Professional Documents
Culture Documents
Bts The Notes 1 - Hyyh
Bts The Notes 1 - Hyyh
ترمجة
آالء – سما – سلمى – شهد – مايا – ِهجان
www.purplearmys.com
~~1
الفهرس
~~2
املقدمة:
فتى جيد
~~3
سوكجين
العاشر من أكتوبر العام التاسع
ُ ُ
"لنذهب ،يجب أن نخرج من هنا" أحكمت قبضتي على يد صديقي وهرعنا نحو الباب الخلفي
ً ُّ ّ
لفصلنا الدراسي ،وبينما كنا نركض في الرواق التفت خلفي أللمح رجاال يتبعوننا ويصرخون "قفوا! الزموا
أماكنكم!" بدا لي أن أصواتهم كانت خلفنا ً
تماما.
بذعر حيال المكان الذي سنقصده ونحن نقفز على الدرج فكانت الوجهة األولى التي تبادرت ٍ فكرنا
إلى أذهاننا هي التلة التي تكمن خلف مدرستنا .فال نحتاج سوى عبور الملعب ومغادرة بوابة المدرسة
ً للوصول إليها .رغم أنها ليست بذاك العلو ،إال أن الطريق كان ً
وعرا ممتلئا بالصخور .بعد عبور البوابة بسرعة
ً ُ
قصوى ،تجاهلنا المعبر وأسرعنا بخطانا نحو الغابة مباشرةُ ،مجتازين الفروع الكثيفة .ركضنا لوقت شعرنا
ُ
سيستمر لألبد حتى لم نعد نستشعر تواجدهم خلفنا. وكأنه
حينها انهرنا على األرضُ ،محاطين بطبقات من أوراق الشجر الجافة بوجوه متعرقة "لن يتمكنوا
ُ
من مطاردتنا إلى هنا ،أليس كذلك؟" أومأ صديقي برأسه وهو يتنفس بثقل .رفعنا أطراف أقمصتنا لمسح
ً
عرقنا .كان وجهه ممتلئا بالعرق والدموع ومعصميه مغطاة بالكدمات األرجوانية وياقة قميصه ُممزقة.
يأت أبي للمنزل منذ أكثر من أسبوع .ومن يومها لم تكف والدتي عن البكاء ،الخادمة والسائق
"لم ِ
ُ َ
توقفا عن القدوم كما أخبرتني عمتي أن شركة والدي أغلقت .
والليلة الماضية ،جاء هؤالء الرجال إلى منزلنا واستمروا بقرع الجرس دون توقف ،صارخين باسم
ٌ
جفن البتة" كان بابنا يشتمون .ولم يغمض لنا ً والدي .بتنا آنذاك بمنزلنا مغلقي األضواء ،وهم
خارجا أمام ِ
ً
ّ
صديقي يجهش بالبكاء أثناء حديثه ،ولم أكن أعي حقا ما يجب علي قوله .كل ما أمكنني فعله هو إقناعه
بعدم البكاء.
وم ِخيفين "من بعد فترة وجيزة من بداية الدرس اقتحم الصف أربعة أو خمسة رجال بدو جامحين ُ
منكم ابن السيد تشوي؟ عليك أن تأتي معنا" على الفور طلبت منهم معلمتنا المغادرة ،لكنهم وببساطة
تجاهلوها" .نعلم أنك هنا ،تعال اآلن" بدأ بعض زمالئنا بالهمس والتحديق نحونا .الحظ الرجال األمر وبدأوا
رجاء غادروا" حاولت معلمتنا ردعهم ،لكن دفعها أحدهم باالقتراب منا" .أال ترون أننا في منتصف الحصةً ،
ً
ناحية السبورة وسقطت أرضا.
ّ ً
الرجل الذي دفع معلمتنا تقدم نحونا مهددا ،وأصبحنا محط أنظار جميع الطالب .ثم جذب
ً
فقطعا لن يرفض ابنه" كان يتوعد ،والجو بات الرجل ذراع صديقي "سنأخذك لوالدك ونحوز على ماله،
ُمر ً
يعا للغاية. ِ
ُ ّ
حدقت بوجه صديقي الذي كان يرتجف ،يرتجف بشدة ومطأطأ رأسه .سللت يدي من تحت
المنضدة وأمسكت بيده .رفع رأسه وسحبت يده "لنركض".
كانت السماء مظلمة وتزداد قتامة .وال يبدو لي أننا ُمطاردين .اندفعنا عبر األشجار والشجيرات
ً
رغبة بالوصول للطريق حتى بانت أمامنا عدة معدات للتدريب .اتكأت على إحداها وجلس صديقي على
مقعد "أخشى أني أجلب لك المتاعب" .بدا أنه غير مرتاح حينما أخبرته أني سأكون بخير .إذا ما كنا
بالفصل ،كل ما كان يجول ببالي هو كيفية إخراج صديقي منه .اضطررت أن أبعده عن أولئك الرجال .ولكن،
حالما بدأنا الركض ،أدركت أن ليس لدينا مكان نلجأ إليه.
~~4
ٌ ً
مساء .مر وقت منذ غروب الشمس .كنت "دعنا نذهب لمنزلي" .ال بد أن الساعة اآلن التاسعة
ً ً
أتضور جوعا وال شك بأنه كذلك أيضا" .أليسا والداك بالمنزل؟ ألن تقع بمأزق الصطحابي هناك؟" "يمكننا
ً
بعيدا عن سفح التلةً .
قريبا ،سيظهر لنا. التسلل ،وفي حال وقعنا بمأزق ،سنقع بمشكلة" لم يكن منزلي
ً ً
شجرة ما ،وسأفتح لك النافذة الحقا".
ٍ "ادخل مباشرة بعد فتح الباب واختبئ خلف
ً
كانت أمي تجلس على األريكة في غرفة المعيشة" .أين كنت؟ اتصل معلمك" بدال من إجابتها،
أخبرتها أني آسف ،بدت لي أنها أسرع طريقة إلنهاء المحادثة .قالت إن والدي سيكون بالمنزل في غضون
دقائق وغادرت لغرفتها .غرفتي مقابلة لغرفتهم وتتوسطنا غرفة المعيشة .أسرعت إلى غرفتي وفتحت
النافذة.
سمعنا صوت فتح باب المنزل بينما كنا نلعب في الكمبيوتر بعد تناولنا بعض الخبز والحليب .نظر
ُ ً
لي صديقي بعيون خائفة "ال تقلق ،أبي ال يأتي لغرفتي أبدا" وقبل أن أنهي حديثي فتح باب غرفتي و ِكالنا
ً
قفزنا من مقاعدنا خوفا.
" أأنت ابن السيد تشوي؟" أكمل دون انتظار أي إجابة "تعال للخارج ،هنالك من أتى الصطحابك"
ٌ
رجل أمام الباب ،و لوهلة اعتقدت أنه السيد تشوي لكنني أدركت بسرعة أنه لم يكن كذلك ،لم كان يقف
ً ُ ً
يكن إال أحد الذين اقتحموا غرفة الصف سابقا .نظرت إلى أبي .لقد بدا مرهقا ،حاجباه معقودة وجفنه
يرتجف ببراعة .بدا من األفضل لي عدم إزعاجه وهو بهذا المزاج .أثناء محاولتي لقراءة وجه والدي ،أتى
الرجل لغرفتي وأمسك بكتف صديقي فوضعت نفسي أمامه "ال يا أبي ،ال تدع هذا الرجل يأخذه ،إنه
شخص سيء".
رجاء ،ساعده ،إنه صديقي" حاول الرجل سحب صديقي .فأمسكت ظل ينظر لي ولم يتحرك "أبي ً
بذراعه وأمسك بي أبي من كتفي ثم سحبني تجاهه بشدة .ما اضطرني لترك ذراع صديقي وسحبه الرجل
إلى الباب .حاولت التلوي والتحرر ،لكن والدي عزز قبضته" .هذا مؤلم!" صرخت ،ورغم ذلك ،لم يتركني
علي وحسب .وأخذت الدموع مجراها على وجهي. والدي ،أحكم قبضته ّ
ً ُ
نظرت لوالدي .كان كجدار رمادي ضخم ،ال يحمل وجهه أي تعابير ،حتى المظهر المرهق سابقا
فتى جيد" لكني عرفت ماوثبت عينيه علي "سوكجين ،كن ً لم يعد ينعكس في عينيه .فتح فمه بهدوء ّ
علي فعله ،ما ّ
علي فعله إليقاف األلم. ّ
ً ُّ
"سوكجين" التفت لصرخة صديقي .كان قد فر من قبضة الرجل وهرب ركضا نحو الباب وهو
ً
يبكي .بقي والدي ُممسكا بكتفي ،وبيده األخرى أغلق الباب .اعتذرت له "آسف يا أبي ،لن أتسبب بمشكلة
ً
مجددا"!
ً
وفي اليوم التالي ،كان المقعد المجاور لي فارغا وقالت معلمتي أنه قد انتقل لمدرسة أخرى.
~~5
ظل طفوليت
~~6
هوسوك
الثالث والعشرون من يوليو العام العاشر
~~7
تايهيونغ
التاسع والعشرون من ديسمبر العام العاشر
~~8
جيمين
السادس من أبريل العام الحادي عشر
~~9
سوكجين
الحادي والعشرون من يوليو العام الثاني عشر
ً ُ
منتظرا في صالة المطار ،واصلت التحديق ببوابة الدخول وهي تغلق وتفتح أمام بينما جلست
أناس يحملون حقائبهم ،البعض منهم يرتدي نظارة شمسية .استمرت شاشة ٌ المسافرينّ .
مر من أمامي
ً
متذمرا العرض اإللكترونية بعرض تغيرات موعد رحالت الوصول والتأجيل واإللغاء ،وكان السائق يتمتم
وعيناه ال تفارقان شاشة هاتفه "ال يوجد أي رد منه لآلن" .نظرت لساعتي لتفقد الوقت ،ألجد بأن ساعة
ً قد مضت عن الوقت الذي وعدني والدي فيه بالوصولً .
دائما ما شعرت أنني وحيد ،فوالدي كان مشغوال
ً
دائما أن أفعل ما ُيقال لي وأال أفعل شيئا آخر طيلة الوقت ووالدتي لم تكن على نقيض ذلك ،أخبراني ً
ّ
نفسيهما. ُ
سواه .عندما أخالف كالمهما كان عقابهما لي هو الصمت ،فأردت أن أبعث السرور في
ُ ُ ُ
فترة وجيزة ،وقد أخبرني والدي بأال أبكي ،وهذا ما فعله بدوره .أردت أن أطيعه
ٍ توفيت والدتي منذ
ُ ُ ً
األمر ليس هينا .فقرر أن ُيرسلني إلى الواليات المتحدة كي أقيم عند جدتي ،ولم يبد بأنه حزين حيال لكن ُ
هذا األمر.
ُ ُ
ناولني سائق والدي الشخصي جواز السفر ،وقد حانت ساعة الرحيل .التفت للخلف بينما كنت
ً ولو َح ّأسير نحو بوابة المغادرة ،ثم رأيت بوابة الدخول وهي تغلق ّ
لي السائق مودعا.
ُ ً
أخيرا بدأت الطائرة تسرع في طريقها على المدرج ولكن والدي لم يأتي.
لمقعدي وقد رأيت الغيوم ّ ُ
نظرت م ن خالل النافذة الصغيرة المجاورة َ
تمر ولون السماء أصبح ِ
ً
حالكا .أحضرت لي مضيفة الطيران وجبة فانسكب كأس العصير عندما واجهنا مطب هوائي وباضطراب،
ُ ُ
بحال جيدة .األرز المقلي واللحم كانا مغمورين
ٍ طلبت بعض المحارم .سألتني مضيفة الطيران ما إن كنت
ً َ ّ
هذه كانت إجابتي على سؤال المضيفة عن حالي ،لكن بالعصير ،ويدي دبقتين ،وسروالي كان مبلال " ال " ِ
ُ
على ما يبدو أنها لم تسمع ما قلته .أخبرتني بأال أقلق بينما أخذت الصينية ،أومأت برأسي وأبقيت بصري
على األرض.
~~10
نامجون
الحادي والعشرون من يونيو العام السادس عشر
~~11
يونغي
التاسع عشر من سبتمبر العام السادس عشر
~~12
جونغكوك
الحادي عشر من سبتمبر العام السابع عشر
~~13
من هنا ابتدأ
كل شيء
~~14
سوكجين
الثاني من مارس العام التاسع عشر
~~15
جيمين
الثاني عشر من مارس العام الحادي عشر
مضت عدة أيام منذ بداية الفصل الدراسي الجديد ،لكن زمالئي في الصف ال زالوا غرباء بالنسبة
َ ُ ّ
التصرف بال مباالة ولكن دون جدوى لي .لم يكن من الصعب تخمين أنهم كانوا يثرثرون عني .حاولت
جئت إلى هذه المدرسة؟" .لم يكن ل ّ َ "سمعنا أنك تعيش في شقة بمقابل النهر" َ
دي ما أقوله لذا "لم
ُ ُ ُ
تظاهرت بعدم سماع السؤال ،واصلت السير ُمطأطأ الرأس فحسب "تمهل ،ألم تسمعني؟" حينها هرولت
بسرعة.
ُ
حين كنت أتردد على المشفى باستمرار ،انتقلت من مدرسة ألخرى ،باإلضافة أنه لم يعد هناك
ُ
انتقلت إليه. مدارس متبقية بالقرب من الحي الذي
ُ ُ ُ
توجهت إلى غرفة التخزين والتي قمت بتنظيفها كعقوبة على تأخري عن المدرسة ،وحينما فتحت
ُ ُ ُ
الباب ذهلت لسماع أصوات بالداخل" .من يمكن أن يكون هناك في تلك الساعة؟" كنت على وشك إغالق
ٌ
الباب بصمت حينما دعاني أحد باسمي "تريث ،أنت بارك جيمين ،أليس كذلك؟" كانوا هؤالء زمالئي الكبار
الذين قاموا بتنظيف الصف معي لتأخرهم.
ً
لم أكن واثقا ما إن كان ُيجدر بي إجابتهم أم االنصراف فحسب ولكن أحدهم نقرني على كتفي
دخلت الصف دون إدراك ذلك.ُ
"ألن تدخل؟" حينها
ُ ً
"من الرائع رؤيتك مجددا ،أال تذكرني؟ أنا تايهيونغ ،نحن بالصف ذاته" .وقبل أن أعي ذلك كنت
ً
جالسا على مقعدي.
ً
جميعا استمر باب غرفة التخزين بالفتح واإلغالق ،الطالب السبعة الذين قاموا بالتنظيف ً
معا كانوا
بالداخل ،ال أحد يطرح األسئلة .استمعنا لبعض الموسيقى ،قمنا بقراءة الكتب ،ورقصنا ولهونا ً
سويا .حينها
معا ً
دوما. ّ
كنا نتسكع ً اعتراني شعور كما لو
~~16
يونغي
الثاني عشر من يونيو العام التاسع عشر
قاطع قدر
ٍ "الجو حار على الذهاب للمشتل ،لنذهب للشاطئ فحسب" .حاولت قول هذا بشكل
اإلمكان .لم أعرف ما هو مشتل األزهار العشبية ،لكن غريزتي تقول أن علينا تجنبه" .ال نمتلك ما يكفي من
ً ً المال" اعترض هوسوكُ .
"يمكننا السير" قال تايهيونغ ُمجددا" .متأكد أننا سنكتشف حال حالما نصل
سنفوت العشاء ".تدخل نامجون .جونغكوك وتايهيونغ تذمرا وجيمين ّ لمحطة القطار ،وبطبيعة الحال،
بالتوجه للمحطة .بدا جيمين كطفل صغير ،برأسه المنخفض لألسفلِ أفاق من دهشته بعد أن بدأ الجميع
ً ً ُ
المنحنية .نظرت ُمجددا ناحية الالفتة .عالمة مشتل األزهار العشبية تالشت من مرمى نظرنا شيئا
وأكتافه ُ
ً
فشيئا.
~~17
جونغكوك
الثاني عشر من يونيو العام التاسع عشر
كانت الشمس بأوجها حينما وصلنا إلى محطة القطار الواقعة بجانب البحر .تكاد ظاللنا تكون
غير مرئية ،حائمة حول أقدامنا ،ولم يكن هنالك مكان لالختباء منها .باللحظة التي خلت أنني سمعت بها
هدير األمواج ،الح أمام أعيننا شاطئ رملي أخاذ .كانت بداية الصيف ،وقد اتخذ السياح أماكنهم تحت
قدماَ .لو َحا،
مظالتهم .ثمة شيء بالبحر يبعث العواطف بداخلي .صاح تايهيونغ وهوسوك بحماس واندفعا ً
فانضم إليهما جيمين وسوكجين.
نادوني" .جونغكوك!" لوحت لهم وأنا أبتسم بسعادة ،أو باألحرى ،ابتسمت ألدعي أنني سعيد.
ّ
والتكيف مع البيئات الغريبة علي .أخبرني أحدهم ذات مرة أنني كنت ما أزال ال أستطيع إظهار مشاعري
ً
أتصرف كطفل خجول وخائف ،واألمر ذاته اليوم .بدأت أشعر بالسوء سريعا بحضور اآلخرين ،كما ل و أنني
ال أنتمي للمكان.
ً
ال يوجد الكثير لنفعله على الشاطئ ،فقد كانت وجهتنا متسرعة" ،لنتسابق" اقترح هوسوك فجأة
ً ً وركض ً
حارا جدا .أتى نامجون بمظلة ممزقة قدما ،فلحقه اآلخرون لكن سرعان ما استسلمنا .كان الطقس
مكان ما فتوضعنا تحتها .تسربت أشعة الشمس خالل الثقوب ،واستمرت تتحرك ببطء ،ونحن وجدها في ٍ
نتقلب لتفاديها.
"أتريدون الذهاب لرؤية هذه الصخرة؟" رفع هوسوك هاتفه .وكانت هنالك صورة لصخرة ضخمة
"يقال ،إذ صحت بحلمك إلى البحر وأنت تقف على هذه الصخرة ،سيتحقق" سحب جيمين على الشاطئ ُ
الهاتف وأمعن النظر بالصورة" .أليست بعيدة بعض الشيء؟ إنها على بعد ( )3.٥كم من هنا" تقلب يونغي
ً
ذاهبا .ففي المقام األول ليس لدي حلم ،وحتى لو كان لدي ،لن أسير ( )3.٥كم في هذه الحرارة.... "لست
ُمحال" وقف تايهيونغ "أنا ذاهب".
بدأنا السير تحت المظلة الممزقة .الشاطئ يشتعل من أشعة الشمس الحارقة ،والطقس ٌ
حار
لدرجة أننا بالكاد نستطيع التنفس بينما نسير ببطء كما لو كنا نتجول ،وأقدامنا تنغمس في الرمال الساخنة.
حاول هوسوك قول بعض النكات ،لكن لم يستجب له أحد .سقط تايهيونغ على األرض وأعلن أنه قد
ً
استسلم ،وازنه نامجون على قدميه مجددا ودفعه من ظهره .كانت وجوهنا حمراء زاهية ومليئة بالعرق،
حاولنا تهوية أنفسنا بأطراف قمصاننا ،لكنه لم يجلب سوى المزيد من الهواء الحار ،ومع ذلك ،استمررنا
في المضي ً
قدما.
ً
شخصا جيد .وقال قبل لحظات ،سألت اآلخرين عن أحالمهم .وقال سوكجين أنه يحلم أن يغدو
ً
يونغي أنه من الجيد أن يكون لديك حلم .وهوسوك يتمنى أن يكون سعيدا وحسب .ونامجون ،ماذا قال
ً ً ً ً
عموما ،لم يكن لدى أي منا حلم .إذاِ ،ل َم نستمر بالسير مميزا. لي؟ ال أستطيع التذكر ،ولكنه لم يكن شيئا
على طول هذا الشاطئ تحت أشعة الشمس الحارقة للوصول لبعض الصخور على بعد ( )3.٥كم ،والتي
من المفترض أنها تحقق األحالم؟
ُ
على طول الطريق ،تخلصنا من المظلة التي كان كل ِمن نامجون وهوسوك وسوكجين يتناوبون
ّ ً ً
"كف عن جدا مع مقبضها الصلب. على حملها ،رغم أنها حجبت أشعة الشمس قليال ،إال أنها كانت ثقيلة
ً
فعل هذا" هذا ما أخبرني به يونغي بينما كنا نستريـ ــح بعد التخلص من المظلة .بداية ،أصابتني الحيرة.
نادرا ماكنت أتحدث مع يونغي ولم أدرك حينها أنه يحادثني .رفع أصابعه أمامي "ستصبح ففي الواقعً ،
~~18
كأصابعي" الحظت بعض الجلد الميت حول أصابعه ،وضعت يدي في جيبي بتردد ولم أجب ألنني لم
أعرف ماذا أقول.
ً
مهتما بجوابي .بدا "ما هو حلمك؟" سأل يونغي "أنت لم تخبرنا بعد" استفسر ولكنه لم يبدو
ً ً ً
وكأنه يرغب بمواصلة المحادثة" .ال أعلم حقا ،فلم أفكر بذلك مسبقا" "حسنا ،ال شيء خاطئ في ذلك"
بصوت ساخر "أخبرتك ،ليس ٍ "بالمناسبة ،ما هو الحلم؟" سألت ببعض التردد .وأجاب يونغي
شيء كهذا" "كال ،أعني "...ترددت ورغم ذلك أكملت "كنت أتساءل ما هو الحلم ،ماذا يعني الناس ٌ لدي
ٌ
بالحلم؟" نظر لي ثم حول نظره للسماء ،وأجاب بأسى "شيء تريد تحقيقه؟ أخال أنه كذلك"
ً
تولى هوسوك زمام األمر ،ولوح بهاتفه لنا "حسبما يقول القاموس ،أوال؛ هي سلسلة أحداث
ً وهمية تواجهها وأنت نائمً ،
ثانيا؛ حالة أو أمر مثالي تأمل بإدراكه ،ثالثا؛ توقعات أو أفكار خاطئة مستحيلة
تقريبا أو من غير المحتمل ً
تماما تحقيقها". ً من غير المحتمل
غريبا؟ كيف يمكن تسميته كأمر تحقيقه غير محتمل؟" .أجاب هوسوك "أليس التعريف الثالث ً
ً
"يقول لك بعض الناس أحيانا أن تستيقظ م ن حلمك ،لذا إن كنت تحلم بالعودة للمنزل قبل أن نصل إلى
الصخرة ،استيقظ اآلن!".
ً
انفجر بعضنا ضحكا ،لكن البقية لم يبدوا أي رد فعل ،ربما ألنه لم يعد لديهم طاقة متبقية" .هذا
غريب ،كيف يمكن تسمية الحلم بشيء تريد تحقيقه في حياتك وشيء غير محتمل أن يتحقق" قال يونغي
ً
ضاحكا "ربما يعني ذلك أن الناس يائسون للغاية ،فهم ال يستطيعون التخلي عن أحالمهم رغم معرفتهم
ً
أنها لن تتحقق ،لذا ال تحاول امتالك حلم حتى" نظرت إليه متفاجئا "كيف؟" بدأ يونغي بقضم أظافره،
وحالما شعر بنظراتي ،وضع يديه بجيوبه "ألنه من العصيب امتالكها".
ً
تملكني الفضول لمعرفة السبب خلف قضمه ألظافره ،لكني لم أسأل .وبدال من ذلك ،ألقيت
نظرة على أصابعي ،لطالما كانت لدي عادة إيذاء نفسي من طفولتي .ال أتذكر متى بدأ هذا بالضبط .كل ما
أتذكره بوضوح هو الشعور بعد قطع إصبعي بسكين في أحد األيام .بعدما يمر اإلحساس المؤلم ،يبدأ الدم
شعرا بالخدر وبعض الوخز بذات الوقت. بالتدفق من الجرحُ ،م ً
اصطحبتني والدتي للمشفى وتمت خياطة الجرح وتعقيمه وتضميده .تظاهرت باالهتمام المفرط
أمام الطبيب لكن فور عودتنا للمنزل ردعتني من تناول العشاء وحتى لم تساعدني في تناول دوائي ،ولم
أتوقع منها فعل ذلك.
ُ ُ ّ
ببطء شديد ألني بقيت أضغطٍ بالتصرف بهذه الطريقة منذ مغادرة والدي .التأم الجرح بدأت
ً ً ُ ُ
عليه بحافة ظفري حتى آلمني لدرجة تدفع للبكاء أحيانا .مع ذلك ،لقد ساعدني بالشعور باليقظة مجددا.
ً
حتى في الوقت الحالي ،ينتابني الشعور بالفراغ أحيانا وأشعر بأن كل شيء بال معنى وأن طاقتي
ُت َ
ستنزف.
"كم علينا أن نمشي بعد؟" بدا على هوسوك الحيرة إثر سؤال تايهيونغ" .هذا غريب ،أنا متأكد
ً
جميعا ناظرين في األرجاء. مكان ما" وقفنا من كونها هنا في
ٍ
ال شيء غير صوت األمواج التي تضرب الشاطئ يمأل فراغ الصمت تحت السماء الزرقاء .كانت
ً ُ
توجد المئات واآلالف من الحصا الصغيرة متناثرة على الشاطئ كحبوب الرمل ولم يكن للصخرة الموجودة
ً
خطوة بعد اآلن" "إنني جائع
ٍ في الصورة أي أثر" .هل علينا االستمر ُار قليال بعد؟" "ال أستطيع أن أخطو أي
وعطش"
ِ
~~19
في منتصف حوارنا ّ
تنهد جيمين وعيناه ال تفارقان هاتفهّ .أما تايهيونغ الذي كان ينظر إلى هاتف
بصوت
ٍ جيمين ،فقد قام بركل الحصا بعنف بينما بدت على وجهه مالمح خيبة األمل .قرأ جيمين المقالة
مسموع.
اق على هذا الشاطئ وقامت شركة اإلنشاء بتحطيم الصخرة ألشالء لكونها منتجع ر ٍ
ٍ سيتم بناء
تعيق رؤية المنظر على نزالء المنتجع في الطابقين األول والثاني.
ً
آن واحد والحظنا الشرائط صفراء اللون التي تم وضعها في ألقى جميعنا نظرة في األرجاء في ٍ
ات عمالقة تجول في الوراء ثم رأينا عالمة تقول "سي وال أنحاء الشاطئ لتحديد منطقة اإلنشاء مع حفار ٍ
لإلنشاء"
ّ
حصاة بحافة حذائه
ٍ "أعتقد أننا أتينا للمكان الصحيح" قال هوسوك بينما كان يضغط بخفة على
ّ
تبقى من الصخرة التي ّ
تم تدميرها" .ال ِ الرياضي .ال بد من أن كل هذه الحصا المبعثرة على الشاطئ هي ما
ُ ً
كصخرة تحقق األحالم على كل حال" قام نامجون بمواساة هوسوك ،مربتا على كتفه ٍ لشيء
ٍ بأس ،ال وجود
ّ
بخفة.
أحالم منذ البداية" "ال فرصة لنا إلدراكها حتى لو امتلكناها" "امتالك األحالم ٍ "لم تكن لدينا أي
ً
يمثل رفاهية بالنسبة لنا" حاول الجميع قول شيء إيجابي لكن األمر لم ينجح .مع أننا لم نكن نتوقع الكثير
ً
شيء كهذا .لم يكن األمر مختلفا بالنسبة ليونغي الذي أخبرني بأال ٍ لكننا لم نقطع كل ذلك الطريق لرؤية
ً
غافال تماماً ً ً ً أمتلك ً
حلما لكون األحالم صعبة جدا .فبعد النظر إلى البحر بفراغ ،بدأ بقضم أظافره مجددا،
ّ عما كان يفعله" .يونغي" استدار لينظر إلي "الّ "... ّ
تمت مقاطعة كلماتي التالية من ِقبل دوي الحفارة.
صادر من ثقب صخرة ٌ جميعا في الوقت ذاته .إنهم يستكملون أعمال البناء .صوت االرتطام بدا وكأنه ً التفتنا
ضخمة وصلبة ،مما جعل الهواء المحيط يتدفق ويتناثر بشدة.
ُ َ َ َ َ
وربت على كتفي "ما الذي قلته؟" تمتم يونغي بشيء ما" .ال تفعل هذا" ثنيت يداي عبس يونغي
ُ ً ً
عابسا مرة أخرى .كنت على ووضعتهما حول فمي ثم صرخت .بدا وكأن يونغي لم يسمعني وقام بهز رأسه
ّ ً
مجددا لكنه قد توقف عن قضم أظافره بالفعل. وشك الصراخ
ُ ُ
أيت البحر من وراء أكتافه ُ
وسحقت الحصا التي ال تعد تحت قدماي .ال بد من أن الصخرة كانت ر
ُ
هائلة الحجم ،قوية وقديمة بما فيه الكفاية لتحقق أحالم الناس ،لكنها اآلن لم تغدو سوى كومة من
الحطام.
ّ ّ
قاس بالنسبة لك كذلك؟" .كالمتوقع ،ابتلع دوي الحفارة الصاخب صوتي. سألت "هل العالم ٍ
ً ُ
أطلعني تعبير يونغي الحائر بأنه لم يفهمني فصرخت مجددا "هل تريد أن تستغني عن هذا العالم كذلك؟"
ً َ قمت ّ ُ
بهز رأسي فصرخ يونغي مجددا .بعد رؤية شيء هذه المرة لكن لم يسعني فهمه لذا ٍ قام بتمتمة
ً ً
التمثيل الصامت الخاص بنا ،هوسوك وتايهيونغ انفجرا ضحكا ومع أن ضحكهما لم يكن مسموعا ،لكن
تعابير وجهيهما أفصحت عن مزاجهما.
ُ ُ ُ ً
ونحن نصرخ بأحالمنا .غطى هوسوك أذنيه بكلتا يديه جميعا للبحر في الدقيقة التالية ،نظرنا
ً َ
واسعا وكأنه ُينافس صوت الحفر لكن صوته بقي غير مسموع .كان األمر مماثال بالنسبة ً وفتح فمه
لتايهيونغ ،جيمين ونامجون.
ً ُ ً كل منا ب ّ َ
صرخ ّ
وجهة أبدا .كنت واقفا وراء يونغي وسوكجين في البداية ثم ٍ قصة لن تصل إلى أي ِ
ّ ً ُ َ ّ
مت ً
مكونة جها نحو مكان وصول األمواجُ .بعثت الحياة في كل حواسي وترابطت أصوات اآلخرين عبرتهما
ً ّ ً ّ
شبكة معقدة مع الرائحة السمكية والمنعشة نوعا ما مع الريـ ــح.
~~20
سوكجين
الخامس والعشرون من يونيو العام التاسع عشر
ً ُ
لم يكن هناك أي أحد في غرفة الصف التي تم تحويلها إلى غرفة للتخزين ،ولم ندبر مواعيدا
صمت كهذا كان ً ٌ تعج ً مسبقة للقاءاتنا قط ،لكنها كانت ُ
نادرا .حالما دوما بالناس وأصوات همهماتهم،
ُ ُ
هوية الشخص الذيِ خطوت للداخل ،لمحت نبتة مزروعة في أصيص وضعت على النافذة وتساءلت عن
أحضر نبتة إلى هنا.
َ َ ً
معتمة ً
دوما ألن الطاقة الكهربائية ال تصلها .النباتات الخضراء بدت وريقاتها أكثر كانت الغرفة
ُ
اخضر ًارا بسبب اإلضاءة الخافتة التي تسللت عبر النوافذ المتسخة .التقطت صورا بهاتفي وكالمتوقع ،لم
ً
آمنت ًُ َ
دوما بأن الصور عاجزة عن تصوير ما تراه عين اإلنسان. تكن جيدة.
ً ُ
مكتوبا على حافة النافذة وكان عندما اقتربت من أصيص النبات أصبح بوسعي رؤية حرف "الهاء"
ُ ُ ُ
األصيص ُيغطي نصفه ،رفعت األصيص ألكتشف "نبتة هوسوك" محفورة تحته ،ابتسمت وفكرت بأنه
ُّ
تلفت في أنحاء الغرفة. أعدت األصيص إلى مكانه ووضعته على الكتابة المحفورة. ُ حري بي معرفة ذلك.
لم أالحظها من قبل لكن عتبة النوافذ كانت مغطاة برسومات جرافيتية وخربشات .على عتبات النوافذ،
الجدران وحتى السقف مخطوطة عبارات مثل "القبول في الجامعة أو الموت!" واقتراحات حب غير
متبادل ،تواريـ ــخ وأسماء ال تعد وال تحصى من الصعب تمييزها .ال بد بأن غرفة التخزين ِ
هذه قد كانت
َ ْ ُ ً
صباح ثم يغادرون
ٍ كل
شهدت طالبا يسجلون حضورهم في ِ كغيرها من الصفوف الدراسية العادية ،قد ِ
ً
هذه الغرفة ثم ما تلبث أن تعود مجددا عند الظهيرة .في أيام العودة للمدرسة ال بد بأن الطالب قد عجوا ِ
بصخب وآخرون ُعوقبوا لكونهم ٍ طالب يتجاذبون أطراف الحديث ٌ خالية عند حلول اإلجازة الصيفية.
َ ُ يتأخرون عن الحصص ،مثلنا ً
تماما .هل يا ترى ش ِهد هذا الصف ،معلمين يستخدمون العنف واالختبارات
َ
الالنهائية والفروض المنزلية؟ هل كان هنالك طالب مثلي قد َوشوا بأصدقائهم إلى ناظر المدرسة؟
ً ً ً
فجأة بدأت بالتساؤل ما إن كان اسم والدي مخطوطا على الجدار .والدي تخرج أيضا من ِ
هذه
المدرسة .كان يؤمن بأنه ال بد من االلتحاق بالمدرسة والجامعة نفسها إلضفاء هيبة على تقاليد العائلة من
جيل إلى جيل.
ً ُ
أخيرا ضمن األسماء المكتوبة في العمود الذي على بحثت عن اسمه وسط األسماء وقد وجدته
ُ
جهة اليسار ،وك ِتب تحته :كل شيء بدأ من هنا.
~~21
نهاية الصيف
وبداية العُلزلة
~~22
تايهيونغ
العشرون من مارس العام العشرون
~~23
نامجون
الخامس عشر من مايو العام العشرون
سلكت طريقي ناحية غرفة الصف التي تحولت لغرفة تخزين ،وأصبحت بمثابة مخبأ لسبعتنا. ُ
ُ ً ً ّ
مقلوبا ونفضت التراب عنه براحة يدي .اليوم كان آخر مكتبا رتبت بعض المقاعد على الطريق ،حملت
أيامي في المدرسة .لقد قررت عائلتي االنتقال منذ أسبوع ين .إذ توالت مشاكل عمل والدي ،فغدت غير
ُمحتملة .إيجار الشقة ُمتأخر لشهور اآلن .وعلى الرغم من طيبة الجيران ،إال أن راتب عملي الجزئي في
محطة الوقود ليس ً
كافيا لتغطية كل شيء ،لهذا علينا الرحيل قبل أن تنفذ مدخراتنا.
ُ
طويت ورقة من المنتصف ،وضعتها على المكتب ،وأمسكت قلم رصاص .ال أمتلك أدنى فكرة
ّ
عما سأكتب.
ُ ُ ُ ُ
مضت دقائق ،وبينما كنت أخربش ،كسر رصاص القلم .ال ُبد أن أنج .هذا ما دونته بال وعي،
حدث هذا قبل أن تتبعثر شظايا من الرصاص األسود في كل مكان.
ُ ُ
كومت الورقة ،وضعتها في جيبي ووقفت .تناثر الغبار عندما دفعت المكتب .قبل خروجي من
ُ
الغرفة ،نفثت على النافذة وكتبت ثالث كلمات .ليس هنالك أي رسالة وداع كافية لجعل اآلخرين يتفهمون
ً
مفهوما" .سوف أراكم ُمجددا"
ً شعوري .وبنفس الوقت ،ليس هنالك أي حاجة لرسالة وداع لجعل نفسي
ً
عوضا عن وعد. لقد كانت أمنية
~~24
يونغي
الخامس والعشرون من يونيو العام العشرون
~~25
جونغكوك
الخامس والعشرون من يونيو العام العشرون
بدأت أصابعي بالضغط على مفاتيح البيانو ،وتغلغل الغبار بين أصابعي ،بت أضغط عليها بقوة
أكبر ،ومع ذلك لم يتسنى لي العزف كما كان يونغي يفعل .انقضى أسبوعان منذ توقفه عن المجيء
ً
للمدرسة .في النهاية ،ظهرت شائعات تقول أنه ُطرد .هوسوك لم يقل شيئا ،وأنا لم أسأل.
حينذاكُ ،قبيل أسبوعين ،كنا أنا ويونغي وحدنا في الغرفة عندما جاء المعلم .كان ً
يوما ً
عاديا ،ذهبنا
إلى هناك دون أي تخطيط مسبق .لم نود البقاء في فصولنا الدراسية فحسب .حينها لم يلتفت يونغي
ٌ
خطب ما حول ً
مستلقيا على مكتبين مغلق العينين .لكن بدا وكأن هنالك للوراء واستمر بالعزف بينما كنت
يونغي والبيانو ،فال يبدوان منسجمين رغم أنهما كانا ال يفترقان ،لم يكن لدي أدنى فكرة حول الوقت الذي
ً
شخصا ما قد حطمه ،وتوقف مر .وعلى نحو مفاجئ ،عصف صو ٌت مدوي َ
إثر فتح الباب بشدة ،كما لو أن ٍ
العزف.
~~26
سوكجين
السابع عشر من يوليو العام العشرون
طرق أذاني صوت حشرات الزيز بمجرد خروجي من مبنى المدرسة .الملعب ُممتلئ بطالب
ُ
يضحكون ،يلعبون ،ويتسابقون في األرجاء .لقد كانت بداية اإلجازة الصيفية ،والجميع ُمتحمس .شققت
طريقي من بين الحشد ورأسي ُمنخفض .جل ما أردته هو الخروج من ُهناك.
ُ
"سوكجين" اعترض ظل أحدهم طريقي ،رفعت رأسي بعجلة .إنهما هوسوك وجيمين .كانا
ً َ إلي بتلك النظرات ُ يبتسمان لي بابتساماتهما الكبيرة طيبة القلب كالمعتاد ونظرا ّ
ذاهبا المزعجة" .لست
ساحبا ذراعي .تمتمت بشيء شبيه ب "نعم" ً للمنزل في أول أيام اإلجازة ،أليس كذلك؟" تساءل هوسوك،
ً ُ
بعيدا. وأشحت بنظري
ً
ما حصل ذلك اليوم كان حادثا ،لم أقصد حدوث أي من ذلك .لم أتوقع وجود جونغكوك ويونغي
في غرفة التخزين بتلك الساعة .اشتبه المدير أنني أتستر على البقية وهددني بإخبار أبي عن مدى تراجعي
ً
في الدراسة .حري بي قول شيء .أخبرته عن مخبئنا ألنني ظننته فارغا ،لكنه أدى لتعرض يونغي للطرد .لم
يعلم أحد أن لي عالقة بذلك.
َ
"احظ بإجازة سعيدة ،لنبقى على تواصل" ال بد أن هوسوك قد قرأ مالمح وجهي .ترك يدي ببطء
ً
وودعني بطريقة أكثر إشراقا .لم أستطع الرد ،ال يوجد شيء ُيمكنني البوح به .تذكرت أول يوم لي في هذه
ُ جميعا ُمتأخرين وقد عوقبنا ،لكننا ُكنا ً
معا ،لذا ضحكنا ً
معا .لقد دمرت كل ً ُ
المدرسة بينما عبرت البوابة .كنا
هذه الذكريات التي تشاركناها بعد أن قررت العيش كما ُيريد أبي ،بعد أن قررت عدم مالحقة سعادتي .لقد
عضضت على أكثر مما ُيمكنني تحمل مضغه. ُ
~~27
هوسوك
الخامس عشر من سبتمبر العام العشرون
سارت والدة جيمين عبر غرفة الطوارئ ُمتجهة ناحية السرير .تفحصت عالمة االسم المتواجدة
ُ
أسفل السرير وحقنة المغذي المتدلية فوقه وأزالت ورقة عشب جافة عن كتف جيمينِ .سرت نحوها
ُ
بتردد وانحنيت .شعرت أن من واجبي إخبارها عن سبب تواجد جيمين في غرفة الطوارئ وكيف أصيب
بنوبة هلع في موقف الحافلة .بدا أن والدة جيمين الحظت وجودي للتو .لكنها أشاحت بنظرها ُمسرعة
ً
"شكرا" دون انتظار تفسير مني. بعد همس كلمة
والممرضون بنقل سريره وأوشكت على اللحاق بهم حتى نظرت ّ
إلي والدة ما إن باشر األطباء ُ
ً ً
جددا .شكرتني مرة أخرى ودفعت كتفي .بعد التفكير ً
مليا ،لم تقم بدفعي حقا ،إنما وضعت يدها جيمين ُم
برفق على كتفي وأزالتها بسرعة .في تلك اللحظة العابرة ،قد تم رسم خط حاجز بيننا .ذلك الحاجز كان
ً
قابل للكسر ،لن أتمكن أبدا من تخطيه .لقد ترعرعت في ميتم ألكثر من عش ِر
حازم وقاس ،بارد وغير ٍ
سنوات .أستطيع تمييز هذا النوع من الحواجز بكامل حواسي ،أراها بأعين األشخاص ،وأشعر بها في
األجواء.
فسقطت .حدقت بي والدة جيمين ببرود .كانت صغيرة وجميلة ،لكن خطوت باضطراب للخلف َ
ً
جالسا على أرضية غرفة الطوارئ. ظلها كان رحب ومقرور .ذلك الظل الرحب غام حولي بينما تكومت
ُ
نظرت لألعلى كان سرير جيمين قد اختفى. حينما
~~28
جونغكوك
الثالثون من سبتمبر العام العشرون
"جونغكوك ،لم تعد تذهب إلى ذلك المكان ،أليس كذلك؟" أخفضت نظري ألحذيتي فحسب
ورفضت إجابته ،لذا ضرب المعلم رأسي بكتاب التحضير .ومع هذا لن أستسلم ،كان ذلك المكان الذي
يوم دون تجولي فيها ،ولم يعرف اآلخرون. التقينا فيه .منذ أول وطأة وطأتها داخل تلك الغرفة ،لم يمر ٌ
ً ً ً
أحيانا تكون لديهم خطط أو وظائف بدوام جزئي ،لكنهم لم يرحلوا أبدا ،وأحيانا أخرى يونغي وسوكجين
تماما ،فبدون استثناء لم أدع ٌ ً
مختلفا ً
يوم يمر دون أن أذهب إلى هناك. يختفيان لعدة أيام ،إال أني كنت
ٌ
أحد آخر ،ولم أمانع ذلك ،أجل كنت على ما يرام بهذا ألن تلك الغرفة ستبقى دائماً يأت بها
هناك أيام لم ِ
ً
غد.
وقت الحق ،ربما غدا وربما بعد ٍ
هناك وألن اآلخرين بالتأكيد سيأتون في ٍ
ً
"أعلم أنك تتسكع مع أشخاص سيئين" وضرب رأسي بكتاب التحضير مجددا ،رفعت نظري وثبته
ً
على المعلم ،أنزل الكتاب مجددا ،وغمر ذهني مشهد يونغي وهو يتعرض للضرب .صررت أسناني وكظمت
غيظي .لم أرغب في الكذب وقول أنني لم أذهب إلى ذلك المكان.
كنت هناك ،وأقف أمام الغرفة .شعرت كما لو أن اآلخرين كانوا هناك ،على الجانب اآلخر من الباب
ً ً
وقتا طويال للوصول. وعندما أفتحه ،سيستديرون جميعهم لرؤيتي ويتذمرون حول السبب الذي استغرقني
يطالعان بعض الكتب ،تايهيونغ يلعب ،يونغي أمام البيانو كالعادة وهوسوك وجيمينِ سوكجين ونامجون
يرقصان.
ولكن ،عندما فتحت الباب ،لم يكن هناك سوى هوسوك الذي أتى لتنظيف ما خلفناه .تجمدت
يدي على المقبض .تقدم هوسوك نحوي ،ومرر ذراعه على كتفي واصطحبني إلى الخارج "لنذهب" .أغلق
ً
أبدا. باب الغرفة خلفنا .أدركت في تلك اللحظة وفي هذا المكان أن تلك األيام قد ولت ولن تعود
~~29
ال بد أن أنجُ
~~30
نامجون
السابع عشر من ديسمبر العام الواحد والعشرين
ُ
بلغت محطتي المنشودة .كان الوقت ً
فجرا في قرية ريفية حيث ال واصلت تخفيف سرعتي حتى
ّ
ثلجي القوام كثير من األحيان .ثلوج متأللئة تساقطت طوال الليل لتشكل غطاء
تتردد الحافالت إليها في ٍ
جسيما ،وهوت األوراق كالثلوج في كل مرة َتهبُ
ً ً ً
على القرية بأكملها .انحناءات الشجر جسدت وحشا أبيضا
َ
الرياح .ال داعي للنظر خلفي ألدرك أنني الشخص الوحيد الذي خلف آثار أقدام على مر حقل الثلج في
وقت مضى بسبب الثقب الصغير الموجود في باطن حذائي الرياضي. هذه القرية .كلتا قدماي قد تبللتا منذ ٍ
ُ ً ُ ُ َ ُ
سمعت بإحدى المرات أن الخالق يجعلنا وحيدين ليرشدنا إليه ( .)١لكنني لست وحيدا .لم أخط دربي
ً
انسحابا ،إنني أهرب من نفسي. نحو نفسي ،لقد كان هذا
الممتلكات التي نحتاجها تستمر بالتقلص وصلت عائلتي لهذه القرية في الخريف الماضي ،كمية ُ
ُ ُ
في ك ِل مرة ننتقل ِبها .واآلن ،احتجنا لشاحنة نقل صغيرة فحسب من أجل الرحيل .لسنا في وضع يسمح
لنا بالتطلب في مكان عيشنا ،فهنالك متطلبان ضروريان .األول ،إيجاد مشفى ألبي .والثاني ،إيجاد رب عمل
ُمستعد لتوظيف شخص بال شهادة ثانوية .هذه القرية تمتلك كلي المتطلبين.
َ
نقفت الحافلة التي تعمل مرتان باليوم بجانب مشفى القرية ،وسلسلة من المطاعم الصغيرة
تصطف على جوانب النهر خلف القريةُ .يباع في هذه المطاعم بعض الحساء والمقليات المصنوعة من
أسماك صغيرة تم اصطيادها من النهرُ .يعد موسم الصيف َأو َج بيعهم .حيث يتدفق حشود من المدن
للمقيمين في القرية ومناطق االستجمام سعيا لرحلة مائية ،وتكثر طلبات توصيل البضائع ُ ً القريبة
ُ
المتواجدة في التالل الجبلية .في موسم الشتاء ،عندما يتماسك الجليد على النهر ،تستخدم هذه المطاعم
ً
صيفا .ال يوجد العديد من ُ َ
السياح في الشتاء كما الحال في الصيف ،لكن اصطيدتِ أسماك محفوظة
طلبات التوصيل تبقى ثابتة .كنت أحد فتيان توصيل الطلبات في القرية.
ّ ً ُ
بالطبع هنالك ُمنافسة كبيرة هنا أيضاُ .معظم الدخل لألسر من الزراعة ،وكما ُيمكنكم التخمين،
ُ
يحقق الثراء .كانت خدمة التوصيل هي العمل الجزئي الوحيد المتوفر للفتيان في القرية .جعلنا األمر ال
ُ ُ
أصحاب المطاعم نتنافس "أليس من الطبيعي أن أعين من يثير إعجابي أكثر؟" بالنسبة لهم ،ال يعنيهم
كوننا قاصرين وبال ُرخص قيادة .وبالنسبة للفتيان الذين تم تعيينهم بالفعل ،فهم يتصرفون بتعصب على
ومرهقة.الرغم من كونهم قلة إال أنهم قاموا بتهديدي بسخريات قاسية ُ
المنافسة أكثر ضراوة .ترتب على ذلك قيامنا بمهمات تطوعية ألصحاب في اإلجازة ،أصبحت ُ
وبشكل غير متوقع ،انتهى ً
تحفيزا .مع ذلك، العمل باإلضافة إللقاء نفايات مطاعمهم .لم َيزدنا تواطؤهم إال
ٍ
التآزر فيما بيننا .وعلى الرغم من تنافسنا أال أننا تعاطفنا مع بعضنا البعض .فإن
ِ بنا الحال بإنشاء نوع من
ُ َ
حاله .ذكرني ذلك باألوقات التي أمضيتها في غرفة التخزين أيام ِ تغيب أحد ِمنا ،سيتساءل اآلخرون عن
الثانوية .بعضهم ُمشابهون ليونغي ،والبعض اآلخر لجيمين .لم أستطع منع نفسي من التساؤل ،لو تقابلت
ً ُ ُ
أنا وأصدقائي من المدرسة هنا في هذه القرية ،هل كنا سنغدو أندادا ونحاول التفوق على بعضنا البعض؟
ُ
سن ّ
كون صداقة من نوع ما؟ وإن قابلت فتيان التوصيل هؤالء في المدرسة ،هل كنا
تتساقط الثلوج بكثافة حين تصل ُمنافستنا ،غرائزنا التعصبية ،وإحساسنا الغريب بالتآزر إلى
ُ
فورا .كانت الدراجة النارية أمر أساسي في توصيل الطلبات لمناطقالتنافس بيننا ً
َ حدها .وحينئذ َيهمد
االستجمام ،لكن من الخطر قيادة دراجة نارية ذات وزن خفيف على طريق الجبال ُ
الممهدة بالثلوج ،إذ أنه
سيرا على االقدام ً
خيارا. ٌ
طريق ُمنحدر ومتعرج ،وال ُيعد توصيل الطلبات ً
~~31
ُ
ويعيش بإحدى بالنهاية ،لقد كانت مواجهة حاسمة بيني وبين تايهيونغ .إنه أصغر مني بسنتين
البستان .لم يكن اسمه الحقيقي تايهيونغ ،أعتقد أنه إما جونغشيك أو ضواحي القرية على مقربة من ُ
جونغهون ،لكنه ُيذكرني بتايهيونغ .لم يكن ذو ابتسامة ساذجة أو ُمنفتح على اآلخرين بطبيعته الرقيقة
ُ وم ً
ستاء ً عصبيُ ،
ّ ّ
دائما .مظهره عدائي، والبريئة كما هو الحال مع تايهيونغ .باألحرى ،لقد بدا ذو طبع
الخارجي ُمشابه ليونغي ،لكن العجيب باألمر أنه ُيذكرني بتايهيونغ.
ُ
تايهيونغ وأنا نعد الشخصان الوحيدان المستعدان للمجازفة بخطر توصيل طلبات لجبال القرية
ين بائسين .كان اليوم كأي يوم ُمعتاد .حين وصلت طلبية أخرى بالثلوج وذلك لكوننا فقير ِ
ُ
المغطاة
ً ُ
فبناء على توقعات الطقس، للمطاعم ،كنت أتجول حول النهر بمفردي .ال وجود ألشخاص أخرين،
ً
سيتساقط الثلج بكثافة بعد الظهيرة .وصل تايهيونغ بعد عدة دقائق ،وبدال من التوجه للدردشة في
بالقرب من الجسر .اليوم هو أحد تلك األيام حيث يمتلئ وجهه ِ المطعم كعادته ،ألقى بنفسه على األرض
ُ ُ
بالندوب والكدمات ،هذه األيام حيث تكون عيناه محتقنتان ومالبسه ملطخة بالدماء .أهنالك خطب ما
به؟ هل يقوم أحد بضربه؟ لم أسأل.
َ ُ
بدأت الثلوج بالتساقط بينما انتظرت إعداد الطعام .في تلك اللحظة ،المست ندفة ثلج مؤخرة
ُ ً
وسمكا" .هل أنتما متأكدان من عودتكما سالمين؟" أخرج المالك رقبتي بخفة .ازداد تساقط الثلج كثافة
ُ ً ُ
رأسه .وثب تايهيونغ على أقدامه ،ونظرت ناحيته" .بالطبع" أجاب كالنا بتزامن" .ال نعلم أبدا ألي درجة
ٌ
سيتساقط المزيد من تلك السماء" أجاب أحد من داخل المطعم" .ابتدأ التساقط للتو ،سأعود خالل
َ
دقائق" .نظر إلي مالك المطعم بتحديقة مترددة ".لكنك ما زلت غير متمرس في قيادة الدراجة ".أتى
ُ
حاله ".كال ،اليوم َ ً
ليس يومك ،اذهب لترتاح". تايهيونغ قائال أنه جيد بقيادتها .نقر المالك بلسانه حالما رأى
لم أفوت فرصتي وقفزت على الدراجة ".هنالك مرة أولى لكل شيء ،واليوم هو يومي األول بالتوصيل في
ُ الثلج .إنك ُ
تعلم مدى حذري ".استسلم المالك" تعال إلى هنا ،سيتوجب عليك القيام بعدة جوالت ،لذا
احترس".
ُ
ُيمكنني الشعور بنظرات تايهيونغ تتبع تحركاتي بينما دخلت للمطعم .حام حولي بينما كنت أوظب
الطعام في صندوق الدراجة ،مما جعلني استغرب .عادة ما يتصرف تايهيونغ بكبرياء فليس من عادته
ً ُ
التصرف بهذا الشكل .نظرت ناحيته فتقدم نحوي كما لو أن لديه شيء لقوله ،ثم أشاح بنظره بعيدا .استمر
ُ
المالك بإزعاجي حول القيادة في طريق ُمثلج ،وتظاهرت باالستماع بينما أومأت رأسي بحماس .قيادة
الدراجة ال تتطلب أي تركيز ،مهارة ،أو جهد.
ً َ ً
أمرا هينا باألخص مع كل هبة ثلج .لم على عكس ما توقعته ،لم يكن تسلق المنحدر على الدراجة
ُ
يتكدس الثلج عل ى الطريق بعد ،لكن أعصابي قد وصلت حدها بسبب تناثر ندفات الثلج الكثيفة في جميع
االتجاهات .شقت الدراجة المتهاوية طريقها على المنحدر بصعوبة .بدا وكأن الدراجة تحاول التشبث بي.
ً ً
كان الجو باردا لكنني أتصبب عرقا وجميع عضالتي بدأت بالتشنج .في اللحظة التي تليهاَ ،جف عرقي
ذهابا ً ُ
واصلت إقناع نفسي أنني عبرت هذا الطريق ً وشعرت بلسعة هواء في ظهري.
وإيابا للعديد من المرات
طوال موسم الخريف وحتى بداية موسم الشتاء دون أي صعوبة .على أي حال ،لم يتكدس الثلج بعد ولم
ً
يكن الطريق زلقا.
تحركت الدراجة بعجز خالل جولتي الثالثة .لقد ب دأت للتو باكتساب القليل من الثقة والتفكير
بالمناورة في مثل هذا اليوم ُ
جيد ٌُ
المثلج .بما أن تساقط الثلج قد مضى عليه فترة من الوقت ومع بأنني
ً ُ
حركة السير القليلة ،فقد بدأ الثلج يتكدس على الجوانب ،لكن مازال منتصف الطريق جيدا ،ولم يكن
المنحدر شديد االنحدار .بمجرد أن جالت ببالي هذه األفكار حتى خرجت العجالت الخلفية عن اإلطار.
كنت أضغط بإحكام شديد؟ هذا كل ما جال تفكيري. ُ ّ
بدهشة ،أحكمت قبضتي على المكابح بشدة .هل
~~32
ُ ً ُ
تذكرت شيئا قد قاله المالك بشأن المكابح .تحذيرات المالك التي أصغيت إليها بفتور تتدفق برأسي .بدا
ً
وكأن الدراجة تحاول استعادة توازنها حتى خرجت عن السيطرة ُمجددا قبل أن أتنفس الصعداء .فور
ُ
تعثرت ُ ُ ُ
ميت على الطريق بقوة. ُ
بعنف كما لو أن الدراجة قذفتني على التقاطي لنفسي التالي ،كنت قد ر
ُ
األرض بأقصى قوتها .تزحلقت الدراجة على كامل الطريق حتى ارتطمت بشيء ما .وسمعت صوت رطمة
قوية.
ُ ُ
وثبت على قدماي .ال أمتلك الوقت لتفقد إصابتي أو مكان األلم .جريت نحو الدراجة وهي ُملقاة
ُ ْ
بشكل جانبي أسفل الشجرة القابعة على الجانب األيمن من الطريق .كانت قد غمرت بأوراق الشجر
ً ً ً
المتساقطة إزاء االرتطام .رفعتها ألكتشف خدشا عميقا وملحوظا في أسفل هيكلها .أدخلت المفتاح
ُ ُ
وحاولت تشغيلها ،لكن بال جدوى .سال العرق على مؤخرة عنقي .جميع مفاصلي كانت تؤلمني .لقد
ٌ
محال أن أستطيع التعويض عن ثمن الدراجة. تملكني الخوف،
ً ُ
المحرك وأصدر صوت خشخشة لكن جددا ،هذه المرة مع ركل المحرك .دار ُ أدرت المفتاح ُم
ُ ُ
سرعان ما خمد .بغضت حظي ،أطبقت عيناي ،وركلت األرض بكل قوتي .يدي التي تحمل المفاتيح لم
ُ ُ ُ
تتوقف عن االرتعاش ،مالمح والداي وأخي تصدرت تفكيري .نظرت للسماء وتمالكت نفسي .قبضت
ً ُ ُ
جددا. المفتاح ُم
حاولت إدارة ُ وأرخيت راحة يدي مر ًارا وتكر ًارا .بعدها،
المحرك للعمل بعد ُمحاوالت عديدة .عادت الدراجة للحياة بصوت كأزير حيوان وأخيرا ،عاد ُ
ً
ُ ّ ُ ُ
عيني .قفزت نزفت طاقتي .رأيت الخدش العميق الذي بمستوى يحتضر .انهرت على األرض ،لقد است ِ
كه بحافة حذائي الرياضي .إنها دراجة عتيقة وبــها العديد من االنبعاجات والخدوش بالفعل .إن بسرعة لفر ِ
فعلت هذا ،قد ال يظهر الخدش الجديد.
ُ
قمت بالتحقق من حالتي الجسدية. عندما وقفت باستقامة ،وخزتني قدمي من األلم .فقط حينها
ُ ً
صغيرا ينزف فوق عظمة الرسغ اليسرى. ً ُ ُ
جرحا لحسن حظي ،لم يكن هنالك أي إصابات بليغة .وجدت
ً ُ
مررت بهذا األحساس ُمسبقا. أفخاذي وخاصرتي قد يؤلمونني في صباح الغد ،لكنني
ُ
أقط ُر الدراجة وأدخل المطعم .هل الحظ؟ توترت لكنني حاولت التحدث مع لمحني تايهيونغ ِ
ً ُ
بشكل عفوي قدر اإلمكان .وصلت الطلبية التالية ،يجب أن أخرج مجددا قبل أن أستريـ ــح حتى.
ٍ المالك
متوجها للدراجة .هل رأى الخدش؟ أجبت بصوت مرتفعً "أنت "...تحدث تايهيونغ ّ
إلي بينما كنت
بقصد "ماذا؟" بعد القليل من التردد .أكمل تايهيونغ "أريد طلب خدمة" "خدمة؟ أي خدمة؟" حينئذ رن
هاتفي .رفعت يدي إلسكاته واستدرت .إنها والدتي ،حاول أبي الخروج بمفرده وسقط .طلبت مني أخذه
ُ ً ُ
داخليا .صررت على أسناني .شعرت بانزعاجي يعصف ببطء من للمشفى .أغلقت عيناي ،وازداد حنقي
ذهابا ً ً ُ معدتي .ندفة ثلج كبيرة وملحوظة هبطت على وجهي.
المنحدر الزلق ذلك على ا وإياب اجة
ر الد قدت
تقريبا .الجرح القابع أعلى رسغي مؤلم ،وأفخاذي تحترق .لكنني ُأعرضُ
ً وفي هذا الجو من أجل ال شيء
ً
نفسي لقيادة هذه الدراجة ُمجددا .هذه الطريقة الوحيدة لكسب هذا القدر القليل من المال لليوم.
ُ
لست أفهم سبب محاولته المشي بمفرده .كان هذا آخر كبرياء له كمسؤول عن عائلتنا ومحاولته
لحفظ كرامته كأب ،لكن ال ُيمكننا تحمل هذا اإلسراف في أوج فقرنا .كرامة ،كبرياء ،إحساس باإلنصاف،
ُ
لحمل أكبر وإنفاق أكثر .عندما فتحت عيناي ،تايهيونغ كان ُيحدق بي فسلمته واألخالقيات جميعها تقود ِ
المفتاح.
ُ
عندما ترجلت وأبي من الحافلة عائدين من المشفى ،كانت الشمس قد غربت .ندفات الثلج
ّ
الكبيرة استمرت بالنمو حتى شكلت تكدسات من الثلج .تقدمت الحافلة ببطء .الفترة الزمنية المستغرقة
~~33
بالذهاب والعودة من المشفى كانت مسافة مضاعفة ،وذلك لكوني أحمل والدي على ظهري بدون أن
المظلة لنا .شعري رطب ويداي اللتان تحمالنه متخدرتان من البرد. َ
يمسك أحد ِ
ُ أخذت ًُ
نفسا تحت شجرة زيلكوفا المتواجدة قبل الجسر .قبضت أنفاسي ونظرت للسماء .تالقت
ّ
عيناي مع مشهد شامل للقرية بأكملها .بدت القرية في سكون ودعة وهي ُمغطاة بالثلوج .إضاءة صفراء
المختلفة .رائحة األرز واللحم المطبوخة على البخار قد شحذت شهيتي. دافئة تندفع خارج نوافذ المنازل ُ
ُ
بعد تخطي الجسر والمشي عبر الزقاق ،بدأت الكالب بالنباح .على الرغم من عيشنا في هذه القرية لشهور
"عليه
ِ عدة اآلن ،إال أن هذه الكالب تنبح باتجاهي وكأنني شخص غريب .استقامت والدتي فور دخولنا.
تلقي عالجات في العيادات الخارجية لثالث أيام على األقل".
ُ
وضعت أبي في غرفته ثم اتجهت إلى الخارج .لم تكن هناك أي داللة على أن هطول الثلج
ُ
سيتوقف قر ًيبا" .لماذا تكرهونني لهذه الدرجة؟ أخبروني بالسبب على األقل" صرخت على الكالب التي
سمعت عن حادث تايهيونغ في اليوم التالي. ُ ُ
تنبح بشدة.
ُ ّ ُ
عندما وصلت إلى المطعم بجانب الضفة ،رأيت المالك يتحدث إلى ضابط شرطة فتجمدت في
ُ ُ ً ً
غريزيا ،معتقدا أنه أتى ألجلي .كنت قد ألحقت الضرر بالدراجة في اليوم الذي سبق .قد أقع في مكاني
ّ
الكثير من المشاكل للقيادة تحت السن القانونية بدون امتالكي لرخصة قيادة .هل علي الهرب إلى المنزل؟
ً
تأت لساعات .كان الهرب مستحيال عند أخذ حالة والدي باالعتبار. لكن الحافلة لن ِ
"هل سمعت؟" كانت مالكة المطعم المجاور .قالت أن الحادث حصل عندما كان تايهيونغ يقود
ً ً
الدراجة نازال التل بعد قيامه بالتوصيل .بقيت جثته مستلقية هناك ألكثر من ثالث ساعات قبل أن يجدها
شخص بسيارة صادف مرورها من هناك .اتصل أحد ُسكان مدينة منطقة االستجمام بمالك المطعم لكن
ً ٌ
متمر ًسا وباإلضافة لذلك ،قام
ّ لم يخرج أحد للبحث عنه .قال ضابط الشرطة أن تايهيونغ لم يكن سائقا
ً ً ً ُ
بلومه لعدم ارتدائه خوذة .رأيت خوذة لم أرها سابقا موضوعة على منضدة المطعم .استمر المالك بقول
ً ُ ً
صحيحا ،فأنا و أنه لم ُيجبر تايهيونغ على الخروج أبدا وحتى أنه حاول إقناعه للعدول عن ذلك .كان ذلك
ً ّ ُ تايهيونغ ّ
أصرينا بأننا ال نمانع األمر .تدخل كل الجيران لكونها قرية صغيرة يعرف فيها الجميع بعضهم
كانت عن عراك باأليدي ،طعن شخص هناك. البعض .امتلكوا على األقل ذكرى أو اثنتين عن كل
ً سواء َُ
ٍ ْ
عاش مع أمه وأخته ولم يملك أبا. بدأت سلسلة من القصص عنه باالنتشار. الظهر ،أو حتى الخيانة.
ً ّ
تلوت والدة تايهيونغ وانتحبت باكية على المقعد المقابل للمطعم .أعيدوا ولدي ،أعيدوا ولدي
ً ٌ ُ
المسكين...إنه موت ظالم .في البداية حاول ُسكان الحي مواساتها وقاموا بالبكاء معها لكن الجو كان باردا
ّ ُ
مبكرا .في المساء ،تركت والدة تايهيونغ لوحدها وتدفقت رائحة العشاء الذي ُيطهى عبر ً والشمس غربت
ُ ّ
مرة هبت الريـ ــح على األشجار المرصوفة قرب النهر ،سقطت كتل من الثلج لكنها كالمعتاد .وفي كل ٍ ً
النوافذ
بقيت جالسة هناك في منتصف كل ذلك.
ُ ُ
رأيتها تجلس لوحدها عندما كنت أعيد أبي من المشفى إلى المنزل .وبدون إدراكي لألمر ،توقفت
ُ
في مكاني أتذكر موقع الحادث .بعد سماعي بأمر تايهيونغ ،سرت بمحاذاة الطريق بمفردي وكانت األوراق
ً
الرطبة تدور في األرجاء وآثار كلوريد الكالسيوم باقية في مكانها .من الممكن أن أكون أنا الشخص المستلقي
ُ ُ
هناك لو قمت بعملية التوصيل تلك .لو أخذت مكان تايهيونغ ،لكان هذا أثري أنا ولكانت عائلتي تنتحب
عوضا عن عائلة تايهيونغ. ً
على ذلك المقعد
ُ
ثنيت خطواتي بعد أن سعل أبي بقوة" .نامجون" قام والدي بمناداتي عندما أوشكنا على دخول
بصوت ضعيف تمهلي في المشي ،بدأت الكالب بالنباح وأكمل أبي كالمه الزقاق بعد عبور الجسر .إثر ُّ
ٍ
وخافت.
~~34
ُ ُ ً ً
ضائعا وسط النباح الشرس فتظاهرت بعدم سماعه .مضى أسبوع آخر كان صوته بالكاد مسموعا،
ٌ ُ ً
وعادت القرية إلى وضعها الطبيعي .بكت والدة تايهيونغ بحسرة أمام المطعم أحيانا لكن لم يشاركها أحد
ً
في حزنها ،واكتفى الناس بتوبيخ شقيقة تايهيونغ حتى أخذتها بعيدا .قال البعض بأنه مجرد حادث مروري.
ً ُ ُ
بدأت العمل في مطعم آخر وفي الحقيقة ،أصبحت مسؤوال عن شتى أعمال التوصيل في منطقة
ّ
بالتجمد والذوبان .كانت طلبات التوصيل تزداد االستجمام .جاء سقوط ثلج ثقيل آخر واستمر الطريق
ُ
للتو لكن لم يتقدم أحد للعمل .قمت بخدمات التوصيل من خمسة إلى ستة مرات باليوم وزاد راتبي بهذا
ُ
حرصت ً القدر.
دائما على وضع خوذتي وارتداء معدات السالمة ولم أغفل عن الطريق على اإلطالق،
مكر ًسا كل انتباهي له.
ّ
ُ
قمت بآخر عملية توصيل في الليلة الماضية مع أني لم أعلم حينها بأنها ستكون األخيرة ،لكنها
ُ
كانت كذلك .تم إغالق منطقة االستجمام ألشهر الشتاء على كل حال .عندما صعدت إلى هناك ،كان الناس
مجتمعين في المكتب وبدا بأنهم يتناقشون بشأن مبيعات المنشأة .لم أتعرف على بعض الوجوه ،ال بد
مؤخرا .بينما كنت أضع الطعام وأقبض المال ،أخذ أحدهم يتحدث عن ً من أنهم غرباء انتقلوا إلى هنا
ّ ً ٌ
يوم مثلج .حذرني الغريب الذي ذكر بنقر لسانه ذاكرا خطورة قيادة الدراجة في ُ ٍ شخص آخر تايهيونغ وقام
ّ ً ّ
حادث تايهيونغ منبها إياي لتوخي المزيد من الحذر وأنا بدوري شكرته للقلق بشأني مع أني لم أعني ذلك.
ُ فلو َ
سيطلب الطعام في المقام األول" .هل تعرف وسالمتي ،ما كان
ُ قلق بشأن المنحدر المغطى بالثلوج
ّ
أين يكمن الخطر الحقيقي؟" بادر الغريب قبل أن أغلق الباب ورائي" .في كلوريد الكالسيوم واألوراق المبتلة
ً
متمر ًسا ،ستنزلق إذا دهستهما .ألم ينزل الثلج يومها؟ ال بد من سائقا ّ وليس في الثلج بحد ذاته .لو لم تكن
ُ كلماته األخيرة َُ
غير مسموعة إثر انغالق الباب .قطعت طريقي عبر منطقة االستجمام الكئيبة أنه "...باتت
ّ ُ ً ّ ُ
ثم عبرت محل الوجبات الخفيفة الضيق وكشك الخصم المحلي الخاص متجها إلى المخرج .نزلت السلم
درجة تلو األخرى ومع أن َ ً
درجة الحرارة كانت أدنى من الصفر لكنني لم أشعر بهذا القدر من البرد.
ُ ُ ّ
ظل المفتاح ينزلق من أصابعي وبقيت أديره بال نتيجة .أغلقت قبضتي ثم أرخيتها .أصدرت
ُ ً
أخيرا فخرجت من منطقة االستجمام ببطء .كان الدراجة القديمة صوت خرخشة جنوني قبل أن تعمل
ُ
بدائرة واسعة قبل نزولي
ٍ هناك ُمنعطف عند العالمة الخاصة بمنطقة االستجمام فاستدرت إلى اليمين
ُ ً
قصيرا ومستقيم .وصلت إلى ُمنعطف آخر يؤدي إلى اليسار وكانت هذه بقعة انزالقي ووقوع ً قطاعا
تايهيونغ في ورطة كذلك.
ُ ُ ُ ُ
أبقيت عيناي لألمام وعبرت المكان في ُع َجال .حاولت إقناع نفسي بأني لم أزح عيناي عن الطريق
ً
حفاظا على سالمتي ،لكن السبب كان شعوري بالذنب .الذنب لنجاتي لوحدي ،الذنب لشعوري بالراحة
لكوني الشخص الذي بقي على قيد الحياة ،الذنب لعدم قدرتي على االعتراف بالحقيقة ،الذنب لعدم
دفاعي عن مهاراته في القيادة ،والمتناعي عن االعتراف بعدم رؤيتي للخوذة في المطعم على اإلطالق.
ضميرا ُيشعره بالذنب.
ً ّ ُ
منافق يدعي امتالكه ٍ ربما لست سوى
ُ بعثرت األوراق الرطبة في مكان نزول تايهيونغ ومع أني لم ّ ُ ُ
أتعمد فعل ذلك ،ما زلت كنت قد
ُ بنية حسنة لمنع ّ رششت كلوريد الكالسيوم ُّ ً
تكون الجليد على الطريق .في الحقيقة ،فعلت مسؤوال عنه .أنا
ً ُ
متأكدا من قيامي بعملية التوصيل التي تليها باإلضافة للتي بعدها. ذلك من أجلي ألني كنت
"هل تعرف أين يكمن الخطر؟" تكرر في ذهني ما سمعته في منطقة االستجمام "ال بد من أنه
ُ ُ
دهسهما وانزلق" لو كنت قد أزلت األوراق ،لو لم أقم بنثر كلوريد الكالسيوم ،هل كان ليصبح بأمان؟ مأل
العديد من الناس موقف الحافالت بالفعل ،منتظرين أول حافلة لليوم.
~~35
ً ّ
أي كان ،بعد ذلك ظهرت أول حافلة لليوم.
ٍ بتحية ثم أوطأته محاوال عدم النظر إلى أومأت رأسي
ً ُّ ً ْ
أس منحني ،صعدتها مع الركاب اآلخرين .لم أملك خطة محددة ،كنت أتسلل توقفت الحافلة تدريجيا وبر ٍ
ها ًربا وحسب.
يضل طريقه ،وأبي الذي يحارب مرضه .من حظ عائلتنا ُّ من وجه أمي المرهق ،أخي الذي
ُّ
المتدهور ،من توقع عائلتي للتضحية والطاعة من ناحيتي ،من محاولتي لالستسالم لقدري ،واألهم من
ّ ً
شيء بال معنى ،ويجعلك ٍ محوال كل ما هو ثمين إلى كل ذلك ،من الفقر .الفقر الذي يتغذى على قلب الحياة
تستغني ع ّما ال يجوز االستغناء عنه ويملئك بالخوف والشك واليأس .في الليلة الماضية ،غادرت منط قة
ُ ُ َ
قبيل عودتي إلى المنزل .ال أذكر بمن التقيت ،وال ما فكرت وتحدثت بشأنه االستجمام ومررت بالمطعم
بين ذلك.
ً ً
جسدي وعقلي كانا خدرين بالكامل .لم أعرف إن كانت الرياح عاصفة أو الجو باردا ،كيف كانت
ً ُ ّ .
تلقائيا كالزومبي ،جاهال هويتي وأفعالي وأفكاري .أعادني نبا ُح الكالب
ً تحركت الرائحة أو بمن اصطدمت
ّ ّ
إلى رشدي في بداية الزقاق الذي يقود إلى المنزل .حينها تيقظت جلى أحاسيسي التي كانت قد أصيبت
ُّ
بالشلل في آن واحد وانتشرت مشاهد ال تحصى أمام عيناي :أيام التنقل من مكان إلى آخر ،لحظة انزالقي
في الشارع ،زحفي لمالك المطعم ومنافستي الصبيان اآلخرين ألحصل على وظيفة التوصيل .الفتيان الذين
سخروا مني ونظرتي ألقراني في أزيائهم المدرسية وهم ينتظرون الحافلة .انضم إلى تلك المشاهد صوت
ُ ً
مصحوبا بعيونها الخطيرة المليئة بالحقد .كدت أن أصرخ "توقفوا! ما الذي تريدون مني الكالب النابحة
ُ ُ ّ .
فعله؟" لكنني سيطرت على نفسي رن صوت أبي في أذناي ،صوته المهزوم والضعيف ،وفكرت بما أخبرني
ُ
به ليلة عودتنا من المشفى ،ما تظاهرت بعدم سماعه مع أني سمعته كوضوح النهار من بين نباح الكالب،
ُ ُ
ما وجدت نفسي أفكر به مر ًارا وتكر ًارا منذ ذلك الحين ،ما حاولت عدم التفكير به" .اذهب يا نامجون،
تنج ".غادرت الحافلة المتوجهة إلى سونغجو بعد بضع ساعات. ُ
عليك أن
ً
لم أترك رسالة عند مغادرتي سونغجو قبل سنة واآلن ،ها أنا أعود إلى المدينة دون سابق إنذار.
فتساءلت ّ
عما كانوا يفعلونه وإن كانوا موجودين هناك. ُ ُ
أي منهم
اتصال مع ٍٍ فكرت بأصدقائي .لم أبقى على
ُ
لم تسعني الرؤية خارج زجاج النافذة المغطى بالجليد .كتبت ببطء على النافذة بأصبع السبابة" .ال بد أن
ُ
أنج"
ُ
( )١من كتاب Demianللكاتب والشاعر " Hermann Hesseاقتبس بتصرف"
~~36
ما جيب البحث
عنه عند الضياع
~~37
هوسوك
الثاني من مارس العام الثاني والعشرون
كان جونغكوك يظهر من وقت آلخر أمام الباب الزجاجي لمطعم البرغر وكان يبدو بأنه يتورط في
ّ
المشاجرات باستمرار ألن الجروح والكدمات غطت وجهه في أغلب األحيانّ .أما بالنسبة لجيمين ،كانت
ُ ُ
مرة رأيته فيها عندما تم إخراجه من غرفة الطوارئ .خطرت في ذهني ذكريات ذلك اليوم وقامت آخر ٍ
ً ً ُ ٌ ً ّ ُ
بشيء خاطئ؟ هل فوتت شيئا ما؟ دخل زبون آخر إلى المطعم فأخذت نفسا عميقا ٍ بمطاردتي .هل قمت
ً ُ ً ّ ُ
شخصا أعرفه. وحييته بنبرة عالية ،ابتسمت ابتسامة عريضة ونظرت باتجاه الباب .كان
~~38
تايهيونغ
التاسع والعشرون من مارس العام الثاني والعشرون
~~39
يونغي
السابع من ابريل العام الثاني والعشرون
~~40
سوكجين
الحادي عشر من ابريل العام الثاني والعشرون
ً
بصوت حاد ،بالكاد توقفت السيارة في اللحظة المناسبة .لم َأر تغير إشارة المرور ،كنت مشتتا
ٍ
بأفكار أخرى .تأملني الطالب ذوي الزي المدرسي المألوف عبر الزجاج األمامي للسيارة وهم يعبرون الشارع.
ٍ
النكات مع أصدقائهم ،مشى رمقني بعضهم بغضب ،وهم البعض اآلخر بالضحك كما لو كانوا يتبادلون ِ
بقيتهم بعيون مثبتة على كتبهم ،وعبر آخرون وهم يتحدثون بالهاتف ويلقون نظرهم حولهم .لقد شكلوا
ً
مشهدا مسالم.
ُ
حالما بدأت إشارة "أعبر" بالوميض ،مضت السيارات التي فقدت ُسلوها ،وأولئك الذين قفزوا
إلى ممر المشاة في اللحظة األخيرة سارعوا إلى عبوره .كبست على دواسة َ
الوقود.
بلحظة وصلت إلى التقاطع الذي تقع بجانبه محطة َ
للوقود ،وعلى مسافة ما رأيت نامجون يملئ
خزان سيارته .شددت على المقود ،رغم كوني أعلم ما الذي يجب فعله ،لكن لم يعني ذلك أنني لست
خائفا .هل سأكون ًً
قادرا على وضع حد لهذه السلسلة من سوء الحظ واأللم؟ أليس الفشل المستمر يعني
ً
عدم وجود فرصة للنجاح؟ أال يعني ذلك أننا يجب أن نستسلم؟ هل السعادة حقا مجرد أمل زائف بالنسبة
لنا؟ رأسي يعج بهذه األفكار.
بعمق وببطيء ،أخذت أفكر بوجه كل من يونغي وهوسوك وجيمين وتايهيونغ ٍ تنفست
َ ً
وجونغكوك ،واحدا تلو اآلخر ،ثم غيرت مساري وذهبت إلى محطة الوقود .اقترب نامجون وفتحت زجاج
ٌ السيارة ّ
"مر وقت طويل!"
~~41
نامجون
الحادي عشر من أبريل العام الثاني والعشرين
ُ ُ
حالما فرغت من تعبئة السيارة واستدرت ،المس شيء ما وجنتي وسقط على األرض .تراجعت
ُ ُ ُ ً ً
للخلف قليال ألرى بضع أوراق النقدية ُملقاة عند قدمي .وحينما انحنيت والتقطتها ،ذهلت من سخرية
من هم بداخل السيارة .لم أتمكن من رفع رأسي بينما يراقبني سوكجين عن بعد .ماذا عساي أفعل حينما
تلتقي عيناي بأولئك الذين يتجولون بسيارات فاخرة ويسخرون بوقاحة من اآلخرين؟ يجب أن أعترض
طريقهم ،يجب أن أدافع عن نفسي إذا عاملوني بغير إنصاف .إنها ليست مسألة شجاعة أو كبرياء أو
ُ ُ
محض عامل بدوام جزئي .اضطررت لجمع مساواة ،إنه أمر مفروغ منه فحسب ،لكن هذه محطة وقود وأنا
ُ
القمامة التي ألقيت من نوافذ السيارة والوقوف هناك فحسب وتقبلها عندما يلعن الزبون!
ُ
علي التقاط األوراق النقدية حينما قام الزبون بإلقائها على األرض ،لقد ُحييت بتلك الطريقة
تعين ّ
ُّ ُ ُ ً
طيلة حياتي ،كان ذلك ُمهينا لكن حرى بي تحمله .شددت قبضتي فغرست أظافري بداخل لحمي .ثبت
عيناي على األرض حينما التقط شخص آخر الورقة النقدية .تذمر من هم بالسيارة إلفساد مرحهم
ً
بعيدا. وانسحبوا
ً ً ُ
وفقيرا لذا لم أستطع لقد رحلوا لكنني لم أشأ رفع رأسي ،كان سوكجين يعلم بالفعل كم كنت جبانا
النظر إليه .لكنني ال أريده أن يعرف حقيقتي المجردة ،لقد وقف هناك على حافة بصري ،لم يقترب ولم
يباشر الحديث.
~~42
جونغكوك
الحادي عشر من ابريل العام الثاني والعشرون
~~43
يونغي
الحادي عشر من ابريل العام الثاني والعشرون
~~44
سوكجين
الحادي عشر من ابريل العام الثاني والعشرون
ٌ
بدا الضوء المنبعث من نافذة القاطرة الضيقة وكأنه نوع من اإلشارات .إشارة ترشدنا عندما نضيع،
ٌ ُ
إشارة تدل إلى الملجأ الذي نلجئ إليه حين ال يكون لدينا مالذ نلوذ له ،وإشارة تنير لألصدقاء الموجودين
بجانبنا .أوقفت سيارتي على مقربة من السكة الحديدية وراقبت اآلخرين وهم يتجمعون ويتبعون اإلشارة.
أوال ،تاله يونغي وجونغكوك تبعهم تايهيونغ ونامجون .كيف تبدو القاطرة اآلن؟ ّ ً
عما دخل هوسوك
يحن الوقت المناسب بعد. يتحدثون؟ ليس وكأني ال أرغب في مقابلتهم ،لكن هذه البداية فحسب .ولم ِ
مجددا ،وسنضحك ًً ً
معا في منتصف تلك اإلشارة .هذا كل ما سأفعله اليوم فغادرت يوما ما ،سنلتقي
بسيارتي.
~~45
نامجون
الثامن والعشرون من ابريل العام الثاني والعشرون
هز كتفيه وجلس شارد الذهن لفترة طويلة ،ثم بدأ بذرف الدموع واندفع استيقط تايهيونغ فور ِ
ذاكرا أن هذا الحلم يراودهُ
قائال أن يونغي مات وجونغكوك وقع من على السطح ،وأنه تورط في شجارً ، ً
ً
واقعيا كما لو أنه الواقع؛ والواقع يبدو وكأنه حلم" .ال تتركني" تمثل وجه الفتى مر ًارا وتكر ًارا .لقد كان ً
حلما
من القرية الريفية على وجه تايهيونغ .ولم أتمكن من استحضار نفسي ألقول له أنه ال داع للقلق ألنني لم
أذهب إلى أي مكان.
~~46
األشياء املُحنجنحة
~~47
سوكجين
الثاني من مايو العام الثاني والعشرون
متوترا وأصابعي متصلبة .بت أقبض وأرخي قبضتي .ماذا لو فشلت؟ فعلتها مر ًارا وتكر ًارا،
ً كنت
ً
وبكل مرة ،أشعر بالهلع .أخذت أنفاسا بطيئة وعميقة وبت أفكر في يونغي ،على األرجح أنه ثمل اآلن،
مستلقيا على األريكة ويفكر في أسباب عيشه ً ويداه إحداهما تحتضن قداحته واآلخرى هاتفه .قد يكون
من عدم عيشه.
كيف يرى يونغي العالم ونفسه؟ كلما أنقذته يراودني هذا السؤال .لم أفهم كيف يمكنه االستمرار
ً ٌ
يوم مر من حياتي كان مليئافي محاوالت إنهاء حياته .ليس وكأنني سعيد بالعيش بهذا العالم وأن كل ٍ
بالسعادة .في الواقع ،لم يتسنى ألي شيء أن يأسرني ،ال حياتي وال موتي حتى.
ً ً
بالنظر للوراء ،لم أكن مختلفا أيان بدأت كل هذا وللمرة األولى .هل سأتمكن أبدا من تصحيح
ً ً
وحمل هذا السؤال .بالفعل أريد إنقاذنا األخطاء واإلخفاقات إلنقاذنا جميعا؟ لم أفهم حقا مدى عمق ِ
ً ُ
يستحق أن يموت ،أن يختفيُ ،يقمع أو ُيهان .عالوة على ذلك ،لقد كانوا أصدقائي .قد ال ً
جميعا ،ال أحد
نكون خاليين من العيوب والندوب وقد انحرفنا والتوينا ،قد نكون عبارة عن نكرات ،لكننا أحياء .لدينا أيام
ُ
لنعيشها ،خطط لنتبعها ،وأحالم لنحققها.
ُ ُ
مليا في األمرِ ،خلت أن كل شيء يعتمد على مقدار الجهد الذي ُيجدر بي بذله في البداية ،لم أفكر ً
ُ
ومن ماذا .كان ذلك ما ظننته ،ظننت أن بوسعي حل كل ذلك عبر بعد أن اكتشفت من يجب أن أنقذ ِ
كنت بهذه البساطة والسذاجة ،لكنها لم تكن سوى أكثر من محاولة إلنقاذ نفسي. ُ .
إقناعهم وتغيير األمور
ُ
بعد سلسلة من التجارب واألخطاء ،أدركت أن إنقاذ اآلخرين لم يكن بتلك السهولة.
تماماً .
دوما ما يبدل أماكن وأوقات لم يكن من السهل التعامل مع يونغي ،على األرجح كان األصعب ً
صوب مغاير عن اآلخرين ،الحل الذي جنى ثماره فيٍ محاوالته االنتحارية .اضطررت أن أتقرب منه على
ً
المرة الماضية لن يجدي بالمرة المقبلة .واللحظة التي ِخلت بها أنني حللت عقبة ما أخيرا ،قادتني إلى
معضلة أخرى.
في البداية ،لم أستطع استيعاب دوافعه ،وكل ما أستطيع تخمينه أن آالمه متعلقة بصراعاته
ً
الداخلية .وقع نامجون بشجار جراء أولئك الزبائن المتغطرسين في محطة الوقود .لكن يونغي كان مختلفا،
ليس لديه هدف أو دافع معين ،بل كان يملك ً
قدرا ً
جما من التقلبات.
سرا لساعات .كانت خطاه مترنحةحاولت تخيل ما يدور برأس يونغي ،في إحدى المرات ،تعقبته ً
ً
وال يمكن التنبؤ بها .يتعثر بالشوارع ليال ويحاول إلقاء ذاته في النار ،وبعد برهة يجلس القرفصاء على
مقر ما داخل رواق التسوق تحت األرض .في أعقاب ليلة ً
مصغيا لبعض الموسيقى المتدفقة من األرض
ُ ٍ
من تعقبه ،أدركت مدى قحولة ،ملل ،وتفاهة حياتي .لم أك أحسد يونغي ،معاناته التي يتحتم عليه
تح ملها ،تتأرجح ظروفه من سيء إلى اسوأ ،على نحو يفوق مخيلتي ،وكل ما يتسنى لي فعله هو مراقبته
ً
حائرا.
ُ
أدركت أني كلما حاولت حل معضلة ما ،أتت معضلة يائسة أخرى قبيل حل المعضلة السابقة
ً ً ً حتى .ربما لن أكون ً
تقدما ،حينها ،أدركت أن األمل طار بعيدا .ذات قادرا على إنقاذ يونغي أبدا ،ولن أنجز
مرة سمعت أن األمل له أجنحة ،طائر صغير بأجنحة.
~~48
ّ
حلق طائر إلى ورشة عمل يونغي التي كانت في مبنى معزول وسط حي تقرر إعادة تطويره .قرروا
مهجورا عندما توقفت خطة إعادة التطوير .دخل الطائر منً أنهم سيهدمونه منذ فترة طويلة لكنهم تركوه
خالل نافذة مكسورة .كان يونغي يقف في منتصف الورشة ويحمل قداحته في يده ،وتعج رائحة الوقود
ً ً
القوية في الورشة بأكملها .كنت واقفا أمام الباب مباشرة .أوشكت على الدخول عندما سمعت صوتا مدوي
ً
مواجها لي. ورفرفة جناحي الطائر ،كان الباب نصف مفتوح ،لهذا ألقيت نظرة ،كان ظهر يونغي
ً
سقط الطائر على األرض .سعى يرفرف بجناحيه مجددا لكنه فشل في الصعود في الهواء .تصلب
ً
باحثا عن مخرج ،مر ً ً
تطما يونغي محدقا بالطائر ،وال زلت ال أستطيع مشاهدة وجهه .تنقل الطائر في الورشة
ُ
شاهد لألحداث ،ويده ال تزال معلقةبالجدران والكراسي وريشه يتهاوى على األرض .كان يونغي مجرد م ِ
بالهواءً .
أخيرا ،أنزل يده ،وربت على رأسه وغطاه بكلتا يديه.
أتيت إلى الورشة في تلك الليلة ،كانت فسيحة ولكنها مهجورة .أريكة قذرة ،كرسي ،وبيانو هم كل
ً
ما قد تجده بها .سترى أيضا بعض األوراق المهترئة منتشرة في أنحائها ،ال بد أنه سعى الفتعال حريق .بدت
بعضها كأوراق النوتات ،وعليها بعض الجمل والخربشات.
ً
نظرت حولي ،ووجدت ذلك الشيء باألجنحة .كان رابضا خلف البيانو ،بدمه الجاف حول
تعبا حينما اقتربت منه .بضع قطرات من الدماء لطخت األرض ،وأمام البيانو ُو ِضعت جناحيه ،بدا هل ًعا ومر ً
ِ
بعض فتات الخبز وبعض الماء.
أخذت خطوة للوراء .حتى لو سمحت له بالذهاب للخارج من النافذة ،فما زال غير ً
قادرا على
الطيران .كم من الوقت سيستغرق حتى يشفى؟ أسيبقى يونغي بخير مادام الطائر هنا؟ ومن ثم تبادر إلى
ٌ
شيء هش ال عما عزم على فعله لهذا السبب ،ألجل هذا الطائر الضئيل المصاب، ذهني أن يونغي تراجع ّ
يستطيع أن يحمي أو ينقذ ذاته ،كائن ضئيل عهد ذاته إلى يونغي.
جزءا منعقب ذلك اليوم كان لدي إدراك .إذا كانت جميع التقلبات المتعلقة بمحاوالته االنتحارية ً
صراعه الداخليِ ،فل َم ال ألتقط أحدهم على األقل ،سيتحتم علي أن أستهدف الهدف والظرف الصحيحين.
ً ً ً ُ
مبررا ليكف عن محاوالته إلنهاء حياته .فردا يشاركه ندوبه ورغباته ،فردا لم منقلب بوسعه إعطاء يونغي
ٌ ٌ
وقتبنهج مؤلم المعنى التام لهذه الكلمات عقب ٍيك أنا "إنه أمر لن تتمكن من فعله بمفردك" لقد أدركت ٍ
قصير من بدء كل هذا.
ً
أيضا أدركت أن جونغكوك يحمل نفس بريق عيني يونغي في عينيه أيان قول نامجون "ال يزال
ً
جونغكوك محتفظا بتلك الصورة" لقد عنى تلك الصورة التي التقطناها على الشاطئ حينما كنا في
ً ً
المدرسة ،يبدو أن نامجون أراد أن يعلمني أن جونغكوك ال يزال يفكر بي ،لكنني تذكرت مشهدا مختلفا
ً
تماما.
آنذاك ،حينما ذهبن ا للبحث عن الصخرة التي تحقق األحالم ،ضحكنا ،شكينا ولعبنا تحت أشعة
الشمس الحارقة .تحطمت حينما علمت أن الصخرة اختفت ،صرخت بحلمي ،الذي لم أتمكن حتى من
سماعه نحو البحر.
ً
يومها ،شاهدت جونغكوك يسأل يونغي شيئا ما .لم أستطع سماع ما الذي كانا يتحدثان عنه ،إال
َ أنه خالجني إحساس بأنه كان ً ً
أعط األمر أهميةأمرا هاما لجونغكوك .ماذا سأل يونغي؟ ِلم هو بالذات؟ لم ِ
ً ً ُ
حيويا كهوسوك ،وليس ودودا كجيمين ،وغير جدير بالثقة كنامجونِ .ل َم اخترته هو آنذاك .لم يك يونغي
ً
بالذات؟ فجأة أدركت .كان يونغي من أنقذ جونغكوك ،كانا االثنان كالهما يحمالن ذات البريق في عينيهما.
~~49
ً ً
لم يكن شاقا توجيه جونغكوك نحو يونغي .لطالما كان جونغكوك وحيدا في المدرسة والمنزل،
ً ً
ليس لديه مكان ليذهب إليه بعد المدرسة ،لهذا فهو عادة ما يضيع الوقت في مطعم هوسوك أو متجوال
حول قاطرة نامجون .لهذا قمت بإقفال باب قاطرة نام جون وتأكدت من مغادرة هوسوك لمطعمه قبيل
دنو جونغكوك .تجول في المكان لفترة وجيزة ،عقبها توجه ً
أخيرا ناحية ورشة يونغي.
بدا أن لديه مشاعر مختلطة .أيجب أن أدخل؟ ماذا لو فكر أني مزعج؟ الترقب والخوف كانا باديان
على وجهه .منذ ذلك اليوم ،استمر جونغكوك بزيارة ورشة ي ونغي ً
يوميا ،أخبره يونغي أن يغرب بحدة ،لكن ه
يك يعني ذلك بجدية.ُ
لم
ظل ما ،كان لجونغكوك .اختبئت بالمقعد .ما زالوا ال يعلمون أني عدت باستثناء نامجون أهل ٌ
ّ
الذي القيته في محطة الوقود ،قال أن الجميع سيكونون سعداء ،إال أنني رفضت مقابلتهم .ما زلت أنتظر
اللحظة المناسبة ،سأنتظر حتى نجتمع كلنا ً
معا.
ُ
ربما كنا مقيدين بأوتار لمساندة بعضنا البعض .ولم يك من السهل تتبع شبكة األوتار هذه .بدت
وتر ما بشدة،
كمتاهة معقدة ،كلما حاولت حل بعض األوتار والعقد ،قطعت األخرى ،وعندما أحاول سحب ٍ
ينهار كل شيء بلحظة .كان علي ربط العقد و ًترا ً
وترا ،مع مراقبة اآلخرين بكثب حتى يتمكنوا من إنقاذ
بعضهم البعض دون أن يدركوا ذلك.
توقف جونغكوك أمام ورشة يونغي ونظر ألعلى باتجاه الطابق الثاني ولم يبدو عليه السرور .مر
بوقت عصيب أثناء األيام العشرة الفائتة ،أكثر من الشراب وتعذيب ذاته ،وأنا دفعت بجونغكوكٍ يونغي
إلى ذلك العمق من العذاب .ال بد أن معاناة يونغي ثقيلة للغاية على جونغكوك .لمرة ،استسلم جونغكوك
ً
بشأن يونغي .آنذاك ،ألقى بنفسه في النار ،لكن بوحشية ،لم يمت يونغي وجونغكوك لم يغفر لنفسه أبدا
إلخفاقه في ردعه.
شيء ما من نافذة
ٍ مضت عشر دقائق منذ دخول جونغكوك لورشة يونغي ،سمعت صوت تحطم
ً
ممضيا في الطريق المنحدر. الطابق الثاني وظهر يونغي بشفاه مجروحة أمام مدخل المبنى ،متر ً
نحا .سارع
ً
متسمرا بقرب المرآة المحطمة ،ويفكر وجهت نظري باتجاه نافذة الطابق الثاني .البد أن جونغكوك يمكث
ُ
وأنه ميؤوس منه. بأنه ال يستطيع إنقاذ يونغي،
ً
أدرت محرك السيارة عقب خروج جونغكوك راكضا من المبنى .ال بد أن يونغي توجه نحو الفندق
في أخر الشارع .ينبغي علي أن أترك فكرة لجونغكوك حول مكان يونغي .كل ما قدرت عليه ،إسقاط بضع
مناديل ملطخة بالدماء قرب مدخل الفندق.
أثناء جلوسي في السيارة ،شاهدت جونغكوك يصعد ساللم الفندق .تركت صورة أمام المرآة في
ً
جميعا ،الصورة التي التقطناها يوم ذهبنا إلى الشاطئ .أرأى ورشة يونغي في الصباح الباكر ،كانت صورة لنا
جونغكوك الصورة؟ لم أستطع معرفة ما إذ لحق جونغكوك بيونغي ألجل تلك الصورة ،أو إذ ما قرر
جونغكوك منحه فرصة أخرى لرؤية بذرة من األمل ،أو إذ كان لجونغكوك ٌ
دافع آخر.
ً ُ
لم أك متأكدا من مقدرة جونغكوك على إنقاذ يونغي .هذه اللحظة الحاسمة في الحياة ،اللحظة
جميعا ،بما في ذلك جونغكوك ويونغي .ال يمكن ألحد التدخل فيها ،وال يمكن تقاسمها ً األخيرة بالنسبة لنا
ً
إال من قبل أولئك الذين يعانون من نفس الندوب ،ويفهمون مخاوف وأحالم وهزائم بعضهم بعضا ،وهكذا،
يتمكنون من الرؤية من خالل بعضهم البعض حتى النخاع.
عما يتحدثان عنه بهذه اللحظة ،ور ً ً
متسائال ّ
اجيا بيأس أن يعود ذلك نظرت باتجاه نافذة الفندق
ً
مجددا في السماء. الشيء ُ
المجنح للتحليق
~~50
يونغي
الثاني من مايو العام الثاني والعشرون
~~51
جونغكوك
الثاني من مايو العام الثاني والعشرون
~~52
أعلى طابق يف
املدينة
~~53
هوسوك
العاشر من مايو العام الثاني والعشرون
~~54
جيمين
الحادي عشر من مايو العام الثاني والعشرون
ُ ُ
نقلت إلى قسم الجراحة قبل حوالي أسبوعين .في البداية كان من الغريب رؤية الناس يأتون
ُ ّ
بحرية تامة ،ولكن بعد ذلك اكتشفت أنه ُمجرد جزء آخر من المشفى .هناك مرضى وأطباء، ويرحلون
ً ً ُ ُ
ومنحت حقن وعقاقير .وعامة ،كان قسمي يماثل عنبر الطب النفسي تقريبا ،الفرق الوحيد هو أن جناح
ً الجراحة احتوى ً
ممرا طويال مع ردهة في منتصف الطريق.
ً ُ َ
وبالطبع كان هناك فرق آخر ،أال وهو ُسمح لي بالتجول بحرية حول الجناح .لذا تسللت ليال من
كضت في مدخل الطابق األول بأقصى سرعة. ُ ُ ُ ُ
غرفتي وتجولت حولها ،قفزت ورقصت في الردهة كما ر
ً ُ
شيئا ً
غريبا في مسرات بسيطة ُمنعت في جناح الطب النفسي .وذات يوم ،اكتشفت ّ وتلك كانت
نفسي خالل ركضي في الردهة .في نقطة ما جسدي أوقفني بال حراك وبدون سبب بينما كنت أهرول بعد
ُ ّ
وسلم الطوارئ .ال زال أمامي حوالي خمس خطوات أخرى ألبلغ مقصدي ،لكنني توقفت المطبخ الصغير
ُ ُ
وعجزت عن الخطو خطوة أخرى .وفي نهاية الرواق فتح باب إلى العالم الخارجي ،باب إلى خارج المشفى
بأسره.
يحمل عالمة "ممنوع الدخول" كما لم يهرع أحد لردعي ،لكنني لم أستطع التقدم ُ لم يكن الباب
ُ ً ُ
أكثر من ذلك وسرعان ما اكتشفت السبب .كان هذا امتداد للمدخل تماما مثل جناح الطب النفسي .توقفت
ُ
تماما عند تلك النقطة كما لو ُرسم خط على األرض ،حيث انتهت ردهة جناح الطب النفسي. ً
ً ُ
كنت أعاني أحيانا من نوبات صرع. نعتوني بالطفل الصالح داخل جناح الطب النفسي ولكنني
ٌ ُ ّ ُ ً ُ
أبتسم وأستلق بحكمة .كما عرفت حدي األقصى حيث يمكن تغطية رواق مطيعا، ولكن في الغالب كنت
جناح الطب النفسي على بعد ٢1خطوة.
بكيت ًُ ُ
كنت في الثامنة من عمري. ُ
طلبا العودة إلى المنزل مع عندما دلفت إلى المشفى ألول مرة،
ُ ُ
بذعر فتح الباب حتى هرعت ٍ أمي حتى أنني تمسكت بالباب الحديدي بنهاية ذلك المدخل .حاولت
ُ ُ
الممرضات وحفونني .ولفترة من الوقت ،كن يضطربن حالما أ ِلج إلى الردهة .لكن اآلن لم يعد يأبه ألمري
ُ
ووصلت إلى الباب. ُ
أحد حتى لو هرعت للردهة
ُ ٌ ُ
كنت أدري بالفعل أن الباب موصد على أي حال ،ولكنني ظللت أركض إلى الباب وأعود ،لم أعد
ّ ُ
أتوسل أو أنتحب إليهم ليفتحوا لي الباب .لكن العالم يعج بأناس أحمق مني ،حتى أنهم كانوا يتمسكون
بالباب ويــهزونه إلى ما ال نهاية ثم يتم قمعهم بحقنهم وربطهم بفراشهم.
إذا تصرفوا بشكل مناسب أكثر آللت حياتهم لراحة أكثر .هؤالء الحمقى لم يعلموا أكثر من ذلك.
ُ ّ ُ
كنت أسقط ً ُ
دوما إثر حقن المهدئات بواسطة الممرضات كلما حاولت الفرار من قن األمر في البداية،
لم ير ِ
المشفى في أيامي األولى.
ً ُ ً َ وأجهش ً
ُ ُ
مخبرا إياها "لست مريضا ،أنا على ما يرام اآلن ،أرجوك باكيا حتى يبح صوتي أتصل بأمي
ُ
تأت.
تعالي واصطحبيني إلى المنزل" كنت أمكث طوال الليل لعدة أيام لكن أمي لم ِ
ُ
نقلت إلى المشفى بعدما ُعثر ّ
علي فاقد الوعي بدا خل مشتل األزهار العشبية ،لم يطرح عندما
ُ
والدي أي سؤال .بل تجاهال حقيقة غيبي عن الوعي هناك ،وكان األمر ذاته عندما عانيت من نوبات صرع. ّ
~~55
ُ
ينقالني إلى المشفى ثم يسرحانني بعد فترة من الوقت ،ينقالني إلى مدرسة أخرى .لم َيحفال
ً ً
سوى لسمعة األسرة ،االبن المصاب بمرض عقلي غير مقبول .لم أغدو طفال جيدا بين عشية وضحاها،
ً
رويداً ، ً ُ لم يكن ثمة أي حدث درامي أو حادث ال ُي َ
تماما كنمو األظافر. نس .واصلت التخلي عن نفسي رويدا
أصبت بنوبة هلع في موقف الحافالت بعد المدرسة. ُ حينما تعين ّ
علي االنفصال عنهم بعدما
ُ غش ّ ُ
المشهد األخير الذي أذكره قبيل أن ُي َ
علي ،حينما فتحت نافذة حافلة مشتل األزهار العشبية .حالما
ُ ُ
فتحت عيناي ،وجدت نفسي في المشفى وأمي تتحدث على هاتفها عند الزاوية .هدأ عقلي لبعض الوقت،
وصلت إلى هنا. ُ ُ
لم ِأع أين كنت أو كيف
ُ ُ ُ
جلت ببصري واكتشفت نوافذ بأعمدة معدنية حينها استعدت ذاكرتي بأ كملها .السماء الزرقاء التي
رأيتها في طريقي إلى المنزل ،األلعاب السخيفة التي لعبناها في محطة الحافالت ،حافلة مشتل األزهار
العشبية وهي تقترب وتحديقنا من خالل نوافذ الحافلة.
ُ
أغمضت عيناي لكن بعد فوات األوان ،بدت البوابة األمامية للمشتل أمام عيني ،كان يوم الرحلة
لمحت مست ًُ
ودعا المدرسية خالل صفي األول حيث أركض تحت المطر الغزير وحقيبتي على رأسي .حينما
مفتوحا ،رائحة اللزج والعفن ،وصوت تنفسي الثقيل الصاخب الذي يبغى التحرر. ً ودخلته بعدما كان الباب
ً ُ
جلست على سريري وصرخت قائال" :كال ،ال أتذكر ،لقد نسيت" قدمت أمي مهرولة وهي تنادي من
ُ
ولوحت بذر ّ ُ
اعي في كل اتجاه كي أتخلص من تلك الرائحة والملمس والصوت بالخارج .هززت رأسي بعنف
والمشهد ،لكن الذكريات عادت تغمرني.
انهار السد الذي حجزهم خالل السنوات العشر الماضية ،كل تفاصيل ذلك اليوم اندفعت من
ُ ُ
وحقنت مرة خالل ذهني وعيناي وخاليا أظافري كما لو كان األمر يحدث مرة أخرى .أصبت بنوبة هلع
ُ ّ ُ
عيناي وتمنيت أن يكون جل أخرىَ .سرت العقاقير بداخل أوعيتي الدموية ،وسرعان ما غفوت .أغمضت
ً ّ حلما وحالما أستيقظ َ ذلك ً
أنس كل شيء .تلك األمنية ظلت على حالها .وبدال من ذلك ،استمرت حلقة
من النوبات والحقن والنوم الناجم عنها والتي بسببها خالجني شعور السقوط من أعلى جرف.
ٌ ُ ُ
وحل يشبه الدماء .بغض بعدما استيقظت من النوم ،أحسست وكأن جسدي كله مغطى بالوحل،
النظر عن مقدار الجهد الذي بذلته في غسله ،بقيت رائحة المستودع كما هي .نظفته حتى نزفت ،لكنني
لت أشعر بالقذارة.ُ
ال ز
ُ ُ ُ
حينما سألني الطبيب عن ذلك بنبرة قلقة ،ارتجفت واعتذرت في البداية أعربت عن مقدار أسفي
ً مر ًارا وتكر ًارا ،إنها غلطتي بالكامل ،أرجوكم دعوني َ
أنس كل شيء عن ذلك ،ثم حاولت التظاهر وكأن شيئا
لم يكن .لم أكن أعرف ما الذي يتحدث عنه ،لم أتذكر أي شيء.
ً ً ُ
لذا نظرت للطبيب وابتسمت" ال أذكر أي شيء" هل صدقني الطبيب فعال؟ لم أكن واثقا لكن
ً ً ُ
المهم أنني صرت طفال جيدا .كانت حياتي في المشفى هادئة .كان مكاني المثالي ألهدر وقتي ،لم أترقب
~~56
أي شيء ولم أشعر بالقيود أو الخوف أو الوحدة .كان ذلك حتى الليلة الماضية ،قبل أن أجتمع بهوسوك
مرة أخرى.
ُ ُ ُ
نقلت إلى قسم الجراحة ألنني تشاجرت مع األحمق الذي استمر بمحاولة بلوغ باب نهاية الردهة
رغم قيود الممرضات .كالنا أصيب بجروح ونقلنا إلى غرفتين مختلفتين في الطابق الخامس من جناح
الجراحة .وضعوني في غرفة بها ستة أشخاص ،كان فراشي بالمنتصف والمرضى يتغيرون من كال ج ّ
انبي
بشكل متكرر.
ً ُ
كابوسا راوده وجعله يستمر نهضت في منتصف الليل على صوت مريض بجواري ،يبدو كما لو أن
ً ً ُ
منزعجا ومرهقا إثر بالتأوه .صدر صوت التأوه من سرير على يساري ،لذا سحبت الغطاء فوق رأسي .كنت
ُ ُ
الكوابيس لذا لم أكن بحاجة لسماع ذلك .حاولت تحمل ذلك لفترة أطول لكن كابوسه لم يهدأ .نهضت
ُ ُ ُ
وخطوت صوب فراشه ،ربت على كتفيه وحاولت مساعدته "ال بأس ،إنه محض حلم"
ُ ُ
اكتشفت هذا الصباح أن هذا المريض كان هوسوك لذا فتحت الستارة لوجبة الفطور ،وكان
ً ً ُ ً ً
جالسا على الفراش الذي يجاورني .بدا سعيدا لرؤيتي مرة أخرى ،لكن هل كنت سعيدا أيضا؟ ربما هوسوك
ً ٌ
في زاوية واحدة من ذهني .كان يتسكع معي ويــهتم بي ،طفل منقول غريب تماما في المدرسة .كما رافقني
ُ
طيلة الطريق إلى منزلي بعد المدرسة ،ما زلت أذكر األيام التي اعتدنا فيها على السير إلى المنزل والمثلجات
ً
بأيدينا .لكنه أيضا الشخص الذي رأى نوبة هلعي في محطة الحافالت قبل مجيئي إلى هنا باإلضافة إال أنه
من ألحقني بتلك المشفى .ال بد أنه قد صادف أمي ،لذا لم أشأ بشرح وضعي له.
ُ ً ُ
غادرت الغرفة تاركا وجبتي على حالها ،اتضح أن هوسوك يتبعني لكنني كنت أعرف كل ركن من
ُ ُ
أركان هذا المشفى لذا لم يستطع اللحاق بي .تجولت في المشفى طيلة اليوم .وعبر الدرج رأيت اآلخرين،
حتى جونغكوك حينما قدموا لزيارة هوسوك .تهيأ أنهم لم يتغيروا ً
كثيرا!
ُ ُ
بعد ظهر ذلك اليوم ،صعدت أعلى وأسفل الدرج وتسكعت بالطوابق األخرى ثم اتكأت على
ُ ً ُ وأحصيت السيارات ّ ُ
منزعجا ،لقد تخطيت كل وجباتي باإلضافة المارةِ .بت النافذة التي تكمن بنهاية الردهة
أنه لم يكن هناك أي مكان للجلوس واالسترخاء بشكل مريـ ــح .كان من المزعج سماع صوت القهقهات
ُ
صادرة من غرفتي ،اعتراني الغضب ألنني لم أتمكن من فهم سبب غضبي الشديد .لذا عدت إلى سريري
ً ً
في وقت متأخر من الليل" ،أين كنت؟" سألني بعفوية ثم ناولني قطعة خبز .كان الخبز دافئا ولذيذا ،ال بد
ً
جوعا. أنه كذلك بسبب تضوري
ُ ً ُ
لم أستطع االعتراف له ،منذ فترة طويلة كنت محجوزا في جناح الطب النفسي ثم انتقلت لفترة
قريبا ،كما لن أخرج من المشفى في المستقبل القريب .وكما وجيزة إلى قسم الجراحة ولكن سيتم إعادتي ً
َ
خطيرا ،لم أرغب بإضافة الجزء األخير ً شهد ،أنني شخص ُيصاب بنوبات في الشارع ،مريض يمكن أن يكون
لت أن ذلك سيردعه من انتقادي. ُ
لكنني ِخ
ً ّ
تردد لبرهة قصيرة ثم سلب مني خبزي رادفا "جيمين ،ال تبالغ ،أال تعلم أنني مصاب بالنوم
القهري؟ ب وسعي أن أفقد وعيي في أي وقت وأي مكان ،هل أنا خطير كذلك؟" تناول قضمة من خبزي في
ً ُ
حين أنني تجمدت بمكاني ،ال أعرف ما عساي أقول؟ فاستكمل قائال "ماذا؟ أتريد استعادته؟" تناول قضمة
أخرى من الخبز ثم أعاده لي فتناولته على الفور .سألني مرة أخرى "هل النوبات ُمعدية؟ النوم القهري
ليس كذلك فال تقلق" إنه لم يتغير البتة.
~~57
هوسوك
الثاني عشر من مايو العام الثاني والعشرون
~~58
جيمين
الخامس عشر من مايو العام الثاني والعشرون
ً
مضت ثالثة أيام على خروج هوسوك من المشفى .لم أرغب بتوديعه لذا تتبعته خفية .وبينما
ً ُ
كنت على أثرهَ ،
متجها ناحية الباب ثم تجاوز بال اكتراث الخط المرسوم على األرض سار عبر الرواق الطويل
َ
بضع دوما عن السير عنده .وقفت هناك ،كان بوسعي الخطو قرب مخرج الطوارئ ،الخط الذي أتوقف ً
ً
خطوات إضافية لكني توقفت هناك فحسب. ٍ
ً
وصل هوسوك إلى الباب بروية فدفعه بخفة كي ُيفتح مما جعل أشعة الشمس الساطعة تتسلل
يصحبها هواء الخارج الالذع الرائحة والمنعش في اآلن ذاته .المنظر في الجهة األخرى من الباب اجتاح
ُ ً ّ
خارجا بدأ الباب ينغلق ،لو عدوت اآلن لتمكنت من االنزالق قدمي هوسوك األرض كياني ،حينما وطأت
ً ً
حدقت باألرض ألجد بأن الخط الفاصل الذي لم يكن ظاهرا لسواي ما زال موجودا هناك. ُ
خالله لكني
ً ّ ً
فعل ذلك عندما شعرت بأحدهم يمر دافعا كتفي بقوة ما جعلني أفقد استدرت عائدا أو أوشكت على ُ ِ
ُ ً ُ
توازني وأسقط على وجهي ،رفعت رأسي بينما ما زلت ممددا على األرض ألرى بأنني تجاوزت الخط
ً
الفاصل .األحمق كان يعدو صوبي ناشدا الوصول للباب ،واصل شق طريقه عبر اآلخرين دون أن ُيبالي بأي
ً َ
الباب بأقصى ما لديه من قوة تدفقت أشعة الشمس إلى الداخل مجددا .جرى نحو الخارج أحد ،حينما فتح
ّ ً ً
قدمي ،خطوت خطوة مسرعا وممرضة كانت تتبعه لكنه كان أسرع منها .انغلق الباب مجددا فوثبت على
ً
مجددا. ُ
خطوات واسعة لبلوغ الباب لكني عدت أدراجي ٍ واحدة وعبرت الخط الفاصل ،تلزمني ثالثة
ً ُ
شخص غريب مسبقا .أغمضت عيناي وحاولت النوم لكني لم أنفك ٍ شغل سرير هوسوك من ِقبل
عن التفكير بما قاله لي قبل أن يخرج من المشفى ،قال وعلى محياه اعتلت تعابير رأيتها للمرة األولى على
ً
اإلطالق "هيا لنخرج من هنا يا جيمين" ،لم يسبق له أن كان بهذه الحال .وقفت مترددا ومن دون أدنى
فكرة عن كيفية الرد .قبل هذا الموقف وقعت حادثة جعلتني أواصل التفكير بكلماته.
ُ ً ُ
منتظرا المصعد في الطابق الثاني الذي تلقيت فيه العالج الفيزيائي .تعثرت أثناء حينها وقفت
َ ُ ً الشجار مع األحمق ُ
وجرح رسغي ولم يتماثل الشفاء جيدا .جزعت وفقدت رباطة جأشي ألن موعد خروج
ُ هوسوك من المشفى قد اقترب لكن المصعد َ
علق في الطابق التاسع .ظننت بأن أحدهم ُينادي اسمي
ُ ُ َ ُ
يقف قبالة مخرج الطوارئ الواقع في نهاية الرواق، عندما كنت أفكر في استخدام الدرج ،هذا الشخص كان
ولكن بسبب أشعة الشمس المنعكسة خالل النافذة لم أتمكن من تمييز هويته .في اللحظة التي تقدمت
لبرهة قصيرة
ٍ فيها خطوة لألمام هرول فجأة باتجاه مخرج الطوارئ فأصبح جانب وجهه في مرمى بصري
لكني ال زلت لم أستطع معرفة ماهيته .يا ترى من قد يكون؟
ُ ُ ُ
ِسرت ناحية ُسلم الطوارئ ويتملكني شعور بالغرابة ،حينما فتحت مخرج الطوارئ وأقحمت رأسي
شعرت بأحدهم ُّ
نحو غريزي ،لكننا كدنا أن نصطدم
عجلة بجانبي فسحبت رأسي على ٍ ٍ مر على في الداخل،
ببعضنا.
ً نحيبا ً
ً ُ
يائسا ألحدهم وهو ينادي " أمي!" فأقحمت رأسي في مخرج الطوارئ مجددا ورأيته، سمعت
ً
تقف امرأة عند نهاية ُسلم الطوارئ .ما كل هذا؟
هابطا بشكل محموم ،كانت ُ
ٍ إنه هوسوك يقفز على الدرج
ّ قدمي على َب ْسطة ُ
ّ ُ
السلم وفي هذه اللحظة زلت قدم هوسوك فاندفعت بال أدنى تفكير ِ وضعت
ُ ً ُ
وفردت ذراعي لإلمساك به ،ترنح هوسوك وفقد توازنه ألنني أبطأت حركته بغتة وبالكاد تمكنت بدوري
من الحفاظ على توازني.
~~59
َ لم ينبس ببنت شفة إلى أن تسلقنا ُ
السلم عائدين ووصلنا لرواق الطابق الخامس ،واصل صمته ِ
ُ ً
حينما ِسرنا إلى غرفة المشفى ثم توقف فجأة ونظر نحوي قائال "لنخرج من هنا يا جيمين" لم أ ِجبه،
بحزم "سأعود من أجلك" فأجبته "سأعود إلى عنبر الطب النفسي في غضون أيام قليلة" ٍ فأخبرني
ُ ّ
مرت ثالثة أيام ...وفي اليوم التالي حري بي العودة إلى عنبر الطب النفسي ،وضبت أمتعتي
ُ
النعاس. واستلقيت ،بقيت أتقلب ولم يمضي الكثير من الوقت حتى غلبني
صوت سقوط شيء ما ،إن المشفى مكان غريب ومن الصعب أن تنام فيه بسالم. ُ
ِ استيقظت على
أستطيع استشعار كل شيء حولي عندما تكون عيناي مغلقتان وحتى األصوات الضئيلة لها القدرة على أن
متيقظا .الغرفة ُمعتمة والنسيم ًُ ُ
يهب عبر النافذة المفتوحة ،فتمايلت الستائر وسط تيار الهواء تبقيني
ً
المتقد .كل شيء بات مألوفا لي ،السقف ،األرضية ،العتمة والسكون.
ُ
كنت على وشك تشغيل المصباح الليلي عندما ردعتني يد أحدهم ،إنه هوسوك وقد وضع سبابته
ّ ً ُ
مد يده لي ،جميعهم كانوا بانتظاري في الخارج. على فمه فجلست متفاجئا ،قال لي "لقد جئنا جميعنا" وقد
ال زالت تراودني العديد من المخاوف ،فأنا غير مرئي بالنسبة لوالداي وفي الخارج ،لن يتم اعتباري
كمريض ُمذعن .ساورتنيٍ فار من العنبر النفسي لذا فإنه من اآلمن لي أن أبقى في المشفى
أكثر من مجرد ٍ
ُ ً
الشكوك حول قابليتي للتأقلم جيدا هناك ،تمكنت من التفكير بمليون سبب يدفعني لعدم الرحيل.
ُ ً
قميصا ،صرت خارج سريري لم يتردد هوسوك ولو للحظة فقد جذب يدي وجعلني أقف ثم ناولني
ّ ُ ً ً
ممرضات كن جالسات على ٍ هدوءا وسكينة وتواجدت فيه بضعة قبل أن أدرك ذلك حتى .عم الرواق
ً ّ
بأعمالهن لذلك لم يلقين باال لنا .لكني وهوسوك سرنا بهدوء قدر استطاعتنا وبتوتر، مكات ُبه ّن ومشغوالت
ِ
كان المصعد بانتظارنا في الطابق الخامس وعندما فتح الباب ،نامجون وسوكجين كانا يقفان بداخله.
~~60
ُ اجتزت المقصف وبال إدراك منيّ ،ُ
خف إيقاع ركضي وانهمر داخل رأسي خفق قلبي بقوة حينما
ّ ّ ٌ
وابل من األسئلة ،هل سيكون األمر على ما يرام؟ هل أنا متأكد؟ ربما سيكون األمر أصعب هناك ،ربما لن
ّ ً
أجد أي أحد بجواري ،الوضع هنا أكثر أمانا وراحة ،لم يفت األوان بعد ،األفضل لي أن أتوقف هنا ،األفضل
ً
صالحا. لي أن أعترف بحدودي ،األفضل لي أن أكون ً
فتى
ُ ُ
ّ
البوابين انضموا لمطاردة خطي الفاصل على ُبعد خطوات قليلة ،ألقيت نظرة للوراء فرأيت بأن
تماماّ ،ربما ال أملك أية
البقية ،ارتعدت يدي التي كانت ممسكة بالقميص بشدة .يبدو بأنهم كانوا خلفي ً
َ
بضع هيا أركض!" منحني هذا الصوت القوة لمواصلة التقدم فخطوت فرصة" ،ال بأس يا بارك جيمينّ ،
خطوات إضافية.
ُ ُ
تجاوزت الخط ،وقطعت خطوات قليلة باتجاه الباب لكن حدث تغير درامي ،شيء في داخلي
ُ ُ
انطوى وانتبذ كما لو أنني قد قفزت للتو من منحدر شاهق آلخر .بينما رميت رداء المشفى وارتديت
القميص ،خطوت لألمام باتجاه الباب ،الخطوة التالية كانت أسرع والتي تلتها كانت أسرع منها .الجدران
قريبا أثناء خطواتي الواسعة .تبقت خمسةعلى كلى الجانبين ومضت بجانبي بسرعة البرق ،والباب بدا ً
خطوات فقط للوصول من الخط للباب .بالنسبة لشخص آخر فإن مسافة خمس خطوات قصيرة للغاية،
لكني لم أتجرأ الوصول لهذا الحد .هذه هي المرة األولى التي أعبر فيها الخط من تلقاء نفسي ،الباب كان
بمتناول يدي.
ً
مختلفة ً
كليا عن التي أحاطتني .رفضت التفكير فيما حالما أعبر هذا الخط فإن البيئة ستكون
تاليا ،سأصب تركيزي على أخذ خطوة في كل مرة .دفعت الباب بكل ما أوتيت من قوة فتصادمت سيحدث ً
رهقة أو هواء عنيف كما ُ
كل خلية في جسدي مع ذرات الهواء الخارجي ،ال توجد هناك أي أشعة شمس م ِ
ُ
وصوت نبضات قلبي تخفق في جميع األرجاء. ُ كنت ًُ
برغبة عارمة بالبكاء
ٍ دائما أتصور ،شعرت
~~61
جيمين
السادس عشر من مايو العام الثاني والعشرون
ٌ
كان منزل هوسوك فوق تل ،وهو عبارة عن غرفة على سطح مبنى مهدم تسكنه عدة عوائل يقع
ً
ومتعرج ،بعيدا عن الشارع الرئيسي فوق شارع طويل شديد ّ بزقاق ضيق
ٍ طريق مسدود مرو ًرا
ٍ في نهاية
االنحدار .كان ذلك مكان سكنه.
ً
طابق في المدينة ،جاعلة العالم بأسره عند دخولنا الغرفة ،بات هوسوك يتباهى بكونها في أعلى
ُ ً ٍ ُ ّ ً
تحت قدميه .كان محقا .أطلت غرفة السطح على كل شيء .فعندما نظرت لألسفل مباشرة ،رأيت محطة
القطار والقاطرات المصطفة على طريق السكة الحديدية ،نامجون يسكن بإحدى هذه القاطرات .أبعد
ُ من ذلك بقليل تقع المدرسة التي ارتدناها ً
معا .بينما نظرت إلى المدرسة ،امتد نطاق بصري إلى نقطة ٍ
وراء النهر حيث وقع مجمع للشقق السكنية أسفل الجبل.
ُ ُ
هناك منزلي ،ال؛ هناك منزل والداي .كنت قد هربت من المشفى بدون تخطيط مسبق .ال شك
ّ
بشجاعة كافية
ٍ بأن طاقم المشفى اتصلوا بوالداي بالفعل وال بد من أنهم بدأوا البحث عني .لم أتحلى
ً لمقابلتهم ً
وجها لوجه بعد .لم أستطع العودة للمنزل ولم أملك مكانا ألذهب إليه وال أي من المال .أخبرني
هوسوك أن أتبعه وقادني إلى هنا .هكذا انتهى بي المطاف في منزل هوسوك.
َ ّ علي العودة إلى هناك ً مرة أخرىّ . ً ُ
وعلي إخبار والد ي يوما ما نظرت إلى مجمع الشقق السكنية
ً ُ
أخذت ً
نفسا عميقا واقترب هوسوك ليقف بجواري. بأني لن أعود إلى المشفى.
~~62
هوسوك
السادس عشر من مايو العام الثاني والعشرين
ُ ُ
يمكنني التصرف على سجيتي في المنزل .في بعض األحيان ،أصرخ وأغني بأعلى صوتي أمام
وأرقص بجنون .ومن آن آلخر ،أستيقظ بمنتصف الليل ُم ً ُ ُ
نتحبا. النافذة .وفي أحيان أخرى ،أشغل األغاني
ً ً
حين يحدث هذا ،أتصنم محدقا بالسقيفة .لكنني لم أنهر يوما بالنوم القهري في المنزل.
ً
متدليا من جيمين لم يعد لمنزله بعد مغادرته للمشفى .لقد بات في منزلي وهو اآلن ينظر للمدينة
على السطح .البد أنه يسعى لرؤية مدرستنا أو مطعم برغر تو ستار أو األنوار المومضة على امتداد سكة
ُ
فجميعنا نبحث عن منازلنا حالما نتسلق قمة عالية الحديدً ،
تماما مثلي .وهذا أمر غريزي في طبيعتنا.
أوحين ننظر لخريطة كبيرة.
تبادر لي سؤاله عن سبب عدم عودته لمنزله ،لكنني تغافلت عن الموضوع .البد أنه بفوضى عارمة
اآلن ،وال أريد أن ُأفاقم األمر عليه .باإلضافة إلى أنني أستطيع تخمين اإلجابة ً
بناء على ردة فعل والدة
ُ جيمين في غرفة الطوارئ بذلك اليوم .في الواقعً ،
نادرا ما ألح بسؤال أصدقائي .أشعر وكأنني أعرف
ُ
اإلجابات عليها بالفعل .كما أنني لم أرد إشعارهم بالحرج أو ربما قد يجدون أسئلتي فضولية ومزعجة.
يحاً ،
دائما ما يجول في بالي عن مكان وجهتهم كلما ساروا بجانب متجري ،لكن لم أجرؤ ألكون صر ً
بوجه ممتلئ بالكدمات؟ هل كانت ورشة يونغي بهذا االتجاه؟ لماذا ٍ على ذلك .إلى أين يتجه جونغكوك
ّ
ترك نامجون المدرسة؟ من أين تعلم تايهيونغ الرسم على الجدران في المقام األول؟ بعد التفكير باألمر،
ال أعلم الكثير عنهم.
ُ
"أجد ماذا؟" بدت عليه الحيرة" .منزلك" أومأ جيمين. "هل وجدته؟" اقتربت من جيمين وسألته.
ُ
"ترعرعت في ذلك الميتم ".أشرت بيدي لموقع يقع خلف السكة الحديدية" .أترى المتجر الذي يقع
عمل نامجون؟ أترى الالفتة المتوهجة ذات الشكل الرباعي خلفها؟ َ باتجاه النهر من محطة الوقود حيث
ُ
الميتم يقع على يمين هذه الالفتة المتوهجة .أقمت هناك ألكثر من عشر سنوات " .بدى وكأن عينا جيمين
تتساءل حول سبب بوحي له بكل هذا .أصدقائي علموا بالفعل أنني ترعرعت في ميتم .اعتبرته منزلي ،ولم
ٌ ُ ً
منزل بال أم. أجبر نفسي على التفكير بهذا من أجل راحة البال ،بل اعتقدت حقا أنه منزلي،
ُ ُ
"لدي اعتراف أقر به ".أمر قد كذبت بشأنه" .النوم القهري خاصتي مزيف ".ربما هذا سبب عدم
سؤالي لآلخرين حول أي شيء .لم يكن السبب في عدم رغبتي بإيذائهم ،بل ألنني كذبت .ألنني ال أملك
ّ ً الشجاعة الكافية ألكون صر ً
علي أيضا االعتراف أن ليس لدي شخص يحا .بمجرد اعترافي باألمر ،سيتوجب
أدعوه ب "أمي" ،ليس في الميتم فحسب ولكن في العالم أجمع .ربما يعود سبب عدم سؤالي عن مشاكل
أي منهم لذلك.
ً جيمين َ
ليس جيدا بإخفاء مشاعره .فنظرته المندهشة ال يصعب تفسيرها .ال أعرف كيف أعتذر
َ
باكيا حين ش ِه َد األمر ألول مرة.
ناضل جيمين من أجلي بأوقات ال يحصى لها .والبد أنه انفجر ً َ إليه .فقد
َ
"لم أتعمد فعل هذا .البد أنني تجاهلت فكرة أن هنالك فرصة تسمح لي بأن أغدو بخير بها .أعلم أن هذا
ليس منطقي .وال ُيمكنني وصفه بوضوح".
ً
ً
ستمعا لبعض الوقت ،أدار وجهه ناحيتي "إذا ،هل أنت بخير اآلن؟" سأل جيمين بعد أن كان ُم
ُ
سألت نفسي .مازال جيمين ينظر ناحيتي .لم ينظر بانتقاد أو شفقة. وسألني هذا .هل أنا بخير اآلن؟
~~63
ُ
وجهت نظري ناحية المدينة المضيئة في األسفل" .في الواقع ،ال أعلم .سنكتشف هذا بمرور الوقت .إنني
أتطلع لذلك ،وأنت؟" قهقه جيمين ،وضحكت بدوري.
~~64
جيمين
التاسع عشر من مايو العام الثاني والعشرون
حري بي العودة إلى مشتل األزهار العشبية واالنفكاك عن الكذب حيال عدم تذكري لما رأيته
هناك .حان الوقت للتوقف عن االختباء في المشفى ووضع حد لنوباتي .ولكي أفعل هذا ،توجب عل ّي
وإيابا ثم أخفق في ركوب الحافلة.ذهابا ً
كنت أذهب إلى محطة الحافالت ً ُ
العودة إلى هناك .وأليام عدة،
ُ
وبعد أن شاهدت الحافلة الثالثة وهي تغادر اليوم ،ظهر يونغي على حين غرة وجلس بجواري،
ُ ُ اعما أنه جاء لعدم انشغاله وشعوره الملل .ثم سألني ّ
ز ً
عما أفعله هنا ،ظللت مطأطئ الرأس وركلت األرض
ُ ّ ُ
أدع أنني على ما يرام وأنني أدرى
بالشجاعة ،أردت أن ِ بمقدمة حذائي .بت أجلس هناك ألنني لم أكن أتحلى
ُ ً ُ ّ
بما يكفي ألتغلب على هذا بسهولة .لكني كنت خائفا ،خشيت من عدم معرفة ما أنا على وشك مواجهته،
ُ
كنت سأصاب بنوبة أخرى. وما إن كان بوسعي تحمله وما إن
ً
مسترخيا ،ثم مال للوراء وغمغم بشيء بدا وكأنه يقول "الطقس لطيف للغاية" بطريقة بدا يونغي
ُ ً
مبتهجة .كان الطقس لطيفا بحق ،لكنني توترت لدرجة عدم تحمل النظر حولي ناهيك عن االستمتاع
بالطقس .باتت السماء زرقاء والنسيم لطيف في بعض األحيان ،وظهرت الحافلة مقتربة من على بعد.
ّ ُ ُ
توقفت الحافلة وفتح الباب ،فسألت يونغي خالل نظرات السائق "هال ترافقني؟"
~~65
هوسوك
العشرون من مايو العام الثاني والعشرين
ِسرنا في الشمس ،لكن هبت نسمة رياح باردة بدت وكأنها ِتك ُز قلبي .ال ُيمكنني تخيل مدى شعوره
يشعر بوخزة في القلب .البد أن فؤاده يتمزق ويتحطم من الداخل .باألحرى ،هل تبقى لديه ُ إذا كنت من
ُ ُ
أي فؤاد؟ ما مقدار المعاناة التي قاساها؟ لم أتمكن من النظر في عينيه ،لهذا وجهت بصري لألعلى .حلقت
طائرة في هذه السماء القاتمة .رأيت الندبة الموجودة على ظهر تايهيونغ ألول مرة في قاطرة نامجون .لم
أمتلك الجرأة الكافية لسؤاله عنها في حين أن االبتسامة تعتلي وجهه ً
فرحا بقميصه الجديد.
ليس لدي والدان .ال أمتلك أي ذكريات عن أبي ،وذكرى أمي توقفت في عمر السابعة .على
ندوبا وجر ً
احا غير ملتئمة أكثر من أي شخص آخر. ً األرجح ،منحتني عائلتي وطفولتي
ِ
ً
دائما ما يقول اآلخرون ببساطة أن علينا التغلب على ِجراحنا ،تقبلهم واإلقرار بهم كجزء من هويتنا.
وأن علينا مصالحة ومسامحة اآلخرين لالستمرار في العيش .ليس األمر هو عدم إدراكي لذلك ،وليس ألنني
المحاولة .وقد َو َسمنا العالم
المحاولة ليست كفيلة بالنجاح .لم ُيعلمني أحد كيفية ُ المحاولةَ ،
لكن ُ لم ُأرد ُ
بندوب جديدة حتى قبل أن تلتئم سابقتها .ال ُيمكن ألحد تجنب التعرض لألذى ،إنني ُمدرك لهذا .لكن،
هل علينا التأذي بهذا القدر؟ من أجل ماذا؟ لماذا تستمر هذه األشياء بالحدوث لنا؟
ُ
"إنني بخير ،أستطيع الذهاب بنفسي" تحدث تايهيونغ عند مفترق الطرق" .أعلم ".قدت الطريق.
ُ ً
"إنني بخير حقا ،أترى ،إنني بخير ".تبسم تايهيونغ .لم أجبه .إنه ليس بخير على اإلطالق .لكن حين يعترف
باألمر ،لن يتمكن من تحمل ذلك .لهذا السبب يقوم بتجاهل الحقيقة حتى أصبحت عادته .اتبعني
ً ُ ً ً َ
جائعا حقا؟" سألته ُمجددا حالما وصلنا مدخل الرواق تايهيونغ ،ورفع قبعة القميص على رأسه" .ألست
ً
الذي يقود لمنزله .ابتسم بابتسامته الحمقاء وهز رأسه .وقفت قليال لمشاهدته يدخل ناحية منزله ،ثم
ضيق وكئيبً ،
تماما مثل دربي .كالنا نشعر بالوحدة. يسيره ّ
ُ ُ
التفت ً
أخيرا .الدرب الذي كان
~~66
سوكجين
عشرين من مايو العام الثاني والعشرون
اتصلت بهوسوك في الوقت الذي شرع به تايهيونغ بفتح الباب .بعد الرنة الثالثة ،أخرج هوسوك
هاتفه في منتصف الردهة ،حينها كان تايهيونغ يدخل منزله" .هوسوك أيمكنك استدعاء تايهيونغ؟"
ُ ً
جميعا وأن عليه أن يدع استوقفه ذلك عن السير" .لقد كنت معه ًتوا" أعلمته أني أخطط لرحلة بحرية لنا
ً ً
تحسبا فحسب ،أيمكنك سؤاله تايهيونغ ،استهل هوسوك ضاحكا تايهيونغ سيأتي بال شك" .ولكن
ُ
عجل قلت .في هذه اللحظة .يجب على هوسوك الذهاب لمنزل تايهيونغ .أمال رأسه، ٍ وإعالمي؟" على
ونظر نحو شاشة هاتفه واستدار .ثم ،دخل إلى منزل تايهيونغ عبر الباب المفتوح.
~~67
تايهيونغ
العشرون من مايو العام الثاني والعشرون
ُ ُ
نظرت إلى راحة يدي التي كانت تنزف ،وفي اللحظة ذاتها التي خذلتني فيها ساقاي وكدت أنهار،
أمسك بي أحدهم من الخلف .دخل ضوء الشمس عبر النافذة المعتمة .بكت شقيقتي ووقف هوسوك
ً
وأشياء مختلفة ،باإلضافة لألغطية .أبي قد ّ ً ُ
فر األرض مغطاة بصحون متسخة، في مكانه بصمت .كانت
ُ ّ َ
من الغرفة بالفعل قبل أن أدرك األمر .الغضب والحزن اللذان تجمعا عندما رميت بنفسي تجاه والدي ما
ُ
زاال حديثين في ذهني .لم أعرف ما ردعني عن طعنه ولم أعرف كيف أخمد النيران الهائجة في داخلي.
ُ ً ً ُ
ميتا في مكاني حينها. أردت قتل نفسي بدال من والدي .فلو أمكنني ذلك ،لسقطت
ُ
عال ،وأن أركل وأدمر كل شيء ثم أنهار .لكن ٍ بصوت
ٍ لم أستطع ذرف الدموع ،أردت البكاء ،البكاء
ً ً ً
خارجا عن إرادتي" .آسف يا هوسوك ،أنا بخير .يمكنك الذهاب" بدا صوتي ذابال وهادئا كل ذلك كان
ً ُ ً ُ
عكس عقلي الثائر .أرسلت هوسوك إلى منزله رغما عنه ونظرت إلى راحة يدي .كان الدم مستمرا بالخروج
في قطرات.
ُ ً
بدال من طعن والدي ،كنت قد حطمت الزجاجة على األرض .تحطمت الزجاجة إلى أشالء
ّ ّ
وتجمد دماغي .ما الذي سأفعله وجرحت كفي .بدأ العالم بالدوران وااللتفاف أمام عيناي عند إغالقي لهما
ُ ُ
اآلن؟ كيف سأعيش؟ بعد أن استعدت وعيي ،وجدت نفسي أنظر إلى رقم نامجون .حتى في هذا الوضع،
ُ
وربما بسبب هذا الوضع بالذات ،اشتقت له لدرجة اليأس .أردت االعتراف له بأني أوشكت على قتل والدي
ُ
ات ال تحصى في ذهني .أريد أن أقتله .أريد أن يوم ،قتلته لمر ٍ الذي جلبني لهذا العالم وقام بضربي كل
ُ
أموت .ال أعرف ما سأفعله ،أنا ضائع وكل ما أريده هو رؤيتك اآلن.
~~68
أمجل يوم يف
حياتنا
~~69
جونغكوك
الثاني والعشرون من مايو العام الثاني والعشرون
هز أحدهم كتفي إليقاظي .حالما فتحت عيناي ،كان منظر البحر يغطي نافذة السيارة .أحسست
بالبرد بسبب هبات نسيم البحر ،ربما لكوني نصف مستيقظ .لففت نفسي بكلتا ذراعي وخرجت من
السيارة ،واآلخرون بعيدون بالفعل حيث تتالطم األمواج على الشاطئ .لوحوا لي وورائهم البحر والشمس
تعلوهم ،بدا لي المرأى وكأنه لوحة.
هبت الرياح وملئت هذه اللوحة بالرمال المهتاجة ً
تماما كرفعي ليدي للتلوي ــح لهم ،ارتفع الغبار
الرملي من األرض ودار حول اآلخرين بذات اللحظة ،أخفوا وجوههم لحماية أنفسهم من الرياح الرملية
المثل .أغلقت عيناي بإحكام ،خبأت رأسي وأحطته بذراعي .بقينا واقفين بهذه األجواء وسط وفعلت ِ
لوقت طويل.
ٍ هفيف الرياح وهدير األمواج
سوءا ".وعيت على حاولت فتح عيناي إال أنها ُلدغت بفعل الرمال" .ال تفركها ،ستجعلها أكثر ً
صوت هوسوك .بقي البحر ،السماء ،واآلخرون يختفون ويظهرون بسبب دموعي المتدفقة من عيناي.
عقبما رمشت مر ًارا ،انهمرت الدموع واضمحلت اللدغة .رأيتهم يضحكون في وجهي ،واقفين في منتصف
الشاطئ الخاوي المسيل للدموع.
ً ُ
يك ً
جليا من بدأ الركض أوال .بدأت كلعبة سخيفة حين تظاهرت بمالحقة من هموا بالتهكم لم
ُ ً
علي ،ثم اندفع هوسوك هاربا وكأنه يفر مني ،وعلى إثرها انضم لنا البقية .ركضنا وفررنا من بعضنا ونحن
نضحك بسعادة ،وفي مرحلة ما ،كنا جميعنا نجري على امتداد الساحل .جريت وراء اآلخرين .كنت أتنفس
بعسر ،والعرق والصداع الرهيب نالوا مني ما نالوا .ولكني لم أتوقف ألنهم استمروا.
ٍ
مجددا ،ساعدنا جيمين على الهرب من المشفى وعدنا إلى الشاطئ ذاته. ً ً
جميعا ها نحن نجتمع
ٌ يك األمر ً ُ
مدبرا له ،كل ما فعلته هو مرافقتهم ،لكنه شعور مبهج .ربما الركض بال هدف السبيل الوحيد لم
ُ
بالنسبة لي للتعامل مع هذا الشعور المهيب .وقد فعلت ال ِمثل أيان تخطينا المدرسة والمجيء إلى هنا
للمرة األولى.
ُ أيضا" َ ً
نطق نامجون عقب توقفنا على الشاطئ اللتقاط أنفاسنا. "صحيح ،جميعنا كنا هكذا آنذاك
حارا حينها ،متى كان ذلك؟" ذكر جيمين" .في الثاني عشر من شهر يونيو" فاجأتهم "أخال أن الجو كان ً
الصورة التي التقطناها على الشاطئ ،كانت تحمل هذا ُ بذاكرتي القوية .استرجعتني ذكرياتي إلى تلك
ً
التاري ــخ .في بعض األحيان كنت أخرجها وأتأملها ،لم أنبأ أحدا من قبل ،لكن حينذاك خالجني إحساس أني
وجدت عائلتي الحقيقة ،إخوتي الحقيقين.
ً
"يارفاق" ،حاولت التعبير عن امتناني لكن لم تسعفني الكلمات" .ماذا؟" هرع إلي اآلخرون واحدا
علي .تدحرجنا حول الشاطئُ ،متشابكين ،نلهو كاألطفال.
تلو اآلخر ثم ألقوا بأنفسهم ّ
منزويا في بقعة من الشاطئ الرمليً ِ"ل َم أنت هنا لوحدك؟" جلست بجوار تايهيونغ الذي كان
ً ً ً
بعيدا عن اآلخرين .نظر إلي بإيجاز وبدال من ذلك سألني سؤاال "هل كان هناك في المرة الماضية؟"؛ كان
يتحدث عن المرصد البحري "لو كان هناك ،لكان من المحتمل أننا صعدناه .لكنني ال أتذكر رؤيته" أومأ
ً
برأسه موافقا وواصل التحديق فيه.
~~70
"لنذهب" حطت يد أحدهم على كتفي .كان سوكجين ،بدا لي وجهه غير مرئي لوقوفه أمام الضوء.
على األرجح ألني أنظر له بوضعية الجلوس ،يبدو طويل القامة .نهضت ونفضت الرمال .انغمرت قدماي
في الرمال العميقة ،انسلت نحو ظل سوكجين وشرعت السير ،هممت أركل الرمال بحذائي الرياضي وقد
تناثرت على بنطال سوكجين ،لكنه لم يستدر.
~~71
تايهيونغ
الثاني والعشرون من مايو العام الثاني والعشرون
َ ُ
سبق وأن رأيت هذا كافة ،في حلم أشبه بالواقع .هذا البحر ،سبعتنا ،والمرصد المرتفع .في أواخر
الحلم وقفت على قمة المرصد ،وقام الجميع بتوجيه نظرهم ناحيتي .منذ أنهم بعيدون ،عجزت على رؤية
ُ
تبسمت ناحيتهم .بدا وكأنني أرسل لهم وداعي األخير ،ثم قفزت. مالمحهم بوضوح ،ومع ذلك
"سوكجين؟" دوى صوت جونغكوك بأذناي مما دفعني لاللتفات ليقع ناظري على جين يتسلق
َ
وصل للقمة ،وعلى ما يبدو أنه ْيبتغي تصويرنا .لوح اآلخرون له ،إال
َ المرصد .صوب نظره ناحيتنا بعد أن
ً ُ
أنني لم أقوي على ذلك .وكأنه أخر مشهد لحلمي .االختالف الوحيد هو أن سوكجين كان في األعلى عوضا
عني.
ُ
في تلك اللحظة ،شعرت وكأن قدماي غرزتا في الرمال وجسدي يطفو في الهواء .أحكمت إغالق
الجرحالجرح على راحة يدي بدأ يؤلمني .بدا ُ عيناي خشية السقوط على األرض .لم ُأغلق قبضتي ،لكن ُ
ُ ُ ً ً ً ُ ً
عميقا لكنه التأم أسرع مما توقعت ،تاركا ندبة حمراء آلمتني بشدة أحيانا وكأنني أعاقب ،أعاقب على كافة
آثامي .إنها تؤلمني اآلن.
~~72
نامجون
الثاني والعشرون من مايو العام الثاني والعشرون
~~73
سوكجين
الثاني والعشرون من مايو العام الثاني والعشرون
~~74
تايهيونغ
الثاني والعشرون من مايو العام الثاني والعشرون
~~75
جيمين
الثاني والعشرون من مايو العام الثاني والعشرون
ُ
التفت للوراء ً ً
ناظرا خلف باب مسكننا ،كانت المائدة "يجب أن نذهب أيضا" هذا ما قاله هوسوك
ُ
والمقاعد واألواني مبعثرة بكل مكان" .جيمين ،هيا" أغلقت الباب على عجل وهم أمامي ،تولى يونغ ي
َ ّ
قدمنا ألول مرة ،واآلن لم يتبق سوى وهوسوك القيادة وخلفهما جونغكوك يالحقهما .كنا سبعة عندما ِ
ضوءا على الشاطئ بعد غروب الشمس. ً ُ
أربعة .نظرت ألعلى حينما عرجنا على المرصد الفلكي لكن لم أجد
ثم تالشى المرصد والبحر عن مرأي ،ولم يكن هناك سوى صوت هدير ارتطام األمواج ،حينها
كت أن هذا هو المكان؛ المكان الذي زرناه حينما جئنا ألول مرة إلى البحر ًُ
معا ،الصخرة التي ِقيل أنها أدر
تحقق األحالم .صرخنا بأعلى صوتنا في البقعة ذاتها التي تحولت إلى منتجع جديد بعد هدم الصخرة.
ُ
"جونغكوك ،أليس هذا هو المكان المنشود؟" التفت للوراء لكن جونغكوك مضى بالفعل لألمام ،فدعاه
دوما ،يتقدممتقدما ليسلك دربه بعدما كان خلف اآلخرين ً
ً هوسوك لكن بدا وكأنه لم يسمع .سار جونغكوك
ُ كنت مثله ًُ .
تماما .حينها بحثت في كل اتجاه عند التقاطع ،باإلضافة ألنني لتقدمهم ويتوقف لتوقفهم
ّ ً ُ
يسارا ألبلغ محطة القطار أو إلى اليمين ألستقل حافلة للمنزل .توجب علي العودة اضطررت إما للدوران
ّ
لوالدي. يوما ما ،لن أستطع تجنب هذا لألبد .حري بي االعتراف بأكاذيبي إلى المنزل ً
ُ
حتى إن لم يكونا على استعداد لسماعها تحتم علي المبادرة بالخطوة األولى في مرحلة ما .رأيت
ُ التفت هوسوك لي وقال" جيمينّ ، َ يونغي يخطو صوب يسار الطريق.
عجل" أردفت "سأعود إلى المنزل"
ً ُ ُ
أومأت ثم التفت يمينا. فسألني بحيرة "المنزل؟"
~~76
جونغكوك
الثاني والعشرون من مايو العام الثاني والعشرون
ُ
وجدت نفسي مستل ً ُ
قيا على شعرت وكأن درجة حرارتي ترتفع إثر الهواء لكن في اللحظة التالية
ً ً
األرض الصلبة .لم أستطع الشعور بأي شيء لبعض الوقت ،كان جسدي ثقيال جدا لدرجة أنني لم أتمكن
ُ
فاقد للوعي ،ارتفعت حرارة جسدي حتى أصبحت من فتح جفني أو االبتالع أو التنفس .وعندما بت شبه ٍ
المعا لفت انتباهي ،شيء يشعرك فلمحت ش ًيئا ً
ُ
أرتجف بشدة .اجتاحني الظمأ جراء ألم لم يسعني وصفه،
بالجفاف وكأنه مملوء بالرمال.
ً ً ً
مشرقاً ، ً ٌ ُ
وضبابيا معلقا في الهواء كبيرا ضوء ،لكنه لم يكن كذلك .كان شيئا في البداية ،خلت أنه
ُ
بال ِحراك .واصلت التحديق فيه لبعض الوقت ثم بات يتبلور .كان هذا هو القمر ،بدا العالم من حولي ر ًأسا
ً ً
منقلبا أيضا؟ على عقب ،ال بد أن رأسي مائل .أفي هذا العالم يكون القمر
ً ُ
تسللت نوبة باردة جسدي فحاولت التنفس عبر السعال لكن لم أستطع التحرك .غدا ذلك مخيفا
ُ
فحاولت فتح شفتاي لكنني لم أستطع التفوه بكلمة .ظلت رؤيتي تتالشى على الرغم من عينيي
ُ
بت شبه فاقد للوعي "ستغدو الحياة أكثر ً ً المفتوحتين ،وطرح أحدهم ّ
ألما من الموت، ٍ علي سؤاال حينما
ُ َ
ترغب بالعيش؟" فأما زلت
~~77
بعد عودتنا من
الشاطئ
~~78
سوكجين
الثالث عشر من يونيو العام الثاني والعشرون
~~79
جونغكوك
الثالث عشر من مايو العام الثاني والعشرون
~~80
هوسوك
الثالث عشر من يونيو العام الثاني والعشرون
خرجت من الغرفة حين شعرت بانذراف دموعي .سماع جونغكوك يقول أنه بخير أوجع قلبي.
ً ً
عقب ظهيرة ذلك اليوم .كان المطعم ممتلئا بالعابرين بجواره كنت سمعت توا بشأن حادث جونغكوك ِ
بعض منهم زاملوا جونغكوك في الدراسة" .لماذا ال يأتي جونغكوك هذه ٌ ليتخذوا مأوى لهم من المطر.
الفترة؟" لم أسأل هذا لهدف معين .فقد فقدت التواصل مع اآلخرين بعد عودتنا من الشاطئ ،ومن ضمنهم
جونغكوك .عندها ،فاجأتني إجابة لم أتوقعها" .آوه ،لقد تعرض لحادث ،لهذا كان يتغيب" ".حادث؟ هل
ً
تقريبا؟" تأذى بشدة؟" "ال نعلم .لم يحضر للمدرسة منذ حوالي...عشرون ً
يوما
ً ُ
مباشرة لكنه لم ُيجب .أردت معاودة االتصال لكن قررت فتح محادثة مجموعتنا عوضا ٍ اتصلت به
ً
عن ذلك .ال يوجد رسائل جديدة منذ حوالي عشرون يوما .أخر رسالة عندما كنا على الشاطئ .هل كانت
كذلك؟ تلك الليلة حيث افترقنا ُ
وعدنا لمنازلنا .هل كانت تلك الليلة؟
َ
تركت رسالة أن جونغكوك تضرر بشدة .ومهما كان األمر الذي يشغ ُل اآلخرين ،فإنه مثير للسخرية
عدم معرفتهم ما حصل له خالل العشرين ً
يوما .األرقام المجاورة لرسالتي لم تتزحزح ،ما يعني أن ال أحد
ُ ً فتح المحادثة ليقرأ رسالتي .هل أيامنا ً
معا لم تعني شيئا؟ هل "نحن" أصدقاء ال يعتمد عليهم؟ غضبت
ً ً
من نفسي .غاضب لعدم تواصلي معه سلفا .غاضب لجعله يعود للمنزل وحيدا .جونغكوك ليس بطفل،
لكنه أصغرنا .إنه مجرد طالب بالمدرسة.
وإيابا في الرواق ثم توقفت أمام غرفته .من خالل شق الباب ،أمكنني رؤية وجه ذهابا ً
ً تجولت
جونغكوك .من الواضح أنه ليس بخير .بدى شاحب كلون الورق .فجأة ،صورة جونغكوك وهو يدخل من
باب مخبأنا الفارغ تسللت عبر مخيلتي .إنه مجرد طالب في سنته الثالثة بالمتوسطة .وجهه البريء تظهر
ْ ً
عليه مالمح الفقدان ،كما لو أنه أدرك أن شيئا حلت نهايته .هل وجودنا ُيذكره بهذا الفقدان؟ أربعة منهم
لم يتفقدوا رسالتي .أرسلت واحدة أخرى" .هذا ُمخيب لآلمال".
"أنت؟ ترقص؟" عندما دخلت الغرفة ،جيمين وجونغكوك كانوا يتحدثون عن طاقم رقص.
اقصا جي ًدا. َ
كنت ر ً جيمين قال أنه انضم لفريق الرقص منذ أسبوعين وأدار وجهه بخجل" .هذا صحيح،
ً
جميعا لرؤيتك ترقص". يجب أن نذهب
ً
مبكرا؟" وردتني مكالمة تايهيونغ في تلك اللحظة ".ما الذي كنت تفعله؟ لماذا لم تتفقد رسالتي
ً ً
غضبا مما أنا عليه .تمتم تايهيونغ بصوت أجش داال على بكاءه. حاولت أن أبدو أكثر
~~81
تايهيونغ
الثالث عشر من يونيو العام الثاني والعشرون
ثمة تغير واحد وحسب ،لم يعد يراودني ذاك الكابوس .كابوس موت يونغي ،سقوط جونغكوك
وجنون هوسوك .اآلن بعد التفكير في األمر ،توقف الكابوس عقب الليلة التي قضيناها على الشاطئ .لقد
ً ُ
استبدل بآخر .دموع تنذرف من على وجه سوكجين ،وبتالت من الزهور الزرقاء ُملقاه على األسفلت ليال
والتي تبدو وكأنه تم دهسها وصبغها بدماء أحدهم.
ُ
أسرعت بخطاي .كان المصعد قادم من الطابق الثاني السفلي ،ألقيت نظرة ناحية ُحجرة المرضى.
ً ُ
مستعدا بعد لمقابلة سوكجين ونامجون. لم أك
~~82
نامجون
الثالث عشر من يونيو العام الثاني والعشرون
وصلت لغرفة جونغكوك في المشفى في منتصف الليل .يبدو أنه بخير .ضحك وتحدث ً
كثيرا،
ٌ ً ً
مهم حقا .كان تجنبا لما هو محطة الوقود ،األحوال الجوية ،وأي شيء آخر ِ وكذلك أنا .تحدثنا بخصوص
ينبغي عليه طرح أسئلة ،لكنه لم يفعل .لم يستفسر عن سبب شجار اآلخرين في تلك الليلة .وعن سبب
ُ ً ُ
رحيلنا دون عودة .لكنني لست مختلفا عنه .لم أخبره عن سبب مغادرتي للمصيف دون التفوه بأي كلم ة
وحتى أنني لم أسأل سوكجين عن سبب مشكلته مع تايهيونغ .كتمنا أسئلتنا التي جدر ِبنا اإلفصاح عنها.
ُ
وفي طريق عودتنا ،سألني سوكجين إن كنت بخير" .أتعلم أنك لم تنطق بكلمة حتى اآلن" أجبته بأني لم
أعي ذلك واعتذرت .أخبرته أنني بخير ثم افترقنا على مقربة من محطة الوقود.
نظرت في أرجاء الطريق المظلم قبل توجهي َص ْوب محطة الوقود .لقد كانت مهجورة .إشارة
ً
"قف" الحمراء على ممر المشاة تحولت لخضراء دالة على "التحرك" .عبرت الشارع سالكا طريقي على
ْ ُ ُ
امتداد السكة الحديدية .القاطرة الرابعة من النهاية .قمنا بعمل تخييم هنا قبيل ِإد َبارنا للبحر .وهذه زيارتي
األولى إلى ُهنا منذ ذلك اليوم.
ثبت مكاني لبعض الوقت حتى اعتادت عيناي على الظلمة. ُ . ُ
فتحت َ
باب القاطرة تبعثر الغبار حين
ُ
مما سمعته من جونغكوك ،لم يواظب اآلخرون على التواصل مع بعضهم البعض .ولم يطلعني أحد على
مستجدات تايهيونغ .لكن من المؤكد أن كل شيء على حاله .هذه القاطرة هي المأوى الوحيد لتايهيونغ
ً ُ ً
لمحطة
ٍ بعيدا عن والده .أدرك هذا لكنني لم ُأعد للمكان .كان من المرهق كفاية الذهاب واإلياب من المكتبة
َ َ
الوقود .هذه الحقيقة لكنها عذر في ذات الوقت .في قرارة نفسي ،البد أنني أحاول اجتناب تايهيونغ .فلم
ٌ
ً
عاطفيا. أحتمل فكرة مواجهته .إن األمر ُمنهك
القاطرة .حيث احتوت كل ناحية ِ حين اعتادت عيناي على الظلمة ،تسنى لي رؤية ُمختلف نواحي
تماما .جونغكوك الذي تعرض معا .أخبرت سوكجين أني بخير ،لكنني على العكس ً منها ذكريات قد ملئناها ً
ض تايهيونغخيرا طمر ما حدث في تلك الليلة دفعة واحدة .لو لم َي ُخ ّ لحادث ليس بخير أي ًضا .لم يكن ً ٍ
َ ُ ً
وسوكجين شجارا في تلك الليلة ،لو بقيت مع اآلخرين ،ولو الزم أحد جونغكوك ،عندها لن يكون هنالك
أي حادث.
ُ ُ
لكنني قلت أنني بخير .تحدثت معه بصورة طبيعية وكأن ال شيء من هذا خطأيَ ،ربت على كتفه
ً
قليالً . مخبرا إياه بأن يتعافى ً
ً
دائما ما أتردد قبل قريبا .قلتها وكأنها كلمة مباركة ،نصيحة أو عزاء .لم أتغير ولو
ُ
أن أسأل أو حين أتخذ قر ًارا ،كاتخاذ قرارين مصيريين.
~~83
يونغي
الخامس عشر من يونيو العام الثاني والعشرون
ّربما المقطوعة التي تردد صداها مرة تلو األخرى هي السبب لكن في حلمي ِه ّمت على وجهي في
ُ َ ً
صفير خافت .وبعد فترة طويلة وصلت إلى حديقة مجمع سكني ،وجدت فيها ٍ متتبعا صوت الضباب
ّ
مفتاح بيانو بين الشجيرات الكثيفة .مفتاح البيانو نصفه محترق ومغطى بالتربة واألوراق المتعفنةِ ،سرت
ّ
داخل الحديقة ألبلغ المفتاح وعندما كادت يدي تقبض عليه ،المجمع السكني والضباب والصفير كل شيء
ُ
مسافة
ٍ تالشى في الوقت نفسه .وفي اللحظة التي تلتها كنت أقف وسط ورشة العمل هذه ،وعلى بعد
ً ً ُ
جالسا أمام البيانو برفقة جونغكوك .جونغكوك قال لي شيئا ما جعلني أضحك .متى مني رأيت نفسي
ِّ
حدث هذا؟ لم أتمكن من تذكر التاريـ ــخ بالتحديد لكن هذا المشهد ُحفر في ذاكرتي على نحو جلي .توجد
ُ
أيام كثيرة استطيع فيها رؤية هذا المشهد بشكل واضح ،وفجأة تلبد الخارج بالظالم ،وكنت أتسكع في
ُ
الشارع من طريق عودتي من الشاطئ .وضعت يداي داخل جيوبي أثناء حديثي عن عملي مع هوسوك،
شعرت بوجود المفتاح بأطراف أصابعي. ُ
حينها
استمر الحلم على هذا النحو غير المترابط ،تداخلت فيه اللحظات مع بعضها وشظايا الذكريات
احتشدت بفوضوية.
ُ َ ُ
سمعت صوت ٍقرع على باب المدخل عندما أطفأت صوت الموسيقى ،من قد يكون؟ فتحت
الباب لكن ال يوجد أي أحد هناك .تناولت كوب ماء وشربته ثم استلقيت على األريكة .األسابيع الماضية
ً
صعبا كانت محمومة كلعبة األحصنة الدوارة ،لم تجري األمور بسالسة أثناء تأليف الموسيقى ،التركيز كان
ً
معتادا العمل مع شريك. منذ البداية ولم أكن
تأت وترحل عن غرفة عملي متى ما يحلو لها ،ال تتردد أو تراوغ
كانت هذه المرأة واضحة وصريحةِ ،
ُّ ً ُ حينما ُت ّ
قيم عملي .أخذت مني الوالعة عندما أردت التدخين وأعطتني مصاصة عوضا عنها وكانت تلح
علي كي أكل وأنام .لم أستطع مجادلتها ألن أداءها ومقطوعاتها الموسيقية كانت مثيرة لإلعجاب وألن ّ
ً
تقييمها كان دقيقا.
لقد حثني هذا ،فبدأت بقضاء المزيد والمزيد من الوقت في غرفة العمل ،فقدت اإلحساس
ً
بالوقت فأصبحت مدمنا على ع ملي ،عندما أبدأ العمل أسهر طوال الليل ،لم أجب على أي مكالمة ولم
أتفقد الرسائل التي تصلني ،أعصابي كانت على الحافة .لم أرغب في الحديث مع أي شخص لذا أغلقت
تنبيهات جميع تطبيقات المحادثة .تساءلت "هل سأصبح بمثل مهارة وموهبة المرأة لو أنني لم أضيع
ُ
وواصلت التدرب على الموسيقى؟" ،ال أريد أن أكون ظلها. وقتي
ً
جدا" هذا ما قالته المرأة بعد استماعها للمقطوعة التي لم أنهي العمل عليها باألمس. "هذا جميل
ُ ً ً ُ
إنها نسخة ُمطورة لما كنت سأكتبه سابقا" .هذا جميل جدا" ،شعرت بأني قد سمعت هذه العبارة من قبل
ُ
بطرق مختلفة ،جلست قبالة وحاولت التذكر متى عندما أخرجت غيتارها وبدأت تناغم وتعزف اللحن ٍ
~~84
البيانو وبدأت العزف معها .وبعد ساعتين قالت حين وضبت غيتارها ووقفت "ال تنسى لقائنا في المشفى
ُ
خال من التعابير ،ثم جالت بعينيها ثم
بوجه ٍ صباح الغد" بعد أن وضبت غيتارها ووقفت ،حدقت إليها ٍ
تذكرت بأن ها تقدم أداءات فردية في المشفيات والمدارس وقد أخبرتني في األسبوع الماضي كي أذهب
ُ
معها في عرضها القادم ،لم أ ِجبها لكنها أنهت التخطيط من تلقاء نفسها فقالت لي سأتصل بك في وقت
مبكر صباح الغد احرص أن تجيب على هاتفك.
ً ً ً بعد مغادرتها جلست ً
ثانية أمام البيانو ،لم يكن األمر سيئا لكن داهمني شعور بأن شيئا ما مفقودا،
ُ ُ ُ
تذكرت بال ريب بأنني كدت أقبض على شيء في أخر مرة عملت فيها على هذا المقطوعة ،أضفت بعض
التغييرات لكنها لم تالئمها .نهضت من على مقعد البيانو وشعور يضغط على صدري ّربما ركزت ك ً
ثيرا على
علي أن أجري تعديالت طفيفة على المقطوعة وأتوقف عن ذلك الشيء ألني لم احصل عليهّ ،ربما يجب ّ
انتظار ذلك الشيء .نظرت خارج النافذة فرأيت أن الشمس قد أشرقت.
ثانية .لم تتصل بعد ،لذا استلقيت على األريكة وبعد دقائق اهتز هاتفي بعد أن امتلئت بطاريته ً
ٌ
منزل فورا بمشهد رأيته في حلمي ليلة أمس،قليلة ّرن هاتفي فظهر اسم جيمين على الشاشة ،ذكرني هذا ً
تلتهمه النيران وشخص ما سألني" أيوجد أحد في الداخل؟" فأجبته " ال ،ال يوجد أحد"ّ ،تبدل المشهد
ً ُ
وعندها كنت واقفا في غرفة والدتي الغير مضاءة ووالدتي تقول " لو أني لم أحظى بك ..لو أنك لم تولد"
ُ ليست ّ
لدي أدنى فكرة عن كيفية وصولي من ورشة عملي للمشفى ،كنت أركض على الساللم
ً ً
ومعتما على نحو غريب ،وأشخاص يرتدون زي المرضى كالمجنون وعندما وصلت لنهايته كان الرواق طويال
يسيرون ،ظل قلبي يخفق بشدة ،وجوههم شاحبة كصفحة بيضاء تخلو من أي تعبير ،كأنهم موتى ،تمكنت
من سماع صوت نفسي المتثاقل داخل رأسي.
ّ ً
تديا ثياب المرضى وممددا على السرير ،ال ُبد
استطعت رؤية جونغكوك خالل الباب المتصدع مر ً
ُ ٌ
بقاءه على قيد الحياة معجزة .إنها في تلك بأنه نائم لكنه بدا وكأنه ميت" ،كاد أن يموت ،قال األطباء بأن
الليلة ،تلك الليلة التي ُعدنا فيها من الشاطئ" بقي صوت جيمين ّيرن في أذناي.
ٌ ٌ ُ
صور كثيرة احتشدت بسرعة البرق أمام ناظري أدرت رأسي لم يعد بإمكاني مواصلة النظر إليه،
كمشهد بانورامي .اللهب الذي أصدر صوت تصدع داخل الطبل في موقع أعمال البناء ،غرفة والدتي التي
دائما غير مضاءة ،أصوات البيانو التي علت من وسط النيران ،ظهر جونغكوك حينما كان يعزف كانت ً
بشكل أخرق على البيانو في متجر الموسيقى ،جونغكوك ممدد فاقد لوعيه في منتصف الشارع ،األلم
والخوف اللذان ّ
البد بأنه شعر بهما أثناء فقدانه لوعيه.
قالت "كله بسببك" ،قالت "لو أنك لم تولد" ،إنه صوت والدتي أم هل كان صوتي؟ أم أنه صوت
ً ُ
معذبا طوال حياتي بسبب هذه الكلمات .أردت التصديق بأنها غير صحيحة .لكن شخص آخر؟ عشت
ٌ
يرقد في المشفى الذي يتجول فيه المرضى كالموتى األحياء .لو أني تجاهلته
ِ ممدد هناك. جونغكوك
ُّ
وغادرت متجر الموسيقى ،لو أني ِمت فحسب وسط اللهيب ،هل سيحدث أي من هذا؟
في هذه اللحظة ألحان غيتار المرأة اخترقت عقلي .تداخل صوت الغيتار مع صوت فرقعة اللهب
وأصوات أخرى ال ُتعد وال ُتحصى .غطيت رأسي وأذناي بكلتا ذر ّ
اعي ،لم ُيفلح هذا
ٌ ُ
المتقد ،صوت البيانو
فصوت الغيتار أصبح أعلى ،استدرت وبدأت الهرب عبر الرواق فاصطدمت بالسائرين وألنه لم يكن ّ
لدي
ٌ
علي أن أركض ها ًربا من
وقت لاللتفات واالعتذار فقد صرخوا بالشتائم نحوي .لم ألتفت للخلف ،كان ّ
الصوت والهلوسة ،آلمني رأسي وفقدت كل ثقتي ،ركضت أسفل الرواق ،بترنح وتهاوي حتى خرجت من
المشفى.
~~85
جونغكوك
الخامس عشر من يونيو العام الثاني والعشرون
أيقظتني ضجة صادرة من خارج الغرفة .كان يراودني حلم غريب لكن لم يسعني تذكر التفاصيل
ً
جيدا .عادت إلى ذاكرتي ليلة حادث السير كشاشة مراقبة سوداء وبيضاء مشوشة .شعرت بنبضات قلبي
ً ُ ّ ً ً
متلويا. تتباطأ ثم تتسارع بشدة .فجأة ،تدفق األلم بشدة وكان أحدهم يهمس شيئا بخفة ثم استيقظت
ُ ً ً
كان جسدي بأكمله مبلال بالعرق .انسل ضوء الشمس عبر النافذة ضا ًربا وجهي مباشرة .خرجت
ُ
إلى الممر ورأيت المشهد المعتاد .كانت أول مرة أستعمل فيها العكازات وال زلت أحتاج االعتياد عليها مع
ً ُ
خارجا عبر المدخل وكانت الريـ ــح تهب .برد عرقي أن استخدامها أسهل بكثير من الكرسي المتحرك .ذهبت
ً
دافئا كما كان في غرفة المشفى. بسرعة وشعرت بالبرد في الجزء الخلفي من عنقي .لم يكن الجو
ً
مخبرا إياي أن شفائي عندما جلست على مقعد وفتحت كراسة رسمي ،جاء إلي الطبيب المسؤول
ٌ ً
دليل حي على حدوث معجزة. كان بمثابة معجزة فهو لم يتوقع حدوث ذلك .ربت على كتفي قائال أنني
ُ
"عليك أن تكون بخير لبقية حياتك" أدرت رأسي ورأيت الفتاة التي كنت قد التقيت بها في الممر في اليوم
ٌ ً ً
مذهل جدا وسألتني عن شعوري فأخبرتها السابق واقفة هناك .أخبرتني الفتاة أن إيجاد معجزة بقربــها أمر
ً ً
جدا وحسب. أنني كنت صحيا
ُ
أخفضت عيناي إلى كراسة الرسم وقبل أن أدرك األمر ،كنت أرسم ما رأيته في حلمي .تشوشت
ذاكرتي مثل شاشة المراقبة وكان يصعب علي التركيز في الرسم أو التذكر ألن الفتاة استمرت بطرح األسئلة
ُ ُ
علي .بعد مدة ،نظرت لألعلى .سمعت صوت أغنية مألوفة تعزف ،كان أحدهم يؤدي في األرجاء .عرفت
ُ ً
هذه األغنية بال شك ،فيونغي كان يعزفها في غرفة عمله أحيانا .ذهبت باتجاه المسرح على عكازاتي .كانت
ّ
هناك والعة عليها عالمة YKمعلقة على الغيتار.
~~86
جيمين
الثالث من يوليو العام الثاني والعشرون
كان هوسوك بمزاج سيء منذ أن زار جونغكوك .إذا كان بمقدور أي شخص ربط سبعتنا ً
معا بكلمة
"نحن" ،فسيكون هذا الشخص هو هوسوك .تبنى وصان ً
دوما كلمة "نحن" وكأنها مأوانا ،لكنه لم يغدو
ً ً ً
ومبهجا من داخله كما حاول التظاهر أمامنا .من الممكن أن شعوره كان أقرب للمسؤولية ،لقد دوما مشرقا
ً ً
غريزيا بجراح وآالم المحيطين به لكنه لم يتمكن من تحملهما جيدا ،ولهذا السبب ادعى الحيوية شعر
عكس سجيته .حتى أنه اليوم جلس في زاوية واحدة من غرفة التدريب لفترة طويلة دون أن ينبس ببنت
شفة.
ُ ُ
التحقت بغرفة "ارقص فحسب" وباشرت تعلم الرقص صوب عودتي من البحر .أتاح هوسوك لي
ُ ُ ُ
محرجا للغاية من مقابلة أناس ُجدد ،حيث قضيت الكثير من الوقت في المشفى .كما
ً الفرصة بعدما كنت
أحضر لي شريكة جديدة في الرقص ،كانت صديقة قابلها في دار األيتام .كانت الشخص الوحيد الذي
استطاع إضحاكه حينما كان بمزاج سيء .ضحك هوسوك ،عندما تمتمت بشيء خالل نظرها لهاتفه برفقته.
ً ْ
فأردفت قائلة بنبرة ساخرة "لقد ضحكت ،ضحكت" حينها أشاح وجهه بعيدا وأخبرها أن تكف
ُ َ ُ ً
عن ذلك ثم ضحك مجددا .عم الصمت أرجاء غرفة التدريب حينما أغلقت الموسيقى واستلقيت على
ُ
كثيرا حتى أنه كان ُيشاد بي .لكن غرفة المريض
ورقصت ً األرض فحسب .لقد أحببت الرقص منذ صباي
ُ ُ ً ً
صالحا للرقص وحتى حينما التحقت بالمدرسة في فترات الراحة من المشفى ،كنت أخفض لم تغدو مكانا
ً
تجنبا ألعين زمالئي في الصف. رأسي
تيبس جسدي ولم أتمكن من رقص الخطوات التي رقصها هوسوك بكل َ بعد فترة من الوقت،
ُ
سهولة ،فلم يكن بوسعي فعل شيء سوى االستمرار في التدريب حتى بعد مغادرة الجميع .أعدت تشغيل
ً
مقطع الفيديو الخاص بخطوات الرقص التي تعلمتها آنفا على هاتفي .حركات هوسوك كانت رشيقة ولكنها
ً ً ُ
دقيقة في الفيديو .علمت أنها ِنتاج سنوات من التدريب وأن األمر سيستغرق وقتا طويال لمبتدئ مثلي
تطعت فحسب التنهد بصوت عال لمجرد أمنية تمنيتها. ُ
للوصول لهذا المستوى .اس
ُ ُ ّ ُ
والدي في اليوم الذي غادرت فيه الشاطئ وحدي .بينما كنت أنظر صوب النوافذ عدت إلى منزل
ضغطت على جرس البوابة األمامية. ُ
الالمعة ،لم يسعني التفكير سوى "هل كان هذا المنزل منزلنا؟" ثم
ُ ُ ُ
استغرق األمر بعض الوقت حتى فتح الباب ثم استقليت المصعد وترجلت عند الطابق السابع عشر .وعلى
ً
مفتوحا إال أنه لم يخرج لتحيتي أحد. الرغم من أن الباب كان
ً ً ّ
والداي يجلسان على أريكة غرفة المعيشة بينما يتابعان ً
فيلما أبيضا وأسودا على شاشة التلفاز، كان
ً ُ
فاندفعت قائال بعد تردد "ال أريد ا لعودة إلى المشفى ،ال تقلقا لن أفعل أي شيء متهور ولكنني لن أعود
ً
إلى هناك" حينها سألتني أمي "أين كنت؟" " مع أصدقائي" قاطعني والدي مردفا" :أصدقاء؟ اغتسل
واتجهت صوب غرفتي أسفل الردهة. ُ ُ واخلد للنوم ،سنفكر ً
مليا فيما يجدر بنا فعله معك" فأذعنت لرغبته
وصوت والدي يتردد في ذهني "سنفكر ً َ ُ ُ
مليا فيما يجدر بنا حالما أغلقت الباب خلفي ،انهرت
ً ُ ً ُ
يسيرا حتى أنني بالكاد غفوت تلك الليلة .وعوضا عن فعله معك" حاولت تمالك نفسي ،لكن لم يكن األمر
ُ
وسأثبت أنني أجيده! ُ
ذلك ،اتخذت قرارين ،أولهما أنني سأكتشف ما أود االلتزام به
~~87
ُ ُ ُ
نهضت ووقفت أمام المرآة ،استطعت تقليد الخطوات بشكل جيد لكن قدماي استمرتا في االلتواء
ُ
وأردت إثارة إعجابها. ُ
لذا ظللت أرتكب األخطاء .من المفترض أن أرقص مع شريكتي هكذا في اليوم التالي
ً ً ً ُ
أردت أن ُيعترف بي حقا بدال من سماع "ليس سيئا!"
~~88
جيمين
الرابع من يوليو العام الثاني والعشرون
ُ
بقوة شديدة حتى تقشر الجلد .ارتجفت يداي ٍ عندما عدت إلى صوابي ،كنت أفرك ذراعي
ُ
دم رفيع من ذراعي وعبر انعكاسي في المرآة الحظت احمراروسمعت صوت أنفاسي العميقة .سال خيط ٍ
عيناي .تسارعت أجز ٌاء مما حدث عبر ذاكرتي.
ُ ُ ُ
كنت قد فقدت التركيز بينما رقصت مع شريكتي ،تشابكت خطواتي واصطدمت بها ثم سقطت
ُ ُ ً
أرضا وخدشت ذراعي .ذكرني الدم بمشتل األزهار العشبية وشعرت باالختناق .لم أتذكر كيف نهضت
ً
مغادرا غرفة التدريب أو كيف وصلت إلى الحمام. ُ
وركضت
فركت وغسلت الخدش كالمجنون وازداد خوفي تدر ً
يجيا عند رؤيتي للدم يسيل في مجرى المياه.
خلت أني تغلبت على األمر ،توقعت أني بخير لكنني لم أكن كذلك .وجب علي الهرب وكان علي غسله مع
ً ُ ً
بسرعة إلى غرفة التدريب
ٍ أنني اضطررت للنظر بعيدا .بعد ذلك أدركت أن شريكتي قد وقعت أيضا .عدت
ٌ
أحد فيها. لكن لم يوجد
كان معطفها وحقيبة هوسوك ملقيان على األرض .ركضت إلى الخارج حيث كانت السماء تمطر
ً
مسافة
ٍ بغزارة واستطعت رؤية هوسوك مع شريكتي في الرقص فوق ظهره ،راكضا بكل سرعته على بعد
ً
مني .بدت فاقدة للوعي بسبب تمايل ذراعيها المرتخيتان في كل اتجاه.
ً ً
لحقته حامال مظلة بيدي لكنني سرعان ما وقفت في مكاني محاوال تذكر لحظة سقوطها فلم
ُ ُ
شيء من حولي .لن أكون ذو فائدة له حتى لو لحقت به .قد أذيتهاٍ أستطع .عندما رأيت الدم ،تالشى كل
كنت أرتجف كالهالم بسبب دمي.ُ ً
بدفعي لها أرضا ولم أتوقف لتفقد إن كانت بخير ألني
أدرت ظهري ومع كل خطوة مشيتها ،تناثر ماء المطر على حذائي الرياضي .مرت أضواء السيارات
تماما .في َ
اليوم ً بسرعة خاطفة .كان الجو ُم ً
مطرا في يوم النزهة قبل مدة طويلة مثل األمامية من جانبي
ٍ
ً ُ
ذلك اليوم ،هربت من مشتل األزهار العشبية وجسدي مغطى بالوحل الشبيه بالدماء .لم أنضج وال حتى
ً
قليال من ذلك الطفل الصغير البالغ من العمر ثمانية أعوام.
~~89
هوسوك
السابع من يوليو العام الثاني والعشرون
ُ ً
لحادث بسيط قبل عدة أيام .األن يمكنني القول أنه بسيط لكنه ٍ كاحلي لم يلتئم جيدا .تعرضت
ً
حينها كان حادثا خطير .جيمين وتلك الفتاة اصطدموا ببعضهم البعض أثناء التدرب على خطوات الرقص،
ً ُ ُ
كضت للمشفى .لم يكن بعيدا ،لكن المطر انهمر بغزارة. وكالهما سقطا بقوة .حملت الفتاة على ظهري ور
كانت فاقدة للوعي.
ً ً ً
وإيابا في الرواق .تأخر الوقت ليال ،لكن الرواق المقابل لغرفة ذهابا بينما عولجت ،خطوت
مليء بأشخاص يحتسون القهوة من آلة البيع أو ينظرون لهواتفهم .قطرات المطر والعرق تنساب ٌ الطوارئ
ُ
من شعري .نفضت شعري بإحدى يداي ،جلست على مقعد في الزاوية ،وسقطت حقيبتها بالخطأ.
ً
أيضا. تدحرجت عمالت نقدية على األرض ،وتبعثر أقالم حبر ومناديل في األرجاء .كان هنالك تذكرة لطيارة
أعلم بشأن تقدمها لتجربة أداء دولية لفريق رقص .البد أنها فازت بها ً
بناء على التذكرة.
علي الطبيب .وضعت التذكرة في حقيبتها وتوجهت نحوه .قال أن الفتاة في تلك اللحظة ،نادى ّ
ً
مطيرا في الخارج .وقفت بجانبها علي القلق ً
كثيرا .مازال الجو صدمت رأسها ولديها ارتجاج بسيط فليس ّ
ُ
على المدخل" .هوسوك ".نادتني الفتاة .بدى وكأنها تريد االفصاح عن شيء" .انتظري هنا ،سأذهب لشراء
ُ ً ُ ُ
مظلة" ركضت في المطر المنهمر .وقع متجر أمام ناظري .لم أرد سماع ما لديها .لست متأكدا إن كنت
سأهنئها.
ُ
الغم ووطأة رأسه. جيمين كان بانتظاري في غرفة التدريب .طمأنته عليها ،لكن بدى عليه
ً
في الصباح التالي وجدت كاحلي متورم .انزلقت قليال في الليلة السابقة أثناء حملي للفتاة على
ً
حتى ،انزلقت قدمي قليال فقط .حاولت وضع ضمادة ُ ظهري .كنت أركض تحت انهمار المطر .لم أسقط
لأللم والسير بحذر أكبر .ظننت أنني سأغدو بخير .فلم أ ِرد تضخيم األمر في البدء .لكن ساءت حالتها أكثر
علي الوقوف على قدماي طوال اليوم في مطعم البرغر .وال ُيمكنني تفويت تدريبات وأكثر مع الوقت .كان ّ
الرقص.
~~90
تايهيونغ
العاشر من يوليو العام الثاني والعشرون
ُ ُ
ركضت على الطرق المنحدرة وعبر األزقة الخلفية الضيقة .عشت في هذا الحي لحوالي عشرين
ً ُ
قصصا وذكريات ،لكن هذا لم يكن وقت الحنين إلى الماضي سنة وعرفت كل زاوية وصدع .أعادت كل زاوية
ً فالشرطة كانت تطاردني ولم أستطع تحمل كلفة الضياع في الذكريات .لكن بينما استدرت ً
عابرا زاوية بعد
لسور تلو اآلخر شعرت بأن الوقت يعود للوراء.
ٍ األخرى وأثناء عبوري
ً ُ ُ
مدة طويلة .حملت علب الطالء مجددا قمت بالرسم على جدار موقف الحافلة للمرة األولى منذ ٍ
معينة صادفتها عندما كانت تحاول سرقة الطعام من متجر البقالة قبل بضعة أيام .لم تستطع بسبب فتاة ّ
فهمت شعورها ً
تماما. ُ
تحمل النظر إلى يديها الفارغتين وكان من الواضح أنها خائفة منها .لم أرد اإلقرار بأني
ً َ
عليك النظر إلى يديك الخاويتين مباشرة وال يستطيع أحد فعل ذلك بالنيابة عنك .مع ذلك ،لم أستطع أن
أدير رأسي عنها.
ُ
تعرفت على النظرة التي اعتلت وجهها ،النظرة التي تعلو وجهك حين تشعر بعدم انتمائك إلى أي
مكان في العالم ،عندما تخشى بأن تكون أنت المسؤول عن كل خطب جرى في حياتك ،عندما تكون
ً
وحيدا وتجهل إلى أين تذهب أو تبقى.
ً
مميزا ً ً
معا .اكتفينا بالجلوس رأيت هذه الفتاة من وقت آلخر بعد ذلك اليوم لكننا لم نفعل شيئا
معا .بدا عليها الشعور بالغرابةفي الشارع أو المشي بمحاذاة السكة الحديدية ثم قمنا بالرسم على الجدران ً
في أول مرة حملت فيها علبة الطالء لكنها قامت بأفضل ما لديها لتتبع ما فعلته .جئنا ً
أخيرا إلى موقف
الحافلة.
نزل نامجون في هذا الموقف وظهرت الشرطة هنا في أغلب األحيان وهنا كذلك تم اإلمساك بي
ً ُ ً
مرة بينما كنت أرسم على الجدران .حاولت الفتاة قراءة تعابير وجهي بينما وقفت ساكنا وأنا أحمل علبة
الطالء بيدي.
لم أكن على اتصال بنامجون منذ أن رأيته في المشفى لكنني مررت بجانب مقطورته القريبة من
خارجا في الشارع ً
هربا من والدي ومزاجه الثمل. ً ُ
السكة الحديدية في إحدى الليالي قبل بضعة أيام .كنت
أيت إنارة المقطورة مضيئة .كان أحدهم هناك. ُ ُ ُ
هربت بال وعي وجلت في األرجاء بال هدف ثم ر
ُ ُ
لحن
أردت الدخول إال أنني لم أستطع فعل ذلك فاقتربت وسمعت صوت ًٍ ال بد من أنه نامجون .ومع أني
ً ُ
ناظرا إلى السماء السوداء بالكامل ،خالية خافت يرافقه صوت شخير .جلست على األرض أمام المقطورة
من أي أثر للنجوم.
اقترب مني رجال الشرطة بسرعة فاختبأت في زقاق بنهاية مسدودة ولم يكن هناك طريق للنفاذ.
كان من المقدر حدوث هذا حتى لو توقفت عن الحنين إلى الماضي وركزت على الهرب ،سيتم اإلمساك
ُ
بقبضات خاوية .خرجت من الزقاق
ٍ بي في كل حال .كانت هذه هي النتيجة المتوقعة .ال يمكن حل مشكلة
ر ً
افعا كلتا يدي باستسالم.
~~91
نامجون
الثالث عشر من يونيو العام الثاني والعشرون
وضبت حقيبتي وتوجهت خارج المكتبة .مضى على عملي في المناوبة الليلية بمحطة الوقود أكثر
من شهر .وأذهب للمكتبة في النهار .فأعود للمنزل منهك بعد العمل طوال الليل ،وعلى الرغم من ذلك
ً
فأنني أستيقظ مباشرة حالما يرن المنبه .لم أنجز شيئا في الشهر المنصرم .جل ما أقوم به هو التحديق
خارج النافذة أو تصفح مجلة بذهول .ليس وكأنني أشعر بالضجر .أعلم أن ّ
علي اإلتيان بوتيرتي ،لكن لم
يكن باألمر السهل كما تصورت .ما الذي يفعله جميع هؤالء األشخاص ُهنا في المكتبة؟ هل سأتمكن ً
يوما
من إدراكهم؟ لكنني ال أعلم خط البداية أو ما الذي ّ
علي التشبث به.
ُ
أملت رأسي ناحية نافذة الحافلة .من المكتبة لمحطة الوقود؛ كل يوم .اإلطاللة المألوفة ذات
يوما من هذا الروتين؟ يبدو ً
أمرا مستحيل المضجر ُسحبت من ناظري على النافذة .هل سأتخلص ً المشهد ُ
ِ
لغد أفضل. ّ
تمني ٍ بالنسبة لي
ً
ظهر على مرأى مني امرأة تجلس في مقدمة الحافلة .رفعت كتفاها قليال كما لو أنها تتنهد .إنها
معا في نفس المكتبة ُ ً
وعدنا أيضا من المكتبة .درسنا ً المرأة التي كانت توزع المنشورات على المشاةَ .ميزتها
لمنازلنا في نفس الحافلة خالل الشهر المنقضي .لم أجرؤ على محادثتها ،لكننا شاهدنا نفس البستان،
ُ
خضنا نفس التجارب ،وتنهدنا بنفس الطريقة .رأيت كيف غلبها النعاس في زاوية من المكتبة وكيف نزفت
أمام آلة بيع القهوة .لم أحاول البحث عنها لكنها تلفت نظري من وقت آلخر .ما زلت أملك مشبك الشعر
في جيبي ،الذي اشتريته من بائع في الشارع دون تفكير بعد رؤية شعرها معقود برباط مطاطي أصفر.
اقتربت الحافلة من محطة توقفها .ضغط أحدهم على زر التوقف ،ووقف بضع ركاب ،لكنها لم
ُ تقف .البد أنها غفت .أيجدر بي إيقاظها؟ ترددت للحظة .توقفت الحافلة ً
أخيرا ،لكنها لم تظهر أي عالمة
ً ُ
على التحرك .ترجل الركاب من الحافلة ،أغلقت األبواب وتحركت الحافلة مجددا.
ُ ً ُ
وصلت لمحطتي لكن المرأة لم تستيقظ بعد .ترددت مجددا بينما ترجلت من الباب الخلفي .لم
ً
ُيعرها أي أحدا انتباهه .تخطت محطتها بالفعل ولن تستيقظ إال بعد بضع محطات أخرى .وهذا سيزيد
ً
جهدا إضافي لحياتها.
مضت الحافلة حالما ترجلت عنها .لم أنظر خلفي .خلفت مشبك الشعر على حقيبة المرأة ،وهذا
ُ
هو األمر .قبل بضع أيام ،أتيت إلى هنا ورأيت الرسم على الجدار المقابل لمحطة الحافلة .أنظر حولي
ً ً
تلقائيا .لكنني ال أجد تايهيونغ أبدا .سأفترض أنه ذهب على عجل من أمره ألن علب الطالء تتدحرج على
األرض .حدقت في الرسومات على الحائط لمدة.
~~92
سوكجين
الرابع عشر من يوليو العام الثاني والعشرون
ً
جلست على مقعد في حانة خيمة بجانب نامجون .انتصف الوقت ليال ،لكن الخيمة ممتلئة بزوار
أرادوا تناسي أيامهم بالمشروبات الالذعة .تلقيت المكالمة بعد الظهيرة .طلب مني نامجون مقابلته بعد
انتهاء مناوبته في محطة الوقود .ولم ينبس بكلمة حتى اآلن .لكنه استمر بالشرب كأس تلو اآلخر .سألته
أن أصابه مكروه ما ،لكنه تبسم وهز رأسه ً
نافيا " .األمر فقط أن حياتي لم تتغير البتة منذ والدتي .ال تأخذ
منحنى لألفضل أو لألسوء".
ً
قال نامجون أن طاقته جفت بالكامل .وبأنه تظاهر بكونه صديقنا بينما ال يمكنه تقديم شيئا لنا.
ً
ولهذا السبب لم يتمكن من مقابلة تايهيونغ أو زيارة جونغكوك مجددا .وأنه يختلق األعذار حتى في هذه
اللحظة ،وأنه بال جدوى.
ُ
مدرستنا الثانوية قد اجتاحت أفكارنا بعد شربنا عدة كؤوس .تلك الحادثة التي كشف عنها تايهيونغ
ً َ
فعلت ذلك حينها؟" بدال من أجابتي ،بادرني السؤال. على الشاطئ .لماذا دافع عني نامجون وقتها؟ "لماذا
ما سبب فعلتي تلك حينها؟ وفاة والدتي ،طفولتي بالروضة في لوس أنجلوس ،تعابير والدي الباردة حين
ُ
يم ّية العائلة .ربما شعوري بالثمالة ،أو نسيم الليل ،ما دفعني لكشف جميع عدت لكوريا .لم أشعر قط ِ
بحم ِ
أسراري التي لم أفصح عنها من قبل.
ً
"اآلن أعرف كل شيء يخصك ،لكن أال ينتظرك اآلخرون لتشارك قصتك أيضا؟ ينتظرون تلمي ًحا
منك بما حصل حينها؟" تحدث نامجون بعد سماعه العترافي .ودعته ثم توجهت للمنزل ،تجولت على
ً ً ً
مشعا .توقفت أمام الطريق لبعض الوقت ،وترنحت قليال .نسيم الليل كان منعشا ،والقمر في السماء كان
رسومات على محطة الحافلة .لو اعترفت بكل شيء ،هل كان نامجون سيصدقني؟ لو أفصح لي شخص
بما كنت سأعترفه ،هل كنت سأصدق ذلك الشخص؟
ُ ُ
قدت بجانب المتجر الذي يعمل به تايهيونغ .أمكنني رؤية ابتسامته عبر النافذة. قبيل بضع أيام،
كان يتحدث لزبون ويضحك بشدة .تلك البسمة المألوفة التي ترتسم على شفتاه على شكل مربــع .ماذا
ً ً
حسنا ،تايهيونغ كان ً
دائما هكذا .ينفجر ضاحكا على نكات يوجد للتحدث بشأنه والضحك بشدة مع زبون؟
ً ً
ال يجدها أحدا مضحكة ويذرف الدموع على أشياء ال يجدها أحدا محزنة .كيف يفترض بي مصالحة
تايهيونغ؟ المستقبل يبدو ً
كئيبا.
~~93
هوسوك
السادس عشر من يوليو العام الثاني والعشرين
معا في غرفة الصف التي غدت غرفة قلبت صفحات المذكرة واحدة تلو األخرى ،كنا مبتسمين ً
ً
مستلقيا وحده فوق الطريق المعبد ،والدماء تخزين ،في النفق ،وحيث كان البحر خلفية لنا ،كان جونغكوك
تسيل على الطريق ،القمر الكبير تدلى ً
عاليا في سماء الليل.
" هل تأذيت؟ " نظرت للخلف ورأيت ج ونغكوك يدخل إلى غرفته في المشفى ،رقصت بكاحلي
ً
الملفوف بالضمادة بشدة ،واآلن الجبيرة تحيط بهذا الكاحل "أبدو وكأني أفضل حاال منك" تعمدت إظهار
ُْ
ردة فعل درامية على كلماته ،وأضاف أن صحته ال تق َهر ،جونغكوك قال أن عليه الخضوع لفحص شامل
األسبوع المقبل ما سيخوله الذهاب للمنزل في حال عدم وجود أي مشاكل.
قررت أن علينا تحضير حفل له ،حظينا بحفل في قاطرة نامجون يوم هرب جيمين من المشفى
مع الهمبرغر والكوال والكعكة التي جلبها جين .لقد تقاتلنا حول من سيكون صاحب قبعة الحفل حتى
ُس ِحقت ،لطخنا وجوه بعضنا البعض بالكعكة الثمينة ،نامجون اشتكى ألن عليه تنظيف كل الفوضى
بنفسه،
معا للمرة األولى بعد مغادرة الثانوية ،ضحكنا على كل كلمة أخيرا ً
لكنه أمر ممتع ،تجمع سبعتنا ً
معا كانت مبهجة وحماسية بالرغم من أننا لم نقل ولم نفعل الكثير ،أردت تكرار يوموكل ذكرى ،كل دقيقة ً
ً
مجددا. كهذا ،اليوم الذي التقينا فيه وضحكنا ً
معا
ً
مندفعا أمام باب المشفى، " يا ،تلك الليلة "...جونغكوك استهل حديثه بينما غادرنا المصعد
تحديقته كانت موجهة إلى شيء في الخارج ،لم يبدو أنه ينظر إلى شيء محدد ،كان يرمش بعينيه فحسب
كمحاولة حفر في ذكريات قديمة " ،هل تحدث سوكجين عن تلك الليلة؟ أنا أعني هل قال بأنه شاهدني
ً
مجددا. أو...؟" توقف جونغكوك عن الحديث "سوكجين؟ رآك أنت؟ أين؟" سألته لكنه لم يفتح فمه
"أنت شخص جيد صحيح؟" سألني جونغكوك ذلك قبل افتراقنا" ،توقف عن الحديث بكالم
ُ ُ ً ُ
مودعا ،وبسرعة أدرت خطاي ،هل أنا شخص جيد؟ ناضج ،كنت فارغ" ربت على كتفه بلطف ولوحت له
ً طفال ً ً
ومرحا ،اعتدت على قول أني حساس ومؤثر ،هل ذلك يعني أني شخص المعا سأقول ذلك ،لقد كنت
ً ً
جيد ،لم أفكر في ذلك مسبقا ،نظرت للخلف ورأيته مازال واقفا أمام المدخل يبحث في السماء الغائمة.
~~94
سوكجين
الرابع والعشرون من يوليو العام الثاني والعشرون
حتى أنه لم ينظر إلي" .ال تضيع وقتك على ال شيء ،أخبرك بهذا عن تجربة .باإلضافة لهذا ،عليك
ً ً كثيرا لذا حاول أن تتعلم بقدر المستطاع .حينها ستنضج لتكون ش ً
المساعدة هنا ً
خصا راشدا وكفؤا".
~~95
جيمين
الرابع والعشرون من يوليو العام الثاني والعشرون
تم تزيين ما بداخل القاطرة بالكامل .على الطاولة وضع البرغر ،البطاطا والمشروبات التي اشتراها
هوسوك ،زينة عيد الميالد معلقة على الجدران .وجونغكوك يجلس بالمنتصف.
ُملئت ث الثة كؤوس وحسب ،فهوسوك قد غادر لوظيفته الجزئية بعد وضع الطعام ،نامجون يعود
أت لكنه لم بوقت متأخر بعدما يفرغ من دوامه الجزئي ،ال أحد بإمكانه إمساك يونغي ،سوكجين قال أنه ٍ ٍ
ً
تاح في قاطرة نامجون؟ كنت قد جررته إلى هنا تقريبا، ر م غير ال
ز أما يظهر بعد ،وتايهيونغ يجلس بصمت.
ٍ ً
لكن كان ُمحاال إضفاء الحيوية عليه.
ً ُ ً ٌ
بدونا هكذا معظم الوقت منذ عودتنا من الشاطئ ،لم يتواصل أحد مع اآلخرين أوال ،لم يك أحدا
نعد أولئك الطالب الذين يتخطون المدرسة أمرا ال مفر منه .فلم ُ
منا على علم بما يفعله اآلخرون .ربما كان ً
أكوام من المشاكل وااللتزامات .ال يمكننا تجاهلها لمجرد أننا أردنا أن نكونٌ للتسكع ً
معا .جميعنا اآلن لدينا
ً ً
معا .بالنسبة لي ،حري بي العمل جاهدا إلبقاء نفسي خارج المستشفى وتقرير ما إذا كنت سأعود إلى
ً ّ
لوالدي ،وكذلك لنفسي ،أنني بخير .والتأكيد أني لن أكون عبئا على أي المدرسة .اضطررت أن أثبت
شخص.
ً ً
مترددا .أمسكت به وأخبرته أن َ
لوقت أطول قليال
ٍ يبق ِ بعد مرور بعض الوقت ،وقف جونغكوك
ً
ويقابل نامجون .ضحك جونغكوك وحسب ،قال أنه سيفعل الحقا .لم أستطع إبقاؤه هناك .قمنا بتنظيف
الطاولة وغادرنا القاطرة .شغلنا مصابيح هواتفنا .كانت العاشرة والنصف .افترقنا أمام القاطرة .وأثناء عبوري
للسكة الحديدية وانتظاري لوصول الحافلة ،كان بإمكاني مشاهدة جونغكوك وتايهيونغ يبتعدان أكثر وأكثر
مع إضاءة مصابيحهم.
~~96
تايهيونغ
الرابع والعشرون من يوليو العام الثاني والعشرون
~~97
ً ً ُ
بدأت بالسير شماال باتجاه مونهيون ،محاوال التغلب على خفقان قلبي بخطواتي .كانت هذه
ُ الطريقة الوحيدة ألكون ً
قادرا على التنفس .تجاوز الوقت منتصف الليل بالفعل وتوقفت الحافالت عن
العمل ولم أملك المال الكافي لسيارة أجرة ما جعل السير خياري الوحيد .ألصل إلى هناك ،كان علي عبور
قادرا على الوصول إلى هناك قبل شروق الشمس. سكة الحديد والجسر ومركز المدينة كذلك .قد أكون ً
شعرت بخطوات أحدهم ورائي عند عبوري السكة الحديدية .كان جونغكوك يتبعني. ُ
كضت إلى منزلي إثر رؤيتي لسيارة الدورية أمامه. ُ ُ
نسيت وجود جونغكوك معي عندما ر
ُ ُ
"ابتعد!" صرخت بجونغكوك ومشيت دون النظر للوراء .ال شك بأنه رأى كل شيء .الشرطة،
ً
الجيران ينقروننا بألسنتهم ،زجاجات الخمر تتدحرج ،أبي يشخر وشقيقتي مطأطأة لرأسها .ال بد من أن
ً ً
جونغكوك رأى كل ذلك .لم أخبر أحدا من قبل بشأن عنف والدي على اإلطالق .ولم أخبر اآلخرين أبدا أن
ُ
والدتي قد هربت .لم يكن بسبب كبريائي ،وربما كان كذلك لكن لم يكن من العدل أن أجبر على شرح
ظرفي اليائس وحياتي بنفسي.
ُ ً ُ ُ ُ
أخيرا من المنطقة السكنية وصعدت سلم عبور المشاة فوق سارعت خطاي .كنت قد خرجت
ُ ً ُ ُ
أيت جونغكوك. آت من الخلف .ألقيت نظرة خاطفة ور خطوات ٍ
ٍ السكة الحديدية عندما سمعت صوت
ُ ُ ُ
يخصني .خطوت على الجسر ّ كنت سأصرخ ألسأله عن سبب لحاقه بي لكني َعدلت عن ذلك فاألمر ال
توقفت في منتصف الجسر ً
ناظرا للنهر. ُ ً
مستمرا باللحاق بي. بعد عبوري السكة الحديدية وكان جونغكوك
ً
وسط سكون الليل ،كانت الطرق والمباني منارة بخفة بأضواء الشارع لكن النهر لم يكن كذلك.
ً ً ّ
بصوت مدوي وبدا أكثر خطورة ألنه لم يكن قابال للتمييز في ٍ قدمي تحت
ِ بعنف من
ٍ جرى النهر األسود
الظالم .وقف بجانبي جونغكوك ونظر بدوره إلى النهر .كنا فقط نحن االثنين على الجسر .ال مشاة ،وال
ّ
سيارات .وكانت قمصاننا مبتلة بالعرق ترفرف بسبب الرياح" .هل تعلم بأننا كنا نمشي لمدة ساعة؟" لوح ت
جنبا إلى جنب" .أيمكنني أن أسأل إلى أين نحن ذاهبان؟" أخبرته لجونغكوك فاقترب مني وبدأنا بالسير ً
ً ً ُ
شيئا ما فأومأ جونغكوك برأسه. ذاهبا إلى منزل والدتي إلخبارها بأني كنت
ً ُ
وتساءلت ّ
ذاهبا إلى منزل والدتي .فأنا لم أعرف مكان سكنها عما إن كنت باتت خطواتي أبطأ
أنو الوصول إلى مجمع الشقق السكنية .تنحى غضبي في غضون ساعة و وجهلت رقمها وعنوانها ولم ِ ُ
استبدل بالجوع واأللم.
ُ ُ
ات ال تحصى بالفعل لكن الخطوة تخيلت كيف سيكون لقائنا .بصراحة ،كنت قد تخيلته لمر ٍ
ً
جميعا؟ وإن التالية هي التي كانت ُمبهمة .بعد أن أسأل والدتي أسئلتي ،ماذا ستقول؟ هل ستجيب عنها
ً
جميعا أال ألتقي بها ،هذا هو فعلت أو لم تفعل ،كيف علي أن أتصرف؟ ربما سيكون من األفضل لنا
ً
استنتاجي لكنني استمريت بتخيل اللحظة وها أنا أجول الشارع ليال بال نية لرؤيتها.
ُ
"هل ساقك بخير؟" بعد التفكير باألمر ،تذكرت أن جونغكوك أزال جبيرته للتو وأنا جعلته يمشي
ً
كنوع من إعادة التأهيل" أظهر لي جونغكوك ابتسامة وسبقني كما
َ ً ُ لساعات" .أخبرني الطبيب بأن أمشي ٍ
لو أنه أراد إثبات األمر لذا لم استطع إخباره بأن علينا التوقف هنا وقررت االستمرار بالمشي متثاقال" .ألست
جائعا؟" عندما هدأت أعصابي ،رجعت إلي أحاسيسي بقوة" .إنني أندم على عدم إنهائي الكعكة وذلك ً
ُ كلمات جونغكوك. ُ
البشر إما أقوياء بسخافة أو ضعفاء بسخافة ونحن كنا الدليل ِ الهامبرغر" قهقهت بسبب
معا حتى في هذا الوضع. نشعر بجوع شديد ونتذمر من ألم سيقاننا ونضحك ً ُ على ذلك-
ٌ ً
وشدة وسرعان ما َ ً
ظهر شارع مزدحم أمامنا .كنا في أوج الليل لكن الشارع باتت األضواء أكثر إشراقا
ً
صباحا .جلسنا على طاولة المنار بشدة كان يعج بالناس والسيارات ّ
المارة .كانت الساعة الثالثة والنصف ُ
خارجية لمتجر بقالة .قال جونغكوك أنه يشعر بالعطش عندما أكلنا حوالي نصف أكواب النودلز الخاصة
~~98
ً
موجها لي ،لم استطع رؤية من يكون بنا .عندما عدت ،كان أحدهم يقف أمام جونغكوك وألن ظهره كان
ُ ُ
ينظر إليه بقلق فهرعت إلى جانب جونغكوك ونظرت للرجل الذي كان أو ما يفعل لكن جونغكوك كان
ً ً
يرتدي معطفا داكنا من الكاكي في منتصف الصيف .كان شعره الرمادي أشعث وكثيف ومتسخ ،ولحيته
الرثة ملطخة بحساء الرامين .كانت تفوح منه رائحة الكحول وكان يلتهم النودلز خاصتي بجشع .لم يكن
ً ُ ً
غاضبا .بصراحة، مغزى من سؤاله عن هويته أو سبب أكله للنودلز خاصتي .تفاجأت لكني لم أكن هناك
ً ُ
كنت خائفا.
شخص من مجموعة مسببي المشاكل الخارجين من متجر البقالة بدفع ٌ في تلك اللحظة ،قام
ٌ ُ
شخص آخر يتعثر .فقد الرجل ذو المعطف الطويل توازنه ودفع الطاولة عند سقوطه كتف الرجل وجعله
ً
أرضا .انقلب كوب النودلز الخاص بجونغكوك وانسكب الحساء على ساقيه فوثب جونغكوك على قدميه
ً
وأبعده عن بنطاله بعجالة قائال إنه بخير وأن الحساء لم يحرقه لكونه برد بالفعل.
ّ
غادر األشقياء ضاحكين بينما حدق الرجل ذو معطف الكاكي بالكوب المقلوب وكانت أصابعه
على الطاولة مغطاة بالنودلز .لم استطع سؤاله إن كان بخير" .أليس عليكم االعتذار؟ لقد سببتم هذه
ٌ ُ
الفوضى" صرخت بالرجال الذين نظروا للخلف" .ال لم نفعل ،هو من فعل ذلك .ولم يجبركم أحد على
ٌ
الجلوس هنا .أوغاد صغار في الخارج في هذه الساعة" شتم الرجال بفظاظة ونظر الرجل ذو المعطف إلي
والتقت عيوننا في الفراغ.
~~99
تفقدت هاتفي ،كانت الساعة الرابعة وخمسون دقيقة ًّ
فجرا "لنعد أدراجنا!" صرخت بجونغكوك.
ً ُ ً ُ
مما يعني أننا امتلكنا بعض الوقت لنضيعه قبل مجيء أول حافلة .نظرت حولي ووجدت تال منخفضا وراء
المقاطعة الترفيهية" .هل سبق أن رأيت شروق الشمس؟"
ُ
سندت جونغكوك بينما صعدنا التل وانحنيت أسفل الدرج في نهاية منحدر خفيفُ .يقال أن
ً ً
صحيحا .لم يكن هناك أثر للنجوم في السماء تكون في أكثر حاالتها ظلمة قبل الشروق مباشرة وكان ذلك
السماء السوداء الحالكة لكن إشارات النيون بمختلف األشكال واأللوان كانت تشع بأضواء براقة في المدينة
ُ
نظرت باتجاه الشمال ّ
وخمنت أن ذلك هو الحي الذي تسكنه والدتي .هناك ،ال بد من أنه هو .ال بد تحتنا.
من أنها تأكل وتنام وتنظف في تلك الشقة.
ُ ّ
"جونغكوك ،تبعت والدتي حينها" حدق بي جونغكوك لكنني ركزت على الضوء المنبعث من
نوافذ الشقق السكنية .في ذلك الوقت ،في تلك الليلة ،في تلك الليلة قبل ١3سنوات عندما غادرت
ضربا ً
مبرحا وبكينا حتى غفونا. والدتي المنزل .تلك الليلة التي قام بها والدي بضربنا أنا ووالدتي وشقيقتي ً
ً
لم أذكر سبب ضربه الشديد لنا لكنني أذكر بالتحديد التفكير بأن علي الذهاب للسباحة مع رفاقي غدا
ً ً
واعتقادي أن والدتي لن تكون قادرة على حزم غدائي من أجلي .هل ستشفى شفتي المجروحة غدا؟ ألنهم
سيسخرون مني لو لم تفعل .كان كتفاي يؤلمانني .لم يتوجب علي محاولة تفادي لكماته .كانت شقيقتي
ً
تنتحب بهدوء وكان سماع هذا مقلقا أكثر اليوم.
ً ً ُ
بينما كنت نصف نائم ،الحظت والدتي واقفة عند قدمينا ناظرة إلينا .كانت ستغادر ،كانت
ُ فورا .تظاهرت بكوني ً ستهجرنا ،عرفت هذا ً
نائما ثم نهضت وتبعتها .لم أملك أي خطة .لم أفكر بالعيش
معها ولم أشعر بالحزن أو الخوف .ما هو شعور عدم امتالك أم؟ وكيف ستكون الحياة من دون واحدة-لم
أمرا يمكن فهمه وحسب. يكن هذا ً
ً ُ
مشيت طول الليل لكن ال بد من أن ذاكرتي مبالغ بها ً
نظرا لكوني طفال تبعتها لمدة .في ذاكرتي،
ً ً
صغيرا آنذاك .لم تنظر خلفها وال حتى لمرة واحدة .أكانت تجهل حقا حقيقة لحاقي بها؟ أو ربما كانت
ُ ً
تبذل جهدها لتبقي عينيها لألمام خوفا من أن تجبر على أخذي معها لو نظرت للخلف" .بالطبع راودتني
ُ ً
هذه الفكرة الحقا ،عندما عانيت ألفهمها .أما اآلن؟ ال أعرف سبب قطعي كل هذه المسافة"
ّ ُ ُ
"أنت" نظرت لألعلى بسبب صوت جونغكوك" .أنا آسف" حدقت به" .ما الذي أنت آسف
بشأنه؟ لماذا تتأسف؟" "لم تستطع الذهاب لوالدتك بسببي" أجابني جونغكوك.
غضبا .لم أتعمد فقدان سيطرتي على أعصابي لكن صوتي ارتفع ً
ً ُ
رغما "هل أنت أحمق؟" انفجرت
ُ
عني واستمر لساني بالتلعثم لكوني لم أجد الكالم ولم أعرف كيفية التعبير عن مشاعري" .لماذا تشعر
باألسف؟ يجب أن يتأسف الناس منك .ما الخطأ الذي ارتكبته؟ أنا يجب أن أتأسف لجلبك إلى هنا .يجب
أن يتأسف والداي اللذان جعالني أجلبك إلى هنا ،يجب أن يتأسف اولئك الشبان الذين افتعلوا الشجار
ُ ً
معنا أوال" واصلت رفع صوتي" .أنت شخص جيد ،أنت شخص جيد بقدر استطاعتك .الذنب ليس ذنبك،
الذنب ليس ذنبك!"
السماء التي بدا بأنها ستبقى سوداء قاتمة لألبد ،بدأت تتحول إلى اللون األزرق بغمضة عين.
امتص النور الذي تخلل إلى السماء من األفق البعيد لمعان إشارات النيون وشاهدنا شروق الشمس بصمت.
ً
ارتفعت الشمس الحمراء الساخنة فوق مجمع الشقق السكنية .هل تشاهد والدتي الشروق أيضا؟
جلس كالنا بجانب بعض في الجزء الخلفي من الحافلة في طريق عودتنا إلى المنزل قبل بزوغ
ً ُ ً
الفجر فوقنا .كان الطريق فارغا وتابعت الحافلة السير .أدرت رأسي ونظرت باتجاه الشمال مجددا .في تلك
الليلة ،توقفت والدتي ،وقفت مكانها بدون أن تتحرك لفترة من الزمن لكنها لم تنظر للخلف كذلك .لو
~~100
ّ ُ ُ ُ
التمسك بها وسؤالها إلى أين تذهب ،أين كانت تتجه كنت تابعت السير حينها لوصلت إليها .الستطعت
ً
تاركة إيانا ومتى كانت ستعود .كان يمكن أن أبكي وأصاب بنوبة غضب وربما أعيدها إلى المنزل .لكنني
ُ ُ
استدرت وعدت إلى المنزل .كان جسدي بأكمله يؤلمني ولم استطع مرافقة اآلخرين للسباحة .استلقيت
ً ً
أرضا وأنا أتعرق وأحاول النوم جاهال للسبب.
ً ُ ُ ً
"إنه ذلك الرجل مجددا" بعد سماعي لصوت جونغكوك ،نظرت خارج النافذة ورأيت رجال
ً ُ
طأطأ الرأس بينما يمشي وحيدا.بمعطف طويل من الكاكي م ِ
~~101
االجتاه حيث
تشرق الشمس
~~102
هوسوك
الخامس والعشرون من يوليو العام الثاني والعشرون
أعرف يونغي منذ المدرسة المتوسطة ،أعرف كيف ت وفيت والدته وكيف أثرت وفاتها عليه،
ُ ً
ومعاناته منذ ذاك الحين ،حاولت أن أقدم العزاء له وأصبح صديقا ُيعتمد عليه ،ضحكت على كلماته
ً ّ
جميعا غير ذي أهمية بالنسبة الجارحة لي وكنت أصطحبه للتسكع رغم اعتقاده بأني شخص مزعج ،كنا
ّ
استثناء .بكل تأكيد ال ُبد بأنه يعلم ما الذي كان يعنيهً له لذا اعتقدنا بأن جونغكوك على األقل سيكون
يأت للمشفى بالنسبة لجونغكوك ،وبال شك قد سمع عن حادث جونغكوك بالفعل من جيمين ،لكنه لم ِ
واألسوأ من ذلك هو ادعاء امرأة بأنها شريكته في الموسيقى ،ظهرت من العدم قبل عدة أيام وأخبرتني بأنها
وجدتني بعد أن سألت الجميع عني .قائلة بأنها لم تكن قادرة على االتصال به.
قطعت منطقة العبور ُّ ُ ً ّ
أجر نفسي ،تلفت تبدلت إشارة المرور للون األخضر معلنة بدء السير،
ّ
للوراء بينما كنت أحث الخطى ،حاولت أال ألتفت لكن لم أستطع كبح ذلك .استلقى يونغي في الشارع أمام
مقطبا جبينه عندما تجاوزه" .متى ستنفك عن فعل هذا؟" ً سيارة تبيع اإلكسسوارات ،صرخ البائع عليه
فحدق بي بوجه يخلو من أي تعبير " .أتظن بأنك الوحيد الذي يعاني من أوقات عصيبة؟ أتظن بأن
االبتسامة التي أضعها على وجهي أمام اآلخرين ألن حياتي وردية ومشرقة؟ أخبرني ،ما الشيء الذي
ّ
طواعية رغم سوء سلوكك ً تحملوك ّ ُيزعجك؟ الجميع على علم بمدى براعتك في الموسيقى ،كلهم
َ ّ
تجاههم .نعم ،ال ُبد بأنك قاسيت األمرين منذ وفاة والدتك .أعلم ذلك لكن ال يمكنك أن تستمر هكذا
ً
لألبد ،ألن تؤلف الموسيقى؟ أيسعك العيش بدونها؟ ألم يسبق لك أن كنت سعيدا بسببها ولو لمرة واحدة؟
ً
جميعا؟ أال لماذا لم تذهب لزيارة جونغكوك؟ أال تعلم ما الذي تعنيه بالنسبة له؟ أال تستطيع رؤيتنا نتألم
ترى ذلك؟"
ً
مستاء ألنني أسير ته خطأه ،كنت َ ً
لم أتعمد دفعه بقوة لكني كنت مستاء للغاية ،األمر ليس برم ِ
ٌ ُ ّ
العكازات ،اإلصابات ال مفر منها لكنه ا مصيرية بالنسبة للراقصين ،خلت بأني متيقظ لكن اإلصابة بمساعدة
ً
حدثت في لحظة غير متوقعة ،إنه خطأي ،ال يمكن إلقاء اللوم على أحد سواي .علمت بأني سأكون قلقا
ً ً
مكتئبا وبخالفه سأصاب مرة أخرى ومدركا إلصابة كاحلي في كل مرة أرقص فيها لكن هذا الوضع جعلني
~~103
ً
مجددا! لم أتمكن من العيش بدون الرقص ،تحتم ّ
علي مواصلة الرقص رغم وكأن هذا نفعني كي ال أصاب
االكتئاب واإلصابة.
ً ً
"حان وقت التوقف عن الهرب ،لو أردت الهرب مجددا ،ال تعد أبدا" قلت ذلك ثم استدرت
وعبرت الشارع" .هوسوك" ظننت بأني سمعته يناديني لكن لم ألتفت لهً .
دائما ألوم نفسي على كل شيء
ّ
وتحمل ذاك ،ال أود العيش هكذا بعد اآلن. سار على نحو خاطئ ،اعتقدت ً
دائما بأن ّ
علي فعل هذا
~~104
يونغي
الخامس والعشرون من يوليو العام الثاني والعشرون
ً ُ
تلقائيا عندما فتحت عيناي في منتصف الليل .كانت السماء تمطر .اندلعت الشتائم من فمي
ُ ً ً ُ ُ
نهضت من األرض .جلست ساكنا لمدة وكان جسدي مبلال بشدة بالمطر وشعرت باالرتجاف والبرد في
جسدي بأسره.
ُ ً ً
"لو أردت الهرب مجددا ،ال تعد أبدا" تردد صوت هوسوك في أذناي .كل ما استطعت تذكره عند
مغادرتي لمشفى جونغكوك هو استمراري بالترنح ،االرتطام باألشياء ،والسقوط تحت سيطرة ثمالتي،
صداعي ،خوفي ويأسي حتى أنني لم أدرك كم من الوقت قد مضى وأين كنت .حينها صادفت هوسوك
ُ ُ
وفي تلك اللحظة شعرت باختناق نصفه من الفرح والنصف اآلخر من االرتياح .ولسبب ما آمنت بأنه
سيقدر على فهم حيرتي وخوفي مع أني لم أفهم نفسي.
ً
لكن هوسوك أشاح بنظره بعيدا وتظاهر بعدم رؤيته لي .سرعان ما تغيرت اإلشارة ووقفت مكاني
ُ ً ً
أشاهده يمشي بعيدا .دفعني أحدهم وسقطت أرضا ثم سمعت الناس يصرخون بي وينقرونني بألسنتهم.
"لماذا لم تذهب لرؤية جونغكوك؟ أال تعرف كم تعني بالنسبة له؟" بالطبع علمت وربما كان هذا
ً
مشو ًها وشائكا وحتم على كل من اقترب مني أن يصاب باألذى.
ّ ُ
سبب عدم قدرتي على دخول غرفته .كنت
ُ ُ
رفعت رأسي ونظرت إلى طريق الجبل الكئيب .كان هناك اتجاهان حيث استطعت السير إما باتجاه أعماق
ُ ً
بدأت السير تجاه الغابة المظلمة. الجبل أو االستدارة والعودة نزوال.
لطالما اعتمدت على الحظ في تفرعات الطرق .لم أملك وجهة وفقدت إحساسي بالوقت .حينما
ُ
كنت أسير في دوائر ،شعرت بأن ركبتاي على وشك االنهيار في أي لحظة بسبب البرد القارس واإلعياء.
ً ً ُ
مقدرا التقطت أنفاسي بصعوبة وكان قلبي يخفق بشدة .ماذا لو انهرت هنا ولقيت حتفي؟ حسنا ،لو كان
ُ ً
أرضا. لي أن أموت هنا فسأموت وحسب .وقعت
سقطت قطرات المطر على وجهي وبدا الظالم نفسه في حال فتحت عيناي أو أغمضتهما .غرقت
ُ
طبقات من الظالم وفكرت بالموت مر ًارا وتكر ًارا بغية بالهرب من المخاوف والرغبات التي استمرت ٍ في
بمطاردتي.
ً ُ
أردت الهرب بعيدا عن ذلك الشيء المرعب الذي انجذبت إليه ضد إرادتي ولكني لم أستطع النظر
ً
حد إلى آخر ،ال بد من أن الوقت قد حان ،هذا كان الحل األمثل.
إليه مباشرة .ذلك األلم الذي دفع بي من ٍ
ُ ُ
سببت األلم لآلخرين بينما عانيت من ألم أكبر ،أشحت بنظري عن جروحهم ألني لم أرغب بتحمل
ُ
المسؤولية ،لم أرغب بالتورط معهم ،هذا هو الشخص الذي كنت عليه .ال بد من أن هذه اللحظة نعمة
ُ وغبت عن الوعي .اختفى ٌ ُ ُ
كل من األلم والبرد واإلعياء وفقدت شعوري بالظالم للجميع .رمشت ببطء
ً
معتما. شيء والضوء وما يحيط بي .بات كل
ٍ
مجددا عند سماعي لصوت بيانوّ . ً ُ
خيم الصمت باستثناء صوت هطول قطرات فتحت عيناي
ّ ُ
أصوات البيانو الهشة والرقيقة التدفق تجاهي. المطر وحفيف أوراق الشجر وفي وسط الهدوء ،واصلت
أحدهم يعزف على البيانو في عمق الجبل في منتصف الليل؟ خلتها هلوسة لكن العزف استمر.
~~105
ُّ ً ُ ُ
ابتسمت بتكلف ،كان ذلك اللحن ،اللحن الذي حاولت جاهدا تذكره .ذلك الشيء األساسي الذي
ُ ً
كان مفقودا ،الذي جعلني أسهر طوال الليالي .لماذا كان يعود إلي في هذه اللحظة بالذات؟ ركزت بقوة
ً
أكثر لكن اللحن ما زال بعيدا وبالكاد ُيسمع ويقاطعه صوت المطر ،بدأت أسعل.
ُ ُ
حاولت الوقوف لكني توقفت .ما الذي سأفعله اآلن حتى لو استطعت تمييز اللحن؟ ما الذي
َ ُ
سيتغير حتى لو أنهيت الموسيقى خاصتي؟ لم أرد أن يعترف بي اآلخرون وال أن أتلق التصفيق أو أن أغدو
ً َ ً ً
أسع أبدا إلثبات نفسي ،إذا ما الذي سيعنيه إكمال هذه المقطوعة؟ مشهورا .لم
ُ ُ
بيد واحدة وبدأت السير باتجاه مصدر الصوت .ترنحت وارتجف دفعت بنفسي من على األرض ٍ
َ
جسدي ،وجهي ويداي أصابهم الخدر ولم أستطع اإلحساس بساقي .لم يكن أي من جسدي تحت سيطرتي
أخذت خطوات حازمة ،واحدة تلو األخرى اقتر ًابا من اللحن. ُ
لكني
ً ٌ ْ
مغمورا بالكامل .بدا على كل مفصل وعضلة ضربت رأسي قطرات ثقيلة من المطر وكان قميصي
الصراخ وارتجفت ساقاي بعنف شديد لدرجة ردعتني من رفع قدماي عن األرض .انزلقت قدماي على
ُ ُ
العشب المبتل والمست األغصان الشائكة كتفي .شعرت بالبرد حتى النخاع وكدت أنهار .تباطأت خطواتي
وباتت أقصر.
ُ
لحن البيانو الذي كان يبتعد مع كل خطوة خطوتها .سارعت بخطاي بشدة ألجد مصدر الموسيقى
ً
مجددا. قبل توقفها .ألنها لو توقفت ،قد ال أستطيع سماعها
ُ سرت لألمام بدون أن ّ ُ
أفرق بين طريق المشي والغابة .ضربت باألغصان المتدلية وانهارت ركبتاي
ُ ُ ً ُ
وسقطت أرضا .كنت ألهث لدرجة أني أردت أن أتقيء .عادت جل أحاسيسي وشعرت بالبرد واإلعياء
ُ ُ
وبمحيطي الغريب في أعماق الجبل بوضوح .بينما أسرعت بخطاي أكثر وأكثر ،وضربت المزيد من
ُ ً ّ
وضوحا .كلما اشتد األلم ،بات صوت البيانو األغصان ،وزادت شدة انزالق قدماي ،غدا صوت البيانو أكثر
أعلى.
توقفت ً
أخيرا عن المشي بعد التجول تحت المطر لساعات .عاد اللحن إلى الحياة بوضوح أ كثر.
ُ ُ ً
مندمجا مع ما قمت بتأليفه إلى عدة أيام مضت .غطيت رأسي بكال ذراعاي وسقطت. انفجر في رأسي
عوضا عن حاستي للسمع. ً
كان أقرب للمشاعر الخام من الموسيقى .قام بتحفيز إحساسي باأللم
ً ً
جاهدا التهرب منه. مزيجا من المعاناة واألمل ،الفرح والخوف .كان كل شيء حاولت كان
ُ ً
فجأة ظهر مشهد مساء مشمس بإشراق أمام عيناي .كنت أعزف نغمة أمام البيانو في ورشة عملي،
ً
كان ذلك اللحن الذي استمر بالدوران في ذهني" .هذا جميل جدا" اقترب مني جونغكوك وضحكت "أنت
تقول هذا ً
دوما"
ُ ً ً
لم يكن لحنا واحدا بل مجموعة من مختلف الذكريات منذ األيام التي كنت أضرب فيها مفاتيح
ً ً
البيانو عبثا في طفولتي ،من األيام التي رقص بها أصدقائي تزامنا مع عزفي في الصف الذي تحول إلى غرفة
ُ
استنشقت نسيم الصباح المنعش. ُ
تخزين ،من األيام التي سهرت بها طول الليل أكتب المقطوعات حتى
كان البيانو خاصتي بقربي في كل لحظة سعيدة ،تلك اللحظات السعيدة التي تحطمت إلى أشالء ومع
ذلك لم أستطع نكرانها.
ً ُ
جوابا لكن هناك شيء أكثر أهمية من ما الذي قد يعنيه إكمال هذه المقطوعة؟ ما زلت لم أجد
كل من السؤال والجواب .أردت أسر كل هذا قبل أن يتناثر في الهواء .لم يكن إلرضاء أحد أو إلثبات شيء
ما ،ولم يكن لنفسي حتى .أردت فقط أسر الشعور واأللم والخوف الذي كان على وشك االنفجار في رأسي
وقلبي مع الموسيقى.
~~106
مسموعا بعد ذلك وخف المطر تدر ً ً ُ
يجيا لكن جسدي كان يرتعش دون لم يكن صوت البيانو
سيطرة .أغمضت عينياي وشعرت بكل ما يحيط بي بوضوح أكثر .قطرات المطر التي سقطت على وجنتاي
ً
أرضا ثم تدفقت في مجراها ،والرياح الباردة ،رائحة التربة ،حفيف األوراق وتنفسي. وتناثرت
ُ ُ ُ ُ
عندما نهضت ،رأيت إشارة ينبوع المياه المعدنية .خلت بأني تجولت في أعماق الجبل لكني عدت
ُ ً
إلى حيث بدأت وكان الطريق أمامي ممتدا باتجاهين معاكسين فدرت بخطاي نحو االتجاه الذي تشرق منه
الشمس.
~~107
جيمين
الثامن والعشرون من يوليو العام الثاني والعشرون
ُ
تفقدت مطعم تو ستار برغر لكن لم يرى أي شخص هوسوك .لقد مضت أربعة أيام منذ ظهوره
ً
بغرفة التدريب ،أخبرني أحدهم أنه أعلم صديقته بنيله قسطا من الراحة لكن بعد ذلك لم ُيجب على
اتصال أي شخص.
ُ
كما لم يقرأ الرسائل المرسلة على دردشة مجموعة "ارقص فحسب"
ُ
علمت أن كاحله كان يؤلمه ،ربما كان ذلك حينذاك ،في الليلة التي أصيبت فيها شريكتي في الرقص
بسببي.
هطل المطر يومئذ ورغم ذلك حملها على ظهره إلى المشفى تحت المطر لذا ال بد أن حالته ازدادت ً
سوءا.
ُ
حالما دخلت إلى المطعم ،استقبلني الموظفين ببهجة فسألتهم" :هل هوسوك بعطلة اليوم؟"
حينها أخبروني أنه في إجازة مرضية ربما لثالثة أسابيع ،لكنهم لم يكونوا واثقين من ذلك .كاحله ازداد ً
سوءا
كما اضطر الرتداء طقم العمل ،فأوصاه المدير بالراحة لبعض الوقت.
ُ
فهرعت على طريق المنحدر. ُ
ركضت مباشرة صوب منزله ،لم أستطع التريث حتى مجيء الحافلة
ُ ً ُ كان الطقس ً
يتصبب عرقا لذا جففت مالبسي عند غرفته بالسطح .بدا مقبض الباب حارا آنذاك وظهري
ُ ً
الموصد ُمحترقا إثر أشعة الشمس فتركت رسالة في الدردشة الجماعية "هوسوك ،أين أنت؟" وبحلول
نهاية اليوم ،لم يكن قد أجاب بعد!
~~108
يونغي
الثامن والعشرون من يوليو العام الثاني والعشرون
كام شديد طيلة وأخيرا من االستيقاظ وقت الظهيرة .فبعد عودتي من الجبل ،أصابني ز ٌ ً تمكنت
ّ
يومين كاملين ،وال يسعني تذكر أي شيء حدث خاللهما .ارتعدت أطراف جسدي وارتجفت بسبب الحمى
كنت أستعيد وعيي لكن سرعان ما أعود لوضعي السابق مرة أخرى. ُ
التي ألمت بي ،في بعض األحيان
ً ً ً
عظيما مالءتي كانت تنضح بالعرق والشعور بالدوار ال يفارقني .خرجت من ورشة عملي باذال جهدا
حشوت فمي بالطعام، ّ للحفاظ على تماسكي ،وبعدها توجهت للمشفى للحصول على حقنة وريدية ثم
ّ ً
لكنه لم يلبث طويال حتى استفرغته كله .قرأت رسالة جيمين عند ذهابي لدورة المياه كي أغسل فمي،
وعلى الرغم من زيادة عدد من قرأها ال توجد أي ردود عليها.
ً ُ
مبنى سرت على طول طريق سكة الحديد إلى أن بلغت موقف الحافالت .تواجد في ذلك الموقع
قابع في أعلى التل ،بعد تجاوزي غير تام البناء بسبب توقف أعمال بناءه ألشهر عدة .متجر الموسيقى ٌ
ُ ّ ُ
أخرق بطيء. ٍ عرجت عليه ووقفت قبالته .ال يوجد فيه أي صوت لفرقعة أو صوت لعزف بيانو لموقع البناء
ماض لم تكن ّ
لدي الطاقة الكافية لالنحناء والتقاط حجر ورميه على واجهة المتجر .األمر برمته بدا وكأنه
ٍ
قادرا على رؤية البيانو من خالل واجهة بعيد ،مما دفعني للتساؤل عن احتمالية حدوثه من عدمها .كنت ً
المتجر.
ً
جميعا؟ أال ترى ذلك؟" ،هذا ما قاله هوسوك لي في ذلك اليوم .ذكريات "أال تستطيع رؤيتنا نتألم
ً
هذا اليوم عالقة في ذهني ال تبارحه .أستطيع التذكر بال ريب بأن هوسوك كان مختلفا على نحو ما .هذه
علي لكن لم يسبق له أن كان بنفس هذه الحال من االنهيار .فهو يقوم ً
غاضبا ّ ليست أول مرة يكون فيها
دائما بدفعي وسحبي وتشجيعي عندما أكون على وشك السقوط ،لماذا هذه المرة كانت مختلفة؟ ً
~~109
نامجون
السابع من أغسطس العام الثاني والعشرون
ُ
أضأت المصابيح ونظرت للمنشور المعلق على باب قاطرتي .كتب عليها "إعادة البناء" و "الهدم".
ً
البد أن الناس يتحدثون عن إعادة بناء هذه المنطقة مجددا .دائما ما يتم الثرثرة بشأن إزالة القاطرات
المصطفة على طول طريق السكك الحديدية والمباني العشوائية المتواجدة على جانب منهم .سحقت
المنشور ورميته في سلة المهمالت .أحاديث إعادة البناء ليست وليدة اليوم ،لكن دائما ما يتم ذكرها وكأن
الهدم سيحدث بالغد ،ثم يخمد الموضوع لفترة وجيزة.
وضعت حقيبتي واستلقيت على األرض .مضت مدة منذ غروب الشمس ،لكن القاطرة ما زلت
ساخنة من الداخل .قضيت جميع الليالي هنا بعد زيارتي لجونغكوك .شعرت باإلرهاق .فأنفي ينزف من
ً ُ
وقت آلخر حين أغسل وجهي ،لكن دائما ينتهي بي المطاف هنا بدال من الغرفة الصغيرة خلف محطة
الوقود.
ً
أبدا .جميع من يلتقوا عليهم االفتراق بال استثناء. لم يعبر أحد آخر من الباب ،ربما لن يحدث هذا
ُ ً
البد أن وقتنا قد حان .لكن ،إن شعر أحدنا بحاجة لتجمعنا مجددا ،أردت ارسال إشارة له أنني هنا .أردت
منه رؤية أن "مخبأنا" مازال ُهنا ومازال ُمضاء.
~~110
تايهيونغ
الحادي عشر من أغسطس العام الثاني والعشرين
ً
خرجت من المتجر بعد إنهاء مناوبتي متفقدا هاتفي كالعادة لكن لم أجد أي مكالمات فائتة أو
رسائل ،كانت الشمس تغرب ،ازدحم الشارع بالناس المنهمكين بالمشي ،وضعت كلتا يدي في جيبي
ً
ومضيت ،اجتاح الهواء الخانق الطريق مخترقا إياه ،بدأت بالتعرق بعد قليل من الخطوات ،كم سيدوم هذا
ُ ً
حبطا. الصيف؟ ركلت األرض م
ُ
واصلت السير مطأطأ الرأس ،توقفت أمام مشهد الجدار المألوف ،كان الحائط حيث رسمت الفتاة
ً
تلقائيا .لم أرها في حيي منذ الليلة التي تركتها في الزقاق وخرجت أمام أول رسوماتها ،بحثت في األرجاء
أضواء مصابيح سيارة الدورية بنفسي.
عندما حاولت اقتفاء آثارها اكتشفت عالمة Xكبيرة ُرش فوق رسوماتها ،ماذا تقصد!؟ صور
متعددة ومتداخلة فوق الجدارية ،صورة لها تضحك علي عندما حاولت االستلقاء على سكة الحديد
ُ
وضربت رأسي وكيف جعلتني أتوازن على قدمي عندما وقعت أثناء مساعدتها على الهرب .كيف فقدت
ُ ُ
صوابها عندما سلبت خبزها وتناولته وكيف بدت كئيبة في كل مرة تمر بها بالصور العائلية المعروضة في
معرض الصور ،حدث وأخبرتها أثناء رشنا للجدار بجانب بعضنا "ال تخالي أن عليك حمل العبء وحدك،
شاركيه مع اآلخرين" عالمة Xالضخم كانت مرشوشة على كل هذه الذكريات ،بدا كأن الجدار يصرخ بكونها
ً
مزيفة ،ومحض كذبات ،حقيقة لم أنظر قط إلى ذلك الجدار منذ ذلك اليوم
أوشكت االلتفاف عندما اكتشفت عبارة قصيرة بأحرف صغيرة تحت عالمة الـ Xإنه ليس خطأك،
منقوشة في الحائط ،كانت تلك الفتاة ،لم أرها تكتبها وأجهل خط يدها ،لكني فقط علمت "أنه ليس
خطأك" تعود لتلك الفتاة.
ً ً ً
ومغمورا مهتاجا استحضرت اليوم الذي انطلقت فيه بشكل أعمى بحثا عن والدتي ،تابعت السير
باستياء عارم .لكن في النهاية لم أستطع الوصول إلى أي مكان يومها .وبينما أنا عائد للمنزل خال الوفاض
ً
أدرت رأسي باتجاه المدينة أين تقطن ،بزوغ فجر اليوم بدا كأنه يحسر المدينة بعيدا ،شعرت برغبة في
البكاء ،أمسكت نفسي بحزم لكن شيء انزلق خالل أصابعي ،كتل من المشاعر الصعبة تتفكك بسكون،
ً
شيئا لم يجدر بي تقديمه. أحسست بالحزن والحسرة ،كأنني قدمت
ً
"إنه ليس خطأك" هذه الجملة ذكرتني بشعوري وقتها ،بدأت السير مجددا خالل األزقة الضيقة
ً
ونزوال منحدرات ال تعد وال تحصىً ، ً
أخيرا منزلي ،قصر ماجنوليا الح أمام ناظري. صعودا
صعدت الدرج ،عندما وقفت مقابل الباب استطعت سماع تنفس والدي ال ثقيل ،وتهشم زجاجات
ناظ ًرا للخارج. الخمر ،التفت وأسندت يداي ّ
على الدرابزين ِ
الشمس غربت بالفعل ،واللون األحمر الخافت يختفي من السماء المظلمة ،تمتمت "إنه ليس
ً ً خطأك" ،أخذت ً
مستديرا صوب المنزل ودخلته. نفسا عميقا
~~111
هوسوك
الثاني عشر من اغسطس العام الثاني والعشرون
َ ّ
دفع أحدهم كتفي حالما ترجلت من القطار فأوقعت التذكرة التي بيديَ .سقطت على السكة
الحديدية ثم انزلقت داخل إحدى التصدعات .حدقت باألنحاء ،فرأيت بأنه ما زال منتصف الصيف .عندما
لمحطته التالية ً
مثيرا الرياح خلفه. ِ غادرت ،كان ال يزال فصل الصيف في بدايته .غادر القطار
ُ
رحلت عن سونغجو في نهاية الشهر المنصرم ومن رصيف هذه المحطة استقللت القطار ورأيت
ً
بعيدا عن النافذة .ترعرعت في سونغجو ،لم أغادر المدينة ً
يوما ولم أتوقع العيش في مكان المدينة تنحسر
ّ
آخر سواها .ذهبت إلى مطعم البرغر وغرفة التدريب حسب الجدول اليومي .وبعد الرقص لساعات ،عدت
ُ ٌ ّ
للمنزل وغططت في نوم عميق لفرط تعبي .سونغجو مدينة صغيرة لكن فيها مكان احتجت للذهاب إليه،
أنا في حاجة للذهاب إليه.
ُ
بعد إصابة كاحلي انهار نظام يومي .ارتديت ضمادة باردة في العمل وغرفة التدريب ،وبعد أن
ٌ ساءت الحالة أكثر ،اضطررت إلى وضع جبيرة ولهذا السبب كان ّ
علي أخذ إجازة مرضية .متفرغ لثالثة
أسابيع كاملة ،ثالثة أسابيع بال عمل ،بال رقص ،وبال أي مكان للذهاب إليه.
ّ
المطر الذي انهمر طوال الليل توقف بحلول الفجر .نظفت المنزل ور ّتبت ثيابي ثم حصلت على
تسريحة شعر جديدة وجففت ماء المطر من على المقعد الذي أمام منزلي .عند حلول الظهيرة أنهيت
جميع األشياء التي ّ
علي القيام بها .لم يرن هاتفي ،والرسائل الوحيدة التي تلقيتها كانت من شركائي في
العمل وأعضاء مجموعة "لنرقص فحسب" .لم تردني أي مكالمة أو رسالة من اآلخرين .وبالتفكير في األمر،
ً ً ً الشخص الذي ً
جانبا ،ال رغبة لي بالتواصل معهم أوال دائما ما يتواصل معهم أوال هو أنا .وضعت هاتفي
هذه المرة .ماذا لو لم يبعث أحدهم أي رسالة؟ ليكن ذلك .ثم تذكرت الطريقة التي صادفت بها يونغي في
قدمي وصرخت في الهواء ّ الليلة الماضية واألشياء التي أفصحت عنها ظلت تتردد في رأسي .وثبت على
"لن يتذكر على أية حال!" .
درب العودة للمنزل بدا أبعد من ذي قبل بعد تركي ليونغي هناك .حري بي أن أترجل المنحدر
ً ً ً
ورطبا ،وفور بلوغي للمنزل كنت غارقا بالعرق .لم بالعكازات .رغم غروب الشمس إال أن الهواء كان خانقا
أندم على أي شيء قلته ليونغي ،فلقد حان الوقت كي يكف عن االنغماس بالشفقة على الذات ،لكن هذه
اللحظات وهذه الكلمات بالذات لم تنفك عن العودة لي.
على السطح بإمكاني رؤية المدينة بدوني ،القطار يشق طريقه وسط المدينة ويختفي قرب
الناصية أسفل الجبل .وضعت ثيابي بإهمال داخل الحقيبة وتوجهت لمحطة القطار .بحثت في قائمة
المدن الموضوعة أمام مكتب التذاكر واخترت أكبر مدينة بالقرب من هنا .خطر لي بأنه من األفضل ُ
االنتقال لمدينة كبيرة وبــهذه البساطة غادرت سونغجو.
ّترجلت من القطار بعد حوالي ساعتين وحالما خرجت من المحطة ،واجهني تقاطع طرق مزدحم
ّ ٌ
أناس يسيرون بهمة تحت الشمس المشرقة على مد البصر .ركبت أول وصفوف من ناطحات السحاب
حافلة وقفت أمامي.
~~112
الفتة مكتوب عليها "دار للضيافة" ثم خرجت وأنا أجهل وجهتي بالضبط .في أول يومين ،تجولت في
الحي على غير هدى .ال توجد فيه ناطحات سحاب أو مناطق تجارية تملؤها األضواء المشرقة .اخترت
ّ ُ
الرحيل عن سونغجو ألول مرة في حياتي لكي أصل لمدينة أخرى تشبهها ،ربما هذا هو السبب .حاولت أال
ً
واضعا أفكر بالمدينة واألشخاص الذين تركتهم خلفي ،لكني فقدت زمام األمور وأعدت تشغيل هاتفي
اآلخرين بالحسبان .قد أكون رحلت عن سونغجو لكن تفكيري ما يزال فيها.
في اليوم الثالث ،قررت أن أغامر إلى أبعد حد وعد أقل من عشرين دقيقة من مغادرتي للمتجر،
بدأ كتفاي بالتصلب بسبب وجود العكازات تحتهما ،وسال العرق على ظهري تحت أشعة الشمس الحارقة.
ُ
أصبح مبنى مصنوع من الطوب أمام ناظري ،إنه مبنى البلدية .بينما كنت أضغط على زر آلة البيع ،فتح
با ب قاعة االحتفاالت وخرج منها عدة أشخاص ،صوت أنغام الموسيقى تتدفق عبر الباب المفتوح ورأيت
ً ً
شخصا يقوم بتمارين التمدد بإحدى الزوايا وأضواء المسرح تضيء رأسهِ .س ّرت قاصدا القاعة قبل أن أدرك
ً ُ
ذلك حتى ،بعد أن أغلقت الباب خلفي ،تركت وحيدا في العتمة والموسيقى .جلست في أقرب مقعد .كان
المتالطمة .الرجل الذي على المسرح تحرك على مهله صوت الموسيقى يتدفق عبر دقائق الهواء كاألمواج ُ
تمدده الذي استمر برهة طويلة بدا وكأنه جزء من تصميم ّ
ومدد ساقيه ،كاحليه ،ذراعيه ،رقبته ثم كتفيهّ .
جالسا على األرض من مكانه ثم سار لمنتصف ً الرقصة ذاتها .ثم توقفت الموسيقى ونهض الرجل الذي كان
ً
كسيل
الموسيقى مجددا لكن هذه المرة ٍ المسرح ،ولفترة ،كان المسرح يلفه الصمت .بعد ذلك بدأ صوت
ً ً
جارف .تناغمت حركة الرجل مع أنغام الموسيقى سريعة تارة وبطيئة تارة أخرى .ذراعيه وساقيه لم تشكال
ً ً
خطوطا مستقيمة ومنحنيات فقط بل ابتدعت أشكاال ثالثية األبعاد .لحظة تقود لألخرى خالل حركته
َ
جانبا بيديه وأرسل صدى ً المفعمة بالحيوية وإيماءاته ،تحركاته كانت تخلق قصة ال نهاية لها .ن ّحى الهواء
عبر األرضية جعل األدرينالين يندفع بقوة ليس خالل عيناي فقط بل امتد تأثيره لعقلي.
انخفضت نغمة الموسيقى أكثر فأكثر مؤدية إلى فورة عظيمة في مشاعر الرجل ،دوى صوته ً
عاليا
ً
بغضب شديد بأقصى ما لديه من قوة ،ثم حبس أنفاسه وألقى نظرة ثاقبة على شيء بعيد جدا .معاناته،
عبر عنها على نحو سافر .أحاسيس لم أشعر بها من قبل تفجرت أمله ،ابتهاجه وخوفه ،كل هذه المشاعر ّ
واعيا كم فات من الوقت .أعيد تشغيل أنوار القاعة وعصفت بداخلي وفقدت اإلحساس بالزمن فلم أكن ً
شخص ما وطلب مني المغادرة ألن الراقصون كانوا يتدربون ٌ جالسا هناك دون أدنى حركة .اقترب ً وبقيت
ً ً
ولم يكن البقاء مسموحا للغرباء .ملصق عرض اكاديمية الرقص كان معلقا على باب مبنى البلدية لكن الرجل
ً
محددا في اليوم الذي بعد الغد. الذي يقف على المسرح لم يكن ضمنه .وقت العرض كان
ّ
عدت إلى دار الضيافة واستلقيت على المقعد الواسع الموضوع في الفناء الخلفي ،أغلقت عيناي
ً ثم فكرت في الساعات التي أمضيتها في القاعة .إنها المرة األولى التي أرى فيها ً
بشكل شخصي، ٍ أداء حقيقا
ً
مرعوبا كان تجربة مختلفة جذ ًريا عن الذي قد أراه خالل الشاشة الصغيرة المسماة "يوتيوب"ّ .ربما كنت
ومفعما بالحياة .أعدت في ذهني كل حركة وإيماءة جعلت نبض قلبي يتسارع .وفي هذه ً أكثر ألنه كان ً
قويا
اللحظة ّرن هاتفي الذي وضعته داخل جيبي" .هوسوك ،أين أنت؟" كانت رسالة من جيمين .عدد الذين
علي قوله؟ كنت ً
دائما أبرر يجيا لكن لم يرسل أي أحد رسالة بعده .ما الذي ّ قرأوا رسالته أخذ بالتزايد تدر ً
مازحا لكن لم أرغب بفعل ذلك هذه المرة .إنها المرة األولى التي ال أجيب فيها على رسالة ً نفسي نصف
ً
وجهت لي شخصيا ،ثم الذت مجموعة دردشتنا بالصمت.
في اليوم التالي ذهبت إلى القاعة في نفس الوقت .تواريت في الظالم وراقبت حركات الرجل ،لقد
عبر عن قصة مختلفة ومشاعر مختلفة .من هو؟ كيف باستطاعته التعبير ونقل كان العرض ذاته لكنه ّ
المشاعر بهذه الكيفية؟ انتهت البروفة ،وبينما قطعت عدة خطوات داخل الرواق التقت عيناي بعيني
~~113
الرجل أثناء حديثه مع أحد أعضاء الطاقم على بعد مسافة قصيرة مني ،انحنيت له بدون إدراك مني .اقترب
ً
مني أحد أفراد الطاقم قائال " أوه ،أنت الشاب ذاته الذي رأيته باألمس".
مكون من أربعة فصول لكنه لم يظهرأقيم األداء في اليوم التالي لكن الرجل لم يكن ضمنه .األداء ّ
فيه .استمر العرض ألكثر من ساعة وقد صفقت وصرخت عدة مرات من مقعدي ،هذا كل ما في األمر .لم
ً
أتمكن من أن أختبر ثانية اللحظة الغامرة التي شعرت فيها بغليان في قلبي وجمود بجميع أجزاء جسدي.
ً
وذهابا ال يمكن مقارنة أي شيء بحركاته المذهلة .لماذا لم ينظم لألداء؟ أخذت أذرع خشبة المسرح جيئة
لكن لم يتواجد هناك سوى أعضاء الطاقم والراقصين المشغولين بتوضيب األغراض .صادفت أعضاء
ُ ً
العرض مجددا في محطة القطار ،حينها كنت أحث خطاي داخل منصة القطار للمغادرة إلى مدينة أخرى
ّ
جليا بأنهم يواجهون المتاعب أثناء تحميلهم ُلعدة المسرح
ثم رأيت مجموعة من األشخاص متجمعين .كان ً
ُ
واألحجام المختلفة للمعدات على متن القطار .لم أبيت النية ألي شيء عندما بادرت لمساعدتهم ،لقد
ٌ
بدوا لي في حيرة من أمرهم وعديمي الخبرة وأنا معتاد على ترتيب ونقل األشياء ،أعاقت الجبيرة حركتي
ّ ُ ً ُ
لكني كنت أفضل من أكثرهم الذين كانوا واقفين باضطراب فحسب" .أنت ذلك الشاب مجددا" تلفت
فرأيت عضو الطاقم.
"لم أشكرك على نحو الئق حتى" قالها عضو الطاقم عندما أتى لمقعدي بعد فترة بسيطة من
جالسا على المقعد المجاور وهو يقول :نصف الطاقم رحلوا ألنً مغادرة القطار نحو وجهته القادمةّ .
خر
الحال مضطربة وقد أضاف بأنهم لوالي لما نجحوا باألمر .أشار على جبيرتي وسأل ما إن كان ما فعلته
حمل زائد على كاحلي ّ
فلوحت له بيدي ألطمئنه بأن كل شيء على ما يرام.
ً
محتارا "بالمناسبة ،الرجل الذي رأيته في البروفة ،لماذا لم يكن ضمن األداء؟" سألت هذا فبدا
ً ً ً
ألول وهلة ثم أومأ قائال "أها ،هو .إنه مخرجنا الفني" تفسير عضو الطاقم استمر طويال عن كيف كان راقصا
ً ً
المعا وعانى من إصابة مروعة ّ
كبدته سنوات من اليأس واإلحباط" .أتعلم ما الجزء األكثر إذهاال؟ لقد فاجأ
تأثيرا ً
دائما فلم يعد بإمكانه الرقص وتقديم أداء الجميع وعاد كمصمم رقص ومخرج" ،لكن اإلصابة تركت ً
ً
ثانية ،أطلق عضو الطاقم تنهيدة عميقة .أصبحت الظلمة حالكة خارج النافذة.
حصلت على فرصة االنضمام للعرض والقيام بجولة معهم عن طريق الصدفة ،فقد ساعدتهم في
إنزال حقائبهم في المحطة التالية وجرفت حقيبتي معهم.
ّ
لحسن الحظ معي رقم أحد أفراد الطاقمّ .ترجلت في المحطة التالية وعدت للمحطة التي نزلوا
متأخرا لذا تلقيت دعوة المبيت رفقة الطاقم .تناولت الفطورً عندها وتوجهت لحمولتهم ،كان الوقت
بصحبتهم في الصباح التالي وتبعتهم إلى منطقة المركز الثقافي الذي كان مكان إقامة عرضهم القادم.
عرض الطاقم في االنضمام إليهم والقيام بجولة رفقتهم ال بد بأنه كان على سبيل الدعابة وموافقتي
ً ً ً
أيضا كانت نصف مزحة .بدأ الرجل تدريبه فشاهدته مشدوها ثم سألتهم "هل بإمكاني حقا الذهاب
معكم؟"
ُ قمت بجولة معهم حول ثالث مدن .أخذنا حافلة أو قطار ،ونزلنا منهاّ ،
فرغنا أمتعتنا في ن ٍزل،
ُ ّ
حشونا أفواهنا بالطعام ،تحققنا من المسرح في الموقع الذي سيقام فيه العرض ،وعدنا إلى النزل وأخذنا
يوميا بغض النظر عن المكان الذي يكون فيه. حافلة أو قطار ثانية .كان الرجل يقوم بتمارين التمدد ويتدرب ً
يفوت ً
يوما رغم أنه ال يقدم ً
أداء على المسرح. لم ّ
أقمت عالقات صداقة مع أفراد الطاقم والراقصين ،كانت طريقتنا في الرقص مختلفتين لكن
اشتركنا في الشغف ذاته للتعبير ّ
عما نشعر به خالل حركاتنا ،تحدثنا عن الرقص على متن القطار وحينما
ّ
كنا في انتظار الحافلة ،أخبرنا بعضنا عن راقصينا المفضلين وشاهدنا فيديوهاتهم ً
سويا.
~~114
ُ ُ
وأخيرا ،سنحت لي فرصة التحدث إليه عندما كنت أ ّري أحد أفراد الطاقم مقطع فيديو لتدريب ً
ً واقفا هناك .وقفت ُم ً ً ً ّ
حدبا قليال جانبا فرأيته مجموعة "لنرقص فحسب"" ،هل أنت راقص؟" تلفت
ُ
وحدقت بالرجل ،كنت في حالة ضياع عن كيفية إجابة سؤاله .ترددت في االعتراف أمامه بكوني راقص
ً ً
مشيرا إلى الفيديو الذي كنت أظهر فيه .وهكذا سنحت لي فرصة التحدث معه أيضا" .أنت راقص" قالها
ً
"حسنا ،ألنه ..كما تعلم.. للمرة األولى" .لماذا تحب الرقص؟" تداخلت نهاية جملتي ببعضها بسبب توتري،
ُ
" ،سألني الرجل متى بدأت الرقص أول مرة فأخبرته أثناء عرض مواهب في مدرستنا عندما كنت في سن
ً
تلقائيا ،وثار حماسي أكثر تحت جروني للمسرح وبدأ جسدي بالتحرك الثانية عشرة .زمالئي في الصف ّ
مررا أصابعي وقع تصفيق وتشجيع الجمهور لم أستطع التفكير بأي شيء آخر ،تحركت بعفوية خالصة ُم ً
ً
خالل خصالت شعري المبتلة بالعرق .شعرت وكأنني ألقيت بكل العبء الذي كان ُيثقل صدري ،كان ُمنعشا
ْ ً ً
جزيا .لقد استغرقت وقتا طويال كي أدرك كم كان مط ِر ًبا الشعور الذي غمرني أثناء الرقص ولم يكن مصدره
وم ًُّ
تصفيق الجمهور بل شيء ما من أعماق وجداني.
أشار الرجل إلى الفيديو وقال بأنه أحب حركاتي "ليس كل الراقصين يستطيعون التحرك هكذا".
شاهدت نفسي في الفيديو وأعجبت بالطريقة التي أبدو بها حينما أرقص ،استطعت التحليق في الهواء
والتحرر من عيون ومعايير المجتمع .فقدت كل األشياء أهميتها عدا تحريك جسدي مع إيقاع الموسيقى
ً
ونقل جميع المشاعر عبر خاليا جسدي .خارج المسرح ،كنت مقيدا بالعديد من االعتبارات ولم أستطع
علي حتى عندمامحلقا في الهواء من غير أن ُتالمس قدماي االرض ،كان االبتسام والضحك لز ًاما ّ ً
البقاء
ً ً
أكون مستاء وحزينا ،كنت أفقد وعيي على الطريق وأتناول أدوية لست بحاجتها .كانت هناك لحظات
ً ُ
مكنتني من الكشف عن ذاتي الحقيقية ،لحظات أيقنت فيها بقدرتي على أن أكون سعيدا ،لحظات أستطيع
عاليا ،لحظات استطعت فيها بلوغ القمم ولم أكن ألفعلها خارجفيها التخلص من كل ما ُيثقلني والسمو ً
المسرح ،الرقص منحني كل هذه اللحظات.
تغلبت على إصابة خطيرة" فحدق ّ ّ
بي الرجل .علمت بأنني أتصرف بوقاحة لكن "سمعت بأنك
ّ ّ
لدي رغبة ُملحة لسؤاله عن هذا .نظر الرجل إلى جبيرتي وقال "بلوغ القمة شيء على قدر كبير من األهمية
ً
شأنه شأن التردي في الحضيض ،يجب أن تصل إلى أدنى مستوى لك ،عليك أن تغوص عميقا إلى المدى
الذي لن تستطيع فيه الغوص أكثر إلى أن تشعر باالختناق من اليأس وبعدها يجب أن ّ
تفر منه .في هذه
المرحلة ،عليك أن تجد القوة التي تدفعك ًلألمام .وبعبارة أخرى عليك أن تجد ما يحثك على الوقوف ٍ
بعزم
ً
ثانية .حالما تجده ،تشبث ِبه وال تفلته أبدا .قد يكون هذا الدافع إنسان أو رغبة ومن المحتمل أن يكون
شر أو شيء ُمنفر ،لكن مهما حدث التزم به"
هذه كانت أول وأخر محادثة تجري بيننا .استمرت الجولة لكن لم تسنح لي فرصة الحديث معه
ً ً
يوميا وفكرت فيما قاله لي .في أعماق ذاتي ويأسي المظلم ،ما الذي سيجعلني مجددا .رأيته وهو يتدرب
أتغلب عليه وأقف بعزم مرة أخرى؟
ً
"أتعيش في سونغجو؟ المخرج أيضا من تلك المدينة" طرح هذا السؤال أحد أفراد الطاقم بينما
كنت أنظر لمنشور ترويجي معلق في استراحة محطة القطار لمهرجان األلعاب النارية على شواطئ يانغ
ُ
جيتشيونغ في سونغجو بتاريـ ــخ الثالثين من أغسطس .في الماضي وعلى قدر ما أتذكر ،كنت أشاهد
ّ
المهرجان في كل عام ،وهو يقام عند كل نهاية لفصل الصيف .عندما كنت أعيش في الميتم ،جميعنا كنا
نتسلق لبلوغ السطح ومشاهدة األلعاب النارية وهي تتصاعد في السماء ثم تعود لألرض كالمطر .بعد
مغادرتي الميتم ،مكثت في أعلى طابق من منزل مشترك يقع ضمن أعلى حي في سونغجو .إنه بقعة مثالية
لمشاهدة األلعاب النارية رغم بعده عن مكان عرضها لكنه يوفر إطاللة واسعة ال يمكن قطع سكونها.
~~115
علي الذهاب في الجولة"هل غيرت رأيك بين ليلة وضحاها؟" قال عضو الطاقم الذي اقترح ّ
برفقتهم قبل عدة أيام مضت" .نعتقد بأنك موهوب وشخص يمكننا االعتماد عليه" وافق اآلخرون بحماس
ً
وصفق قسم منهم ،كدت أن أوافق .من دون أن أشعر بذلك حتى أصبحت متعلقا بهم ،القيام بجولة كان
ً ً
عمال ُمرهقا لكني استمتعت بكل لحظة فيه ،حتى االستلقاء على السرير واألنين والشكوى بسبب اإلرهاق
يجيا أثناء مواصلتي العمل وتنظيم العروض معهمّ .ربما ستسنح لي فرصة تقديم منهُ .ش ّفي كاحلي تدر ً
تجربة أداء ويتم اختياري كعضو رسمي وأتمكن من تقديم أداء على المسرح ،و ّربما سيتسنى لي تلقي
ً
التدريب تحت إشراف الرجل والتعلم أكثر .بدأت بالتفكير حقا بأن هذا المكان هو ما أنتمي إليه .طلب مني
عضو الطاقم التفكير مل ًيا بالعرض الذي قدمه وأعطيته جوابي في الليلة الماضية ،لقد شكرته على عرضه
ثانية فأجبته أثناء التقاطي لحقيبتي من األرض "يجب علي العودة" .أأنت متأكد؟" سألني ً وأخبرته بأن ّ
ّ ُ
علي أن أذهب كي أزيل جبيرتي". ّ
المعاكسة ،سأصل لسونغجو بعد حوالي ساعتين. صعدت على متن القطار الذي على السكة ُ
ً ُّ
نفسيا بعد و ّربما لن يحصل هذا أبدا ،لكن
ً شعرت بالحماس الغامر ،لم أدفع لحافة الحضيض ولم أتحطم
ش حياتك ّربما قد فكرت ببعض اللحظات بعد حواري مع الرجل" .لن أتصل بك على اإلطالق ً
ثانيةِ ،ع ّ
ً
تعد مجددا"ّ .ربما قد بلغ يونغي ذروة يأسه في ذلك اليوم" .هوسوك" استدرت وواصلت الخاصة وال ّ
السير فدعاني لكني لم أنظر للخلف ،لقد تخليت عنه عندما كان يختنق بيأسه ،لقد هربت.
ُ
"هل أنت بخير؟" أرسلتها بعد كثير من التردد .ذكرى ذلك اليوم باتت تثقل كاهلي أكثر فأكثر كل
يوم .رسالة جيمين "هوسوك ،أين أنت؟" ال تزال في موجودة في مجموعة الدردشة ،أرسلت ليونغي رسالة
ً
فجرا ،فاستيقظت جفال من اهتزاز الهاتف .ظهر اسم يونغي على ً في المحادثة الخاصة .وصلني ّرده
الشاشة ،لقد أرسل لي ملف أغنية .وضعت السماعات حول أذناي وشغلت الملف .استمعت لموسيقاه
ً
مستلق على سريري .كانت جميلة وال تماثل أي واحدة سبق أن ألفها إطالقا ،فرح ٍ بعينان مغمضتان وأنا
ويأس يتقاطعان ويتشابكان وسط الحزن ،بحر أزرق هائج وراء الصحراء ،أزهار تتفتح وتذوي ،مسودات
ُ
مالحظات تطير في الفراغ وتتهاوى بطيش ،إنها تشبه يونغي.
~~116
هوسوك
الثالث عشر من اغسطس العام الثاني والعشرون
ُ ُ
عرجت على غرفة تدريب "ارقص فحسب" ألول مرة منذ فترة ،قوبلت بصوت عزف الموسيقى
ُ
والهواء المليء برائحة العرق والغرفة التي تعج باألدرينالين! لقد رفرف قلبي في كل مرة جئت فيها إلى هنا،
ُ
بعد جولة من الصياحات والترحيب الصاخب بواسطة األعضاء .جلست قبالة الحائط وشاهدتهم
ُ ً ُ
ومسرورا على حد سواء ،فكرت في رقصة يتدربون ،متى سأتمكن من الرقص مرة أخرى؟ كنت نافذ الصبر
شخص ما وجلس بجواري. ٌ الرجل ،أسأتمكن من الرقص مثله ذات يوم؟ ،وفي تلك اللحظة ،اقترب
كانت تلك الفتاة ،نقرتني على كتفي بابتسامة قائلة" :أين كنت؟ أكنت تستمتع وحدك؟" كان
لك؟" أظهرت جنبا إلى جنب متكئين على الحائط! ظاهرا في المرآة ونحن جالسان ً
ً
"كيف كان حا ِ
ً
وجه كالنا
ُ ً
تك عن أمي تعبيرا بدا أنه يوبخني على هذا السؤال البالغي .واصلت التحديق في المرآة مردفا" :هل أخبر ِ
ً
آنفا؟" ال بد أني كررتها مئات المرات! لكنها ً
دوما ما أصغت إلى قصتي بحماس "ال بد أنها تحيا بسعادة في
ّ ً ً
نلتق مجددا قط ،ال بأس إذا كنا مسرورين!"
مكان ما ،أليس كذلك! إذا ،أنا بخير حتى لو لم ِ
ً ُ ُ ُ
لست كذلك! كنت منهمكا للغاية في لكنك ً ِ
ِ أنك تشبهين أمي،
أكملت وهي تحدق بي "كما ِخلت ِ
ُ ُ
اكتشاف ذلك" بدت مشدوهة لكنني ضحكت وواصلت الحديث" .إذا ،متى ستغادرين؟" كال ،ليس هذا
ً ً
مجددا "آسفة ،كان ّ ُ ّ ُ
علي إخبارك أوال" لمك" أحنت رأسها ثم رفعته"تهاني ،لقد كان ح ِ كنت أتوق لقوله! ما
لك حفلة وداع لطيفة في وقت الحق". كنت كذلك ،فابتاعي لي وجبة وسأقيم ِ "إذا ِ
~~117
سوكجين
الخامس عشر من اغسطس العام الثاني والعشرون
ً
رأيتها ألول مرة قرب السكة الحديدية ،قبل حوالي شهر مضى في يوم كان فيه ذهني مشغوال.
ّ ُ بقيت هناك لمدة عشر دقائق فقط .حتى أنني ً ُ ُ
نادرا ما كلمت ذهبت لرؤية جونغكوك في المشفى لكني
ُ ً ً
وحذرا مني .لم ترسل أي رسالة إلى متوترا لسبب ما ،كان جونغكوك ٍ جونغكوك عند وجودي هناك.
مجموعتنا للدردشة .رسالة هوسوك التي قال بها بأنه غير قادر على التواصل معنا ،كانت األخيرة .راودني
لسبب ما. ُ ٌ
ٍ شعور بأنها موجهة ليونغي لكني كلما قرأتها ،شعرت بأنها موجهة إلي
ُ
غادرت المشفى وتابعت السير بال هدف ثم أدركت بعد بعض الوقت أني كنت أمام تقاطع السكك
ّ ً ً
بالمرة التي ركبت فيها قطارا يقترب من مسافة بعيدة .ذكرني الحديدية .كان حاجز العبور منخفضا ورأيت
ُ
كنت أتوقعه؟ ً ً ً ً
وأيا مشابها بالنسبة لي .ما الذي طائرة لوحدي في طفولتي .قد يبدو هذا سخيفا لكنه كان
علي توقع شيء مثله؟ هل كان ذلك اإلحساس باالنتماء ال شيء سوى وهم؟ ما كان كان ذلك ،ألم يكن ّ
ُ
ذلك الفراغ؟ هل كنت لوحدي في نهاية المطاف؟ ما الخطأ الذي ارتكبته؟ استمرت سلسلة األفكار هذه
مع الرياح القوية التي هاجت بسبب القطار الذي عبر.
ْ ً ً
اختفى القطار من نطاق رؤيتي بسرعة اقترابه ،ارتفع الحاجز وكان العبور ممكنا مجددا .مشت
ّ ً
باتجاهي سابحة ضد مهب الرياح التي ولدها القطار ،وأوقعت دفتر مذكراتها عند عبورها بجانبي .في دفتر
مذكراتها كانت قائمة أمنياتها :أخذ دروس اللغة اإليطالية ،االنضمام لبرنامج بقاء في المعبد ،التطوع في
ملجأ للحيوانات ،القيام بدورة تدريبية كباريستا ،ومشاركة سماعات األذن مع حبيبها .كانت السميرالدو
أحدها.
ُ
تحت أقصوصة المجلة للسميرالدو ،كتبت هذه الفقرة:
ليس الحب في المقام األول عالقة تربطك بشخص ّ
معين .إنه سلوك يحدد ارتباط شخص بالعالم
ً
شخصا بحق ،أحب كل األشخاص ،أحب العالم بأسره ،أحب الحياة .لو استطعت إخبار ككل .لو أحب
شخص آخر "أنا أحبك" يجب أن أقدر على قول "أنا أحب فيك الجميع ،أحب عبرك العالم ،وأحب فيك
نفسي كذلك" من فن الحب الريك فروم.
فعلت الكثير من األشياء معها لمدة شهر .تنزهنا ً
معا ،تشاركنا بالسماعات كما أرادت ،وتطوعنا في
ً
ملجأ للحيوانات .لم نستطع البقاء في معبد لكننا ركبنا حافلة ً
معا وبقينا حتى آخر موقف ثم ذهبنا إلى
المقهى المفضل لنا.
ُ ٌ
السميرالدو هي زهرة قيل بأنها ال تنمو سوى في الجزء الشمالي إليطاليا .توقفت عند محل زهور
ُ
زهور صغير ما زال قيد اإلنشاء في زاوية على
ٍ كبير قريب لكن لم يسمع أحد بالزهرة .ثم وجدت محل
الجانب األيسر بعد عبور الجسر إلى مونهيون.
ً
لم أمتلك توقعات عندما اقترب مني المالك الذي كان مشغوال بترتيب بعض الوثائق .بعد سماعه
ّ
لمدة طويلة ثم أخبرني بأنه سيستطيع توصيل الزهرة مع أن محله لم يفتتحٍ اسم الزهرة ،حدق بي المالك
بعد" .لماذا يجب أن تكون هذه الزهرة بالذات؟"
ً
لم تعلم بأني امتلكت مذكراتها ولن تتخيل أبدا بأني اتبعت ما كتب بقائمة مذكراتها في كل شيء
ُ
فعلناه خالل الشهر الماضي .لم ِأعد دفتر مذكراتها إليها ولم أخبرها بأنه كان بحوزتي .علمت أن ذلك
~~118
ً ً ً ُ
خاطئ وعلمت بأني أخدعها نوعا ما .حاولت االعتراف عدة مرات لكني كنت خائفا ،خائفا من أن تتركني
ً ُ
كما فعل أصدقائي .خفت من أن يصبح قلبها باردا عندما تلمح أخطائي ،وذنوبي ،وحماقتي ومخاوفي.
ُ ً ُ ُ ُ
شخصا أفضل .شعرت بأن مرة أسعدتها شعرت بأني أصبحت ٍ أردت إسعادها وإضحاكها ،ففي كل
ُ ُ ّ
عيوبي كانت تظهر للمأل .بقي لي شيء واحد ألحضره وهو الزهرة التي تعني "الحقيقة التي لم تقل" بلغة
الزهور.
ً
بدا المالك متفاجئا بطلبي للحصول على زهرة السميرالدو بحلول يوم 33من اغسطس وقال بأنه
من الصعب العثور على واحدة خالل تلك المدة .لكن من الضروري أن يكون ذلك اليوم بالتحديد ،ألنه
كان موعد عرض األلعاب النارية عند نهر يانغجيتشون.
ُ
ففكرت باالعتراف بحبي لها عند انفجار األلعاب النارية في السماء. كانت ُمعجبة بسماء الليل،
كنت أفكر بتقديم زهرتها المفضلة إليها وعهد قلبي لها في الوقت والمكان المفضلين بالنسبة لها. ُ
~~119
تايهيونغ
التاسع والعشرون من اغسطس العام الثاني والعشرون
كانت فكرة هوسوك أن نجتمع لرؤية األلعاب النارية .بعد عودته ،بدأت مجموعتنا للدردشة
ً
مجددا .أخبرناه بتأنيب وترحيب بأننا اشتقنا إليه فأجابنا ً
مازحا بأنه كان علينا إدراك أهمية بالطنين والدندنة
ً
وجوده مسبقا.
"احرصوا على المجيء لعرض األلعاب النارية" جميعنا قلنا نعم .نامجون سيصل بعد انتهاء
ُ
بوقت متأخر بعد موعده .تذكرت حلمي عند رؤيتي ٍ مناوبته في العمل وجين كذلك وعد بالمجيء ،لكن
ُ
بألعاب نارية .بتالت زهور
ٍ للرسالة .امرأة تقتل في حادث سير بينما يشاهدها سوكجين .انتهى ذلك الحلم
بيضاء من اللهب تهطل من سماء الليل.
ً ُ ُ
هززت رأسي إلبعاد هذه األفكار .كان مكان اجتماعنا هو قاطرة نامجون .كنت أحيانا أمشي تجاهها
ً
عندما ال أستطيع النوم ليال أو عندما يثمل أبي ويبدأ بالتصرف بعنف .لم أكمل السير حتى أصل إلى الباب
ُ .
كنت فقط أستدير بعد عبوري لمحطة القطار أللمحها. ُ ولم َ
أبق لمدة طويلة كما فعلت في الماضي
لكن القاطرة كانت مضاءة كل مرة .لم أدرك غرابة األمر حتى فترة وجيزة .كانت مضاءة ً
دوما حتى
ُ عندما كان ً
نائما بالتأكيد .أدركت بأنها كانت إشارة لنا لنأتي في أي وقت .لم أملك طريقة ألعرف هذا ،كان
ً ً
مجرد تخمين لكنني كنت واثقا منه .ومع ذلك ،لم أستطع طرق الباب والدخول مباشرة ألنني لم أعرف ما
ّ
علي قوله.
ُ ً
عرض األلعاب النارية غدا ،سأستطيع الوصول في الوقت المحدد لو غادرت فور انهاء مناوبتي
في العمل.
~~120
يونغي
الثالثون من اغسطس العام الثاني والعشرون
ُ ُ
ترجلت من الحافلة وتوجهت صوب السكك الحديدية .اتضح خط القاطرات من ُبعد .الحظت
ُ
تايهيونغ من نافذة الحافلة في طريقي إلى هنا ،كان بدوره يسير ناحية القاطرات .البد أن اآلخرين في
ً
أيضا. طريقهم
أكملت المقطوعة منذ بضعة أيام ،أتممت بعض التغييرات على النسخة التي أرسلتها لهوسوك.
أسميتها "األمل" .بصراحة ،االسم لم يتناسب مع المقطوعة ،فهي مرتكزة على مخاوفيُ ،جبني ،وعقدة
نقصي .وتحتوي على جميع اللحظات التي حاولت تجنبها ،الهرب منها ،ولوم نفسي عليها .لكنني لم أجد
كلمة أخرى أدق تشملهم.
ً ُ ٌ
واضحا ،لكن حسب شخص ما .لم يبد وجهه الحت قاطرة نامجون في مرأى نظري ،وأمامها
ُّ
مظهره فهو جيمين .توقفت وتلفت في األرجاء حين صاح أحدهم باسمي من الخلف .لوح ذلك الشخص
لي من أمام أول قاطرة.
~~121
سوكجين
الثالثون من اغسطس العام الثاني والعشرون
~~122
جونغكوك
الثالثون من اغسطس العام الثاني والعشرون
ً ً ً ُ
باردا بعد غروب الشمس وحلول الظالم. مبكرا جدا ،بدا الطقس وصلت إلى خط السكك الحديدية
ُ ُ
فكرت بالتقدم إلى القاطرة لكنني قررت الجلوس على أحد أرصفة السكك الحديدية .مضى بعض الوقت
ً
جميعا لذا اعتراني شعور ممزوج بالسعادة والترقب كما تردد على ذهني باستمرار يوم وقوع منذ أن التقينا
الحادث.
كان جيمين أول من وصل إلى القاطرة ،حتى أنه فتح الباب وتفقد الداخل لكنه لم يدخل .عندما
ُ ُ
نهضت من الرصيف وعبرت السكك الحديدية مرة أخرى ،ظهر يونغي على حين غرة بينما يسير ببطء،
ً
عيناه مثبتتان على األرض وهوسوك خلفه حامال بعض األكياس بكلتا يديه.
ُ ٌ
شعور بعدم االرتياح واإلثارة ،تحمست لمقابلتهم لكنني لم أتمكن من االستمتاع بتلك خالجني
ُ ُ ّ
بحرية .لطالما ترقبت تلك اللحظة منذ فترة طويلة لكنني أردت االلتفات في الوقت ذاته! اللحظة
انفجرت المجموعة األولى من األلعاب النارية في الهواء دون سابق إنذار كما اندفعت ألسنة اللهب
البيضاء صوب منتصف السماء وانفجرت على شكل الماليين من البتالت البراقة المتأللئة بينما يعلو
صداها سماء الليل.
~~123
سوكجين
الثالثون من اغسطس العام الثاني والعشرون
~~124
اخلامتة:
كابوس
~~125
تايهيونغ
الحادي عشر من أبريل العام الثاني والعشرون
كان الوقت ً
فجرا حين استيقظت .رائحة أبي وشخيره المعتادين تدفقا من غرفته .الهواء القاتم
من الناحية األخرى من قطعة الزجاج الشفافة يتخبط أمام الباب األمامي .تتطلب ثالث خطوات فحسب
من المدخل الضيق حيث األحذية مبعثرة طوال الطريق حتى غرفة النوم الرئيسية .بدأت النوم هناك منذ
وقت أجهله.
ً
حامال ً
كأسا من الماء. شعرت بضغط على ظهري وأكتافي حينما حاولت النهوض .ترجلت للخارج
ُ
وسرت ببطء .تخطيت قسم الشرطة ،الزقاق ،والجسر ثم ظهر على مرآي ارتديت أي حذاء أمامي بإهمال ِ
طريق السكك الحديدية .كان الوقت قبيل طلوع الشمس ،وساد الصمت في الشوارع دون أي حركة
للسيارات.
مشيت طيلة طريق السكك الحديدية .واحد ،اثنان ،ثالث ،أربــع .توقفت أمام القاطرة الرابعة من
لكا لنامجون .بلغت مقبض الباب ثم توقفت .البد من أن نامجون ٌ ُ ً
نائم اآلن .وال بد أن الذي النهاية .كانت م
رأيته في ُحلمي ليلة البارحة هو مجرد كابوس.
ُ
ارتشفت من الماء واستدرت .المحطة المهلهلة وطريق السكك الحديدية ،المنازل المهجورة،
َ
والشجر والحشائش التي نمت بعشوائية بينهم .كيس بالستيك أسود تدحرج ناحيتي ثم حلق في الهواء
حيا ً
فقيرا. الطلق ،كان ً
كانت هذه المنطقة ُمحاطة باللهب في ُحلمي .المشهد بأكمله يومض ويتموج .ربما يعود السبب
للهب أو ألنني أحلم .تدفق فوج من األصوات لعقلي ،صراخ أحدهم ،صوت اصطدام ،صوت بكاء ،وصوت
انكسار شيء ما .الصور التي كانت تومض في البعد البعيد ُرسمت بالقرب مني بسرعة هائلة .شعرت
بالغثيان لذا أغلقت َع َين ّي ،لكنه ُحلم .لن أتمكن من التخلص منه بإغالقهم.
ً ْ
أوال .ثم تخطيت األشخاص الموجهين ظهرهم لي ً
تاليا ،بعدها توقفت ُحجبت رؤيتي باللهب
فجأة .واحد ،اثنان ،ثالث ،أربــع .القاطرة الرابعة تخص نامجون .الباب مفتوح والدماء تلطخ المكان .اندفع
مستلق هناك وأردف أحدهم
ٍ اللهب للداخل .تنحى األشخاص واحد تلو اآلخر .بانت األرضية للتو .نامجون
ً
قائال "إنه ميت".
فتحت عيناي ألرى سقف منزلي .أمكنني سماع شخير والدي .كان هذا محض ُحلم.
ألمني كف يدي على حين غرة .فتحت صنبور الماء البارد وثبت يدي تحتها .شعرت بالخدر تحت
كأسا بالماء وشربته .كان مجرد ُحلم .بل كابوس.
تدفق الماء .مألت ً
~~126
همسات المترجمات
شهد:
ال يمكنني التعبير عن نفسي بالكلمات فمن المعروف أنني ال اجيد وصف شعوري لكن أتمنى ان
يصلكم ولو بمقدار قليل بما أحسست به اثناء هذه التجربة الجديدة .يمكنكم القول أن مشاعر متداخلة
قد خالجتني على مدار قراءتي لترجمة زميالتي او لترجمتي ففي تارة أشعر بالحزن على هؤالء الشبان السبع
ً
شعورا بالقهر ثم يتبعه سلسة من الذين يواجهون العالم وهم في أوج براءتهم ،وتارة أخرى يعصف بداخلي
البغض او باألحرى اليأس من هذا العالم الغريب الذي قاسوه في ريعان شبابهم .نعم ،إنه بالفعل عالم
غريب ح ين نفكر به من وجهة نظر البراءة ،فقد عهد الجميع أن الوالدين هم مصدر قوة ومثل أعلى
ألطفالهم ،لكن في زاوية ما في هذا العالم الشاسع ،هنالك سبعة شبان صدموا من واقع أن آبائهم ليسوا
ً
أبطاال خارقين.
ذكر فيه العديد من القصص الموجعة ولسوء الحظ واقعية ،ومع ذلك كان هنالك عدة لحظات
قد جعلتني أبتسم ببالهة مع الشخصيات وكأنني أواجه ما يواجهوه ،وكأنني فرد منهم ،فقد أحسست بكل
مشاعرهم الصادقة نحو بعضهم البعض .بالفعل انا حزينة من اآلن ألنه انتهى لكنني أتطلع للنس خة
الجديدة بفارغ الصبر.
ً
في النهاية ،أود اضافة أن هنالك العديد من المعاناة التي يواجها كل شخص بمفرده يوميا وال نعلم
عنها ،لذا أتمنى أن تصلك رسالة بانقتان ،ورسالتنا .فال تقسو على بعضكم وعبروا عن انفسكم وأفصحوا
عن مشاعركم ،فهنالك أشخاص ُمستعدين للسماع.
~~127
آالء:
ً
عونا لصداقتهم لم يحالفهم الحظ ً
يوما بل جمعهم القدر في أوج ظلمتهم ،حياتهم البائسة باتت
ً
شف ذويــهم آالم أفئدتهم ولم يستسلم القدر يوما عن تحطيمهم. ُ
كان مصدر إزعاجهم ومقتهم ،لم ي ِ
غرفة صغيرة لمت شملهم وغدت مصدر سعادتهم .أصبحت ً
مفرا لهم من ظالم منازلهم ،باتت
ً
حنانا عليهم من ُأسرهم .آلفت قلوبــهم بقلب واحد ،فكيف ستغدو حياتهم بعدما اجتمعوا ً
سويا؟ أشد
ُ ُ
اجتاحتني مشاعر مختلطة بينما كنت أعمل على هذا الكتابُ ،سررت حينما غمرتهم السعادة
ُ ُ
وبكيت حينما غمرهم الحزن .شعرت وكأن قلبي تآلف مع قلوبــهم وبت أشعر كأني أحيا معهم وأرى حياتهم
اليومية.
ً
جميعا لذا آمل بينما تطلعون على هذا العمل أن يخالجكم شعوري ذاته من حزن إلى سعادة ،وكأننا
كنا ً
معا.
~~128
مايا:
ً ً
واحد من شخصيات هذه السلسلة معاناة وآالم تلتهم روحه شيئا فشيئا .فمقطع البداية ٍ لكل
اك منهم أن شياطينهم تخلد إلى نوم ً
يصور مدى فرحهم ونسيانهم لهمومهم السيما إذا كانوا معا ،دون إدر ٍ
عميق.
ً
لكن الوقت كان كفيال بالكشف عن المزيد من األحداث وحل األلغاز المرتبطة بالكذبة التي
قدما ويحققون أمانيهم بينما ّ تعقيدا .فهل سيمضون ً ً ً
تكون يعيشونها ،بات مستقبلهم مجهوال وأكثر
ً ً
معا تاركا ال شيء سوى الذكريات؟ صداقتهم السند الذي يحتاجون إليه أم سيتالشى كل ما يربطهم
ً ً ً
مزيجا من المتعة شخصيا ،كان هذا مختلفا عن كل ما عملت عليه في مجال الترجمة ،فكان
مصحوبا بالصعوبة التي واجهتها في وصف والتعبير عن مشاعر كل من الشخصيات بأفضل ً والحماس
صورة ممكنة أال أن هذا هو السبب ذاته الذي ساهم في استيعابي ألفكارهم وزاد من تعلقي بهم وتأثري
ً
بقصصهم أحيانا لدرجة ذرف الدموع.
~~129
ِهجان:
سبعة فتيان صراخهم يمتد لماليين ومع ذلك ال يوجد اي مفر من أن يسمع هذا الصوت الحزين
تتالشى مشاعرهم تتمزق وتتبعثر وكأنها الورق قد كانت وماعليها كان الحبر!
اختفت مشاعرهم ،اختفت رقة كلماتهم ،اختفى صدقهم ،اختفى اهتمامهم ،اختفى كل شيء
يميزهم! قيمتهم البشرية ،احالمهم وكل شيء جميل فيهم! ومع هذا ال زالوا يصرخون بصمت!
يحتاجون لشخص بقربــهم ..يحتاجون لمن يحتويــهم ..يحتاجون من يمحي ألمهم ..وإلى من
يمدهم باألمل! يحتاجون لبعضهم ،لصديق ال يتجاهلهم ،لصديق يحلم معهم ،لصديق يشاركهم األحالم
ً
واألآلم ،الحزن والسعادة ،فال زالوا شبان يافعين لديهم أحالمهم وطموحاتهم ليس حقا أن تباد وتقمع في
هذا العالم!
ُ
قد ال أكون شاعرة ،قد ال أجيد الغناء ،ألستحق العمل على الكتاب ولكن كادت مشاعري فيه تجن
ودموعي للسماء بدأت باالنهمار .أبكتني قصصهم من الداخل قبل الخارج ،حزنهم ،بكائهم بصمت :جعلني
قلب يملكون ! ً ً
..أبكي وأحزن لح ِزنهم ،انهمرت دموعي كثيرا في هذا العمل ،وراودتني هذه الجملة كثيرا :أي ٍ
قلب قد يكون!× أي ٍ
ً ُ
حقيقة قلوب البشر؛ حقيقة غير عادية حقا!
~~130
سلمى:
أي خيانة أن تتكئ على عكاز ثم يهوي بك...
أي خيانة أن يتخلى عنك من أوجدك ..
لم أعمل في هذا المجال قط ،أني شاكرة جدا ألن فرصة كهذه ُسنحت لي ..وبحكم هذا العمل
بدا لي محتواها أحرفا وحسب فهي أداتي ...ولكنها تحمل في طياتها ما يكبر ويكثر عن الوصف ..تعاطفت
في حين وابتسمت في آخر وتمنيت لو انتشلهم من عالم ال يستحقهم حظي بهم ..
~~131
سما:
فكرت ً
مليا فيما الذي يجب ّ
علي تدوينه بشأن هؤالء الفتيان السبعة وما هي انطباعاتي أثناء عملية
ُ
الترجمة ،لست بارعة في الكتابة والتعبير باستخدام بالكلمات لكني شعرت بألمهم بمعاناتهم بنحبيهم
بكفاحهم من أجل بعضهم ،شعرت بالغضب والبغض المقيت تجاه والديهم وألصدقكم القول والداتهم
ُ ُ
على وجه الخصوص ،كيف لوالدة أن تترك ولدها؟ كيف لها أن تسمعه قاسي الكالم؟ وأن تفلت يده
روحا بريئة معذبة وصمت حياتها بالفشل والكفاح ّ ً
كة ورائها ً
المر قبل أن تبدأ حتى .وفي ِ وتمضي بحياتها تار
ً
خضم كل هذه العتمة وجدوا بعضهم األرواح المتألمة تتآلف مع بعضها ،أصبحوا نورا في حياة أحدهم
بجوار بعضهم والعزاء الذي شعروا به عندما كان أحدهمِ اآلخر ،دفء صداقتهم وسعادتهم عندما يكونون
ً
سندا لألخر وحماية أحالم بعضهم كأنها طوق نجاتهم بعث في السرور واألمل في أن يجدوا السالم في
نهاية رحلتهم.
~~132