You are on page 1of 132

‫أجمل لحظات الحياة‬

‫~ أجزاء الذاكرة من شعور الضياع‪ ،‬الفقدان‪ُ ،‬‬


‫المعاناة وعدم األمان ~‬
‫~ لسبعة فتيان يواجهون مصيرهم ~‬

‫ترمجة‬
‫آالء – سما – سلمى – شهد – مايا – ِهجان‬

‫‪www.purplearmys.com‬‬

‫~‪~1‬‬
‫الفهرس‬

‫جيد ‪3 ..................................................................... ........................................‬‬ ‫‪ .١‬المقدمة‪ :‬فتى‬


‫‪ .٢‬ظل طفولتي ‪6 .......................................................................................................................‬‬
‫ُ‬
‫هنا ابتدأ كل شيء‪١1 .............................................................................. ...........................‬‬ ‫‪ .3‬من‬
‫ُ‬
‫وبداية الع زلة ‪٢٢ ...............................................................................................‬‬ ‫‪ .1‬نهاية الصيف‬
‫ُ‬
‫‪ .٥‬ال بد أن أنج‪33 ......................................................................................... ..............................‬‬

‫عنه عند الضياع ‪33 .....................................................................................‬‬ ‫‪ .6‬ما يجب البحث‬


‫‪ .3‬األشياء ُ‬
‫المجنحة‪13 ..................................................................................... .........................‬‬

‫المدينة ‪٥3 .......................................................................................................‬‬ ‫‪ .٨‬أعلى طابق في‬


‫حياتنا‪6٩ .......................................................................................... ................‬‬ ‫‪ .٩‬أجمل يوم في‬
‫الشاطئ ‪3٨ ..................................................................................................‬‬ ‫‪ .١3‬بعد عودتنا من‬
‫تشرق الشمس‪١3٢ ..........................................................................................‬‬ ‫‪ .١١‬االتجاه حيث‬
‫‪ .١٢‬الخاتمة‪ :‬كابوس ‪١٢٥ ..............................................................................................................‬‬

‫المترجمات‪١٢3 ..................................................................................... ...................‬‬ ‫‪ .١3‬همسات‬

‫~‪~2‬‬
‫املقدمة‪:‬‬

‫فتى جيد‬

‫~‪~3‬‬
‫سوكجين‬
‫العاشر من أكتوبر العام التاسع‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫"لنذهب‪ ،‬يجب أن نخرج من هنا" أحكمت قبضتي على يد صديقي وهرعنا نحو الباب الخلفي‬
‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫لفصلنا الدراسي‪ ،‬وبينما كنا نركض في الرواق التفت خلفي أللمح رجاال يتبعوننا ويصرخون "قفوا! الزموا‬
‫أماكنكم!" بدا لي أن أصواتهم كانت خلفنا ً‬
‫تماما‪.‬‬
‫بذعر حيال المكان الذي سنقصده ونحن نقفز على الدرج فكانت الوجهة األولى التي تبادرت‬ ‫ٍ‬ ‫فكرنا‬
‫إلى أذهاننا هي التلة التي تكمن خلف مدرستنا‪ .‬فال نحتاج سوى عبور الملعب ومغادرة بوابة المدرسة‬
‫ً‬ ‫للوصول إليها‪ .‬رغم أنها ليست بذاك العلو‪ ،‬إال أن الطريق كان ً‬
‫وعرا ممتلئا بالصخور‪ .‬بعد عبور البوابة بسرعة‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫قصوى‪ ،‬تجاهلنا المعبر وأسرعنا بخطانا نحو الغابة مباشرة‪ُ ،‬مجتازين الفروع الكثيفة‪ .‬ركضنا لوقت شعرنا‬
‫ُ‬
‫سيستمر لألبد حتى لم نعد نستشعر تواجدهم خلفنا‪.‬‬ ‫وكأنه‬
‫حينها انهرنا على األرض‪ُ ،‬محاطين بطبقات من أوراق الشجر الجافة بوجوه متعرقة "لن يتمكنوا‬
‫ُ‬
‫من مطاردتنا إلى هنا‪ ،‬أليس كذلك؟" أومأ صديقي برأسه وهو يتنفس بثقل‪ .‬رفعنا أطراف أقمصتنا لمسح‬
‫ً‬
‫عرقنا‪ .‬كان وجهه ممتلئا بالعرق والدموع ومعصميه مغطاة بالكدمات األرجوانية وياقة قميصه ُممزقة‪.‬‬
‫يأت أبي للمنزل منذ أكثر من أسبوع‪ .‬ومن يومها لم تكف والدتي عن البكاء‪ ،‬الخادمة والسائق‬
‫"لم ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫توقفا عن القدوم كما أخبرتني عمتي أن شركة والدي أغلقت ‪.‬‬
‫والليلة الماضية‪ ،‬جاء هؤالء الرجال إلى منزلنا واستمروا بقرع الجرس دون توقف‪ ،‬صارخين باسم‬
‫ٌ‬
‫جفن البتة" كان‬ ‫بابنا يشتمون‪ .‬ولم يغمض لنا‬ ‫ً‬ ‫والدي‪ .‬بتنا آنذاك بمنزلنا مغلقي األضواء‪ ،‬وهم‬
‫خارجا أمام ِ‬
‫ً‬
‫ّ‬
‫صديقي يجهش بالبكاء أثناء حديثه‪ ،‬ولم أكن أعي حقا ما يجب علي قوله‪ .‬كل ما أمكنني فعله هو إقناعه‬
‫بعدم البكاء‪.‬‬
‫وم ِخيفين "من‬ ‫بعد فترة وجيزة من بداية الدرس اقتحم الصف أربعة أو خمسة رجال بدو جامحين ُ‬
‫منكم ابن السيد تشوي؟ عليك أن تأتي معنا" على الفور طلبت منهم معلمتنا المغادرة‪ ،‬لكنهم وببساطة‬
‫تجاهلوها‪" .‬نعلم أنك هنا‪ ،‬تعال اآلن" بدأ بعض زمالئنا بالهمس والتحديق نحونا‪ .‬الحظ الرجال األمر وبدأوا‬
‫رجاء غادروا" حاولت معلمتنا ردعهم‪ ،‬لكن دفعها أحدهم‬ ‫باالقتراب منا‪" .‬أال ترون أننا في منتصف الحصة‪ً ،‬‬
‫ً‬
‫ناحية السبورة وسقطت أرضا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫الرجل الذي دفع معلمتنا تقدم نحونا مهددا‪ ،‬وأصبحنا محط أنظار جميع الطالب‪ .‬ثم جذب‬
‫ً‬
‫فقطعا لن يرفض ابنه" كان يتوعد‪ ،‬والجو بات‬ ‫الرجل ذراع صديقي "سنأخذك لوالدك ونحوز على ماله‪،‬‬
‫ُمر ً‬
‫يعا للغاية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫حدقت بوجه صديقي الذي كان يرتجف‪ ،‬يرتجف بشدة ومطأطأ رأسه‪ .‬سللت يدي من تحت‬
‫المنضدة وأمسكت بيده‪ .‬رفع رأسه وسحبت يده "لنركض‪".‬‬
‫كانت السماء مظلمة وتزداد قتامة‪ .‬وال يبدو لي أننا ُمطاردين‪ .‬اندفعنا عبر األشجار والشجيرات‬
‫ً‬
‫رغبة بالوصول للطريق حتى بانت أمامنا عدة معدات للتدريب‪ .‬اتكأت على إحداها وجلس صديقي على‬
‫مقعد "أخشى أني أجلب لك المتاعب"‪ .‬بدا أنه غير مرتاح حينما أخبرته أني سأكون بخير‪ .‬إذا ما كنا‬
‫بالفصل‪ ،‬كل ما كان يجول ببالي هو كيفية إخراج صديقي منه‪ .‬اضطررت أن أبعده عن أولئك الرجال‪ .‬ولكن‪،‬‬
‫حالما بدأنا الركض‪ ،‬أدركت أن ليس لدينا مكان نلجأ إليه‪.‬‬

‫~‪~4‬‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫مساء‪ .‬مر وقت منذ غروب الشمس‪ .‬كنت‬ ‫"دعنا نذهب لمنزلي"‪ .‬ال بد أن الساعة اآلن التاسعة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أتضور جوعا وال شك بأنه كذلك أيضا‪" .‬أليسا والداك بالمنزل؟ ألن تقع بمأزق الصطحابي هناك؟" "يمكننا‬
‫ً‬
‫بعيدا عن سفح التلة‪ً .‬‬
‫قريبا‪ ،‬سيظهر لنا‪.‬‬ ‫التسلل‪ ،‬وفي حال وقعنا بمأزق‪ ،‬سنقع بمشكلة" لم يكن منزلي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شجرة ما‪ ،‬وسأفتح لك النافذة الحقا‪".‬‬
‫ٍ‬ ‫"ادخل مباشرة بعد فتح الباب واختبئ خلف‬
‫ً‬
‫كانت أمي تجلس على األريكة في غرفة المعيشة‪" .‬أين كنت؟ اتصل معلمك" بدال من إجابتها‪،‬‬
‫أخبرتها أني آسف‪ ،‬بدت لي أنها أسرع طريقة إلنهاء المحادثة‪ .‬قالت إن والدي سيكون بالمنزل في غضون‬
‫دقائق وغادرت لغرفتها‪ .‬غرفتي مقابلة لغرفتهم وتتوسطنا غرفة المعيشة‪ .‬أسرعت إلى غرفتي وفتحت‬
‫النافذة‪.‬‬
‫سمعنا صوت فتح باب المنزل بينما كنا نلعب في الكمبيوتر بعد تناولنا بعض الخبز والحليب‪ .‬نظر‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫لي صديقي بعيون خائفة "ال تقلق‪ ،‬أبي ال يأتي لغرفتي أبدا" وقبل أن أنهي حديثي فتح باب غرفتي و ِكالنا‬
‫ً‬
‫قفزنا من مقاعدنا خوفا‪.‬‬
‫" أأنت ابن السيد تشوي؟" أكمل دون انتظار أي إجابة "تعال للخارج‪ ،‬هنالك من أتى الصطحابك"‬
‫ٌ‬
‫رجل أمام الباب‪ ،‬و لوهلة اعتقدت أنه السيد تشوي لكنني أدركت بسرعة أنه لم يكن كذلك‪ ،‬لم‬ ‫كان يقف‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫يكن إال أحد الذين اقتحموا غرفة الصف سابقا‪ .‬نظرت إلى أبي‪ .‬لقد بدا مرهقا‪ ،‬حاجباه معقودة وجفنه‬
‫يرتجف ببراعة‪ .‬بدا من األفضل لي عدم إزعاجه وهو بهذا المزاج‪ .‬أثناء محاولتي لقراءة وجه والدي‪ ،‬أتى‬
‫الرجل لغرفتي وأمسك بكتف صديقي فوضعت نفسي أمامه "ال يا أبي‪ ،‬ال تدع هذا الرجل يأخذه‪ ،‬إنه‬
‫شخص سيء‪".‬‬
‫رجاء‪ ،‬ساعده‪ ،‬إنه صديقي" حاول الرجل سحب صديقي‪ .‬فأمسكت‬ ‫ظل ينظر لي ولم يتحرك "أبي ً‬
‫بذراعه وأمسك بي أبي من كتفي ثم سحبني تجاهه بشدة‪ .‬ما اضطرني لترك ذراع صديقي وسحبه الرجل‬
‫إلى الباب‪ .‬حاولت التلوي والتحرر‪ ،‬لكن والدي عزز قبضته‪" .‬هذا مؤلم!" صرخت‪ ،‬ورغم ذلك‪ ،‬لم يتركني‬
‫علي وحسب‪ .‬وأخذت الدموع مجراها على وجهي‪.‬‬ ‫والدي‪ ،‬أحكم قبضته ّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫نظرت لوالدي‪ .‬كان كجدار رمادي ضخم‪ ،‬ال يحمل وجهه أي تعابير‪ ،‬حتى المظهر المرهق سابقا‬
‫فتى جيد" لكني عرفت ما‬‫وثبت عينيه علي "سوكجين‪ ،‬كن ً‬ ‫لم يعد ينعكس في عينيه‪ .‬فتح فمه بهدوء ّ‬
‫علي فعله‪ ،‬ما ّ‬
‫علي فعله إليقاف األلم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ً‬ ‫ُّ‬
‫"سوكجين" التفت لصرخة صديقي‪ .‬كان قد فر من قبضة الرجل وهرب ركضا نحو الباب وهو‬
‫ً‬
‫يبكي‪ .‬بقي والدي ُممسكا بكتفي‪ ،‬وبيده األخرى أغلق الباب‪ .‬اعتذرت له "آسف يا أبي‪ ،‬لن أتسبب بمشكلة‬
‫ً‬
‫مجددا"!‬
‫ً‬
‫وفي اليوم التالي‪ ،‬كان المقعد المجاور لي فارغا وقالت معلمتي أنه قد انتقل لمدرسة أخرى‪.‬‬

‫~‪~5‬‬
‫ظل طفوليت‬

‫~‪~6‬‬
‫هوسوك‬
‫الثالث والعشرون من يوليو العام العاشر‬

‫ً‬ ‫ُ‬ ‫حدث ُ‬


‫كل شيء عندما قمت بالعد لألربعة‪ .‬كنت أعد نوعا من الفاكهة‪ ،‬ربما الطماطم أو البطيخ‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫لست متأكدا‪" .‬أربعة"‪ .‬فور قولي لهذا‪ ،‬ظهرت أمام عيناي رؤيا من طفولتي‪ .‬كنت ممسكا بيد أحدهم ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كان اليوم الذي زرت فيه مدينة المالهي ألول مرة مع أمي‪ ،‬كنت مفتونا باألعالم الملونة والمتاجر‬
‫ياء مثل المهرجين وصدى صوت الموسيقى الحماسية من كل زاوية ‪.‬‬ ‫المرصوفة‪ .‬لوح لي ُأناس يرتدون أز ً‬
‫ُ‬
‫بيضاء اللون تدور وتدور تحت األضواء الالمعة‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫خيول‬ ‫وقفت أمي أمام األحصنة ّ‬
‫الدوارة‪ .‬كانت‬
‫ُ‬
‫نحن هنا لنركب هذه؟" عندما ناداني أحدهم "هوسوك" رفعت نظري‬ ‫كنت على وشك أن أسأل ُ"أمي‪ ،‬هل ُ‬ ‫ُ‬
‫وقد كانت معلمتي ‪.‬‬
‫ّ‬
‫ات حائرة‪ ،‬الرؤيا من طفولتي اختفت‪ .‬حثتني معلمتي‬‫كان جميع زمالئي بالفصل يرمقونني بنظر ٍ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫على االستمرار‪ ،‬وبدأت بالعد مجددا ‪.‬‬
‫ً‬
‫خمسة‪ ،‬ستة‪ ،‬ظهرت أمي أمام عيناي مجددا‪ .‬بدت بالضبط كما كانت قبل دقيقة‪ .‬كان الظل يغطي‬
‫وجهها ألنها كانت تقف أمام الضوء وكان النسيم يعبث بشعرها ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أعطتني أمي ً‬
‫لوحا من الشوكوالتة‪" .‬هوسوك‪ ،‬أغمض عينيك بإحكام وال تفتحهما حتى تعد إلى‬
‫عشرة"‬
‫ّ‬
‫سبعة‪ ،‬ثمانية‪ ،‬تسعة‪ ،‬توقفت هناك‪ .‬أومأت لي معلمتي بأن أستمر وحدق بي زمالئي في الصف‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫مجددا‪ .‬فتحت فمي لكن الكلمات أبت الخروج ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫أصبح وجه أمي غير واضح‪ .‬شعرت بأنها لن تأتي للبحث عني أبدا لو أنهيت العد إلى عشرة ثم‬
‫ُ ً‬
‫أرضا‪.‬‬ ‫سقطت‬

‫~‪~7‬‬
‫تايهيونغ‬
‫التاسع والعشرون من ديسمبر العام العاشر‬

‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫نزعت حذائي‪ ،‬ألقيت بحقيبتي على األرض وركضت للغرفة‪ .‬أبي في المنزل حقا‪ .‬ليس لدي الوقت‬
‫ً‬
‫ضبابيا‬ ‫ألتساءل عن فترة غيابه ومن أين أتى‪ .‬قمت بإلقاء نفسي في أحضانه فحسب وأصبح كل شيء‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫بعدها‪ .‬لست متأكدا مما شعرت ِبه أوال‪ ،‬إن شممت رائحة الكحول في أنفاسه أو سمعت صوته وهو يشتم‬
‫تلقيت صفعة على وجهي‪ ،‬لم أعلم ما الذي يحدث‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أم‬
‫أنفاسه الممتلئة بالكحول كانت ُمنفرة بتنفسه الثقيل‪ ،‬عيناه محتقنتان ولحيته قذرة‪َ .‬صفعت يد‬
‫ً‬
‫ضخمة وجهي "ما الذي تنظر إليه؟" صفعني ُمجددا‪ .‬ثم رفعني أبي من أكتافي ألعتدل حتى أوشك وجهي‬
‫أن يكون بمستوى وجهه‪ .‬عينان محتقنتان ولحية قذرة‪ ،‬هذا ليس بأبي‪ .‬إنه أبي‪ ،‬لكنه ليس كذلك‪ .‬تدلت‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫قدماي في الهواء‪ ،‬كنت خائفا لدرجة عدم البكاء‪ .‬باللحظة التي تلتها‪ ،‬ارتطم وجهي بالجدار بقوة وتكومت‬
‫ً‬
‫على األرض‪ .‬بدا وكأن رأسي قد تصدع‪ .‬بالكاد أستطيع الرؤية ثم صار الظالم حالكا‪.‬‬

‫~‪~8‬‬
‫جيمين‬
‫السادس من أبريل العام الحادي عشر‬

‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬


‫خرجت من البوابة األمامية لـ "مشتل األزهار العشبية" وحيدا‪ ،‬شعرت بالتحسن رغم أن السماء‬
‫ّ‬
‫والدي منهمكين‬ ‫كانت ُملبدة بالغيوم والطقس قارس بعض الشيء‪ ،‬كان يوم الرحلة المدرسية وكالعادة‪ ،‬كان‬
‫ُ‬ ‫للغاية للمجيء معي ّ‬
‫مما أحبطني‪ ،‬لكنني ِنلت تقييمات عالية في مسابقة رسم الزهور‪ ،‬أخبرتني جميع‬
‫كنت ر ً‬
‫ائعا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ولطيف للغاية" حينها ِخلت أنني‬ ‫أمهات أصدقائي "أنت ناضج‬
‫ُ‬ ‫"جيمين‪ّ ،‬‬
‫تريث‪ .‬لن يستغرق األمر سوى لحظة" قال ُمعلمي ذلك بعد انتهاء الرحلة‪ ،‬حينما كنا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نستعد لمغادرة المشتل‪ .‬ولكنني لم أفعل‪ ،‬كنت أعلم أن بوسعي العثور على طريقي وحدي‪ .‬حملت حزام‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وسرت بخطوات واثقة‪ .‬بدا وكأن الجميع ُيحدق في وجهي‪ ،‬لذا رفعت كتفي ألعلى‬ ‫حقيبتي بكلتا يداي‪ِ ،‬‬
‫ُ‬
‫بثقة‪ .‬بعد أن ِسرت لفترة‪ ،‬بدأ المطر بالهطول‪ ،‬وقد غادر زمالئي وأمهاتهم ولم يأبه ألمري أحد‪ .‬آلمتني‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫انهمارا‪ .‬التفت تفقدا لقدوم أي شخص‪ ،‬لكن لم يكن أحد‬ ‫ساقاي فجثوت تحت شجرة‪ ،‬وحينها زاد المطر‬
‫في الجوار‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫يهطل أكثر فأكثر‪ .‬تبلل سروالي إزاء المطر‬ ‫المطر‬ ‫وظل‬ ‫بدأت أهرول حامال حقيبتي على رأسي‪،‬‬
‫ُ‬
‫بعد بضع خطوات فحسب‪ ،‬ولم يقع ناظري على متجر أو منزل أو محطة حافالت‪ .‬لمحت بوابة عن بعد‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫مغمورا بالمياه وأسناني تصطك‬ ‫فهرعت نحوها دون تفكير‪ .‬تخدرت يدي إثر حمل الحقيبة كما كنت‬
‫تحمل اسم "مشتل األزهار العشبية" بأعلى البوابة‪ .‬وكانت تلك البوابة‬ ‫ُ‬ ‫ببعضها البعض‪ .‬الحظت الفتة‬
‫الخلفية‪ ،‬بداخلها مستودع صغير‪.‬‬

‫~‪~9‬‬
‫سوكجين‬
‫الحادي والعشرون من يوليو العام الثاني عشر‬

‫ً‬ ‫ُ‬
‫منتظرا في صالة المطار‪ ،‬واصلت التحديق ببوابة الدخول وهي تغلق وتفتح أمام‬ ‫بينما جلست‬
‫أناس يحملون حقائبهم‪ ،‬البعض منهم يرتدي نظارة شمسية‪ .‬استمرت شاشة‬ ‫ٌ‬ ‫المسافرين‪ّ .‬‬
‫مر من أمامي‬
‫ً‬
‫متذمرا‬ ‫العرض اإللكترونية بعرض تغيرات موعد رحالت الوصول والتأجيل واإللغاء‪ ،‬وكان السائق يتمتم‬
‫وعيناه ال تفارقان شاشة هاتفه "ال يوجد أي رد منه لآلن"‪ .‬نظرت لساعتي لتفقد الوقت‪ ،‬ألجد بأن ساعة‬
‫ً‬ ‫قد مضت عن الوقت الذي وعدني والدي فيه بالوصول‪ً .‬‬
‫دائما ما شعرت أنني وحيد‪ ،‬فوالدي كان مشغوال‬
‫ً‬
‫دائما أن أفعل ما ُيقال لي وأال أفعل شيئا آخر‬ ‫طيلة الوقت ووالدتي لم تكن على نقيض ذلك‪ ،‬أخبراني ً‬
‫ّ‬
‫نفسيهما‪.‬‬ ‫ُ‬
‫سواه‪ .‬عندما أخالف كالمهما كان عقابهما لي هو الصمت‪ ،‬فأردت أن أبعث السرور في‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فترة وجيزة‪ ،‬وقد أخبرني والدي بأال أبكي‪ ،‬وهذا ما فعله بدوره‪ .‬أردت أن أطيعه‬
‫ٍ‬ ‫توفيت والدتي منذ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫األمر ليس هينا‪ .‬فقرر أن ُيرسلني إلى الواليات المتحدة كي أقيم عند جدتي‪ ،‬ولم يبد بأنه حزين حيال‬ ‫لكن ُ‬
‫هذا األمر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ناولني سائق والدي الشخصي جواز السفر‪ ،‬وقد حانت ساعة الرحيل‪ .‬التفت للخلف بينما كنت‬
‫ً‬ ‫ولو َح ّ‬‫أسير نحو بوابة المغادرة‪ ،‬ثم رأيت بوابة الدخول وهي تغلق ّ‬
‫لي السائق مودعا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫أخيرا بدأت الطائرة تسرع في طريقها على المدرج ولكن والدي لم يأتي‪.‬‬
‫لمقعدي وقد رأيت الغيوم ّ‬ ‫ُ‬
‫نظرت م ن خالل النافذة الصغيرة المجاورة َ‬
‫تمر ولون السماء أصبح‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫حالكا‪ .‬أحضرت لي مضيفة الطيران وجبة فانسكب كأس العصير عندما واجهنا مطب هوائي وباضطراب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بحال جيدة‪ .‬األرز المقلي واللحم كانا مغمورين‬
‫ٍ‬ ‫طلبت بعض المحارم‪ .‬سألتني مضيفة الطيران ما إن كنت‬
‫ً‬ ‫َ ّ‬
‫هذه كانت إجابتي على سؤال المضيفة عن حالي‪ ،‬لكن‬ ‫بالعصير‪ ،‬ويدي دبقتين‪ ،‬وسروالي كان مبلال " ال " ِ‬
‫ُ‬
‫على ما يبدو أنها لم تسمع ما قلته‪ .‬أخبرتني بأال أقلق بينما أخذت الصينية‪ ،‬أومأت برأسي وأبقيت بصري‬
‫على األرض‪.‬‬

‫~‪~10‬‬
‫نامجون‬
‫الحادي والعشرون من يونيو العام السادس عشر‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫أسرعت في نزول الدرج من الطابق الثالث عشر‪ .‬كنت أتنفس بضيق وساقاي ترتجفان‪ .‬انهرت‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫متأخرا اليوم ألن المدرسة استغرقت وقتا أكثر من المعتاد‪ .‬حري بي‬ ‫في ظل مدخل المبنى السكني‪ .‬بدأت‬
‫الذهاب بأقصى سرعة لوضع المنشورات في المباني األربعة قبل انتهاء الموعد النهائي ألنني إذا لم أفعل‪،‬‬‫ُ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫طالبا في المدرسة المتوسطة‪ .‬بال‬ ‫سيكون مديري في انتظاري موبخا‪ .‬كنت قد أقنعته بمشقة أن يوظف‬
‫ُ‬
‫شك‪ ،‬لن أسمح لنفسي بأن أطرد في هذه المرحلة‪ .‬استقالت أمي من عملها في المطعم األسبوع الماضي‬
‫ُ‬
‫وتحتم علينا دفع فواتير الطبيب ألبي‪ ،‬بغض النظر عن فواتير الكهرباء والغاز التي تأخرنا في دفعها‪ .‬غفوت‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫صغار يلعبون كرة السلة بعيدا فنهضت مجددا‪ .‬حان وقت الركض‪ ،‬همهمت‬ ‫باستمر ٍار في الظل‪ .‬كان هناك‬
‫علي أن أفعل ذلك‪ ،‬بوسعي فعل ذلك‪.‬‬‫لنفسي‪ّ ،‬‬

‫~‪~11‬‬
‫يونغي‬
‫التاسع عشر من سبتمبر العام السادس عشر‬

‫صباحا دون أن تشوبه شائبة‪ ،‬إنه يشتعل اآلن‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫سليما‬ ‫ُ‬
‫يلتهم منزلي‪ .‬المنزل الذي كان‬ ‫كان اللهب‬
‫ُ‬
‫إلي األشخاص الذين يعرفونني صارخين بكلمات مبهمة‪ .‬هرع الجيران على أقدامهم بتوتر‪ .‬لم تتمكن‬ ‫َه ّم ّ‬
‫ُ‬
‫عربة اإلطفاء من الوصول لمنزلي ألن الطريق مسدود‪ .‬وقفت هناك بال حراك‪ .‬كان الحادث في نهاية‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫الصيف أول أيام الخريف‪ .‬السماء ُمزرقة والرياح متموجة‪ .‬لم ِأع بما أفكر‪ ،‬بما أشعر‪ ،‬وما أفعل‪ .‬فجأة‪ ،‬فكرت‬
‫ً‬ ‫كد ّ‬‫َ‬
‫وي الرعد‪ .‬بدا وكأنه ُمغلف باللهب‪ .‬أو باألحرى‪ ،‬كان عبارة عن كتلة‬ ‫بأمي‪ ،‬وفي ذات اللحظة انهار منزلي‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ضخمة من اللهب‪ .‬السقف‪ ،‬األعمدة‪ ،‬الجدران‪ ،‬وغرفتي‪ ،‬تداعوا واحدا تلو اآلخر كما لو أنهم صنعوا من‬
‫ٌ‬
‫بأعين شاغرة‪.‬‬ ‫رماد‪ .‬كل ما أمكنني القيام به هو التحديق بهم‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫أخيرا من العبور‪ .‬جذبتني امرأة‬ ‫اجتازني الواقفون من حولي‪ ،‬وسمعت أن عربة اإلطفاء تمكنت‬
‫ّ ّ‬
‫من كتفي وسألتني بعجلة "أهناك أحد بالداخل؟" حدقت بها بتبلد‪" .‬هل والدتك بالداخل؟" هزتني بقوة‬
‫ُ‬
‫من كتفي‪" .‬كال‪ ،‬ال يوجد أحد‪ ".‬سمعت نفسي أنبس بها‪" .‬ما الذي تعنيه؟" قالت سيدة من الحي‪" .‬ما‬
‫ً‬
‫الذي حدث لوالدتك؟ أين هي؟"‪" .‬ال يوجد أحد بالداخل‪ ".‬لم أكن متأكدا مما أقوله‪ ،‬واجتازني شخص‬
‫آخر‪.‬‬

‫~‪~12‬‬
‫جونغكوك‬
‫الحادي عشر من سبتمبر العام السابع عشر‬

‫ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬


‫تأت أبدا‪ .‬فتحت الدرج السفلي وحملت دفتر‬ ‫انتظرت لعشرة أيام لكن بطاقة التهنئة لم ِ‬
‫المالحظات ألجد أربــع بطاقات‪" .‬جونغكوك‪ ،‬عيد ميالد سعيد‪ ،‬والدك‪ ".‬أقرأ هذه الكلمات الخمسة مر ًارا‬
‫وتكر ًارا‪.‬‬
‫السابعة من عمري‪ .‬أيقظتني األصوات القادمة من غرفة المعيشة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫كنا في فصل الشتاء وكنت في‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫درجات وأفتح الباب المنزلق‪ .‬قمت بمد‬‫ٍ‬ ‫خمس‬ ‫العلية وللوصول إلى غرفة والداي‪ ،‬أنزل‬ ‫كانت غرفتي في‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫المتسرب من الباب أشعرني‬ ‫صغيرا‪ ،‬إال أن الجو المشحون‬ ‫يدي لفتح الباب لكنني توقفت‪ .‬مع أنني كنت‬
‫بأن الوقت غير مناسب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫جدا‪ ،‬وأن العالم أثقل ّ‬ ‫ٌ ً‬
‫مما يحتمل‪ .‬أمي لم تجبه‪ ،‬ال بد من أنها تبكي‬ ‫قال أبي أن االستمرار صعب‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫بهدوء أو ال تتحرك على اإلطالق‪ .‬خيم الصمت مطوال‪ .‬قال أبي أنه سيتحطم لو استمر بالعيش هكذا‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫ويجب عليه أن يغادر حاال اعترضت أمي بشدة‪ ،‬واصفة إياه بأكثر الرجال إهماال‪ ،‬ثم سمعت اسمي "ما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لوقت طويل خلف الباب المنزلق لكن أبي لم ُيجب‪ ،‬ثم سمعت‬ ‫ٍ‬ ‫الذي ستفعله حيال جونغكوك؟" انتظرت‬
‫تماما‪ ،‬ال يوجد شيء يسعني فعله من أجل جونغكوك"‪.‬‬ ‫صوت الباب األمامي ُيفتح "إنني خالي الوفاض ً‬
‫كانت هذه كلمات أبي األخيرة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫للعلية راكضا أعلى السلم‪ .‬قمت بتحريك مقعدي بموازاة الحائط تحت النافذة مباشرة‬ ‫عدت‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ووقفت عليه‪ .‬سار أبي على الطريق المنحدر‪ .‬اختفت ساقاه أوال‪ ،‬تالهما خصره وصدره وكتفاه‪ .‬بدا األمر‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫وكأن ً‬
‫يبتلعه ببطء بالكامل‪.‬‬ ‫عالما مجهوال خلف ذلك الطريق‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فتح أحدهم باب غرفتي بعنف وقمت بالفطرة بدفع الدرج بقدمي‪ .‬كانت والدتي‪ ،‬وقالت لي أن‬
‫تأت البتة وأن والدي ينتمي ألولئك األشخاص‪ .‬كان ذلك كالمها المعتاد‪ .‬كان أبي الشخص‬ ‫بطاقة التهنئة لن ِ‬
‫ً‬
‫ذو الفكر الضعيف‪ ،‬الغير كفؤ‪ ،‬واألهم من ذلك‪ ،‬إنه المنبوذ اجتماعيا الذي قام بهجرنا‪ ....‬كانت أمي محقة‪،‬‬
‫‪ُ .‬‬
‫كنت أنا العالم األثقل من أن يستطيع تحمله‪ ،‬العالم الذي قام بالتخلي عنه‪.‬‬ ‫لن تصلني أي بطاقة تهنئة‬
‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫الطفل الذي لم يكن ً‬
‫كافيا ليكون سببا لتحمل كل شيء‪ ،‬ذلك كان أنا‪.‬‬

‫~‪~13‬‬
‫من هنا ابتدأ‬
‫كل شيء‬

‫~‪~14‬‬
‫سوكجين‬
‫الثاني من مارس العام التاسع عشر‬

‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬


‫مضيت ُمتبعا والدي‪ ،‬قاصدين مكتب المدير الممتلئ بالعفن‪ .‬لقد مضت عشرة أيام منذ إيابي من‬
‫أني سأكون بمستوى أدنى في المدرسة بسبب اختالف أنظمة‬ ‫الواليات المتحدة‪ ،‬إذ أني علمت ُقبيل يوم ّ‬
‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫"رجاء‪ ،‬اعتني بابني جيدا" ارتعدت يد والدي على كتفي‪" .‬المدرسة مكان خطير‪ .‬يحتاج األمر إلى‬ ‫التعليم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫رقابة صارمة" حدق المدير في عيني‪ .‬كان مرتديا بذلة سوداء‪ ،‬يهتز خديه المجعدان وزوايا فمه كلما فتح‬
‫فاه‪ .‬وكان الجزء الداخلي لشفتيه أكثر قتامة‪" .‬أال توافقني‪ ،‬سوكجين؟" بينما تلويت من سؤاله ُ‬
‫المباغت‪،‬‬
‫بوخز في مؤخرة عنقي‪" .‬إني متأكد بأنك ستحسن التصرف"‬ ‫ٍ‬ ‫شد والدي قبضته على كتفي حتى أحسست‬
‫ُ‬
‫وأصر على صنع تواصل بصري بيننا‪ ،‬بينما دفعني والدي إلى األسفل أكثر‪ .‬شددت على قبضتي بينما كادت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫طالبا جيدا‪ ،‬صحيح؟" حدق بي‬ ‫قبضته أن تحطم كتفي‪" .‬تعلم أن عليك اإلجابة‪ ،‬أليس كذلك؟ ستكون‬
‫دون أي ابتسامة‪" .‬أجل" بمجرد ما إن أجبت‪ ،‬حتى زال األلم من كتفي‪ .‬والدي والمدير أغربا ضاحكين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ومن حينها لم أستطع رفع رأسي‪ .‬بقيت أحدق بأحذية والدي البنية وأحذية المدير السوداء‪ .‬لقد كانت‬
‫لغزا لي أن أعرف مصدر الضوء‪.‬‬‫أطرافها تتألأل‪ ،‬وكان ً‬

‫~‪~15‬‬
‫جيمين‬
‫الثاني عشر من مارس العام الحادي عشر‬

‫مضت عدة أيام منذ بداية الفصل الدراسي الجديد‪ ،‬لكن زمالئي في الصف ال زالوا غرباء بالنسبة‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫التصرف بال مباالة ولكن دون جدوى‬ ‫لي‪ .‬لم يكن من الصعب تخمين أنهم كانوا يثرثرون عني‪ .‬حاولت‬
‫جئت إلى هذه المدرسة؟"‪ .‬لم يكن ل ّ‬ ‫َ‬ ‫"سمعنا أنك تعيش في شقة بمقابل النهر" َ‬
‫دي ما أقوله لذا‬ ‫"لم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تظاهرت بعدم سماع السؤال‪ ،‬واصلت السير ُمطأطأ الرأس فحسب "تمهل‪ ،‬ألم تسمعني؟" حينها هرولت‬
‫بسرعة‪.‬‬
‫ُ‬
‫حين كنت أتردد على المشفى باستمرار‪ ،‬انتقلت من مدرسة ألخرى‪ ،‬باإلضافة أنه لم يعد هناك‬
‫ُ‬
‫انتقلت إليه‪.‬‬ ‫مدارس متبقية بالقرب من الحي الذي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫توجهت إلى غرفة التخزين والتي قمت بتنظيفها كعقوبة على تأخري عن المدرسة‪ ،‬وحينما فتحت‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫الباب ذهلت لسماع أصوات بالداخل‪" .‬من يمكن أن يكون هناك في تلك الساعة؟" كنت على وشك إغالق‬
‫ٌ‬
‫الباب بصمت حينما دعاني أحد باسمي "تريث‪ ،‬أنت بارك جيمين‪ ،‬أليس كذلك؟" كانوا هؤالء زمالئي الكبار‬
‫الذين قاموا بتنظيف الصف معي لتأخرهم‪.‬‬
‫ً‬
‫لم أكن واثقا ما إن كان ُيجدر بي إجابتهم أم االنصراف فحسب ولكن أحدهم نقرني على كتفي‬
‫دخلت الصف دون إدراك ذلك‪.‬‬‫ُ‬
‫"ألن تدخل؟" حينها‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫"من الرائع رؤيتك مجددا‪ ،‬أال تذكرني؟ أنا تايهيونغ‪ ،‬نحن بالصف ذاته"‪ .‬وقبل أن أعي ذلك كنت‬
‫ً‬
‫جالسا على مقعدي‪.‬‬
‫ً‬
‫جميعا‬ ‫استمر باب غرفة التخزين بالفتح واإلغالق‪ ،‬الطالب السبعة الذين قاموا بالتنظيف ً‬
‫معا كانوا‬
‫بالداخل‪ ،‬ال أحد يطرح األسئلة‪ .‬استمعنا لبعض الموسيقى‪ ،‬قمنا بقراءة الكتب‪ ،‬ورقصنا ولهونا ً‬
‫سويا‪ .‬حينها‬
‫معا ً‬
‫دوما‪.‬‬ ‫ّ‬
‫كنا نتسكع ً‬ ‫اعتراني شعور كما لو‬

‫~‪~16‬‬
‫يونغي‬
‫الثاني عشر من يونيو العام التاسع عشر‬

‫مكانا أقصده‪ .‬كان الطقس ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬


‫حارا وليس بحوزتي مال وال‬ ‫تركت الدراسة بال تردد‪ ،‬لكنني ال أمتلك‬
‫شيء ألفعله‪ .‬نامجون كان أول من اقترح ذهبانا للشاطئ‪ .‬بدا أن الفكرة أعجبت اآلخرين‪ ،‬لكنني ال أهتم‬
‫في كال الحالتين‪" .‬ألديك أي مال؟" بعد سماع سؤالي‪ ،‬طلب نامجون من اآلخرين البحث في جيوبــهم‪.‬‬
‫ً‬
‫عددا‪ ،‬بعض العمالت الورقية‪ " .‬ال ُيمكننا الذهاب‪َ ".‬‬
‫"لم ال نسير؟"‬ ‫القليل من العمالت المعدنية وأقل منها‬
‫البد أنه تايهيونغ‪ .‬من تعبير نامجون بدا وكأنه يخبره أن يستخدم عقله بالتفكير قبل التحدث‪ .‬الجميع‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫اجعت قليال فمزاجي ليس جيدا‪.‬‬ ‫سواي‪ ،‬كانوا يثرثرون‪ ،‬يضحكون ويمرحون في األرجاء بال سبب‪ .‬تر‬
‫الشمس حارقة‪ .‬كانت الظهيرة‪ ،‬وال يوجد أي ظل للشجر‪ .‬الشارع ال يحتوي على أرصفة وكلما عبرت سيارة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ترش ُق سحابة كثيفة من الغبار‪.‬‬
‫كانت ِ‬
‫ُ‬
‫"لنذهب إلى هناك" تكلم تايهيونغ‪ ،‬أم هل كان هوسوك؟ لم أكن ُمصغ على أي حال‪ ،‬لكنني ُمتأكد‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أنه أحدهما‪ .‬لست أفهم الهدف من الذهاب إلى هناك‪ ...‬هل أخبرهم أن يذهبوا بدوني؟ أدرت رأسي‬
‫تسمرا بمكانه كالتمثال‪ .‬تفاصيل وجهه كانت ترتجف‬ ‫ً‬ ‫وأوشكت على االصطدام بأحدهم‪ .‬إنه جيمين‪ .‬وقف ُم‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫كما لو أنه رأى شيئا ُمروع‪" .‬هل أنت بخير؟" يبدو أنه غير ُمدرك لسؤالي‪ ،‬كان ُيحدق في الفتة تشير (‪٢.١‬‬
‫كم) للوصول إلى مشتل األزهار العشبية‪ .‬كان ً العرق يقطر من وجهه والذي تحول ِ‬
‫للون شاحب كما لو أنه‬
‫ً‬
‫سيغشى عليه‪" .‬بارك جيمين" ناديته ُمجددا‪ ،‬لكنه لم يتزحزح‪ .‬تسمر في مكانه وحسب محدق ِِا في‬
‫ُ‬
‫الالفتة‪.‬‬

‫قاطع قدر‬
‫ٍ‬ ‫"الجو حار على الذهاب للمشتل‪ ،‬لنذهب للشاطئ فحسب‪" .‬حاولت قول هذا بشكل‬
‫اإلمكان‪ .‬لم أعرف ما هو مشتل األزهار العشبية‪ ،‬لكن غريزتي تقول أن علينا تجنبه‪" .‬ال نمتلك ما يكفي من‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫المال" اعترض هوسوك‪ُ .‬‬
‫"يمكننا السير" قال تايهيونغ ُمجددا‪" .‬متأكد أننا سنكتشف حال حالما نصل‬
‫سنفوت العشاء‪ ".‬تدخل نامجون‪ .‬جونغكوك وتايهيونغ تذمرا وجيمين‬ ‫ّ‬ ‫لمحطة القطار‪ ،‬وبطبيعة الحال‪،‬‬
‫بالتوجه للمحطة‪ .‬بدا جيمين كطفل صغير‪ ،‬برأسه المنخفض لألسفل‬‫ِ‬ ‫أفاق من دهشته بعد أن بدأ الجميع‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫المنحنية‪ .‬نظرت ُمجددا ناحية الالفتة‪ .‬عالمة مشتل األزهار العشبية تالشت من مرمى نظرنا شيئا‬
‫وأكتافه ُ‬
‫ً‬
‫فشيئا‪.‬‬

‫~‪~17‬‬
‫جونغكوك‬
‫الثاني عشر من يونيو العام التاسع عشر‬

‫كانت الشمس بأوجها حينما وصلنا إلى محطة القطار الواقعة بجانب البحر‪ .‬تكاد ظاللنا تكون‬
‫غير مرئية‪ ،‬حائمة حول أقدامنا‪ ،‬ولم يكن هنالك مكان لالختباء منها‪ .‬باللحظة التي خلت أنني سمعت بها‬
‫هدير األمواج‪ ،‬الح أمام أعيننا شاطئ رملي أخاذ‪ .‬كانت بداية الصيف‪ ،‬وقد اتخذ السياح أماكنهم تحت‬
‫قدما‪َ .‬لو َحا‪،‬‬
‫مظالتهم‪ .‬ثمة شيء بالبحر يبعث العواطف بداخلي‪ .‬صاح تايهيونغ وهوسوك بحماس واندفعا ً‬
‫فانضم إليهما جيمين وسوكجين‪.‬‬
‫نادوني‪" .‬جونغكوك!" لوحت لهم وأنا أبتسم بسعادة‪ ،‬أو باألحرى‪ ،‬ابتسمت ألدعي أنني سعيد‪.‬‬
‫ّ‬
‫والتكيف مع البيئات الغريبة علي‪ .‬أخبرني أحدهم ذات مرة أنني‬ ‫كنت ما أزال ال أستطيع إظهار مشاعري‬
‫ً‬
‫أتصرف كطفل خجول وخائف‪ ،‬واألمر ذاته اليوم‪ .‬بدأت أشعر بالسوء سريعا بحضور اآلخرين‪ ،‬كما ل و أنني‬
‫ال أنتمي للمكان‪.‬‬
‫ً‬
‫ال يوجد الكثير لنفعله على الشاطئ‪ ،‬فقد كانت وجهتنا متسرعة‪" ،‬لنتسابق" اقترح هوسوك فجأة‬
‫ً ً‬ ‫وركض ً‬
‫حارا جدا‪ .‬أتى نامجون بمظلة ممزقة‬ ‫قدما‪ ،‬فلحقه اآلخرون لكن سرعان ما استسلمنا‪ .‬كان الطقس‬
‫مكان ما فتوضعنا تحتها‪ .‬تسربت أشعة الشمس خالل الثقوب‪ ،‬واستمرت تتحرك ببطء‪ ،‬ونحن‬ ‫وجدها في ٍ‬
‫نتقلب لتفاديها‪.‬‬

‫"أتريدون الذهاب لرؤية هذه الصخرة؟" رفع هوسوك هاتفه‪ .‬وكانت هنالك صورة لصخرة ضخمة‬
‫"يقال‪ ،‬إذ صحت بحلمك إلى البحر وأنت تقف على هذه الصخرة‪ ،‬سيتحقق" سحب جيمين‬ ‫على الشاطئ ُ‬
‫الهاتف وأمعن النظر بالصورة‪" .‬أليست بعيدة بعض الشيء؟ إنها على بعد (‪ )3.٥‬كم من هنا" تقلب يونغي‬
‫ً‬
‫ذاهبا‪ .‬ففي المقام األول ليس لدي حلم‪ ،‬وحتى لو كان لدي‪ ،‬لن أسير (‪ )3.٥‬كم في هذه الحرارة‪....‬‬ ‫"لست‬
‫ُمحال" وقف تايهيونغ "أنا ذاهب"‪.‬‬
‫بدأنا السير تحت المظلة الممزقة‪ .‬الشاطئ يشتعل من أشعة الشمس الحارقة‪ ،‬والطقس ٌ‬
‫حار‬
‫لدرجة أننا بالكاد نستطيع التنفس بينما نسير ببطء كما لو كنا نتجول‪ ،‬وأقدامنا تنغمس في الرمال الساخنة‪.‬‬
‫حاول هوسوك قول بعض النكات‪ ،‬لكن لم يستجب له أحد‪ .‬سقط تايهيونغ على األرض وأعلن أنه قد‬
‫ً‬
‫استسلم‪ ،‬وازنه نامجون على قدميه مجددا ودفعه من ظهره‪ .‬كانت وجوهنا حمراء زاهية ومليئة بالعرق‪،‬‬
‫حاولنا تهوية أنفسنا بأطراف قمصاننا‪ ،‬لكنه لم يجلب سوى المزيد من الهواء الحار‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬استمررنا‬
‫في المضي ً‬
‫قدما‪.‬‬
‫ً‬
‫شخصا جيد‪ .‬وقال‬ ‫قبل لحظات‪ ،‬سألت اآلخرين عن أحالمهم‪ .‬وقال سوكجين أنه يحلم أن يغدو‬
‫ً‬
‫يونغي أنه من الجيد أن يكون لديك حلم‪ .‬وهوسوك يتمنى أن يكون سعيدا وحسب‪ .‬ونامجون‪ ،‬ماذا قال‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عموما‪ ،‬لم يكن لدى أي منا حلم‪ .‬إذا‪ِ ،‬ل َم نستمر بالسير‬ ‫مميزا‪.‬‬ ‫لي؟ ال أستطيع التذكر‪ ،‬ولكنه لم يكن شيئا‬
‫على طول هذا الشاطئ تحت أشعة الشمس الحارقة للوصول لبعض الصخور على بعد (‪ )3.٥‬كم‪ ،‬والتي‬
‫من المفترض أنها تحقق األحالم؟‬
‫ُ‬
‫على طول الطريق‪ ،‬تخلصنا من المظلة التي كان كل ِمن نامجون وهوسوك وسوكجين يتناوبون‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫"كف عن‬ ‫جدا مع مقبضها الصلب‪.‬‬ ‫على حملها‪ ،‬رغم أنها حجبت أشعة الشمس قليال‪ ،‬إال أنها كانت ثقيلة‬
‫ً‬
‫فعل هذا" هذا ما أخبرني به يونغي بينما كنا نستريـ ــح بعد التخلص من المظلة‪ .‬بداية‪ ،‬أصابتني الحيرة‪.‬‬
‫نادرا ماكنت أتحدث مع يونغي ولم أدرك حينها أنه يحادثني‪ .‬رفع أصابعه أمامي "ستصبح‬ ‫ففي الواقع‪ً ،‬‬

‫~‪~18‬‬
‫كأصابعي" الحظت بعض الجلد الميت حول أصابعه‪ ،‬وضعت يدي في جيبي بتردد ولم أجب ألنني لم‬
‫أعرف ماذا أقول‪.‬‬
‫ً‬
‫مهتما بجوابي‪ .‬بدا‬ ‫"ما هو حلمك؟" سأل يونغي "أنت لم تخبرنا بعد" استفسر ولكنه لم يبدو‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وكأنه يرغب بمواصلة المحادثة‪" .‬ال أعلم حقا‪ ،‬فلم أفكر بذلك مسبقا" "حسنا‪ ،‬ال شيء خاطئ في ذلك"‬
‫بصوت ساخر "أخبرتك‪ ،‬ليس‬ ‫ٍ‬ ‫"بالمناسبة‪ ،‬ما هو الحلم؟" سألت ببعض التردد‪ .‬وأجاب يونغي‬
‫شيء كهذا" "كال‪ ،‬أعني‪ "...‬ترددت ورغم ذلك أكملت "كنت أتساءل ما هو الحلم‪ ،‬ماذا يعني الناس‬ ‫ٌ‬ ‫لدي‬
‫ٌ‬
‫بالحلم؟" نظر لي ثم حول نظره للسماء‪ ،‬وأجاب بأسى "شيء تريد تحقيقه؟ أخال أنه كذلك"‬
‫ً‬
‫تولى هوسوك زمام األمر‪ ،‬ولوح بهاتفه لنا "حسبما يقول القاموس‪ ،‬أوال؛ هي سلسلة أحداث‬
‫ً‬ ‫وهمية تواجهها وأنت نائم‪ً ،‬‬
‫ثانيا؛ حالة أو أمر مثالي تأمل بإدراكه‪ ،‬ثالثا؛ توقعات أو أفكار خاطئة مستحيلة‬
‫تقريبا أو من غير المحتمل ً‬
‫تماما تحقيقها"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫من غير المحتمل‬
‫غريبا؟ كيف يمكن تسميته كأمر تحقيقه غير محتمل؟"‪ .‬أجاب هوسوك‬ ‫"أليس التعريف الثالث ً‬
‫ً‬
‫"يقول لك بعض الناس أحيانا أن تستيقظ م ن حلمك‪ ،‬لذا إن كنت تحلم بالعودة للمنزل قبل أن نصل إلى‬
‫الصخرة‪ ،‬استيقظ اآلن!"‪.‬‬
‫ً‬
‫انفجر بعضنا ضحكا‪ ،‬لكن البقية لم يبدوا أي رد فعل‪ ،‬ربما ألنه لم يعد لديهم طاقة متبقية‪" .‬هذا‬
‫غريب‪ ،‬كيف يمكن تسمية الحلم بشيء تريد تحقيقه في حياتك وشيء غير محتمل أن يتحقق" قال يونغي‬
‫ً‬
‫ضاحكا "ربما يعني ذلك أن الناس يائسون للغاية‪ ،‬فهم ال يستطيعون التخلي عن أحالمهم رغم معرفتهم‬
‫ً‬
‫أنها لن تتحقق‪ ،‬لذا ال تحاول امتالك حلم حتى" نظرت إليه متفاجئا "كيف؟" بدأ يونغي بقضم أظافره‪،‬‬
‫وحالما شعر بنظراتي‪ ،‬وضع يديه بجيوبه "ألنه من العصيب امتالكها"‪.‬‬
‫ً‬
‫تملكني الفضول لمعرفة السبب خلف قضمه ألظافره‪ ،‬لكني لم أسأل‪ .‬وبدال من ذلك‪ ،‬ألقيت‬
‫نظرة على أصابعي‪ ،‬لطالما كانت لدي عادة إيذاء نفسي من طفولتي‪ .‬ال أتذكر متى بدأ هذا بالضبط‪ .‬كل ما‬
‫أتذكره بوضوح هو الشعور بعد قطع إصبعي بسكين في أحد األيام‪ .‬بعدما يمر اإلحساس المؤلم‪ ،‬يبدأ الدم‬
‫شعرا بالخدر وبعض الوخز بذات الوقت‪.‬‬ ‫بالتدفق من الجرح‪ُ ،‬م ً‬

‫اصطحبتني والدتي للمشفى وتمت خياطة الجرح وتعقيمه وتضميده‪ .‬تظاهرت باالهتمام المفرط‬
‫أمام الطبيب لكن فور عودتنا للمنزل ردعتني من تناول العشاء وحتى لم تساعدني في تناول دوائي‪ ،‬ولم‬
‫أتوقع منها فعل ذلك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ببطء شديد ألني بقيت أضغط‬‫ٍ‬ ‫بالتصرف بهذه الطريقة منذ مغادرة والدي‪ .‬التأم الجرح‬ ‫بدأت‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عليه بحافة ظفري حتى آلمني لدرجة تدفع للبكاء أحيانا‪ .‬مع ذلك‪ ،‬لقد ساعدني بالشعور باليقظة مجددا‪.‬‬
‫ً‬
‫حتى في الوقت الحالي‪ ،‬ينتابني الشعور بالفراغ أحيانا وأشعر بأن كل شيء بال معنى وأن طاقتي‬
‫ُت َ‬
‫ستنزف‪.‬‬

‫"كم علينا أن نمشي بعد؟" بدا على هوسوك الحيرة إثر سؤال تايهيونغ‪" .‬هذا غريب‪ ،‬أنا متأكد‬
‫ً‬
‫جميعا ناظرين في األرجاء‪.‬‬ ‫مكان ما" وقفنا‬ ‫من كونها هنا في‬
‫ٍ‬
‫ال شيء غير صوت األمواج التي تضرب الشاطئ يمأل فراغ الصمت تحت السماء الزرقاء‪ .‬كانت‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫توجد المئات واآلالف من الحصا الصغيرة متناثرة على الشاطئ كحبوب الرمل ولم يكن للصخرة الموجودة‬
‫ً‬
‫خطوة بعد اآلن" "إنني جائع‬
‫ٍ‬ ‫في الصورة أي أثر‪" .‬هل علينا االستمر ُار قليال بعد؟" "ال أستطيع أن أخطو أي‬
‫وعطش"‬
‫ِ‬

‫~‪~19‬‬
‫في منتصف حوارنا ّ‬
‫تنهد جيمين وعيناه ال تفارقان هاتفه‪ّ .‬أما تايهيونغ الذي كان ينظر إلى هاتف‬
‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫جيمين‪ ،‬فقد قام بركل الحصا بعنف بينما بدت على وجهه مالمح خيبة األمل‪ .‬قرأ جيمين المقالة‬
‫مسموع‪.‬‬

‫اق على هذا الشاطئ وقامت شركة اإلنشاء بتحطيم الصخرة ألشالء لكونها‬ ‫منتجع ر ٍ‬
‫ٍ‬ ‫سيتم بناء‬
‫تعيق رؤية المنظر على نزالء المنتجع في الطابقين األول والثاني‪.‬‬
‫ً‬
‫آن واحد والحظنا الشرائط صفراء اللون التي تم وضعها في‬ ‫ألقى جميعنا نظرة في األرجاء في ٍ‬
‫ات عمالقة تجول في الوراء ثم رأينا عالمة تقول "سي وال‬ ‫أنحاء الشاطئ لتحديد منطقة اإلنشاء مع حفار ٍ‬
‫لإلنشاء"‬
‫ّ‬
‫حصاة بحافة حذائه‬
‫ٍ‬ ‫"أعتقد أننا أتينا للمكان الصحيح" قال هوسوك بينما كان يضغط بخفة على‬
‫ّ‬
‫تبقى من الصخرة التي ّ‬
‫تم تدميرها‪" .‬ال‬ ‫ِ‬ ‫الرياضي‪ .‬ال بد من أن كل هذه الحصا المبعثرة على الشاطئ هي ما‬
‫ُ ً‬
‫كصخرة تحقق األحالم على كل حال" قام نامجون بمواساة هوسوك‪ ،‬مربتا على كتفه‬ ‫ٍ‬ ‫لشيء‬
‫ٍ‬ ‫بأس‪ ،‬ال وجود‬
‫ّ‬
‫بخفة‪.‬‬

‫أحالم منذ البداية" "ال فرصة لنا إلدراكها حتى لو امتلكناها" "امتالك األحالم‬ ‫ٍ‬ ‫"لم تكن لدينا أي‬
‫ً‬
‫يمثل رفاهية بالنسبة لنا" حاول الجميع قول شيء إيجابي لكن األمر لم ينجح‪ .‬مع أننا لم نكن نتوقع الكثير‬
‫ً‬
‫شيء كهذا‪ .‬لم يكن األمر مختلفا بالنسبة ليونغي الذي أخبرني بأال‬ ‫ٍ‬ ‫لكننا لم نقطع كل ذلك الطريق لرؤية‬
‫ً‬
‫غافال تماماً‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫أمتلك ً‬
‫حلما لكون األحالم صعبة جدا‪ .‬فبعد النظر إلى البحر بفراغ‪ ،‬بدأ بقضم أظافره مجددا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عما كان يفعله‪" .‬يونغي" استدار لينظر إلي "ال‪ّ "...‬‬ ‫ّ‬
‫تمت مقاطعة كلماتي التالية من ِقبل دوي الحفارة‪.‬‬
‫صادر من ثقب صخرة‬ ‫ٌ‬ ‫جميعا في الوقت ذاته‪ .‬إنهم يستكملون أعمال البناء‪ .‬صوت االرتطام بدا وكأنه‬ ‫ً‬ ‫التفتنا‬
‫ضخمة وصلبة‪ ،‬مما جعل الهواء المحيط يتدفق ويتناثر بشدة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫وربت على كتفي "ما الذي قلته؟" تمتم يونغي بشيء ما‪" .‬ال تفعل هذا" ثنيت يداي‬ ‫عبس يونغي‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عابسا مرة أخرى‪ .‬كنت على‬ ‫ووضعتهما حول فمي ثم صرخت‪ .‬بدا وكأن يونغي لم يسمعني وقام بهز رأسه‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫مجددا لكنه قد توقف عن قضم أظافره بالفعل‪.‬‬ ‫وشك الصراخ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أيت البحر من وراء أكتافه ُ‬
‫وسحقت الحصا التي ال تعد تحت قدماي‪ .‬ال بد من أن الصخرة كانت‬ ‫ر‬
‫ُ‬
‫هائلة الحجم‪ ،‬قوية وقديمة بما فيه الكفاية لتحقق أحالم الناس‪ ،‬لكنها اآلن لم تغدو سوى كومة من‬
‫الحطام‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قاس بالنسبة لك كذلك؟"‪ .‬كالمتوقع‪ ،‬ابتلع دوي الحفارة الصاخب صوتي‪.‬‬ ‫سألت "هل العالم ٍ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫أطلعني تعبير يونغي الحائر بأنه لم يفهمني فصرخت مجددا "هل تريد أن تستغني عن هذا العالم كذلك؟"‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫قمت ّ‬ ‫ُ‬
‫بهز رأسي فصرخ يونغي مجددا‪ .‬بعد رؤية‬ ‫شيء هذه المرة لكن لم يسعني فهمه لذا‬ ‫ٍ‬ ‫قام بتمتمة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫التمثيل الصامت الخاص بنا‪ ،‬هوسوك وتايهيونغ انفجرا ضحكا ومع أن ضحكهما لم يكن مسموعا‪ ،‬لكن‬
‫تعابير وجهيهما أفصحت عن مزاجهما‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫ونحن نصرخ بأحالمنا‪ .‬غطى هوسوك أذنيه بكلتا يديه‬ ‫جميعا للبحر‬ ‫في الدقيقة التالية‪ ،‬نظرنا‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫واسعا وكأنه ُينافس صوت الحفر لكن صوته بقي غير مسموع‪ .‬كان األمر مماثال بالنسبة‬ ‫ً‬ ‫وفتح فمه‬
‫لتايهيونغ‪ ،‬جيمين ونامجون‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫كل منا ب ّ‬ ‫َ‬
‫صرخ ّ‬
‫وجهة أبدا‪ .‬كنت واقفا وراء يونغي وسوكجين في البداية ثم‬ ‫ٍ‬ ‫قصة لن تصل إلى أي‬ ‫ِ‬
‫ّ ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫مت ً‬
‫مكونة‬ ‫جها نحو مكان وصول األمواج‪ُ .‬بعثت الحياة في كل حواسي وترابطت أصوات اآلخرين‬ ‫عبرتهما‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً ّ‬
‫شبكة معقدة مع الرائحة السمكية والمنعشة نوعا ما مع الريـ ــح‪.‬‬

‫~‪~20‬‬
‫سوكجين‬
‫الخامس والعشرون من يونيو العام التاسع عشر‬

‫ً‬ ‫ُ‬
‫لم يكن هناك أي أحد في غرفة الصف التي تم تحويلها إلى غرفة للتخزين‪ ،‬ولم ندبر مواعيدا‬
‫صمت كهذا كان ً‬ ‫ٌ‬ ‫تعج ً‬ ‫مسبقة للقاءاتنا قط‪ ،‬لكنها كانت ُ‬
‫نادرا‪ .‬حالما‬ ‫دوما بالناس وأصوات همهماتهم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫هوية الشخص الذي‬‫ِ‬ ‫خطوت للداخل‪ ،‬لمحت نبتة مزروعة في أصيص وضعت على النافذة وتساءلت عن‬
‫أحضر نبتة إلى هنا‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫معتمة ً‬
‫دوما ألن الطاقة الكهربائية ال تصلها‪ .‬النباتات الخضراء بدت وريقاتها أكثر‬ ‫كانت الغرفة‬
‫ُ‬
‫اخضر ًارا بسبب اإلضاءة الخافتة التي تسللت عبر النوافذ المتسخة‪ .‬التقطت صورا بهاتفي وكالمتوقع‪ ،‬لم‬
‫ً‬
‫آمنت ً‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫دوما بأن الصور عاجزة عن تصوير ما تراه عين اإلنسان‪.‬‬ ‫تكن جيدة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫مكتوبا على حافة النافذة وكان‬ ‫عندما اقتربت من أصيص النبات أصبح بوسعي رؤية حرف "الهاء"‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫األصيص ُيغطي نصفه‪ ،‬رفعت األصيص ألكتشف "نبتة هوسوك" محفورة تحته‪ ،‬ابتسمت وفكرت بأنه‬
‫ُّ‬
‫تلفت في أنحاء الغرفة‪.‬‬ ‫أعدت األصيص إلى مكانه ووضعته على الكتابة المحفورة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حري بي معرفة ذلك‪.‬‬
‫لم أالحظها من قبل لكن عتبة النوافذ كانت مغطاة برسومات جرافيتية وخربشات‪ .‬على عتبات النوافذ‪،‬‬
‫الجدران وحتى السقف مخطوطة عبارات مثل "القبول في الجامعة أو الموت!" واقتراحات حب غير‬
‫متبادل‪ ،‬تواريـ ــخ وأسماء ال تعد وال تحصى من الصعب تمييزها‪ .‬ال بد بأن غرفة التخزين ِ‬
‫هذه قد كانت‬
‫َ‬ ‫ْ ُ ً‬
‫صباح ثم يغادرون‬
‫ٍ‬ ‫كل‬
‫شهدت طالبا يسجلون حضورهم في ِ‬ ‫كغيرها من الصفوف الدراسية العادية‪ ،‬قد ِ‬
‫ً‬
‫هذه الغرفة ثم ما تلبث أن تعود‬ ‫مجددا عند الظهيرة‪ .‬في أيام العودة للمدرسة ال بد بأن الطالب قد عجوا ِ‬
‫بصخب وآخرون ُعوقبوا لكونهم‬ ‫ٍ‬ ‫طالب يتجاذبون أطراف الحديث‬ ‫ٌ‬ ‫خالية عند حلول اإلجازة الصيفية‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫يتأخرون عن الحصص‪ ،‬مثلنا ً‬
‫تماما‪ .‬هل يا ترى ش ِهد هذا الصف‪ ،‬معلمين يستخدمون العنف واالختبارات‬
‫َ‬
‫الالنهائية والفروض المنزلية؟ هل كان هنالك طالب مثلي قد َوشوا بأصدقائهم إلى ناظر المدرسة؟‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فجأة بدأت بالتساؤل ما إن كان اسم والدي مخطوطا على الجدار‪ .‬والدي تخرج أيضا من ِ‬
‫هذه‬
‫المدرسة‪ .‬كان يؤمن بأنه ال بد من االلتحاق بالمدرسة والجامعة نفسها إلضفاء هيبة على تقاليد العائلة من‬
‫جيل إلى جيل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫أخيرا ضمن األسماء المكتوبة في العمود الذي على‬ ‫بحثت عن اسمه وسط األسماء وقد وجدته‬
‫ُ‬
‫جهة اليسار‪ ،‬وك ِتب تحته‪ :‬كل شيء بدأ من هنا‪.‬‬

‫~‪~21‬‬
‫نهاية الصيف‬
‫وبداية العُلزلة‬

‫~‪~22‬‬
‫تايهيونغ‬
‫العشرون من مارس العام العشرون‬

‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬


‫ركضت في الممر ُمحدثا صوتا ثقيال بخطواتي وانزلقت في النهاية‪ .‬كان نامجون واقفا أمام "غرفة‬
‫الصف الذي كان لنا ُ‬
‫تحول إلى غرفة تخزين‪ّ ،‬‬ ‫صفنا‪ ،‬إنه االسم الذي اخترته للصف الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نحن‬ ‫صفنا"‪ .‬غرفة‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫السبعة‪ .‬اقتربت باتجاه نامجون بخلسة محاوال إسقاط قبعته‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫المتعجل عبر نافذة ِصفنا المفتوحة قليال بعد أن حذوت حوالي‬ ‫"أيها المدير!" سمعت الصوت‬
‫خطوات نحو نامجون‪ .‬بدا ذلك كصوت سوكجين فوقفت هناك‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫خمس‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫هل يتحدث سوكجين إلى المدير؟ في صفنا؟ عن ماذا؟ سمعت اسمي واسم يونغي ثم رأيت‬
‫نامجون يلتقط أنفاسه بصعوبة‪ .‬بعد أن شعر بوجودنا‪ ،‬فتح سوكجين الباب على مصرعيه‪ ،‬كان يحمل‬
‫ً‬
‫هاتفا بيده وبدا عليه الخوف والتوتر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أخفيت نفسي في إحدى الزوايا وقمت بمراقبتهما‪ .‬فتح سوكجين فمه كأنه يستعد لتلفيق ٍ‬
‫عذر‬
‫سبب ُمقنع" لم أستطع تصديق األمر‪ .‬قام سوكجين‬ ‫لنفسه عندما قاطعه نامجون‪" .‬ال بأس‪ ،‬ال بد من وجود ٍ‬
‫ّ‬
‫بإخبار المدير بشأن ما فعلناه أنا ويونغي في األيام الماضية‪ .‬كيف أننا تهربنا من الدرس‪ ،‬تسلقنا عبر حائط‬
‫وتورطنا في عراك ومع ذلك أخبره نامجون ّأن ال بأس بهذا‪.‬‬ ‫المدرسة ّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫"ما الذي تفعله هنا؟" استدرت متفاجئا ألجد هوسوك وجيمين‪ .‬بعد أن نظر إلي هوسوك بتفاجئ‬
‫أكبر‪ ،‬وضع ذراعه حول كتفاي ثم قام بسحبي إلى الغرفة‪ .‬نامجون وسوكجين نظرا إلينا ثم ابتسم نامجون‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫اق وكأن شيئا لم يكن‪ .‬في تلك اللحظة‪ ،‬قمت بتنظيم أفكاري‪ .‬ال شك من أن نامجون لديه‬ ‫تجاهي بإشر ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أسبابه الخاصة‪ ،‬فهو أكثر معرفة وذكائا ونضجا مني‪ ،‬كما أن تلك هي غرفتنا‪.‬‬
‫ُ‬
‫مشيت باتجاه نامجون وسوكجين ويعلو محياي ابتسامة سخيفة المظهر‪ ،‬التي أطلق عليها‬
‫ُ‬
‫سمعته‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫المربعة" وقررت عدم إخبار أحد بشأن حوارهما الذي‬ ‫الجميع اسم "االبتسامة‬

‫~‪~23‬‬
‫نامجون‬
‫الخامس عشر من مايو العام العشرون‬

‫سلكت طريقي ناحية غرفة الصف التي تحولت لغرفة تخزين‪ ،‬وأصبحت بمثابة مخبأ لسبعتنا‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫مقلوبا ونفضت التراب عنه براحة يدي‪ .‬اليوم كان آخر‬ ‫مكتبا‬ ‫رتبت بعض المقاعد على الطريق‪ ،‬حملت‬
‫أيامي في المدرسة‪ .‬لقد قررت عائلتي االنتقال منذ أسبوع ين‪ .‬إذ توالت مشاكل عمل والدي‪ ،‬فغدت غير‬
‫ُمحتملة‪ .‬إيجار الشقة ُمتأخر لشهور اآلن‪ .‬وعلى الرغم من طيبة الجيران‪ ،‬إال أن راتب عملي الجزئي في‬
‫محطة الوقود ليس ً‬
‫كافيا لتغطية كل شيء‪ ،‬لهذا علينا الرحيل قبل أن تنفذ مدخراتنا‪.‬‬
‫ُ‬
‫طويت ورقة من المنتصف‪ ،‬وضعتها على المكتب‪ ،‬وأمسكت قلم رصاص‪ .‬ال أمتلك أدنى فكرة‬
‫ّ‬
‫عما سأكتب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مضت دقائق‪ ،‬وبينما كنت أخربش‪ ،‬كسر رصاص القلم‪ .‬ال ُبد أن أنج‪ .‬هذا ما دونته بال وعي‪،‬‬
‫حدث هذا قبل أن تتبعثر شظايا من الرصاص األسود في كل مكان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كومت الورقة‪ ،‬وضعتها في جيبي ووقفت‪ .‬تناثر الغبار عندما دفعت المكتب‪ .‬قبل خروجي من‬
‫ُ‬
‫الغرفة‪ ،‬نفثت على النافذة وكتبت ثالث كلمات‪ .‬ليس هنالك أي رسالة وداع كافية لجعل اآلخرين يتفهمون‬
‫ً‬
‫مفهوما‪" .‬سوف أراكم ُمجددا"‬
‫ً‬ ‫شعوري‪ .‬وبنفس الوقت‪ ،‬ليس هنالك أي حاجة لرسالة وداع لجعل نفسي‬
‫ً‬
‫عوضا عن وعد‪.‬‬ ‫لقد كانت أمنية‬

‫~‪~24‬‬
‫يونغي‬
‫الخامس والعشرون من يونيو العام العشرون‬

‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫حالما وطأت الغرفة‪ ،‬أخرجت ُمغلفا من داخل الدرج السفلي للمكتب ثم أخرجت ُمفتاح البيانو‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫النصف محروق من داخل ُ‬
‫المغلف‪ ،‬ورميته في سلة المهمالت ثم استلقيت على السرير‪ .‬كنت ال زلت‬
‫بصعوبة ولم أستطع ردع عقلي من التفكير‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أتنفس‬
‫ِّ‬ ‫ً‬
‫العظمي الذي كان‬ ‫لقد عدت للمنزل الذي طمسته النيران مرة بعد المأتم‪ ،‬ما يزال يقف الهيكل‬
‫َ‬
‫فيما مضى بيانو حيث كانت غرفة أمي موجودة فأنهرت على األرض‪ .‬ضوء الظهيرة تسلق النافذة ثم أخذ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نغمات كانت؟ كم عدد المرات‬
‫ٍ‬ ‫في االنكماش بعيدا‪ .‬رفعت رأسي ورأيت قطع مفاتيح البيانو ُملقاة بعيدا‪ .‬أي‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫تلك المفاتيح في جيبي‪.‬‬ ‫التي لمست أصابعها هذه المفاتيح؟ نهضت ووضعت واحدا ِمن‬
‫أعوام قد مرت‪ .‬انتاب البيت صمت‪ ،‬صمت قادني للجنون‪ .‬كانت الساعة بعد العاشرة‪ ،‬لذا‬ ‫ٍ‬ ‫أربعة‬
‫ً‬
‫من المؤكد أن أبي قد خلد للنوم‪ .‬وجب على كل شيء وكل شخص في المنزل البقاء هادئا بعدما يذهب‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫للنوم‪ ،‬هذه هي القاعدة‪ .‬لست معتادا على هذا الصمت المطبق‪ ،‬أو كوني دقيق ومتبع للقواعد‪ .‬على الرغم‬
‫من كل ذلك‪ ،‬حقيقة عيشي في هذا المنزل أمر غير ُمحتمل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فأنا أتلقى المساعدات منه‪ ،‬أتناول العشاء معه‪ ،‬وأحصل على التوبيخ منه‪ .‬كنت أحيانا أتحداه‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫أتحل بالشجاعة الحقيقية لهجره‪ ،‬للهرب بعيدا والعثور على الحرية‬ ‫وأتسبب في المشاكل لكن لم أكن‬
‫الحقيقية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫التقطت مفتاح البيانو من سلة المهمالت من أسفل المكتب الخاص بي‪ .‬عندما فتحت النافذة‪،‬‬
‫ُ‬
‫دخل النسيم الليلي‪ .‬تكررت أحداث اليوم في عقلي بصورة متسارعة‪ .‬رميت ُمفتاح البيانو خارج النافذة‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫ذهبت للمدرسة‪ ،‬أخبروني بأمر فصلي‪.‬‬ ‫بكل ما أوتيت من قوة‪ .‬لقد َ‬
‫مر أسبوعان منذ أن‬
‫ُ‬
‫من الممكن أن أطرد من المنزل حتى ولو أردت البقاء فيه‪ .‬لم أستطع سماع مفتاح البيانو وهو‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يصطدم باألرض‪ .‬واآلن‪ ،‬لن يسعني معرفة أي نغمة قد أصدرها أبدا‪ .‬لن يصدر صوتا ُمجددا‪ .‬لن أعزف‬
‫ً‬
‫جددا البتة‪.‬‬ ‫على البيانو ُم‬

‫~‪~25‬‬
‫جونغكوك‬
‫الخامس والعشرون من يونيو العام العشرون‬

‫بدأت أصابعي بالضغط على مفاتيح البيانو‪ ،‬وتغلغل الغبار بين أصابعي‪ ،‬بت أضغط عليها بقوة‬
‫أكبر‪ ،‬ومع ذلك لم يتسنى لي العزف كما كان يونغي يفعل‪ .‬انقضى أسبوعان منذ توقفه عن المجيء‬
‫ً‬
‫للمدرسة‪ .‬في النهاية‪ ،‬ظهرت شائعات تقول أنه ُطرد‪ .‬هوسوك لم يقل شيئا‪ ،‬وأنا لم أسأل‪.‬‬
‫حينذاك‪ُ ،‬قبيل أسبوعين‪ ،‬كنا أنا ويونغي وحدنا في الغرفة عندما جاء المعلم‪ .‬كان ً‬
‫يوما ً‬
‫عاديا‪ ،‬ذهبنا‬
‫إلى هناك دون أي تخطيط مسبق‪ .‬لم نود البقاء في فصولنا الدراسية فحسب‪ .‬حينها لم يلتفت يونغي‬
‫ٌ‬
‫خطب ما حول‬ ‫ً‬
‫مستلقيا على مكتبين مغلق العينين‪ .‬لكن بدا وكأن هنالك‬ ‫للوراء واستمر بالعزف بينما كنت‬
‫يونغي والبيانو‪ ،‬فال يبدوان منسجمين رغم أنهما كانا ال يفترقان‪ ،‬لم يكن لدي أدنى فكرة حول الوقت الذي‬
‫ً‬
‫شخصا ما قد حطمه‪ ،‬وتوقف‬ ‫مر‪ .‬وعلى نحو مفاجئ‪ ،‬عصف صو ٌت مدوي َ‬
‫إثر فتح الباب بشدة‪ ،‬كما لو أن‬ ‫ٍ‬
‫العزف‪.‬‬

‫لسيل من الكلمات‬ ‫ً‬


‫مستمعا‬ ‫ً‬
‫منحنيا‪،‬‬ ‫بت أتراجع بينما يصفعني المعلم حتى سقطت وجلست‬
‫ٍ‬
‫المسيئة‪ .‬فجأة‪ ،‬كف المعلم عن الصراخ‪ .‬نظرت ألرى يونغي يقف بيننا ويدفع كتف المعلم‪ ،‬وتسنت لي‬
‫رؤية نظرة المعلم المتعجبة من خلف كتف يونغي‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ضغطت على المفاتيح وحاولت محاكاة اللحن الذي كان يعزفه آنذاك‪ .‬هل طرد فعال؟ هل‬
‫ً‬
‫سيعود؟ لطالما قال أنه اعتاد على تلقي الضرب والركل من المعلمين‪ .‬إذا لو لم أكن هناك‪ ،‬أكان سيتمرد‬
‫على المعلم؟ إذ لم أكن هناك‪ ،‬هل سيبقى هنا يعزف على البيانو لألبد؟‬

‫~‪~26‬‬
‫سوكجين‬
‫السابع عشر من يوليو العام العشرون‬

‫طرق أذاني صوت حشرات الزيز بمجرد خروجي من مبنى المدرسة‪ .‬الملعب ُممتلئ بطالب‬
‫ُ‬
‫يضحكون‪ ،‬يلعبون‪ ،‬ويتسابقون في األرجاء‪ .‬لقد كانت بداية اإلجازة الصيفية‪ ،‬والجميع ُمتحمس‪ .‬شققت‬
‫طريقي من بين الحشد ورأسي ُمنخفض‪ .‬جل ما أردته هو الخروج من ُهناك‪.‬‬
‫ُ‬
‫"سوكجين" اعترض ظل أحدهم طريقي‪ ،‬رفعت رأسي بعجلة‪ .‬إنهما هوسوك وجيمين‪ .‬كانا‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫إلي بتلك النظرات ُ‬ ‫يبتسمان لي بابتساماتهما الكبيرة طيبة القلب كالمعتاد ونظرا ّ‬
‫ذاهبا‬ ‫المزعجة‪" .‬لست‬
‫ساحبا ذراعي‪ .‬تمتمت بشيء شبيه ب "نعم"‬ ‫ً‬ ‫للمنزل في أول أيام اإلجازة‪ ،‬أليس كذلك؟" تساءل هوسوك‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫بعيدا‪.‬‬ ‫وأشحت بنظري‬
‫ً‬
‫ما حصل ذلك اليوم كان حادثا‪ ،‬لم أقصد حدوث أي من ذلك‪ .‬لم أتوقع وجود جونغكوك ويونغي‬
‫في غرفة التخزين بتلك الساعة‪ .‬اشتبه المدير أنني أتستر على البقية وهددني بإخبار أبي عن مدى تراجعي‬
‫ً‬
‫في الدراسة‪ .‬حري بي قول شيء‪ .‬أخبرته عن مخبئنا ألنني ظننته فارغا‪ ،‬لكنه أدى لتعرض يونغي للطرد‪ .‬لم‬
‫يعلم أحد أن لي عالقة بذلك‪.‬‬
‫َ‬
‫"احظ بإجازة سعيدة‪ ،‬لنبقى على تواصل" ال بد أن هوسوك قد قرأ مالمح وجهي‪ .‬ترك يدي ببطء‬
‫ً‬
‫وودعني بطريقة أكثر إشراقا‪ .‬لم أستطع الرد‪ ،‬ال يوجد شيء ُيمكنني البوح به‪ .‬تذكرت أول يوم لي في هذه‬
‫ُ‬ ‫جميعا ُمتأخرين وقد عوقبنا‪ ،‬لكننا ُكنا ً‬
‫معا‪ ،‬لذا ضحكنا ً‬
‫معا‪ .‬لقد دمرت كل‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫المدرسة بينما عبرت البوابة‪ .‬كنا‬
‫هذه الذكريات التي تشاركناها بعد أن قررت العيش كما ُيريد أبي‪ ،‬بعد أن قررت عدم مالحقة سعادتي‪ .‬لقد‬
‫عضضت على أكثر مما ُيمكنني تحمل مضغه‪.‬‬ ‫ُ‬

‫~‪~27‬‬
‫هوسوك‬
‫الخامس عشر من سبتمبر العام العشرون‬

‫سارت والدة جيمين عبر غرفة الطوارئ ُمتجهة ناحية السرير‪ .‬تفحصت عالمة االسم المتواجدة‬
‫ُ‬
‫أسفل السرير وحقنة المغذي المتدلية فوقه وأزالت ورقة عشب جافة عن كتف جيمين‪ِ .‬سرت نحوها‬
‫ُ‬
‫بتردد وانحنيت‪ .‬شعرت أن من واجبي إخبارها عن سبب تواجد جيمين في غرفة الطوارئ وكيف أصيب‬
‫بنوبة هلع في موقف الحافلة‪ .‬بدا أن والدة جيمين الحظت وجودي للتو‪ .‬لكنها أشاحت بنظرها ُمسرعة‬
‫ً‬
‫"شكرا" دون انتظار تفسير مني‪.‬‬ ‫بعد همس كلمة‬
‫والممرضون بنقل سريره وأوشكت على اللحاق بهم حتى نظرت ّ‬
‫إلي والدة‬ ‫ما إن باشر األطباء ُ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جددا‪ .‬شكرتني مرة أخرى ودفعت كتفي‪ .‬بعد التفكير ً‬
‫مليا‪ ،‬لم تقم بدفعي حقا‪ ،‬إنما وضعت يدها‬ ‫جيمين ُم‬
‫برفق على كتفي وأزالتها بسرعة‪ .‬في تلك اللحظة العابرة‪ ،‬قد تم رسم خط حاجز بيننا‪ .‬ذلك الحاجز كان‬
‫ً‬
‫قابل للكسر‪ ،‬لن أتمكن أبدا من تخطيه‪ .‬لقد ترعرعت في ميتم ألكثر من عش ِر‬
‫حازم وقاس‪ ،‬بارد وغير ٍ‬
‫سنوات‪ .‬أستطيع تمييز هذا النوع من الحواجز بكامل حواسي‪ ،‬أراها بأعين األشخاص‪ ،‬وأشعر بها في‬
‫األجواء‪.‬‬

‫فسقطت‪ .‬حدقت بي والدة جيمين ببرود‪ .‬كانت صغيرة وجميلة‪ ،‬لكن‬ ‫خطوت باضطراب للخلف َ‬
‫ً‬
‫جالسا على أرضية غرفة الطوارئ‪.‬‬ ‫ظلها كان رحب ومقرور‪ .‬ذلك الظل الرحب غام حولي بينما تكومت‬
‫ُ‬
‫نظرت لألعلى كان سرير جيمين قد اختفى‪.‬‬ ‫حينما‬

‫~‪~28‬‬
‫جونغكوك‬
‫الثالثون من سبتمبر العام العشرون‬

‫"جونغكوك‪ ،‬لم تعد تذهب إلى ذلك المكان‪ ،‬أليس كذلك؟" أخفضت نظري ألحذيتي فحسب‬
‫ورفضت إجابته‪ ،‬لذا ضرب المعلم رأسي بكتاب التحضير‪ .‬ومع هذا لن أستسلم‪ ،‬كان ذلك المكان الذي‬
‫يوم دون تجولي فيها‪ ،‬ولم يعرف اآلخرون‪.‬‬ ‫التقينا فيه‪ .‬منذ أول وطأة وطأتها داخل تلك الغرفة‪ ،‬لم يمر ٌ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أحيانا تكون لديهم خطط أو وظائف بدوام جزئي‪ ،‬لكنهم لم يرحلوا أبدا‪ ،‬وأحيانا أخرى يونغي وسوكجين‬
‫تماما‪ ،‬فبدون استثناء لم أدع ٌ‬ ‫ً‬
‫مختلفا ً‬
‫يوم يمر دون أن أذهب إلى هناك‪.‬‬ ‫يختفيان لعدة أيام‪ ،‬إال أني كنت‬
‫ٌ‬
‫أحد آخر‪ ،‬ولم أمانع ذلك‪ ،‬أجل كنت على ما يرام بهذا ألن تلك الغرفة ستبقى دائماً‬ ‫يأت بها‬
‫هناك أيام لم ِ‬
‫ً‬
‫غد‪.‬‬
‫وقت الحق‪ ،‬ربما غدا وربما بعد ٍ‬
‫هناك وألن اآلخرين بالتأكيد سيأتون في ٍ‬
‫ً‬
‫"أعلم أنك تتسكع مع أشخاص سيئين" وضرب رأسي بكتاب التحضير مجددا‪ ،‬رفعت نظري وثبته‬
‫ً‬
‫على المعلم‪ ،‬أنزل الكتاب مجددا‪ ،‬وغمر ذهني مشهد يونغي وهو يتعرض للضرب‪ .‬صررت أسناني وكظمت‬
‫غيظي‪ .‬لم أرغب في الكذب وقول أنني لم أذهب إلى ذلك المكان‪.‬‬

‫كنت هناك‪ ،‬وأقف أمام الغرفة‪ .‬شعرت كما لو أن اآلخرين كانوا هناك‪ ،‬على الجانب اآلخر من الباب‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وقتا طويال للوصول‪.‬‬ ‫وعندما أفتحه‪ ،‬سيستديرون جميعهم لرؤيتي ويتذمرون حول السبب الذي استغرقني‬
‫يطالعان بعض الكتب‪ ،‬تايهيونغ يلعب‪ ،‬يونغي أمام البيانو كالعادة وهوسوك وجيمين‬‫ِ‬ ‫سوكجين ونامجون‬
‫يرقصان‪.‬‬

‫ولكن‪ ،‬عندما فتحت الباب‪ ،‬لم يكن هناك سوى هوسوك الذي أتى لتنظيف ما خلفناه‪ .‬تجمدت‬
‫يدي على المقبض‪ .‬تقدم هوسوك نحوي‪ ،‬ومرر ذراعه على كتفي واصطحبني إلى الخارج "لنذهب"‪ .‬أغلق‬
‫ً‬
‫أبدا‪.‬‬ ‫باب الغرفة خلفنا‪ .‬أدركت في تلك اللحظة وفي هذا المكان أن تلك األيام قد ولت ولن تعود‬

‫~‪~29‬‬
‫ال بد أن أنجُ‬

‫~‪~30‬‬
‫نامجون‬
‫السابع عشر من ديسمبر العام الواحد والعشرين‬

‫ُ‬
‫بلغت محطتي المنشودة‪ .‬كان الوقت ً‬
‫فجرا في قرية ريفية حيث ال‬ ‫واصلت تخفيف سرعتي حتى‬
‫ّ‬
‫ثلجي القوام‬ ‫كثير من األحيان‪ .‬ثلوج متأللئة تساقطت طوال الليل لتشكل غطاء‬
‫تتردد الحافالت إليها في ٍ‬
‫جسيما‪ ،‬وهوت األوراق كالثلوج في كل مرة َتهبُ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫على القرية بأكملها‪ .‬انحناءات الشجر جسدت وحشا أبيضا‬
‫َ‬
‫الرياح‪ .‬ال داعي للنظر خلفي ألدرك أنني الشخص الوحيد الذي خلف آثار أقدام على مر حقل الثلج في‬
‫وقت مضى بسبب الثقب الصغير الموجود في باطن حذائي الرياضي‪.‬‬ ‫هذه القرية‪ .‬كلتا قدماي قد تبللتا منذ ٍ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫سمعت بإحدى المرات أن الخالق يجعلنا وحيدين ليرشدنا إليه (‪ .)١‬لكنني لست وحيدا‪ .‬لم أخط دربي‬
‫ً‬
‫انسحابا‪ ،‬إنني أهرب من نفسي‪.‬‬ ‫نحو نفسي‪ ،‬لقد كان هذا‬
‫الممتلكات التي نحتاجها تستمر بالتقلص‬ ‫وصلت عائلتي لهذه القرية في الخريف الماضي‪ ،‬كمية ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫في ك ِل مرة ننتقل ِبها‪ .‬واآلن‪ ،‬احتجنا لشاحنة نقل صغيرة فحسب من أجل الرحيل‪ .‬لسنا في وضع يسمح‬
‫لنا بالتطلب في مكان عيشنا‪ ،‬فهنالك متطلبان ضروريان‪ .‬األول‪ ،‬إيجاد مشفى ألبي‪ .‬والثاني‪ ،‬إيجاد رب عمل‬
‫ُمستعد لتوظيف شخص بال شهادة ثانوية‪ .‬هذه القرية تمتلك كلي المتطلبين‪.‬‬
‫َ‬
‫نقفت الحافلة التي تعمل مرتان باليوم بجانب مشفى القرية‪ ،‬وسلسلة من المطاعم الصغيرة‬
‫تصطف على جوانب النهر خلف القرية‪ُ .‬يباع في هذه المطاعم بعض الحساء والمقليات المصنوعة من‬
‫أسماك صغيرة تم اصطيادها من النهر‪ُ .‬يعد موسم الصيف َأو َج بيعهم‪ .‬حيث يتدفق حشود من المدن‬
‫للمقيمين في القرية ومناطق االستجمام‬ ‫سعيا لرحلة مائية‪ ،‬وتكثر طلبات توصيل البضائع ُ‬ ‫ً‬ ‫القريبة‬
‫ُ‬
‫المتواجدة في التالل الجبلية‪ .‬في موسم الشتاء‪ ،‬عندما يتماسك الجليد على النهر‪ ،‬تستخدم هذه المطاعم‬
‫ً‬
‫صيفا‪ .‬ال يوجد العديد من ُ‬ ‫َ‬
‫السياح في الشتاء كما الحال في الصيف‪ ،‬لكن‬ ‫اصطيدت‬‫ِ‬ ‫أسماك محفوظة‬
‫طلبات التوصيل تبقى ثابتة‪ .‬كنت أحد فتيان توصيل الطلبات في القرية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫بالطبع هنالك ُمنافسة كبيرة هنا أيضا‪ُ .‬معظم الدخل لألسر من الزراعة‪ ،‬وكما ُيمكنكم التخمين‪،‬‬
‫ُ‬
‫يحقق الثراء‪ .‬كانت خدمة التوصيل هي العمل الجزئي الوحيد المتوفر للفتيان في القرية‪ .‬جعلنا‬ ‫األمر ال‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أصحاب المطاعم نتنافس "أليس من الطبيعي أن أعين من يثير إعجابي أكثر؟" بالنسبة لهم‪ ،‬ال يعنيهم‬
‫كوننا قاصرين وبال ُرخص قيادة‪ .‬وبالنسبة للفتيان الذين تم تعيينهم بالفعل‪ ،‬فهم يتصرفون بتعصب على‬
‫ومرهقة‪.‬‬‫الرغم من كونهم قلة إال أنهم قاموا بتهديدي بسخريات قاسية ُ‬

‫المنافسة أكثر ضراوة‪ .‬ترتب على ذلك قيامنا بمهمات تطوعية ألصحاب‬ ‫في اإلجازة‪ ،‬أصبحت ُ‬
‫وبشكل غير متوقع‪ ،‬انتهى‬ ‫ً‬
‫تحفيزا‪ .‬مع ذلك‪،‬‬ ‫العمل باإلضافة إللقاء نفايات مطاعمهم‪ .‬لم َيزدنا تواطؤهم إال‬
‫ٍ‬
‫التآزر فيما بيننا‪ .‬وعلى الرغم من تنافسنا أال أننا تعاطفنا مع بعضنا البعض‪ .‬فإن‬
‫ِ‬ ‫بنا الحال بإنشاء نوع من‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫حاله‪ .‬ذكرني ذلك باألوقات التي أمضيتها في غرفة التخزين أيام‬ ‫ِ‬ ‫تغيب أحد ِمنا‪ ،‬سيتساءل اآلخرون عن‬
‫الثانوية‪ .‬بعضهم ُمشابهون ليونغي‪ ،‬والبعض اآلخر لجيمين‪ .‬لم أستطع منع نفسي من التساؤل‪ ،‬لو تقابلت‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أنا وأصدقائي من المدرسة هنا في هذه القرية‪ ،‬هل كنا سنغدو أندادا ونحاول التفوق على بعضنا البعض؟‬
‫ُ‬
‫سن ّ‬
‫كون صداقة من نوع ما؟‬ ‫وإن قابلت فتيان التوصيل هؤالء في المدرسة‪ ،‬هل كنا‬
‫تتساقط الثلوج بكثافة حين تصل ُمنافستنا‪ ،‬غرائزنا التعصبية‪ ،‬وإحساسنا الغريب بالتآزر إلى‬
‫ُ‬
‫فورا‪ .‬كانت الدراجة النارية أمر أساسي في توصيل الطلبات لمناطق‬‫التنافس بيننا ً‬
‫َ‬ ‫حدها‪ .‬وحينئذ َيهمد‬
‫االستجمام‪ ،‬لكن من الخطر قيادة دراجة نارية ذات وزن خفيف على طريق الجبال ُ‬
‫الممهدة بالثلوج‪ ،‬إذ أنه‬
‫سيرا على االقدام ً‬
‫خيارا‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫طريق ُمنحدر ومتعرج‪ ،‬وال ُيعد توصيل الطلبات ً‬

‫~‪~31‬‬
‫ُ‬
‫ويعيش بإحدى‬ ‫بالنهاية‪ ،‬لقد كانت مواجهة حاسمة بيني وبين تايهيونغ‪ .‬إنه أصغر مني بسنتين‬
‫البستان‪ .‬لم يكن اسمه الحقيقي تايهيونغ‪ ،‬أعتقد أنه إما جونغشيك أو‬ ‫ضواحي القرية على مقربة من ُ‬
‫جونغهون‪ ،‬لكنه ُيذكرني بتايهيونغ‪ .‬لم يكن ذو ابتسامة ساذجة أو ُمنفتح على اآلخرين بطبيعته الرقيقة‬
‫ُ‬ ‫وم ً‬
‫ستاء ً‬ ‫عصبي‪ُ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫دائما‪ .‬مظهره‬ ‫عدائي‪،‬‬ ‫والبريئة كما هو الحال مع تايهيونغ‪ .‬باألحرى‪ ،‬لقد بدا ذو طبع‬
‫الخارجي ُمشابه ليونغي‪ ،‬لكن العجيب باألمر أنه ُيذكرني بتايهيونغ‪.‬‬
‫ُ‬
‫تايهيونغ وأنا نعد الشخصان الوحيدان المستعدان للمجازفة بخطر توصيل طلبات لجبال القرية‬
‫ين بائسين‪ .‬كان اليوم كأي يوم ُمعتاد‪ .‬حين وصلت طلبية أخرى‬ ‫بالثلوج وذلك لكوننا فقير ِ‬
‫ُ‬
‫المغطاة‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫فبناء على توقعات الطقس‪،‬‬ ‫للمطاعم‪ ،‬كنت أتجول حول النهر بمفردي‪ .‬ال وجود ألشخاص أخرين‪،‬‬
‫ً‬
‫سيتساقط الثلج بكثافة بعد الظهيرة‪ .‬وصل تايهيونغ بعد عدة دقائق‪ ،‬وبدال من التوجه للدردشة في‬
‫بالقرب من الجسر‪ .‬اليوم هو أحد تلك األيام حيث يمتلئ وجهه‬ ‫ِ‬ ‫المطعم كعادته‪ ،‬ألقى بنفسه على األرض‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بالندوب والكدمات‪ ،‬هذه األيام حيث تكون عيناه محتقنتان ومالبسه ملطخة بالدماء‪ .‬أهنالك خطب ما‬
‫به؟ هل يقوم أحد بضربه؟ لم أسأل‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫بدأت الثلوج بالتساقط بينما انتظرت إعداد الطعام‪ .‬في تلك اللحظة‪ ،‬المست ندفة ثلج مؤخرة‬
‫ُ ً‬
‫وسمكا‪" .‬هل أنتما متأكدان من عودتكما سالمين؟" أخرج المالك‬ ‫رقبتي بخفة‪ .‬ازداد تساقط الثلج كثافة‬
‫ُ ً‬ ‫ُ‬
‫رأسه‪ .‬وثب تايهيونغ على أقدامه‪ ،‬ونظرت ناحيته‪" .‬بالطبع" أجاب كالنا بتزامن‪" .‬ال نعلم أبدا ألي درجة‬
‫ٌ‬
‫سيتساقط المزيد من تلك السماء" أجاب أحد من داخل المطعم‪" .‬ابتدأ التساقط للتو‪ ،‬سأعود خالل‬
‫َ‬
‫دقائق"‪ .‬نظر إلي مالك المطعم بتحديقة مترددة‪ ".‬لكنك ما زلت غير متمرس في قيادة الدراجة‪ ".‬أتى‬
‫ُ‬
‫حاله‪ ".‬كال‪ ،‬اليوم َ‬ ‫ً‬
‫ليس يومك‪ ،‬اذهب لترتاح‪".‬‬ ‫تايهيونغ قائال أنه جيد بقيادتها‪ .‬نقر المالك بلسانه حالما رأى‬
‫لم أفوت فرصتي وقفزت على الدراجة‪ ".‬هنالك مرة أولى لكل شيء‪ ،‬واليوم هو يومي األول بالتوصيل في‬
‫ُ‬ ‫الثلج‪ .‬إنك ُ‬
‫تعلم مدى حذري‪ ".‬استسلم المالك" تعال إلى هنا‪ ،‬سيتوجب عليك القيام بعدة جوالت‪ ،‬لذا‬
‫احترس‪".‬‬
‫ُ‬
‫ُيمكنني الشعور بنظرات تايهيونغ تتبع تحركاتي بينما دخلت للمطعم‪ .‬حام حولي بينما كنت أوظب‬
‫الطعام في صندوق الدراجة‪ ،‬مما جعلني استغرب‪ .‬عادة ما يتصرف تايهيونغ بكبرياء فليس من عادته‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫التصرف بهذا الشكل‪ .‬نظرت ناحيته فتقدم نحوي كما لو أن لديه شيء لقوله‪ ،‬ثم أشاح بنظره بعيدا‪ .‬استمر‬
‫ُ‬
‫المالك بإزعاجي حول القيادة في طريق ُمثلج‪ ،‬وتظاهرت باالستماع بينما أومأت رأسي بحماس‪ .‬قيادة‬
‫الدراجة ال تتطلب أي تركيز‪ ،‬مهارة‪ ،‬أو جهد‪.‬‬
‫ً َ ً‬
‫أمرا هينا باألخص مع كل هبة ثلج‪ .‬لم‬ ‫على عكس ما توقعته‪ ،‬لم يكن تسلق المنحدر على الدراجة‬
‫ُ‬
‫يتكدس الثلج عل ى الطريق بعد‪ ،‬لكن أعصابي قد وصلت حدها بسبب تناثر ندفات الثلج الكثيفة في جميع‬
‫االتجاهات‪ .‬شقت الدراجة المتهاوية طريقها على المنحدر بصعوبة‪ .‬بدا وكأن الدراجة تحاول التشبث بي‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كان الجو باردا لكنني أتصبب عرقا وجميع عضالتي بدأت بالتشنج‪ .‬في اللحظة التي تليها‪َ ،‬جف عرقي‬
‫ذهابا ً‬ ‫ُ‬
‫واصلت إقناع نفسي أنني عبرت هذا الطريق ً‬ ‫وشعرت بلسعة هواء في ظهري‪.‬‬
‫وإيابا للعديد من المرات‬
‫طوال موسم الخريف وحتى بداية موسم الشتاء دون أي صعوبة‪ .‬على أي حال‪ ،‬لم يتكدس الثلج بعد ولم‬
‫ً‬
‫يكن الطريق زلقا‪.‬‬

‫تحركت الدراجة بعجز خالل جولتي الثالثة‪ .‬لقد ب دأت للتو باكتساب القليل من الثقة والتفكير‬
‫بالمناورة في مثل هذا اليوم ُ‬
‫جيد ُ‬‫ٌ‬
‫المثلج‪ .‬بما أن تساقط الثلج قد مضى عليه فترة من الوقت ومع‬ ‫بأنني‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫حركة السير القليلة‪ ،‬فقد بدأ الثلج يتكدس على الجوانب‪ ،‬لكن مازال منتصف الطريق جيدا‪ ،‬ولم يكن‬
‫المنحدر شديد االنحدار‪ .‬بمجرد أن جالت ببالي هذه األفكار حتى خرجت العجالت الخلفية عن اإلطار‪.‬‬
‫كنت أضغط بإحكام شديد؟ هذا كل ما جال تفكيري‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫بدهشة‪ ،‬أحكمت قبضتي على المكابح بشدة‪ .‬هل‬

‫~‪~32‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫تذكرت شيئا قد قاله المالك بشأن المكابح‪ .‬تحذيرات المالك التي أصغيت إليها بفتور تتدفق برأسي‪ .‬بدا‬
‫ً‬
‫وكأن الدراجة تحاول استعادة توازنها حتى خرجت عن السيطرة ُمجددا قبل أن أتنفس الصعداء‪ .‬فور‬
‫ُ‬
‫تعثرت ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫ميت على الطريق بقوة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫بعنف كما لو أن الدراجة قذفتني على‬ ‫التقاطي لنفسي التالي‪ ،‬كنت قد ر‬
‫ُ‬
‫األرض بأقصى قوتها‪ .‬تزحلقت الدراجة على كامل الطريق حتى ارتطمت بشيء ما‪ .‬وسمعت صوت رطمة‬
‫قوية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وثبت على قدماي‪ .‬ال أمتلك الوقت لتفقد إصابتي أو مكان األلم‪ .‬جريت نحو الدراجة وهي ُملقاة‬
‫ُ ْ‬
‫بشكل جانبي أسفل الشجرة القابعة على الجانب األيمن من الطريق‪ .‬كانت قد غمرت بأوراق الشجر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫المتساقطة إزاء االرتطام‪ .‬رفعتها ألكتشف خدشا عميقا وملحوظا في أسفل هيكلها‪ .‬أدخلت المفتاح‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وحاولت تشغيلها‪ ،‬لكن بال جدوى‪ .‬سال العرق على مؤخرة عنقي‪ .‬جميع مفاصلي كانت تؤلمني‪ .‬لقد‬
‫ٌ‬
‫محال أن أستطيع التعويض عن ثمن الدراجة‪.‬‬ ‫تملكني الخوف‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫المحرك وأصدر صوت خشخشة لكن‬ ‫جددا‪ ،‬هذه المرة مع ركل المحرك‪ .‬دار ُ‬ ‫أدرت المفتاح ُم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سرعان ما خمد‪ .‬بغضت حظي‪ ،‬أطبقت عيناي‪ ،‬وركلت األرض بكل قوتي‪ .‬يدي التي تحمل المفاتيح لم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تتوقف عن االرتعاش‪ ،‬مالمح والداي وأخي تصدرت تفكيري‪ .‬نظرت للسماء وتمالكت نفسي‪ .‬قبضت‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫جددا‪.‬‬ ‫المفتاح ُم‬
‫حاولت إدارة ُ‬ ‫وأرخيت راحة يدي مر ًارا وتكر ًارا‪ .‬بعدها‪،‬‬
‫المحرك للعمل بعد ُمحاوالت عديدة‪ .‬عادت الدراجة للحياة بصوت كأزير حيوان‬ ‫وأخيرا‪ ،‬عاد ُ‬
‫ً‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عيني‪ .‬قفزت‬ ‫نزفت طاقتي‪ .‬رأيت الخدش العميق الذي بمستوى‬ ‫يحتضر‪ .‬انهرت على األرض‪ ،‬لقد است ِ‬
‫كه بحافة حذائي الرياضي‪ .‬إنها دراجة عتيقة وبــها العديد من االنبعاجات والخدوش بالفعل‪ .‬إن‬ ‫بسرعة لفر ِ‬
‫فعلت هذا‪ ،‬قد ال يظهر الخدش الجديد‪.‬‬
‫ُ‬
‫قمت بالتحقق من حالتي الجسدية‪.‬‬ ‫عندما وقفت باستقامة‪ ،‬وخزتني قدمي من األلم‪ .‬فقط حينها‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫صغيرا ينزف فوق عظمة الرسغ اليسرى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫جرحا‬ ‫لحسن حظي‪ ،‬لم يكن هنالك أي إصابات بليغة‪ .‬وجدت‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫مررت بهذا األحساس ُمسبقا‪.‬‬ ‫أفخاذي وخاصرتي قد يؤلمونني في صباح الغد‪ ،‬لكنني‬
‫ُ‬
‫أقط ُر الدراجة وأدخل المطعم‪ .‬هل الحظ؟ توترت لكنني حاولت التحدث مع‬ ‫لمحني تايهيونغ ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫بشكل عفوي قدر اإلمكان‪ .‬وصلت الطلبية التالية‪ ،‬يجب أن أخرج مجددا قبل أن أستريـ ــح حتى‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫المالك‬
‫متوجها للدراجة‪ .‬هل رأى الخدش؟ أجبت بصوت مرتفع‬‫ً‬ ‫"أنت‪ "...‬تحدث تايهيونغ ّ‬
‫إلي بينما كنت‬
‫بقصد "ماذا؟" بعد القليل من التردد‪ .‬أكمل تايهيونغ "أريد طلب خدمة" "خدمة؟ أي خدمة؟" حينئذ رن‬
‫هاتفي‪ .‬رفعت يدي إلسكاته واستدرت‪ .‬إنها والدتي‪ ،‬حاول أبي الخروج بمفرده وسقط‪ .‬طلبت مني أخذه‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫داخليا‪ .‬صررت على أسناني‪ .‬شعرت بانزعاجي يعصف ببطء من‬ ‫للمشفى‪ .‬أغلقت عيناي‪ ،‬وازداد حنقي‬
‫ذهابا ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫معدتي‪ .‬ندفة ثلج كبيرة وملحوظة هبطت على وجهي‪.‬‬
‫المنحدر الزلق‬ ‫ذلك‬ ‫على‬ ‫ا‬ ‫وإياب‬ ‫اجة‬
‫ر‬ ‫الد‬ ‫قدت‬
‫تقريبا‪ .‬الجرح القابع أعلى رسغي مؤلم‪ ،‬وأفخاذي تحترق‪ .‬لكنني ُأعرضُ‬
‫ً‬ ‫وفي هذا الجو من أجل ال شيء‬
‫ً‬
‫نفسي لقيادة هذه الدراجة ُمجددا‪ .‬هذه الطريقة الوحيدة لكسب هذا القدر القليل من المال لليوم‪.‬‬
‫ُ‬
‫لست أفهم سبب محاولته المشي بمفرده‪ .‬كان هذا آخر كبرياء له كمسؤول عن عائلتنا ومحاولته‬
‫لحفظ كرامته كأب‪ ،‬لكن ال ُيمكننا تحمل هذا اإلسراف في أوج فقرنا‪ .‬كرامة‪ ،‬كبرياء‪ ،‬إحساس باإلنصاف‪،‬‬
‫ُ‬
‫لحمل أكبر وإنفاق أكثر‪ .‬عندما فتحت عيناي‪ ،‬تايهيونغ كان ُيحدق بي فسلمته‬ ‫واألخالقيات جميعها تقود ِ‬
‫المفتاح‪.‬‬
‫ُ‬
‫عندما ترجلت وأبي من الحافلة عائدين من المشفى‪ ،‬كانت الشمس قد غربت‪ .‬ندفات الثلج‬
‫ّ‬
‫الكبيرة استمرت بالنمو حتى شكلت تكدسات من الثلج‪ .‬تقدمت الحافلة ببطء‪ .‬الفترة الزمنية المستغرقة‬

‫~‪~33‬‬
‫بالذهاب والعودة من المشفى كانت مسافة مضاعفة‪ ،‬وذلك لكوني أحمل والدي على ظهري بدون أن‬
‫المظلة لنا‪ .‬شعري رطب ويداي اللتان تحمالنه متخدرتان من البرد‪.‬‬ ‫َ‬
‫يمسك أحد ِ‬
‫ُ‬ ‫أخذت ً‬‫ُ‬
‫نفسا تحت شجرة زيلكوفا المتواجدة قبل الجسر‪ .‬قبضت أنفاسي ونظرت للسماء‪ .‬تالقت‬
‫ّ‬
‫عيناي مع مشهد شامل للقرية بأكملها‪ .‬بدت القرية في سكون ودعة وهي ُمغطاة بالثلوج‪ .‬إضاءة صفراء‬
‫المختلفة‪ .‬رائحة األرز واللحم المطبوخة على البخار قد شحذت شهيتي‪.‬‬ ‫دافئة تندفع خارج نوافذ المنازل ُ‬
‫ُ‬
‫بعد تخطي الجسر والمشي عبر الزقاق‪ ،‬بدأت الكالب بالنباح‪ .‬على الرغم من عيشنا في هذه القرية لشهور‬
‫"عليه‬
‫ِ‬ ‫عدة اآلن‪ ،‬إال أن هذه الكالب تنبح باتجاهي وكأنني شخص غريب‪ .‬استقامت والدتي فور دخولنا‪.‬‬
‫تلقي عالجات في العيادات الخارجية لثالث أيام على األقل"‪.‬‬
‫ُ‬
‫وضعت أبي في غرفته ثم اتجهت إلى الخارج‪ .‬لم تكن هناك أي داللة على أن هطول الثلج‬
‫ُ‬
‫سيتوقف قر ًيبا‪" .‬لماذا تكرهونني لهذه الدرجة؟ أخبروني بالسبب على األقل" صرخت على الكالب التي‬
‫سمعت عن حادث تايهيونغ في اليوم التالي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تنبح بشدة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫عندما وصلت إلى المطعم بجانب الضفة‪ ،‬رأيت المالك يتحدث إلى ضابط شرطة فتجمدت في‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫غريزيا‪ ،‬معتقدا أنه أتى ألجلي‪ .‬كنت قد ألحقت الضرر بالدراجة في اليوم الذي سبق‪ .‬قد أقع في‬ ‫مكاني‬
‫ّ‬
‫الكثير من المشاكل للقيادة تحت السن القانونية بدون امتالكي لرخصة قيادة‪ .‬هل علي الهرب إلى المنزل؟‬
‫ً‬
‫تأت لساعات‪ .‬كان الهرب مستحيال عند أخذ حالة والدي باالعتبار‪.‬‬ ‫لكن الحافلة لن ِ‬
‫"هل سمعت؟" كانت مالكة المطعم المجاور‪ .‬قالت أن الحادث حصل عندما كان تايهيونغ يقود‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الدراجة نازال التل بعد قيامه بالتوصيل‪ .‬بقيت جثته مستلقية هناك ألكثر من ثالث ساعات قبل أن يجدها‬
‫شخص بسيارة صادف مرورها من هناك‪ .‬اتصل أحد ُسكان مدينة منطقة االستجمام بمالك المطعم لكن‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫متمر ًسا وباإلضافة لذلك‪ ،‬قام‬
‫ّ‬ ‫لم يخرج أحد للبحث عنه‪ .‬قال ضابط الشرطة أن تايهيونغ لم يكن سائقا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫بلومه لعدم ارتدائه خوذة‪ .‬رأيت خوذة لم أرها سابقا موضوعة على منضدة المطعم‪ .‬استمر المالك بقول‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫صحيحا‪ ،‬فأنا و‬ ‫أنه لم ُيجبر تايهيونغ على الخروج أبدا وحتى أنه حاول إقناعه للعدول عن ذلك‪ .‬كان ذلك‬
‫ً‬ ‫ّ ُ‬ ‫تايهيونغ ّ‬
‫أصرينا بأننا ال نمانع األمر‪ .‬تدخل كل الجيران لكونها قرية صغيرة يعرف فيها الجميع بعضهم‬
‫كانت عن عراك باأليدي‪ ،‬طعن‬ ‫شخص هناك‪.‬‬ ‫البعض‪ .‬امتلكوا على األقل ذكرى أو اثنتين عن كل‬
‫ً‬ ‫سواء ُ‬‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ْ‬
‫عاش مع أمه وأخته ولم يملك أبا‪.‬‬ ‫بدأت سلسلة من القصص عنه باالنتشار‪.‬‬ ‫الظهر‪ ،‬أو حتى الخيانة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫تلوت والدة تايهيونغ وانتحبت باكية على المقعد المقابل للمطعم‪ .‬أعيدوا ولدي‪ ،‬أعيدوا ولدي‬
‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫المسكين‪...‬إنه موت ظالم‪ .‬في البداية حاول ُسكان الحي مواساتها وقاموا بالبكاء معها لكن الجو كان باردا‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫مبكرا‪ .‬في المساء‪ ،‬تركت والدة تايهيونغ لوحدها وتدفقت رائحة العشاء الذي ُيطهى عبر‬ ‫ً‬ ‫والشمس غربت‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫مرة هبت الريـ ــح على األشجار المرصوفة قرب النهر‪ ،‬سقطت كتل من الثلج لكنها‬ ‫كالمعتاد‪ .‬وفي كل ٍ‬ ‫ً‬
‫النوافذ‬
‫بقيت جالسة هناك في منتصف كل ذلك‪.‬‬
‫ُ ُ‬
‫رأيتها تجلس لوحدها عندما كنت أعيد أبي من المشفى إلى المنزل‪ .‬وبدون إدراكي لألمر‪ ،‬توقفت‬
‫ُ‬
‫في مكاني أتذكر موقع الحادث‪ .‬بعد سماعي بأمر تايهيونغ‪ ،‬سرت بمحاذاة الطريق بمفردي وكانت األوراق‬
‫ً‬
‫الرطبة تدور في األرجاء وآثار كلوريد الكالسيوم باقية في مكانها‪ .‬من الممكن أن أكون أنا الشخص المستلقي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫هناك لو قمت بعملية التوصيل تلك‪ .‬لو أخذت مكان تايهيونغ‪ ،‬لكان هذا أثري أنا ولكانت عائلتي تنتحب‬
‫عوضا عن عائلة تايهيونغ‪.‬‬ ‫ً‬
‫على ذلك المقعد‬
‫ُ‬
‫ثنيت خطواتي بعد أن سعل أبي بقوة‪" .‬نامجون" قام والدي بمناداتي عندما أوشكنا على دخول‬
‫بصوت ضعيف‬ ‫تمهلي في المشي‪ ،‬بدأت الكالب بالنباح وأكمل أبي كالمه‬ ‫الزقاق بعد عبور الجسر‪ .‬إثر ُّ‬
‫ٍ‬
‫وخافت‪.‬‬

‫~‪~34‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ضائعا وسط النباح الشرس فتظاهرت بعدم سماعه‪ .‬مضى أسبوع آخر‬ ‫كان صوته بالكاد مسموعا‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫وعادت القرية إلى وضعها الطبيعي‪ .‬بكت والدة تايهيونغ بحسرة أمام المطعم أحيانا لكن لم يشاركها أحد‬
‫ً‬
‫في حزنها‪ ،‬واكتفى الناس بتوبيخ شقيقة تايهيونغ حتى أخذتها بعيدا‪ .‬قال البعض بأنه مجرد حادث مروري‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بدأت العمل في مطعم آخر وفي الحقيقة‪ ،‬أصبحت مسؤوال عن شتى أعمال التوصيل في منطقة‬
‫ّ‬
‫بالتجمد والذوبان‪ .‬كانت طلبات التوصيل تزداد‬ ‫االستجمام‪ .‬جاء سقوط ثلج ثقيل آخر واستمر الطريق‬
‫ُ‬
‫للتو لكن لم يتقدم أحد للعمل‪ .‬قمت بخدمات التوصيل من خمسة إلى ستة مرات باليوم وزاد راتبي بهذا‬
‫ُ‬
‫حرصت ً‬ ‫القدر‪.‬‬
‫دائما على وضع خوذتي وارتداء معدات السالمة ولم أغفل عن الطريق على اإلطالق‪،‬‬
‫مكر ًسا كل انتباهي له‪.‬‬
‫ّ‬
‫ُ‬
‫قمت بآخر عملية توصيل في الليلة الماضية مع أني لم أعلم حينها بأنها ستكون األخيرة‪ ،‬لكنها‬
‫ُ‬
‫كانت كذلك‪ .‬تم إغالق منطقة االستجمام ألشهر الشتاء على كل حال‪ .‬عندما صعدت إلى هناك‪ ،‬كان الناس‬
‫مجتمعين في المكتب وبدا بأنهم يتناقشون بشأن مبيعات المنشأة‪ .‬لم أتعرف على بعض الوجوه‪ ،‬ال بد‬
‫مؤخرا‪ .‬بينما كنت أضع الطعام وأقبض المال‪ ،‬أخذ أحدهم يتحدث عن‬ ‫ً‬ ‫من أنهم غرباء انتقلوا إلى هنا‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫يوم مثلج‪ .‬حذرني الغريب الذي ذكر‬ ‫بنقر لسانه ذاكرا خطورة قيادة الدراجة في ُ ٍ‬ ‫شخص آخر‬ ‫تايهيونغ وقام‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫حادث تايهيونغ منبها إياي لتوخي المزيد من الحذر وأنا بدوري شكرته للقلق بشأني مع أني لم أعني ذلك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫فلو َ‬
‫سيطلب الطعام في المقام األول‪" .‬هل تعرف‬ ‫وسالمتي‪ ،‬ما كان‬
‫ُ‬ ‫قلق بشأن المنحدر المغطى بالثلوج‬
‫ّ‬
‫أين يكمن الخطر الحقيقي؟" بادر الغريب قبل أن أغلق الباب ورائي‪" .‬في كلوريد الكالسيوم واألوراق المبتلة‬
‫ً‬
‫متمر ًسا‪ ،‬ستنزلق إذا دهستهما‪ .‬ألم ينزل الثلج يومها؟ ال بد من‬ ‫سائقا ّ‬ ‫وليس في الثلج بحد ذاته‪ .‬لو لم تكن‬
‫ُ‬ ‫كلماته األخيرة َ‬‫ُ‬
‫غير مسموعة إثر انغالق الباب‪ .‬قطعت طريقي عبر منطقة االستجمام الكئيبة‬ ‫أنه‪ "...‬باتت‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ثم عبرت محل الوجبات الخفيفة الضيق وكشك الخصم المحلي الخاص متجها إلى المخرج‪ .‬نزلت السلم‬
‫درجة تلو األخرى ومع أن َ‬ ‫ً‬
‫درجة الحرارة كانت أدنى من الصفر لكنني لم أشعر بهذا القدر من البرد‪.‬‬
‫ُ ُ‬ ‫ّ‬
‫ظل المفتاح ينزلق من أصابعي وبقيت أديره بال نتيجة‪ .‬أغلقت قبضتي ثم أرخيتها‪ .‬أصدرت‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫أخيرا فخرجت من منطقة االستجمام ببطء‪ .‬كان‬ ‫الدراجة القديمة صوت خرخشة جنوني قبل أن تعمل‬
‫ُ‬
‫بدائرة واسعة قبل نزولي‬
‫ٍ‬ ‫هناك ُمنعطف عند العالمة الخاصة بمنطقة االستجمام فاستدرت إلى اليمين‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫قصيرا ومستقيم‪ .‬وصلت إلى ُمنعطف آخر يؤدي إلى اليسار وكانت هذه بقعة انزالقي ووقوع‬ ‫ً‬ ‫قطاعا‬
‫تايهيونغ في ورطة كذلك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أبقيت عيناي لألمام وعبرت المكان في ُع َجال‪ .‬حاولت إقناع نفسي بأني لم أزح عيناي عن الطريق‬
‫ً‬
‫حفاظا على سالمتي‪ ،‬لكن السبب كان شعوري بالذنب‪ .‬الذنب لنجاتي لوحدي‪ ،‬الذنب لشعوري بالراحة‬
‫لكوني الشخص الذي بقي على قيد الحياة‪ ،‬الذنب لعدم قدرتي على االعتراف بالحقيقة‪ ،‬الذنب لعدم‬
‫دفاعي عن مهاراته في القيادة‪ ،‬والمتناعي عن االعتراف بعدم رؤيتي للخوذة في المطعم على اإلطالق‪.‬‬
‫ضميرا ُيشعره بالذنب‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫منافق يدعي امتالكه‬ ‫ٍ‬ ‫ربما لست سوى‬
‫ُ‬ ‫بعثرت األوراق الرطبة في مكان نزول تايهيونغ ومع أني لم ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أتعمد فعل ذلك‪ ،‬ما زلت‬ ‫كنت قد‬
‫ُ‬ ‫بنية حسنة لمنع ّ‬ ‫رششت كلوريد الكالسيوم ّ‬‫ُ‬ ‫ً‬
‫تكون الجليد على الطريق‪ .‬في الحقيقة‪ ،‬فعلت‬ ‫مسؤوال عنه‪ .‬أنا‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫متأكدا من قيامي بعملية التوصيل التي تليها باإلضافة للتي بعدها‪.‬‬ ‫ذلك من أجلي ألني كنت‬
‫"هل تعرف أين يكمن الخطر؟" تكرر في ذهني ما سمعته في منطقة االستجمام "ال بد من أنه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫دهسهما وانزلق" لو كنت قد أزلت األوراق‪ ،‬لو لم أقم بنثر كلوريد الكالسيوم‪ ،‬هل كان ليصبح بأمان؟ مأل‬
‫العديد من الناس موقف الحافالت بالفعل‪ ،‬منتظرين أول حافلة لليوم‪.‬‬

‫~‪~35‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫أي كان‪ ،‬بعد ذلك ظهرت أول حافلة لليوم‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بتحية ثم أوطأته محاوال عدم النظر إلى‬ ‫أومأت رأسي‬
‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫أس منحني‪ ،‬صعدتها مع الركاب اآلخرين‪ .‬لم أملك خطة محددة‪ ،‬كنت أتسلل‬ ‫توقفت الحافلة تدريجيا وبر ٍ‬
‫ها ًربا وحسب‪.‬‬

‫يضل طريقه‪ ،‬وأبي الذي يحارب مرضه‪ .‬من حظ عائلتنا‬ ‫ُّ‬ ‫من وجه أمي المرهق‪ ،‬أخي الذي‬
‫ُّ‬
‫المتدهور‪ ،‬من توقع عائلتي للتضحية والطاعة من ناحيتي‪ ،‬من محاولتي لالستسالم لقدري‪ ،‬واألهم من‬
‫ّ ً‬
‫شيء بال معنى‪ ،‬ويجعلك‬ ‫ٍ‬ ‫محوال كل ما هو ثمين إلى‬ ‫كل ذلك‪ ،‬من الفقر‪ .‬الفقر الذي يتغذى على قلب الحياة‬
‫تستغني ع ّما ال يجوز االستغناء عنه ويملئك بالخوف والشك واليأس‪ .‬في الليلة الماضية‪ ،‬غادرت منط قة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫قبيل عودتي إلى المنزل‪ .‬ال أذكر بمن التقيت‪ ،‬وال ما فكرت وتحدثت بشأنه‬ ‫االستجمام ومررت بالمطعم‬
‫بين ذلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جسدي وعقلي كانا خدرين بالكامل‪ .‬لم أعرف إن كانت الرياح عاصفة أو الجو باردا‪ ،‬كيف كانت‬
‫ً‬ ‫‪ُ ّ .‬‬
‫تلقائيا كالزومبي‪ ،‬جاهال هويتي وأفعالي وأفكاري‪ .‬أعادني نبا ُح الكالب‬
‫ً‬ ‫تحركت‬ ‫الرائحة أو بمن اصطدمت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إلى رشدي في بداية الزقاق الذي يقود إلى المنزل‪ .‬حينها تيقظت جلى أحاسيسي التي كانت قد أصيبت‬
‫ُّ‬
‫بالشلل في آن واحد وانتشرت مشاهد ال تحصى أمام عيناي‪ :‬أيام التنقل من مكان إلى آخر‪ ،‬لحظة انزالقي‬
‫في الشارع‪ ،‬زحفي لمالك المطعم ومنافستي الصبيان اآلخرين ألحصل على وظيفة التوصيل‪ .‬الفتيان الذين‬
‫سخروا مني ونظرتي ألقراني في أزيائهم المدرسية وهم ينتظرون الحافلة‪ .‬انضم إلى تلك المشاهد صوت‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫مصحوبا بعيونها الخطيرة المليئة بالحقد‪ .‬كدت أن أصرخ "توقفوا! ما الذي تريدون مني‬ ‫الكالب النابحة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪ّ .‬‬
‫فعله؟" لكنني سيطرت على نفسي رن صوت أبي في أذناي‪ ،‬صوته المهزوم والضعيف‪ ،‬وفكرت بما أخبرني‬
‫ُ‬
‫به ليلة عودتنا من المشفى‪ ،‬ما تظاهرت بعدم سماعه مع أني سمعته كوضوح النهار من بين نباح الكالب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ما وجدت نفسي أفكر به مر ًارا وتكر ًارا منذ ذلك الحين‪ ،‬ما حاولت عدم التفكير به‪" .‬اذهب يا نامجون‪،‬‬
‫تنج‪ ".‬غادرت الحافلة المتوجهة إلى سونغجو بعد بضع ساعات‪.‬‬ ‫ُ‬
‫عليك أن‬
‫ً‬
‫لم أترك رسالة عند مغادرتي سونغجو قبل سنة واآلن‪ ،‬ها أنا أعود إلى المدينة دون سابق إنذار‪.‬‬
‫فتساءلت ّ‬
‫عما كانوا يفعلونه وإن كانوا موجودين هناك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أي منهم‬
‫اتصال مع ٍ‬‫ٍ‬ ‫فكرت بأصدقائي‪ .‬لم أبقى على‬
‫ُ‬
‫لم تسعني الرؤية خارج زجاج النافذة المغطى بالجليد‪ .‬كتبت ببطء على النافذة بأصبع السبابة‪" .‬ال بد أن‬
‫ُ‬
‫أنج"‬

‫ُ‬
‫(‪ )١‬من كتاب ‪ Demian‬للكاتب والشاعر ‪" Hermann Hesse‬اقتبس بتصرف"‬

‫~‪~36‬‬
‫ما جيب البحث‬
‫عنه عند الضياع‬

‫~‪~37‬‬
‫هوسوك‬
‫الثاني من مارس العام الثاني والعشرون‬

‫بعمل جزئي في مطعم "تو ستار برغر"‪.‬‬ ‫ُ‬


‫ٍ‬ ‫أحببت االختالط بالناس‪ .‬فور مغادرتي لدار األيتام‪ ،‬بدأت‬
‫ُ‬
‫مفعما بالحيوية طوال الوقت‪ .‬أحببت‬ ‫ً‬ ‫علي التعامل مع عدد ال ُيحصى من الناس و أن أبتسم وأبدو‬ ‫وجب ّ‬ ‫َ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أشخاصا سيئين‬ ‫تلك الوظيفة رغم ِقلة األشياء التي تجعلني أبتسم وتمدني بالطاقة في حياتي‪ .‬صادفت‬
‫ُ‬ ‫أكثر من الجيدين‪ .‬ال بد من كون هذا سبب استمتاعي بهذه الوظيفة ً‬
‫كثيرا ألنني بينما أجبرت نفسي على‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ُ‬
‫وجدت نفسي ّ‬
‫أتغير بالفعل‪.‬‬ ‫وتعمدت رفع طبقة صوتي متصن ًعا البهجة أمام الزبائن‪،‬‬ ‫الضحك‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫عال وأصبحت أكثر طيبة إثر محاولتي الجاهدة لخدمة‬ ‫بصوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫شعور جيد بعد الضحك‬ ‫راودني‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫الزبائن بلطف‪ .‬بالطبع واجهت أياما صعبة حيث خارت قواي مع كل خطوة قطعتها في طريقي إلى المنزل‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫قوة‬‫نهاية اليوم‪ ،‬وعانيت أحيانا من زبائن متنمرين‪ ،‬لكن اكتفيت باالبتسام والضحك ألن الضحك أمدني ِب ٍ‬
‫جديدة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ ّ‬ ‫ُ‬
‫تغييرا‬ ‫تخرجت من المدرسة اإلعدادية في فبراير لكن شهادة المدرسة اإلعدادية لم تشكل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لساعات أطول وزاد كسبي للمال قليال لكنه مع ذلك لم يكن‬ ‫ٍ‬ ‫ملحوظا‪ .‬سمحت لي بالعمل في مطعم البرغر‬
‫غرفة أفضل‪ .‬ومع بداية الفصل الدراسي الجديد‪ ،‬اكتظ "تو ستار برغر"‬ ‫باالنتقال إلى‬ ‫كافيا ليسمح لي‬ ‫ً‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫بطالب الصف األول الحائرين والطالب األكبر سنا الساعين لجعل أنفسهم يبدون ناضجين‪ .‬بدا الجميع‬
‫ً‬
‫لطيفا‪.‬‬
‫وقت مضى‪.‬‬ ‫ّ‬
‫نحن كنا مثلهم في ٍ‬
‫ُ‬
‫ما الذي يخطط له اآلخرون؟ فكرت بهم بين الحين واآلخر‪ .‬أخر مرة رأيت بها سوكجين في بداية‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫مدرسة أخرى‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫اإلجازة الصيفية‪ .‬بدا بأنه يتجنبني لذا أبقيت مسافة بيننا ثم سمعت الحقا بأنه انتقل إلى‬
‫كالمعتاد‪ ،‬يونغي لم ُيجب على اتصاالتنا وال أحد يعرف ما حدث لنامجون‪ .‬تايهيونغ الذي كان بدوره يحب‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ويغادره‬ ‫مرحلة ما وسمعنا بأنه كان يتردد على مركز الشرطة‬ ‫ٍ‬ ‫بالتغيب عن المدرسة في‬ ‫نامجون بالذات‪ ،‬بدأ‬
‫باستمرار بسبب رسمه التخريبي على الجدران‪.‬‬

‫كان جونغكوك يظهر من وقت آلخر أمام الباب الزجاجي لمطعم البرغر وكان يبدو بأنه يتورط في‬
‫ّ‬
‫المشاجرات باستمرار ألن الجروح والكدمات غطت وجهه في أغلب األحيان‪ّ .‬أما بالنسبة لجيمين‪ ،‬كانت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مرة رأيته فيها عندما تم إخراجه من غرفة الطوارئ‪ .‬خطرت في ذهني ذكريات ذلك اليوم وقامت‬ ‫آخر ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫بشيء خاطئ؟ هل فوتت شيئا ما؟ دخل زبون آخر إلى المطعم فأخذت نفسا عميقا‬ ‫ٍ‬ ‫بمطاردتي‪ .‬هل قمت‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ّ ُ‬
‫شخصا أعرفه‪.‬‬ ‫وحييته بنبرة عالية‪ ،‬ابتسمت ابتسامة عريضة ونظرت باتجاه الباب‪ .‬كان‬

‫~‪~38‬‬
‫تايهيونغ‬
‫التاسع والعشرون من مارس العام الثاني والعشرون‬

‫مستلقيا على األرض وحسب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬


‫محطة الوقود على األرض وغادر‪ ،‬بقيت لوحدي‬ ‫ِ‬ ‫بعد أن بصق مالك‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫مبرحا بال رحمة‪ .‬خلت أني معتاد على‬ ‫لقد أمسك بي وأنا أرسم على الجدار الخلفي ثم أوسعني ض ًربا‬
‫الضرب لكن اتضح بأني لم أكن كذلك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ُ‬
‫علبة قد‬ ‫بدأت الرسم باستخدام رذاذ الطالء منذ مدة‪ .‬قمت ببخ الطالء على الحائط بال تفكير من ٍ‬
‫بارزا بوضوح وبدا مظهره َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫غير مريـ ـ ٍـح‬ ‫رماها أحدهم‪ .‬كان الطالء األصفر الذي رششته على الحائط الرمادي‬
‫ًّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫وقت‬‫بغرابة‪ .‬حملت علبة أخرى ورششت منها الطالء مغطيا اللون األصفر لكنه لم يعجبني كذلك‪ .‬بعد ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قصير‪ ،‬استنفذت كل العلب ورميت آخر واحدة أرضا عقب إفراغي لها ثم خطوت إلى الوراء‪ .‬كنت ألتقط‬
‫ُ‬
‫أنفاسي كأنني ركضت بأقصى سرعة‪ .‬لم أعلم ما كانت ترمز إليه األلوان على الحائط ولم أعرف ما رسمته‬
‫صبغت ما في ذهني على الجدار‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫تعبيرا عن حالة عقلي‪ .‬قد‬ ‫وال سبب رسمي له‪ ،‬لكنني أدركت بأنه كان‬
‫ً‬ ‫قبيح وقذر‪ ،‬باإلضافة لكونه ً‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫ومثيرا للشفقة‪ .‬لم يعجبني‬ ‫غبيا وبال فائدة‬ ‫في البداية ظننت بأنه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫بفرك الطالء براحة يدي محاوال إزالته كله حتى تلطخت طبقات الطالء وامتزجت ببعضها البعض‬ ‫ِ‬ ‫فقمت‬
‫ُ‬ ‫ُ ّ ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مزيجا من األلوان‪ .‬لكنني لم أستطع إزالتها فجلست متكئا على الحائط‪ .‬لم يكن يهمني إن أحببتها‬ ‫صانعة‬
‫ً‬
‫كجزء مني‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫قبيحا‪ُ .‬جل ما في األمر هو أنه كان هناك‬ ‫جميال أو ً‬ ‫أم ال ولم يكن يهم إن كان الرسم‬
‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حملت يد أحدهم علبة الطالء‬ ‫احتي يداي‪.‬‬ ‫باستقامة وبدأت أسعل‪ ،‬قطرات الدم لطخت ر‬ ‫ٍ‬ ‫جلست‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أيت ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وجها مألوفا أمامي‪ .‬إنه نامجون‪ ،‬وقام بمد يده لي لكنني نظرت إليه‬ ‫متتب ًعا حركة اليد ور‬ ‫فرفعت رأسي ّ‬
‫يده دافئة‪.‬‬ ‫فحسب‪ .‬سحبني نامجون لألعلى وكانت ُ‬

‫~‪~39‬‬
‫يونغي‬
‫السابع من ابريل العام الثاني والعشرون‬

‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬


‫هدأة الليل نيران في الطبل المعدني أحدثت صوت‬ ‫ِ‬ ‫آلة البيانو‪ .‬في‬
‫استوقفني عزف أخرق على ِ‬
‫ّ ُ‬ ‫َ‬
‫وقت ليس‬‫لكونه أحد األلحان التي عزفتها منذ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ميزت اللحن‬ ‫فرقعة اخترق ُسكون موقع أعمال البناء‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بتبدد لفح الحرارة‬
‫ِ‬ ‫مكترث وعيناي مغمضتين‪ .‬شعرت‬ ‫ٍ‬ ‫بطويل‪ ،‬لكني استهنت به فمضيت أسير غير‬
‫المنبعثة من النيران‪ ،‬صوت البيانو‪ ،‬نسيم الليل وتأثير الكحول‪.‬‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫صوت بوق سيارة تمكنت بالكاد من تجاوزي وعدم االصطدام بي جعلني أستعيد وعيي‪ ،‬الضوء‬
‫الساطع من مصابيحها األمامية‪ ،‬دوامة الريـ ــح التي أثارتها‪ ،‬وآثار النشوة التي خلفتها الكحول أصابتني‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بالسباب عندما أدركت بأني ال أستطيع سماع‬ ‫عليه ِ‬
‫ِ‬ ‫بالدوار‪ .‬سمعت السائق يشتم‪ ،‬وأوشكت أن أنهال‬
‫صوت عزف البيانو‪،‬‬
‫ُ‬
‫صوت أجيج اللهب ُ‬
‫الم ِتقد‪ُ ،‬‬
‫هرير الريـ ـ ِـح‪ ،‬وضجيج السيارات‬ ‫توقف صوت البيانو ولم يتبق سوى‬
‫ً‬ ‫التي ّ‬
‫مسرعة‪ .‬لماذا توقف صوت البيانو؟ من الذي كان يعزف؟‬ ‫تم ُر‬
‫ُ‬
‫بخواء إليها وهي تتحول‬ ‫ٍ‬ ‫قفزت شرارة من الطبل الذي يحترق وحلقت في ظلمة السماء‪ .‬حدقت‬
‫ُ‬ ‫ّ َ‬
‫ارة اللهب وفي تلك األثناء وصل إلى مسمعي صوت‬ ‫إلى رماد وتهوي إلى األرض‪ .‬تورد وجهي بسبب حر ِ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫بالدماء‬
‫ِ‬ ‫غريزيا إلى الوراء وشعرت‬ ‫قوي كما لو أن أحدهم ضرب بكلتا قبضتيه مفاتيح البيانو‪ ،‬التفت‬ ‫ٍ‬ ‫وقع‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫تندفع فجأة في عروقي منتشرة في جميع أنحاء جسدي‪ .‬الكابوس الذي كان يراودني في طفولتي‪ ،‬عاودني‬
‫سمعت ذلك الصوت‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الشعور ِبه حالما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بدأت بالعدو تجاه متجر الموسيقى‪ .‬فقدت زمام السيطرة على نفسي وتحرك جسدي من تلقاء‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ماهيته لكن يبدو بأنني قد نسيت شيئا‬ ‫ِ‬ ‫ات ال تحصى‪ .‬لم أكن متأكدا من‬ ‫نفسه‪ ،‬شعرت بأنني قمت بهذا لمر ٍ‬
‫ً‬
‫ثمينا‪.‬‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫سنوات لكني‬ ‫ٍ‬ ‫شخص ما جلس قبالة البيانو في متجر الموسيقى ذا النافذة المكسورة‪ .‬مضت عدة‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أرغب في اقتحام حياة شخص آخر ولم أ ِرد أن أواسي‬ ‫تعرفت عليه في الحال‪ ،‬أشحت ناظري ألنني لم‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أهمية عند أحد‪ ،‬لست متأكدا من مقدرتي على حمايته حتى‬ ‫ٍ‬ ‫شخصا وحيدا‪ .‬لم يكن في نيتي أن أكون ذا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بجواره حتى النهاية‪ .‬لم أكن أنوي إيذاء أحد وال أريد أن‬ ‫ِ‬ ‫النهاية‪ ،‬ليست لدي الثقة الكافية بأنني سأقف‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫تحين اللحظة األخيرة‪ ،‬ناهيك عن االهتمام بشخص‬ ‫صعب علينا كفاية عندما‬ ‫أتأذى بدوري‪ ،‬إنقاذ أنفسنا‬
‫آخر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫سأسير بعيدا وأغادر المكان دون االلتفات‪ ،‬لكني اقتربت من البيانو‬ ‫استدرت بخطواتي عائدا‪ ،‬كنت‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ونظر إلي جونغكوك‪ ،‬إنها المرة األولى التي‬ ‫حتى قبل إدراكي لألمر‪ .‬أشرت بأصبعي على النغمة الخاطئة‪،‬‬
‫كت المدرسة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫نرى فيها بعضنا منذ تر‬

‫~‪~40‬‬
‫سوكجين‬
‫الحادي عشر من ابريل العام الثاني والعشرون‬

‫ً‬
‫بصوت حاد‪ ،‬بالكاد توقفت السيارة في اللحظة المناسبة‪ .‬لم َأر تغير إشارة المرور‪ ،‬كنت مشتتا‬
‫ٍ‬
‫بأفكار أخرى‪ .‬تأملني الطالب ذوي الزي المدرسي المألوف عبر الزجاج األمامي للسيارة وهم يعبرون الشارع‪.‬‬
‫ٍ‬
‫النكات مع أصدقائهم‪ ،‬مشى‬ ‫رمقني بعضهم بغضب‪ ،‬وهم البعض اآلخر بالضحك كما لو كانوا يتبادلون ِ‬
‫بقيتهم بعيون مثبتة على كتبهم‪ ،‬وعبر آخرون وهم يتحدثون بالهاتف ويلقون نظرهم حولهم‪ .‬لقد شكلوا‬
‫ً‬
‫مشهدا مسالم‪.‬‬
‫ُ‬
‫حالما بدأت إشارة "أعبر" بالوميض‪ ،‬مضت السيارات التي فقدت ُسلوها‪ ،‬وأولئك الذين قفزوا‬
‫إلى ممر المشاة في اللحظة األخيرة سارعوا إلى عبوره‪ .‬كبست على دواسة َ‬
‫الوقود‪.‬‬
‫بلحظة وصلت إلى التقاطع الذي تقع بجانبه محطة َ‬
‫للوقود‪ ،‬وعلى مسافة ما رأيت نامجون يملئ‬
‫خزان سيارته‪ .‬شددت على المقود‪ ،‬رغم كوني أعلم ما الذي يجب فعله‪ ،‬لكن لم يعني ذلك أنني لست‬
‫خائفا‪ .‬هل سأكون ً‬‫ً‬
‫قادرا على وضع حد لهذه السلسلة من سوء الحظ واأللم؟ أليس الفشل المستمر يعني‬
‫ً‬
‫عدم وجود فرصة للنجاح؟ أال يعني ذلك أننا يجب أن نستسلم؟ هل السعادة حقا مجرد أمل زائف بالنسبة‬
‫لنا؟ رأسي يعج بهذه األفكار‪.‬‬

‫بعمق وببطيء‪ ،‬أخذت أفكر بوجه كل من يونغي وهوسوك وجيمين وتايهيونغ‬ ‫ٍ‬ ‫تنفست‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫وجونغكوك‪ ،‬واحدا تلو اآلخر‪ ،‬ثم غيرت مساري وذهبت إلى محطة الوقود‪ .‬اقترب نامجون وفتحت زجاج‬
‫ٌ‬ ‫السيارة ّ‬
‫"مر وقت طويل!"‬

‫~‪~41‬‬
‫نامجون‬
‫الحادي عشر من أبريل العام الثاني والعشرين‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حالما فرغت من تعبئة السيارة واستدرت‪ ،‬المس شيء ما وجنتي وسقط على األرض‪ .‬تراجعت‬
‫ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫للخلف قليال ألرى بضع أوراق النقدية ُملقاة عند قدمي‪ .‬وحينما انحنيت والتقطتها‪ ،‬ذهلت من سخرية‬
‫من هم بداخل السيارة‪ .‬لم أتمكن من رفع رأسي بينما يراقبني سوكجين عن بعد‪ .‬ماذا عساي أفعل حينما‬
‫تلتقي عيناي بأولئك الذين يتجولون بسيارات فاخرة ويسخرون بوقاحة من اآلخرين؟ يجب أن أعترض‬
‫طريقهم‪ ،‬يجب أن أدافع عن نفسي إذا عاملوني بغير إنصاف‪ .‬إنها ليست مسألة شجاعة أو كبرياء أو‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫محض عامل بدوام جزئي‪ .‬اضطررت لجمع‬ ‫مساواة‪ ،‬إنه أمر مفروغ منه فحسب‪ ،‬لكن هذه محطة وقود وأنا‬
‫ُ‬
‫القمامة التي ألقيت من نوافذ السيارة والوقوف هناك فحسب وتقبلها عندما يلعن الزبون!‬
‫ُ‬
‫علي التقاط األوراق النقدية حينما قام الزبون بإلقائها على األرض‪ ،‬لقد ُحييت بتلك الطريقة‬
‫تعين ّ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫طيلة حياتي‪ ،‬كان ذلك ُمهينا لكن حرى بي تحمله‪ .‬شددت قبضتي فغرست أظافري بداخل لحمي‪ .‬ثبت‬
‫عيناي على األرض حينما التقط شخص آخر الورقة النقدية‪ .‬تذمر من هم بالسيارة إلفساد مرحهم‬
‫ً‬
‫بعيدا‪.‬‬ ‫وانسحبوا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫وفقيرا لذا لم أستطع‬ ‫لقد رحلوا لكنني لم أشأ رفع رأسي‪ ،‬كان سوكجين يعلم بالفعل كم كنت جبانا‬
‫النظر إليه‪ .‬لكنني ال أريده أن يعرف حقيقتي المجردة‪ ،‬لقد وقف هناك على حافة بصري‪ ،‬لم يقترب ولم‬
‫يباشر الحديث‪.‬‬

‫~‪~42‬‬
‫جونغكوك‬
‫الحادي عشر من ابريل العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬


‫أخيرا تحققت أمنيتي‪ ،‬تعمدت االصطدام ببعض قطاع الطرق الذين كانوا يسيرون في الشارع ما‬
‫ُ‬
‫بقسوة أكبر ناعتينني بالمجنون‪.‬‬‫ٍ‬ ‫دفعهم إلبراحي ض ًربا‪ .‬ضحكت بينما يفعلون ذلك‪ ،‬فدفعهم ذلك لضربي‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ورفعت ناظري إلى ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نجوم تتألأل في‬ ‫مساء‪ ،‬ولم تكن هناك‬ ‫السماء‪ .‬كان الوقت‬ ‫اتكأت على واجهة المتجر‬
‫العشب ظهرت على مرأى البصر بجانب الطريق ُ‬ ‫الظلمة‪ .‬كومة من ُ‬ ‫ُ‬
‫المعبد‪ ،‬وعندما تعصف‬ ‫ِ‬ ‫السماء الحالكة‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫بصوت مرتفع كي أحبس دموعي‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الرياح ينحني العشب‪ ،‬بدا مماثال لي‪ .‬ضحكت‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫أغ َمضت عيناي واستحضرت في مخيلتي صورة حية لزوج والدتي وهو يسعل كي يجعل صوته‬
‫ً‬
‫اوضح‪ ،‬ضحك أخي غير الشقيق وأقرباء زوج والدتي أش احوا بنظرهم بعيدا أو واصلوا حديثهم الفارغ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫معنى‪ .‬والدتي كانت مضطربة‪ .‬سعلت وأثرت‬ ‫ٍ‬ ‫تصرفوا وكأنني لم أكن هناك‪ ،‬وكأن وجودي لم يكن له أي‬
‫بسكين‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫غبارا عندما نهضت عن األرض‪ ،‬وخزني ألم في معدتي كما لو أنني ط ِعنت ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫لقد كانت ً‬
‫أفرد ذراعاي على الحبل المشدود‬ ‫ِ‬ ‫مهجورة وأعمال البناء فيها غير تامة‪ِ .‬س ْرت وأنا‬ ‫بناية‬
‫ُ‬
‫بمحاذاة الدرابزين المثبت على سطح البناية‪ ،‬سبقتني ساقي للفراغ وعندها رأيت الظالم يتخلل عبر أصابع‬
‫قدمي‪.‬‬
‫ُ ُ‬
‫الممتد تحتي وإشارات النيون وأبواق السيارات ورائحة الغبار‬ ‫منظر المدينة الليلي النابض بالحياة‬
‫َ ُ‬ ‫ُ‬
‫كسيل دوامي‪ .‬شعرت بالدوار والذهول‪ ،‬عندما فردت ذراعاي أكثر لكي أحافظ‬ ‫ٍ‬ ‫الالذعة اختلطت ببعضها‬
‫على توازني؛ الحت بذهني فكرة أن كل ما يتطلبه األمر إلنهاء كل هذا هو خطوة واحدة لألمام‪ِ .‬ملت‬
‫بجسدي باتجاه الفراغ الحالك‪ ،‬الظلمة التي َت ّسربت إلى داخل أصابع قدمي اندفعت ّ‬
‫إلي كما لو أنها كانت‬
‫َ‬
‫ت ّو ُد ابتالع جسدي بالكامل‪.‬‬
‫وشعرت بأن المدينة المضطربة والضوضاء والخوف‪ ...‬كل شيء قد تالشى‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أغمضت عيناي‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حبست أنفاسي وأحنيت جسدي لألمام ببطء مجددا‪ ،‬وحررت ذهني من كل األفكار‪ .‬لم أفكر بأي‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫هذه كانت النهاية‪ّ .‬رن هاتفي‪ ،‬وعدت‬ ‫أحد‪ ،‬لم أشأ أن أترك أي شيء في ذهني‪ ،‬لم أشأ أن أتذكر أي شيء‪ِ ،‬‬
‫فورا لحالتها الطبيعية‪.‬‬ ‫أفقت من ُحلم طويل‪ ،‬جميع حواسي عادت ً‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫لذاتي كما لو أنني‬
‫أخرجت هاتفي‪ ،‬وكان يونغي هو المتصل‪.‬‬ ‫ُ‬

‫~‪~43‬‬
‫يونغي‬
‫الحادي عشر من ابريل العام الثاني والعشرون‬

‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬


‫معيرا انتباهي ِلخطى جونغكوك خلفي تتبعني‪ .‬ظهرت سلسلة من القاطرات على‬ ‫السير‬ ‫تابعت‬
‫ُ‬
‫الحديد الطويل‪" .‬إنها الرابعة ِم َن النهاية" أخبرني هوسوك أنه سيقابل نامجون وتايهيونغ‬ ‫ِ‬ ‫سكة‬
‫ِ‬ ‫خط‬
‫امتداد ِ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وطلب مني الحضور‪ .‬أخبرته أني سأتي‪ ،‬لكنني لم أقصد ذلك‪ ،‬كنت أكره االختالط باآلخرين‪ ،‬و هوسوك‬
‫ُ ً‬
‫سأظهر حقا‪.‬‬ ‫يعلم ذلك ولم يكن ليعتقد أني‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫يقوم‬ ‫عندما فتحت الباب‪ ،‬بدا هوسوك متفاجئا‪ ،‬ثم بعد أن رأى جونغكوك أتى باتجاهنا وهو‬
‫ُ‬ ‫مليء بالمشاعر‪َ .‬‬ ‫ُ‬
‫إلخفاء شفتيه المشقوقة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وجهه‪ً ،‬‬
‫غالبا‬ ‫أدار جونغكوك‬ ‫ٌ‬ ‫بالغ بها ووجهه‬ ‫ٍ‬ ‫إيماءات ُم‬ ‫ٍ‬ ‫بصنع‬
‫ودخلت إلى القاطرة‪" .‬كم مضى من الوقت" قال هوسوك‪ ،‬الذي كان يحاولُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ ُ‬
‫تخطيت جونغكوك وهوسوك‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫البعض‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫عناقه‪ ،‬واستمرا في النز ِاع مع بعضهما‬ ‫ِ‬ ‫معانقة جونغكوك‪ ،‬بينما حاول جونغكوك تجنب‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قميص تايهيونغ ممزقا‪ .‬سألناهما‬ ‫الوقت‪ ،‬أتى نامجون مع تايهيونغ‪ ،‬وكان‬ ‫ِ‬ ‫وجيزة من‬ ‫ٍ‬ ‫فترة‬
‫ٍ‬ ‫مرور‬
‫ِ‬ ‫بعد‬
‫رسمه على‬ ‫بسبب‬
‫ً‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫أسه‪" ُ ،‬ق ِبض على هذا الفتى مجددا َ ِ‬ ‫بضرب تايهيونغ على ر ِ‬ ‫ِ‬ ‫فتظاهر نامجون‬ ‫عما حدث‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الهرب‬ ‫يحاول‬ ‫قميصه بينما كان‬ ‫ِ‬ ‫واصل تايهيونغ حديثه عن كيفية تمزق‬ ‫اجه‪".‬‬ ‫الجدران‪ ،‬لذا اضطررت إلخر ِ‬
‫ِم َن الشرطة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ونظرت إليهم‪ ،‬أعطى نامجون تايهيونغ قم ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وأخرج هوسوك‬ ‫يصا ليرتديه‬ ‫استلقيت في إحدى الزوايا‬
‫حوله‪ .‬بعد التفكير باألمر‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫كان جونغكوك ُ‬ ‫‪َ .‬‬
‫نحن كنا هكذا‬ ‫ِ‬ ‫ينظر‬ ‫يقف هناك مرتبكا‪،‬‬ ‫الشطائر والمشروبات‬
‫المدرسة الثانوية‪ .‬في تلك الغرفة التي تم تحويلها لغرفة تخزين‪ ،‬ضحكاتنا الدائمة على نامجون‬ ‫تماما في‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫تتبعا من قبل جونغكوك كما لو أنه ال يعرف‬ ‫ونقاشاته مع تايهيونغ‪ ،‬هوسوك وسيره الدائم هنا وهناك ُم ً‬
‫ً‬
‫مكانا للجلوس‪.‬‬

‫معا‪ .‬ماذا َح َل بسوكجين وجيمين؟ انا‬ ‫جميعا ً‬


‫ً‬ ‫مرة كنا‬
‫ٍ‬ ‫تذكر أخر‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أستطيع‬ ‫كم مضى من الوقت؟ ال‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫كل غريب‪.‬‬ ‫ـح بش ٍ‬ ‫سجيتي‪ .‬لم أكن هنا من قبل لكن المكان مريـ ـ‬ ‫الرغم ِمن ًأن هذا ليس من ِ‬ ‫ِ‬ ‫أتساءل‪ ،‬على‬
‫َ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نظرت إلى الخارج‪ .‬فجأة‪ ،‬شعرت بالحاجة للهرب من هذا المكان‪ ،‬قلق غامض انتشر بعد ذلك السكون‬
‫المدرسة الثانوية‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫الغرفة التي استخدمناها كملجأ في‬ ‫ُِ‬ ‫تفسيره‪ .‬استقرت أفكاري على تلك‬ ‫يمكن‬ ‫الذي ال‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫قت طويل‪ .‬وكذلك‪ ،‬فإن الوقت الذي نقضيه‬ ‫اعتدنا الضحك والحديث معا‪ ،‬لكن تلك األيام ولت منذ و ٍ‬
‫هناك جدوى من هذا الشعور الجيد‪ ،‬والشعور المفاجئ باالنتماء والترقب الذي ال أساسَ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هنا سينتهي‪ .‬هل‬
‫له؟‬

‫~‪~44‬‬
‫سوكجين‬
‫الحادي عشر من ابريل العام الثاني والعشرون‬

‫ٌ‬
‫بدا الضوء المنبعث من نافذة القاطرة الضيقة وكأنه نوع من اإلشارات‪ .‬إشارة ترشدنا عندما نضيع‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫إشارة تدل إلى الملجأ الذي نلجئ إليه حين ال يكون لدينا مالذ نلوذ له‪ ،‬وإشارة تنير لألصدقاء الموجودين‬
‫بجانبنا‪ .‬أوقفت سيارتي على مقربة من السكة الحديدية وراقبت اآلخرين وهم يتجمعون ويتبعون اإلشارة‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬تاله يونغي وجونغكوك تبعهم تايهيونغ ونامجون‪ .‬كيف تبدو القاطرة اآلن؟ ّ‬ ‫ً‬
‫عما‬ ‫دخل هوسوك‬
‫يحن الوقت المناسب بعد‪.‬‬ ‫يتحدثون؟ ليس وكأني ال أرغب في مقابلتهم‪ ،‬لكن هذه البداية فحسب‪ .‬ولم ِ‬
‫مجددا‪ ،‬وسنضحك ً‬‫ً‬ ‫ً‬
‫معا في منتصف تلك اإلشارة‪ .‬هذا كل ما سأفعله اليوم فغادرت‬ ‫يوما ما‪ ،‬سنلتقي‬
‫بسيارتي‪.‬‬

‫~‪~45‬‬
‫نامجون‬
‫الثامن والعشرون من ابريل العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬


‫بسلوكه‪ ،‬تعبيراته‪ ،‬وصوته‪ ،‬مهما‬
‫ِ‬ ‫متجل‬‫هنالك خطب ما بتايهيونغ‪ ،‬رغم ادعائه أنه بخير‪ ،‬إال أنه ٍ‬
‫جاهد‪ .‬وليس بسبب اعتقاله للرسم على الجدران بالتأكيد‪ ،‬فبالنسبة لتايهيونغ‪ ،‬هي محض لعبة‪ ،‬لعبة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مسوغا‬ ‫ِ‬ ‫ممتعة‪ ،‬وال ُبد أن الجروح والكدمات التي تعلو وجهه أحيانا من ُصنع والده الجامح‪ ،‬لكنه ال يبدو‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫أيضا‪ .‬حتى أيان ُ‬
‫تعرض وجهه للضرب‪ ،‬أفرط بتصرفاته المبهجة ولم يكف عن الحديث‪.‬‬
‫ً‬
‫بدا تايهيونغ وكأنه يمر بكابوس‪ ،‬ولم أجبره على الحديث كوني عزمت االنتظار حتى يغدو متهيئا‪.‬‬
‫ً‬
‫كما أني شككت بكوني مؤهال ألكون الشخص الذي يستمع إلى مشاكلهم‪ .‬سعيت ألتصرف كاألخ األكبر‬
‫ً‬
‫صحيحا‬ ‫وادعيت نضجي‪ ،‬إال أني لم أكن معهم حينما كانوا يعانون‪ ،‬يقولون أني ناضج وبالغ‪ ،‬لكن هذا ليس‬
‫البتة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫شيء مشترك‪ ،‬وكنت على‬ ‫ذكرني تايهيونغ بمن قابلته في القرية الريفية‪ .‬حقيقة‪ ،‬لم يكن لديهما‬
‫إلمام بهذا أثناء إقامتي بتلك القرية‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬ذكرني ذاك الفتى بتايهيونغ‪ً ،‬‬
‫تماما كما يذكرني تايهيونغ به‬
‫ً‬
‫اآلن‪" .‬أريد طلب خدمة" ماذا كانت تلك الخدمة؟ هل حقا انزلقت الدراجة على أوراق رطبة؟ أما زالت‬
‫الكالب تنبح؟ ماذا بشأن والداي؟ رججت رأسي ألشتت تلك األفكار‪ ،‬وحالما أوشكت الخروج من القاطرة‬
‫فحسب‪ ،‬استهل تايهيونغ باللف والدوران كما لو كان يعاني من كابوس‪.‬‬

‫هز كتفيه وجلس شارد الذهن لفترة طويلة‪ ،‬ثم بدأ بذرف الدموع واندفع‬ ‫استيقط تايهيونغ فور ِ‬
‫ذاكرا أن هذا الحلم يراودهُ‬
‫قائال أن يونغي مات وجونغكوك وقع من على السطح‪ ،‬وأنه تورط في شجار‪ً ،‬‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫واقعيا كما لو أنه الواقع؛ والواقع يبدو وكأنه حلم‪" .‬ال تتركني" تمثل وجه الفتى‬ ‫مر ًارا وتكر ًارا‪ .‬لقد كان ً‬
‫حلما‬
‫من القرية الريفية على وجه تايهيونغ‪ .‬ولم أتمكن من استحضار نفسي ألقول له أنه ال داع للقلق ألنني لم‬
‫أذهب إلى أي مكان‪.‬‬

‫~‪~46‬‬
‫األشياء املُحنجنحة‬

‫~‪~47‬‬
‫سوكجين‬
‫الثاني من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫متوترا وأصابعي متصلبة‪ .‬بت أقبض وأرخي قبضتي‪ .‬ماذا لو فشلت؟ فعلتها مر ًارا وتكر ًارا‪،‬‬
‫ً‬ ‫كنت‬
‫ً‬
‫وبكل مرة‪ ،‬أشعر بالهلع‪ .‬أخذت أنفاسا بطيئة وعميقة وبت أفكر في يونغي‪ ،‬على األرجح أنه ثمل اآلن‪،‬‬
‫مستلقيا على األريكة ويفكر في أسباب عيشه‬ ‫ً‬ ‫ويداه إحداهما تحتضن قداحته واآلخرى هاتفه‪ .‬قد يكون‬
‫من عدم عيشه‪.‬‬

‫كيف يرى يونغي العالم ونفسه؟ كلما أنقذته يراودني هذا السؤال‪ .‬لم أفهم كيف يمكنه االستمرار‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫يوم مر من حياتي كان مليئا‬‫في محاوالت إنهاء حياته‪ .‬ليس وكأنني سعيد بالعيش بهذا العالم وأن كل ٍ‬
‫بالسعادة‪ .‬في الواقع‪ ،‬لم يتسنى ألي شيء أن يأسرني‪ ،‬ال حياتي وال موتي حتى‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بالنظر للوراء‪ ،‬لم أكن مختلفا أيان بدأت كل هذا وللمرة األولى‪ .‬هل سأتمكن أبدا من تصحيح‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وحمل هذا السؤال‪ .‬بالفعل أريد إنقاذنا‬ ‫األخطاء واإلخفاقات إلنقاذنا جميعا؟ لم أفهم حقا مدى عمق ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫يستحق أن يموت‪ ،‬أن يختفي‪ُ ،‬يقمع أو ُيهان‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬لقد كانوا أصدقائي‪ .‬قد ال‬ ‫ً‬
‫جميعا‪ ،‬ال أحد‬
‫نكون خاليين من العيوب والندوب وقد انحرفنا والتوينا‪ ،‬قد نكون عبارة عن نكرات‪ ،‬لكننا أحياء‪ .‬لدينا أيام‬
‫ُ‬
‫لنعيشها‪ ،‬خطط لنتبعها‪ ،‬وأحالم لنحققها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مليا في األمر‪ِ ،‬خلت أن كل شيء يعتمد على مقدار الجهد الذي ُيجدر بي بذله‬ ‫في البداية‪ ،‬لم أفكر ً‬
‫ُ‬
‫ومن ماذا‪ .‬كان ذلك ما ظننته‪ ،‬ظننت أن بوسعي حل كل ذلك عبر‬ ‫بعد أن اكتشفت من يجب أن أنقذ ِ‬
‫كنت بهذه البساطة والسذاجة‪ ،‬لكنها لم تكن سوى أكثر من محاولة إلنقاذ نفسي‪.‬‬ ‫‪ُ .‬‬
‫إقناعهم وتغيير األمور‬
‫ُ‬
‫بعد سلسلة من التجارب واألخطاء‪ ،‬أدركت أن إنقاذ اآلخرين لم يكن بتلك السهولة‪.‬‬
‫تماما‪ً .‬‬
‫دوما ما يبدل أماكن وأوقات‬ ‫لم يكن من السهل التعامل مع يونغي‪ ،‬على األرجح كان األصعب ً‬
‫صوب مغاير عن اآلخرين‪ ،‬الحل الذي جنى ثماره في‬‫ٍ‬ ‫محاوالته االنتحارية‪ .‬اضطررت أن أتقرب منه على‬
‫ً‬
‫المرة الماضية لن يجدي بالمرة المقبلة‪ .‬واللحظة التي ِخلت بها أنني حللت عقبة ما أخيرا‪ ،‬قادتني إلى‬
‫معضلة أخرى‪.‬‬

‫في البداية‪ ،‬لم أستطع استيعاب دوافعه‪ ،‬وكل ما أستطيع تخمينه أن آالمه متعلقة بصراعاته‬
‫ً‬
‫الداخلية‪ .‬وقع نامجون بشجار جراء أولئك الزبائن المتغطرسين في محطة الوقود‪ .‬لكن يونغي كان مختلفا‪،‬‬
‫ليس لديه هدف أو دافع معين‪ ،‬بل كان يملك ً‬
‫قدرا ً‬
‫جما من التقلبات‪.‬‬

‫سرا لساعات‪ .‬كانت خطاه مترنحة‬‫حاولت تخيل ما يدور برأس يونغي‪ ،‬في إحدى المرات‪ ،‬تعقبته ً‬
‫ً‬
‫وال يمكن التنبؤ بها‪ .‬يتعثر بالشوارع ليال ويحاول إلقاء ذاته في النار‪ ،‬وبعد برهة يجلس القرفصاء على‬
‫مقر ما داخل رواق التسوق تحت األرض‪ .‬في أعقاب ليلة‬ ‫ً‬
‫مصغيا لبعض الموسيقى المتدفقة من‬ ‫األرض‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫من تعقبه‪ ،‬أدركت مدى قحولة‪ ،‬ملل‪ ،‬وتفاهة حياتي‪ .‬لم أك أحسد يونغي‪ ،‬معاناته التي يتحتم عليه‬
‫تح ملها‪ ،‬تتأرجح ظروفه من سيء إلى اسوأ‪ ،‬على نحو يفوق مخيلتي‪ ،‬وكل ما يتسنى لي فعله هو مراقبته‬
‫ً‬
‫حائرا‪.‬‬
‫ُ‬
‫أدركت أني كلما حاولت حل معضلة ما‪ ،‬أتت معضلة يائسة أخرى قبيل حل المعضلة السابقة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حتى‪ .‬ربما لن أكون ً‬
‫تقدما‪ ،‬حينها‪ ،‬أدركت أن األمل طار بعيدا‪ .‬ذات‬ ‫قادرا على إنقاذ يونغي أبدا‪ ،‬ولن أنجز‬
‫مرة سمعت أن األمل له أجنحة‪ ،‬طائر صغير بأجنحة‪.‬‬

‫~‪~48‬‬
‫ّ‬
‫حلق طائر إلى ورشة عمل يونغي التي كانت في مبنى معزول وسط حي تقرر إعادة تطويره‪ .‬قرروا‬
‫مهجورا عندما توقفت خطة إعادة التطوير‪ .‬دخل الطائر من‬‫ً‬ ‫أنهم سيهدمونه منذ فترة طويلة لكنهم تركوه‬
‫خالل نافذة مكسورة‪ .‬كان يونغي يقف في منتصف الورشة ويحمل قداحته في يده‪ ،‬وتعج رائحة الوقود‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫القوية في الورشة بأكملها‪ .‬كنت واقفا أمام الباب مباشرة‪ .‬أوشكت على الدخول عندما سمعت صوتا مدوي‬
‫ً‬
‫مواجها لي‪.‬‬ ‫ورفرفة جناحي الطائر‪ ،‬كان الباب نصف مفتوح‪ ،‬لهذا ألقيت نظرة‪ ،‬كان ظهر يونغي‬
‫ً‬
‫سقط الطائر على األرض‪ .‬سعى يرفرف بجناحيه مجددا لكنه فشل في الصعود في الهواء‪ .‬تصلب‬
‫ً‬
‫باحثا عن مخرج‪ ،‬مر ً‬ ‫ً‬
‫تطما‬ ‫يونغي محدقا بالطائر‪ ،‬وال زلت ال أستطيع مشاهدة وجهه‪ .‬تنقل الطائر في الورشة‬
‫ُ‬
‫شاهد لألحداث‪ ،‬ويده ال تزال معلقة‬‫بالجدران والكراسي وريشه يتهاوى على األرض‪ .‬كان يونغي مجرد م ِ‬
‫بالهواء‪ً .‬‬
‫أخيرا‪ ،‬أنزل يده‪ ،‬وربت على رأسه وغطاه بكلتا يديه‪.‬‬

‫أتيت إلى الورشة في تلك الليلة‪ ،‬كانت فسيحة ولكنها مهجورة‪ .‬أريكة قذرة‪ ،‬كرسي‪ ،‬وبيانو هم كل‬
‫ً‬
‫ما قد تجده بها‪ .‬سترى أيضا بعض األوراق المهترئة منتشرة في أنحائها‪ ،‬ال بد أنه سعى الفتعال حريق‪ .‬بدت‬
‫بعضها كأوراق النوتات‪ ،‬وعليها بعض الجمل والخربشات‪.‬‬
‫ً‬
‫نظرت حولي‪ ،‬ووجدت ذلك الشيء باألجنحة‪ .‬كان رابضا خلف البيانو‪ ،‬بدمه الجاف حول‬
‫تعبا حينما اقتربت منه‪ .‬بضع قطرات من الدماء لطخت األرض‪ ،‬وأمام البيانو ُو ِضعت‬ ‫جناحيه‪ ،‬بدا هل ًعا ومر ً‬
‫ِ‬
‫بعض فتات الخبز وبعض الماء‪.‬‬
‫أخذت خطوة للوراء‪ .‬حتى لو سمحت له بالذهاب للخارج من النافذة‪ ،‬فما زال غير ً‬
‫قادرا على‬
‫الطيران‪ .‬كم من الوقت سيستغرق حتى يشفى؟ أسيبقى يونغي بخير مادام الطائر هنا؟ ومن ثم تبادر إلى‬
‫ٌ‬
‫شيء هش ال‬ ‫عما عزم على فعله لهذا السبب‪ ،‬ألجل هذا الطائر الضئيل المصاب‪،‬‬ ‫ذهني أن يونغي تراجع ّ‬
‫يستطيع أن يحمي أو ينقذ ذاته‪ ،‬كائن ضئيل عهد ذاته إلى يونغي‪.‬‬

‫جزءا من‬‫عقب ذلك اليوم كان لدي إدراك‪ .‬إذا كانت جميع التقلبات المتعلقة بمحاوالته االنتحارية ً‬
‫صراعه الداخلي‪ِ ،‬فل َم ال ألتقط أحدهم على األقل‪ ،‬سيتحتم علي أن أستهدف الهدف والظرف الصحيحين‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً ُ‬
‫مبررا ليكف عن محاوالته إلنهاء حياته‪ .‬فردا يشاركه ندوبه ورغباته‪ ،‬فردا لم‬ ‫منقلب بوسعه إعطاء يونغي‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وقت‬‫بنهج مؤلم المعنى التام لهذه الكلمات عقب ٍ‬‫يك أنا "إنه أمر لن تتمكن من فعله بمفردك" لقد أدركت ٍ‬
‫قصير من بدء كل هذا‪.‬‬
‫ً‬
‫أيضا أدركت أن جونغكوك يحمل نفس بريق عيني يونغي في عينيه أيان قول نامجون "ال يزال‬
‫ً‬
‫جونغكوك محتفظا بتلك الصورة" لقد عنى تلك الصورة التي التقطناها على الشاطئ حينما كنا في‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫المدرسة‪ ،‬يبدو أن نامجون أراد أن يعلمني أن جونغكوك ال يزال يفكر بي‪ ،‬لكنني تذكرت مشهدا مختلفا‬
‫ً‬
‫تماما‪.‬‬

‫آنذاك‪ ،‬حينما ذهبن ا للبحث عن الصخرة التي تحقق األحالم‪ ،‬ضحكنا‪ ،‬شكينا ولعبنا تحت أشعة‬
‫الشمس الحارقة‪ .‬تحطمت حينما علمت أن الصخرة اختفت‪ ،‬صرخت بحلمي‪ ،‬الذي لم أتمكن حتى من‬
‫سماعه نحو البحر‪.‬‬
‫ً‬
‫يومها‪ ،‬شاهدت جونغكوك يسأل يونغي شيئا ما‪ .‬لم أستطع سماع ما الذي كانا يتحدثان عنه‪ ،‬إال‬
‫َ‬ ‫أنه خالجني إحساس بأنه كان ً ً‬
‫أعط األمر أهمية‬‫أمرا هاما لجونغكوك‪ .‬ماذا سأل يونغي؟ ِلم هو بالذات؟ لم ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫حيويا كهوسوك‪ ،‬وليس ودودا كجيمين‪ ،‬وغير جدير بالثقة كنامجون‪ِ .‬ل َم اخترته هو‬ ‫آنذاك‪ .‬لم يك يونغي‬
‫ً‬
‫بالذات؟ فجأة أدركت‪ .‬كان يونغي من أنقذ جونغكوك‪ ،‬كانا االثنان كالهما يحمالن ذات البريق في عينيهما‪.‬‬

‫~‪~49‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لم يكن شاقا توجيه جونغكوك نحو يونغي‪ .‬لطالما كان جونغكوك وحيدا في المدرسة والمنزل‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ليس لديه مكان ليذهب إليه بعد المدرسة‪ ،‬لهذا فهو عادة ما يضيع الوقت في مطعم هوسوك أو متجوال‬
‫حول قاطرة نامجون‪ .‬لهذا قمت بإقفال باب قاطرة نام جون وتأكدت من مغادرة هوسوك لمطعمه قبيل‬
‫دنو جونغكوك‪ .‬تجول في المكان لفترة وجيزة‪ ،‬عقبها توجه ً‬
‫أخيرا ناحية ورشة يونغي‪.‬‬

‫بدا أن لديه مشاعر مختلطة‪ .‬أيجب أن أدخل؟ ماذا لو فكر أني مزعج؟ الترقب والخوف كانا باديان‬
‫على وجهه‪ .‬منذ ذلك اليوم‪ ،‬استمر جونغكوك بزيارة ورشة ي ونغي ً‬
‫يوميا‪ ،‬أخبره يونغي أن يغرب بحدة‪ ،‬لكن ه‬
‫يك يعني ذلك بجدية‪.‬‬‫ُ‬
‫لم‬
‫ظل ما‪ ،‬كان لجونغكوك‪ .‬اختبئت بالمقعد‪ .‬ما زالوا ال يعلمون أني عدت باستثناء نامجون‬ ‫أهل ٌ‬
‫ّ‬
‫الذي القيته في محطة الوقود‪ ،‬قال أن الجميع سيكونون سعداء‪ ،‬إال أنني رفضت مقابلتهم‪ .‬ما زلت أنتظر‬
‫اللحظة المناسبة‪ ،‬سأنتظر حتى نجتمع كلنا ً‬
‫معا‪.‬‬
‫ُ‬
‫ربما كنا مقيدين بأوتار لمساندة بعضنا البعض‪ .‬ولم يك من السهل تتبع شبكة األوتار هذه‪ .‬بدت‬
‫وتر ما بشدة‪،‬‬
‫كمتاهة معقدة‪ ،‬كلما حاولت حل بعض األوتار والعقد‪ ،‬قطعت األخرى‪ ،‬وعندما أحاول سحب ٍ‬
‫ينهار كل شيء بلحظة‪ .‬كان علي ربط العقد و ًترا ً‬
‫وترا‪ ،‬مع مراقبة اآلخرين بكثب حتى يتمكنوا من إنقاذ‬
‫بعضهم البعض دون أن يدركوا ذلك‪.‬‬

‫توقف جونغكوك أمام ورشة يونغي ونظر ألعلى باتجاه الطابق الثاني ولم يبدو عليه السرور‪ .‬مر‬
‫بوقت عصيب أثناء األيام العشرة الفائتة‪ ،‬أكثر من الشراب وتعذيب ذاته‪ ،‬وأنا دفعت بجونغكوك‬‫ٍ‬ ‫يونغي‬
‫إلى ذلك العمق من العذاب‪ .‬ال بد أن معاناة يونغي ثقيلة للغاية على جونغكوك‪ .‬لمرة‪ ،‬استسلم جونغكوك‬
‫ً‬
‫بشأن يونغي‪ .‬آنذاك‪ ،‬ألقى بنفسه في النار‪ ،‬لكن بوحشية‪ ،‬لم يمت يونغي وجونغكوك لم يغفر لنفسه أبدا‬
‫إلخفاقه في ردعه‪.‬‬

‫شيء ما من نافذة‬
‫ٍ‬ ‫مضت عشر دقائق منذ دخول جونغكوك لورشة يونغي‪ ،‬سمعت صوت تحطم‬
‫ً‬
‫ممضيا في الطريق المنحدر‪.‬‬ ‫الطابق الثاني وظهر يونغي بشفاه مجروحة أمام مدخل المبنى‪ ،‬متر ً‬
‫نحا‪ .‬سارع‬
‫ً‬
‫متسمرا بقرب المرآة المحطمة‪ ،‬ويفكر‬ ‫وجهت نظري باتجاه نافذة الطابق الثاني‪ .‬البد أن جونغكوك يمكث‬
‫ُ‬
‫وأنه ميؤوس منه‪.‬‬ ‫بأنه ال يستطيع إنقاذ يونغي‪،‬‬
‫ً‬
‫أدرت محرك السيارة عقب خروج جونغكوك راكضا من المبنى‪ .‬ال بد أن يونغي توجه نحو الفندق‬
‫في أخر الشارع‪ .‬ينبغي علي أن أترك فكرة لجونغكوك حول مكان يونغي‪ .‬كل ما قدرت عليه‪ ،‬إسقاط بضع‬
‫مناديل ملطخة بالدماء قرب مدخل الفندق‪.‬‬

‫أثناء جلوسي في السيارة‪ ،‬شاهدت جونغكوك يصعد ساللم الفندق‪ .‬تركت صورة أمام المرآة في‬
‫ً‬
‫جميعا‪ ،‬الصورة التي التقطناها يوم ذهبنا إلى الشاطئ‪ .‬أرأى‬ ‫ورشة يونغي في الصباح الباكر‪ ،‬كانت صورة لنا‬
‫جونغكوك الصورة؟ لم أستطع معرفة ما إذ لحق جونغكوك بيونغي ألجل تلك الصورة‪ ،‬أو إذ ما قرر‬
‫جونغكوك منحه فرصة أخرى لرؤية بذرة من األمل‪ ،‬أو إذ كان لجونغكوك ٌ‬
‫دافع آخر‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫لم أك متأكدا من مقدرة جونغكوك على إنقاذ يونغي‪ .‬هذه اللحظة الحاسمة في الحياة‪ ،‬اللحظة‬
‫جميعا‪ ،‬بما في ذلك جونغكوك ويونغي‪ .‬ال يمكن ألحد التدخل فيها‪ ،‬وال يمكن تقاسمها‬ ‫ً‬ ‫األخيرة بالنسبة لنا‬
‫ً‬
‫إال من قبل أولئك الذين يعانون من نفس الندوب‪ ،‬ويفهمون مخاوف وأحالم وهزائم بعضهم بعضا‪ ،‬وهكذا‪،‬‬
‫يتمكنون من الرؤية من خالل بعضهم البعض حتى النخاع‪.‬‬
‫عما يتحدثان عنه بهذه اللحظة‪ ،‬ور ً‬ ‫ً‬
‫متسائال ّ‬
‫اجيا بيأس أن يعود ذلك‬ ‫نظرت باتجاه نافذة الفندق‬
‫ً‬
‫مجددا في السماء‪.‬‬ ‫الشيء ُ‬
‫المجنح للتحليق‬

‫~‪~50‬‬
‫يونغي‬
‫الثاني من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫ْ‬ ‫شبت النيران في المالءات واندلعت ً‬ ‫ّ‬


‫فورا‪ ،‬جميع األشياء الرثة والمهترئة قد احترقت في هذه‬
‫الحرارة الغير ُمحتملة‪ .‬الرائحة العتيقة‪ ،‬الرطوبة الكئيبة‪ ،‬الظالم والضوء الباهت ال ُيمكن تمييزهم بعد اآلن‪.‬‬
‫الجسدي الذي يبدو وكأنه يشتعل في اللهب‪ .‬شعرت وكأن أطراف أصابعي تذوب‬ ‫ّ‬ ‫لم يتبق سوى األلم‪ ،‬األلم‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وتتقرح‪ ،‬تبعثرت مالمح أبي الخالية من التعبير وصوت الموسيقى في الهواء‪ .‬كنت مختلفا عنه‪ ،‬كالنا لم‬
‫نفهم بعض‪.‬‬
‫يوما؟ ال أعتقد ذلك‪ .‬كل ما ُ‬
‫أقدر على فعله هو االختباء‪ ،‬الرفض‬ ‫إن حاولت‪ ،‬هل سأتمكن من إقناعه ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مثل هذه اللحظات‪ ،‬يعتريني الخوف‪ .‬ما‬ ‫أحيانا ال أشعر أنه هو من أحاول التحرر منه‪ ،‬في ِ‬ ‫بعيدا‪.‬‬ ‫والهروب‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الذي أهرب منه إذا؟ ما الذي يتطلبه األمر ألهرب من نفسي؟ كل شيء يبدو ميؤوسا منه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫شخص ينادي باسمي‪ ،‬لكنني لم ألتفت‪ .‬لم أتمكن من التنفس‪ ،‬لم أستطع‬ ‫أعتقد أن هنالك‬
‫التحرك‪ ،‬لكنني علمت أنه جونغكوك‪ .‬البد أنه فقد عقله‪ ،‬هكذا ستتمكن من الحداد ّ‬
‫علي‪ .‬أريد فقط أن‬
‫ً ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وضع نهاية للدخان‪ ،‬الحرارة‪ ،‬األلم‪ ،‬والخوف‪ .‬صرخ جونغكوك بأمر ما‪ ،‬إال أنني ما زلت ال‬ ‫أرتمي‪ ،‬أردت‬
‫أستطيع سماعه‪ .‬كل شيء انهار أمامي‪ ،‬كانت هذه اللحظة األخيرة‪ .‬رفعت رأسي‪ .‬أخر مشهد لي في هذا‬
‫العالم كان بهذه الدناءة‪ .‬غرفة معزولة‪ ،‬نيران حمراء حارقة‪ ،‬حرارة متموجة‪ ،‬وكذلك وجه جونغكوك القلق‪.‬‬

‫~‪~51‬‬
‫جونغكوك‬
‫الثاني من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫بعد أن رفعت رأسي‪ ،‬وجدت نفسي أمام القاطرة ففتحت الباب ودلفت للداخل‪ .‬استلقيت متكو ًرا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وغطيت جسدي بكل الثياب التي تمكنت من العثور عليها‪ .‬أحسست بالبرودة وجسدي بات يرتجف‪ .‬كان‬
‫مستلقيا‪ .‬اجتاحتني رغبة عارمة بالبكاء لكن الدموع أبت الخروج‪.‬‬‫ً‬ ‫علي أن أستجمع قواي وأبقى‬ ‫من الصعب ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ظل مشهد يونغي وهو يقف وسط ألسنة اللهب يتردد بذهني‪ ،‬ألسنة اللهب وهي تشتعل في المالءات‪.‬‬
‫ً ً‬ ‫ُ‬
‫عجزت عن التفكير‪ ،‬لم أعرف ما يجدر بي فعله‪ .‬لم أكن متحدثا لبقا ولم أستطع حتى التعبير عن مشاعري‬
‫ناهيك عن إقناع شخص آخر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫اغرورقت عيناي بالدموع َ‬ ‫ْ‬
‫وعال السعال حنجرتي‪ ،‬عجزت عن التحدث‪ .‬الكلمات الوحيدة التي‬
‫كنا ذاهبين إلى البحر ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫معا؟" "ما خطبك؟‬ ‫"خلت أننا‬
‫استطعت نطقها حالما قفزت بداخل النيران كانت ِ‬
‫ففتحت عيناي ألجد نامجون أمامي‪ ،‬حينها خالجني شعور بالراحة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أتعاني من كابوس؟" هز أحدهم كتفي‬
‫وضع نامجون يده على جبيني وأخبرني أني محموم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫صحيحا‪ ،‬شعرت وكأن فمي يحترق لكن الطقس بارد للغاية في الوقت ذاته‪ .‬كان رأسي‬ ‫كان األمر‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫يؤلمني وحلقي ملتهبا‪ ،‬بالكاد تمكنت من ابتالع الحبوب التي جلبها نامجون لي‪" .‬عد للنوم‪ ،‬سنتحدث‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫قائال‪" :‬هل سأكون ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫شخصا بالغا مثلك؟"‬ ‫قادرا على أن أغدو‬ ‫الحقا" أومأت ثم سألته‬

‫~‪~52‬‬
‫أعلى طابق يف‬
‫املدينة‬

‫~‪~53‬‬
‫هوسوك‬
‫العاشر من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫‪ُ َ .‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫سابق إنذار أثناء‬ ‫ِ‬ ‫انهرت دون‬ ‫مكان‬
‫ٍ‬ ‫وقت وفي أي‬ ‫ٍ‬ ‫هري الذي أقاسيه ُيباغتني في أي‬ ‫الق ّ‬ ‫الن ْوم‬
‫ُ َ ً ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ً‬ ‫بت عن َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الوعي فجأة ِعندما كنت أسير في الشارع‪ .‬تظاهرت بأني لست ق ِلقا جدا إز َاء هذا الوضع‬ ‫وغ‬
‫عملي‪ِ ،‬‬
‫َ ْ َ ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫العد للرقم َعشرة‪.‬‬ ‫خب َر أحدا بأنني لم أحت ِمل‬ ‫ُ‬
‫أمام األشخاص الذين اهتموا ألمري‪ ،‬لم أكن أل ِ‬
‫َ‬
‫ُ‬ ‫ً َ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫تعلق بوالدتي‪ ،‬كل أحالمي متشابهة‪ ،‬أكون فيها‬ ‫أغيب عن وعيي كانت أحالمي دائما ت‬ ‫ِعندما‬
‫حبة والدتي‪ُ ،‬‬ ‫ومتوج ًها إلى مكان ما ب ُص َ‬ ‫َ‬
‫الحافلة ُ‬ ‫ً‬
‫يغم ُرني الحماس واالبتهاج‪ ،‬أقرأ اإلشارات التي‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫مستقال‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ساكنا‪ ،‬في أحالمي أبلغ السابعة من ُع ّمري‪.‬‬ ‫أستطع الجلوس‬ ‫ْ‬ ‫وجهها‪ ،‬لم‬ ‫جانب ِ‬ ‫ِ‬ ‫وأنظر إلى‬ ‫ُ‬ ‫نتجاوزها‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫أبلغ َ‬ ‫ُ ُ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ ُ‬
‫العشرين ِعندما أدركت هذا‪ .‬كانت‬ ‫ِ‬ ‫سن‬ ‫ثم تخط ُر في ذهني من العدم حقيقة ه ْجرها لي‪ ،‬كنت‬
‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ال َتزال تجلس في مقعد الحافلة الذي أمامي‪َ ،‬بدت كما كانت ً‬
‫تماما من الخلف‪ ،‬عندما همست أناديها "أمي"‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫الت َفتت كما لو أنها َ‬ ‫َ‬
‫النسيم شعرها‬ ‫أضاء بوهن وجعل‬ ‫المشرقة‬
‫ِ‬ ‫الشمس‬
‫ِ‬ ‫أشعة‬ ‫س‬ ‫عاك‬ ‫الذي‬ ‫ها‬ ‫يال‬ ‫خ‬ ‫عتني‪،‬‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫س‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُي َر ُ‬
‫حزن في األمر هو إدراكي بأنني َسأفيق من ُحلمي‬ ‫َ‬
‫برقة ْتماما َ مثل ْ ذلك اليوم في مدينة المالهي‪ ،‬الم ِ‬
‫ً‬
‫فرف ٍ‬
‫تت أكثر ونظرت إلي‪.‬‬ ‫ِ ََ ْ‬
‫إذا التف‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ّ َ‬ ‫ُ‬
‫سامعها‪ ،‬مضيت أصرخ "ال تستديري يا‬ ‫بلوغ م ِ‬ ‫ِ‬ ‫في‬ ‫أخفق‬ ‫ي‬ ‫وت‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫لك‬
‫ِ‬ ‫ستدير‬ ‫ت‬ ‫حاولت إخبارها بأال‬
‫إلي‪ .‬في اللحظة التي تلتقي فيها ُ‬ ‫دوما ما تستدير وتنظر ّ‬ ‫لكنها ً‬ ‫ْ‬
‫شيء‬
‫ٍ‬ ‫أعيننا‪ ،‬كل‬ ‫ِ‬ ‫أمي‪ ،‬ال تستديري يا أمي"‬
‫بسقف غرفة المشفى‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يتحول للون األبيض‪َ .‬‬
‫ِ‬ ‫ويظهر ضوء مصباح الفلورسنت المعلق‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جال بمرمى َب َصري هو ضوء ُمصباح‬ ‫َ‬ ‫عيناي‪ ،‬أول شيء‬ ‫َ‬ ‫األمر ذاته‪ِ ،‬عندما فتحت‬ ‫ُ‬ ‫اليوم حدث‬
‫قال الطب ُ‬ ‫دلت ثيابي إلى ثياب المرضى‪ ،‬ثم َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫الم ْ‬ ‫الفلورسنت ُ‬
‫تجاج‬
‫يبدو بأنني أعاني من ار ُ ٍ‬ ‫يب‬ ‫ِ‬ ‫علق بالسقف‪ ،‬ب‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫في ُ‬
‫لستة أشخاص‪ ،‬شعرت‬ ‫ِ‬ ‫تتسع‬ ‫فحوصات شاملة‪ .‬نقلت إلى غرفة في المشفى‬ ‫ٍ‬ ‫أحتاج‬ ‫المخ لذلك‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫أشعر ً‬ ‫ُ‬
‫أستعيد وعيي‪.‬‬ ‫دائما بقواي خائرة ِعندما‬ ‫باإلرهاق‪،‬‬

‫~‪~54‬‬
‫جيمين‬
‫الحادي عشر من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫ُ ُ‬
‫نقلت إلى قسم الجراحة قبل حوالي أسبوعين‪ .‬في البداية كان من الغريب رؤية الناس يأتون‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫بحرية تامة‪ ،‬ولكن بعد ذلك اكتشفت أنه ُمجرد جزء آخر من المشفى‪ .‬هناك مرضى وأطباء‪،‬‬ ‫ويرحلون‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ومنحت حقن وعقاقير‪ .‬وعامة‪ ،‬كان قسمي يماثل عنبر الطب النفسي تقريبا‪ ،‬الفرق الوحيد هو أن جناح‬
‫ً‬ ‫الجراحة احتوى ً‬
‫ممرا طويال مع ردهة في منتصف الطريق‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وبالطبع كان هناك فرق آخر‪ ،‬أال وهو ُسمح لي بالتجول بحرية حول الجناح‪ .‬لذا تسللت ليال من‬
‫كضت في مدخل الطابق األول بأقصى سرعة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫غرفتي وتجولت حولها‪ ،‬قفزت ورقصت في الردهة كما ر‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫شيئا ً‬
‫غريبا في‬ ‫مسرات بسيطة ُمنعت في جناح الطب النفسي‪ .‬وذات يوم‪ ،‬اكتشفت‬ ‫ّ‬ ‫وتلك كانت‬
‫نفسي خالل ركضي في الردهة‪ .‬في نقطة ما جسدي أوقفني بال حراك وبدون سبب بينما كنت أهرول بعد‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫وسلم الطوارئ‪ .‬ال زال أمامي حوالي خمس خطوات أخرى ألبلغ مقصدي‪ ،‬لكنني توقفت‬ ‫المطبخ الصغير‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وعجزت عن الخطو خطوة أخرى‪ .‬وفي نهاية الرواق فتح باب إلى العالم الخارجي‪ ،‬باب إلى خارج المشفى‬
‫بأسره‪.‬‬

‫يحمل عالمة "ممنوع الدخول" كما لم يهرع أحد لردعي‪ ،‬لكنني لم أستطع التقدم‬ ‫ُ‬ ‫لم يكن الباب‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫أكثر من ذلك وسرعان ما اكتشفت السبب‪ .‬كان هذا امتداد للمدخل تماما مثل جناح الطب النفسي‪ .‬توقفت‬
‫ُ‬
‫تماما عند تلك النقطة كما لو ُرسم خط على األرض‪ ،‬حيث انتهت ردهة جناح الطب النفسي‪.‬‬ ‫ً‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫كنت أعاني أحيانا من نوبات صرع‪.‬‬ ‫نعتوني بالطفل الصالح داخل جناح الطب النفسي ولكنني‬
‫ٌ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫أبتسم وأستلق بحكمة‪ .‬كما عرفت حدي األقصى حيث يمكن تغطية رواق‬ ‫مطيعا‪،‬‬ ‫ولكن في الغالب كنت‬
‫جناح الطب النفسي على بعد ‪ ٢1‬خطوة‪.‬‬
‫بكيت ً‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كنت في الثامنة من عمري‪.‬‬ ‫ُ‬
‫طلبا العودة إلى المنزل مع‬ ‫عندما دلفت إلى المشفى ألول مرة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بذعر فتح الباب حتى هرعت‬ ‫ٍ‬ ‫أمي حتى أنني تمسكت بالباب الحديدي بنهاية ذلك المدخل‪ .‬حاولت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الممرضات وحفونني‪ .‬ولفترة من الوقت‪ ،‬كن يضطربن حالما أ ِلج إلى الردهة‪ .‬لكن اآلن لم يعد يأبه ألمري‬
‫ُ‬
‫ووصلت إلى الباب‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أحد حتى لو هرعت للردهة‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫كنت أدري بالفعل أن الباب موصد على أي حال‪ ،‬ولكنني ظللت أركض إلى الباب وأعود‪ ،‬لم أعد‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫أتوسل أو أنتحب إليهم ليفتحوا لي الباب‪ .‬لكن العالم يعج بأناس أحمق مني‪ ،‬حتى أنهم كانوا يتمسكون‬
‫بالباب ويــهزونه إلى ما ال نهاية ثم يتم قمعهم بحقنهم وربطهم بفراشهم‪.‬‬
‫إذا تصرفوا بشكل مناسب أكثر آللت حياتهم لراحة أكثر‪ .‬هؤالء الحمقى لم يعلموا أكثر من ذلك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫كنت أسقط ً‬ ‫ُ‬
‫دوما إثر حقن المهدئات بواسطة الممرضات كلما حاولت الفرار من‬ ‫قن األمر في البداية‪،‬‬
‫لم ير ِ‬
‫المشفى في أيامي األولى‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫وأجهش ً‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مخبرا إياها "لست مريضا‪ ،‬أنا على ما يرام اآلن‪ ،‬أرجوك‬ ‫باكيا حتى يبح صوتي‬ ‫أتصل بأمي‬
‫ُ‬
‫تأت‪.‬‬
‫تعالي واصطحبيني إلى المنزل" كنت أمكث طوال الليل لعدة أيام لكن أمي لم ِ‬
‫ُ‬
‫نقلت إلى المشفى بعدما ُعثر ّ‬
‫علي فاقد الوعي بدا خل مشتل األزهار العشبية‪ ،‬لم يطرح‬ ‫عندما‬
‫ُ‬
‫والدي أي سؤال‪ .‬بل تجاهال حقيقة غيبي عن الوعي هناك‪ ،‬وكان األمر ذاته عندما عانيت من نوبات صرع‪.‬‬ ‫ّ‬

‫~‪~55‬‬
‫ُ‬
‫ينقالني إلى المشفى ثم يسرحانني بعد فترة من الوقت‪ ،‬ينقالني إلى مدرسة أخرى‪ .‬لم َيحفال‬
‫ً ً‬
‫سوى لسمعة األسرة‪ ،‬االبن المصاب بمرض عقلي غير مقبول‪ .‬لم أغدو طفال جيدا بين عشية وضحاها‪،‬‬
‫ً‬
‫رويدا‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫لم يكن ثمة أي حدث درامي أو حادث ال ُي َ‬
‫تماما كنمو األظافر‪.‬‬ ‫نس‪ .‬واصلت التخلي عن نفسي رويدا‬

‫كففت عن االندفاع صوب باب الردهة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫أقلعت عن البكاء والحنين ألحظى بجولة في مرحلة ما‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫التحقت بالمدرسة بينما أمكث في المشفى‪ ،‬لكنني علمت أنني سأعود في النهاية‪ .‬شعرت باالنتعاش إزاء‬
‫ُ‬
‫نظري إلى السماء واالستمتاع بعبق كل موسم‪ .‬لكنني حاولت عدم االحتفاظ بهما في ذاكرتي‪ ،‬فعلى أي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫عني ً‬‫ّ‬
‫أيضا‪ ،‬لم يكن سجل المرض العقلي مفيدا في تكوين الصداقات‪.‬‬ ‫قريبا‪ .‬األصدقاء‬ ‫حال سيتم حجبهما‬
‫ُ‬
‫كان هنالك استثناء واحد‪ ،‬حينما قابلت مجموعة بدت كاألصدقاء الحقيقيين‪ ،‬لكن حدث ذلك منذ عامين‪.‬‬
‫حاولت تذكرهم‪ ،‬لكن ذاكرتي أبت تذكر تلك األيام‪.‬‬ ‫ُ‬

‫أصبت بنوبة هلع في موقف الحافالت بعد المدرسة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حينما تعين ّ‬
‫علي االنفصال عنهم بعدما‬
‫ُ‬ ‫غش ّ‬ ‫ُ‬
‫المشهد األخير الذي أذكره قبيل أن ُي َ‬
‫علي‪ ،‬حينما فتحت نافذة حافلة مشتل األزهار العشبية‪ .‬حالما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فتحت عيناي‪ ،‬وجدت نفسي في المشفى وأمي تتحدث على هاتفها عند الزاوية‪ .‬هدأ عقلي لبعض الوقت‪،‬‬
‫وصلت إلى هنا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لم ِأع أين كنت أو كيف‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫جلت ببصري واكتشفت نوافذ بأعمدة معدنية حينها استعدت ذاكرتي بأ كملها‪ .‬السماء الزرقاء التي‬
‫رأيتها في طريقي إلى المنزل‪ ،‬األلعاب السخيفة التي لعبناها في محطة الحافالت‪ ،‬حافلة مشتل األزهار‬
‫العشبية وهي تقترب وتحديقنا من خالل نوافذ الحافلة‪.‬‬
‫ُ‬
‫أغمضت عيناي لكن بعد فوات األوان‪ ،‬بدت البوابة األمامية للمشتل أمام عيني‪ ،‬كان يوم الرحلة‬
‫لمحت مست ً‬‫ُ‬
‫ودعا‬ ‫المدرسية خالل صفي األول حيث أركض تحت المطر الغزير وحقيبتي على رأسي‪ .‬حينما‬
‫مفتوحا‪ ،‬رائحة اللزج والعفن‪ ،‬وصوت تنفسي الثقيل الصاخب الذي يبغى التحرر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ودخلته بعدما كان الباب‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫جلست على سريري وصرخت قائال‪" :‬كال‪ ،‬ال أتذكر‪ ،‬لقد نسيت" قدمت أمي مهرولة وهي تنادي من‬
‫ُ‬
‫ولوحت بذر ّ‬ ‫ُ‬
‫اعي في كل اتجاه كي أتخلص من تلك الرائحة والملمس والصوت‬ ‫بالخارج‪ .‬هززت رأسي بعنف‬
‫والمشهد‪ ،‬لكن الذكريات عادت تغمرني‪.‬‬

‫انهار السد الذي حجزهم خالل السنوات العشر الماضية‪ ،‬كل تفاصيل ذلك اليوم اندفعت من‬
‫ُ ُ‬
‫وحقنت مرة‬ ‫خالل ذهني وعيناي وخاليا أظافري كما لو كان األمر يحدث مرة أخرى‪ .‬أصبت بنوبة هلع‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫عيناي وتمنيت أن يكون جل‬ ‫أخرى‪َ .‬سرت العقاقير بداخل أوعيتي الدموية‪ ،‬وسرعان ما غفوت‪ .‬أغمضت‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫حلما وحالما أستيقظ َ‬ ‫ذلك ً‬
‫أنس كل شيء‪ .‬تلك األمنية ظلت على حالها‪ .‬وبدال من ذلك‪ ،‬استمرت حلقة‬
‫من النوبات والحقن والنوم الناجم عنها والتي بسببها خالجني شعور السقوط من أعلى جرف‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وحل يشبه الدماء‪ .‬بغض‬ ‫بعدما استيقظت من النوم‪ ،‬أحسست وكأن جسدي كله مغطى بالوحل‪،‬‬
‫النظر عن مقدار الجهد الذي بذلته في غسله‪ ،‬بقيت رائحة المستودع كما هي‪ .‬نظفته حتى نزفت‪ ،‬لكنني‬
‫لت أشعر بالقذارة‪.‬‬‫ُ‬
‫ال ز‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حينما سألني الطبيب عن ذلك بنبرة قلقة‪ ،‬ارتجفت واعتذرت في البداية أعربت عن مقدار أسفي‬
‫ً‬ ‫مر ًارا وتكر ًارا‪ ،‬إنها غلطتي بالكامل‪ ،‬أرجوكم دعوني َ‬
‫أنس كل شيء عن ذلك‪ ،‬ثم حاولت التظاهر وكأن شيئا‬
‫لم يكن‪ .‬لم أكن أعرف ما الذي يتحدث عنه‪ ،‬لم أتذكر أي شيء‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫لذا نظرت للطبيب وابتسمت" ال أذكر أي شيء" هل صدقني الطبيب فعال؟ لم أكن واثقا لكن‬
‫ً ً‬ ‫ُ‬
‫المهم أنني صرت طفال جيدا‪ .‬كانت حياتي في المشفى هادئة‪ .‬كان مكاني المثالي ألهدر وقتي‪ ،‬لم أترقب‬

‫~‪~56‬‬
‫أي شيء ولم أشعر بالقيود أو الخوف أو الوحدة‪ .‬كان ذلك حتى الليلة الماضية‪ ،‬قبل أن أجتمع بهوسوك‬
‫مرة أخرى‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫نقلت إلى قسم الجراحة ألنني تشاجرت مع األحمق الذي استمر بمحاولة بلوغ باب نهاية الردهة‬
‫رغم قيود الممرضات‪ .‬كالنا أصيب بجروح ونقلنا إلى غرفتين مختلفتين في الطابق الخامس من جناح‬
‫الجراحة‪ .‬وضعوني في غرفة بها ستة أشخاص‪ ،‬كان فراشي بالمنتصف والمرضى يتغيرون من كال ج ّ‬
‫انبي‬
‫بشكل متكرر‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫كابوسا راوده وجعله يستمر‬ ‫نهضت في منتصف الليل على صوت مريض بجواري‪ ،‬يبدو كما لو أن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫منزعجا ومرهقا إثر‬ ‫بالتأوه‪ .‬صدر صوت التأوه من سرير على يساري‪ ،‬لذا سحبت الغطاء فوق رأسي‪ .‬كنت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الكوابيس لذا لم أكن بحاجة لسماع ذلك‪ .‬حاولت تحمل ذلك لفترة أطول لكن كابوسه لم يهدأ‪ .‬نهضت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وخطوت صوب فراشه‪ ،‬ربت على كتفيه وحاولت مساعدته "ال بأس‪ ،‬إنه محض حلم"‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اكتشفت هذا الصباح أن هذا المريض كان هوسوك لذا فتحت الستارة لوجبة الفطور‪ ،‬وكان‬
‫ً ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫جالسا على الفراش الذي يجاورني‪ .‬بدا سعيدا لرؤيتي مرة أخرى‪ ،‬لكن هل كنت سعيدا أيضا؟ ربما‬ ‫هوسوك‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫في زاوية واحدة من ذهني‪ .‬كان يتسكع معي ويــهتم بي‪ ،‬طفل منقول غريب تماما في المدرسة‪ .‬كما رافقني‬
‫ُ‬
‫طيلة الطريق إلى منزلي بعد المدرسة‪ ،‬ما زلت أذكر األيام التي اعتدنا فيها على السير إلى المنزل والمثلجات‬
‫ً‬
‫بأيدينا‪ .‬لكنه أيضا الشخص الذي رأى نوبة هلعي في محطة الحافالت قبل مجيئي إلى هنا باإلضافة إال أنه‬
‫من ألحقني بتلك المشفى‪ .‬ال بد أنه قد صادف أمي‪ ،‬لذا لم أشأ بشرح وضعي له‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫غادرت الغرفة تاركا وجبتي على حالها‪ ،‬اتضح أن هوسوك يتبعني لكنني كنت أعرف كل ركن من‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أركان هذا المشفى لذا لم يستطع اللحاق بي‪ .‬تجولت في المشفى طيلة اليوم‪ .‬وعبر الدرج رأيت اآلخرين‪،‬‬
‫حتى جونغكوك حينما قدموا لزيارة هوسوك‪ .‬تهيأ أنهم لم يتغيروا ً‬
‫كثيرا!‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بعد ظهر ذلك اليوم‪ ،‬صعدت أعلى وأسفل الدرج وتسكعت بالطوابق األخرى ثم اتكأت على‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫وأحصيت السيارات ّ‬ ‫ُ‬
‫منزعجا‪ ،‬لقد تخطيت كل وجباتي باإلضافة‬ ‫المارة‪ِ .‬بت‬ ‫النافذة التي تكمن بنهاية الردهة‬
‫أنه لم يكن هناك أي مكان للجلوس واالسترخاء بشكل مريـ ــح‪ .‬كان من المزعج سماع صوت القهقهات‬
‫ُ‬
‫صادرة من غرفتي‪ ،‬اعتراني الغضب ألنني لم أتمكن من فهم سبب غضبي الشديد‪ .‬لذا عدت إلى سريري‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫في وقت متأخر من الليل‪" ،‬أين كنت؟" سألني بعفوية ثم ناولني قطعة خبز‪ .‬كان الخبز دافئا ولذيذا‪ ،‬ال بد‬
‫ً‬
‫جوعا‪.‬‬ ‫أنه كذلك بسبب تضوري‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫لم أستطع االعتراف له‪ ،‬منذ فترة طويلة كنت محجوزا في جناح الطب النفسي ثم انتقلت لفترة‬
‫قريبا‪ ،‬كما لن أخرج من المشفى في المستقبل القريب‪ .‬وكما‬ ‫وجيزة إلى قسم الجراحة ولكن سيتم إعادتي ً‬
‫َ‬
‫خطيرا‪ ،‬لم أرغب بإضافة الجزء األخير‬ ‫ً‬ ‫شهد‪ ،‬أنني شخص ُيصاب بنوبات في الشارع‪ ،‬مريض يمكن أن يكون‬
‫لت أن ذلك سيردعه من انتقادي‪.‬‬ ‫ُ‬
‫لكنني ِخ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫تردد لبرهة قصيرة ثم سلب مني خبزي رادفا "جيمين‪ ،‬ال تبالغ‪ ،‬أال تعلم أنني مصاب بالنوم‬
‫القهري؟ ب وسعي أن أفقد وعيي في أي وقت وأي مكان‪ ،‬هل أنا خطير كذلك؟" تناول قضمة من خبزي في‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫حين أنني تجمدت بمكاني‪ ،‬ال أعرف ما عساي أقول؟ فاستكمل قائال "ماذا؟ أتريد استعادته؟" تناول قضمة‬
‫أخرى من الخبز ثم أعاده لي فتناولته على الفور‪ .‬سألني مرة أخرى "هل النوبات ُمعدية؟ النوم القهري‬
‫ليس كذلك فال تقلق" إنه لم يتغير البتة‪.‬‬

‫~‪~57‬‬
‫هوسوك‬
‫الثاني عشر من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫فتحت باب الطوارئ واندفعت ُمترجال الدرج بينما يخفق قلبي في صدري‪ .‬بالتأكيد خيل لي أني‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫جددا‪ُ ،‬فت َح ُ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫المصعد وخرج منه حشد من الناس‪ .‬اختفت‬ ‫باب‬ ‫ِ‬ ‫لمحت خيال أمي في الممر‪ .‬حالما نظرت لها ُم‬
‫أمي من أمام ناظري‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫وبيأس شقيت طريقي من بين الحشد ورأيتها بعيدا تذهب لمخرج الطوارئ‪ .‬تبعتها إلى ُسلم‬ ‫ُ ٍ‬
‫لت عدة طوابق بدون انقطاع‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حيث ُ‬
‫أنزل درجين بكل خطوة‪ ،‬نز‬ ‫الطوارئ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً ُ‬ ‫ُ‬
‫تلتف أمي‪ .‬خطوة أخرى ألسفل الدرج‪.‬‬ ‫"أمي!" أمي توقفت‪ .‬وطأت خطوة أخرى سريعة قبل أن‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫مددت ذر ّ‬ ‫ظهر وجه أمي تدر ً‬
‫اعي في الهواء محاوال موازنة‬ ‫يجيا‪ .‬حينها انزلقت قدمي وتبعها جسدي بأكمله‪.‬‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫جسدي‪ ،‬لكن األوان قد فات‪ .‬أغمضت عيني بإحكام خائفا من أن أتعثر على الدرج‪ .‬وفي تلك اللحظة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫شخص ما ذراعي من الخلف‪ .‬بالكاد تمكنت من تجنب السقوط من على السلم‪ .‬عندما أدرت رأسي‪،‬‬ ‫أمسك‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫كان جيمين ُ‬
‫جددا بسرعة‪ ،‬فأنا على عجلة ألعرب بطعن شكري ‪.‬‬ ‫مذعورا‪ .‬نظرت لألمام ُم‬
‫ً‬ ‫يقف هناك ويبدو‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫طفل صغير ِبجانبها‪ .‬استمرت المرأة في رمش عيناها‬ ‫رأيت امرأة‪ ،‬بدت مرتبكة‪ ،‬وكان هناك‬
‫ُ‬
‫المختبئ خلف ظهرها‪ .‬وقفت على الدرج هناك دون‬ ‫الواسعة‪ ،‬لم َت ُكن أمي ثم تراجعت مع الفتى الصغير ُ‬
‫نبس أي كلمة ً‬
‫ناظرا لوجهها فحسب‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شخص‬ ‫ال أتذكر ما قلته حينها ألخرج من هذا الموقف‪ .‬بالتأكيد همهمت بأني آسف أو أنني ظننتها‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫آخر‪ .‬وبالتفكير في األمر‪ ،‬فأنا حتى لم أسأل جيمين عن وجوده هناك‪ .‬كان عقلي ُمشتتا ولم أستطع‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أتبعها‪ .‬لقد َمرت أكثر من عشرة أعوام منذ‬ ‫علمت هذا قبل أن ُ‬ ‫استيعاب أي تفصيلة‪ ،‬لم تكن أمي‪ .‬ربما قد‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ ُ‬
‫أتذكره‪ .‬حتى‬ ‫واختلف شكلها عما‬ ‫اليوم الذي ت ِركت فيه وحيدا في مدينة المالهي‪ .‬بالتأكيد هي قد كبرت‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫جددا‪ ،‬فلن يكون من السهل التعرف عليها فمالمحها كادت أن تختفي من ذاكرتي‪.‬‬ ‫ولو قابلتها ُم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نظرت للخلف وجيمين يتبعني بدون قول أي كلمة‪ .‬قال أنه بقى في هذه المشفى منذ الثانوية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أخر مرة رأيته في غرفة الطوارئ‪ .‬عندما سألته إذا كان يود الخروج من هنا‪ ،‬استمر في التراجع للخلف‬ ‫ِ‬ ‫منذ‬
‫وقد بدا عليه االرتباك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫شبكة من الذكريات مثلي‪ .‬خطوت خطوة ناحيته وقلت له "جيمين‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ربما جيمين أيضا ُمقيد في‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لنخرج من هنا"‬

‫~‪~58‬‬
‫جيمين‬
‫الخامس عشر من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫ً‬
‫مضت ثالثة أيام على خروج هوسوك من المشفى‪ .‬لم أرغب بتوديعه لذا تتبعته خفية‪ .‬وبينما‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫كنت على أثره‪َ ،‬‬
‫متجها ناحية الباب ثم تجاوز بال اكتراث الخط المرسوم على األرض‬ ‫سار عبر الرواق الطويل‬
‫َ‬
‫بضع‬ ‫دوما عن السير عنده‪ .‬وقفت هناك‪ ،‬كان بوسعي الخطو‬ ‫قرب مخرج الطوارئ‪ ،‬الخط الذي أتوقف ً‬
‫ً‬
‫خطوات إضافية لكني توقفت هناك فحسب‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫وصل هوسوك إلى الباب بروية فدفعه بخفة كي ُيفتح مما جعل أشعة الشمس الساطعة تتسلل‬
‫يصحبها هواء الخارج الالذع الرائحة والمنعش في اآلن ذاته‪ .‬المنظر في الجهة األخرى من الباب اجتاح‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫خارجا بدأ الباب ينغلق‪ ،‬لو عدوت اآلن لتمكنت من االنزالق‬ ‫قدمي هوسوك األرض‬ ‫كياني‪ ،‬حينما وطأت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حدقت باألرض ألجد بأن الخط الفاصل الذي لم يكن ظاهرا لسواي ما زال موجودا هناك‪.‬‬ ‫ُ‬
‫خالله لكني‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫فعل ذلك عندما شعرت بأحدهم يمر دافعا كتفي بقوة ما جعلني أفقد‬ ‫استدرت عائدا أو أوشكت على ُ ِ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫توازني وأسقط على وجهي‪ ،‬رفعت رأسي بينما ما زلت ممددا على األرض ألرى بأنني تجاوزت الخط‬
‫ً‬
‫الفاصل‪ .‬األحمق كان يعدو صوبي ناشدا الوصول للباب‪ ،‬واصل شق طريقه عبر اآلخرين دون أن ُيبالي بأي‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫الباب بأقصى ما لديه من قوة تدفقت أشعة الشمس إلى الداخل مجددا‪ .‬جرى نحو الخارج‬ ‫أحد‪ ،‬حينما فتح‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫قدمي‪ ،‬خطوت خطوة‬ ‫مسرعا وممرضة كانت تتبعه لكنه كان أسرع منها‪ .‬انغلق الباب مجددا فوثبت على‬
‫ً‬
‫مجددا‪.‬‬ ‫ُ‬
‫خطوات واسعة لبلوغ الباب لكني عدت أدراجي‬ ‫ٍ‬ ‫واحدة وعبرت الخط الفاصل‪ ،‬تلزمني ثالثة‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫شخص غريب مسبقا‪ .‬أغمضت عيناي وحاولت النوم لكني لم أنفك‬ ‫ٍ‬ ‫شغل سرير هوسوك من ِقبل‬
‫عن التفكير بما قاله لي قبل أن يخرج من المشفى‪ ،‬قال وعلى محياه اعتلت تعابير رأيتها للمرة األولى على‬
‫ً‬
‫اإلطالق "هيا لنخرج من هنا يا جيمين"‪ ،‬لم يسبق له أن كان بهذه الحال‪ .‬وقفت مترددا ومن دون أدنى‬
‫فكرة عن كيفية الرد‪ .‬قبل هذا الموقف وقعت حادثة جعلتني أواصل التفكير بكلماته‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫منتظرا المصعد في الطابق الثاني الذي تلقيت فيه العالج الفيزيائي‪ .‬تعثرت أثناء‬ ‫حينها وقفت‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫الشجار مع األحمق ُ‬
‫وجرح رسغي ولم يتماثل الشفاء جيدا‪ .‬جزعت وفقدت رباطة جأشي ألن موعد خروج‬
‫ُ‬ ‫هوسوك من المشفى قد اقترب لكن المصعد َ‬
‫علق في الطابق التاسع‪ .‬ظننت بأن أحدهم ُينادي اسمي‬
‫ُ ُ َ‬ ‫ُ‬
‫يقف قبالة مخرج الطوارئ الواقع في نهاية الرواق‪،‬‬ ‫عندما كنت أفكر في استخدام الدرج‪ ،‬هذا الشخص كان‬
‫ولكن بسبب أشعة الشمس المنعكسة خالل النافذة لم أتمكن من تمييز هويته‪ .‬في اللحظة التي تقدمت‬
‫لبرهة قصيرة‬
‫ٍ‬ ‫فيها خطوة لألمام هرول فجأة باتجاه مخرج الطوارئ فأصبح جانب وجهه في مرمى بصري‬
‫لكني ال زلت لم أستطع معرفة ماهيته‪ .‬يا ترى من قد يكون؟‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِسرت ناحية ُسلم الطوارئ ويتملكني شعور بالغرابة‪ ،‬حينما فتحت مخرج الطوارئ وأقحمت رأسي‬
‫شعرت بأحدهم ّ‬‫ُ‬
‫نحو غريزي‪ ،‬لكننا كدنا أن نصطدم‬
‫عجلة بجانبي فسحبت رأسي على ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مر على‬ ‫في الداخل‪،‬‬
‫ببعضنا‪.‬‬
‫ً‬ ‫نحيبا ً‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫يائسا ألحدهم وهو ينادي " أمي!" فأقحمت رأسي في مخرج الطوارئ مجددا ورأيته‪،‬‬ ‫سمعت‬
‫ً‬
‫تقف امرأة عند نهاية ُسلم الطوارئ‪ .‬ما كل هذا؟‬
‫هابطا بشكل محموم‪ ،‬كانت ُ‬
‫ٍ‬ ‫إنه هوسوك يقفز على الدرج‬
‫ّ‬ ‫قدمي على َب ْسطة ُ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫السلم وفي هذه اللحظة زلت قدم هوسوك فاندفعت بال أدنى تفكير‬ ‫ِ‬ ‫وضعت‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫وفردت ذراعي لإلمساك به‪ ،‬ترنح هوسوك وفقد توازنه ألنني أبطأت حركته بغتة وبالكاد تمكنت بدوري‬
‫من الحفاظ على توازني‪.‬‬

‫~‪~59‬‬
‫َ‬ ‫لم ينبس ببنت شفة إلى أن تسلقنا ُ‬
‫السلم عائدين ووصلنا لرواق الطابق الخامس‪ ،‬واصل صمته‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫حينما ِسرنا إلى غرفة المشفى ثم توقف فجأة ونظر نحوي قائال "لنخرج من هنا يا جيمين" لم أ ِجبه‪،‬‬
‫بحزم "سأعود من أجلك" فأجبته "سأعود إلى عنبر الطب النفسي في غضون أيام قليلة"‬ ‫ٍ‬ ‫فأخبرني‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫مرت ثالثة أيام‪ ...‬وفي اليوم التالي حري بي العودة إلى عنبر الطب النفسي‪ ،‬وضبت أمتعتي‬
‫ُ‬
‫النعاس‪.‬‬ ‫واستلقيت‪ ،‬بقيت أتقلب ولم يمضي الكثير من الوقت حتى غلبني‬
‫صوت سقوط شيء ما‪ ،‬إن المشفى مكان غريب ومن الصعب أن تنام فيه بسالم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫استيقظت على‬
‫أستطيع استشعار كل شيء حولي عندما تكون عيناي مغلقتان وحتى األصوات الضئيلة لها القدرة على أن‬
‫متيقظا‪ .‬الغرفة ُمعتمة والنسيم ُ‬‫ً‬ ‫ُ‬
‫يهب عبر النافذة المفتوحة‪ ،‬فتمايلت الستائر وسط تيار الهواء‬ ‫تبقيني‬
‫ً‬
‫المتقد‪ .‬كل شيء بات مألوفا لي‪ ،‬السقف‪ ،‬األرضية‪ ،‬العتمة والسكون‪.‬‬
‫ُ‬
‫كنت على وشك تشغيل المصباح الليلي عندما ردعتني يد أحدهم‪ ،‬إنه هوسوك وقد وضع سبابته‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫مد يده لي‪ ،‬جميعهم كانوا بانتظاري في الخارج‪.‬‬ ‫على فمه فجلست متفاجئا‪ ،‬قال لي "لقد جئنا جميعنا" وقد‬
‫ال زالت تراودني العديد من المخاوف‪ ،‬فأنا غير مرئي بالنسبة لوالداي وفي الخارج‪ ،‬لن يتم اعتباري‬
‫كمريض ُمذعن‪ .‬ساورتني‬‫ٍ‬ ‫فار من العنبر النفسي لذا فإنه من اآلمن لي أن أبقى في المشفى‬
‫أكثر من مجرد ٍ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫الشكوك حول قابليتي للتأقلم جيدا هناك‪ ،‬تمكنت من التفكير بمليون سبب يدفعني لعدم الرحيل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫قميصا‪ ،‬صرت خارج سريري‬ ‫لم يتردد هوسوك ولو للحظة فقد جذب يدي وجعلني أقف ثم ناولني‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ممرضات كن جالسات على‬ ‫ٍ‬ ‫هدوءا وسكينة وتواجدت فيه بضعة‬ ‫قبل أن أدرك ذلك حتى‪ .‬عم الرواق‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫بأعمالهن لذلك لم يلقين باال لنا‪ .‬لكني وهوسوك سرنا بهدوء قدر استطاعتنا وبتوتر‪،‬‬ ‫مكات ُبه ّن ومشغوالت‬
‫ِ‬
‫كان المصعد بانتظارنا في الطابق الخامس وعندما فتح الباب‪ ،‬نامجون وسوكجين كانا يقفان بداخله‪.‬‬

‫حين غرة داخل‬


‫وطأت أقدامنا أرضية الرواق دفعني هوسوك على ِ‬ ‫توقفنا عند الطابق األول وحينما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫باب على اليسار منا‪ ،‬إنها الردهة وهي عادة ما تكون في النهار مزدحمة بالمرضى ومقدمي الرعاية أما في‬
‫الليل فهي مظلمة يتدفق إليها الضوء الضبابي من عواميد إنارة الشارع‪.‬‬
‫ً‬
‫واضحا خلفهما وعلى‬ ‫أضيئت شمعة فخرج جونغكوك وتايهيونغ من ُج ِنح الظالم وبدا وجه يونغي‬
‫وعلب صودا‪.‬‬ ‫الطاولة وضعت وجبات خفيفة ُ‬
‫ُ‬
‫ارتشفت رشفة واحدة فقط من الصودا‪ ،‬عندها دخلت ممرضة من الباب الخلفي وقبل أن ألقي‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫التحية عليهم‪ ،‬سألت الممرضة عما ك ّنا نفعله في هذا المكان فأخبرها يونغي بأنها حفلة عيد ميالد‪.‬‬
‫قطعت بضع خطوات داخل الردهة قائلة "هل جميعكم مرضانا المقيمون؟ ال أعتقد ذلك"‪،‬‬
‫ُ‬
‫الوحيد الذي يرتدي رداء المرضى هو أنا وبال وعي بذلك‪ ،‬شددت قبضتي على علبة الصودا‪ُ .‬سحقت علبة‬
‫ّ‬
‫غريبا‪ .‬جذب هوسوك كتفي‪ ،‬وقال لي نامجون "ال بأس"‪ ،‬أحدهم قال وال ُبد‬ ‫ً‬ ‫األلمنيوم وأصدرت صر ًيرا‬
‫بأنه جونغكوك "عندما أعطيكم اإلشارة باشروا الركض‪".‬‬
‫سوكجين الذي وقف عند الباب األمامي رمقنا بنظرة ثم توجه للخارج‪ ،‬التفت هوسوك نحونا‬
‫وهمس بصوت منخفض "اركض يا جيمين"‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫جميعا الركض‪ ،‬غمرني الحماس فركضت معهم‪ ،‬زلت قدم تايهيونغ فكاد أن يقع‪ ،‬تطايرت‬ ‫بدأنا‬
‫الوجبات الخفيفة وقناني الصودا البالستيكية‪ .‬اندفعنا بخفة خالل الطاوالت وانسللنا عبر رواق الطابق‬
‫األول‪ ،‬األصوات الصاخبة ووقع خطوات أقدام الممرضات استمرت بمالحقتنا‪ .‬ترامى الرواق أمامنا ً‬
‫تماما‬
‫كما حدث في األمس‪.‬‬

‫~‪~60‬‬
‫ُ‬ ‫اجتزت المقصف وبال إدراك مني‪ّ ،‬‬‫ُ‬
‫خف إيقاع ركضي وانهمر داخل رأسي‬ ‫خفق قلبي بقوة حينما‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫وابل من األسئلة‪ ،‬هل سيكون األمر على ما يرام؟ هل أنا متأكد؟ ربما سيكون األمر أصعب هناك‪ ،‬ربما لن‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫أجد أي أحد بجواري‪ ،‬الوضع هنا أكثر أمانا وراحة‪ ،‬لم يفت األوان بعد‪ ،‬األفضل لي أن أتوقف هنا‪ ،‬األفضل‬
‫ً‬
‫صالحا‪.‬‬ ‫لي أن أعترف بحدودي‪ ،‬األفضل لي أن أكون ً‬
‫فتى‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ّ‬
‫البوابين انضموا لمطاردة‬ ‫خطي الفاصل على ُبعد خطوات قليلة‪ ،‬ألقيت نظرة للوراء فرأيت بأن‬
‫تماما‪ّ ،‬ربما ال أملك أية‬
‫البقية‪ ،‬ارتعدت يدي التي كانت ممسكة بالقميص بشدة‪ .‬يبدو بأنهم كانوا خلفي ً‬
‫َ‬
‫بضع‬ ‫هيا أركض!" منحني هذا الصوت القوة لمواصلة التقدم فخطوت‬ ‫فرصة‪" ،‬ال بأس يا بارك جيمين‪ّ ،‬‬
‫خطوات إضافية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تجاوزت الخط‪ ،‬وقطعت خطوات قليلة باتجاه الباب لكن حدث تغير درامي‪ ،‬شيء في داخلي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫انطوى وانتبذ كما لو أنني قد قفزت للتو من منحدر شاهق آلخر‪ .‬بينما رميت رداء المشفى وارتديت‬
‫القميص‪ ،‬خطوت لألمام باتجاه الباب‪ ،‬الخطوة التالية كانت أسرع والتي تلتها كانت أسرع منها‪ .‬الجدران‬
‫قريبا أثناء خطواتي الواسعة‪ .‬تبقت خمسة‬‫على كلى الجانبين ومضت بجانبي بسرعة البرق‪ ،‬والباب بدا ً‬
‫خطوات فقط للوصول من الخط للباب‪ .‬بالنسبة لشخص آخر فإن مسافة خمس خطوات قصيرة للغاية‪،‬‬
‫لكني لم أتجرأ الوصول لهذا الحد‪ .‬هذه هي المرة األولى التي أعبر فيها الخط من تلقاء نفسي‪ ،‬الباب كان‬
‫بمتناول يدي‪.‬‬
‫ً‬
‫مختلفة ً‬
‫كليا عن التي أحاطتني‪ .‬رفضت التفكير فيما‬ ‫حالما أعبر هذا الخط فإن البيئة ستكون‬
‫تاليا‪ ،‬سأصب تركيزي على أخذ خطوة في كل مرة‪ .‬دفعت الباب بكل ما أوتيت من قوة فتصادمت‬ ‫سيحدث ً‬
‫رهقة أو هواء عنيف كما‬ ‫ُ‬
‫كل خلية في جسدي مع ذرات الهواء الخارجي‪ ،‬ال توجد هناك أي أشعة شمس م ِ‬
‫ُ‬
‫وصوت نبضات قلبي تخفق في جميع األرجاء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت ً‬‫ُ‬
‫برغبة عارمة بالبكاء‬
‫ٍ‬ ‫دائما أتصور‪ ،‬شعرت‬

‫~‪~61‬‬
‫جيمين‬
‫السادس عشر من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫ٌ‬
‫كان منزل هوسوك فوق تل‪ ،‬وهو عبارة عن غرفة على سطح مبنى مهدم تسكنه عدة عوائل يقع‬
‫ً‬
‫ومتعرج‪ ،‬بعيدا عن الشارع الرئيسي فوق شارع طويل شديد‬ ‫ّ‬ ‫بزقاق ضيق‬
‫ٍ‬ ‫طريق مسدود مرو ًرا‬
‫ٍ‬ ‫في نهاية‬
‫االنحدار‪ .‬كان ذلك مكان سكنه‪.‬‬
‫ً‬
‫طابق في المدينة‪ ،‬جاعلة العالم بأسره‬ ‫عند دخولنا الغرفة‪ ،‬بات هوسوك يتباهى بكونها في أعلى‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ٍ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫تحت قدميه‪ .‬كان محقا‪ .‬أطلت غرفة السطح على كل شيء‪ .‬فعندما نظرت لألسفل مباشرة‪ ،‬رأيت محطة‬
‫القطار والقاطرات المصطفة على طريق السكة الحديدية‪ ،‬نامجون يسكن بإحدى هذه القاطرات‪ .‬أبعد‬
‫ُ‬ ‫من ذلك بقليل تقع المدرسة التي ارتدناها ً‬
‫معا‪ .‬بينما نظرت إلى المدرسة‪ ،‬امتد نطاق بصري إلى نقطة‬ ‫ٍ‬
‫وراء النهر حيث وقع مجمع للشقق السكنية أسفل الجبل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫هناك منزلي‪ ،‬ال؛ هناك منزل والداي‪ .‬كنت قد هربت من المشفى بدون تخطيط مسبق‪ .‬ال شك‬
‫ّ‬
‫بشجاعة كافية‬
‫ٍ‬ ‫بأن طاقم المشفى اتصلوا بوالداي بالفعل وال بد من أنهم بدأوا البحث عني‪ .‬لم أتحلى‬
‫ً‬ ‫لمقابلتهم ً‬
‫وجها لوجه بعد‪ .‬لم أستطع العودة للمنزل ولم أملك مكانا ألذهب إليه وال أي من المال‪ .‬أخبرني‬
‫هوسوك أن أتبعه وقادني إلى هنا‪ .‬هكذا انتهى بي المطاف في منزل هوسوك‪.‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫علي العودة إلى هناك ً‬ ‫مرة أخرى‪ّ .‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫وعلي إخبار والد ي‬ ‫يوما ما‬ ‫نظرت إلى مجمع الشقق السكنية‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫أخذت ً‬
‫نفسا عميقا واقترب هوسوك ليقف بجواري‪.‬‬ ‫بأني لن أعود إلى المشفى‪.‬‬

‫~‪~62‬‬
‫هوسوك‬
‫السادس عشر من مايو العام الثاني والعشرين‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يمكنني التصرف على سجيتي في المنزل‪ .‬في بعض األحيان‪ ،‬أصرخ وأغني بأعلى صوتي أمام‬
‫وأرقص بجنون‪ .‬ومن آن آلخر‪ ،‬أستيقظ بمنتصف الليل ُم ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نتحبا‪.‬‬ ‫النافذة‪ .‬وفي أحيان أخرى‪ ،‬أشغل األغاني‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حين يحدث هذا‪ ،‬أتصنم محدقا بالسقيفة‪ .‬لكنني لم أنهر يوما بالنوم القهري في المنزل‪.‬‬
‫ً‬
‫متدليا من‬ ‫جيمين لم يعد لمنزله بعد مغادرته للمشفى‪ .‬لقد بات في منزلي وهو اآلن ينظر للمدينة‬
‫على السطح‪ .‬البد أنه يسعى لرؤية مدرستنا أو مطعم برغر تو ستار أو األنوار المومضة على امتداد سكة‬
‫ُ‬
‫فجميعنا نبحث عن منازلنا حالما نتسلق قمة عالية‬ ‫الحديد‪ً ،‬‬
‫تماما مثلي‪ .‬وهذا أمر غريزي في طبيعتنا‪.‬‬
‫أوحين ننظر لخريطة كبيرة‪.‬‬

‫تبادر لي سؤاله عن سبب عدم عودته لمنزله‪ ،‬لكنني تغافلت عن الموضوع‪ .‬البد أنه بفوضى عارمة‬
‫اآلن‪ ،‬وال أريد أن ُأفاقم األمر عليه‪ .‬باإلضافة إلى أنني أستطيع تخمين اإلجابة ً‬
‫بناء على ردة فعل والدة‬
‫ُ‬ ‫جيمين في غرفة الطوارئ بذلك اليوم‪ .‬في الواقع‪ً ،‬‬
‫نادرا ما ألح بسؤال أصدقائي‪ .‬أشعر وكأنني أعرف‬
‫ُ‬
‫اإلجابات عليها بالفعل‪ .‬كما أنني لم أرد إشعارهم بالحرج أو ربما قد يجدون أسئلتي فضولية ومزعجة‪.‬‬
‫يحا‪ً ،‬‬
‫دائما ما يجول في بالي عن مكان وجهتهم كلما ساروا بجانب متجري‪ ،‬لكن لم أجرؤ‬ ‫ألكون صر ً‬
‫بوجه ممتلئ بالكدمات؟ هل كانت ورشة يونغي بهذا االتجاه؟ لماذا‬ ‫ٍ‬ ‫على ذلك‪ .‬إلى أين يتجه جونغكوك‬
‫ّ‬
‫ترك نامجون المدرسة؟ من أين تعلم تايهيونغ الرسم على الجدران في المقام األول؟ بعد التفكير باألمر‪،‬‬
‫ال أعلم الكثير عنهم‪.‬‬
‫ُ‬
‫"أجد ماذا؟" بدت عليه الحيرة‪" .‬منزلك" أومأ جيمين‪.‬‬ ‫"هل وجدته؟" اقتربت من جيمين وسألته‪.‬‬
‫ُ‬
‫"ترعرعت في ذلك الميتم‪ ".‬أشرت بيدي لموقع يقع خلف السكة الحديدية‪" .‬أترى المتجر الذي يقع‬
‫عمل نامجون؟ أترى الالفتة المتوهجة ذات الشكل الرباعي خلفها؟‬ ‫َ‬ ‫باتجاه النهر من محطة الوقود حيث‬
‫ُ‬
‫الميتم يقع على يمين هذه الالفتة المتوهجة‪ .‬أقمت هناك ألكثر من عشر سنوات‪ " .‬بدى وكأن عينا جيمين‬
‫تتساءل حول سبب بوحي له بكل هذا‪ .‬أصدقائي علموا بالفعل أنني ترعرعت في ميتم‪ .‬اعتبرته منزلي‪ ،‬ولم‬
‫ٌ‬ ‫ُ ً‬
‫منزل بال أم‪.‬‬ ‫أجبر نفسي على التفكير بهذا من أجل راحة البال‪ ،‬بل اعتقدت حقا أنه منزلي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫"لدي اعتراف أقر به‪ ".‬أمر قد كذبت بشأنه‪" .‬النوم القهري خاصتي مزيف‪ ".‬ربما هذا سبب عدم‬
‫سؤالي لآلخرين حول أي شيء‪ .‬لم يكن السبب في عدم رغبتي بإيذائهم‪ ،‬بل ألنني كذبت‪ .‬ألنني ال أملك‬
‫ّ ً‬ ‫الشجاعة الكافية ألكون صر ً‬
‫علي أيضا االعتراف أن ليس لدي شخص‬ ‫يحا‪ .‬بمجرد اعترافي باألمر‪ ،‬سيتوجب‬
‫أدعوه ب "أمي"‪ ،‬ليس في الميتم فحسب ولكن في العالم أجمع‪ .‬ربما يعود سبب عدم سؤالي عن مشاكل‬
‫أي منهم لذلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫جيمين َ‬
‫ليس جيدا بإخفاء مشاعره‪ .‬فنظرته المندهشة ال يصعب تفسيرها‪ .‬ال أعرف كيف أعتذر‬
‫َ‬
‫باكيا حين ش ِه َد األمر ألول مرة‪.‬‬
‫ناضل جيمين من أجلي بأوقات ال يحصى لها‪ .‬والبد أنه انفجر ً‬ ‫َ‬ ‫إليه‪ .‬فقد‬
‫َ‬
‫"لم أتعمد فعل هذا‪ .‬البد أنني تجاهلت فكرة أن هنالك فرصة تسمح لي بأن أغدو بخير بها‪ .‬أعلم أن هذا‬
‫ليس منطقي‪ .‬وال ُيمكنني وصفه بوضوح"‪.‬‬
‫ً‬
‫ً‬
‫ستمعا لبعض الوقت‪ ،‬أدار وجهه ناحيتي‬ ‫"إذا‪ ،‬هل أنت بخير اآلن؟" سأل جيمين بعد أن كان ُم‬
‫ُ‬
‫سألت نفسي‪ .‬مازال جيمين ينظر ناحيتي‪ .‬لم ينظر بانتقاد أو شفقة‪.‬‬ ‫وسألني هذا‪ .‬هل أنا بخير اآلن؟‬

‫~‪~63‬‬
‫ُ‬
‫وجهت نظري ناحية المدينة المضيئة في األسفل‪" .‬في الواقع‪ ،‬ال أعلم‪ .‬سنكتشف هذا بمرور الوقت‪ .‬إنني‬
‫أتطلع لذلك‪ ،‬وأنت؟" قهقه جيمين‪ ،‬وضحكت بدوري‪.‬‬

‫~‪~64‬‬
‫جيمين‬
‫التاسع عشر من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫حري بي العودة إلى مشتل األزهار العشبية واالنفكاك عن الكذب حيال عدم تذكري لما رأيته‬
‫هناك‪ .‬حان الوقت للتوقف عن االختباء في المشفى ووضع حد لنوباتي‪ .‬ولكي أفعل هذا‪ ،‬توجب عل ّي‬
‫وإيابا ثم أخفق في ركوب الحافلة‪.‬‬‫ذهابا ً‬
‫كنت أذهب إلى محطة الحافالت ً‬ ‫ُ‬
‫العودة إلى هناك‪ .‬وأليام عدة‪،‬‬
‫ُ‬
‫وبعد أن شاهدت الحافلة الثالثة وهي تغادر اليوم‪ ،‬ظهر يونغي على حين غرة وجلس بجواري‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اعما أنه جاء لعدم انشغاله وشعوره الملل‪ .‬ثم سألني ّ‬
‫ز ً‬
‫عما أفعله هنا‪ ،‬ظللت مطأطئ الرأس وركلت األرض‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫أدع أنني على ما يرام وأنني أدرى‬
‫بالشجاعة‪ ،‬أردت أن ِ‬ ‫بمقدمة حذائي‪ .‬بت أجلس هناك ألنني لم أكن أتحلى‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫بما يكفي ألتغلب على هذا بسهولة‪ .‬لكني كنت خائفا‪ ،‬خشيت من عدم معرفة ما أنا على وشك مواجهته‪،‬‬
‫ُ‬
‫كنت سأصاب بنوبة أخرى‪.‬‬ ‫وما إن كان بوسعي تحمله وما إن‬
‫ً‬
‫مسترخيا‪ ،‬ثم مال للوراء وغمغم بشيء بدا وكأنه يقول "الطقس لطيف للغاية" بطريقة‬ ‫بدا يونغي‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫مبتهجة‪ .‬كان الطقس لطيفا بحق‪ ،‬لكنني توترت لدرجة عدم تحمل النظر حولي ناهيك عن االستمتاع‬
‫بالطقس‪ .‬باتت السماء زرقاء والنسيم لطيف في بعض األحيان‪ ،‬وظهرت الحافلة مقتربة من على بعد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫توقفت الحافلة وفتح الباب‪ ،‬فسألت يونغي خالل نظرات السائق "هال ترافقني؟"‬

‫~‪~65‬‬
‫هوسوك‬
‫العشرون من مايو العام الثاني والعشرين‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫بصحبة تايهيونغ‪.‬‬ ‫ُ‬


‫غادرت مركز الشرطة ُ‬
‫"شكرا" انحنيت وهتفت بنشاط‪ ،‬إال أنني لست في مزاج‬
‫كثيرا عن مركز الشرطة‪ .‬لو كانت المسافة أبعد‪ ،‬هل كان سيتردد على مركز‬ ‫بعد منزل تايهيونغ ً‬ ‫جيد‪ .‬لم ي ُ‬
‫ّ‬
‫الشرطة بهذا القدر؟ لماذا استقر والديه في منزل بهذا القرب من مركز الشرطة؟ هذا العالم ظالم وغير‬
‫ُ‬
‫ُمنصف بحق هذا الفتى الرقيق وذو القلب الطيب حد الحماقة‪ .‬أحطت أكتاف تايهيونغ بذراعي وسألته‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الشرطي بعودتك واشترى لك وجبة؟" سألته ُمجددا‬ ‫ّ‬ ‫نافيا‪" .‬هل رحب‬ ‫ً‬
‫جائعا فهز رأسه ً‬ ‫بشكل عفوي إن كان‬
‫إال أنه لم ُيجب‪.‬‬

‫ِسرنا في الشمس‪ ،‬لكن هبت نسمة رياح باردة بدت وكأنها ِتك ُز قلبي‪ .‬ال ُيمكنني تخيل مدى شعوره‬
‫يشعر بوخزة في القلب‪ .‬البد أن فؤاده يتمزق ويتحطم من الداخل‪ .‬باألحرى‪ ،‬هل تبقى لديه‬ ‫ُ‬ ‫إذا كنت من‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أي فؤاد؟ ما مقدار المعاناة التي قاساها؟ لم أتمكن من النظر في عينيه‪ ،‬لهذا وجهت بصري لألعلى‪ .‬حلقت‬
‫طائرة في هذه السماء القاتمة‪ .‬رأيت الندبة الموجودة على ظهر تايهيونغ ألول مرة في قاطرة نامجون‪ .‬لم‬
‫أمتلك الجرأة الكافية لسؤاله عنها في حين أن االبتسامة تعتلي وجهه ً‬
‫فرحا بقميصه الجديد‪.‬‬

‫ليس لدي والدان‪ .‬ال أمتلك أي ذكريات عن أبي‪ ،‬وذكرى أمي توقفت في عمر السابعة‪ .‬على‬
‫ندوبا وجر ً‬
‫احا غير ملتئمة أكثر من أي شخص آخر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫األرجح‪ ،‬منحتني عائلتي وطفولتي‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫دائما ما يقول اآلخرون ببساطة أن علينا التغلب على ِجراحنا‪ ،‬تقبلهم واإلقرار بهم كجزء من هويتنا‪.‬‬
‫وأن علينا مصالحة ومسامحة اآلخرين لالستمرار في العيش‪ .‬ليس األمر هو عدم إدراكي لذلك‪ ،‬وليس ألنني‬
‫المحاولة‪ .‬وقد َو َسمنا العالم‬
‫المحاولة ليست كفيلة بالنجاح‪ .‬لم ُيعلمني أحد كيفية ُ‬ ‫المحاولة‪َ ،‬‬
‫لكن ُ‬ ‫لم ُأرد ُ‬
‫بندوب جديدة حتى قبل أن تلتئم سابقتها‪ .‬ال ُيمكن ألحد تجنب التعرض لألذى‪ ،‬إنني ُمدرك لهذا‪ .‬لكن‪،‬‬
‫هل علينا التأذي بهذا القدر؟ من أجل ماذا؟ لماذا تستمر هذه األشياء بالحدوث لنا؟‬
‫ُ‬
‫"إنني بخير‪ ،‬أستطيع الذهاب بنفسي" تحدث تايهيونغ عند مفترق الطرق‪" .‬أعلم‪ ".‬قدت الطريق‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫"إنني بخير حقا‪ ،‬أترى‪ ،‬إنني بخير‪ ".‬تبسم تايهيونغ‪ .‬لم أجبه‪ .‬إنه ليس بخير على اإلطالق‪ .‬لكن حين يعترف‬
‫باألمر‪ ،‬لن يتمكن من تحمل ذلك‪ .‬لهذا السبب يقوم بتجاهل الحقيقة حتى أصبحت عادته‪ .‬اتبعني‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً ً‬ ‫َ‬
‫جائعا حقا؟" سألته ُمجددا حالما وصلنا مدخل الرواق‬ ‫تايهيونغ‪ ،‬ورفع قبعة القميص على رأسه‪" .‬ألست‬
‫ً‬
‫الذي يقود لمنزله‪ .‬ابتسم بابتسامته الحمقاء وهز رأسه‪ .‬وقفت قليال لمشاهدته يدخل ناحية منزله‪ ،‬ثم‬
‫ضيق وكئيب‪ً ،‬‬
‫تماما مثل دربي‪ .‬كالنا نشعر بالوحدة‪.‬‬ ‫يسيره ّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫التفت ً‬
‫أخيرا‪ .‬الدرب الذي كان‬

‫~‪~66‬‬
‫سوكجين‬
‫عشرين من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫كان منزل تايهيونغ ً‬


‫واقعا في م ً‬
‫متقشر‪ ،‬واألعشاب الضارة تمأل شروخ‬ ‫بنى قديم بذاك الحي‪ ،‬طالؤه‬
‫باليا‪ .‬انتظرت هوسوك وتايهيونغ في أعلى التل في الحديقة الصغيرة ً‬
‫نظرا لوجود منحدر‪،‬‬ ‫جدرانه‪ ،‬بدا ً‬
‫وعلى أطاللها تقبع الردهة الخلفية لمبنى تايهيونغ‪.‬‬
‫ً‬
‫غطاء على‬ ‫زقاق بعيد‪ ،‬يتتبعه تايهيونغ‪ ،‬لم أرى وجهه كونه يرتدي‬ ‫أقبل هوسوك ً‬
‫أطالل ٍ‬
‫ِ‬ ‫قادما من‬
‫رأسه‪ .‬تبادال بضع كلمات على قارعة الزقاق‪ .‬بدا وكأن تايهيونغ يرغب في إيصال هوسوك لمنزله وهوسوك‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫يعلمه أنه بخير‪ .‬تابع هوسوك السير أوال‪ ،‬حتى بلغا واجهة المبنى‪ .‬صعد هوسوك الساللم وتوقف أمام‬
‫ً‬
‫خارجا‪ .‬نظر إليه تايهيونغ من‬ ‫باب تايهيونغ‪ .‬وربت على كتفه وأومأ له بالدخول‪ ،‬ثم التفت وشرع بالمضي‬
‫الخلف لبرهة ثم أمسك مقبض الباب‪.‬‬

‫اتصلت بهوسوك في الوقت الذي شرع به تايهيونغ بفتح الباب‪ .‬بعد الرنة الثالثة‪ ،‬أخرج هوسوك‬
‫هاتفه في منتصف الردهة‪ ،‬حينها كان تايهيونغ يدخل منزله‪" .‬هوسوك أيمكنك استدعاء تايهيونغ؟"‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫جميعا وأن عليه أن يدع‬ ‫استوقفه ذلك عن السير‪" .‬لقد كنت معه ًتوا" أعلمته أني أخطط لرحلة بحرية لنا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تحسبا فحسب‪ ،‬أيمكنك سؤاله‬ ‫تايهيونغ‪ ،‬استهل هوسوك ضاحكا تايهيونغ سيأتي بال شك‪" .‬ولكن‬
‫ُ‬
‫عجل قلت‪ .‬في هذه اللحظة‪ .‬يجب على هوسوك الذهاب لمنزل تايهيونغ‪ .‬أمال رأسه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وإعالمي؟" على‬
‫ونظر نحو شاشة هاتفه واستدار‪ .‬ثم‪ ،‬دخل إلى منزل تايهيونغ عبر الباب المفتوح‪.‬‬

‫~‪~67‬‬
‫تايهيونغ‬
‫العشرون من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نظرت إلى راحة يدي التي كانت تنزف‪ ،‬وفي اللحظة ذاتها التي خذلتني فيها ساقاي وكدت أنهار‪،‬‬
‫أمسك بي أحدهم من الخلف‪ .‬دخل ضوء الشمس عبر النافذة المعتمة‪ .‬بكت شقيقتي ووقف هوسوك‬
‫ً‬
‫وأشياء مختلفة‪ ،‬باإلضافة لألغطية‪ .‬أبي قد ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫فر‬ ‫األرض مغطاة بصحون متسخة‪،‬‬ ‫في مكانه بصمت‪ .‬كانت‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫من الغرفة بالفعل قبل أن أدرك األمر‪ .‬الغضب والحزن اللذان تجمعا عندما رميت بنفسي تجاه والدي ما‬
‫ُ‬
‫زاال حديثين في ذهني‪ .‬لم أعرف ما ردعني عن طعنه ولم أعرف كيف أخمد النيران الهائجة في داخلي‪.‬‬
‫ُ ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫ميتا في مكاني حينها‪.‬‬ ‫أردت قتل نفسي بدال من والدي‪ .‬فلو أمكنني ذلك‪ ،‬لسقطت‬
‫ُ‬
‫عال‪ ،‬وأن أركل وأدمر كل شيء ثم أنهار‪ .‬لكن‬ ‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫لم أستطع ذرف الدموع‪ ،‬أردت البكاء‪ ،‬البكاء‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫خارجا عن إرادتي‪" .‬آسف يا هوسوك‪ ،‬أنا بخير‪ .‬يمكنك الذهاب" بدا صوتي ذابال وهادئا‬ ‫كل ذلك كان‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫عكس عقلي الثائر‪ .‬أرسلت هوسوك إلى منزله رغما عنه ونظرت إلى راحة يدي‪ .‬كان الدم مستمرا بالخروج‬
‫في قطرات‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫بدال من طعن والدي‪ ،‬كنت قد حطمت الزجاجة على األرض‪ .‬تحطمت الزجاجة إلى أشالء‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتجمد دماغي‪ .‬ما الذي سأفعله‬ ‫وجرحت كفي‪ .‬بدأ العالم بالدوران وااللتفاف أمام عيناي عند إغالقي لهما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اآلن؟ كيف سأعيش؟ بعد أن استعدت وعيي‪ ،‬وجدت نفسي أنظر إلى رقم نامجون‪ .‬حتى في هذا الوضع‪،‬‬
‫ُ‬
‫وربما بسبب هذا الوضع بالذات‪ ،‬اشتقت له لدرجة اليأس‪ .‬أردت االعتراف له بأني أوشكت على قتل والدي‬
‫ُ‬
‫ات ال تحصى في ذهني‪ .‬أريد أن أقتله‪ .‬أريد أن‬ ‫يوم‪ ،‬قتلته لمر ٍ‬ ‫الذي جلبني لهذا العالم وقام بضربي كل‬
‫ُ‬
‫أموت‪ .‬ال أعرف ما سأفعله‪ ،‬أنا ضائع وكل ما أريده هو رؤيتك اآلن‪.‬‬

‫~‪~68‬‬
‫أمجل يوم يف‬
‫حياتنا‬

‫~‪~69‬‬
‫جونغكوك‬
‫الثاني والعشرون من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫هز أحدهم كتفي إليقاظي‪ .‬حالما فتحت عيناي‪ ،‬كان منظر البحر يغطي نافذة السيارة‪ .‬أحسست‬
‫بالبرد بسبب هبات نسيم البحر‪ ،‬ربما لكوني نصف مستيقظ‪ .‬لففت نفسي بكلتا ذراعي وخرجت من‬
‫السيارة‪ ،‬واآلخرون بعيدون بالفعل حيث تتالطم األمواج على الشاطئ‪ .‬لوحوا لي وورائهم البحر والشمس‬
‫تعلوهم‪ ،‬بدا لي المرأى وكأنه لوحة‪.‬‬
‫هبت الرياح وملئت هذه اللوحة بالرمال المهتاجة ً‬
‫تماما كرفعي ليدي للتلوي ــح لهم‪ ،‬ارتفع الغبار‬
‫الرملي من األرض ودار حول اآلخرين بذات اللحظة‪ ،‬أخفوا وجوههم لحماية أنفسهم من الرياح الرملية‬
‫المثل‪ .‬أغلقت عيناي بإحكام‪ ،‬خبأت رأسي وأحطته بذراعي‪ .‬بقينا واقفين بهذه األجواء وسط‬ ‫وفعلت ِ‬
‫لوقت طويل‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫هفيف الرياح وهدير األمواج‬
‫سوءا‪ ".‬وعيت على‬ ‫حاولت فتح عيناي إال أنها ُلدغت بفعل الرمال‪" .‬ال تفركها‪ ،‬ستجعلها أكثر ً‬
‫صوت هوسوك‪ .‬بقي البحر‪ ،‬السماء‪ ،‬واآلخرون يختفون ويظهرون بسبب دموعي المتدفقة من عيناي‪.‬‬
‫عقبما رمشت مر ًارا‪ ،‬انهمرت الدموع واضمحلت اللدغة‪ .‬رأيتهم يضحكون في وجهي‪ ،‬واقفين في منتصف‬
‫الشاطئ الخاوي المسيل للدموع‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫يك ً‬
‫جليا من بدأ الركض أوال‪ .‬بدأت كلعبة سخيفة حين تظاهرت بمالحقة من هموا بالتهكم‬ ‫لم‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫علي‪ ،‬ثم اندفع هوسوك هاربا وكأنه يفر مني‪ ،‬وعلى إثرها انضم لنا البقية‪ .‬ركضنا وفررنا من بعضنا ونحن‬
‫نضحك بسعادة‪ ،‬وفي مرحلة ما‪ ،‬كنا جميعنا نجري على امتداد الساحل‪ .‬جريت وراء اآلخرين‪ .‬كنت أتنفس‬
‫بعسر‪ ،‬والعرق والصداع الرهيب نالوا مني ما نالوا‪ .‬ولكني لم أتوقف ألنهم استمروا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مجددا‪ ،‬ساعدنا جيمين على الهرب من المشفى وعدنا إلى الشاطئ ذاته‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫جميعا‬ ‫ها نحن نجتمع‬
‫ٌ‬ ‫يك األمر ً‬ ‫ُ‬
‫مدبرا له‪ ،‬كل ما فعلته هو مرافقتهم‪ ،‬لكنه شعور مبهج‪ .‬ربما الركض بال هدف السبيل الوحيد‬ ‫لم‬
‫ُ‬
‫بالنسبة لي للتعامل مع هذا الشعور المهيب‪ .‬وقد فعلت ال ِمثل أيان تخطينا المدرسة والمجيء إلى هنا‬
‫للمرة األولى‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أيضا" َ‬ ‫ً‬
‫نطق نامجون عقب توقفنا على الشاطئ اللتقاط أنفاسنا‪.‬‬ ‫"صحيح‪ ،‬جميعنا كنا هكذا آنذاك‬
‫حارا حينها‪ ،‬متى كان ذلك؟" ذكر جيمين‪" .‬في الثاني عشر من شهر يونيو" فاجأتهم‬ ‫"أخال أن الجو كان ً‬
‫الصورة التي التقطناها على الشاطئ‪ ،‬كانت تحمل هذا‬ ‫ُ‬ ‫بذاكرتي القوية‪ .‬استرجعتني ذكرياتي إلى تلك‬
‫ً‬
‫التاري ــخ‪ .‬في بعض األحيان كنت أخرجها وأتأملها‪ ،‬لم أنبأ أحدا من قبل‪ ،‬لكن حينذاك خالجني إحساس أني‬
‫وجدت عائلتي الحقيقة‪ ،‬إخوتي الحقيقين‪.‬‬
‫ً‬
‫"يارفاق"‪ ،‬حاولت التعبير عن امتناني لكن لم تسعفني الكلمات‪" .‬ماذا؟" هرع إلي اآلخرون واحدا‬
‫علي‪ .‬تدحرجنا حول الشاطئ‪ُ ،‬متشابكين‪ ،‬نلهو كاألطفال‪.‬‬
‫تلو اآلخر ثم ألقوا بأنفسهم ّ‬

‫منزويا في بقعة من الشاطئ الرملي‬‫ً‬ ‫ِ"ل َم أنت هنا لوحدك؟" جلست بجوار تايهيونغ الذي كان‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بعيدا عن اآلخرين‪ .‬نظر إلي بإيجاز وبدال من ذلك سألني سؤاال "هل كان هناك في المرة الماضية؟"؛ كان‬
‫يتحدث عن المرصد البحري "لو كان هناك‪ ،‬لكان من المحتمل أننا صعدناه‪ .‬لكنني ال أتذكر رؤيته" أومأ‬
‫ً‬
‫برأسه موافقا وواصل التحديق فيه‪.‬‬

‫~‪~70‬‬
‫"لنذهب" حطت يد أحدهم على كتفي‪ .‬كان سوكجين‪ ،‬بدا لي وجهه غير مرئي لوقوفه أمام الضوء‪.‬‬
‫على األرجح ألني أنظر له بوضعية الجلوس‪ ،‬يبدو طويل القامة‪ .‬نهضت ونفضت الرمال‪ .‬انغمرت قدماي‬
‫في الرمال العميقة‪ ،‬انسلت نحو ظل سوكجين وشرعت السير‪ ،‬هممت أركل الرمال بحذائي الرياضي وقد‬
‫تناثرت على بنطال سوكجين‪ ،‬لكنه لم يستدر‪.‬‬

‫~‪~71‬‬
‫تايهيونغ‬
‫الثاني والعشرون من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫َ‬ ‫ُ‬
‫سبق وأن رأيت هذا كافة‪ ،‬في حلم أشبه بالواقع‪ .‬هذا البحر‪ ،‬سبعتنا‪ ،‬والمرصد المرتفع‪ .‬في أواخر‬
‫الحلم وقفت على قمة المرصد‪ ،‬وقام الجميع بتوجيه نظرهم ناحيتي‪ .‬منذ أنهم بعيدون‪ ،‬عجزت على رؤية‬
‫ُ‬
‫تبسمت ناحيتهم‪ .‬بدا وكأنني أرسل لهم وداعي األخير‪ ،‬ثم قفزت‪.‬‬ ‫مالمحهم بوضوح‪ ،‬ومع ذلك‬
‫"سوكجين؟" دوى صوت جونغكوك بأذناي مما دفعني لاللتفات ليقع ناظري على جين يتسلق‬
‫َ‬
‫وصل للقمة‪ ،‬وعلى ما يبدو أنه ْيبتغي تصويرنا‪ .‬لوح اآلخرون له‪ ،‬إال‬
‫َ‬ ‫المرصد‪ .‬صوب نظره ناحيتنا بعد أن‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫أنني لم أقوي على ذلك‪ .‬وكأنه أخر مشهد لحلمي‪ .‬االختالف الوحيد هو أن سوكجين كان في األعلى عوضا‬
‫عني‪.‬‬
‫ُ‬
‫في تلك اللحظة‪ ،‬شعرت وكأن قدماي غرزتا في الرمال وجسدي يطفو في الهواء‪ .‬أحكمت إغالق‬
‫الجرح‬‫الجرح على راحة يدي بدأ يؤلمني‪ .‬بدا ُ‬ ‫عيناي خشية السقوط على األرض‪ .‬لم ُأغلق قبضتي‪ ،‬لكن ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫عميقا لكنه التأم أسرع مما توقعت‪ ،‬تاركا ندبة حمراء آلمتني بشدة أحيانا وكأنني أعاقب‪ ،‬أعاقب على كافة‬
‫آثامي‪ .‬إنها تؤلمني اآلن‪.‬‬

‫~‪~72‬‬
‫نامجون‬
‫الثاني والعشرون من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫بعام فقط‪ .‬كال‪ ،‬لم أقل هذا‪ .‬أعلم أنني أكبر منه‪ ،‬لكنه ليس طفال بعد اآلن‪ .‬حان‬
‫"إنه يصغرني ٍ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫فهمت‪ْ ،‬‬‫الوقت ليبدأ االعتناء بنفسه‪ْ .‬‬
‫غاضبا‪ .‬أنا آسف‪".‬‬ ‫فهمت‪ .‬ال‪ ،‬لست‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نظرت لألسفل بعد إغالق ُ‬
‫المكالمة‪ .‬كنا في الطريق لمصيف الشاطئ بعد قضاء يومنا هناك‪ .‬هب‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وشعرت بأن قلبي أ ْ‬ ‫ٌ‬
‫ثقل وقد أوشك على االنفجار بأي لحظة‪ .‬سار النمل برت ٍل على‬ ‫نسيم دافئ باتجاهنا‪،‬‬
‫ً‬
‫مغطى بالرمال والوحل‪.‬‬ ‫األرض‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫التظاهر بالصمم‬ ‫والدي‪ ،‬وليس ألنني ال أقلق على أخي‪ .‬حتى وإن أردت‬ ‫ليس األمر وكأنني ال أحب‬
‫ُ‬
‫فعل ذلك‪ .‬أعرف هذا حق المعرفة‪ .‬فما الجدوى من محاولتي‬ ‫حين يتعلق األمر بهم‪ ،‬لما تمكنت من ِ‬
‫التشبث‪ ،‬فقدان ِرباطة جأشي‪ ،‬الشعور بالشقاء‪ ،‬ومحاولة الفرار؟‬
‫إلي‪ .‬إنه جونغكوك‪ .‬أخبرني ذات مرة‬ ‫متسمر بمكانه موج ًها ظهره ّ‬
‫ٌ‬ ‫عد ِمني‪ ،‬وقف شخص‬ ‫ُ‬
‫على ب ٍ‬
‫ٌ ُ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أغدو مثلك عندما أنضج‪ ".‬لم أقوى على ُاالعتراف بأنني بعيد كل البعد عن األشخاص ِ‬
‫الناضجين‪،‬‬
‫َ‬
‫"أريد أن‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫حطم أحالمه حينها‪ .‬لم أقوى على أخبار شخص يافع‬ ‫قسوة مني أن أ َ‬ ‫ناهيك عن كوني َمثال أعلى‪ .‬بدت‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫ناضجة لمجرد أنك تتقدم‬ ‫ِ‬ ‫الثقة والدعم أو حتى العطف الذي يستحقه‪ ،‬أن الذات ال تصبح‬ ‫ِ‬ ‫جدا لم يتلقى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بالعمر أو أنك أصبحت أطول لبضع سنتيمترات‪ .‬آمل أن يكون ُمستقبل جونغكوك أكثر عطفا عليه مقارنة‬ ‫ُ‬
‫فائدة بوجودي في رحلته‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بمستقبلي‪ ،‬لكن ال ُيمكن أن أعد أنني سأعود عليه بأي‬

‫~‪~73‬‬
‫سوكجين‬
‫الثاني والعشرون من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫بعض النكات السخيفة ويضحكون‪ُ ،‬يدردشون ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ ُ‬


‫ويحدثون‬ ‫َ‬ ‫أمسيت أحدق باآلخرين مجددا‪ُ ،‬يلقون‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫جلبة ثم يضحكون مجددا‪ ،‬حتى شرع أحدهم بالرقص‪ .‬لم أصدق ما يحدث أمام مرآي‪ ،‬فها نحن ذا نعود‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫لدرجة جعلت‬ ‫ٍ‬ ‫وبيأس شديد‬ ‫ٍ‬ ‫مجددا إلى هنا بعد سلسلة ِمن التجارب واألخطاء‪ .‬حلمت بهذا لمدة طويلة‬
‫أمرا مستحيل‪.‬‬ ‫حدوثه بالواقع ً‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً َ‬ ‫َ‬
‫تاحا‪ ،‬فال يزال لدي ما أعترف ِبه‪ .‬لم أستطع استجماع شجاعتي وبقيت مترددا‪،‬‬ ‫غير أنني لست مر‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫وجوه ِهم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الفرار منه‪ .‬وإن لم أخبرهم‪ ،‬لن يعود ِ‬
‫بوسعي النظر إلى‬ ‫وقطعا لم أتمكن من ِ‬
‫كثيرا‪ .‬كان تايهيونغ ُيحدق بي‪.‬‬ ‫أود قوله‪ ،‬لكنهم لم يهتموا ِبه ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫عقب العشاء‪ ،‬أعلمتهم أن لدي ما‬
‫علي لنيل إجابة‪،‬‬
‫َ‬
‫التضيق ّ‬ ‫َ‬
‫حاول‬ ‫بيل أيام‪ ،‬أتى إلي وسألني عن ُح ِلمه‪" .‬أنت تعلم ما يعنيه‪ ،‬أليس كذلك؟"‬ ‫ُق َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫انزعج تايهيونغ واستدار‪.‬‬ ‫"كيف يمكنني معرفة ذلك؟ إنه مجرد ُح ٍلم"‬ ‫َ‬ ‫إال أنني تظاهرت بعدم معرفتي وقلت‬
‫الحلم‪ ،‬لكنني ُ‬
‫أعلم مدى‬ ‫أعلم ل َم حلم تايهيونغ بذلك ُ‬ ‫محض كذبة‪ ،‬أنا بالفعل ال ُ‬ ‫َ‬ ‫األمر لم ُيكن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫لمعرفة أنه لم‬
‫ِ‬ ‫بحاجة‬
‫ٍ‬ ‫وحشيته‪ .‬لهذا لم أخبره بالحقيقة‪ .‬عالوة لمعرفتي عما يتساءل عنه بالضبط‪ ،‬ليس‬
‫ُ‬ ‫إنه ٌ‬ ‫ُ‬ ‫يكن ً‬
‫ألحد التعايش معها‪ .‬لن‬ ‫ٍ‬ ‫بالعذاب ال ينبغي‬
‫ِ‬ ‫واقع‪ .‬حياة ملئ‬ ‫حلما‪ ،‬أو أن قتل والده ليس بحلم‪ ،‬بل‬
‫رح صداقتنا‪.‬‬ ‫أتأسف على قراري حتى وإن َج َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫وح‬ ‫أنفاسي‪ ،‬ثم تحدثت بوض ٍ‬ ‫ات تايهيونغ‪ .‬أغلقت فمي وضبطت‬ ‫أشحت بنظري بعيدا متجنبا نظر ِ‬
‫َ‬
‫إلي‪ ،‬وصمت اآلخرون "كان ينبغي أن‬ ‫أكثر من المرة الماضية "لدي ما أخبركم به‪َ ".‬نظر نامجون وهوسوك ّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫المدرسة الثانوية‪" ...‬‬
‫ِ‬ ‫وقت طويل‪ .‬أيان‬ ‫أقوله لكم منذ ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫استهل تايهيونغ "متى في المدرسة الثانوية؟ ِعندما فشوت ِبنا للمدير؟ أو ِحينما طرد يونغي جراء‬
‫وجهه‪.‬‬ ‫َ‬
‫باد بوضوح على ِ‬ ‫ذلك؟ عما تتحدث؟" كان العتاب ٍ‬
‫ْ ُ‬ ‫ً ُ‬ ‫َ‬
‫حدقان بي بحدة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وعيناه ت‬ ‫صاح نامجون محاوال ردعه‪ .‬نفض تايهيونغ يد نامجون‬ ‫"تايهيونغ!"‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫بشيء لقوله‪ .‬أشحت بنظري‬ ‫ٍ‬ ‫"هذا ما فعلته" لم ينبس أيا ِمنا بنس شفة‪ .‬تفاجأ الجميع ولم نستطع التفكير‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫تجاه يونغي‪ .‬تايهيونغ ُمحق‪ ،‬طرد يونغي ِمن المدرسة بسببي‪ .‬تمتمت وأنا ُمنكس الرأس "آسف‪ ".‬وعاود‬
‫ً‬
‫مجددا‪.‬‬ ‫تايهيونغ الحديث‬

‫~‪~74‬‬
‫تايهيونغ‬
‫الثاني والعشرون من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬


‫"سوكجين‪ ،‬أهذا كل شيء؟ ألست تخفي شيئا عنا؟" حدقت في وجهه‪ ،‬وبادلني التحديق‪ .‬نوي ت‬
‫ُ‬
‫إليه حتى‪ .‬إنه نامجون‪" .‬ال‬
‫اإللحاح عليه أكثر لكن أوقفني أحدهم من كتفي‪ .‬عرفت هويته دون النظر ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الحقيقي حتى‪ ".‬أمكنني الشعور بأعين نامجون تحدق بظهري‪ .‬نفضت‬ ‫ّ‬ ‫تقاطعني‪َ .‬لم تهتم؟ لست بشقيقي‬
‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬إنني أفرغ غضبي على نامجون‪.‬‬ ‫يده عن كتفي دون النظر ناحيته‪ .‬أعرف هذا‬
‫متجها من الشاطئ صوب المصيف‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫عابرا غابة الصنوبر‪ ،‬سمعت نامجون يتحدث على‬ ‫حين كنت‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الحقيقي‪ ،‬ويجب أن أبدأ‬ ‫الهاتف‪ .‬كل كلمة قالها كانت صحيحة‪ .‬كنت أصغره ٍ‬
‫بعام فقط ولست بشقيقه‬
‫ً‬
‫مؤلما‪.‬‬ ‫االعتناء ِبنفسي‪ .‬لكن مازال هذا‬
‫ِ‬
‫"تايهيونغ‪ ،‬أنا آسف‪ .‬لذا لنتوقف اآلن" كان سوكجين أول من تحدث‪ ،‬سوكجين اعتذر‪ ،‬ونامجون‬
‫غاضبة فحسب‪" .‬نوقف ماذا؟ أفصح عن كل شيء فحسب‪ ،‬إنك‬ ‫ٍ‬ ‫لم ينطق بكلمة‪ .‬استمر يحدق بي بأعين‬
‫ً‬
‫شيئا عنا‪ ".‬نظرات الجميع كانت موجهة على سوكجين اآلن‪ ،‬لكنه نظر إلينا بنظرة ترجونا للتوقف‪.‬‬ ‫تخفي‬
‫ً‬
‫"لنذهب للخارج ونتحدث‪ ".‬انتهز نامجون ذراعي ُمجددا‪ .‬حاولت التملص من يده ولكنه أحكم‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫قبضته ليخرجني‪ .‬قاومته‪" .‬اتركني‪ ،‬أي حق تعتقد أنك تملكه؟ ما الذي تعرفه؟ لست تعرف شيئا‪ .‬تعتقد‬
‫َ‬
‫بأنك شيء ُمميز‪ ،‬هاه؟"‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫بشكل ُمفاجئ‪ ،‬وتعثرت كردة فعل‪ .‬وربما لم تكن ردة الفعل ما جعلني‬ ‫ٍ‬ ‫عندها ترك نامجون ِذراعي‬
‫ُ‬
‫كه لذراعي‪ .‬جميع األشياء التي كانت‬ ‫أتعثر‪ .‬شعرت وكأن الرابطة التي تجمعنا تحطمت أمامي لحظة تر ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تسندني وتبقيني على أقدامي بدى وكأنها تتشقق وتتمزق‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫لربما آملت أن يتشبث بذراعي حتى النهاية‪ .‬ربما آملت أن يصرخ بوجهي ألصمت ويسحبني‬
‫تماما كما لو أنني شقيقه الحقيقي أو شخص أعز من أن يستغني عنه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫آملت أن يوبخني ً‬ ‫للخارج بغضب‪ .‬أو‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫أبتسم بتكلف‪ .‬ابتسمت قبل أن أدرك ذلك وتلفظت "ما سبب‬ ‫لكنه ترك ذراعي‪ .‬لم أقوى إال أن‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫كل الضجة حيال كوننا ً‬
‫معا؟ ماذا نكون لبعضنا البعض؟ جميعنا وحيدون في النهاية‪ ".‬لحظتها؛ لكمني‬
‫سوكجين‪.‬‬

‫~‪~75‬‬
‫جيمين‬
‫الثاني والعشرون من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬
‫التفت للوراء ً‬ ‫ً‬
‫ناظرا خلف باب مسكننا‪ ،‬كانت المائدة‬ ‫"يجب أن نذهب أيضا" هذا ما قاله هوسوك‬
‫ُ‬
‫والمقاعد واألواني مبعثرة بكل مكان‪" .‬جيمين‪ ،‬هيا" أغلقت الباب على عجل وهم أمامي‪ ،‬تولى يونغ ي‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫قدمنا ألول مرة‪ ،‬واآلن لم يتبق سوى‬ ‫وهوسوك القيادة وخلفهما جونغكوك يالحقهما‪ .‬كنا سبعة عندما ِ‬
‫ضوءا على الشاطئ بعد غروب الشمس‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫أربعة‪ .‬نظرت ألعلى حينما عرجنا على المرصد الفلكي لكن لم أجد‬
‫ثم تالشى المرصد والبحر عن مرأي‪ ،‬ولم يكن هناك سوى صوت هدير ارتطام األمواج‪ ،‬حينها‬
‫كت أن هذا هو المكان؛ المكان الذي زرناه حينما جئنا ألول مرة إلى البحر ً‬‫ُ‬
‫معا‪ ،‬الصخرة التي ِقيل أنها‬ ‫أدر‬
‫تحقق األحالم‪ .‬صرخنا بأعلى صوتنا في البقعة ذاتها التي تحولت إلى منتجع جديد بعد هدم الصخرة‪.‬‬
‫ُ‬
‫"جونغكوك‪ ،‬أليس هذا هو المكان المنشود؟" التفت للوراء لكن جونغكوك مضى بالفعل لألمام‪ ،‬فدعاه‬
‫دوما‪ ،‬يتقدم‬‫متقدما ليسلك دربه بعدما كان خلف اآلخرين ً‬
‫ً‬ ‫هوسوك لكن بدا وكأنه لم يسمع‪ .‬سار جونغكوك‬
‫ُ‬ ‫كنت مثله ً‬‫‪ُ .‬‬
‫تماما‪ .‬حينها بحثت في كل اتجاه عند التقاطع‪ ،‬باإلضافة ألنني‬ ‫لتقدمهم ويتوقف لتوقفهم‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫يسارا ألبلغ محطة القطار أو إلى اليمين ألستقل حافلة للمنزل‪ .‬توجب علي العودة‬ ‫اضطررت إما للدوران‬
‫ّ‬
‫لوالدي‪.‬‬ ‫يوما ما‪ ،‬لن أستطع تجنب هذا لألبد‪ .‬حري بي االعتراف بأكاذيبي‬ ‫إلى المنزل ً‬
‫ُ‬
‫حتى إن لم يكونا على استعداد لسماعها تحتم علي المبادرة بالخطوة األولى في مرحلة ما‪ .‬رأيت‬
‫ُ‬ ‫التفت هوسوك لي وقال" جيمين‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫يونغي يخطو صوب يسار الطريق‪.‬‬
‫عجل" أردفت "سأعود إلى المنزل"‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أومأت ثم التفت يمينا‪.‬‬ ‫فسألني بحيرة "المنزل؟"‬

‫~‪~76‬‬
‫جونغكوك‬
‫الثاني والعشرون من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬
‫وجدت نفسي مستل ً‬ ‫ُ‬
‫قيا على‬ ‫شعرت وكأن درجة حرارتي ترتفع إثر الهواء لكن في اللحظة التالية‬
‫ً ً‬
‫األرض الصلبة‪ .‬لم أستطع الشعور بأي شيء لبعض الوقت‪ ،‬كان جسدي ثقيال جدا لدرجة أنني لم أتمكن‬
‫ُ‬
‫فاقد للوعي‪ ،‬ارتفعت حرارة جسدي حتى أصبحت‬ ‫من فتح جفني أو االبتالع أو التنفس‪ .‬وعندما بت شبه ٍ‬
‫المعا لفت انتباهي‪ ،‬شيء يشعرك‬ ‫فلمحت ش ًيئا ً‬
‫ُ‬
‫أرتجف بشدة‪ .‬اجتاحني الظمأ جراء ألم لم يسعني وصفه‪،‬‬
‫بالجفاف وكأنه مملوء بالرمال‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مشرقا‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫وضبابيا معلقا في الهواء‬ ‫كبيرا‬ ‫ضوء‪ ،‬لكنه لم يكن كذلك‪ .‬كان شيئا‬ ‫في البداية‪ ،‬خلت أنه‬
‫ُ‬
‫بال ِحراك‪ .‬واصلت التحديق فيه لبعض الوقت ثم بات يتبلور‪ .‬كان هذا هو القمر‪ ،‬بدا العالم من حولي ر ًأسا‬
‫ً ً‬
‫منقلبا أيضا؟‬ ‫على عقب‪ ،‬ال بد أن رأسي مائل‪ .‬أفي هذا العالم يكون القمر‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫تسللت نوبة باردة جسدي فحاولت التنفس عبر السعال لكن لم أستطع التحرك‪ .‬غدا ذلك مخيفا‬
‫ُ‬
‫فحاولت فتح شفتاي لكنني لم أستطع التفوه بكلمة‪ .‬ظلت رؤيتي تتالشى على الرغم من عينيي‬
‫ُ‬
‫بت شبه فاقد للوعي "ستغدو الحياة أكثر ً‬ ‫ً‬ ‫المفتوحتين‪ ،‬وطرح أحدهم ّ‬
‫ألما من الموت‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫علي سؤاال حينما‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ترغب بالعيش؟"‬ ‫فأما زلت‬

‫~‪~77‬‬
‫بعد عودتنا من‬
‫الشاطئ‬

‫~‪~78‬‬
‫سوكجين‬
‫الثالث عشر من يونيو العام الثاني والعشرون‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬


‫قاعدة بعدم التواصل مع‬ ‫بعد عودتنا من الشاطئ‪ ،‬استأنفنا جميعا حيواتنا المنعزلة‪ .‬وكأننا أنشأنا ِ‬
‫بناء على رسوم الجدران التي نراها في الطرق‪ ،‬إضاءة محطة‬ ‫بعضنا البعض‪ .‬افترضنا ب َلبس حال اآلخرين ً‬
‫ِ‬
‫الوقود‪ ،‬صوت البيانو الذي يصدر من البناء المتهدم‪.‬‬
‫ً‬ ‫فارغا بعد أن أخفقت في تقفي أثر تايهيونغ حين ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫خارجا في تلك‬ ‫هم‬ ‫وجدت مصيف الشاطئ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫بابتسامات تزين وجوهنا والبحر‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫جميعا‬ ‫الليلة‪ .‬لم أجد شيئا سوى صورة ُملقاة على األرض‪ .‬ظهرنا فيها‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫زمن مديد‪ .‬هل عملنا ٍ‬
‫بجد طوال‬ ‫التقاطها بضع ساعات‪ ،‬لكن بدا وكأنها حدثت منذ ٍ‬ ‫خلفية لنا‪ .‬مضى على‬
‫ُ‬
‫هذا الوقت دون غاية؟ هل قدر لنا االفتراق هكذا؟‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫معا ً‬
‫يوما ما كما فعلنا في‬ ‫يوما ما‪ .‬سنضحك ً‬ ‫مجددا ً‬ ‫عبرت محطة الوقود دون ت َر ُّيث سوف نلتقي‬
‫هب نسيم عليل‪ً ،‬‬
‫تماما كما‬ ‫يوما ما لمواجهة نفسي‪ .‬لكن ليس اليوم‪ّ .‬‬ ‫الصورة‪ .‬سوف أستجمع جرأة كافية ً‬
‫المعلق على المرآة الخلفية‪ .‬ظهر اسم‬ ‫في ذلك اليوم‪َ .‬رن هاتفي لحظتها وكأنه ُيحذرني‪ .‬تردد صوت الهاتف ُ‬
‫هوسوك على الشاشة‪" .‬سوكجين‪ ،‬جونغكوك تعرض لحادث سيارة في تلك الليلة‪".‬‬

‫~‪~79‬‬
‫جونغكوك‬
‫الثالث عشر من مايو العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬


‫سمعت أصواتا خافتة وفتحت عيناي ألجد هوسوك وجيمين يحدقان بي‪ .‬وفي كل مرة رمشت‬
‫ً‬
‫بعيناي‪ ،‬استمر وجهيهما باالختفاء والظهور مجددا‪" .‬هل تأذيت؟ هل تشعر باأللم؟" سألني جيمين‪" .‬أنا‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫جديا وكدت أفارق الحياة‪ ،‬استمر األطباء بتنبيه اآلخرين‬ ‫بخير‪ .‬ال أشعر بألم" كذبت عليهم‪ .‬كان حادثا‬
‫ُ‬
‫وبدأت أتعافى بسرعة مذهلة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫باالستعداد لألسوأ لكنني استيقظت بعد عشرة أيام‬
‫ً‬
‫غاضبا‪" .‬هوسوك‪ ،‬ليس األمر‬ ‫"كان عليك االتصال بنا! من نكون بالنسبة لك؟" بدا هوسوك‬
‫ُ‬
‫بأنني‪ "...‬بدأت بالكالم لكنني لم أستطع إكمال الجملة‪ .‬فور استعادتي لوعيي في المشفى‪ ،‬فكرت بهم‪ .‬ولو‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شاغرا وكنت أتألم‪ .‬المخدر الذي أعطوني‬ ‫بطريقة صحيحة‪ ،‬التصلت بهم أوال‪ .‬لكن عقلي كان‬‫ٍ‬ ‫كنت أفكر‬
‫ً‬
‫ُ‬
‫أستطيع فكها‪.‬‬ ‫كونت في ذهني ُعقدا ال‬ ‫إياه كان ً‬
‫قويا لدرجة أن الواقع‪ ،‬األحالم والذكريات ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫أخيرا ّ‬
‫ً‬
‫الحم ى‬ ‫خف األلم الذي ال يطاق لكن الصور الغريبة التي مرت أمام عيناي عندما عانيت من‬
‫واألرق استمرت بالعودة‪ .‬لم أستطع الجزم بكونها مشاهد قد حدثت بالفعل أو مجرد كوابيس نجمت عن‬
‫األلم الشديد‪ .‬لم أستطع أن أثق بذاكرتي ومع ذلك‪ ،‬لم أقدر على االتصال بهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لم أعرف ما أقوله أو كيف أبدأ الكالم لذا اكتفيت باالبتسام له‪ .‬أو أنني حاولت أن أبتسم لهم لكن‬
‫تغيرت وأوشكت على البكاء‪.‬‬‫ال بد من أن مالمح وجهي ّ‬

‫~‪~80‬‬
‫هوسوك‬
‫الثالث عشر من يونيو العام الثاني والعشرون‬

‫خرجت من الغرفة حين شعرت بانذراف دموعي‪ .‬سماع جونغكوك يقول أنه بخير أوجع قلبي‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عقب ظهيرة ذلك اليوم‪ .‬كان المطعم ممتلئا بالعابرين بجواره‬ ‫كنت سمعت توا بشأن حادث جونغكوك ِ‬
‫بعض منهم زاملوا جونغكوك في الدراسة‪" .‬لماذا ال يأتي جونغكوك هذه‬ ‫ٌ‬ ‫ليتخذوا مأوى لهم من المطر‪.‬‬
‫الفترة؟" لم أسأل هذا لهدف معين‪ .‬فقد فقدت التواصل مع اآلخرين بعد عودتنا من الشاطئ‪ ،‬ومن ضمنهم‬
‫جونغكوك‪ .‬عندها‪ ،‬فاجأتني إجابة لم أتوقعها‪" .‬آوه‪ ،‬لقد تعرض لحادث‪ ،‬لهذا كان يتغيب‪" ".‬حادث؟ هل‬
‫ً‬
‫تقريبا؟"‬ ‫تأذى بشدة؟" "ال نعلم‪ .‬لم يحضر للمدرسة منذ حوالي‪...‬عشرون ً‬
‫يوما‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫مباشرة لكنه لم ُيجب‪ .‬أردت معاودة االتصال لكن قررت فتح محادثة مجموعتنا عوضا‬ ‫ٍ‬ ‫اتصلت به‬
‫ً‬
‫عن ذلك‪ .‬ال يوجد رسائل جديدة منذ حوالي عشرون يوما‪ .‬أخر رسالة عندما كنا على الشاطئ‪ .‬هل كانت‬
‫كذلك؟ تلك الليلة حيث افترقنا ُ‬
‫وعدنا لمنازلنا‪ .‬هل كانت تلك الليلة؟‬
‫َ‬
‫تركت رسالة أن جونغكوك تضرر بشدة‪ .‬ومهما كان األمر الذي يشغ ُل اآلخرين‪ ،‬فإنه مثير للسخرية‬
‫عدم معرفتهم ما حصل له خالل العشرين ً‬
‫يوما‪ .‬األرقام المجاورة لرسالتي لم تتزحزح‪ ،‬ما يعني أن ال أحد‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫فتح المحادثة ليقرأ رسالتي‪ .‬هل أيامنا ً‬
‫معا لم تعني شيئا؟ هل "نحن" أصدقاء ال يعتمد عليهم؟ غضبت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫من نفسي‪ .‬غاضب لعدم تواصلي معه سلفا‪ .‬غاضب لجعله يعود للمنزل وحيدا‪ .‬جونغكوك ليس بطفل‪،‬‬
‫لكنه أصغرنا‪ .‬إنه مجرد طالب بالمدرسة‪.‬‬

‫وإيابا في الرواق ثم توقفت أمام غرفته‪ .‬من خالل شق الباب‪ ،‬أمكنني رؤية وجه‬ ‫ذهابا ً‬
‫ً‬ ‫تجولت‬
‫جونغكوك‪ .‬من الواضح أنه ليس بخير‪ .‬بدى شاحب كلون الورق‪ .‬فجأة‪ ،‬صورة جونغكوك وهو يدخل من‬
‫باب مخبأنا الفارغ تسللت عبر مخيلتي‪ .‬إنه مجرد طالب في سنته الثالثة بالمتوسطة‪ .‬وجهه البريء تظهر‬
‫ْ‬ ‫ً‬
‫عليه مالمح الفقدان‪ ،‬كما لو أنه أدرك أن شيئا حلت نهايته‪ .‬هل وجودنا ُيذكره بهذا الفقدان؟ أربعة منهم‬
‫لم يتفقدوا رسالتي‪ .‬أرسلت واحدة أخرى‪" .‬هذا ُمخيب لآلمال‪".‬‬
‫"أنت؟ ترقص؟" عندما دخلت الغرفة‪ ،‬جيمين وجونغكوك كانوا يتحدثون عن طاقم رقص‪.‬‬
‫اقصا جي ًدا‪.‬‬ ‫َ‬
‫كنت ر ً‬ ‫جيمين قال أنه انضم لفريق الرقص منذ أسبوعين وأدار وجهه بخجل‪" .‬هذا صحيح‪،‬‬
‫ً‬
‫جميعا لرؤيتك ترقص‪".‬‬ ‫يجب أن نذهب‬
‫ً‬
‫مبكرا؟"‬ ‫وردتني مكالمة تايهيونغ في تلك اللحظة‪ ".‬ما الذي كنت تفعله؟ لماذا لم تتفقد رسالتي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫غضبا مما أنا عليه‪ .‬تمتم تايهيونغ بصوت أجش داال على بكاءه‪.‬‬ ‫حاولت أن أبدو أكثر‬

‫~‪~81‬‬
‫تايهيونغ‬
‫الثالث عشر من يونيو العام الثاني والعشرون‬

‫"كيف حال جونغكوك؟"‬


‫ً‬ ‫ُ‬
‫خارجا ليترأى لي منظر البرك هنا‬ ‫ذلك كل ما أمكنني قوله‪ .‬أنهيت مناوبتي في المتجر وشرعت‬
‫ً‬
‫وهناك‪ .‬كانت قد أمطرت منذ بضع ساعات‪ ،‬الحظت ذلك حينما التفت برأسي محدقا ناحية الباب‬
‫هب أحد الزبائن لشراء مظلة‪ .‬انعكس وجهي على البركة‪ ،‬عيناي امتألتا بالدموع وشعرت‬ ‫الزجاجي بعد أن َ‬
‫بغصة في حلقي‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫إحساس باالرتياح‪.‬‬ ‫قال هوسوك أنه مع جونغكوك وأنه يبدو أفضل حاال مما أعتقد‪ .‬حينها خالجني‬
‫"أنا بخير" ال بد وأن هوسوك قد مرر هاتفه إلى جونغكوك‪ .‬يبدو أنه يدعي أنه بخير‪" .‬ماذا عنك؟" "اقلق‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫آت حاال"‪.‬‬
‫اك مني‪ .‬ضحك جونغكوك بخجل‪" .‬أنا ٍ‬ ‫بشأن نفسك"‪ .‬خرج ردي حادا دون إدر ٍ‬
‫يعا‪ ،‬وركضت ناحية الدرج كوني لم أستطع انتظار المصعد‪،‬‬ ‫لم أوفي بوعدي‪ ،‬وصلت للمشفى سر ً‬
‫توغلت في الردهة‪ ،‬وكدت أقتحم حجرة جونغكوك‪ ،‬إال أنني تجمدت هناك‪ ،‬بعدما تدفقت ناحيتي عدة‬
‫ً‬
‫أيضا‪ .‬لذا تراجعت دون أن أعي ذلك‪.‬‬ ‫أصوات عبر الباب المتصدع‪ ،‬نامجون وسوكجين‬
‫"أنا ً‬
‫دائما نفس الشيء" قال نامجون‪ .‬بالفعل كان كذلك‪ ،‬لطالما استمر بحياته‪ .‬وقعت على مقاعد‬
‫ً‬
‫شخصا ما أجيبه‪.‬‬ ‫االنتظار في الردهة‪ .‬مر من أمامي بعض المرضى‪ ،‬كان بعضهم يذرفون الدموع‪ ،‬وإذا سأل‬
‫ذهابا ً‬
‫ً‬ ‫دوما‪ .‬هذه هي الحقيقة‪ً .‬‬ ‫ً‬
‫أيضا نفس الشيء ً‬
‫وإيابا بين منزلي والمتجر‪ ،‬أبي ما زال يشرب‬ ‫دوما ما آتي‬ ‫أنا‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫بكثير من‬
‫ٍ‬ ‫ويسبب المشكالت بين الفينة واألخرى‪ ،‬ضوء منزلنا ما زال ضعيفا والتصريف ال يزال يسد‬
‫األحوال‪.‬‬

‫ثمة تغير واحد وحسب‪ ،‬لم يعد يراودني ذاك الكابوس‪ .‬كابوس موت يونغي‪ ،‬سقوط جونغكوك‬
‫وجنون هوسوك‪ .‬اآلن بعد التفكير في األمر‪ ،‬توقف الكابوس عقب الليلة التي قضيناها على الشاطئ‪ .‬لقد‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫استبدل بآخر‪ .‬دموع تنذرف من على وجه سوكجين‪ ،‬وبتالت من الزهور الزرقاء ُملقاه على األسفلت ليال‬
‫والتي تبدو وكأنه تم دهسها وصبغها بدماء أحدهم‪.‬‬
‫ُ‬
‫أسرعت بخطاي‪ .‬كان المصعد قادم من الطابق الثاني السفلي‪ ،‬ألقيت نظرة ناحية ُحجرة المرضى‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫مستعدا بعد لمقابلة سوكجين ونامجون‪.‬‬ ‫لم أك‬

‫~‪~82‬‬
‫نامجون‬
‫الثالث عشر من يونيو العام الثاني والعشرون‬

‫وصلت لغرفة جونغكوك في المشفى في منتصف الليل‪ .‬يبدو أنه بخير‪ .‬ضحك وتحدث ً‬
‫كثيرا‪،‬‬
‫ٌ ً‬ ‫ً‬
‫مهم حقا‪ .‬كان‬ ‫تجنبا لما هو‬ ‫محطة الوقود‪ ،‬األحوال الجوية‪ ،‬وأي شيء آخر‬ ‫ِ‬ ‫وكذلك أنا‪ .‬تحدثنا بخصوص‬
‫ينبغي عليه طرح أسئلة‪ ،‬لكنه لم يفعل‪ .‬لم يستفسر عن سبب شجار اآلخرين في تلك الليلة‪ .‬وعن سبب‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫رحيلنا دون عودة‪ .‬لكنني لست مختلفا عنه‪ .‬لم أخبره عن سبب مغادرتي للمصيف دون التفوه بأي كلم ة‬
‫وحتى أنني لم أسأل سوكجين عن سبب مشكلته مع تايهيونغ‪ .‬كتمنا أسئلتنا التي جدر ِبنا اإلفصاح عنها‪.‬‬
‫ُ‬
‫وفي طريق عودتنا‪ ،‬سألني سوكجين إن كنت بخير‪" .‬أتعلم أنك لم تنطق بكلمة حتى اآلن" أجبته بأني لم‬
‫أعي ذلك واعتذرت‪ .‬أخبرته أنني بخير ثم افترقنا على مقربة من محطة الوقود‪.‬‬

‫نظرت في أرجاء الطريق المظلم قبل توجهي َص ْوب محطة الوقود‪ .‬لقد كانت مهجورة‪ .‬إشارة‬
‫ً‬
‫"قف" الحمراء على ممر المشاة تحولت لخضراء دالة على "التحرك"‪ .‬عبرت الشارع سالكا طريقي على‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫امتداد السكة الحديدية‪ .‬القاطرة الرابعة من النهاية‪ .‬قمنا بعمل تخييم هنا قبيل ِإد َبارنا للبحر‪ .‬وهذه زيارتي‬
‫األولى إلى ُهنا منذ ذلك اليوم‪.‬‬
‫ثبت مكاني لبعض الوقت حتى اعتادت عيناي على الظلمة‪.‬‬ ‫‪ُ .‬‬ ‫ُ‬
‫فتحت َ‬
‫باب القاطرة‬ ‫تبعثر الغبار حين‬
‫ُ‬
‫مما سمعته من جونغكوك‪ ،‬لم يواظب اآلخرون على التواصل مع بعضهم البعض‪ .‬ولم يطلعني أحد على‬
‫مستجدات تايهيونغ‪ .‬لكن من المؤكد أن كل شيء على حاله‪ .‬هذه القاطرة هي المأوى الوحيد لتايهيونغ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫لمحطة‬
‫ٍ‬ ‫بعيدا عن والده‪ .‬أدرك هذا لكنني لم ُأعد للمكان‪ .‬كان من المرهق كفاية الذهاب واإلياب من المكتبة‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الوقود‪ .‬هذه الحقيقة لكنها عذر في ذات الوقت‪ .‬في قرارة نفسي‪ ،‬البد أنني أحاول اجتناب تايهيونغ‪ .‬فلم‬
‫ٌ‬
‫ً‬
‫عاطفيا‪.‬‬ ‫أحتمل فكرة مواجهته‪ .‬إن األمر ُمنهك‬
‫القاطرة‪ .‬حيث احتوت كل ناحية‬ ‫ِ‬ ‫حين اعتادت عيناي على الظلمة‪ ،‬تسنى لي رؤية ُمختلف نواحي‬
‫تماما‪ .‬جونغكوك الذي تعرض‬ ‫معا‪ .‬أخبرت سوكجين أني بخير‪ ،‬لكنني على العكس ً‬ ‫منها ذكريات قد ملئناها ً‬
‫ض تايهيونغ‬‫خيرا طمر ما حدث في تلك الليلة دفعة واحدة‪ .‬لو لم َي ُخ ّ‬ ‫لحادث ليس بخير أي ًضا‪ .‬لم يكن ً‬ ‫ٍ‬
‫َ ُ‬ ‫ً‬
‫وسوكجين شجارا في تلك الليلة‪ ،‬لو بقيت مع اآلخرين‪ ،‬ولو الزم أحد جونغكوك‪ ،‬عندها لن يكون هنالك‬
‫أي حادث‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لكنني قلت أنني بخير‪ .‬تحدثت معه بصورة طبيعية وكأن ال شيء من هذا خطأي‪َ ،‬ربت على كتفه‬
‫ً‬
‫قليال‪ً .‬‬ ‫مخبرا إياه بأن يتعافى ً‬
‫ً‬
‫دائما ما أتردد قبل‬ ‫قريبا‪ .‬قلتها وكأنها كلمة مباركة‪ ،‬نصيحة أو عزاء‪ .‬لم أتغير ولو‬
‫ُ‬
‫أن أسأل أو حين أتخذ قر ًارا‪ ،‬كاتخاذ قرارين مصيريين‪.‬‬

‫~‪~83‬‬
‫يونغي‬
‫الخامس عشر من يونيو العام الثاني والعشرون‬

‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫شيء عندما‬ ‫حلم غريب‪ِ .‬خلت بأن أحدهم يطرق على الباب لكن لم يصل لمسمعي‬ ‫صحوت من ٍ‬
‫ّ‬
‫استيقظت‪ ،‬ال ُبد بأن الصوت كان في حلمي‪" .‬كم الساعة اآلن؟" التقطت هاتفي ألتحقق منه لكن البطارية‬
‫ُ‬
‫قد نفذت‪ ،‬وصلته بالشاحن ونهضت من الفراش‪ .‬آلمني رأسي وشعرت بكتفاي متصلبان‪ ،‬المقطوعة‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫الموسيقية التي عملت عليها لوقت بزوغ الفجر ترددت في رأسي مر ًارا وتكر ًارا‪ ،‬رغم بقائي مستيقظا لعدة‬
‫أيام لم أتمكن من االهتداء للمفتاح الذي سيحل النغمات المعقودة‪.‬‬

‫ّربما المقطوعة التي تردد صداها مرة تلو األخرى هي السبب لكن في حلمي ِه ّمت على وجهي في‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫صفير خافت‪ .‬وبعد فترة طويلة وصلت إلى حديقة مجمع سكني‪ ،‬وجدت فيها‬ ‫ٍ‬ ‫متتبعا صوت‬ ‫الضباب‬
‫ّ‬
‫مفتاح بيانو بين الشجيرات الكثيفة‪ .‬مفتاح البيانو نصفه محترق ومغطى بالتربة واألوراق المتعفنة‪ِ ،‬سرت‬
‫ّ‬
‫داخل الحديقة ألبلغ المفتاح وعندما كادت يدي تقبض عليه‪ ،‬المجمع السكني والضباب والصفير كل شيء‬
‫ُ‬
‫مسافة‬
‫ٍ‬ ‫تالشى في الوقت نفسه‪ .‬وفي اللحظة التي تلتها كنت أقف وسط ورشة العمل هذه‪ ،‬وعلى بعد‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫جالسا أمام البيانو برفقة جونغكوك‪ .‬جونغكوك قال لي شيئا ما جعلني أضحك‪ .‬متى‬ ‫مني رأيت نفسي‬
‫ِّ‬
‫حدث هذا؟ لم أتمكن من تذكر التاريـ ــخ بالتحديد لكن هذا المشهد ُحفر في ذاكرتي على نحو جلي‪ .‬توجد‬
‫ُ‬
‫أيام كثيرة استطيع فيها رؤية هذا المشهد بشكل واضح‪ ،‬وفجأة تلبد الخارج بالظالم‪ ،‬وكنت أتسكع في‬
‫ُ‬
‫الشارع من طريق عودتي من الشاطئ‪ .‬وضعت يداي داخل جيوبي أثناء حديثي عن عملي مع هوسوك‪،‬‬
‫شعرت بوجود المفتاح بأطراف أصابعي‪.‬‬ ‫ُ‬
‫حينها‬
‫استمر الحلم على هذا النحو غير المترابط‪ ،‬تداخلت فيه اللحظات مع بعضها وشظايا الذكريات‬
‫احتشدت بفوضوية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫سمعت صوت ٍقرع على باب المدخل عندما أطفأت صوت الموسيقى‪ ،‬من قد يكون؟ فتحت‬
‫الباب لكن ال يوجد أي أحد هناك‪ .‬تناولت كوب ماء وشربته ثم استلقيت على األريكة‪ .‬األسابيع الماضية‬
‫ً‬
‫صعبا‬ ‫كانت محمومة كلعبة األحصنة الدوارة‪ ،‬لم تجري األمور بسالسة أثناء تأليف الموسيقى‪ ،‬التركيز كان‬
‫ً‬
‫معتادا العمل مع شريك‪.‬‬ ‫منذ البداية ولم أكن‬
‫تأت وترحل عن غرفة عملي متى ما يحلو لها‪ ،‬ال تتردد أو تراوغ‬
‫كانت هذه المرأة واضحة وصريحة‪ِ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫حينما ُت ّ‬
‫قيم عملي‪ .‬أخذت مني الوالعة عندما أردت التدخين وأعطتني مصاصة عوضا عنها وكانت تلح‬
‫علي كي أكل وأنام‪ .‬لم أستطع مجادلتها ألن أداءها ومقطوعاتها الموسيقية كانت مثيرة لإلعجاب وألن‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫تقييمها كان دقيقا‪.‬‬

‫لقد حثني هذا‪ ،‬فبدأت بقضاء المزيد والمزيد من الوقت في غرفة العمل‪ ،‬فقدت اإلحساس‬
‫ً‬
‫بالوقت فأصبحت مدمنا على ع ملي‪ ،‬عندما أبدأ العمل أسهر طوال الليل‪ ،‬لم أجب على أي مكالمة ولم‬
‫أتفقد الرسائل التي تصلني‪ ،‬أعصابي كانت على الحافة‪ .‬لم أرغب في الحديث مع أي شخص لذا أغلقت‬
‫تنبيهات جميع تطبيقات المحادثة‪ .‬تساءلت "هل سأصبح بمثل مهارة وموهبة المرأة لو أنني لم أضيع‬
‫ُ‬
‫وواصلت التدرب على الموسيقى؟"‪ ،‬ال أريد أن أكون ظلها‪.‬‬ ‫وقتي‬
‫ً‬
‫جدا" هذا ما قالته المرأة بعد استماعها للمقطوعة التي لم أنهي العمل عليها باألمس‪.‬‬ ‫"هذا جميل‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫إنها نسخة ُمطورة لما كنت سأكتبه سابقا‪" .‬هذا جميل جدا"‪ ،‬شعرت بأني قد سمعت هذه العبارة من قبل‬
‫ُ‬
‫بطرق مختلفة‪ ،‬جلست قبالة‬ ‫وحاولت التذكر متى عندما أخرجت غيتارها وبدأت تناغم وتعزف اللحن ٍ‬

‫~‪~84‬‬
‫البيانو وبدأت العزف معها‪ .‬وبعد ساعتين قالت حين وضبت غيتارها ووقفت "ال تنسى لقائنا في المشفى‬
‫ُ‬
‫خال من التعابير‪ ،‬ثم جالت بعينيها ثم‬
‫بوجه ٍ‬ ‫صباح الغد" بعد أن وضبت غيتارها ووقفت‪ ،‬حدقت إليها ٍ‬
‫تذكرت بأن ها تقدم أداءات فردية في المشفيات والمدارس وقد أخبرتني في األسبوع الماضي كي أذهب‬
‫ُ‬
‫معها في عرضها القادم‪ ،‬لم أ ِجبها لكنها أنهت التخطيط من تلقاء نفسها فقالت لي سأتصل بك في وقت‬
‫مبكر صباح الغد احرص أن تجيب على هاتفك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بعد مغادرتها جلست ً‬
‫ثانية أمام البيانو‪ ،‬لم يكن األمر سيئا لكن داهمني شعور بأن شيئا ما مفقودا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تذكرت بال ريب بأنني كدت أقبض على شيء في أخر مرة عملت فيها على هذا المقطوعة‪ ،‬أضفت بعض‬
‫التغييرات لكنها لم تالئمها‪ .‬نهضت من على مقعد البيانو وشعور يضغط على صدري ّربما ركزت ك ً‬
‫ثيرا على‬
‫علي أن أجري تعديالت طفيفة على المقطوعة وأتوقف عن‬ ‫ذلك الشيء ألني لم احصل عليه‪ّ ،‬ربما يجب ّ‬
‫انتظار ذلك الشيء‪ .‬نظرت خارج النافذة فرأيت أن الشمس قد أشرقت‪.‬‬

‫ثانية‪ .‬لم تتصل بعد‪ ،‬لذا استلقيت على األريكة وبعد دقائق‬ ‫اهتز هاتفي بعد أن امتلئت بطاريته ً‬
‫ٌ‬
‫منزل‬ ‫فورا بمشهد رأيته في حلمي ليلة أمس‪،‬‬‫قليلة ّرن هاتفي فظهر اسم جيمين على الشاشة‪ ،‬ذكرني هذا ً‬
‫تلتهمه النيران وشخص ما سألني" أيوجد أحد في الداخل؟" فأجبته " ال‪ ،‬ال يوجد أحد"‪ّ ،‬تبدل المشهد‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وعندها كنت واقفا في غرفة والدتي الغير مضاءة ووالدتي تقول " لو أني لم أحظى بك‪ ..‬لو أنك لم تولد"‬
‫ُ‬ ‫ليست ّ‬
‫لدي أدنى فكرة عن كيفية وصولي من ورشة عملي للمشفى‪ ،‬كنت أركض على الساللم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ومعتما على نحو غريب‪ ،‬وأشخاص يرتدون زي المرضى‬ ‫كالمجنون وعندما وصلت لنهايته كان الرواق طويال‬
‫يسيرون‪ ،‬ظل قلبي يخفق بشدة‪ ،‬وجوههم شاحبة كصفحة بيضاء تخلو من أي تعبير‪ ،‬كأنهم موتى‪ ،‬تمكنت‬
‫من سماع صوت نفسي المتثاقل داخل رأسي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫تديا ثياب المرضى وممددا على السرير‪ ،‬ال ُبد‬
‫استطعت رؤية جونغكوك خالل الباب المتصدع مر ً‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫بقاءه على قيد الحياة معجزة‪ .‬إنها في تلك‬ ‫بأنه نائم لكنه بدا وكأنه ميت‪" ،‬كاد أن يموت‪ ،‬قال األطباء بأن‬
‫الليلة‪ ،‬تلك الليلة التي ُعدنا فيها من الشاطئ" بقي صوت جيمين ّيرن في أذناي‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫صور كثيرة احتشدت بسرعة البرق أمام ناظري‬ ‫أدرت رأسي لم يعد بإمكاني مواصلة النظر إليه‪،‬‬
‫كمشهد بانورامي‪ .‬اللهب الذي أصدر صوت تصدع داخل الطبل في موقع أعمال البناء‪ ،‬غرفة والدتي التي‬
‫دائما غير مضاءة‪ ،‬أصوات البيانو التي علت من وسط النيران‪ ،‬ظهر جونغكوك حينما كان يعزف‬ ‫كانت ً‬
‫بشكل أخرق على البيانو في متجر الموسيقى‪ ،‬جونغكوك ممدد فاقد لوعيه في منتصف الشارع‪ ،‬األلم‬
‫والخوف اللذان ّ‬
‫البد بأنه شعر بهما أثناء فقدانه لوعيه‪.‬‬

‫قالت "كله بسببك"‪ ،‬قالت "لو أنك لم تولد"‪ ،‬إنه صوت والدتي أم هل كان صوتي؟ أم أنه صوت‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫معذبا طوال حياتي بسبب هذه الكلمات‪ .‬أردت التصديق بأنها غير صحيحة‪ .‬لكن‬ ‫شخص آخر؟ عشت‬
‫ٌ‬
‫يرقد في المشفى الذي يتجول فيه المرضى كالموتى األحياء‪ .‬لو أني تجاهلته‬
‫ِ‬ ‫ممدد هناك‪.‬‬ ‫جونغكوك‬
‫ُّ‬
‫وغادرت متجر الموسيقى‪ ،‬لو أني ِمت فحسب وسط اللهيب‪ ،‬هل سيحدث أي من هذا؟‬
‫في هذه اللحظة ألحان غيتار المرأة اخترقت عقلي‪ .‬تداخل صوت الغيتار مع صوت فرقعة اللهب‬
‫وأصوات أخرى ال ُتعد وال ُتحصى‪ .‬غطيت رأسي وأذناي بكلتا ذر ّ‬
‫اعي‪ ،‬لم ُيفلح هذا‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫المتقد‪ ،‬صوت البيانو‬
‫فصوت الغيتار أصبح أعلى‪ ،‬استدرت وبدأت الهرب عبر الرواق فاصطدمت بالسائرين وألنه لم يكن ّ‬
‫لدي‬
‫ٌ‬
‫علي أن أركض ها ًربا من‬
‫وقت لاللتفات واالعتذار فقد صرخوا بالشتائم نحوي‪ .‬لم ألتفت للخلف‪ ،‬كان ّ‬
‫الصوت والهلوسة‪ ،‬آلمني رأسي وفقدت كل ثقتي‪ ،‬ركضت أسفل الرواق‪ ،‬بترنح وتهاوي حتى خرجت من‬
‫المشفى‪.‬‬

‫~‪~85‬‬
‫جونغكوك‬
‫الخامس عشر من يونيو العام الثاني والعشرون‬

‫أيقظتني ضجة صادرة من خارج الغرفة‪ .‬كان يراودني حلم غريب لكن لم يسعني تذكر التفاصيل‬
‫ً‬
‫جيدا‪ .‬عادت إلى ذاكرتي ليلة حادث السير كشاشة مراقبة سوداء وبيضاء مشوشة‪ .‬شعرت بنبضات قلبي‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫متلويا‪.‬‬ ‫تتباطأ ثم تتسارع بشدة‪ .‬فجأة‪ ،‬تدفق األلم بشدة وكان أحدهم يهمس شيئا بخفة ثم استيقظت‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كان جسدي بأكمله مبلال بالعرق‪ .‬انسل ضوء الشمس عبر النافذة ضا ًربا وجهي مباشرة‪ .‬خرجت‬
‫ُ‬
‫إلى الممر ورأيت المشهد المعتاد‪ .‬كانت أول مرة أستعمل فيها العكازات وال زلت أحتاج االعتياد عليها مع‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫خارجا عبر المدخل وكانت الريـ ــح تهب‪ .‬برد عرقي‬ ‫أن استخدامها أسهل بكثير من الكرسي المتحرك‪ .‬ذهبت‬
‫ً‬
‫دافئا كما كان في غرفة المشفى‪.‬‬ ‫بسرعة وشعرت بالبرد في الجزء الخلفي من عنقي‪ .‬لم يكن الجو‬
‫ً‬
‫مخبرا إياي أن شفائي‬ ‫عندما جلست على مقعد وفتحت كراسة رسمي‪ ،‬جاء إلي الطبيب المسؤول‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫دليل حي على حدوث معجزة‪.‬‬ ‫كان بمثابة معجزة فهو لم يتوقع حدوث ذلك‪ .‬ربت على كتفي قائال أنني‬
‫ُ‬
‫"عليك أن تكون بخير لبقية حياتك" أدرت رأسي ورأيت الفتاة التي كنت قد التقيت بها في الممر في اليوم‬
‫ٌ ً‬ ‫ً‬
‫مذهل جدا وسألتني عن شعوري فأخبرتها‬ ‫السابق واقفة هناك‪ .‬أخبرتني الفتاة أن إيجاد معجزة بقربــها أمر‬
‫ً ً‬
‫جدا وحسب‪.‬‬ ‫أنني كنت صحيا‬
‫ُ‬
‫أخفضت عيناي إلى كراسة الرسم وقبل أن أدرك األمر‪ ،‬كنت أرسم ما رأيته في حلمي‪ .‬تشوشت‬
‫ذاكرتي مثل شاشة المراقبة وكان يصعب علي التركيز في الرسم أو التذكر ألن الفتاة استمرت بطرح األسئلة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫علي‪ .‬بعد مدة‪ ،‬نظرت لألعلى‪ .‬سمعت صوت أغنية مألوفة تعزف‪ ،‬كان أحدهم يؤدي في األرجاء‪ .‬عرفت‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫هذه األغنية بال شك‪ ،‬فيونغي كان يعزفها في غرفة عمله أحيانا‪ .‬ذهبت باتجاه المسرح على عكازاتي‪ .‬كانت‬
‫ّ‬
‫هناك والعة عليها عالمة ‪ YK‬معلقة على الغيتار‪.‬‬

‫~‪~86‬‬
‫جيمين‬
‫الثالث من يوليو العام الثاني والعشرون‬

‫كان هوسوك بمزاج سيء منذ أن زار جونغكوك‪ .‬إذا كان بمقدور أي شخص ربط سبعتنا ً‬
‫معا بكلمة‬
‫"نحن"‪ ،‬فسيكون هذا الشخص هو هوسوك‪ .‬تبنى وصان ً‬
‫دوما كلمة "نحن" وكأنها مأوانا‪ ،‬لكنه لم يغدو‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ومبهجا من داخله كما حاول التظاهر أمامنا‪ .‬من الممكن أن شعوره كان أقرب للمسؤولية‪ ،‬لقد‬ ‫دوما مشرقا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫غريزيا بجراح وآالم المحيطين به لكنه لم يتمكن من تحملهما جيدا‪ ،‬ولهذا السبب ادعى الحيوية‬ ‫شعر‬
‫عكس سجيته‪ .‬حتى أنه اليوم جلس في زاوية واحدة من غرفة التدريب لفترة طويلة دون أن ينبس ببنت‬
‫شفة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫التحقت بغرفة "ارقص فحسب" وباشرت تعلم الرقص صوب عودتي من البحر‪ .‬أتاح هوسوك لي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫محرجا للغاية من مقابلة أناس ُجدد‪ ،‬حيث قضيت الكثير من الوقت في المشفى‪ .‬كما‬
‫ً‬ ‫الفرصة بعدما كنت‬
‫أحضر لي شريكة جديدة في الرقص‪ ،‬كانت صديقة قابلها في دار األيتام‪ .‬كانت الشخص الوحيد الذي‬
‫استطاع إضحاكه حينما كان بمزاج سيء‪ .‬ضحك هوسوك‪ ،‬عندما تمتمت بشيء خالل نظرها لهاتفه برفقته‪.‬‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫فأردفت قائلة بنبرة ساخرة "لقد ضحكت‪ ،‬ضحكت" حينها أشاح وجهه بعيدا وأخبرها أن تكف‬
‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ً‬
‫عن ذلك ثم ضحك مجددا‪ .‬عم الصمت أرجاء غرفة التدريب حينما أغلقت الموسيقى واستلقيت على‬
‫ُ‬
‫كثيرا حتى أنه كان ُيشاد بي‪ .‬لكن غرفة المريض‬
‫ورقصت ً‬ ‫األرض فحسب‪ .‬لقد أحببت الرقص منذ صباي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫صالحا للرقص وحتى حينما التحقت بالمدرسة في فترات الراحة من المشفى‪ ،‬كنت أخفض‬ ‫لم تغدو مكانا‬
‫ً‬
‫تجنبا ألعين زمالئي في الصف‪.‬‬ ‫رأسي‬
‫تيبس جسدي ولم أتمكن من رقص الخطوات التي رقصها هوسوك بكل‬ ‫َ‬ ‫بعد فترة من الوقت‪،‬‬
‫ُ‬
‫سهولة‪ ،‬فلم يكن بوسعي فعل شيء سوى االستمرار في التدريب حتى بعد مغادرة الجميع‪ .‬أعدت تشغيل‬
‫ً‬
‫مقطع الفيديو الخاص بخطوات الرقص التي تعلمتها آنفا على هاتفي‪ .‬حركات هوسوك كانت رشيقة ولكنها‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫دقيقة في الفيديو‪ .‬علمت أنها ِنتاج سنوات من التدريب وأن األمر سيستغرق وقتا طويال لمبتدئ مثلي‬
‫تطعت فحسب التنهد بصوت عال لمجرد أمنية تمنيتها‪.‬‬ ‫ُ‬
‫للوصول لهذا المستوى‪ .‬اس‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫والدي في اليوم الذي غادرت فيه الشاطئ وحدي‪ .‬بينما كنت أنظر صوب النوافذ‬ ‫عدت إلى منزل‬
‫ضغطت على جرس البوابة األمامية‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الالمعة‪ ،‬لم يسعني التفكير سوى "هل كان هذا المنزل منزلنا؟" ثم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫استغرق األمر بعض الوقت حتى فتح الباب ثم استقليت المصعد وترجلت عند الطابق السابع عشر‪ .‬وعلى‬
‫ً‬
‫مفتوحا إال أنه لم يخرج لتحيتي أحد‪.‬‬ ‫الرغم من أن الباب كان‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫والداي يجلسان على أريكة غرفة المعيشة بينما يتابعان ً‬
‫فيلما أبيضا وأسودا على شاشة التلفاز‪،‬‬ ‫كان‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫فاندفعت قائال بعد تردد "ال أريد ا لعودة إلى المشفى‪ ،‬ال تقلقا لن أفعل أي شيء متهور ولكنني لن أعود‬
‫ً‬
‫إلى هناك" حينها سألتني أمي "أين كنت؟" " مع أصدقائي" قاطعني والدي مردفا‪" :‬أصدقاء؟ اغتسل‬
‫واتجهت صوب غرفتي أسفل الردهة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫واخلد للنوم‪ ،‬سنفكر ً‬
‫مليا فيما يجدر بنا فعله معك" فأذعنت لرغبته‬
‫وصوت والدي يتردد في ذهني "سنفكر ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مليا فيما يجدر بنا‬ ‫حالما أغلقت الباب خلفي‪ ،‬انهرت‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫يسيرا حتى أنني بالكاد غفوت تلك الليلة‪ .‬وعوضا عن‬ ‫فعله معك" حاولت تمالك نفسي‪ ،‬لكن لم يكن األمر‬
‫ُ‬
‫وسأثبت أنني أجيده!‬ ‫ُ‬
‫ذلك‪ ،‬اتخذت قرارين‪ ،‬أولهما أنني سأكتشف ما أود االلتزام به‬

‫~‪~87‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نهضت ووقفت أمام المرآة‪ ،‬استطعت تقليد الخطوات بشكل جيد لكن قدماي استمرتا في االلتواء‬
‫ُ‬
‫وأردت إثارة إعجابها‪.‬‬ ‫ُ‬
‫لذا ظللت أرتكب األخطاء‪ .‬من المفترض أن أرقص مع شريكتي هكذا في اليوم التالي‬
‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫ُ‬
‫أردت أن ُيعترف بي حقا بدال من سماع "ليس سيئا!"‬

‫~‪~88‬‬
‫جيمين‬
‫الرابع من يوليو العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬
‫بقوة شديدة حتى تقشر الجلد‪ .‬ارتجفت يداي‬ ‫ٍ‬ ‫عندما عدت إلى صوابي‪ ،‬كنت أفرك ذراعي‬
‫ُ‬
‫دم رفيع من ذراعي وعبر انعكاسي في المرآة الحظت احمرار‬‫وسمعت صوت أنفاسي العميقة‪ .‬سال خيط ٍ‬
‫عيناي‪ .‬تسارعت أجز ٌاء مما حدث عبر ذاكرتي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كنت قد فقدت التركيز بينما رقصت مع شريكتي‪ ،‬تشابكت خطواتي واصطدمت بها ثم سقطت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫أرضا وخدشت ذراعي‪ .‬ذكرني الدم بمشتل األزهار العشبية وشعرت باالختناق‪ .‬لم أتذكر كيف نهضت‬
‫ً‬
‫مغادرا غرفة التدريب أو كيف وصلت إلى الحمام‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وركضت‬
‫فركت وغسلت الخدش كالمجنون وازداد خوفي تدر ً‬
‫يجيا عند رؤيتي للدم يسيل في مجرى المياه‪.‬‬
‫خلت أني تغلبت على األمر‪ ،‬توقعت أني بخير لكنني لم أكن كذلك‪ .‬وجب علي الهرب وكان علي غسله مع‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫بسرعة إلى غرفة التدريب‬
‫ٍ‬ ‫أنني اضطررت للنظر بعيدا‪ .‬بعد ذلك أدركت أن شريكتي قد وقعت أيضا‪ .‬عدت‬
‫ٌ‬
‫أحد فيها‪.‬‬ ‫لكن لم يوجد‬
‫كان معطفها وحقيبة هوسوك ملقيان على األرض‪ .‬ركضت إلى الخارج حيث كانت السماء تمطر‬
‫ً‬
‫مسافة‬
‫ٍ‬ ‫بغزارة واستطعت رؤية هوسوك مع شريكتي في الرقص فوق ظهره‪ ،‬راكضا بكل سرعته على بعد‬
‫ً‬
‫مني‪ .‬بدت فاقدة للوعي بسبب تمايل ذراعيها المرتخيتان في كل اتجاه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لحقته حامال مظلة بيدي لكنني سرعان ما وقفت في مكاني محاوال تذكر لحظة سقوطها فلم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شيء من حولي‪ .‬لن أكون ذو فائدة له حتى لو لحقت به‪ .‬قد أذيتها‬‫ٍ‬ ‫أستطع‪ .‬عندما رأيت الدم‪ ،‬تالشى كل‬
‫كنت أرتجف كالهالم بسبب دمي‪.‬‬‫ُ‬ ‫ً‬
‫بدفعي لها أرضا ولم أتوقف لتفقد إن كانت بخير ألني‬
‫أدرت ظهري ومع كل خطوة مشيتها‪ ،‬تناثر ماء المطر على حذائي الرياضي‪ .‬مرت أضواء السيارات‬
‫تماما‪ .‬في‬ ‫َ‬
‫اليوم ً‬ ‫بسرعة خاطفة‪ .‬كان الجو ُم ً‬
‫مطرا في يوم النزهة قبل مدة طويلة مثل‬ ‫األمامية من جانبي‬
‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ذلك اليوم‪ ،‬هربت من مشتل األزهار العشبية وجسدي مغطى بالوحل الشبيه بالدماء‪ .‬لم أنضج وال حتى‬
‫ً‬
‫قليال من ذلك الطفل الصغير البالغ من العمر ثمانية أعوام‪.‬‬

‫~‪~89‬‬
‫هوسوك‬
‫السابع من يوليو العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬ ‫ً‬
‫لحادث بسيط قبل عدة أيام‪ .‬األن يمكنني القول أنه بسيط لكنه‬ ‫ٍ‬ ‫كاحلي لم يلتئم جيدا‪ .‬تعرضت‬
‫ً‬
‫حينها كان حادثا خطير‪ .‬جيمين وتلك الفتاة اصطدموا ببعضهم البعض أثناء التدرب على خطوات الرقص‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كضت للمشفى‪ .‬لم يكن بعيدا‪ ،‬لكن المطر انهمر بغزارة‪.‬‬ ‫وكالهما سقطا بقوة‪ .‬حملت الفتاة على ظهري ور‬
‫كانت فاقدة للوعي‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وإيابا في الرواق‪ .‬تأخر الوقت ليال‪ ،‬لكن الرواق المقابل لغرفة‬ ‫ذهابا‬ ‫بينما عولجت‪ ،‬خطوت‬
‫مليء بأشخاص يحتسون القهوة من آلة البيع أو ينظرون لهواتفهم‪ .‬قطرات المطر والعرق تنساب‬ ‫ٌ‬ ‫الطوارئ‬
‫ُ‬
‫من شعري‪ .‬نفضت شعري بإحدى يداي‪ ،‬جلست على مقعد في الزاوية‪ ،‬وسقطت حقيبتها بالخطأ‪.‬‬
‫ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫تدحرجت عمالت نقدية على األرض‪ ،‬وتبعثر أقالم حبر ومناديل في األرجاء‪ .‬كان هنالك تذكرة لطيارة‬
‫أعلم بشأن تقدمها لتجربة أداء دولية لفريق رقص‪ .‬البد أنها فازت بها ً‬
‫بناء على التذكرة‪.‬‬

‫علي الطبيب‪ .‬وضعت التذكرة في حقيبتها وتوجهت نحوه‪ .‬قال أن الفتاة‬ ‫في تلك اللحظة‪ ،‬نادى ّ‬
‫ً‬
‫مطيرا في الخارج‪ .‬وقفت بجانبها‬ ‫علي القلق ً‬
‫كثيرا‪ .‬مازال الجو‬ ‫صدمت رأسها ولديها ارتجاج بسيط فليس ّ‬
‫ُ‬
‫على المدخل‪" .‬هوسوك‪ ".‬نادتني الفتاة‪ .‬بدى وكأنها تريد االفصاح عن شيء‪" .‬انتظري هنا‪ ،‬سأذهب لشراء‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مظلة" ركضت في المطر المنهمر‪ .‬وقع متجر أمام ناظري‪ .‬لم أرد سماع ما لديها‪ .‬لست متأكدا إن كنت‬
‫سأهنئها‪.‬‬
‫ُ‬
‫الغم ووطأة رأسه‪.‬‬ ‫جيمين كان بانتظاري في غرفة التدريب‪ .‬طمأنته عليها‪ ،‬لكن بدى عليه‬
‫ً‬
‫في الصباح التالي وجدت كاحلي متورم‪ .‬انزلقت قليال في الليلة السابقة أثناء حملي للفتاة على‬
‫ً‬
‫حتى‪ ،‬انزلقت قدمي قليال فقط‪ .‬حاولت وضع ضمادة‬ ‫ُ‬ ‫ظهري‪ .‬كنت أركض تحت انهمار المطر‪ .‬لم أسقط‬
‫لأللم والسير بحذر أكبر‪ .‬ظننت أنني سأغدو بخير‪ .‬فلم أ ِرد تضخيم األمر في البدء‪ .‬لكن ساءت حالتها أكثر‬
‫علي الوقوف على قدماي طوال اليوم في مطعم البرغر‪ .‬وال ُيمكنني تفويت تدريبات‬ ‫وأكثر مع الوقت‪ .‬كان ّ‬
‫الرقص‪.‬‬

‫~‪~90‬‬
‫تايهيونغ‬
‫العاشر من يوليو العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ركضت على الطرق المنحدرة وعبر األزقة الخلفية الضيقة‪ .‬عشت في هذا الحي لحوالي عشرين‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫قصصا وذكريات‪ ،‬لكن هذا لم يكن وقت الحنين إلى الماضي‬ ‫سنة وعرفت كل زاوية وصدع‪ .‬أعادت كل زاوية‬
‫ً‬ ‫فالشرطة كانت تطاردني ولم أستطع تحمل كلفة الضياع في الذكريات‪ .‬لكن بينما استدرت ً‬
‫عابرا زاوية بعد‬
‫لسور تلو اآلخر شعرت بأن الوقت يعود للوراء‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫األخرى وأثناء عبوري‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مدة طويلة‪ .‬حملت علب الطالء مجددا‬ ‫قمت بالرسم على جدار موقف الحافلة للمرة األولى منذ ٍ‬
‫معينة صادفتها عندما كانت تحاول سرقة الطعام من متجر البقالة قبل بضعة أيام‪ .‬لم تستطع‬ ‫بسبب فتاة ّ‬
‫فهمت شعورها ً‬
‫تماما‪.‬‬ ‫ُ‬
‫تحمل النظر إلى يديها الفارغتين وكان من الواضح أنها خائفة منها‪ .‬لم أرد اإلقرار بأني‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫عليك النظر إلى يديك الخاويتين مباشرة وال يستطيع أحد فعل ذلك بالنيابة عنك‪ .‬مع ذلك‪ ،‬لم أستطع أن‬
‫أدير رأسي عنها‪.‬‬
‫ُ‬
‫تعرفت على النظرة التي اعتلت وجهها‪ ،‬النظرة التي تعلو وجهك حين تشعر بعدم انتمائك إلى أي‬
‫مكان في العالم‪ ،‬عندما تخشى بأن تكون أنت المسؤول عن كل خطب جرى في حياتك‪ ،‬عندما تكون‬
‫ً‬
‫وحيدا وتجهل إلى أين تذهب أو تبقى‪.‬‬
‫ً‬
‫مميزا ً‬ ‫ً‬
‫معا‪ .‬اكتفينا بالجلوس‬ ‫رأيت هذه الفتاة من وقت آلخر بعد ذلك اليوم لكننا لم نفعل شيئا‬
‫معا‪ .‬بدا عليها الشعور بالغرابة‬‫في الشارع أو المشي بمحاذاة السكة الحديدية ثم قمنا بالرسم على الجدران ً‬
‫في أول مرة حملت فيها علبة الطالء لكنها قامت بأفضل ما لديها لتتبع ما فعلته‪ .‬جئنا ً‬
‫أخيرا إلى موقف‬
‫الحافلة‪.‬‬

‫نزل نامجون في هذا الموقف وظهرت الشرطة هنا في أغلب األحيان وهنا كذلك تم اإلمساك بي‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫مرة بينما كنت أرسم على الجدران‪ .‬حاولت الفتاة قراءة تعابير وجهي بينما وقفت ساكنا وأنا أحمل علبة‬
‫الطالء بيدي‪.‬‬

‫لم أكن على اتصال بنامجون منذ أن رأيته في المشفى لكنني مررت بجانب مقطورته القريبة من‬
‫خارجا في الشارع ً‬
‫هربا من والدي ومزاجه الثمل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫السكة الحديدية في إحدى الليالي قبل بضعة أيام‪ .‬كنت‬
‫أيت إنارة المقطورة مضيئة‪ .‬كان أحدهم هناك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫هربت بال وعي وجلت في األرجاء بال هدف ثم ر‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لحن‬
‫أردت الدخول إال أنني لم أستطع فعل ذلك فاقتربت وسمعت صوت ًٍ‬ ‫ال بد من أنه نامجون‪ .‬ومع أني‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ناظرا إلى السماء السوداء بالكامل‪ ،‬خالية‬ ‫خافت يرافقه صوت شخير‪ .‬جلست على األرض أمام المقطورة‬
‫من أي أثر للنجوم‪.‬‬
‫اقترب مني رجال الشرطة بسرعة فاختبأت في زقاق بنهاية مسدودة ولم يكن هناك طريق للنفاذ‪.‬‬
‫كان من المقدر حدوث هذا حتى لو توقفت عن الحنين إلى الماضي وركزت على الهرب‪ ،‬سيتم اإلمساك‬
‫ُ‬
‫بقبضات خاوية‪ .‬خرجت من الزقاق‬
‫ٍ‬ ‫بي في كل حال‪ .‬كانت هذه هي النتيجة المتوقعة‪ .‬ال يمكن حل مشكلة‬
‫ر ً‬
‫افعا كلتا يدي باستسالم‪.‬‬

‫~‪~91‬‬
‫نامجون‬
‫الثالث عشر من يونيو العام الثاني والعشرون‬

‫وضبت حقيبتي وتوجهت خارج المكتبة‪ .‬مضى على عملي في المناوبة الليلية بمحطة الوقود أكثر‬
‫من شهر‪ .‬وأذهب للمكتبة في النهار‪ .‬فأعود للمنزل منهك بعد العمل طوال الليل‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك‬
‫ً‬
‫فأنني أستيقظ مباشرة حالما يرن المنبه‪ .‬لم أنجز شيئا في الشهر المنصرم‪ .‬جل ما أقوم به هو التحديق‬
‫خارج النافذة أو تصفح مجلة بذهول‪ .‬ليس وكأنني أشعر بالضجر‪ .‬أعلم أن ّ‬
‫علي اإلتيان بوتيرتي‪ ،‬لكن لم‬
‫يكن باألمر السهل كما تصورت‪ .‬ما الذي يفعله جميع هؤالء األشخاص ُهنا في المكتبة؟ هل سأتمكن ً‬
‫يوما‬
‫من إدراكهم؟ لكنني ال أعلم خط البداية أو ما الذي ّ‬
‫علي التشبث به‪.‬‬
‫ُ‬
‫أملت رأسي ناحية نافذة الحافلة‪ .‬من المكتبة لمحطة الوقود؛ كل يوم‪ .‬اإلطاللة المألوفة ذات‬
‫يوما من هذا الروتين؟ يبدو ً‬
‫أمرا مستحيل‬ ‫المضجر ُسحبت من ناظري على النافذة‪ .‬هل سأتخلص ً‬ ‫المشهد ُ‬
‫ِ‬
‫لغد أفضل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫تمني ٍ‬ ‫بالنسبة لي‬
‫ً‬
‫ظهر على مرأى مني امرأة تجلس في مقدمة الحافلة‪ .‬رفعت كتفاها قليال كما لو أنها تتنهد‪ .‬إنها‬
‫معا في نفس المكتبة ُ‬ ‫ً‬
‫وعدنا‬ ‫أيضا من المكتبة‪ .‬درسنا ً‬ ‫المرأة التي كانت توزع المنشورات على المشاة‪َ .‬ميزتها‬
‫لمنازلنا في نفس الحافلة خالل الشهر المنقضي‪ .‬لم أجرؤ على محادثتها‪ ،‬لكننا شاهدنا نفس البستان‪،‬‬
‫ُ‬
‫خضنا نفس التجارب‪ ،‬وتنهدنا بنفس الطريقة‪ .‬رأيت كيف غلبها النعاس في زاوية من المكتبة وكيف نزفت‬
‫أمام آلة بيع القهوة‪ .‬لم أحاول البحث عنها لكنها تلفت نظري من وقت آلخر‪ .‬ما زلت أملك مشبك الشعر‬
‫في جيبي‪ ،‬الذي اشتريته من بائع في الشارع دون تفكير بعد رؤية شعرها معقود برباط مطاطي أصفر‪.‬‬

‫اقتربت الحافلة من محطة توقفها‪ .‬ضغط أحدهم على زر التوقف‪ ،‬ووقف بضع ركاب‪ ،‬لكنها لم‬
‫ُ‬ ‫تقف‪ .‬البد أنها غفت‪ .‬أيجدر بي إيقاظها؟ ترددت للحظة‪ .‬توقفت الحافلة ً‬
‫أخيرا‪ ،‬لكنها لم تظهر أي عالمة‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫على التحرك‪ .‬ترجل الركاب من الحافلة‪ ،‬أغلقت األبواب وتحركت الحافلة مجددا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫وصلت لمحطتي لكن المرأة لم تستيقظ بعد‪ .‬ترددت مجددا بينما ترجلت من الباب الخلفي‪ .‬لم‬
‫ً‬
‫ُيعرها أي أحدا انتباهه‪ .‬تخطت محطتها بالفعل ولن تستيقظ إال بعد بضع محطات أخرى‪ .‬وهذا سيزيد‬
‫ً‬
‫جهدا إضافي لحياتها‪.‬‬

‫مضت الحافلة حالما ترجلت عنها‪ .‬لم أنظر خلفي‪ .‬خلفت مشبك الشعر على حقيبة المرأة‪ ،‬وهذا‬
‫ُ‬
‫هو األمر‪ .‬قبل بضع أيام‪ ،‬أتيت إلى هنا ورأيت الرسم على الجدار المقابل لمحطة الحافلة‪ .‬أنظر حولي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تلقائيا‪ .‬لكنني ال أجد تايهيونغ أبدا‪ .‬سأفترض أنه ذهب على عجل من أمره ألن علب الطالء تتدحرج على‬
‫األرض‪ .‬حدقت في الرسومات على الحائط لمدة‪.‬‬

‫~‪~92‬‬
‫سوكجين‬
‫الرابع عشر من يوليو العام الثاني والعشرون‬

‫ً‬
‫جلست على مقعد في حانة خيمة بجانب نامجون‪ .‬انتصف الوقت ليال‪ ،‬لكن الخيمة ممتلئة بزوار‬
‫أرادوا تناسي أيامهم بالمشروبات الالذعة‪ .‬تلقيت المكالمة بعد الظهيرة‪ .‬طلب مني نامجون مقابلته بعد‬
‫انتهاء مناوبته في محطة الوقود‪ .‬ولم ينبس بكلمة حتى اآلن‪ .‬لكنه استمر بالشرب كأس تلو اآلخر‪ .‬سألته‬
‫أن أصابه مكروه ما‪ ،‬لكنه تبسم وهز رأسه ً‬
‫نافيا‪ " .‬األمر فقط أن حياتي لم تتغير البتة منذ والدتي‪ .‬ال تأخذ‬
‫منحنى لألفضل أو لألسوء‪".‬‬
‫ً‬
‫قال نامجون أن طاقته جفت بالكامل‪ .‬وبأنه تظاهر بكونه صديقنا بينما ال يمكنه تقديم شيئا لنا‪.‬‬
‫ً‬
‫ولهذا السبب لم يتمكن من مقابلة تايهيونغ أو زيارة جونغكوك مجددا‪ .‬وأنه يختلق األعذار حتى في هذه‬
‫اللحظة‪ ،‬وأنه بال جدوى‪.‬‬
‫ُ‬
‫مدرستنا الثانوية قد اجتاحت أفكارنا بعد شربنا عدة كؤوس‪ .‬تلك الحادثة التي كشف عنها تايهيونغ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫فعلت ذلك حينها؟" بدال من أجابتي‪ ،‬بادرني السؤال‪.‬‬ ‫على الشاطئ‪ .‬لماذا دافع عني نامجون وقتها؟ "لماذا‬
‫ما سبب فعلتي تلك حينها؟ وفاة والدتي‪ ،‬طفولتي بالروضة في لوس أنجلوس‪ ،‬تعابير والدي الباردة حين‬
‫ُ‬
‫يم ّية العائلة‪ .‬ربما شعوري بالثمالة‪ ،‬أو نسيم الليل‪ ،‬ما دفعني لكشف جميع‬ ‫عدت لكوريا‪ .‬لم أشعر قط ِ‬
‫بحم ِ‬
‫أسراري التي لم أفصح عنها من قبل‪.‬‬
‫ً‬
‫"اآلن أعرف كل شيء يخصك‪ ،‬لكن أال ينتظرك اآلخرون لتشارك قصتك أيضا؟ ينتظرون تلمي ًحا‬
‫منك بما حصل حينها؟" تحدث نامجون بعد سماعه العترافي‪ .‬ودعته ثم توجهت للمنزل‪ ،‬تجولت على‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مشعا‪ .‬توقفت أمام‬ ‫الطريق لبعض الوقت‪ ،‬وترنحت قليال‪ .‬نسيم الليل كان منعشا‪ ،‬والقمر في السماء كان‬
‫رسومات على محطة الحافلة‪ .‬لو اعترفت بكل شيء‪ ،‬هل كان نامجون سيصدقني؟ لو أفصح لي شخص‬
‫بما كنت سأعترفه‪ ،‬هل كنت سأصدق ذلك الشخص؟‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قدت بجانب المتجر الذي يعمل به تايهيونغ‪ .‬أمكنني رؤية ابتسامته عبر النافذة‪.‬‬ ‫قبيل بضع أيام‪،‬‬
‫كان يتحدث لزبون ويضحك بشدة‪ .‬تلك البسمة المألوفة التي ترتسم على شفتاه على شكل مربــع‪ .‬ماذا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حسنا‪ ،‬تايهيونغ كان ً‬
‫دائما هكذا‪ .‬ينفجر ضاحكا على نكات‬ ‫يوجد للتحدث بشأنه والضحك بشدة مع زبون؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ال يجدها أحدا مضحكة ويذرف الدموع على أشياء ال يجدها أحدا محزنة‪ .‬كيف يفترض بي مصالحة‬
‫تايهيونغ؟ المستقبل يبدو ً‬
‫كئيبا‪.‬‬

‫~‪~93‬‬
‫هوسوك‬
‫السادس عشر من يوليو العام الثاني والعشرين‬

‫معا في غرفة الصف التي غدت غرفة‬ ‫قلبت صفحات المذكرة واحدة تلو األخرى‪ ،‬كنا مبتسمين ً‬
‫ً‬
‫مستلقيا وحده فوق الطريق المعبد‪ ،‬والدماء‬ ‫تخزين‪ ،‬في النفق‪ ،‬وحيث كان البحر خلفية لنا‪ ،‬كان جونغكوك‬
‫تسيل على الطريق‪ ،‬القمر الكبير تدلى ً‬
‫عاليا في سماء الليل‪.‬‬

‫" هل تأذيت؟ " نظرت للخلف ورأيت ج ونغكوك يدخل إلى غرفته في المشفى‪ ،‬رقصت بكاحلي‬
‫ً‬
‫الملفوف بالضمادة بشدة‪ ،‬واآلن الجبيرة تحيط بهذا الكاحل "أبدو وكأني أفضل حاال منك" تعمدت إظهار‬
‫ُْ‬
‫ردة فعل درامية على كلماته‪ ،‬وأضاف أن صحته ال تق َهر‪ ،‬جونغكوك قال أن عليه الخضوع لفحص شامل‬
‫األسبوع المقبل ما سيخوله الذهاب للمنزل في حال عدم وجود أي مشاكل‪.‬‬

‫قررت أن علينا تحضير حفل له‪ ،‬حظينا بحفل في قاطرة نامجون يوم هرب جيمين من المشفى‬
‫مع الهمبرغر والكوال والكعكة التي جلبها جين‪ .‬لقد تقاتلنا حول من سيكون صاحب قبعة الحفل حتى‬
‫ُس ِحقت‪ ،‬لطخنا وجوه بعضنا البعض بالكعكة الثمينة‪ ،‬نامجون اشتكى ألن عليه تنظيف كل الفوضى‬
‫بنفسه‪،‬‬
‫معا للمرة األولى بعد مغادرة الثانوية‪ ،‬ضحكنا على كل كلمة‬ ‫أخيرا ً‬
‫لكنه أمر ممتع‪ ،‬تجمع سبعتنا ً‬
‫معا كانت مبهجة وحماسية بالرغم من أننا لم نقل ولم نفعل الكثير‪ ،‬أردت تكرار يوم‬‫وكل ذكرى‪ ،‬كل دقيقة ً‬
‫ً‬
‫مجددا‪.‬‬ ‫كهذا‪ ،‬اليوم الذي التقينا فيه وضحكنا ً‬
‫معا‬
‫ً‬
‫مندفعا أمام باب المشفى‪،‬‬ ‫" يا‪ ،‬تلك الليلة‪ "...‬جونغكوك استهل حديثه بينما غادرنا المصعد‬
‫تحديقته كانت موجهة إلى شيء في الخارج‪ ،‬لم يبدو أنه ينظر إلى شيء محدد‪ ،‬كان يرمش بعينيه فحسب‬
‫كمحاولة حفر في ذكريات قديمة‪ " ،‬هل تحدث سوكجين عن تلك الليلة؟ أنا أعني هل قال بأنه شاهدني‬
‫ً‬
‫مجددا‪.‬‬ ‫أو‪...‬؟" توقف جونغكوك عن الحديث "سوكجين؟ رآك أنت؟ أين؟" سألته لكنه لم يفتح فمه‬
‫"أنت شخص جيد صحيح؟" سألني جونغكوك ذلك قبل افتراقنا‪" ،‬توقف عن الحديث بكالم‬
‫ُ ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫مودعا‪ ،‬وبسرعة أدرت خطاي‪ ،‬هل أنا شخص جيد؟ ناضج‪ ،‬كنت‬ ‫فارغ" ربت على كتفه بلطف ولوحت له‬
‫ً‬ ‫طفال ً‬ ‫ً‬
‫ومرحا‪ ،‬اعتدت على قول أني حساس ومؤثر‪ ،‬هل ذلك يعني أني شخص‬ ‫المعا‬ ‫سأقول ذلك‪ ،‬لقد كنت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جيد‪ ،‬لم أفكر في ذلك مسبقا‪ ،‬نظرت للخلف ورأيته مازال واقفا أمام المدخل يبحث في السماء الغائمة‪.‬‬

‫~‪~94‬‬
‫سوكجين‬
‫الرابع والعشرون من يوليو العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫تبعت والدي إلى غرفة المؤتمرات ُ‬
‫المضاءة ثم جلست على كرسي بقرب الباب ونظرت حولي‪ .‬لم‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫بوجوه مألوفة‪ .‬نظرت‬
‫ٍ‬ ‫جلس والدي في المنتصف وكان محاطا‬ ‫أكن متأكدا من سبب استدعائي إلى هناك‪.‬‬
‫ُ‬
‫إلى الساعة‪ .‬ال بد من أن حفلة خروج جونغكوك من المشفى قد بدأت بالفعل‪ .‬كنت على وشك االتصال‬
‫ً‬
‫باآلخرين عندما فتح والدي فمه وخيم السكون على الغرفة بأكملها‪ ،‬ومع أن الجو كان ثقيال إال أنني لم أشعر‬
‫ً‬
‫بأنه مشؤوم‪ .‬عوضا عن ذلك‪ ،‬كانت الغرفة تضج بالحماس والتوقعات‪ .‬انطفأت األنوار وظهر عنوان المؤتمر‬
‫على الشاشة‪ ،‬الخطة الرئيسية إلعادة تطوير مركز مدينة سونغجو‪.‬‬
‫ً‬
‫اتصل بي والدي فجأة‪ .‬على األصح‪ ،‬السكرتيرة الخاصة به هي من اتصلت بي فأخبرتها بأن لدي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫موعد لكنني علمت أن هذا لن ينجح‪ .‬سألني أبي في السيارة بينما كنا في طريقنا إلى هنا إن كنت ما أزال‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫أتسكع مع هؤالء الذين ُيسمون بأصدقائي‪ .‬لم أجبه ألنه لم يسأل سؤاال بل كان يقلل من شأنهم ويؤنبني‬
‫على توافقي معهم ويأمرني بقطع عالقاتي بهم‪.‬‬

‫حتى أنه لم ينظر إلي‪" .‬ال تضيع وقتك على ال شيء‪ ،‬أخبرك بهذا عن تجربة‪ .‬باإلضافة لهذا‪ ،‬عليك‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫كثيرا لذا حاول أن تتعلم بقدر المستطاع‪ .‬حينها ستنضج لتكون ش ً‬
‫المساعدة هنا ً‬
‫خصا راشدا وكفؤا"‪.‬‬

‫~‪~95‬‬
‫جيمين‬
‫الرابع والعشرون من يوليو العام الثاني والعشرون‬

‫تم تزيين ما بداخل القاطرة بالكامل‪ .‬على الطاولة وضع البرغر‪ ،‬البطاطا والمشروبات التي اشتراها‬
‫هوسوك‪ ،‬زينة عيد الميالد معلقة على الجدران‪ .‬وجونغكوك يجلس بالمنتصف‪.‬‬

‫ُملئت ث الثة كؤوس وحسب‪ ،‬فهوسوك قد غادر لوظيفته الجزئية بعد وضع الطعام‪ ،‬نامجون يعود‬
‫أت لكنه لم‬ ‫بوقت متأخر بعدما يفرغ من دوامه الجزئي‪ ،‬ال أحد بإمكانه إمساك يونغي‪ ،‬سوكجين قال أنه ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫تاح في قاطرة نامجون؟ كنت قد جررته إلى هنا تقريبا‪،‬‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫غير‬ ‫ال‬
‫ز‬ ‫أما‬ ‫يظهر بعد‪ ،‬وتايهيونغ يجلس بصمت‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫لكن كان ُمحاال إضفاء الحيوية عليه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫بدونا هكذا معظم الوقت منذ عودتنا من الشاطئ‪ ،‬لم يتواصل أحد مع اآلخرين أوال‪ ،‬لم يك أحدا‬
‫نعد أولئك الطالب الذين يتخطون المدرسة‬ ‫أمرا ال مفر منه‪ .‬فلم ُ‬
‫منا على علم بما يفعله اآلخرون‪ .‬ربما كان ً‬
‫أكوام من المشاكل وااللتزامات‪ .‬ال يمكننا تجاهلها لمجرد أننا أردنا أن نكون‬‫ٌ‬ ‫للتسكع ً‬
‫معا‪ .‬جميعنا اآلن لدينا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫معا‪ .‬بالنسبة لي‪ ،‬حري بي العمل جاهدا إلبقاء نفسي خارج المستشفى وتقرير ما إذا كنت سأعود إلى‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫لوالدي‪ ،‬وكذلك لنفسي‪ ،‬أنني بخير‪ .‬والتأكيد أني لن أكون عبئا على أي‬ ‫المدرسة‪ .‬اضطررت أن أثبت‬
‫شخص‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مترددا‪ .‬أمسكت به وأخبرته أن َ‬
‫لوقت أطول قليال‬
‫ٍ‬ ‫يبق‬ ‫ِ‬ ‫بعد مرور بعض الوقت‪ ،‬وقف جونغكوك‬
‫ً‬
‫ويقابل نامجون‪ .‬ضحك جونغكوك وحسب‪ ،‬قال أنه سيفعل الحقا‪ .‬لم أستطع إبقاؤه هناك‪ .‬قمنا بتنظيف‬
‫الطاولة وغادرنا القاطرة‪ .‬شغلنا مصابيح هواتفنا‪ .‬كانت العاشرة والنصف‪ .‬افترقنا أمام القاطرة‪ .‬وأثناء عبوري‬
‫للسكة الحديدية وانتظاري لوصول الحافلة‪ ،‬كان بإمكاني مشاهدة جونغكوك وتايهيونغ يبتعدان أكثر وأكثر‬
‫مع إضاءة مصابيحهم‪.‬‬

‫~‪~96‬‬
‫تايهيونغ‬
‫الرابع والعشرون من يوليو العام الثاني والعشرون‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬


‫قاطعا ثالثة وأربعة درجات في آن واحد‪ .‬كانت زجاجات الخمر تتدحرج هنا‬ ‫هرعت صاعدا الدرج‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وهناك‪ ،‬واألكواب والصحون متناثرة على األرض‪ .‬سقط أبي أرضا في إحدى الزوايا خافضا رأسه‪ .‬قالت‬
‫أختي أن األمر لم يكن مثلما توقعت حتى قبل أن أفتح فمي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫"ارتفع صوت أبي قليال وال بد أن أحدهم اتصل بالشرطة معتقدا أنه كان يضربنا" بعد ذلك رأ يت‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ومشين بعيدا بينما استمرت شقيقتي‬ ‫رجال الشرطة ونقرتنا نساء الحي اللواتي اجتمعن أمام بابنا بألسنتهن‬
‫باالعتذار واالنحناء لرجال الشرطة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫"لم ُيكسر شيء ولم ُيصب أحد باألذى" لم يتوجب علي الشعور بالخجل بسبب هذا الوضع‪،‬‬
‫ُ‬
‫فعادة أبي بالشرب كانت حديث الحي منذ مدة طويلة‪ ،‬لكنني مع ذلك‪ ،‬أشحت بنظري لالتجاه اآلخر‪ .‬بدا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بأن والدي قد غط في النوم‪ .‬كان وجهه محترقا بالشمس ومغطى بلحية كثيفة لكونه عامال في موقع بناء‬
‫ً‬
‫رماديا أكثر من السابق واستطعت رؤية الجزء الداخلي المبتل من فمه ولسانه‪.‬‬ ‫في النهار‪ .‬امتلك ً‬
‫شعرا‬
‫ُ‬
‫كنت أقتل أبي في أحالمي وفي إحدى المرات‪ ،‬كدت أن أطعنه في الواقع‪ .‬ربما ابتدأ األمر من ذلك‬
‫الوقت لكني بدأت أتعاطف معه وكرهت نفسي لتعاطفي معه‪ .‬أيمكن أن يسمى ذلك الشخص بالوالد؟‬
‫ً‬
‫هو ليس مؤهال ليكون ًأبا‪.‬‬
‫ُ‬
‫ربت أحدهم على كتفي ونظرت للوراء ألجد الوجه المألوف لرجل شرطة الذي تم إرساله إلى‬
‫منزلي عدة مرات في السابق وكذلك رأيته في مركز الشرطة عندما تم استدعائي بسبب رسمي على‬
‫ُ‬
‫الجدران‪ .‬حنيت رأسي لألسفل وحسب‪ .‬كانت إيماءة تعني "أنا آسف" لجعلهم يهرعون بالمجيء إلى هنا‬
‫ً‬
‫بال سبب‪ .‬باإلضافة لذلك‪ ،‬لم أكن متأكدا من التعبير الذي يجب أن يظهر على وجهي‪" .‬ال بد من أن‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫كثيرا‪ .‬لم تبد السيدة التي بلغت عن هذا منزعجة على اإلطالق وطلبت منا مر ًارا‬
‫الجيران يقلقون بشأنكما ً‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫وتكر ًارا المجيء بسرعة قبل أن يصاب أحد باألذى‪ ،‬لذا احرص على العثور عليها وشكرها الحقا" سألته ّ‬
‫عما‬
‫ً‬
‫إن كان صوتها منخفض وأجش لكنه لم يستطع التذكر بالتحديد وأخبرني أن ذلك كان ممكنا‪ .‬أدارت‬
‫أنت على اتصال بوالدتي؟"‬ ‫شقيقتي التي كانت تتحدث إلى ضابط آخر من الشرطة وجهها لتنظر إلي‪" .‬هل ِ‬
‫سألتها بعد مغادرة الجميع‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫كانت تنظف الزجاجات والصحون المتناثرة على األرض وجلست متكئا على الحائط بينما بقي‬
‫ً‬
‫سوداء‬ ‫نائما بتلك الوضعية الغير مريحة‪ .‬غربت الشمس بالفعل وكانت النافذة التي تعلو رأس والدي‬ ‫والدي ً‬
‫ً‬
‫قاتمة‪ .‬نهضت شقيقتي وجلست عند طاولة الطعام دون قول أي شيء لكن صمتها بحد ذاتها كان كفيال‬
‫فسألتها عن عنوان والدتي ورقم هاتفها‪.‬‬ ‫ُ‬
‫باإلجابة‬
‫"ال أعرف رقمها لكنني أعلم بأنها تسكن شقة مؤجرة في بوكغو‪ ،‬مونهيون‪ .‬تايهيونغ‪ ،‬لماذا تريد‬
‫االتصال بها؟" سألتني‪.‬‬
‫مجددا" جلست شقيقتي بجانبي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫"ألسألها‪ .‬ما الذي كانت تفكر به‪ .‬لماذا غادرت‪َ ،‬‬
‫ولم ظهرت‬
‫ضحكت باستهزاء ونهضت‪ .‬كان من الواضح عدم إدراكها لمدى غضبي‪.‬‬ ‫ُ‬
‫"تايهيونغ‪ ،‬أمي تشتاق إليك"‬
‫أخبرتها بأني سأسأل والدتي هذه األسئلة لكن لم يراودني الفضول تجاه إجاباتها‪ .‬كيف قد تساعدني معرفة‬
‫سبب مغادرتها؟ كل ما أردته هو تحرير حقدي الدفين‪" .‬لماذا أتت إلى هنا؟ هي التي تركتنا واآلن تود لعب‬
‫دور األم؟"‬

‫~‪~97‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫بدأت بالسير شماال باتجاه مونهيون‪ ،‬محاوال التغلب على خفقان قلبي بخطواتي‪ .‬كانت هذه‬
‫ُ‬ ‫الطريقة الوحيدة ألكون ً‬
‫قادرا على التنفس‪ .‬تجاوز الوقت منتصف الليل بالفعل وتوقفت الحافالت عن‬
‫العمل ولم أملك المال الكافي لسيارة أجرة ما جعل السير خياري الوحيد‪ .‬ألصل إلى هناك‪ ،‬كان علي عبور‬
‫قادرا على الوصول إلى هناك قبل شروق الشمس‪.‬‬ ‫سكة الحديد والجسر ومركز المدينة كذلك‪ .‬قد أكون ً‬
‫شعرت بخطوات أحدهم ورائي عند عبوري السكة الحديدية‪ .‬كان جونغكوك يتبعني‪.‬‬ ‫ُ‬

‫كضت إلى منزلي إثر رؤيتي لسيارة الدورية أمامه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نسيت وجود جونغكوك معي عندما ر‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫"ابتعد!" صرخت بجونغكوك ومشيت دون النظر للوراء‪ .‬ال شك بأنه رأى كل شيء‪ .‬الشرطة‪،‬‬
‫ً‬
‫الجيران ينقروننا بألسنتهم‪ ،‬زجاجات الخمر تتدحرج‪ ،‬أبي يشخر وشقيقتي مطأطأة لرأسها‪ .‬ال بد من أن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جونغكوك رأى كل ذلك‪ .‬لم أخبر أحدا من قبل بشأن عنف والدي على اإلطالق‪ .‬ولم أخبر اآلخرين أبدا أن‬
‫ُ‬
‫والدتي قد هربت‪ .‬لم يكن بسبب كبريائي‪ ،‬وربما كان كذلك لكن لم يكن من العدل أن أجبر على شرح‬
‫ظرفي اليائس وحياتي بنفسي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أخيرا من المنطقة السكنية وصعدت سلم عبور المشاة فوق‬ ‫سارعت خطاي‪ .‬كنت قد خرجت‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أيت جونغكوك‪.‬‬ ‫آت من الخلف‪ .‬ألقيت نظرة خاطفة ور‬ ‫خطوات ٍ‬
‫ٍ‬ ‫السكة الحديدية عندما سمعت صوت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يخصني‪ .‬خطوت على الجسر‬ ‫ّ‬ ‫كنت سأصرخ ألسأله عن سبب لحاقه بي لكني َعدلت عن ذلك فاألمر ال‬
‫توقفت في منتصف الجسر ً‬
‫ناظرا للنهر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫مستمرا باللحاق بي‪.‬‬ ‫بعد عبوري السكة الحديدية وكان جونغكوك‬
‫ً‬
‫وسط سكون الليل‪ ،‬كانت الطرق والمباني منارة بخفة بأضواء الشارع لكن النهر لم يكن كذلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫بصوت مدوي وبدا أكثر خطورة ألنه لم يكن قابال للتمييز في‬ ‫ٍ‬ ‫قدمي‬ ‫تحت‬
‫ِ‬ ‫بعنف من‬
‫ٍ‬ ‫جرى النهر األسود‬
‫الظالم‪ .‬وقف بجانبي جونغكوك ونظر بدوره إلى النهر‪ .‬كنا فقط نحن االثنين على الجسر‪ .‬ال مشاة‪ ،‬وال‬
‫ّ‬
‫سيارات‪ .‬وكانت قمصاننا مبتلة بالعرق ترفرف بسبب الرياح‪" .‬هل تعلم بأننا كنا نمشي لمدة ساعة؟" لوح ت‬
‫جنبا إلى جنب‪" .‬أيمكنني أن أسأل إلى أين نحن ذاهبان؟" أخبرته‬ ‫لجونغكوك فاقترب مني وبدأنا بالسير ً‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫شيئا ما فأومأ جونغكوك برأسه‪.‬‬ ‫ذاهبا إلى منزل والدتي إلخبارها‬ ‫بأني كنت‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وتساءلت ّ‬
‫ذاهبا إلى منزل والدتي‪ .‬فأنا لم أعرف مكان سكنها‬ ‫عما إن كنت‬ ‫باتت خطواتي أبطأ‬
‫أنو الوصول إلى مجمع الشقق السكنية‪ .‬تنحى غضبي في غضون ساعة و‬ ‫وجهلت رقمها وعنوانها ولم ِ‬ ‫ُ‬
‫استبدل بالجوع واأللم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ات ال تحصى بالفعل لكن الخطوة‬ ‫تخيلت كيف سيكون لقائنا‪ .‬بصراحة‪ ،‬كنت قد تخيلته لمر ٍ‬
‫ً‬
‫جميعا؟ وإن‬ ‫التالية هي التي كانت ُمبهمة‪ .‬بعد أن أسأل والدتي أسئلتي‪ ،‬ماذا ستقول؟ هل ستجيب عنها‬
‫ً‬
‫جميعا أال ألتقي بها‪ ،‬هذا هو‬ ‫فعلت أو لم تفعل‪ ،‬كيف علي أن أتصرف؟ ربما سيكون من األفضل لنا‬
‫ً‬
‫استنتاجي لكنني استمريت بتخيل اللحظة وها أنا أجول الشارع ليال بال نية لرؤيتها‪.‬‬
‫ُ‬
‫"هل ساقك بخير؟" بعد التفكير باألمر‪ ،‬تذكرت أن جونغكوك أزال جبيرته للتو وأنا جعلته يمشي‬
‫ً‬
‫كنوع من إعادة التأهيل" أظهر لي جونغكوك ابتسامة وسبقني كما‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫لساعات‪" .‬أخبرني الطبيب بأن أمشي ٍ‬
‫لو أنه أراد إثبات األمر لذا لم استطع إخباره بأن علينا التوقف هنا وقررت االستمرار بالمشي متثاقال‪" .‬ألست‬
‫جائعا؟" عندما هدأت أعصابي‪ ،‬رجعت إلي أحاسيسي بقوة‪" .‬إنني أندم على عدم إنهائي الكعكة وذلك‬ ‫ً‬
‫ُ‬ ‫كلمات جونغكوك‪.‬‬ ‫ُ‬
‫البشر إما أقوياء بسخافة أو ضعفاء بسخافة ونحن كنا الدليل‬ ‫ِ‬ ‫الهامبرغر" قهقهت بسبب‬
‫معا حتى في هذا الوضع‪.‬‬ ‫نشعر بجوع شديد ونتذمر من ألم سيقاننا ونضحك ً‬ ‫ُ‬ ‫على ذلك‪-‬‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫وشدة وسرعان ما َ‬ ‫ً‬
‫ظهر شارع مزدحم أمامنا‪ .‬كنا في أوج الليل لكن الشارع‬ ‫باتت األضواء أكثر إشراقا‬
‫ً‬
‫صباحا‪ .‬جلسنا على طاولة‬ ‫المنار بشدة كان يعج بالناس والسيارات ّ‬
‫المارة‪ .‬كانت الساعة الثالثة والنصف‬ ‫ُ‬
‫خارجية لمتجر بقالة‪ .‬قال جونغكوك أنه يشعر بالعطش عندما أكلنا حوالي نصف أكواب النودلز الخاصة‬

‫~‪~98‬‬
‫ً‬
‫موجها لي‪ ،‬لم استطع رؤية من يكون‬ ‫بنا‪ .‬عندما عدت‪ ،‬كان أحدهم يقف أمام جونغكوك وألن ظهره كان‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ينظر إليه بقلق فهرعت إلى جانب جونغكوك ونظرت للرجل الذي كان‬ ‫أو ما يفعل لكن جونغكوك كان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يرتدي معطفا داكنا من الكاكي في منتصف الصيف‪ .‬كان شعره الرمادي أشعث وكثيف ومتسخ‪ ،‬ولحيته‬
‫الرثة ملطخة بحساء الرامين‪ .‬كانت تفوح منه رائحة الكحول وكان يلتهم النودلز خاصتي بجشع‪ .‬لم يكن‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫غاضبا‪ .‬بصراحة‪،‬‬ ‫مغزى من سؤاله عن هويته أو سبب أكله للنودلز خاصتي‪ .‬تفاجأت لكني لم أكن‬ ‫هناك‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫كنت خائفا‪.‬‬

‫شخص من مجموعة مسببي المشاكل الخارجين من متجر البقالة بدفع‬ ‫ٌ‬ ‫في تلك اللحظة‪ ،‬قام‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫شخص آخر يتعثر‪ .‬فقد الرجل ذو المعطف الطويل توازنه ودفع الطاولة عند سقوطه‬ ‫كتف الرجل وجعله‬
‫ً‬
‫أرضا‪ .‬انقلب كوب النودلز الخاص بجونغكوك وانسكب الحساء على ساقيه فوثب جونغكوك على قدميه‬
‫ً‬
‫وأبعده عن بنطاله بعجالة قائال إنه بخير وأن الحساء لم يحرقه لكونه برد بالفعل‪.‬‬
‫ّ‬
‫غادر األشقياء ضاحكين بينما حدق الرجل ذو معطف الكاكي بالكوب المقلوب وكانت أصابعه‬
‫على الطاولة مغطاة بالنودلز‪ .‬لم استطع سؤاله إن كان بخير‪" .‬أليس عليكم االعتذار؟ لقد سببتم هذه‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫الفوضى" صرخت بالرجال الذين نظروا للخلف‪" .‬ال لم نفعل‪ ،‬هو من فعل ذلك‪ .‬ولم يجبركم أحد على‬
‫ٌ‬
‫الجلوس هنا‪ .‬أوغاد صغار في الخارج في هذه الساعة" شتم الرجال بفظاظة ونظر الرجل ذو المعطف إلي‬
‫والتقت عيوننا في الفراغ‪.‬‬

‫بشخص ما‪ ،‬شخص يشرب‬ ‫ٍ‬ ‫ببقع داكنة‪ .‬ذكرني الرجل‬


‫ٍ‬ ‫عيناه كانتا صفراوان وكان وجهه مغطى‬
‫ويلوح بقبضتيه على كل شيء ويعيش كدكتاتور فاشل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حدث ما توقعت حدوثه‪ .‬رميت بنفسي على الرجال وقام اثنان منهما بلكمي‪ .‬تمكنت من تجنب‬
‫ً‬
‫اللكمة األولى لكن الثانية خدشت ذقني‪ .‬تدخل جونغكوك ليوقفني لكن انتهى به األمر متورطا في‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫المشاجرة كذلك‪ .‬قلبت الكراسي والطاوالت البالستيكية وتم ركل إشارة "ممنوع الوقوف" أرضا‪ .‬اتصل‬
‫ً‬
‫عامل المتجر بالشرطة بالفعل كما لو كان معتادا على حدوث أمور كهذه‪ .‬سمعنا صوت صافرة اإلنذار بعد‬
‫دقيقة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫جميعا على أقدامنا وركضنا باتجاهات متعاكسة بينما صرخ ٌ‬
‫ً‬
‫كل منا على اآلخر بأنه محظوظ‬ ‫ٍ‬ ‫وثبنا‬
‫بالنفاذ هذه المرة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫كنت أجيد الهرب بالتحديد‪ ،‬وأحيانا كنت أتعمد أن أدعهم يمسكوا بي‪ ،‬لكن هذا لم يكن أحد تلك‬
‫األوقات‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫واصلت الجري لألمام بحرص على كون جونغكوك ً‬
‫قادرا على مجاراتي‪ّ .‬‬
‫مرت سيارة فضية اللون‬
‫ً‬
‫بجانبنا بأقصى سرعة والمست مرآتها الجانبية جونغكوك الذي سقط أرضا إثر صدمته‪ .‬قد غادر جونغكوك‬
‫ً‬
‫المشفى للتو بعد شهرين بسبب حادث سير فكان من الطبيعي أن يشعر بصدمة‪ .‬توقفت السيارة مصدرة‬
‫ً‬
‫صوت صرير وأخرج أحد الرجال الذين ضربونا مسبقا رأسه من نافذة الراكب األمامية‪" .‬توخيا الحذر فنحن‬
‫سنترككما تذه بان هذه المرة وحسب‪ ،‬لكننا لن نرحمكما في المرة القادمة" واختفت السيارة مع هدير‬
‫المحرك‪.‬‬
‫ً‬
‫نهض جونغكوك ببطء ُممسكا بيدي‪ .‬بدا بأنه غير مرتاح‪ .‬ال شك بأنه آذى ساقه عند سقوطه‪.‬‬
‫آلمني فمي من الداخل وتلطخ ظهر يدي بالدماء عندما مسحت فمي به‪" .‬إلى أين علينا الذهاب؟" سألني‬
‫جونغكوك‪" .‬مع ساقك هكذا؟ سنعود أدراجنا" بدأ جونغكوك بالمشي وقال بأنه بخير‪" .‬انظر! أنا بخير"‬
‫وشاهدت جونغكوك يسحب ساقه من الخلف‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وقفت مكاني‬

‫~‪~99‬‬
‫تفقدت هاتفي‪ ،‬كانت الساعة الرابعة وخمسون دقيقة ً‬‫ّ‬
‫فجرا‬ ‫"لنعد أدراجنا!" صرخت بجونغكوك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ ً‬ ‫ُ‬
‫مما يعني أننا امتلكنا بعض الوقت لنضيعه قبل مجيء أول حافلة‪ .‬نظرت حولي ووجدت تال منخفضا وراء‬
‫المقاطعة الترفيهية‪" .‬هل سبق أن رأيت شروق الشمس؟"‬
‫ُ‬
‫سندت جونغكوك بينما صعدنا التل وانحنيت أسفل الدرج في نهاية منحدر خفيف‪ُ .‬يقال أن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صحيحا‪ .‬لم يكن هناك أثر للنجوم في‬ ‫السماء تكون في أكثر حاالتها ظلمة قبل الشروق مباشرة وكان ذلك‬
‫السماء السوداء الحالكة لكن إشارات النيون بمختلف األشكال واأللوان كانت تشع بأضواء براقة في المدينة‬
‫ُ‬
‫نظرت باتجاه الشمال ّ‬
‫وخمنت أن ذلك هو الحي الذي تسكنه والدتي‪ .‬هناك‪ ،‬ال بد من أنه هو‪ .‬ال بد‬ ‫تحتنا‪.‬‬
‫من أنها تأكل وتنام وتنظف في تلك الشقة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫"جونغكوك‪ ،‬تبعت والدتي حينها" حدق بي جونغكوك لكنني ركزت على الضوء المنبعث من‬
‫نوافذ الشقق السكنية‪ .‬في ذلك الوقت‪ ،‬في تلك الليلة‪ ،‬في تلك الليلة قبل ‪ ١3‬سنوات عندما غادرت‬
‫ضربا ً‬
‫مبرحا وبكينا حتى غفونا‪.‬‬ ‫والدتي المنزل‪ .‬تلك الليلة التي قام بها والدي بضربنا أنا ووالدتي وشقيقتي ً‬
‫ً‬
‫لم أذكر سبب ضربه الشديد لنا لكنني أذكر بالتحديد التفكير بأن علي الذهاب للسباحة مع رفاقي غدا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫واعتقادي أن والدتي لن تكون قادرة على حزم غدائي من أجلي‪ .‬هل ستشفى شفتي المجروحة غدا؟ ألنهم‬
‫سيسخرون مني لو لم تفعل‪ .‬كان كتفاي يؤلمانني‪ .‬لم يتوجب علي محاولة تفادي لكماته‪ .‬كانت شقيقتي‬
‫ً‬
‫تنتحب بهدوء وكان سماع هذا مقلقا أكثر اليوم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫بينما كنت نصف نائم‪ ،‬الحظت والدتي واقفة عند قدمينا ناظرة إلينا‪ .‬كانت ستغادر‪ ،‬كانت‬
‫ُ‬ ‫فورا‪ .‬تظاهرت بكوني ً‬ ‫ستهجرنا‪ ،‬عرفت هذا ً‬
‫نائما ثم نهضت وتبعتها‪ .‬لم أملك أي خطة‪ .‬لم أفكر بالعيش‬
‫معها ولم أشعر بالحزن أو الخوف‪ .‬ما هو شعور عدم امتالك أم؟ وكيف ستكون الحياة من دون واحدة‪-‬لم‬
‫أمرا يمكن فهمه وحسب‪.‬‬ ‫يكن هذا ً‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫مشيت طول الليل لكن ال بد من أن ذاكرتي مبالغ بها ً‬
‫نظرا لكوني طفال‬ ‫تبعتها لمدة‪ .‬في ذاكرتي‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صغيرا آنذاك‪ .‬لم تنظر خلفها وال حتى لمرة واحدة‪ .‬أكانت تجهل حقا حقيقة لحاقي بها؟ أو ربما كانت‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫تبذل جهدها لتبقي عينيها لألمام خوفا من أن تجبر على أخذي معها لو نظرت للخلف‪" .‬بالطبع راودتني‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫هذه الفكرة الحقا‪ ،‬عندما عانيت ألفهمها‪ .‬أما اآلن؟ ال أعرف سبب قطعي كل هذه المسافة"‬
‫ّ ُ‬ ‫ُ‬
‫"أنت" نظرت لألعلى بسبب صوت جونغكوك‪" .‬أنا آسف" حدقت به‪" .‬ما الذي أنت آسف‬
‫بشأنه؟ لماذا تتأسف؟" "لم تستطع الذهاب لوالدتك بسببي" أجابني جونغكوك‪.‬‬
‫غضبا‪ .‬لم أتعمد فقدان سيطرتي على أعصابي لكن صوتي ارتفع ً‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫رغما‬ ‫"هل أنت أحمق؟" انفجرت‬
‫ُ‬
‫عني واستمر لساني بالتلعثم لكوني لم أجد الكالم ولم أعرف كيفية التعبير عن مشاعري‪" .‬لماذا تشعر‬
‫باألسف؟ يجب أن يتأسف الناس منك‪ .‬ما الخطأ الذي ارتكبته؟ أنا يجب أن أتأسف لجلبك إلى هنا‪ .‬يجب‬
‫أن يتأسف والداي اللذان جعالني أجلبك إلى هنا‪ ،‬يجب أن يتأسف اولئك الشبان الذين افتعلوا الشجار‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫معنا أوال" واصلت رفع صوتي‪" .‬أنت شخص جيد‪ ،‬أنت شخص جيد بقدر استطاعتك‪ .‬الذنب ليس ذنبك‪،‬‬
‫الذنب ليس ذنبك!"‬
‫السماء التي بدا بأنها ستبقى سوداء قاتمة لألبد‪ ،‬بدأت تتحول إلى اللون األزرق بغمضة عين‪.‬‬
‫امتص النور الذي تخلل إلى السماء من األفق البعيد لمعان إشارات النيون وشاهدنا شروق الشمس بصمت‪.‬‬
‫ً‬
‫ارتفعت الشمس الحمراء الساخنة فوق مجمع الشقق السكنية‪ .‬هل تشاهد والدتي الشروق أيضا؟‬
‫جلس كالنا بجانب بعض في الجزء الخلفي من الحافلة في طريق عودتنا إلى المنزل قبل بزوغ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫الفجر فوقنا‪ .‬كان الطريق فارغا وتابعت الحافلة السير‪ .‬أدرت رأسي ونظرت باتجاه الشمال مجددا‪ .‬في تلك‬
‫الليلة‪ ،‬توقفت والدتي‪ ،‬وقفت مكانها بدون أن تتحرك لفترة من الزمن لكنها لم تنظر للخلف كذلك‪ .‬لو‬

‫~‪~100‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫التمسك بها وسؤالها إلى أين تذهب‪ ،‬أين كانت تتجه‬ ‫كنت تابعت السير حينها لوصلت إليها‪ .‬الستطعت‬
‫ً‬
‫تاركة إيانا ومتى كانت ستعود‪ .‬كان يمكن أن أبكي وأصاب بنوبة غضب وربما أعيدها إلى المنزل‪ .‬لكنني‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫استدرت وعدت إلى المنزل‪ .‬كان جسدي بأكمله يؤلمني ولم استطع مرافقة اآلخرين للسباحة‪ .‬استلقيت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أرضا وأنا أتعرق وأحاول النوم جاهال للسبب‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫"إنه ذلك الرجل مجددا" بعد سماعي لصوت جونغكوك‪ ،‬نظرت خارج النافذة ورأيت رجال‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫طأطأ الرأس بينما يمشي وحيدا‪.‬‬‫بمعطف طويل من الكاكي م ِ‬

‫~‪~101‬‬
‫االجتاه حيث‬
‫تشرق الشمس‬

‫~‪~102‬‬
‫هوسوك‬
‫الخامس والعشرون من يوليو العام الثاني والعشرون‬

‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬


‫متوجها إلى غرفة‬ ‫صادفت يونغي في طريقي للذهاب إلى غرفة التدريب عائدا من المشفى‪ .‬كنت‬
‫ال تدريب بال وعي مني لذا توقفت‪ ،‬ما الذي بمقدوري فعله هناك؟ فكاحلي غدا أسوأ والضمادة الناعمة تم‬
‫ّ ُ‬ ‫ً‬
‫استبدالها بجبيرة حقيقية من الجبس‪ ،‬وبخني الطبيب قائال "عليك أال ترهق كاحلك "‪ ،‬لكني ال أستطيع‬
‫الجلوس أثناء عملي في مطعم البرغر والعديد من األشياء تحصل في غرفة التدريب كذلك‪" .‬عليك أن‬
‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬
‫حذرا جدا" واصل الطبيب‬ ‫بشكل دائم إن لم تكن‬
‫ٍ‬ ‫حذرا جدا مع كاحلك‪ ،‬فقد أصيب آنفا وسيتضرر‬ ‫تكون‬
‫ات عديدة‪.‬‬
‫قول هذا لي مر ٍ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫بلغت الطريق الرئيسي المؤدي إلى منزلي مستندا على عكازي‪ ،‬لم تسبق لي العودة للمنزل في‬
‫ً‬
‫ثمال ومتر ً‬ ‫يوما ألي سبب خاص‪ .‬رأيت يونغي ً‬ ‫أفوت التدريب ً‬ ‫مثل هذه الساعة المبكرة‪ ،‬لم ّ‬
‫نحا‬ ‫وجها لوجه‪،‬‬
‫وثبت ناظري على عالمة "السير"‪ .‬بعد‬ ‫مر بجواري‪ ،‬أدرت رأسي ّ‬ ‫علي عندما ّ‬‫على منطقة العبور لم يتعرف ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫يومين زرت جونغكوك في المشفى‪ ،‬وحري بي أن أزور يونغي في مقر عمله ألنه لم يجب على مكالماتي‪،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫صباحا قبل ذهابي الى تو ستارز برغر‪ ،‬قرعت على‬ ‫لذا ذهبت إلى ورشة عمله فحسب‪ .‬ال ُبد أن الوقت كان‬
‫الباب فلم ُيجبني أحد‪ .‬تدفق صوت الموسيقى الخافت عبر الباب ففكرت باالتصال به ً‬
‫ثانية لكني‬
‫ً‬
‫استسلمت وركلت الباب بدال من االتصال‪.‬‬

‫أعرف يونغي منذ المدرسة المتوسطة‪ ،‬أعرف كيف ت وفيت والدته وكيف أثرت وفاتها عليه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ومعاناته منذ ذاك الحين‪ ،‬حاولت أن أقدم العزاء له وأصبح صديقا ُيعتمد عليه‪ ،‬ضحكت على كلماته‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫جميعا غير ذي أهمية بالنسبة‬ ‫الجارحة لي وكنت أصطحبه للتسكع رغم اعتقاده بأني شخص مزعج‪ ،‬كنا‬
‫ّ‬
‫استثناء‪ .‬بكل تأكيد ال ُبد بأنه يعلم ما الذي كان يعنيه‬‫ً‬ ‫له لذا اعتقدنا بأن جونغكوك على األقل سيكون‬
‫يأت للمشفى‬ ‫بالنسبة لجونغكوك‪ ،‬وبال شك قد سمع عن حادث جونغكوك بالفعل من جيمين‪ ،‬لكنه لم ِ‬
‫واألسوأ من ذلك هو ادعاء امرأة بأنها شريكته في الموسيقى‪ ،‬ظهرت من العدم قبل عدة أيام وأخبرتني بأنها‬
‫وجدتني بعد أن سألت الجميع عني‪ .‬قائلة بأنها لم تكن قادرة على االتصال به‪.‬‬
‫قطعت منطقة العبور ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫أجر نفسي‪ ،‬تلفت‬ ‫تبدلت إشارة المرور للون األخضر معلنة بدء السير‪،‬‬
‫ّ‬
‫للوراء بينما كنت أحث الخطى‪ ،‬حاولت أال ألتفت لكن لم أستطع كبح ذلك‪ .‬استلقى يونغي في الشارع أمام‬
‫مقطبا جبينه عندما تجاوزه‪" .‬متى ستنفك عن فعل هذا؟"‬ ‫ً‬ ‫سيارة تبيع اإلكسسوارات‪ ،‬صرخ البائع عليه‬
‫فحدق بي بوجه يخلو من أي تعبير‪ " .‬أتظن بأنك الوحيد الذي يعاني من أوقات عصيبة؟ أتظن بأن‬
‫االبتسامة التي أضعها على وجهي أمام اآلخرين ألن حياتي وردية ومشرقة؟ أخبرني‪ ،‬ما الشيء الذي‬
‫ّ‬
‫طواعية رغم سوء سلوكك‬ ‫ً‬ ‫تحملوك‬ ‫ّ‬ ‫ُيزعجك؟ الجميع على علم بمدى براعتك في الموسيقى‪ ،‬كلهم‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫تجاههم‪ .‬نعم‪ ،‬ال ُبد بأنك قاسيت األمرين منذ وفاة والدتك‪ .‬أعلم ذلك لكن ال يمكنك أن تستمر هكذا‬
‫ً‬
‫لألبد‪ ،‬ألن تؤلف الموسيقى؟ أيسعك العيش بدونها؟ ألم يسبق لك أن كنت سعيدا بسببها ولو لمرة واحدة؟‬
‫ً‬
‫جميعا؟ أال‬ ‫لماذا لم تذهب لزيارة جونغكوك؟ أال تعلم ما الذي تعنيه بالنسبة له؟ أال تستطيع رؤيتنا نتألم‬
‫ترى ذلك؟"‬
‫ً‬
‫مستاء ألنني أسير‬ ‫ته خطأه‪ ،‬كنت‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫لم أتعمد دفعه بقوة لكني كنت مستاء للغاية‪ ،‬األمر ليس برم ِ‬
‫ٌ‬ ‫ُ ّ‬
‫العكازات‪ ،‬اإلصابات ال مفر منها لكنه ا مصيرية بالنسبة للراقصين‪ ،‬خلت بأني متيقظ لكن اإلصابة‬ ‫بمساعدة‬
‫ً‬
‫حدثت في لحظة غير متوقعة‪ ،‬إنه خطأي‪ ،‬ال يمكن إلقاء اللوم على أحد سواي‪ .‬علمت بأني سأكون قلقا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مكتئبا وبخالفه سأصاب مرة أخرى‬ ‫ومدركا إلصابة كاحلي في كل مرة أرقص فيها لكن هذا الوضع جعلني‬

‫~‪~103‬‬
‫ً‬
‫مجددا! لم أتمكن من العيش بدون الرقص‪ ،‬تحتم ّ‬
‫علي مواصلة الرقص رغم‬ ‫وكأن هذا نفعني كي ال أصاب‬
‫االكتئاب واإلصابة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫"حان وقت التوقف عن الهرب‪ ،‬لو أردت الهرب مجددا‪ ،‬ال تعد أبدا" قلت ذلك ثم استدرت‬
‫وعبرت الشارع‪" .‬هوسوك" ظننت بأني سمعته يناديني لكن لم ألتفت له‪ً .‬‬
‫دائما ألوم نفسي على كل شيء‬
‫ّ‬
‫وتحمل ذاك‪ ،‬ال أود العيش هكذا بعد اآلن‪.‬‬ ‫سار على نحو خاطئ‪ ،‬اعتقدت ً‬
‫دائما بأن ّ‬
‫علي فعل هذا‬

‫~‪~104‬‬
‫يونغي‬
‫الخامس والعشرون من يوليو العام الثاني والعشرون‬

‫ً‬ ‫ُ‬
‫تلقائيا عندما‬ ‫فتحت عيناي في منتصف الليل‪ .‬كانت السماء تمطر‪ .‬اندلعت الشتائم من فمي‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نهضت من األرض‪ .‬جلست ساكنا لمدة وكان جسدي مبلال بشدة بالمطر وشعرت باالرتجاف والبرد في‬
‫جسدي بأسره‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫"لو أردت الهرب مجددا‪ ،‬ال تعد أبدا" تردد صوت هوسوك في أذناي‪ .‬كل ما استطعت تذكره عند‬
‫مغادرتي لمشفى جونغكوك هو استمراري بالترنح‪ ،‬االرتطام باألشياء‪ ،‬والسقوط تحت سيطرة ثمالتي‪،‬‬
‫صداعي‪ ،‬خوفي ويأسي حتى أنني لم أدرك كم من الوقت قد مضى وأين كنت‪ .‬حينها صادفت هوسوك‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وفي تلك اللحظة شعرت باختناق نصفه من الفرح والنصف اآلخر من االرتياح‪ .‬ولسبب ما آمنت بأنه‬
‫سيقدر على فهم حيرتي وخوفي مع أني لم أفهم نفسي‪.‬‬
‫ً‬
‫لكن هوسوك أشاح بنظره بعيدا وتظاهر بعدم رؤيته لي‪ .‬سرعان ما تغيرت اإلشارة ووقفت مكاني‬
‫ُ ً‬ ‫ً‬
‫أشاهده يمشي بعيدا‪ .‬دفعني أحدهم وسقطت أرضا ثم سمعت الناس يصرخون بي وينقرونني بألسنتهم‪.‬‬
‫"لماذا لم تذهب لرؤية جونغكوك؟ أال تعرف كم تعني بالنسبة له؟" بالطبع علمت وربما كان هذا‬
‫ً‬
‫مشو ًها وشائكا وحتم على كل من اقترب مني أن يصاب باألذى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫سبب عدم قدرتي على دخول غرفته‪ .‬كنت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫رفعت رأسي ونظرت إلى طريق الجبل الكئيب‪ .‬كان هناك اتجاهان حيث استطعت السير إما باتجاه أعماق‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫بدأت السير تجاه الغابة المظلمة‪.‬‬ ‫الجبل أو االستدارة والعودة نزوال‪.‬‬

‫لطالما اعتمدت على الحظ في تفرعات الطرق‪ .‬لم أملك وجهة وفقدت إحساسي بالوقت‪ .‬حينما‬
‫ُ‬
‫كنت أسير في دوائر‪ ،‬شعرت بأن ركبتاي على وشك االنهيار في أي لحظة بسبب البرد القارس واإلعياء‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫مقدرا‬ ‫التقطت أنفاسي بصعوبة وكان قلبي يخفق بشدة‪ .‬ماذا لو انهرت هنا ولقيت حتفي؟ حسنا‪ ،‬لو كان‬
‫ُ ً‬
‫أرضا‪.‬‬ ‫لي أن أموت هنا فسأموت وحسب‪ .‬وقعت‬
‫سقطت قطرات المطر على وجهي وبدا الظالم نفسه في حال فتحت عيناي أو أغمضتهما‪ .‬غرقت‬
‫ُ‬
‫طبقات من الظالم وفكرت بالموت مر ًارا وتكر ًارا بغية بالهرب من المخاوف والرغبات التي استمرت‬ ‫ٍ‬ ‫في‬
‫بمطاردتي‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫أردت الهرب بعيدا عن ذلك الشيء المرعب الذي انجذبت إليه ضد إرادتي ولكني لم أستطع النظر‬
‫ً‬
‫حد إلى آخر‪ ،‬ال بد من أن الوقت قد حان‪ ،‬هذا كان الحل األمثل‪.‬‬
‫إليه مباشرة‪ .‬ذلك األلم الذي دفع بي من ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سببت األلم لآلخرين بينما عانيت من ألم أكبر‪ ،‬أشحت بنظري عن جروحهم ألني لم أرغب بتحمل‬
‫ُ‬
‫المسؤولية‪ ،‬لم أرغب بالتورط معهم‪ ،‬هذا هو الشخص الذي كنت عليه‪ .‬ال بد من أن هذه اللحظة نعمة‬
‫ُ‬ ‫وغبت عن الوعي‪ .‬اختفى ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كل من األلم والبرد واإلعياء وفقدت شعوري بالظالم‬ ‫للجميع‪ .‬رمشت ببطء‬
‫ً‬
‫معتما‪.‬‬ ‫شيء‬ ‫والضوء وما يحيط بي‪ .‬بات كل‬
‫ٍ‬
‫مجددا عند سماعي لصوت بيانو‪ّ .‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫خيم الصمت باستثناء صوت هطول قطرات‬ ‫فتحت عيناي‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫أصوات البيانو الهشة والرقيقة التدفق تجاهي‪.‬‬ ‫المطر وحفيف أوراق الشجر وفي وسط الهدوء‪ ،‬واصلت‬
‫أحدهم يعزف على البيانو في عمق الجبل في منتصف الليل؟ خلتها هلوسة لكن العزف استمر‪.‬‬

‫~‪~105‬‬
‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ابتسمت بتكلف‪ ،‬كان ذلك اللحن‪ ،‬اللحن الذي حاولت جاهدا تذكره‪ .‬ذلك الشيء األساسي الذي‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫كان مفقودا‪ ،‬الذي جعلني أسهر طوال الليالي‪ .‬لماذا كان يعود إلي في هذه اللحظة بالذات؟ ركزت بقوة‬
‫ً‬
‫أكثر لكن اللحن ما زال بعيدا وبالكاد ُيسمع ويقاطعه صوت المطر‪ ،‬بدأت أسعل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حاولت الوقوف لكني توقفت‪ .‬ما الذي سأفعله اآلن حتى لو استطعت تمييز اللحن؟ ما الذي‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫سيتغير حتى لو أنهيت الموسيقى خاصتي؟ لم أرد أن يعترف بي اآلخرون وال أن أتلق التصفيق أو أن أغدو‬
‫ً‬ ‫َ ً‬ ‫ً‬
‫أسع أبدا إلثبات نفسي‪ ،‬إذا ما الذي سيعنيه إكمال هذه المقطوعة؟‬ ‫مشهورا‪ .‬لم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بيد واحدة وبدأت السير باتجاه مصدر الصوت‪ .‬ترنحت وارتجف‬ ‫دفعت بنفسي من على األرض ٍ‬
‫َ‬
‫جسدي‪ ،‬وجهي ويداي أصابهم الخدر ولم أستطع اإلحساس بساقي‪ .‬لم يكن أي من جسدي تحت سيطرتي‬
‫أخذت خطوات حازمة‪ ،‬واحدة تلو األخرى اقتر ًابا من اللحن‪.‬‬ ‫ُ‬
‫لكني‬
‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫مغمورا بالكامل‪ .‬بدا على كل مفصل وعضلة‬ ‫ضربت رأسي قطرات ثقيلة من المطر وكان قميصي‬
‫الصراخ وارتجفت ساقاي بعنف شديد لدرجة ردعتني من رفع قدماي عن األرض‪ .‬انزلقت قدماي على‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫العشب المبتل والمست األغصان الشائكة كتفي‪ .‬شعرت بالبرد حتى النخاع وكدت أنهار‪ .‬تباطأت خطواتي‬
‫وباتت أقصر‪.‬‬
‫ُ‬
‫لحن البيانو الذي كان يبتعد مع كل خطوة خطوتها‪ .‬سارعت بخطاي بشدة ألجد مصدر الموسيقى‬
‫ً‬
‫مجددا‪.‬‬ ‫قبل توقفها‪ .‬ألنها لو توقفت‪ ،‬قد ال أستطيع سماعها‬
‫ُ‬ ‫سرت لألمام بدون أن ّ‬ ‫ُ‬
‫أفرق بين طريق المشي والغابة‪ .‬ضربت باألغصان المتدلية وانهارت ركبتاي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫وسقطت أرضا‪ .‬كنت ألهث لدرجة أني أردت أن أتقيء‪ .‬عادت جل أحاسيسي وشعرت بالبرد واإلعياء‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وبمحيطي الغريب في أعماق الجبل بوضوح‪ .‬بينما أسرعت بخطاي أكثر وأكثر‪ ،‬وضربت المزيد من‬
‫ُ‬ ‫ً ّ‬
‫وضوحا‪ .‬كلما اشتد األلم‪ ،‬بات صوت البيانو‬ ‫األغصان‪ ،‬وزادت شدة انزالق قدماي‪ ،‬غدا صوت البيانو أكثر‬
‫أعلى‪.‬‬
‫توقفت ً‬
‫أخيرا عن المشي بعد التجول تحت المطر لساعات‪ .‬عاد اللحن إلى الحياة بوضوح أ كثر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫مندمجا مع ما قمت بتأليفه إلى عدة أيام مضت‪ .‬غطيت رأسي بكال ذراعاي وسقطت‪.‬‬ ‫انفجر في رأسي‬
‫عوضا عن حاستي للسمع‪.‬‬ ‫ً‬
‫كان أقرب للمشاعر الخام من الموسيقى‪ .‬قام بتحفيز إحساسي باأللم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جاهدا التهرب منه‪.‬‬ ‫مزيجا من المعاناة واألمل‪ ،‬الفرح والخوف‪ .‬كان كل شيء حاولت‬ ‫كان‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫فجأة ظهر مشهد مساء مشمس بإشراق أمام عيناي‪ .‬كنت أعزف نغمة أمام البيانو في ورشة عملي‪،‬‬
‫ً‬
‫كان ذلك اللحن الذي استمر بالدوران في ذهني‪" .‬هذا جميل جدا" اقترب مني جونغكوك وضحكت "أنت‬
‫تقول هذا ً‬
‫دوما"‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫لم يكن لحنا واحدا بل مجموعة من مختلف الذكريات منذ األيام التي كنت أضرب فيها مفاتيح‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫البيانو عبثا في طفولتي‪ ،‬من األيام التي رقص بها أصدقائي تزامنا مع عزفي في الصف الذي تحول إلى غرفة‬
‫ُ‬
‫استنشقت نسيم الصباح المنعش‪.‬‬ ‫ُ‬
‫تخزين‪ ،‬من األيام التي سهرت بها طول الليل أكتب المقطوعات حتى‬
‫كان البيانو خاصتي بقربي في كل لحظة سعيدة ‪ ،‬تلك اللحظات السعيدة التي تحطمت إلى أشالء ومع‬
‫ذلك لم أستطع نكرانها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫جوابا لكن هناك شيء أكثر أهمية من‬ ‫ما الذي قد يعنيه إكمال هذه المقطوعة؟ ما زلت لم أجد‬
‫كل من السؤال والجواب‪ .‬أردت أسر كل هذا قبل أن يتناثر في الهواء‪ .‬لم يكن إلرضاء أحد أو إلثبات شيء‬
‫ما‪ ،‬ولم يكن لنفسي حتى‪ .‬أردت فقط أسر الشعور واأللم والخوف الذي كان على وشك االنفجار في رأسي‬
‫وقلبي مع الموسيقى‪.‬‬

‫~‪~106‬‬
‫مسموعا بعد ذلك وخف المطر تدر ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫يجيا لكن جسدي كان يرتعش دون‬ ‫لم يكن صوت البيانو‬
‫سيطرة‪ .‬أغمضت عينياي وشعرت بكل ما يحيط بي بوضوح أكثر‪ .‬قطرات المطر التي سقطت على وجنتاي‬
‫ً‬
‫أرضا ثم تدفقت في مجراها‪ ،‬والرياح الباردة‪ ،‬رائحة التربة‪ ،‬حفيف األوراق وتنفسي‪.‬‬ ‫وتناثرت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عندما نهضت‪ ،‬رأيت إشارة ينبوع المياه المعدنية‪ .‬خلت بأني تجولت في أعماق الجبل لكني عدت‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫إلى حيث بدأت وكان الطريق أمامي ممتدا باتجاهين معاكسين فدرت بخطاي نحو االتجاه الذي تشرق منه‬
‫الشمس‪.‬‬

‫~‪~107‬‬
‫جيمين‬
‫الثامن والعشرون من يوليو العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬
‫تفقدت مطعم تو ستار برغر لكن لم يرى أي شخص هوسوك‪ .‬لقد مضت أربعة أيام منذ ظهوره‬
‫ً‬
‫بغرفة التدريب‪ ،‬أخبرني أحدهم أنه أعلم صديقته بنيله قسطا من الراحة لكن بعد ذلك لم ُيجب على‬
‫اتصال أي شخص‪.‬‬
‫ُ‬
‫كما لم يقرأ الرسائل المرسلة على دردشة مجموعة "ارقص فحسب"‬
‫ُ‬
‫علمت أن كاحله كان يؤلمه‪ ،‬ربما كان ذلك حينذاك‪ ،‬في الليلة التي أصيبت فيها شريكتي في الرقص‬
‫بسببي‪.‬‬
‫هطل المطر يومئذ ورغم ذلك حملها على ظهره إلى المشفى تحت المطر لذا ال بد أن حالته ازدادت ً‬
‫سوءا‪.‬‬
‫ُ‬
‫حالما دخلت إلى المطعم‪ ،‬استقبلني الموظفين ببهجة فسألتهم‪" :‬هل هوسوك بعطلة اليوم؟"‬
‫حينها أخبروني أنه في إجازة مرضية ربما لثالثة أسابيع‪ ،‬لكنهم لم يكونوا واثقين من ذلك‪ .‬كاحله ازداد ً‬
‫سوءا‬
‫كما اضطر الرتداء طقم العمل‪ ،‬فأوصاه المدير بالراحة لبعض الوقت‪.‬‬
‫ُ‬
‫فهرعت على طريق المنحدر‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ركضت مباشرة صوب منزله‪ ،‬لم أستطع التريث حتى مجيء الحافلة‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫كان الطقس ً‬
‫يتصبب عرقا لذا جففت مالبسي عند غرفته بالسطح‪ .‬بدا مقبض الباب‬ ‫حارا آنذاك وظهري‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫الموصد ُمحترقا إثر أشعة الشمس فتركت رسالة في الدردشة الجماعية "هوسوك‪ ،‬أين أنت؟" وبحلول‬
‫نهاية اليوم‪ ،‬لم يكن قد أجاب بعد!‬

‫~‪~108‬‬
‫يونغي‬
‫الثامن والعشرون من يوليو العام الثاني والعشرون‬

‫كام شديد طيلة‬ ‫وأخيرا من االستيقاظ وقت الظهيرة‪ .‬فبعد عودتي من الجبل‪ ،‬أصابني ز ٌ‬ ‫ً‬ ‫تمكنت‬
‫ّ‬
‫يومين كاملين‪ ،‬وال يسعني تذكر أي شيء حدث خاللهما‪ .‬ارتعدت أطراف جسدي وارتجفت بسبب الحمى‬
‫كنت أستعيد وعيي لكن سرعان ما أعود لوضعي السابق مرة أخرى‪.‬‬ ‫ُ‬
‫التي ألمت بي‪ ،‬في بعض األحيان‬
‫ً‬ ‫ً ً‬
‫عظيما‬ ‫مالءتي كانت تنضح بالعرق والشعور بالدوار ال يفارقني‪ .‬خرجت من ورشة عملي باذال جهدا‬
‫حشوت فمي بالطعام‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫للحفاظ على تماسكي‪ ،‬وبعدها توجهت للمشفى للحصول على حقنة وريدية ثم‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫لكنه لم يلبث طويال حتى استفرغته كله‪ .‬قرأت رسالة جيمين عند ذهابي لدورة المياه كي أغسل فمي‪،‬‬
‫وعلى الرغم من زيادة عدد من قرأها ال توجد أي ردود عليها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫مبنى‬ ‫سرت على طول طريق سكة الحديد إلى أن بلغت موقف الحافالت‪ .‬تواجد في ذلك الموقع‬
‫قابع في أعلى التل‪ ،‬بعد تجاوزي‬ ‫غير تام البناء بسبب توقف أعمال بناءه ألشهر عدة‪ .‬متجر الموسيقى ٌ‬
‫ُ‬ ‫ّ ُ‬
‫أخرق بطيء‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫عرجت عليه ووقفت قبالته‪ .‬ال يوجد فيه أي صوت لفرقعة أو صوت لعزف بيانو‬ ‫لموقع البناء‬
‫ماض‬ ‫لم تكن ّ‬
‫لدي الطاقة الكافية لالنحناء والتقاط حجر ورميه على واجهة المتجر‪ .‬األمر برمته بدا وكأنه‬
‫ٍ‬
‫قادرا على رؤية البيانو من خالل واجهة‬ ‫بعيد‪ ،‬مما دفعني للتساؤل عن احتمالية حدوثه من عدمها‪ .‬كنت ً‬
‫المتجر‪.‬‬
‫ً‬
‫جميعا؟ أال ترى ذلك؟"‪ ،‬هذا ما قاله هوسوك لي في ذلك اليوم‪ .‬ذكريات‬ ‫"أال تستطيع رؤيتنا نتألم‬
‫ً‬
‫هذا اليوم عالقة في ذهني ال تبارحه‪ .‬أستطيع التذكر بال ريب بأن هوسوك كان مختلفا على نحو ما‪ .‬هذه‬
‫علي لكن لم يسبق له أن كان بنفس هذه الحال من االنهيار‪ .‬فهو يقوم‬ ‫ً‬
‫غاضبا ّ‬ ‫ليست أول مرة يكون فيها‬
‫دائما بدفعي وسحبي وتشجيعي عندما أكون على وشك السقوط‪ ،‬لماذا هذه المرة كانت مختلفة؟‬ ‫ً‬

‫مجددا "هوسوك‪ ،‬أين أنت؟" ّ‬ ‫ً‬


‫مرت عدة ساعات وال يوجد أي رد من‬ ‫فتحت رسالة جيمين‬
‫ً‬
‫هوسوك‪ ،‬شعرت وكأن شيئا ما كان يهبط ويرتطم في داخلي‪ .‬قد يغضب هوسوك منا ويبعدنا عنه لكنه ال‬
‫دوما كان هو الشخص الذي يمهد لي الطريق للعودة مهما كان‬‫يلوذ لصمت مطبق كهذا أو ُيدير وجهه عنا‪ً .‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫المدى الذي أبلغه في توهاني‪ ،‬لكن ليس هذه المرة‪ ،‬هذه المرة بدت بال رجعة‪.‬‬

‫~‪~109‬‬
‫نامجون‬
‫السابع من أغسطس العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬
‫أضأت المصابيح ونظرت للمنشور المعلق على باب قاطرتي‪ .‬كتب عليها "إعادة البناء" و "الهدم"‪.‬‬
‫ً‬
‫البد أن الناس يتحدثون عن إعادة بناء هذه المنطقة مجددا‪ .‬دائما ما يتم الثرثرة بشأن إزالة القاطرات‬
‫المصطفة على طول طريق السكك الحديدية والمباني العشوائية المتواجدة على جانب منهم‪ .‬سحقت‬
‫المنشور ورميته في سلة المهمالت‪ .‬أحاديث إعادة البناء ليست وليدة اليوم‪ ،‬لكن دائما ما يتم ذكرها وكأن‬
‫الهدم سيحدث بالغد‪ ،‬ثم يخمد الموضوع لفترة وجيزة‪.‬‬

‫وضعت حقيبتي واستلقيت على األرض‪ .‬مضت مدة منذ غروب الشمس‪ ،‬لكن القاطرة ما زلت‬
‫ساخنة من الداخل‪ .‬قضيت جميع الليالي هنا بعد زيارتي لجونغكوك‪ .‬شعرت باإلرهاق‪ .‬فأنفي ينزف من‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وقت آلخر حين أغسل وجهي‪ ،‬لكن دائما ينتهي بي المطاف هنا بدال من الغرفة الصغيرة خلف محطة‬
‫الوقود‪.‬‬
‫ً‬
‫أبدا‪ .‬جميع من يلتقوا عليهم االفتراق بال استثناء‪.‬‬ ‫لم يعبر أحد آخر من الباب‪ ،‬ربما لن يحدث هذا‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫البد أن وقتنا قد حان‪ .‬لكن‪ ،‬إن شعر أحدنا بحاجة لتجمعنا مجددا‪ ،‬أردت ارسال إشارة له أنني هنا‪ .‬أردت‬
‫منه رؤية أن "مخبأنا" مازال ُهنا ومازال ُمضاء‪.‬‬

‫~‪~110‬‬
‫تايهيونغ‬
‫الحادي عشر من أغسطس العام الثاني والعشرين‬

‫ً‬
‫خرجت من المتجر بعد إنهاء مناوبتي متفقدا هاتفي كالعادة لكن لم أجد أي مكالمات فائتة أو‬
‫رسائل‪ ،‬كانت الشمس تغرب‪ ،‬ازدحم الشارع بالناس المنهمكين بالمشي‪ ،‬وضعت كلتا يدي في جيبي‬
‫ً‬
‫ومضيت‪ ،‬اجتاح الهواء الخانق الطريق مخترقا إياه‪ ،‬بدأت بالتعرق بعد قليل من الخطوات‪ ،‬كم سيدوم هذا‬
‫ُ ً‬
‫حبطا‪.‬‬ ‫الصيف؟ ركلت األرض م‬
‫ُ‬
‫واصلت السير مطأطأ الرأس‪ ،‬توقفت أمام مشهد الجدار المألوف‪ ،‬كان الحائط حيث رسمت الفتاة‬
‫ً‬
‫تلقائيا‪ .‬لم أرها في حيي منذ الليلة التي تركتها في الزقاق وخرجت أمام‬ ‫أول رسوماتها‪ ،‬بحثت في األرجاء‬
‫أضواء مصابيح سيارة الدورية بنفسي‪.‬‬

‫عندما حاولت اقتفاء آثارها اكتشفت عالمة ‪ X‬كبيرة ُرش فوق رسوماتها‪ ،‬ماذا تقصد!؟ صور‬
‫متعددة ومتداخلة فوق الجدارية‪ ،‬صورة لها تضحك علي عندما حاولت االستلقاء على سكة الحديد‬
‫ُ‬
‫وضربت رأسي وكيف جعلتني أتوازن على قدمي عندما وقعت أثناء مساعدتها على الهرب‪ .‬كيف فقدت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫صوابها عندما سلبت خبزها وتناولته وكيف بدت كئيبة في كل مرة تمر بها بالصور العائلية المعروضة في‬
‫معرض الصور‪ ،‬حدث وأخبرتها أثناء رشنا للجدار بجانب بعضنا "ال تخالي أن عليك حمل العبء وحدك‪،‬‬
‫شاركيه مع اآلخرين" عالمة ‪ X‬الضخم كانت مرشوشة على كل هذه الذكريات‪ ،‬بدا كأن الجدار يصرخ بكونها‬
‫ً‬
‫مزيفة‪ ،‬ومحض كذبات‪ ،‬حقيقة لم أنظر قط إلى ذلك الجدار منذ ذلك اليوم‬
‫أوشكت االلتفاف عندما اكتشفت عبارة قصيرة بأحرف صغيرة تحت عالمة الـ‪ X‬إنه ليس خطأك‪،‬‬
‫منقوشة في الحائط‪ ،‬كانت تلك الفتاة‪ ،‬لم أرها تكتبها وأجهل خط يدها‪ ،‬لكني فقط علمت "أنه ليس‬
‫خطأك" تعود لتلك الفتاة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ومغمورا‬ ‫مهتاجا‬ ‫استحضرت اليوم الذي انطلقت فيه بشكل أعمى بحثا عن والدتي‪ ،‬تابعت السير‬
‫باستياء عارم‪ .‬لكن في النهاية لم أستطع الوصول إلى أي مكان يومها‪ .‬وبينما أنا عائد للمنزل خال الوفاض‬
‫ً‬
‫أدرت رأسي باتجاه المدينة أين تقطن‪ ،‬بزوغ فجر اليوم بدا كأنه يحسر المدينة بعيدا‪ ،‬شعرت برغبة في‬
‫البكاء‪ ،‬أمسكت نفسي بحزم لكن شيء انزلق خالل أصابعي‪ ،‬كتل من المشاعر الصعبة تتفكك بسكون‪،‬‬
‫ً‬
‫شيئا لم يجدر بي تقديمه‪.‬‬ ‫أحسست بالحزن والحسرة‪ ،‬كأنني قدمت‬
‫ً‬
‫"إنه ليس خطأك" هذه الجملة ذكرتني بشعوري وقتها‪ ،‬بدأت السير مجددا خالل األزقة الضيقة‬
‫ً‬
‫ونزوال منحدرات ال تعد وال تحصى‪ً ،‬‬ ‫ً‬
‫أخيرا منزلي‪ ،‬قصر ماجنوليا الح أمام ناظري‪.‬‬ ‫صعودا‬
‫صعدت الدرج‪ ،‬عندما وقفت مقابل الباب استطعت سماع تنفس والدي ال ثقيل‪ ،‬وتهشم زجاجات‬
‫ناظ ًرا للخارج‪.‬‬ ‫الخمر‪ ،‬التفت وأسندت يداي ّ‬
‫على الدرابزين ِ‬
‫الشمس غربت بالفعل‪ ،‬واللون األحمر الخافت يختفي من السماء المظلمة‪ ،‬تمتمت "إنه ليس‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫خطأك"‪ ،‬أخذت ً‬
‫مستديرا صوب المنزل ودخلته‪.‬‬ ‫نفسا عميقا‬

‫~‪~111‬‬
‫هوسوك‬
‫الثاني عشر من اغسطس العام الثاني والعشرون‬

‫َ‬ ‫ّ‬
‫دفع أحدهم كتفي حالما ترجلت من القطار فأوقعت التذكرة التي بيدي‪َ .‬سقطت على السكة‬
‫الحديدية ثم انزلقت داخل إحدى التصدعات‪ .‬حدقت باألنحاء‪ ،‬فرأيت بأنه ما زال منتصف الصيف‪ .‬عندما‬
‫لمحطته التالية ً‬
‫مثيرا الرياح خلفه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫غادرت‪ ،‬كان ال يزال فصل الصيف في بدايته‪ .‬غادر القطار‬
‫ُ‬
‫رحلت عن سونغجو في نهاية الشهر المنصرم ومن رصيف هذه المحطة استقللت القطار ورأيت‬
‫ً‬
‫بعيدا عن النافذة‪ .‬ترعرعت في سونغجو‪ ،‬لم أغادر المدينة ً‬
‫يوما ولم أتوقع العيش في مكان‬ ‫المدينة تنحسر‬
‫ّ‬
‫آخر سواها‪ .‬ذهبت إلى مطعم البرغر وغرفة التدريب حسب الجدول اليومي‪ .‬وبعد الرقص لساعات‪ ،‬عدت‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫للمنزل وغططت في نوم عميق لفرط تعبي‪ .‬سونغجو مدينة صغيرة لكن فيها مكان احتجت للذهاب إليه‪،‬‬
‫أنا في حاجة للذهاب إليه‪.‬‬
‫ُ‬
‫بعد إصابة كاحلي انهار نظام يومي‪ .‬ارتديت ضمادة باردة في العمل وغرفة التدريب‪ ،‬وبعد أن‬
‫ٌ‬ ‫ساءت الحالة أكثر‪ ،‬اضطررت إلى وضع جبيرة ولهذا السبب كان ّ‬
‫علي أخذ إجازة مرضية‪ .‬متفرغ لثالثة‬
‫أسابيع كاملة‪ ،‬ثالثة أسابيع بال عمل‪ ،‬بال رقص‪ ،‬وبال أي مكان للذهاب إليه‪.‬‬
‫ّ‬
‫المطر الذي انهمر طوال الليل توقف بحلول الفجر‪ .‬نظفت المنزل ور ّتبت ثيابي ثم حصلت على‬
‫تسريحة شعر جديدة وجففت ماء المطر من على المقعد الذي أمام منزلي‪ .‬عند حلول الظهيرة أنهيت‬
‫جميع األشياء التي ّ‬
‫علي القيام بها‪ .‬لم يرن هاتفي‪ ،‬والرسائل الوحيدة التي تلقيتها كانت من شركائي في‬
‫العمل وأعضاء مجموعة "لنرقص فحسب"‪ .‬لم تردني أي مكالمة أو رسالة من اآلخرين‪ .‬وبالتفكير في األمر‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الشخص الذي ً‬
‫جانبا‪ ،‬ال رغبة لي بالتواصل معهم أوال‬ ‫دائما ما يتواصل معهم أوال هو أنا‪ .‬وضعت هاتفي‬
‫هذه المرة‪ .‬ماذا لو لم يبعث أحدهم أي رسالة؟ ليكن ذلك‪ .‬ثم تذكرت الطريقة التي صادفت بها يونغي في‬
‫قدمي وصرخت في الهواء‬ ‫ّ‬ ‫الليلة الماضية واألشياء التي أفصحت عنها ظلت تتردد في رأسي‪ .‬وثبت على‬
‫"لن يتذكر على أية حال!" ‪.‬‬

‫درب العودة للمنزل بدا أبعد من ذي قبل بعد تركي ليونغي هناك‪ .‬حري بي أن أترجل المنحدر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ورطبا‪ ،‬وفور بلوغي للمنزل كنت غارقا بالعرق‪ .‬لم‬ ‫بالعكازات‪ .‬رغم غروب الشمس إال أن الهواء كان خانقا‬
‫أندم على أي شيء قلته ليونغي‪ ،‬فلقد حان الوقت كي يكف عن االنغماس بالشفقة على الذات‪ ،‬لكن هذه‬
‫اللحظات وهذه الكلمات بالذات لم تنفك عن العودة لي‪.‬‬

‫على السطح بإمكاني رؤية المدينة بدوني‪ ،‬القطار يشق طريقه وسط المدينة ويختفي قرب‬
‫الناصية أسفل الجبل‪ .‬وضعت ثيابي بإهمال داخل الحقيبة وتوجهت لمحطة القطار‪ .‬بحثت في قائمة‬
‫المدن الموضوعة أمام مكتب التذاكر واخترت أكبر مدينة بالقرب من هنا‪ .‬خطر لي بأنه من األفضل‬ ‫ُ‬
‫االنتقال لمدينة كبيرة وبــهذه البساطة غادرت سونغجو‪.‬‬

‫ّترجلت من القطار بعد حوالي ساعتين وحالما خرجت من المحطة‪ ،‬واجهني تقاطع طرق مزدحم‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫أناس يسيرون بهمة تحت الشمس المشرقة على مد البصر‪ .‬ركبت أول‬ ‫وصفوف من ناطحات السحاب‬
‫حافلة وقفت أمامي‪.‬‬

‫بي السائق كما لو أنني تفوهت‬ ‫علي أن ّ‬


‫أترجل عنده؟" تساءلت بصوت مرتفع فحملق ّ‬ ‫"أي مكان ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫مسافر يسأل عن وجهته؟ ال بد بأني بدوت غبي المظهر‪ .‬وبعد حوالي عشرون دقيقة وصلت‬ ‫بالترهات‪.‬‬
‫ُ‬
‫الحافلة لحي بدا لي بأنه جزء قديم من المدينة‪ .‬أرحت ركبتاي في غرفة صغيرة موصولة بمتجر يحمل‬

‫~‪~112‬‬
‫الفتة مكتوب عليها "دار للضيافة" ثم خرجت وأنا أجهل وجهتي بالضبط‪ .‬في أول يومين‪ ،‬تجولت في‬
‫الحي على غير هدى‪ .‬ال توجد فيه ناطحات سحاب أو مناطق تجارية تملؤها األضواء المشرقة‪ .‬اخترت‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الرحيل عن سونغجو ألول مرة في حياتي لكي أصل لمدينة أخرى تشبهها‪ ،‬ربما هذا هو السبب‪ .‬حاولت أال‬
‫ً‬
‫واضعا‬ ‫أفكر بالمدينة واألشخاص الذين تركتهم خلفي‪ ،‬لكني فقدت زمام األمور وأعدت تشغيل هاتفي‬
‫اآلخرين بالحسبان‪ .‬قد أكون رحلت عن سونغجو لكن تفكيري ما يزال فيها‪.‬‬

‫في اليوم الثالث‪ ،‬قررت أن أغامر إلى أبعد حد وعد أقل من عشرين دقيقة من مغادرتي للمتجر‪،‬‬
‫بدأ كتفاي بالتصلب بسبب وجود العكازات تحتهما‪ ،‬وسال العرق على ظهري تحت أشعة الشمس الحارقة‪.‬‬
‫ُ‬
‫أصبح مبنى مصنوع من الطوب أمام ناظري‪ ،‬إنه مبنى البلدية‪ .‬بينما كنت أضغط على زر آلة البيع‪ ،‬فتح‬
‫با ب قاعة االحتفاالت وخرج منها عدة أشخاص‪ ،‬صوت أنغام الموسيقى تتدفق عبر الباب المفتوح ورأيت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شخصا يقوم بتمارين التمدد بإحدى الزوايا وأضواء المسرح تضيء رأسه‪ِ .‬س ّرت قاصدا القاعة قبل أن أدرك‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ذلك حتى‪ ،‬بعد أن أغلقت الباب خلفي‪ ،‬تركت وحيدا في العتمة والموسيقى‪ .‬جلست في أقرب مقعد‪ .‬كان‬
‫المتالطمة‪ .‬الرجل الذي على المسرح تحرك على مهله‬ ‫صوت الموسيقى يتدفق عبر دقائق الهواء كاألمواج ُ‬
‫تمدده الذي استمر برهة طويلة بدا وكأنه جزء من تصميم‬ ‫ّ‬
‫ومدد ساقيه‪ ،‬كاحليه‪ ،‬ذراعيه‪ ،‬رقبته ثم كتفيه‪ّ .‬‬
‫جالسا على األرض من مكانه ثم سار لمنتصف‬ ‫ً‬ ‫الرقصة ذاتها‪ .‬ثم توقفت الموسيقى ونهض الرجل الذي كان‬
‫ً‬
‫كسيل‬
‫الموسيقى مجددا لكن هذه المرة ٍ‬ ‫المسرح‪ ،‬ولفترة‪ ،‬كان المسرح يلفه الصمت‪ .‬بعد ذلك بدأ صوت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جارف‪ .‬تناغمت حركة الرجل مع أنغام الموسيقى سريعة تارة وبطيئة تارة أخرى‪ .‬ذراعيه وساقيه لم تشكال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خطوطا مستقيمة ومنحنيات فقط بل ابتدعت أشكاال ثالثية األبعاد‪ .‬لحظة تقود لألخرى خالل حركته‬
‫َ‬
‫جانبا بيديه وأرسل صدى‬ ‫ً‬ ‫المفعمة بالحيوية وإيماءاته‪ ،‬تحركاته كانت تخلق قصة ال نهاية لها‪ .‬ن ّحى الهواء‬
‫عبر األرضية جعل األدرينالين يندفع بقوة ليس خالل عيناي فقط بل امتد تأثيره لعقلي‪.‬‬
‫انخفضت نغمة الموسيقى أكثر فأكثر مؤدية إلى فورة عظيمة في مشاعر الرجل‪ ،‬دوى صوته ً‬
‫عاليا‬
‫ً‬
‫بغضب شديد بأقصى ما لديه من قوة‪ ،‬ثم حبس أنفاسه وألقى نظرة ثاقبة على شيء بعيد جدا‪ .‬معاناته‪،‬‬
‫عبر عنها على نحو سافر‪ .‬أحاسيس لم أشعر بها من قبل تفجرت‬ ‫أمله‪ ،‬ابتهاجه وخوفه‪ ،‬كل هذه المشاعر ّ‬
‫واعيا كم فات من الوقت‪ .‬أعيد تشغيل أنوار القاعة‬ ‫وعصفت بداخلي وفقدت اإلحساس بالزمن فلم أكن ً‬
‫شخص ما وطلب مني المغادرة ألن الراقصون كانوا يتدربون‬ ‫ٌ‬ ‫جالسا هناك دون أدنى حركة‪ .‬اقترب‬ ‫ً‬ ‫وبقيت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ولم يكن البقاء مسموحا للغرباء‪ .‬ملصق عرض اكاديمية الرقص كان معلقا على باب مبنى البلدية لكن الرجل‬
‫ً‬
‫محددا في اليوم الذي بعد الغد‪.‬‬ ‫الذي يقف على المسرح لم يكن ضمنه‪ .‬وقت العرض كان‬
‫ّ‬
‫عدت إلى دار الضيافة واستلقيت على المقعد الواسع الموضوع في الفناء الخلفي‪ ،‬أغلقت عيناي‬
‫ً‬ ‫ثم فكرت في الساعات التي أمضيتها في القاعة‪ .‬إنها المرة األولى التي أرى فيها ً‬
‫بشكل شخصي‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أداء حقيقا‬
‫ً‬
‫مرعوبا‬ ‫كان تجربة مختلفة جذ ًريا عن الذي قد أراه خالل الشاشة الصغيرة المسماة "يوتيوب"‪ّ .‬ربما كنت‬
‫ومفعما بالحياة‪ .‬أعدت في ذهني كل حركة وإيماءة جعلت نبض قلبي يتسارع‪ .‬وفي هذه‬ ‫ً‬ ‫أكثر ألنه كان ً‬
‫قويا‬
‫اللحظة ّرن هاتفي الذي وضعته داخل جيبي‪" .‬هوسوك‪ ،‬أين أنت؟" كانت رسالة من جيمين‪ .‬عدد الذين‬
‫علي قوله؟ كنت ً‬
‫دائما أبرر‬ ‫يجيا لكن لم يرسل أي أحد رسالة بعده‪ .‬ما الذي ّ‬ ‫قرأوا رسالته أخذ بالتزايد تدر ً‬
‫مازحا لكن لم أرغب بفعل ذلك هذه المرة‪ .‬إنها المرة األولى التي ال أجيب فيها على رسالة‬ ‫ً‬ ‫نفسي نصف‬
‫ً‬
‫وجهت لي شخصيا‪ ،‬ثم الذت مجموعة دردشتنا بالصمت‪.‬‬

‫في اليوم التالي ذهبت إلى القاعة في نفس الوقت‪ .‬تواريت في الظالم وراقبت حركات الرجل‪ ،‬لقد‬
‫عبر عن قصة مختلفة ومشاعر مختلفة‪ .‬من هو؟ كيف باستطاعته التعبير ونقل‬ ‫كان العرض ذاته لكنه ّ‬
‫المشاعر بهذه الكيفية؟ انتهت البروفة‪ ،‬وبينما قطعت عدة خطوات داخل الرواق التقت عيناي بعيني‬

‫~‪~113‬‬
‫الرجل أثناء حديثه مع أحد أعضاء الطاقم على بعد مسافة قصيرة مني‪ ،‬انحنيت له بدون إدراك مني‪ .‬اقترب‬
‫ً‬
‫مني أحد أفراد الطاقم قائال " أوه‪ ،‬أنت الشاب ذاته الذي رأيته باألمس"‪.‬‬

‫مكون من أربعة فصول لكنه لم يظهر‬‫أقيم األداء في اليوم التالي لكن الرجل لم يكن ضمنه‪ .‬األداء ّ‬
‫فيه‪ .‬استمر العرض ألكثر من ساعة وقد صفقت وصرخت عدة مرات من مقعدي‪ ،‬هذا كل ما في األمر‪ .‬لم‬
‫ً‬
‫أتمكن من أن أختبر ثانية اللحظة الغامرة التي شعرت فيها بغليان في قلبي وجمود بجميع أجزاء جسدي‪.‬‬
‫ً‬
‫وذهابا‬ ‫ال يمكن مقارنة أي شيء بحركاته المذهلة‪ .‬لماذا لم ينظم لألداء؟ أخذت أذرع خشبة المسرح جيئة‬
‫لكن لم يتواجد هناك سوى أعضاء الطاقم والراقصين المشغولين بتوضيب األغراض‪ .‬صادفت أعضاء‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫العرض مجددا في محطة القطار‪ ،‬حينها كنت أحث خطاي داخل منصة القطار للمغادرة إلى مدينة أخرى‬
‫ّ‬
‫جليا بأنهم يواجهون المتاعب أثناء تحميلهم ُلعدة المسرح‬
‫ثم رأيت مجموعة من األشخاص متجمعين‪ .‬كان ً‬
‫ُ‬
‫واألحجام المختلفة للمعدات على متن القطار‪ .‬لم أبيت النية ألي شيء عندما بادرت لمساعدتهم‪ ،‬لقد‬
‫ٌ‬
‫بدوا لي في حيرة من أمرهم وعديمي الخبرة وأنا معتاد على ترتيب ونقل األشياء‪ ،‬أعاقت الجبيرة حركتي‬
‫ّ ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫لكني كنت أفضل من أكثرهم الذين كانوا واقفين باضطراب فحسب‪" .‬أنت ذلك الشاب مجددا" تلفت‬
‫فرأيت عضو الطاقم‪.‬‬

‫"لم أشكرك على نحو الئق حتى" قالها عضو الطاقم عندما أتى لمقعدي بعد فترة بسيطة من‬
‫جالسا على المقعد المجاور وهو يقول‪ :‬نصف الطاقم رحلوا ألن‬‫ً‬ ‫مغادرة القطار نحو وجهته القادمة‪ّ .‬‬
‫خر‬
‫الحال مضطربة وقد أضاف بأنهم لوالي لما نجحوا باألمر‪ .‬أشار على جبيرتي وسأل ما إن كان ما فعلته‬
‫حمل زائد على كاحلي ّ‬
‫فلوحت له بيدي ألطمئنه بأن كل شيء على ما يرام‪.‬‬
‫ً‬
‫محتارا‬ ‫"بالمناسبة‪ ،‬الرجل الذي رأيته في البروفة‪ ،‬لماذا لم يكن ضمن األداء؟" سألت هذا فبدا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ألول وهلة ثم أومأ قائال "أها‪ ،‬هو‪ .‬إنه مخرجنا الفني" تفسير عضو الطاقم استمر طويال عن كيف كان راقصا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫المعا وعانى من إصابة مروعة ّ‬
‫كبدته سنوات من اليأس واإلحباط‪" .‬أتعلم ما الجزء األكثر إذهاال؟ لقد فاجأ‬
‫تأثيرا ً‬
‫دائما فلم يعد بإمكانه الرقص وتقديم أداء‬ ‫الجميع وعاد كمصمم رقص ومخرج"‪ ،‬لكن اإلصابة تركت ً‬
‫ً‬
‫ثانية‪ ،‬أطلق عضو الطاقم تنهيدة عميقة‪ .‬أصبحت الظلمة حالكة خارج النافذة‪.‬‬

‫حصلت على فرصة االنضمام للعرض والقيام بجولة معهم عن طريق الصدفة‪ ،‬فقد ساعدتهم في‬
‫إنزال حقائبهم في المحطة التالية وجرفت حقيبتي معهم‪.‬‬
‫ّ‬
‫لحسن الحظ معي رقم أحد أفراد الطاقم‪ّ .‬ترجلت في المحطة التالية وعدت للمحطة التي نزلوا‬
‫متأخرا لذا تلقيت دعوة المبيت رفقة الطاقم‪ .‬تناولت الفطور‬‫ً‬ ‫عندها وتوجهت لحمولتهم‪ ،‬كان الوقت‬
‫بصحبتهم في الصباح التالي وتبعتهم إلى منطقة المركز الثقافي الذي كان مكان إقامة عرضهم القادم‪.‬‬

‫عرض الطاقم في االنضمام إليهم والقيام بجولة رفقتهم ال بد بأنه كان على سبيل الدعابة وموافقتي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أيضا كانت نصف مزحة‪ .‬بدأ الرجل تدريبه فشاهدته مشدوها ثم سألتهم "هل بإمكاني حقا الذهاب‬
‫معكم؟"‬
‫ُ‬ ‫قمت بجولة معهم حول ثالث مدن‪ .‬أخذنا حافلة أو قطار‪ ،‬ونزلنا منها‪ّ ،‬‬
‫فرغنا أمتعتنا في ن ٍزل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫حشونا أفواهنا بالطعام‪ ،‬تحققنا من المسرح في الموقع الذي سيقام فيه العرض‪ ،‬وعدنا إلى النزل وأخذنا‬
‫يوميا بغض النظر عن المكان الذي يكون فيه‪.‬‬ ‫حافلة أو قطار ثانية‪ .‬كان الرجل يقوم بتمارين التمدد ويتدرب ً‬
‫يفوت ً‬
‫يوما رغم أنه ال يقدم ً‬
‫أداء على المسرح‪.‬‬ ‫لم ّ‬

‫أقمت عالقات صداقة مع أفراد الطاقم والراقصين‪ ،‬كانت طريقتنا في الرقص مختلفتين لكن‬
‫اشتركنا في الشغف ذاته للتعبير ّ‬
‫عما نشعر به خالل حركاتنا‪ ،‬تحدثنا عن الرقص على متن القطار وحينما‬
‫ّ‬
‫كنا في انتظار الحافلة‪ ،‬أخبرنا بعضنا عن راقصينا المفضلين وشاهدنا فيديوهاتهم ً‬
‫سويا‪.‬‬

‫~‪~114‬‬
‫ُ ُ‬
‫وأخيرا‪ ،‬سنحت لي فرصة التحدث إليه عندما كنت أ ّري أحد أفراد الطاقم مقطع فيديو لتدريب‬ ‫ً‬
‫ً‬ ‫واقفا هناك‪ .‬وقفت ُم ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫حدبا قليال‬ ‫جانبا فرأيته‬ ‫مجموعة "لنرقص فحسب"‪" ،‬هل أنت راقص؟" تلفت‬
‫ُ‬
‫وحدقت بالرجل‪ ،‬كنت في حالة ضياع عن كيفية إجابة سؤاله‪ .‬ترددت في االعتراف أمامه بكوني راقص‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مشيرا إلى الفيديو الذي كنت أظهر فيه‪ .‬وهكذا سنحت لي فرصة التحدث معه‬ ‫أيضا‪" .‬أنت راقص" قالها‬
‫ً‬
‫"حسنا‪ ،‬ألنه‪ ..‬كما تعلم‪..‬‬ ‫للمرة األولى‪" .‬لماذا تحب الرقص؟" تداخلت نهاية جملتي ببعضها بسبب توتري‪،‬‬
‫ُ‬
‫"‪ ،‬سألني الرجل متى بدأت الرقص أول مرة فأخبرته أثناء عرض مواهب في مدرستنا عندما كنت في سن‬
‫ً‬
‫تلقائيا‪ ،‬وثار حماسي أكثر تحت‬ ‫جروني للمسرح وبدأ جسدي بالتحرك‬ ‫الثانية عشرة‪ .‬زمالئي في الصف ّ‬
‫مررا أصابعي‬ ‫وقع تصفيق وتشجيع الجمهور لم أستطع التفكير بأي شيء آخر‪ ،‬تحركت بعفوية خالصة ُم ً‬
‫ً‬
‫خالل خصالت شعري المبتلة بالعرق‪ .‬شعرت وكأنني ألقيت بكل العبء الذي كان ُيثقل صدري‪ ،‬كان ُمنعشا‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫جزيا‪ .‬لقد استغرقت وقتا طويال كي أدرك كم كان مط ِر ًبا الشعور الذي غمرني أثناء الرقص ولم يكن مصدره‬
‫وم ًّ‬‫ُ‬
‫تصفيق الجمهور بل شيء ما من أعماق وجداني‪.‬‬
‫أشار الرجل إلى الفيديو وقال بأنه أحب حركاتي "ليس كل الراقصين يستطيعون التحرك هكذا"‪.‬‬
‫شاهدت نفسي في الفيديو وأعجبت بالطريقة التي أبدو بها حينما أرقص‪ ،‬استطعت التحليق في الهواء‬
‫والتحرر من عيون ومعايير المجتمع‪ .‬فقدت كل األشياء أهميتها عدا تحريك جسدي مع إيقاع الموسيقى‬
‫ً‬
‫ونقل جميع المشاعر عبر خاليا جسدي‪ .‬خارج المسرح‪ ،‬كنت مقيدا بالعديد من االعتبارات ولم أستطع‬
‫علي حتى عندما‬‫محلقا في الهواء من غير أن ُتالمس قدماي االرض‪ ،‬كان االبتسام والضحك لز ًاما ّ‬ ‫ً‬
‫البقاء‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أكون مستاء وحزينا‪ ،‬كنت أفقد وعيي على الطريق وأتناول أدوية لست بحاجتها‪ .‬كانت هناك لحظات‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫مكنتني من الكشف عن ذاتي الحقيقية‪ ،‬لحظات أيقنت فيها بقدرتي على أن أكون سعيدا‪ ،‬لحظات أستطيع‬
‫عاليا‪ ،‬لحظات استطعت فيها بلوغ القمم ولم أكن ألفعلها خارج‬‫فيها التخلص من كل ما ُيثقلني والسمو ً‬
‫المسرح‪ ،‬الرقص منحني كل هذه اللحظات‪.‬‬
‫تغلبت على إصابة خطيرة" فحدق ّ‬ ‫ّ‬
‫بي الرجل‪ .‬علمت بأنني أتصرف بوقاحة لكن‬ ‫"سمعت بأنك‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لدي رغبة ُملحة لسؤاله عن هذا‪ .‬نظر الرجل إلى جبيرتي وقال "بلوغ القمة شيء على قدر كبير من األهمية‬
‫ً‬
‫شأنه شأن التردي في الحضيض‪ ،‬يجب أن تصل إلى أدنى مستوى لك‪ ،‬عليك أن تغوص عميقا إلى المدى‬
‫الذي لن تستطيع فيه الغوص أكثر إلى أن تشعر باالختناق من اليأس وبعدها يجب أن ّ‬
‫تفر منه‪ .‬في هذه‬
‫المرحلة‪ ،‬عليك أن تجد القوة التي تدفعك ًلألمام‪ .‬وبعبارة أخرى عليك أن تجد ما يحثك على الوقوف ٍ‬
‫بعزم‬
‫ً‬
‫ثانية‪ .‬حالما تجده‪ ،‬تشبث ِبه وال تفلته أبدا‪ .‬قد يكون هذا الدافع إنسان أو رغبة ومن المحتمل أن يكون‬
‫شر أو شيء ُمنفر‪ ،‬لكن مهما حدث التزم به"‬
‫هذه كانت أول وأخر محادثة تجري بيننا‪ .‬استمرت الجولة لكن لم تسنح لي فرصة الحديث معه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يوميا وفكرت فيما قاله لي‪ .‬في أعماق ذاتي ويأسي المظلم‪ ،‬ما الذي سيجعلني‬ ‫مجددا‪ .‬رأيته وهو يتدرب‬
‫أتغلب عليه وأقف بعزم مرة أخرى؟‬
‫ً‬
‫"أتعيش في سونغجو؟ المخرج أيضا من تلك المدينة" طرح هذا السؤال أحد أفراد الطاقم بينما‬
‫كنت أنظر لمنشور ترويجي معلق في استراحة محطة القطار لمهرجان األلعاب النارية على شواطئ يانغ‬
‫ُ‬
‫جيتشيونغ في سونغجو بتاريـ ــخ الثالثين من أغسطس‪ .‬في الماضي وعلى قدر ما أتذكر‪ ،‬كنت أشاهد‬
‫ّ‬
‫المهرجان في كل عام‪ ،‬وهو يقام عند كل نهاية لفصل الصيف‪ .‬عندما كنت أعيش في الميتم‪ ،‬جميعنا كنا‬
‫نتسلق لبلوغ السطح ومشاهدة األلعاب النارية وهي تتصاعد في السماء ثم تعود لألرض كالمطر‪ .‬بعد‬
‫مغادرتي الميتم‪ ،‬مكثت في أعلى طابق من منزل مشترك يقع ضمن أعلى حي في سونغجو‪ .‬إنه بقعة مثالية‬
‫لمشاهدة األلعاب النارية رغم بعده عن مكان عرضها لكنه يوفر إطاللة واسعة ال يمكن قطع سكونها‪.‬‬

‫~‪~115‬‬
‫علي الذهاب في الجولة‬‫"هل غيرت رأيك بين ليلة وضحاها؟" قال عضو الطاقم الذي اقترح ّ‬
‫برفقتهم قبل عدة أيام مضت‪" .‬نعتقد بأنك موهوب وشخص يمكننا االعتماد عليه" وافق اآلخرون بحماس‬
‫ً‬
‫وصفق قسم منهم‪ ،‬كدت أن أوافق‪ .‬من دون أن أشعر بذلك حتى أصبحت متعلقا بهم‪ ،‬القيام بجولة كان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عمال ُمرهقا لكني استمتعت بكل لحظة فيه‪ ،‬حتى االستلقاء على السرير واألنين والشكوى بسبب اإلرهاق‬
‫يجيا أثناء مواصلتي العمل وتنظيم العروض معهم‪ّ .‬ربما ستسنح لي فرصة تقديم‬ ‫منه‪ُ .‬ش ّفي كاحلي تدر ً‬
‫تجربة أداء ويتم اختياري كعضو رسمي وأتمكن من تقديم أداء على المسرح‪ ،‬و ّربما سيتسنى لي تلقي‬
‫ً‬
‫التدريب تحت إشراف الرجل والتعلم أكثر‪ .‬بدأت بالتفكير حقا بأن هذا المكان هو ما أنتمي إليه‪ .‬طلب مني‬
‫عضو الطاقم التفكير مل ًيا بالعرض الذي قدمه وأعطيته جوابي في الليلة الماضية‪ ،‬لقد شكرته على عرضه‬
‫ثانية فأجبته أثناء التقاطي لحقيبتي من األرض "يجب‬ ‫علي العودة‪" .‬أأنت متأكد؟" سألني ً‬ ‫وأخبرته بأن ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫علي أن أذهب كي أزيل جبيرتي"‪.‬‬ ‫ّ‬

‫المعاكسة‪ ،‬سأصل لسونغجو بعد حوالي ساعتين‪.‬‬ ‫صعدت على متن القطار الذي على السكة ُ‬
‫ً‬ ‫ُّ‬
‫نفسيا بعد و ّربما لن يحصل هذا أبدا‪ ،‬لكن‬
‫ً‬ ‫شعرت بالحماس الغامر‪ ،‬لم أدفع لحافة الحضيض ولم أتحطم‬
‫ش حياتك‬ ‫ّربما قد فكرت ببعض اللحظات بعد حواري مع الرجل‪" .‬لن أتصل بك على اإلطالق ً‬
‫ثانية‪ِ ،‬ع ّ‬
‫ً‬
‫تعد مجددا"‪ّ .‬ربما قد بلغ يونغي ذروة يأسه في ذلك اليوم‪" .‬هوسوك" استدرت وواصلت‬ ‫الخاصة وال ّ‬
‫السير فدعاني لكني لم أنظر للخلف‪ ،‬لقد تخليت عنه عندما كان يختنق بيأسه‪ ،‬لقد هربت‪.‬‬
‫ُ‬
‫"هل أنت بخير؟" أرسلتها بعد كثير من التردد‪ .‬ذكرى ذلك اليوم باتت تثقل كاهلي أكثر فأكثر كل‬
‫يوم‪ .‬رسالة جيمين "هوسوك‪ ،‬أين أنت؟" ال تزال في موجودة في مجموعة الدردشة‪ ،‬أرسلت ليونغي رسالة‬
‫ً‬
‫فجرا‪ ،‬فاستيقظت جفال من اهتزاز الهاتف‪ .‬ظهر اسم يونغي على‬ ‫ً‬ ‫في المحادثة الخاصة‪ .‬وصلني ّرده‬
‫الشاشة‪ ،‬لقد أرسل لي ملف أغنية‪ .‬وضعت السماعات حول أذناي وشغلت الملف‪ .‬استمعت لموسيقاه‬
‫ً‬
‫مستلق على سريري‪ .‬كانت جميلة وال تماثل أي واحدة سبق أن ألفها إطالقا‪ ،‬فرح‬ ‫ٍ‬ ‫بعينان مغمضتان وأنا‬
‫ويأس يتقاطعان ويتشابكان وسط الحزن‪ ،‬بحر أزرق هائج وراء الصحراء‪ ،‬أزهار تتفتح وتذوي‪ ،‬مسودات‬
‫ُ‬
‫مالحظات تطير في الفراغ وتتهاوى بطيش‪ ،‬إنها تشبه يونغي‪.‬‬

‫سألته عن عنوانها لكنه أجابني بسؤال آخر "متى ستعود؟"‬


‫كانت محطة القطار يلفها الهدوء في منتصف النهار‪ ،‬الناس فيها يحملون حقائب كبيرة الحجم‬
‫ويتوجهون الى رصيف المحطة كي يستقلوا القطار القادم‪ ،‬ذكروني بنفسي عندما غادرت في ذلك اليوم‪.‬‬
‫ُ ّ‬ ‫كنت مر ً‬
‫تديا ما ارتديته في ذلك اليوم وأحمل الحقيبة ذاتها لكن كاحلي قد شف َي‪ ،‬لم يكن كاحلي الشيء‬
‫ُ ّ‬
‫الوحيد الذي شف َي‪ .‬فتحت مجموعة دردشتنا وأرسلت رسالة مضمونها" ما الخطب‪ ،‬يا أصدقائي! كيف‬
‫ً‬
‫جميعا؟"‪.‬‬ ‫حالكم‬

‫~‪~116‬‬
‫هوسوك‬
‫الثالث عشر من اغسطس العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عرجت على غرفة تدريب "ارقص فحسب" ألول مرة منذ فترة‪ ،‬قوبلت بصوت عزف الموسيقى‬
‫ُ‬
‫والهواء المليء برائحة العرق والغرفة التي تعج باألدرينالين! لقد رفرف قلبي في كل مرة جئت فيها إلى هنا‪،‬‬
‫ُ‬
‫بعد جولة من الصياحات والترحيب الصاخب بواسطة األعضاء‪ .‬جلست قبالة الحائط وشاهدتهم‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫ومسرورا على حد سواء‪ ،‬فكرت في رقصة‬ ‫يتدربون‪ ،‬متى سأتمكن من الرقص مرة أخرى؟ كنت نافذ الصبر‬
‫شخص ما وجلس بجواري‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫الرجل‪ ،‬أسأتمكن من الرقص مثله ذات يوم؟‪ ،‬وفي تلك اللحظة‪ ،‬اقترب‬
‫كانت تلك الفتاة‪ ،‬نقرتني على كتفي بابتسامة قائلة‪" :‬أين كنت؟ أكنت تستمتع وحدك؟" كان‬
‫لك؟" أظهرت‬ ‫جنبا إلى جنب متكئين على الحائط!‬ ‫ظاهرا في المرآة ونحن جالسان ً‬
‫ً‬
‫"كيف كان حا ِ‬
‫ً‬
‫وجه كالنا‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫تك عن أمي‬ ‫تعبيرا بدا أنه يوبخني على هذا السؤال البالغي‪ .‬واصلت التحديق في المرآة مردفا‪" :‬هل أخبر ِ‬
‫ً‬
‫آنفا؟" ال بد أني كررتها مئات المرات! لكنها ً‬
‫دوما ما أصغت إلى قصتي بحماس "ال بد أنها تحيا بسعادة في‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫نلتق مجددا قط‪ ،‬ال بأس إذا كنا مسرورين!"‬
‫مكان ما‪ ،‬أليس كذلك! إذا‪ ،‬أنا بخير حتى لو لم ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لست كذلك! كنت منهمكا للغاية في‬ ‫لكنك ً ِ‬
‫ِ‬ ‫أنك تشبهين أمي‪،‬‬
‫أكملت وهي تحدق بي "كما ِخلت ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اكتشاف ذلك" بدت مشدوهة لكنني ضحكت وواصلت الحديث‪" .‬إذا‪ ،‬متى ستغادرين؟" كال‪ ،‬ليس هذا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مجددا "آسفة‪ ،‬كان ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫علي إخبارك أوال"‬ ‫لمك" أحنت رأسها ثم رفعته‬‫"تهاني‪ ،‬لقد كان ح ِ‬ ‫كنت أتوق لقوله!‬ ‫ما‬
‫لك حفلة وداع لطيفة في وقت الحق"‪.‬‬ ‫كنت كذلك‪ ،‬فابتاعي لي وجبة وسأقيم ِ‬ ‫"إذا ِ‬

‫~‪~117‬‬
‫سوكجين‬
‫الخامس عشر من اغسطس العام الثاني والعشرون‬

‫ً‬
‫رأيتها ألول مرة قرب السكة الحديدية‪ ،‬قبل حوالي شهر مضى في يوم كان فيه ذهني مشغوال‪.‬‬
‫ّ ُ‬ ‫بقيت هناك لمدة عشر دقائق فقط‪ .‬حتى أنني ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نادرا ما كلمت‬ ‫ذهبت لرؤية جونغكوك في المشفى لكني‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وحذرا مني‪ .‬لم ترسل أي رسالة إلى‬ ‫متوترا‬ ‫لسبب ما‪ ،‬كان جونغكوك‬ ‫ٍ‬ ‫جونغكوك عند وجودي هناك‪.‬‬
‫مجموعتنا للدردشة‪ .‬رسالة هوسوك التي قال بها بأنه غير قادر على التواصل معنا‪ ،‬كانت األخيرة‪ .‬راودني‬
‫لسبب ما‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ٍ‬ ‫شعور بأنها موجهة ليونغي لكني كلما قرأتها‪ ،‬شعرت بأنها موجهة إلي‬
‫ُ‬
‫غادرت المشفى وتابعت السير بال هدف ثم أدركت بعد بعض الوقت أني كنت أمام تقاطع السكك‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بالمرة التي ركبت فيها‬ ‫قطارا يقترب من مسافة بعيدة‪ .‬ذكرني‬ ‫الحديدية‪ .‬كان حاجز العبور منخفضا ورأيت‬
‫ُ‬
‫كنت أتوقعه؟ ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وأيا‬ ‫مشابها بالنسبة لي‪ .‬ما الذي‬ ‫طائرة لوحدي في طفولتي‪ .‬قد يبدو هذا سخيفا لكنه كان‬
‫علي توقع شيء مثله؟ هل كان ذلك اإلحساس باالنتماء ال شيء سوى وهم؟ ما كان‬ ‫كان ذلك‪ ،‬ألم يكن ّ‬
‫ُ‬
‫ذلك الفراغ؟ هل كنت لوحدي في نهاية المطاف؟ ما الخطأ الذي ارتكبته؟ استمرت سلسلة األفكار هذه‬
‫مع الرياح القوية التي هاجت بسبب القطار الذي عبر‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫اختفى القطار من نطاق رؤيتي بسرعة اقترابه‪ ،‬ارتفع الحاجز وكان العبور ممكنا مجددا‪ .‬مشت‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫باتجاهي سابحة ضد مهب الرياح التي ولدها القطار‪ ،‬وأوقعت دفتر مذكراتها عند عبورها بجانبي‪ .‬في دفتر‬
‫مذكراتها كانت قائمة أمنياتها‪ :‬أخذ دروس اللغة اإليطالية‪ ،‬االنضمام لبرنامج بقاء في المعبد‪ ،‬التطوع في‬
‫ملجأ للحيوانات‪ ،‬القيام بدورة تدريبية كباريستا‪ ،‬ومشاركة سماعات األذن مع حبيبها‪ .‬كانت السميرالدو‬
‫أحدها‪.‬‬
‫ُ‬
‫تحت أقصوصة المجلة للسميرالدو‪ ،‬كتبت هذه الفقرة‪:‬‬
‫ليس الحب في المقام األول عالقة تربطك بشخص ّ‬
‫معين‪ .‬إنه سلوك يحدد ارتباط شخص بالعالم‬
‫ً‬
‫شخصا بحق‪ ،‬أحب كل األشخاص‪ ،‬أحب العالم بأسره‪ ،‬أحب الحياة‪ .‬لو استطعت إخبار‬ ‫ككل‪ .‬لو أحب‬
‫شخص آخر "أنا أحبك" يجب أن أقدر على قول "أنا أحب فيك الجميع‪ ،‬أحب عبرك العالم‪ ،‬وأحب فيك‬
‫نفسي كذلك" من فن الحب الريك فروم‪.‬‬
‫فعلت الكثير من األشياء معها لمدة شهر‪ .‬تنزهنا ً‬
‫معا‪ ،‬تشاركنا بالسماعات كما أرادت‪ ،‬وتطوعنا في‬
‫ً‬
‫ملجأ للحيوانات‪ .‬لم نستطع البقاء في معبد لكننا ركبنا حافلة ً‬
‫معا وبقينا حتى آخر موقف ثم ذهبنا إلى‬
‫المقهى المفضل لنا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫السميرالدو هي زهرة قيل بأنها ال تنمو سوى في الجزء الشمالي إليطاليا‪ .‬توقفت عند محل زهور‬
‫ُ‬
‫زهور صغير ما زال قيد اإلنشاء في زاوية على‬
‫ٍ‬ ‫كبير قريب لكن لم يسمع أحد بالزهرة‪ .‬ثم وجدت محل‬
‫الجانب األيسر بعد عبور الجسر إلى مونهيون‪.‬‬
‫ً‬
‫لم أمتلك توقعات عندما اقترب مني المالك الذي كان مشغوال بترتيب بعض الوثائق‪ .‬بعد سماعه‬
‫ّ‬
‫لمدة طويلة ثم أخبرني بأنه سيستطيع توصيل الزهرة مع أن محله لم يفتتح‬‫ٍ‬ ‫اسم الزهرة‪ ،‬حدق بي المالك‬
‫بعد‪" .‬لماذا يجب أن تكون هذه الزهرة بالذات؟"‬
‫ً‬
‫لم تعلم بأني امتلكت مذكراتها ولن تتخيل أبدا بأني اتبعت ما كتب بقائمة مذكراتها في كل شيء‬
‫ُ‬
‫فعلناه خالل الشهر الماضي‪ .‬لم ِأعد دفتر مذكراتها إليها ولم أخبرها بأنه كان بحوزتي‪ .‬علمت أن ذلك‬

‫~‪~118‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫خاطئ وعلمت بأني أخدعها نوعا ما‪ .‬حاولت االعتراف عدة مرات لكني كنت خائفا‪ ،‬خائفا من أن تتركني‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫كما فعل أصدقائي‪ .‬خفت من أن يصبح قلبها باردا عندما تلمح أخطائي‪ ،‬وذنوبي‪ ،‬وحماقتي ومخاوفي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شخصا أفضل‪ .‬شعرت بأن‬ ‫مرة أسعدتها شعرت بأني أصبحت‬ ‫ٍ‬ ‫أردت إسعادها وإضحاكها‪ ،‬ففي كل‬
‫ُ‬ ‫ُ ّ‬
‫عيوبي كانت تظهر للمأل‪ .‬بقي لي شيء واحد ألحضره وهو الزهرة التي تعني "الحقيقة التي لم تقل" بلغة‬
‫الزهور‪.‬‬
‫ً‬
‫بدا المالك متفاجئا بطلبي للحصول على زهرة السميرالدو بحلول يوم ‪ 33‬من اغسطس وقال بأنه‬
‫من الصعب العثور على واحدة خالل تلك المدة‪ .‬لكن من الضروري أن يكون ذلك اليوم بالتحديد‪ ،‬ألنه‬
‫كان موعد عرض األلعاب النارية عند نهر يانغجيتشون‪.‬‬
‫ُ‬
‫ففكرت باالعتراف بحبي لها عند انفجار األلعاب النارية في السماء‪.‬‬ ‫كانت ُمعجبة بسماء الليل‪،‬‬
‫كنت أفكر بتقديم زهرتها المفضلة إليها وعهد قلبي لها في الوقت والمكان المفضلين بالنسبة لها‪.‬‬ ‫ُ‬

‫~‪~119‬‬
‫تايهيونغ‬
‫التاسع والعشرون من اغسطس العام الثاني والعشرون‬

‫كانت فكرة هوسوك أن نجتمع لرؤية األلعاب النارية‪ .‬بعد عودته‪ ،‬بدأت مجموعتنا للدردشة‬
‫ً‬
‫مجددا‪ .‬أخبرناه بتأنيب وترحيب بأننا اشتقنا إليه فأجابنا ً‬
‫مازحا بأنه كان علينا إدراك أهمية‬ ‫بالطنين والدندنة‬
‫ً‬
‫وجوده مسبقا‪.‬‬

‫"احرصوا على المجيء لعرض األلعاب النارية" جميعنا قلنا نعم‪ .‬نامجون سيصل بعد انتهاء‬
‫ُ‬
‫بوقت متأخر بعد موعده‪ .‬تذكرت حلمي عند رؤيتي‬ ‫ٍ‬ ‫مناوبته في العمل وجين كذلك وعد بالمجيء‪ ،‬لكن‬
‫ُ‬
‫بألعاب نارية‪ .‬بتالت زهور‬
‫ٍ‬ ‫للرسالة‪ .‬امرأة تقتل في حادث سير بينما يشاهدها سوكجين‪ .‬انتهى ذلك الحلم‬
‫بيضاء من اللهب تهطل من سماء الليل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫هززت رأسي إلبعاد هذه األفكار‪ .‬كان مكان اجتماعنا هو قاطرة نامجون‪ .‬كنت أحيانا أمشي تجاهها‬
‫ً‬
‫عندما ال أستطيع النوم ليال أو عندما يثمل أبي ويبدأ بالتصرف بعنف‪ .‬لم أكمل السير حتى أصل إلى الباب‬
‫‪ُ .‬‬
‫كنت فقط أستدير بعد عبوري لمحطة القطار أللمحها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ولم َ‬
‫أبق لمدة طويلة كما فعلت في الماضي‬
‫لكن القاطرة كانت مضاءة كل مرة‪ .‬لم أدرك غرابة األمر حتى فترة وجيزة‪ .‬كانت مضاءة ً‬
‫دوما حتى‬
‫ُ‬ ‫عندما كان ً‬
‫نائما بالتأكيد‪ .‬أدركت بأنها كانت إشارة لنا لنأتي في أي وقت‪ .‬لم أملك طريقة ألعرف هذا‪ ،‬كان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مجرد تخمين لكنني كنت واثقا منه‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬لم أستطع طرق الباب والدخول مباشرة ألنني لم أعرف ما‬
‫ّ‬
‫علي قوله‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫عرض األلعاب النارية غدا‪ ،‬سأستطيع الوصول في الوقت المحدد لو غادرت فور انهاء مناوبتي‬
‫في العمل‪.‬‬

‫~‪~120‬‬
‫يونغي‬
‫الثالثون من اغسطس العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ترجلت من الحافلة وتوجهت صوب السكك الحديدية‪ .‬اتضح خط القاطرات من ُبعد‪ .‬الحظت‬
‫ُ‬
‫تايهيونغ من نافذة الحافلة في طريقي إلى هنا‪ ،‬كان بدوره يسير ناحية القاطرات‪ .‬البد أن اآلخرين في‬
‫ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫طريقهم‬
‫أكملت المقطوعة منذ بضعة أيام‪ ،‬أتممت بعض التغييرات على النسخة التي أرسلتها لهوسوك‪.‬‬
‫أسميتها "األمل"‪ .‬بصراحة‪ ،‬االسم لم يتناسب مع المقطوعة‪ ،‬فهي مرتكزة على مخاوفي‪ُ ،‬جبني‪ ،‬وعقدة‬
‫نقصي‪ .‬وتحتوي على جميع اللحظات التي حاولت تجنبها‪ ،‬الهرب منها‪ ،‬ولوم نفسي عليها‪ .‬لكنني لم أجد‬
‫كلمة أخرى أدق تشملهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫واضحا‪ ،‬لكن حسب‬ ‫شخص ما‪ .‬لم يبد وجهه‬ ‫الحت قاطرة نامجون في مرأى نظري‪ ،‬وأمامها‬
‫ُّ‬
‫مظهره فهو جيمين‪ .‬توقفت وتلفت في األرجاء حين صاح أحدهم باسمي من الخلف‪ .‬لوح ذلك الشخص‬
‫لي من أمام أول قاطرة‪.‬‬

‫~‪~121‬‬
‫سوكجين‬
‫الثالثون من اغسطس العام الثاني والعشرون‬

‫ُ‬ ‫وقت متأخر‪ .‬قد ّ‬ ‫ُ‬


‫مر الوقت المحدد بالفعل وكنت أنظر إلى‬ ‫ٍ‬ ‫استلمت باقة زهور السميرالدو في‬
‫ساعتي بنفاذ صبر‪ .‬من حسن الحظ أن شاحنة التوصيل ظهرت قبل ظهورها‪ .‬كان مالك محل الزهور يقود‬
‫حافلة على جانبها رمز "زهرة السميرالدو"‪" .‬أعتذر‪ ،‬عرقلني مهرجان األلعاب النارية" بعد مغادرة الشاحنة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الحظت عدم وجود البطاقة التي طلبتها في الباقة‪ ،‬فاتصلت بالمالك مباشرة‪" .‬صحيح‪ ،‬سأعود للخلف‬
‫تقاطع بعيد‪.‬‬ ‫تغيرت اإلشارة للتو" قبل أن ينهي المالك جملته‪ ،‬رأيتها وهي تسير تجاهي من‬ ‫اآلن‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬

‫~‪~122‬‬
‫جونغكوك‬
‫الثالثون من اغسطس العام الثاني والعشرون‬

‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫ُ‬
‫باردا بعد غروب الشمس وحلول الظالم‪.‬‬ ‫مبكرا جدا‪ ،‬بدا الطقس‬ ‫وصلت إلى خط السكك الحديدية‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فكرت بالتقدم إلى القاطرة لكنني قررت الجلوس على أحد أرصفة السكك الحديدية‪ .‬مضى بعض الوقت‬
‫ً‬
‫جميعا لذا اعتراني شعور ممزوج بالسعادة والترقب كما تردد على ذهني باستمرار يوم وقوع‬ ‫منذ أن التقينا‬
‫الحادث‪.‬‬

‫كان جيمين أول من وصل إلى القاطرة‪ ،‬حتى أنه فتح الباب وتفقد الداخل لكنه لم يدخل‪ .‬عندما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نهضت من الرصيف وعبرت السكك الحديدية مرة أخرى‪ ،‬ظهر يونغي على حين غرة بينما يسير ببطء‪،‬‬
‫ً‬
‫عيناه مثبتتان على األرض وهوسوك خلفه حامال بعض األكياس بكلتا يديه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫شعور بعدم االرتياح واإلثارة‪ ،‬تحمست لمقابلتهم لكنني لم أتمكن من االستمتاع بتلك‬ ‫خالجني‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫بحرية‪ .‬لطالما ترقبت تلك اللحظة منذ فترة طويلة لكنني أردت االلتفات في الوقت ذاته!‬ ‫اللحظة‬
‫انفجرت المجموعة األولى من األلعاب النارية في الهواء دون سابق إنذار كما اندفعت ألسنة اللهب‬
‫البيضاء صوب منتصف السماء وانفجرت على شكل الماليين من البتالت البراقة المتأللئة بينما يعلو‬
‫صداها سماء الليل‪.‬‬

‫~‪~123‬‬
‫سوكجين‬
‫الثالثون من اغسطس العام الثاني والعشرون‬

‫بصورة مفاجئة بعد االنعطاف للوراء وومضت مصابيحها األمامية‪.‬‬


‫ٍ‬ ‫توقفت شاحنة التوصيل‬
‫ُ‬
‫بشيء‬
‫ٍ‬ ‫بعجز وسط مشهد االصطدام‪ ،‬االرتداد‪ ،‬والسقوط‪ .‬لم استطع سماع وال الشعور‬ ‫ٍ‬ ‫وقفت هناك‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫للحظة‪ .‬كنا في فصل الصيف‪ ،‬لكني شعرت بأن الرياح باردة ثم سمعت صوت ارتطام ودحرجة على‬
‫الطريق‪ .‬داعب عطر الزهور أنفي‪.‬‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫عدت إلى الواقع وسقطت باقة زهور السميرالدو من يدي‪ .‬كانت مستلقية في منتصف الطريق‬
‫المشعث‪ .‬جرى ٌ‬
‫دم أحمر داكن على الطريق‪.‬‬ ‫وبدأ الدم بالسيالن من أسفل شعرها ُ‬
‫ُ‬
‫فرقعة مرتفع‪ ،‬انفجرت أول مجموعة من األلعاب النارية في سماء الليل في األفق‪ .‬من‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ُ‬
‫سمعت صوت ِمرآة تنشطر‪.‬‬ ‫مكان ما‪،‬‬
‫ٍ‬

‫~‪~124‬‬
‫اخلامتة‪:‬‬

‫كابوس‬

‫~‪~125‬‬
‫تايهيونغ‬
‫الحادي عشر من أبريل العام الثاني والعشرون‬

‫كان الوقت ً‬
‫فجرا حين استيقظت‪ .‬رائحة أبي وشخيره المعتادين تدفقا من غرفته‪ .‬الهواء القاتم‬
‫من الناحية األخرى من قطعة الزجاج الشفافة يتخبط أمام الباب األمامي‪ .‬تتطلب ثالث خطوات فحسب‬
‫من المدخل الضيق حيث األحذية مبعثرة طوال الطريق حتى غرفة النوم الرئيسية‪ .‬بدأت النوم هناك منذ‬
‫وقت أجهله‪.‬‬
‫ً‬
‫حامال ً‬
‫كأسا من الماء‪.‬‬ ‫شعرت بضغط على ظهري وأكتافي حينما حاولت النهوض‪ .‬ترجلت للخارج‬
‫ُ‬
‫وسرت ببطء‪ .‬تخطيت قسم الشرطة‪ ،‬الزقاق‪ ،‬والجسر ثم ظهر على مرآي‬ ‫ارتديت أي حذاء أمامي بإهمال ِ‬
‫طريق السكك الحديدية‪ .‬كان الوقت قبيل طلوع الشمس‪ ،‬وساد الصمت في الشوارع دون أي حركة‬
‫للسيارات‪.‬‬

‫مشيت طيلة طريق السكك الحديدية‪ .‬واحد‪ ،‬اثنان‪ ،‬ثالث‪ ،‬أربــع‪ .‬توقفت أمام القاطرة الرابعة من‬
‫لكا لنامجون‪ .‬بلغت مقبض الباب ثم توقفت‪ .‬البد من أن نامجون ٌ‬ ‫ُ ً‬
‫نائم اآلن‪ .‬وال بد أن الذي‬ ‫النهاية‪ .‬كانت م‬
‫رأيته في ُحلمي ليلة البارحة هو مجرد كابوس‪.‬‬
‫ُ‬
‫ارتشفت من الماء واستدرت‪ .‬المحطة المهلهلة وطريق السكك الحديدية‪ ،‬المنازل المهجورة‪،‬‬
‫َ‬
‫والشجر والحشائش التي نمت بعشوائية بينهم‪ .‬كيس بالستيك أسود تدحرج ناحيتي ثم حلق في الهواء‬
‫حيا ً‬
‫فقيرا‪.‬‬ ‫الطلق‪ ،‬كان ً‬

‫كانت هذه المنطقة ُمحاطة باللهب في ُحلمي‪ .‬المشهد بأكمله يومض ويتموج‪ .‬ربما يعود السبب‬
‫للهب أو ألنني أحلم‪ .‬تدفق فوج من األصوات لعقلي‪ ،‬صراخ أحدهم‪ ،‬صوت اصطدام‪ ،‬صوت بكاء‪ ،‬وصوت‬
‫انكسار شيء ما‪ .‬الصور التي كانت تومض في البعد البعيد ُرسمت بالقرب مني بسرعة هائلة‪ .‬شعرت‬
‫بالغثيان لذا أغلقت َع َين ّي‪ ،‬لكنه ُحلم‪ .‬لن أتمكن من التخلص منه بإغالقهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫أوال‪ .‬ثم تخطيت األشخاص الموجهين ظهرهم لي ً‬
‫تاليا‪ ،‬بعدها توقفت‬ ‫ُحجبت رؤيتي باللهب‬
‫فجأة‪ .‬واحد‪ ،‬اثنان‪ ،‬ثالث‪ ،‬أربــع‪ .‬القاطرة الرابعة تخص نامجون‪ .‬الباب مفتوح والدماء تلطخ المكان‪ .‬اندفع‬
‫مستلق هناك وأردف أحدهم‬
‫ٍ‬ ‫اللهب للداخل‪ .‬تنحى األشخاص واحد تلو اآلخر‪ .‬بانت األرضية للتو‪ .‬نامجون‬
‫ً‬
‫قائال "إنه ميت"‪.‬‬
‫فتحت عيناي ألرى سقف منزلي‪ .‬أمكنني سماع شخير والدي‪ .‬كان هذا محض ُحلم‪.‬‬

‫ألمني كف يدي على حين غرة‪ .‬فتحت صنبور الماء البارد وثبت يدي تحتها‪ .‬شعرت بالخدر تحت‬
‫كأسا بالماء وشربته‪ .‬كان مجرد ُحلم‪ .‬بل كابوس‪.‬‬
‫تدفق الماء‪ .‬مألت ً‬

‫~‪~126‬‬
‫همسات المترجمات‬

‫شهد‪:‬‬
‫ال يمكنني التعبير عن نفسي بالكلمات فمن المعروف أنني ال اجيد وصف شعوري لكن أتمنى ان‬
‫يصلكم ولو بمقدار قليل بما أحسست به اثناء هذه التجربة الجديدة‪ .‬يمكنكم القول أن مشاعر متداخلة‬
‫قد خالجتني على مدار قراءتي لترجمة زميالتي او لترجمتي ففي تارة أشعر بالحزن على هؤالء الشبان السبع‬
‫ً‬
‫شعورا بالقهر ثم يتبعه سلسة من‬ ‫الذين يواجهون العالم وهم في أوج براءتهم‪ ،‬وتارة أخرى يعصف بداخلي‬
‫البغض او باألحرى اليأس من هذا العالم الغريب الذي قاسوه في ريعان شبابهم‪ .‬نعم‪ ،‬إنه بالفعل عالم‬
‫غريب ح ين نفكر به من وجهة نظر البراءة‪ ،‬فقد عهد الجميع أن الوالدين هم مصدر قوة ومثل أعلى‬
‫ألطفالهم‪ ،‬لكن في زاوية ما في هذا العالم الشاسع‪ ،‬هنالك سبعة شبان صدموا من واقع أن آبائهم ليسوا‬
‫ً‬
‫أبطاال خارقين‪.‬‬

‫ذكر فيه العديد من القصص الموجعة ولسوء الحظ واقعية‪ ،‬ومع ذلك كان هنالك عدة لحظات‬
‫قد جعلتني أبتسم ببالهة مع الشخصيات وكأنني أواجه ما يواجهوه‪ ،‬وكأنني فرد منهم‪ ،‬فقد أحسست بكل‬
‫مشاعرهم الصادقة نحو بعضهم البعض‪ .‬بالفعل انا حزينة من اآلن ألنه انتهى لكنني أتطلع للنس خة‬
‫الجديدة بفارغ الصبر‪.‬‬
‫ً‬
‫في النهاية‪ ،‬أود اضافة أن هنالك العديد من المعاناة التي يواجها كل شخص بمفرده يوميا وال نعلم‬
‫عنها‪ ،‬لذا أتمنى أن تصلك رسالة بانقتان‪ ،‬ورسالتنا‪ .‬فال تقسو على بعضكم وعبروا عن انفسكم وأفصحوا‬
‫عن مشاعركم‪ ،‬فهنالك أشخاص ُمستعدين للسماع‪.‬‬

‫~‪~127‬‬
‫آالء‪:‬‬
‫ً‬
‫عونا لصداقتهم لم يحالفهم الحظ ً‬
‫يوما بل‬ ‫جمعهم القدر في أوج ظلمتهم‪ ،‬حياتهم البائسة باتت‬
‫ً‬
‫شف ذويــهم آالم أفئدتهم ولم يستسلم القدر يوما عن تحطيمهم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫كان مصدر إزعاجهم ومقتهم‪ ،‬لم ي ِ‬
‫غرفة صغيرة لمت شملهم وغدت مصدر سعادتهم‪ .‬أصبحت ً‬
‫مفرا لهم من ظالم منازلهم‪ ،‬باتت‬
‫ً‬
‫حنانا عليهم من ُأسرهم‪ .‬آلفت قلوبــهم بقلب واحد‪ ،‬فكيف ستغدو حياتهم بعدما اجتمعوا ً‬
‫سويا؟‬ ‫أشد‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اجتاحتني مشاعر مختلطة بينما كنت أعمل على هذا الكتاب‪ُ ،‬سررت حينما غمرتهم السعادة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وبكيت حينما غمرهم الحزن‪ .‬شعرت وكأن قلبي تآلف مع قلوبــهم وبت أشعر كأني أحيا معهم وأرى حياتهم‬
‫اليومية‪.‬‬
‫ً‬
‫جميعا‬ ‫لذا آمل بينما تطلعون على هذا العمل أن يخالجكم شعوري ذاته من حزن إلى سعادة‪ ،‬وكأننا‬
‫كنا ً‬
‫معا‪.‬‬

‫~‪~128‬‬
‫مايا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫واحد من شخصيات هذه السلسلة معاناة وآالم تلتهم روحه شيئا فشيئا‪ .‬فمقطع البداية‬ ‫ٍ‬ ‫لكل‬
‫اك منهم أن شياطينهم تخلد إلى نوم‬ ‫ً‬
‫يصور مدى فرحهم ونسيانهم لهمومهم السيما إذا كانوا معا‪ ،‬دون إدر ٍ‬
‫عميق‪.‬‬
‫ً‬
‫لكن الوقت كان كفيال بالكشف عن المزيد من األحداث وحل األلغاز المرتبطة بالكذبة التي‬
‫قدما ويحققون أمانيهم بينما ّ‬ ‫تعقيدا‪ .‬فهل سيمضون ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تكون‬ ‫يعيشونها‪ ،‬بات مستقبلهم مجهوال وأكثر‬
‫ً ً‬
‫معا تاركا ال شيء سوى الذكريات؟‬ ‫صداقتهم السند الذي يحتاجون إليه أم سيتالشى كل ما يربطهم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مزيجا من المتعة‬ ‫شخصيا‪ ،‬كان هذا مختلفا عن كل ما عملت عليه في مجال الترجمة‪ ،‬فكان‬
‫مصحوبا بالصعوبة التي واجهتها في وصف والتعبير عن مشاعر كل من الشخصيات بأفضل‬ ‫ً‬ ‫والحماس‬
‫صورة ممكنة أال أن هذا هو السبب ذاته الذي ساهم في استيعابي ألفكارهم وزاد من تعلقي بهم وتأثري‬
‫ً‬
‫بقصصهم أحيانا لدرجة ذرف الدموع‪.‬‬

‫~‪~129‬‬
‫ِهجان‪:‬‬
‫سبعة فتيان صراخهم يمتد لماليين ومع ذلك ال يوجد اي مفر من أن يسمع هذا الصوت الحزين‬
‫تتالشى مشاعرهم تتمزق وتتبعثر وكأنها الورق قد كانت وماعليها كان الحبر!‬

‫اختفت مشاعرهم‪ ،‬اختفت رقة كلماتهم‪ ،‬اختفى صدقهم‪ ،‬اختفى اهتمامهم‪ ،‬اختفى كل شيء‬
‫يميزهم! قيمتهم البشرية‪ ،‬احالمهم وكل شيء جميل فيهم! ومع هذا ال زالوا يصرخون بصمت!‬

‫يحتاجون لشخص بقربــهم‪ ..‬يحتاجون لمن يحتويــهم‪ ..‬يحتاجون من يمحي ألمهم‪ ..‬وإلى من‬
‫يمدهم باألمل! يحتاجون لبعضهم‪ ،‬لصديق ال يتجاهلهم‪ ،‬لصديق يحلم معهم‪ ،‬لصديق يشاركهم األحالم‬
‫ً‬
‫واألآلم‪ ،‬الحزن والسعادة‪ ،‬فال زالوا شبان يافعين لديهم أحالمهم وطموحاتهم ليس حقا أن تباد وتقمع في‬
‫هذا العالم!‬
‫ُ‬
‫قد ال أكون شاعرة‪ ،‬قد ال أجيد الغناء‪ ،‬ألستحق العمل على الكتاب ولكن كادت مشاعري فيه تجن‬
‫ودموعي للسماء بدأت باالنهمار‪ .‬أبكتني قصصهم من الداخل قبل الخارج‪ ،‬حزنهم‪ ،‬بكائهم بصمت‪ :‬جعلني‬
‫قلب يملكون !‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ ..‬أبكي وأحزن لح ِزنهم‪ ،‬انهمرت دموعي كثيرا في هذا العمل‪ ،‬وراودتني هذه الجملة كثيرا‪ :‬أي ٍ‬
‫قلب قد يكون!‬‫× أي ٍ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫حقيقة قلوب البشر؛ حقيقة غير عادية حقا!‬

‫~‪~130‬‬
‫سلمى‪:‬‬
‫أي خيانة أن تتكئ على عكاز ثم يهوي بك‪...‬‬
‫أي خيانة أن يتخلى عنك من أوجدك ‪..‬‬

‫أي خيانة عندما يغدو ضياءك الوحيد هو سبب عتمتك‬


‫وأملك الوحيد هو سبب خيبتك ‪...‬‬

‫عندما يهدم ما تبني من له تبني 💔 ‪...‬‬


‫وألننا ال نختار أين نولد بل ما سنكون ك انت زادهم لألمل الطفيف الذي انسل عبر شقوق‬
‫المستقبل ‪ ..‬دفعهم لمحاولة تغيير ما هم عليه ‪...‬‬
‫ُ‬
‫ومرة أخرى كم هي نعمة الكتابة عظيمة ‪ ...‬كيف لبعض الحروف ان تشعرنا بكم اآلالم‪ ،‬والخيبات‬
‫التي حسوا بها‪ ،‬أو الندوب التي تجرعوا منها كؤوسا ما زادتهم إال ظمأ‪...‬‬

‫لم أعمل في هذا المجال قط‪ ،‬أني شاكرة جدا ألن فرصة كهذه ُسنحت لي ‪ ..‬وبحكم هذا العمل‬
‫بدا لي محتواها أحرفا وحسب فهي أداتي ‪ ...‬ولكنها تحمل في طياتها ما يكبر ويكثر عن الوصف ‪..‬تعاطفت‬
‫في حين وابتسمت في آخر وتمنيت لو انتشلهم من عالم ال يستحقهم حظي بهم ‪..‬‬

‫~‪~131‬‬
‫سما‪:‬‬
‫فكرت ً‬
‫مليا فيما الذي يجب ّ‬
‫علي تدوينه بشأن هؤالء الفتيان السبعة وما هي انطباعاتي أثناء عملية‬
‫ُ‬
‫الترجمة‪ ،‬لست بارعة في الكتابة والتعبير باستخدام بالكلمات لكني شعرت بألمهم بمعاناتهم بنحبيهم‬
‫بكفاحهم من أجل بعضهم‪ ،‬شعرت بالغضب والبغض المقيت تجاه والديهم وألصدقكم القول والداتهم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫على وجه الخصوص‪ ،‬كيف لوالدة أن تترك ولدها؟ كيف لها أن تسمعه قاسي الكالم؟ وأن تفلت يده‬
‫روحا بريئة معذبة وصمت حياتها بالفشل والكفاح ّ‬ ‫ً‬
‫كة ورائها ً‬
‫المر قبل أن تبدأ حتى‪ .‬وفي‬ ‫ِ‬ ‫وتمضي بحياتها تار‬
‫ً‬
‫خضم كل هذه العتمة وجدوا بعضهم األرواح المتألمة تتآلف مع بعضها‪ ،‬أصبحوا نورا في حياة أحدهم‬
‫بجوار بعضهم والعزاء الذي شعروا به عندما كان أحدهم‬‫ِ‬ ‫اآلخر‪ ،‬دفء صداقتهم وسعادتهم عندما يكونون‬
‫ً‬
‫سندا لألخر وحماية أحالم بعضهم كأنها طوق نجاتهم بعث في السرور واألمل في أن يجدوا السالم في‬
‫نهاية رحلتهم‪.‬‬

‫~‪~132‬‬

You might also like