّا :الرّحلة الثامنة المؤسسة العرّبية للدرّاسات والنشرّ بيرّوت
ط .1979 2
ً-94الجرّجاني :دلئل العجاز )في علم المعاني( ،تحقيق محمد عبده ،دارّ المعرّفة للطباعة
والنشرّ بيرّوت .1981
ً-95خليل حاوي :الديوان ،دارّ العودة بيرّوت .1993
ً-96شوقاي عبد الحكيم :موسوعة الفلكلورّ والساطيرّ العرّبية ،دارّ العودة بيرّوت ط .1982 1
ً-97ماكس شابيرّو :معجم الساطيرّ ،ترّجمة حنا عبود منشورّات دارّ علء الدين دمشق .1999
ً-98برّنارّد ايفسلن :ميثولوجيا البطال واللهة والوحوش ،ترّجمة :حنا عبود منشورّات و ازرّة الثقافة
دمشق .1997
ً-99محمد غنيمي هلل :الدب المقارّن دارّ العودة بيرّوت .1983
ً-100محمد جميل شلش :الديوان ،دارّ العودة بيرّوت ط .1978
ً-101إحسان عباس :من الذي سرّق النارّ )خطرّات في النقد والدب( المؤسسة العرّبية للدرّاسات
والنشرّ بيرّوت ط .1970 1
ً-102عبد الوهاب البياتي :الديوان دارّ العودة بيرّوت ط .3
ً-103جون كرّوكشاتك :ألبيرّ كامي وأدب التمرّد ،ترّجمة جلل العنترّي ،دارّ الوطن العرّبي ،دون
تارّيخ.
- 140 -
الفهرست العام
الهداء 5............................................................................
المقدمة7........................................................................ :
مدخل12........................................................................ :
الفصل الول المككونات والصول27.................................................
1ـ الفن والسحرّ29 ........................................................:
2ـ السطورّة والشعرّ31 ....................................................:
3ـ الجذورّ السطورّية للقصيدة العرّبية40 ................................... :
أ ً-الرّثاء وطقوس الموت41...................................... :
ب ً-الهجاء وطقوس السحرّ42................................... :
ً-4اللغة وأشكال الترّاث الشعبي53 .........................................:
الفصل الثاني الروافد التراثية67......................................................
ً-1الساطيرّ والحكايات69 ................................................:
أ ـ الغصن الذهبي73.............................................:
ب ـ أسطورّة تموز )التجاوز والنبعاث(75..........................:
ج ـ أسطورّة برّوميثيوس )الثورّة والتمرّد(83......................... :
د ـ أسطورّة سيزيف )رّمز الدانة المطلقة والفشل الزلي(87..........:
هـ ـ ألف ليلة وليلة89............................................. :
و ـ أسطورّة السندباد )البحث والتجلي(90...........................:
2ـ الطقوس والمعتقدات119 ...............................................:
أـ الشعرّ والمعتقد الشعبي120.....................................:
ب ـ محمد الخمارّ الكنوني والبحث عن الحقيقة بين الموات125....:
جً-التحدول نحو السحرّي واستقرّاء الغيب )التدميرّ من أجل البناء(....:
129
دً-محمد الفيتورّي والبحث عن الجذورّ الضائعة130................:
الخاتمة 136......................................................................
مكتبة البحث139................................................................:
***